التعليق على تفسير القرطبي - عبد الكريم الخضير

عبد الكريم الخضير

سورة الحج من آية 36 - 40

التعليق على تفسير القرطبي سورة الحج (من آية 36 - 40) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [(36) سورة الحج]. فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} وقرأ ابن أبي إسحاق (والبُدُن) لغتان، واحدتها بدنة، كما يقال: ثمرة وثُمُرٌ وثُمْر، وخشبة وخُشُبٌ وخُشْب، وفي التنزيل: (وكان له ثُمُر) وقرئ: (ثُمْر) لغتان، وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن، وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل ... قراءة نافع الذي هو يعتمدها المؤلف، وثُمْر هذه تخفيف وتسكين وتسهيل الحرف المتحرك يسكن عندهم، مثل: بحْر بحَر، نهْر نهَر، وشعْر شعَر، كلها تسكن عندهم. وقيل: {وَالْبُدْنَ} جمع بدن بفتح الباء والدال، ويقال: بدن الرجل (بضم الدال) إذا سمن وبدن (بتشديدها) إذا كبر وأسن، وفي الحديث: ((إني قد بدنت)) أي كبرت وأسننت، وروي بدنت، وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته -صلى الله عليه وسلم-، ومعناه كثرة اللحم، يقال: بدن الرجل يبدن بدنا وبدانة فهو بادنٌ أي ضخم. والنبي -عليه الصلاة والسلام- ليس كذلك. الثانية: اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل ... حمل اللحم -عليه الصلاة والسلام- وعائشة حملت اللحم لكن ما صار ضخم، لا يكون ضخم طالب: يعني لم يكن سمين جداً. إيه، يختلف على أن يكون ضخماً طالب:. . . . . . . . . حمل لحماً كثيراً، البدن فيه خلاف في البقرة هل تدخل أو لا تدخل؟ المسألة خلافية، سيشير إليها المؤلف. الثانية: اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؟ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا، وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة فهل تجزيه ...

المعول في القول الأول على حديث: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، وفي الثانية كأنما قرب بقرة)) يدل على أن البقرة غير البدنة، ومعول القول الثاني على أن البقرة تعدل ببدنة في الأضحية وفي غيرها من الأحكام تعدل فيها هذه عن سبع وهذه عن سبع، فهي بدنةٌ مثلها، وأيضاً بدنها وحجمها كبير مثل الإبل. فهل تجزيه أم لا؟ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه، وعلى مذهب مالك تجزيه، والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء، لقوله -عليه السلام- في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة)) الحديث. فتفريقه -عليه السلام- بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة، والله أعلم، وأيضاً قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [(36) سورة الحج] يدل على ذلك .. . يعني سقطت؛ لأن الإبل تنحر قائمة، فإذا نحرت سقطت على الأرض، وجبت يعني سقطت، وليس كذلك البقر والغنم، إنما تذبح ذبح تمد على جنبها بخلاف الإبل. وأيضاً قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على ذلك، فإن الوصف خاصٌ بالإبل والبقر يضجع ويذبح كالغنم على ما يأتي، ودليلنا أن البدنة مأخوذةٌ من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعاً، وأيضاً فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل، حتى تجوز البقرة في الضحايا عن سبعة كالإبل وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا. أبي حنيفة يوافقه الشافعي على أن البقرة عن سبعة كالإبل، يقول: وليس ذلك في مذهبنا، مذهبه مالكي، النبي -عليه الصلاة والسلام- في غزوة حنين عدل الإبل بعشرٍ من الغنم، ومعلوم أن البقرة لا تجزئ إلا عن سبع، وهذا فرقٌ بينهم، والصحيح أنه في باب الأضحية وفي باب الهدي تعدل بسبع، يعني تعادل سبعة، وأما في باب الجهاد فبدنة أكثر من سبعة؛ لأن الحاجة إليها أكبر وفائدتها فيه أعظم، فكونها تعدل بعشرة ما هو ببعيد، ليس ببعيد لا سيما في هذا الباب، ولا يطرد هذا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم: بدنة، وهو قول شاذ، والبدن هي الإبل التي تهدى ...

أما من حيث المعنى الأصلي والاشتقاق اللغوي من البدانة والضخامة قد يقال على الفيل بدنة؛ لأنه أكثر بدانة من الإبل والبقر، لكن المعول في التحديد الشرعي، كم يحد الإبل؟ وكم يحد البقر من الغنم؟ هذا من جهة، وأما بالنسبة لأصل المسألة التي هي فائدة الخلاف وهي ما إذا حلف أو نذر، حلف أن يذبح بقرة أو حلف أو نذر أن يهدي بدنة فهل تجزئه البقرة أو لا؟ المسألة مسألةٌ عرفية، إذا كان المتعارف عليه أن البقرة يطلق عليه بدنة أجزأت؛ لأن الأيمان والنذور مردها إلى الأعراف، فإذا كان لا يطلق عليها بدنة لم تجزئ، لكن قد يقول قائل: أن العرف أيضاً قد يختفي فيه تسمية الإبل بدنة فهل يلتفت إليها أو لا يلتفت؟. طالب:. . . . . . . . . قد عندنا مثلاً في بلادنا ما نسمي الإبل بدنة، حلف واحد أن يذبح بدنة من عامة الناس، وإذا قلنا: أن الأيمان والنذور مردها إلى العرف فما تعارف الناس على تسمية الإبل بدنة، في هذه الحالة يرجع إلى قصده. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة، والهدي عام في الإبل والبقر والغنم. الثالثة: قوله تعالى: {مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} [(36) سورة الحج] نص في أنها بعض الشعائر، وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [(36) سورة الحج] يريد به المنافع التي تقدم ذكرها، والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة. الرابعة: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [(36) سورة الحج] أي انحروها على اسم الله. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} نكرة في سياق الإثبات، فكيف يعم خير الدنيا والآخرة؟ لو كانت نكرة في سياق النفي أو في سياق النهي لا إشكال، لكنه وإن كان في سياق الإثبات إلا أنه في سياق الامتنان، والنكرة في سياق الامتنان تدل على العموم. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [(36) سورة الحج] أي انحروها على اسم الله، و {صَوَافَّ} أي قد صفت قوائمها، والإبل تنحر قياماً معقولة، وأصل هذا الوصف في الخيل يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر، والبعير إذا أرادوا نحره ...

قوله: "وأصل هذا الوصف في الخيل" هل مادة صف التي منها ما عندنا هي نفسها مادة صفن بالنون؟ الخيل صوافن، والإبل صواف؛ لأنه يقول: "وأصل هذا الوصف في الخيل" الخيل صوافن {الصَّافِنَاتُ} [(31) سورة ص] وهنا {صَوَافَّ} ولا شك أن الصف غير الصفن، الإبل لا يقال لها: صوافن؛ لأنها لا تقف على هذه الكيفية، تقف على ثلاثة أقدام ثلاثة أرجل وترفع الرابعة إلى سنبك حافرها. المقصود أنه لا يظهر قوله: "وأصل هذا الوصف في الخيل" فالإبل تصف وكل شيء يصف، وأيضاً الملائكة، والمصلون يصفون، والطير يصف {صَافَّاتٍ} [(19) سورة الملك] فالصف غير الصفن. يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر. بعض الناس بل الكثير –يشاهد- يصفن في صلاته وهو صاف، صاف صافن في صلاته أيش معنى هذا؟ أنه يقف على رجل والثانية يرفعها، ولا يمس منها الأرض إلا الأصابع هذا هو الصفن بعينه، وهذا تشبه بالحيوان والتشبه بالحيوان مذموم لا سيما في الصلاة. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري (صوافي) أي خوالص لله -عز وجل- لا يشركون به في التسمية على نحرها أحداً، وعن الحسن أيضاً: (صوافٍ) بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفاً على غير قياس، و {صَوَافَّ} قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها من صف يصف، وواحد (صواف) صافة، وواحد صوافي صافية، وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي (صوافن) بالنون جمع صافنة، ولا يكون واحدها صافن؛ لأن فاعلاً لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها، وهي فارس وفوارس وهالك وهوالك وخالف وخوالف، والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [(31) سورة ص] وقال عمرو بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا ويروى: تظل جياده نوحاً عليه ... مقلدة أعنتها صفونا وقال آخر: ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عِرْق في مقدم الرجل فإذا ضرب على الفرس رفع رجله، وقال الأعشى: وكل كميت كجذع السحوق ... يرنو القناء إذا ما صفن الخامسة: قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال: تقيدها ثم تصفها، وقال لي مالك بن أنس مثله، وكافة العلماء على استحباب ذلك إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركةً وقياماً. يعني على حدٍ سواء، هذا مباح مستوي الطرفين، وإلا مجرد الإجازة فهم يجيزون أن تذبح كما يذبح غيرها على جنبها هذا كلهم يقولون هذا، لكن العبرة في الأفضل، الأفضل أن تذبح قائمة معقولة يدها اليمنى، ويجوز أن تذبح كما أنه يجوز فيما يستحب أن يذبح يجوز نحره كالبقر والغنم. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة، والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [(36) سورة الحج] معناه سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس، وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير: أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها. السادسة: قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأساً أن ينحرها معقولة، والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة إلا أن يتعذر ذلك، فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها، ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. عقل الإبل يعني بضم الساق إلى ما فوقه، ثني الركبة وربط الرجل أو اليد، لكن العرقبة قال: "إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب" ما معنى عرقبة؟ طالب:. . . . . . . . . يعني يجمع بين أرجلها الأربع بحبلٍ واحد؟ طالب: وهي باركة تربط العراقيب؟ لا وهي باركة ما أظن له قيمة ربط. . . . . . . . . لا هي يمكن أن تعقل وهي باركة لئلا تقوم، أما العرقبة يمكن أن تعرقب وهي قائمة. طالب: تقطع؟ لا ما هو تقطع تربط تربط بمعنى أنه يجمع بين أطرافها الأربعة. . . . . . . . . ويدار عليها كلها.

ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب، وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده، فينحرها في صدرها ويخرجها ... في عنفوان أيده يعني في عنفوان قوته. ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها، وتضجع البقر والغنم. السابعة: ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع، وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر، فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى وليس عليهم انتظار نحر إمامهم بخلاف الأضحية في سائر البلاد، والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر، ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما -إن شاء الله تعالى-. يعني لا حرج عليه سواء كان نحره في منىً أو بمكة، المقصود أنه بحدود الحرم، يقول: "ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع، وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر، فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم بخلاف الأضحية في سائر البلاد" معروف الأضحية حكمها واضح، وجاءت بها الأحاديث، يعني بعد الصلاة أو بعد نحر الإمام، لكن بالنسبة للهدي وقد انعقد سببه بالإحرام، وهو من أعمال يوم النحر بالنسبة للحاج، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما نزل من مزدلفة بدأ بالرمي ثم النحر ثم الحلق، فهو من أعمال يوم النحر، لكنه -عليه الصلاة والسلام- ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)) فيجوز تقديم النحر على الرمي بناءً على هذا التيسير الذي قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد عدة أسئلة. إذا وصل إلى منى في أول الوقت صلى بمزدلفة الفجر في أول وقتها وذكر الله إلى أن أسفر، ثم دفع إلى منى ووصلها افترض أنه وصلها مع طلوع الشمس، ويجوز له أن يقدم النحر على الرمي، هل ينحر إذا وصل أو ينتظر إلى الصلاة كالأضحية؟ يقول: "فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى" وهذا الكلام يجرنا إلى ما قبل ذلك وهو أنه إذا جاز له الدفع من مزدلفة؛ لأنه معه ضعفه أو ما أشبه ذلك، أو بعد منتصف الليل على قول كثير من أهل العلم بما أن الحكم على الغالب إذا جاز له الدفع ووصل إلى منى قبل الفجر بساعتين مثلاً، يجوز له أو لا يجوز؟

وجاء النهي عن الرمي قبل أن تطلع الشمس في حديث ابن عباس لكن فيه ضعف، وإلا فما فائدة جواز الدفع، من مقتضى جواز الدفع أنه يجوز لهم الرمي قبل طلوع الفجر، يجوز لهم الطواف قبل طلوع الفجر، لكن هل يجوز لهم ما يجوز تقديمه عليهما من النحر أو لا يجوز؟ ظاهر وإلا ما هو بظاهر؟ يجوز له أن يدفع بعد منتصف الليل أو بعد مغيب القمر، فإذا جاز له ذلك والأعمال أعمال يوم النحر أربعة مخيرٌ فيها يقدم ويؤخر كيف شاء، ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج))؟ أو نقول: أنه قبل طلوع الفجر لا يسمى يوم وإنما يسمى ليل، والتقديم والتأخير في أعمال ذلك اليوم لا في الليل؟ على كل حال من يقابل الليل باليوم كالنهار ينتهي الإشكال ينتفي الإشكال، لكن من يقابل الليل بالنهار ويجعل اليوم شامل لليل والنهار يرد الإشكال، اللهم إلا على القول المعتمد عند أهل العلم أن ليلة النحر تابعة ليوم عرفة، وليست تابعة ليوم النحر، يشكل على هذا أنه لا يجوز له الرمي ولا الطواف، كيف نحل هذا الإشكال؟ طالب:. . . . . . . . . والرمي. طالب:. . . . . . . . . دعنا من هذا، شوف الأدلة العامة التي (ما سئل عن شيء قدم ولا أخر) جاز له أن يطوف جاز أن يطوف؟ طالب:. . . . . . . . . اليوم شامل لليل والنهار. طالب:. . . . . . . . . طيب، لكن ما دام قدم الطواف وما سئل عن شيء قدم ولا أخر ما يجوز له تقديمه عليه يجوز فعله، ما ينحل الإشكال إلا إذا قلنا: أن ليلة النحر تابعة ليوم عرفة، وليست تابعة ليوم العيد، ويرد عليها أنه لا يجوز فيها فعل شيء من أعمال يوم النحر، لا يجوز أن يعمل فيها شيء من أعمال يوم النحر، لا الطواف ولا السعي ولا الرمي ولا الحلق، كلها لا يجوز فعلها ليلة العيد، إنما تفعل بعد صلاة الصبح أو بعد طلوع الشمس. على كل حال المسألة خلافية بين أهل العلم، ولا شك أن الأحوط أن لا ينحر بدنه إلا بعد طلوع الشمس وارتفاعها. طالب:. . . . . . . . . لم يصح حديث ابن عباس في النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس. طالب:. . . . . . . . .

تبقى معارضته؛ لأنه ما دام النبي ما رمى قبل طلوع الشمس وقد جاز لنا أن نقدم بعض الأعمال على بعض فطلوع الشمس مقيد بالرمي، فيجوز لنا أن نقدم عليه الطواف وهذا ما فيه إشكال في النص أنهم طافوا، المتعجلين كلهم طافوا قبل الفجر ويجوز ذلك، يبقى مسألة النحر. طالب:. . . . . . . . . لا هو الإشكال في مسألة التوسعة في ذلك اليوم "أنه ما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) فإذا جاز لك أن تفعل شيء يجوز لك أن تفعل قبله ما يجوز تقديمه عليه. طالب:. . . . . . . . . هذا إذا صح، ترى الخبر ضعيف. طالب:. . . . . . . . . أين؟ طالب:. . . . . . . . . لا، قول معروف عن الشافعية والرواية عن الحنابلة أنه يجوز قبل ليلة العيد إذا أحرم؛ لأن السبب انعقد، وألف فيه رسائل، المسألة فيها رسائل من الشيوخ المعاصرين. طالب:. . . . . . . . . إيه، لكن ما دام انعقد السبب عندهم يجوز فعله بعد انعقاد سببه وقبل وقت وجوبه، قاعدة عندهم ذكرها الفقهاء. . . . . . . . . وهذه من فروعها، وألف بعضهم: (القول اليسر في جواز نحر الهدي قبل يوم النحر) ورد عليه المشايخ الآخرين من كبار المشايخ رد عليه: (إيضاح ما تضمنه صاحب اليسر في اليسر في تجويزه نحر الهدي قبل وقت نحره) رسائل طبعت ومتداولة، وعلى كل حال فالمعتمد قول الجمهور، وأنه لا يذبح قبل الفجر والأحوط قبل طلوع الشمس، وإن انتظر إلى الصلاة وصار وقتها كوقت الأضحية فهو أحوط. . . . . . . . . طالب: الإجماع ما يسلم له؟ لا ما يسلم به، ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. . . . . . . . . يقول هنا: القاعدة الرابعة العبادات كلها سواءً كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، لا يجوز تقديم نحر الهدي قبل الإحرام الذي هو سبب الوجوب، كما أنه لا يجوز التكفير عن يمين إن لم تنعقد بعد، لكن بعد انعقاد سبب الوجوب وهو الإحرام وقبل وقت الوجوب هذا محل خلاف، أما بعد وقت الوجوب هذا إجماع ومثله الكفارة في اليمين، لا تجوز ولا تجزئ قبل انعقادها، وتجوز بعد الحنث اتفاقاً والخلاف فيما بين الانعقاد والحنث.

يقول: "العبادات كلها لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب وقبل الوجوب أو قبل شرط الوجوب، فيتفرع على ذلك مسائل" ذكر منها: يقول: "ومنها: صيام التمتع والقران فإن سببه العمرة السابقة إلى الحج بأشهره فبالشروع في إحرام العمرة قد وجد السبب فيجوز الصيام بعده وإن كان وجوبه متأخراً عن ذلك" هذا ظاهر، يجوز أن يصوم الثلاثة الأيام إذا لم يجد الهدي، الثلاثة الأيام التي في الحج يصومها في السادس والسابع والثامن .. يقول: "فيجوز الصيام بعده وإن كان وجوبه متأخراً عنه، وأما الهدي فقد التزمه أبو الخطاب في انتصاره" يعني يقول: بجوازه مثل الصيام بعد انعقاد السبب وهو الإحرام. "وأما الهدي فقد التزمه أبو الخطاب في انتصاره، ولنا رواية: أنه يجوز ذبحه لمن دخل قبل العشر، لمشقة حفظه عليه إلى يوم النحر، وعلى المشهور لا يجوز في غير أيام العشر؛ لأن الشرع خصها بالذبح" فلا يسلم الإجماع الذي نقله. الثامنة: قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [(36) سورة الحج] يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط، قال قيس بن الخطيم: أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب وقال أوس بن حجر: ألم تكسف الشمس والبدر ... والكواكب للجبل الواجب فقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة، كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [(36) سورة الحج] والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح، قال الشاعر: فتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم وقال عنترة: وضربت قرني كبشها فتجدلا. أي سقط مقتولاً إلى الجدالة وهي الأرض، ومثله كثير، والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ، ولا تسلخ حتى تبرد؛ لأن ذلك من باب التعذيب، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه-: "لا تعجلوا الأنفس أن تزهق".

قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [(36) سورة الحج] أمر معناه الندب، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه، وفيه أجر وامتثال ... وأوجبه أهل الظاهر، بناءً على أن الأصل في الأمر الوجوب. إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم، وقال أبو العباس بن سريك: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء، وقال الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه، وإن أكل جميعها لم يُجزه، وهذا فيما كان تطوعاً فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئاً، حسبما تقدم بيانه. العاشرة: قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [(36) سورة الحج] قال مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله: {وَأَطْعِمُوا} أمر إباحة، و {الْقَانِعَ} السائل، يقال: قنع الرجل يقنع قنوعاً إذا سأل بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل، مثل: حمد يحمد قناعة وقنعاً وقنعانا قاله الخليل، ومن الأول قول الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة وهي الرضا والتعفف وترك المسألة، وروي عن أبي رجاء أنه قرأ (وأطعموا القنع) ومعنى هذا مخالف للأول ... صيغة مبالغة، وهي أبلغ من القانع مثل حدث وحادث. يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضي، وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك سائلاً كان أو ساكتاً وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي وحسن بن أبي الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال، قال زهير: على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير والمعتر الزائر، وروي عن الحسن أنه قرأ (والمعتري) ومعناه كمعنى المعتر، يقال: اعترَّه واعتراه وعرَّه وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه ذكره النحاس.

على كل حال يجمع القانع والمعتر لحاجة، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [(36) سورة الحج] أطعموا المحتاج، وأهل العلم على ما تقدم يستحبون أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً، والهدية لا تكون للفقير، ما يهدي للفقير، يتصدق على الفقير، والهدية للقريب أو الصديق وإن كان غنياً فهم ثلاثة والمذكور في الآية ثلاثة، وفي موضع آخر: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [(27) سورة الحج] وليس فيه ذكر للهدية، ولكن إذا جاز الأكل جاز الإهداء من باب أولى، ولا شك أنه جاء الحث على الهدية في غير هذا الموضع، فعموم أهل العلم يستحبون أن يأكلوا منها ويتصدق منها ويهدى منها، ولو لم يهد منها وإنما أكل وتصدق أجزأت، ولو أكلها كلها ولم يهدِ منها ولم يتصدق منها بشيء ضمن حق الفقراء؛ لأنه مأمورٌ به، تقدم ذكره. قوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [(37) سورة الحج]. فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت الآية، والنيل لا يتعلق بالباري تعالى، ولكنه عُبر عنه تعبيراً مجازياً عن القبول ... هذا العمل موجود عند بعض جهال المسلمين، وهذا جهل، يلطخون بعض الجدران بدماء الأضاحي والهدايا وما أشبه هذا، ولا شك أن هذه بدعة موروثة عن الجاهلية لا يجوز فعلها بحال. والمعنى: لن يصل إليه، وقال ابن عباس: لن يصعد إليه، وقال ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها ولكن يصل إليه التقوى منكم أي ما أريد به وجهه فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) والقراءة: {لَن يَنَالَ اللَّهَ} و (يناله) بالياء فيهما، وعن يعقوب بالتاء فيهما نظراً إلى اللحوم. طالب:. . . . . . . . . يعني دمه هو؟ لا لا، الضمير يعود إلى الهدي والأضاحي. طالب:. . . . . . . . .

إذا كان جاهل لا يؤاخذ، وإن كان مستهتر أو مستخف فهذا شأنه آخر، فإيراد الآيات والأحاديث في غير مواردها من عالمٍ بذلك لا يجوز. طالب:. . . . . . . . . أيش هو؟ طالب:. . . . . . . . . ولكنه عبر عنه تعبيراً مجازياً عن القبول، النيل {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [(37) سورة الحج] هذا ما هو فعل ينسب إلى الله -جل وعلا- ويحتاج إلى تقديره، هذا ينسب إلى اللحوم والدماء هو الفارق، فتأويل ما يتأول بمخلوق ما فيه إشكال إذا امتنع عن المعنى الحقيقي، لكن يسمى حقيقة أو مجاز هذا محل الخلاف. الثانية: قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [(37) سورة الحج] منَّ سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها، وهي أعظم منا أبداناً وأقوى منا أعضاء؛ ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما يظهر إلى العبد من التدبير وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير؛ ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده. الثالثة: قوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [(37) سورة الحج] ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها في الآية قبلها فقال -عز من قائل-: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [(36) سورة الحج] وذكر هنا التكبير، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول: باسم الله والله أكبر، وهذا من فقهه -رضي الله عنه-، وفي الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، قال: ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعاً قدمه على صفاحهما وسمى وكبر. يجمع بينهما وإن كانت التسمية واجبة بل شرط لحل الذبيحة والتكبير سنة. وقد اختلف العلماء في هذا فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة، وكافة العلماء على استحباب ذلك، فلو قال ذكراً آخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز، وكذلك لو قال: الله أكبر فقط أو لا إله إلا الله قاله ابن حبيب، فلو لم يرد التسمية لم يُجْزِ عن التسمية ولا تؤكل، قاله الشافعي ومحمد بن الحسن، وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند التسمية في الذبح أو ذكره ...

هذا خالص لله -جل وعلا- لا يجوز تشريك غيره به، لا النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا غيره. وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده، وأجاز الشافعي الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الذبح. الرابعة: ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني جائز، وكره ذلك أبو حنيفة والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- وفيه: ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد ومن أمة محمد)) ثم ضحى به، واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [(127) سورة البقرة] وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة، وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الذبح كبشين أقرنين موجوئين أملحين فلما وجههما قال: ((إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً)) وقرأ إلى قوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [(163) سورة الأنعام] ((اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر)) ثم ذبح، فلعل مالكاً لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه، وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة، والله أعلم. لا يتصور من نجم السنن الإمام مالك أنه يقول: بدعة وقد بلغه الخبر أبداً، اللهم إلا إذا كان عمل أهل المدينة على خلافه، فهو يقدم عمل أهل المدينة، النبي -عليه الصلاة والسلام- ضحى بكبشين أقرنين يعني لكل واحدٍ منهما قرنان، موجوئين يعني خصيين، أملحين شعرهما مختلط بين السواد والبياض، في رواية: ((سمينين)) وفي أخرى: ((ثمينين)) فهما من أكمل الموجود، فعلى الإنسان أن يحرص أن تكون أضحيته كذلك. طالب:. . . . . . . . . من يستدل بحديث عائشة. . . . . . . . . أيش المانع؟ ليطيب لحمهما، ما في شيء. الخامسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [(37) سورة الحج] روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في الآية التي قبلها، فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [(38) سورة الحج]. . . . . . . . . . جاء قوله حسب ما تقدم في الآية التي قبلها {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [(37) سورة الحج]. طالب:. . . . . . . . . {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [(34) سورة الحج] الذين هم المحسنين، الذين سيأتي ذكرهم، يفسرهم بالأمرين أو بالوصفين؛ لأنهم اتصفوا بالإخبات وبالإحسان. روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كفور} فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، وقد مضى في (الأنفال) التشديد في الغدر وأنه: ((ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال: هذه غدرة فلان)) وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم، وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم، وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة، ثم قتل كافر مؤمناً نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته، وقرأ نافع: (يدافع) ولولا دفاع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير: يدفع {وَلَوْلَا دَفْعُ} [(40) سورة الحج] وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: يدافع {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ} [(40) سورة الحج] ويدافع بمعنى يدفع مثل عاقبت اللص وعافاه الله، والمصدر دفعاً. الأصل في هذا المبنى المفاعلة والمدافعة والمعاقبة تكون بين طرفين، الأصل في هذا البناء أن يكون بين طرفين، كالمبارزة والمخاصمة بين طرفين، لكن في مثل هذا يدافع فهو مدافعة، والمدافعة من طرفٍ من واحد لا إشكال، كالمسافرة إذا سافر فلان تكون بين طرفين، إذا قيل: عاقب فلان اللص معاقبة، تكون هذه المعاقبة بين طرفين، من طرفٍ واحد، فالأصل في هذا الوزن أن يكون بين طرفين، وخرج عنه ما خرج من الأزمنة.

حكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً، قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [(39) سورة الحج]. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} هذا بيان قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [(38) سورة الحج] أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم، وفيه إضمار أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف، وقال الضحاك: استأذن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [(38) سورة الحج] فلما هاجر نزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [(39) سورة الحج] وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وتركٍ وصفح، وهي أول آية نزلت في القتال، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: لما أُخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [(39) سورة الحج] فقال أبو بكر: "لقد علمت أنه سيكون قتال" فقال: هذا حديث حسن، وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلاً، وليس فيه عن ابن عباس. إيش قال عندك عن الحديث؟ طالب: قال: صحيح أخرجه. . . . . . . . . الشيخ: كيف بنفس الموضع الذي أحلنا إليه، انظر صحيح الترمذي ... طالب:. . . . . . . . . رجعت إلى نفس صنيع الألباني في صحيح الترمذي وإلا أحكامه المنقولة. طالب: تحقيق الترمذي. . . . . . . . . لا لا، في هذه الحالة يرجع إلى كتب الشيخ نفسه. طالب:. . . . . . . . . يرجع إلى كتب الشيخ نفسه. طالب:. . . . . . . . .

لا، الشيخ يصحح مثل هذا وسيأتي، الشيخ يصحح مثل هذا، والترمذي يصحح مثل هذا، لكن قوله: حسن ... في الترمذي ويش قال عنده. . . . . . . . . حسن صحيح؛ لأنه يصحح مثل هذا، مع وجود مثل هذا الاختلاف. الثانية: في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع خلافاً للمعتزلة؛ لأن قوله: {أُذِنَ} [(39) سورة الحج] معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع، وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) وغير موضع وقرئ: (أَذن) بفتح الهمزة أي أذن الله، (يقاتِلون) بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم، وقرئ {يُقَاتَلُونَ} [(39) سورة الحج] بفتح التاء أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون، ولهذا قال: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي أخرجوا من ديارهم. قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [(40) سورة الحج]. فيه ثمان مسائل: طالب:. . . . . . . . . الإذن لهم بسبب أنهم ظلموا، كانوا في مكة لا شك أنهم مظلومون، هم في مكة مظلومون مستضعفون مسلط عليهم الكفار، ومنعوا من قتالهم وأمروا بالإعراض عنهم والصفح، لكن لما هاجر النبي -عليه الصلاة والسلام- أذن لهم بالقتال، وهو مجرد إذن في هذه المرحلة، ثم بعد ذلك أمروا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [(73) سورة التوبة] جاء الأمر الصريح ثم شدد في هذا. ثمان وإلا سبع؟ طالب: عندي ثمان. عندك رأس المسألة فيه سبع مسائل وإلا ثمان؟ طالب: ثمان. هي المسائل ثمان لكن الذي في الكتاب سبع، المسائل عدتها ثمان، القرطبي ذكر ثمان مسائل، لكن أصل الكتاب يقول فيه: هي سبع مسائل، وعلى كل حال هذا من اختلاف النسخ. فيه ثمان مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} [(40) سورة الحج] هذا أحد ما ظلموا به، وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده، فقوله: {إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [(40) سورة الحج] استثناء منقطع، أي لكن لقولهم ربنا الله قاله سيبويه، وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض يقدرها مردودة على الباء، وهو قول أبي إسحاق الزجاج والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا: ربنا الله أي أخرجوا بتوحيدهم أخرجهم أهل الأوثان، و {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} [(40) سورة الحج] في موضع خفض بدلاً من قوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [(39) سورة الحج]. الثانية: قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب، ولم تحل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [(15) سورة الإسراء] فاستمر الناس في الطغيان، وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم، فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى، فلما عتت قريش على الله تعالى، وردوا أمره وكذبوا نبيه -عليه السلام- وعذبوا من آمن به ووحده وعبده وصدق نبيه -عليه السلام- واعتصم بدينه أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [(39) سورة الحج] إلى قوله: {الْأُمُورِ} [(41) سورة الحج]. الثالثة: في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من المُلجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار ... الخروج منهم، هم الذين خرجوا، الخروج منهم، الصحيح أن السبب في خروجهم الأذى من الكفار فكأنهم أخرجوهم، ألجأهم إلى الخروج.

لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه، وهذه الآية مثل قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [(40) سورة التوبة] والكلام فيهما واحد، وقد تقدم في (براءة) والحمد لله. الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [(40) سورة الحج] أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ... طالب:. . . . . . . . . أرباب الديانات. طالب:. . . . . . . . . ما بينته أرباب الديانات ما بينته؟ طالب: بنته. عندك بنته؟ طالب: نعم. شو عندك؟ .... طالب: بنته. . . . . . . . . عموماً المعنى واحد، بينته الديانات يعني وضحوه، ومن جراء هذا التوضيح تم البناء. بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: (أُذن في القتال فليقاتل المؤمنون) ثم قوى هذا الأمر في القتال بقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [(40) سورة الحج] الآية، أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة ... إذا كانوا لا يقاتلون عدوهم ولا يدفعون عن أنفسهم صاروا لقمةً صائغة لكل معتدي، ولكن الجهاد شرع لزرع الهيبة في قلوب الأعداء فلا يعتدوا، وزرع أيضاً لدفع من أراد أن يعتدي عليهم. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه، إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يُذب عنه، وأيضاً هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم، وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام، إنما ذكرت لهذا المعنى، أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد -عليه السلام- المساجد. {لَّهُدِّمَتْ} [(40) سورة الحج] من هدمت البناء أي نقضته فانهدم، قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية، وروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الكفار عن التابعين فمن بعدهم، وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق كما تقدم، وقال مجاهد: ...

. . . يعني لولا قتال الصحابة للكفار لما بقي دينٌ للتابعين ولا لمن بعدهم، وقل مثل هذا بالنسبة للتابعين لولا دفع التابعين للكفار لما بقي لمن بعدهم إلى قيام الساعة. وقال مجاهد: لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول، وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقال أبو الدرداء: لولا أن الله -عز وجل- يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد وبمن يغزو عمن لا يغزو؛ لأتاهم العذاب، وقالت فرقة: لولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار، إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية، وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعاً من الناس ومدفوعاً عنه فتأمله. ولا شك أن الله -جل وعلا- يدفع العقوبة ويرفعها بسبب من اتصل به، لا سيما من يسعى لرفع ودفع أهل الجرائم والمنكرات والمعاصي من رجال الحسبة وغيرهم، هؤلاء يدفع الله بهم شراً عظيماً، ولو تواطأ الناس على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يوجد من يقوم به لحلت العقوبة، ولولا وجود من يدع الله -جل وعلا- ممن مأكله حلال وجانب الحرام لحلت العقوبة، الدعاء لا شك أن الله -جل وعلا- يدفع به البلاء ويرفع به البلاء، لكن ممن؟ يعني يوجد فئام وجموع غفيرة من المسلمين لا يتحرون في المأكل والمشرب، مثل هؤلاء هل يدفع الله بهم مثل هذه الشرور والعظائم من العقوبات وغيرها؟ أبداً ((فأنى يستجاب له)) إذا كان مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، لكن الله -جل وعلا- يدفع الشرور بدعاء من مطعمه حلال، لا بدعاء من مطعمه حرام، فليحرص الإنسان على ذلك. الخامسة: قال ابن خويزمنداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعاً، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادةً وجب نقضها، وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. ولما ترك الجهاد انعكس هذا الكلام، حولت المساجد إلى كنائس، والسبب في ذلك ترك الجهاد الذي من أجله ضرب الذل والمسكنة والخضوع والخنوع على الأمة بكاملها، وليس ذلك من قلة ولكنهم غثاء، كما جاء في الحديث الصحيح.

طالب:. . . . . . . . . هو مجرد اختبار واتعاظ وإنكار إن وجد ما ينكر، هذا شيء وإن كان لا يجوز لأحد الخروج عن المنكرات لا يجوز. طالب:. . . . . . . . . إذا لم يجد مكان أو خيف أن يقتدى به -نسأل الله العافية- إذا خشي أن يقتدى به لا يصلي، وإذا لم يجد مكاناً أنسب منها وأنظف وأطيب. . . . . . . . . طالب:. . . . . . . . . كالمقبرة، يعني كالمقبرة التي الصلاة فيها وسيلة إلى الشرك، فإذا كان النهي عن الصلاة في المقبرة؛ لأنه وسيلة إلى الشرك فما كان فيه شرك من باب أولى، يعني هذا وجهه. طالب:. . . . . . . . . على كل حال إذا كان دخولها من أجل الإنكار أو من أجل الاعتبار لا مانع، وأما إذا كان للسياحة أو لاستحسان لها أو ممن يخشى عليه في دينه فلا يجوز البتة. وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة، ولا يجوز أن يُمكنوا من الزيادة؛ لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر، وجاز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه، وقد فعل ذلك عثمان -رضي الله عنه- بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. نعم، إذا تعطلت منافعه أو خيف من سقوطه فإنه ينقض. السادسة: قرئ (لهدمت) بتخفيف الدال وتشديدها، {صَوَامِعُ} [(40) سورة الحج] جمع صومعة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى، يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده، ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة، والأصمع من الرجال الحديد القول، وقيل: هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم ... تسمية صغير الأذن من البهائم أصمع هذا مستعمل.

وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين قاله قتادة، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع جمع بِيْعة وهي كنيسة النصارى، وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، {وَصَلَوَاتٌ} [(40) سورة الحج] قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود وهي بالعبرانية صلوتاً، وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتاً فعرَّبت فقيل صلوات، وفي {وَصَلَوَاتٌ} تسع قراءات ذكرها ابن عطية: (صُلُوات) (صَلْوَات) (صِلْوَات) (صُلُولى) على وزن فعولى (صُلوبٌ) بالباء بواحدة جمع صليب (صُلوث) بالثاء المثلثة على وزن فعول (صُلُوات) بضم الصاد واللام وألف بعد الواو (صُلُوثاً) بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة (صِلْويثا) بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف. وذكر النحاس: وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ (وصُلُوب)، وروي عن الضحاك (وصُلوث) بالثاء معجمة بثلاث، ولا أدري أَفَتح الصاد أم ضمها. قلت: فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات. لعله عدها بلغت اثنا عشر فعد. . . . . . . . . وقال ابن عباس: الصلوات الكنائس، أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين، وقال ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو، وتهدم المساجد، فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف، وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم: يكون الهدم حقيقة. الهدم ضد العمارة، فالهدم الحسي ضد العمارة الحسية، والهدم المعنوي ضد العمارة المعنوية.

وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قال قطرب: هي الصوامع الصغار، ولم يسمع لها واحد، وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم، فالصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين، قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، وقال النحاس: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [(40) سورة الحج] الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} عائداً على المساجد لا على غيرها؛ لأن الضمير يليها ... يعود إلى أقرب مذكور. ويجوز أن يعود على {صَوَامِعُ} [(40) سورة الحج] وما بعدها، ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق السابعة: فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء، وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [(32) سورة فاطر]. الثامنة: قوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [(40) سورة الحج] أي من ينصر دينه ونبيه، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} أي قادر، قال الخطابي: القوي يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه، {عَزِيزٌ} أي جليل شريف، قاله الزجاج، وقيل الممتنع الذي لا يرام، وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه.

سورة الحج من آية 41 - 52

التعليق على تفسير القرطبي سورة الحج من آية: (41 - 52) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [(41) سورة الحج]. قال الزجاج: {الَّذِينَ} في موضع نصب رداً على (من) يعني في قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [(40) سورة الحج] وقال غيره: {الَّذِينَ} في موضع خفض رداً على قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [(39) سورة الحج] ويكون {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [(41) سورة الحج] أربعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في الأرض غيرهم .. . هذا الوصف الذي ذكره النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن مكن يحتمل أن يعود على المنصوب في قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} يعني ينصره الذين إن مكناهم هم الذين إن مكناهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف إلى آخره، وهؤلاء يستحقون النصر، وهذه مقومات النصر، ويحتمل أن يكون مجروراً صفةً أو بدلاً من: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ} الاحتمال قائم باعتبار أن اللفظ لا يتغير من حالة النصب أو الجر، {الَّذِينَ} سواءً كان منصوباً أو مجروراً، فاتفاق علامة الإعراب وهي الياء في حالتي النصب والجر جعل الاحتمال قائماً، مع أن المعنى يحتمل ذلك، مع أن الأقرب أن يكون وصفاً لمن ينصره الله -جل وعلا-؛ لأن هذه مقومات النصر؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء على كل حال يستحقون النصر.

وقال ابن عباس: المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، وقال قتادة: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس، وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة، وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة، وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله -عز وجل- على من آتاه الملك وهذا حسن ... حسن لأن التمكين في الأرض إنما هو للولاة المتصفين بهذه الصفات. قال سهل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه ... واجبٌ عليه، على السلطان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وواجبٌ على العلماء الذين يأتونه أن يأمروه وينهوه، وإن لم يكن أمره كأمر غيره فهو مجرد تذكير وتخويف ونصح لله ولرسوله. وليس على الناس أن يأمروا السلطان ...

بمعنى الأمر إذا أخذنا المعنى اللغوي للأمر وهو الطلب طلب الأعلى من الأدنى هذه حقيقة الأمر، وهنا العكس، السلطان في ميزان الشرع هو الأعلى، وكلمته نافذةٌ فيهم وطاعته واجبةٌ عليهم، وعلى هذا فهم يبينون له الحق، وبيانه نصحٌ له، وبيانُ الحق للسلطان ولولي الأمر لا معارضة بينه وبين الطاعة أبداً، وليس فيه معنىً من معاني الخروج عن الإمام وما أشبه ذلك، على أن يكون بالطريقة المناسبة التي تؤتي ثمارها، ولذا قرن النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الطاعة وبين الأمر والنهي والنصح في حديث: ((الدين النصيحة -ثلاث- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) فالنصيحة لا تعني عدم الطاعة لولي الأمر أبداً، وفي حديث عبادة: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن نقول الحق لا نخاف في الله لومةَ لائم" فعلى العلماء أن يبينوا للولاة وينصحوهم ويوجهوهم، ومع ذلك طاعتهم واجبة وفرض في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ولا تقوم الأمور إلا بهذا، بالجمع بين هذين الأمرين، لا تقوم الأمور وتكتمل ويتم التمكين للخروج على الولاة وشهر السلاح في وجوههم ولا على تركهم أيضاً يصنعون ما يريدون، ويفعلون ما شاءوا من غير توجيهٍ ولا نصح؛ لأنهم في الجملة ليسوا من أهل العلم الذين يدركون دقائق الأمور وخباياها في أمر الحلال والحرام، بل قد يخفى عليهم بعض الأمور فيوجهون إليها وينصحون بها. وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه ... من واجبات ولي الأمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل بين الناس، والحفظ على الأمن بكل ما يستطيع. ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم. لكن لا يعني أن هذا أمر إذا بين للعالم يعني وقع في زلة أو في هفوة أو رؤي منه تقصير بين له ليس هذا أمر ولا نهي إنما هو مجرد بيان ونصح، والعلماء يدخلون في الأئمة على خلافٍ بين أهل العلم في المراد بالأئمة هل هم الأمراء والحكام أو هم العلماء؟.

قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [(42 - 44) سورة الحج]. هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعزية، أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر، {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي كذبه فرعون وقومه. فرعون وقومه يعني قوم فرعون لا قوم موسى؛ لأنه لو نظرنا إلى السياق: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} هؤلاء كلهم كذبوا أنبيائهم، لكن موسى ما كذبه قومه إنما كذبه فرعون وقومه، ولذا قال: {وَكُذِّبَ مُوسَى}. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى، {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي أخرت عنهم العقوبة، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام بمعنى التغيير أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش، قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر والمنكر واحد المناكير. قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [(45) سورة الحج].

قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [(45) سورة الحج] أي أهلكنا أهلها، وقد مضى في (آل عمران) الكلام في (كأين) {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي بالكفر، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} تقدم في الكهف، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} قال الزجاج: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} معطوف على {مِّن قَرْيَةٍ} أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر، والفراء يذهب إلى أن {وَبِئْرٍ} معطوف على {عُرُوشِهَا} وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما، وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما إلا ورشاً فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. والكسائي أيضاً الكسائي لا يهمز، وقيل له: لم لا تهمز الذئب؟ قال: أخاف أن يأكلني. إلا ورشاً فإن روايته عنه بغير همز فيهما والأصل الهمز، ومعنى {مُّعَطَّلَةٍ} متروكة قاله الضحاك، وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم، وقيل: غائرة الماء، وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها والمعنى متقارب، {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل، قال عدي بن زيد: شاده مرمراً وجلله كلساً ... فللطير في ذراه وكور أي رفعه ... رفعه، شاده أي رفعه. أي رفعه، وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص من الشِيد وهو الجص، قال الراجز: لا تحسبني وإن كنت امرأ غمراً ... كحية الماء بين الطين والشِيد وقال امرؤ القيس: ولا أطماً إلا مشيداً بجندل. وقال ابن عباس: {مَّشِيدٍ} أي حصين ... يقول: قال الراجز، والبيت ليس من الرجز، والشاعر ما عرف بالإكثار من الرجز، بحيث لو كان البيت مثلاً لرؤبة قيل: قال الراجز ولو لم يكن من الرجز؛ لأنه عرف بكثرة الرجز، قول أبي العتاهية أيضاً راجز أيضاً، أما صاحب البيت الشماخ هذا ليس بمكثر من الرجز فلا يوصف به، والبيت ليس من الرجز.

وقال ابن عباس: {مَّشِيدٍ} أي حصين، وقاله الكلبي، وهو مَفْعِل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع، وقال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد (بالكسر): كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر تقول: شاده يشيده شيداً جصصه، والمشيّد بالتشديد المطول، وقال الكسائي: المشيد للواحد من قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} والمشيد للجمع من قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [(78) سورة النساء] وفي الكلام مضمر محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. يعني هل السياق يدل على أن ذم تشييد القصور، أو أن هذا وصف للواقع الذي حصل لهؤلاء أصحاب القصور المشيدة أنهم ما منعتهم هذه القصور من عذاب الله وعقابه؟ جاءت نصوص تدل على تحريم الإسراف والنهي عن التبذير لا سيما فيما يتعلق بالطين، وأن الدنيا ممر وليست بمقر، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) يقتضى هذا أن لا تشيد البيوت ولا تعمر القصور وعلى كل حال المسألة مسألة ممر، الذي يضع نفسه في هذا، يتصور نفسه بحال المسافر لا يمكن أن يشيد بيوت القصور، وعلى كل حال المسألة مسألة توسط في الأمور كلها، وما زاد عن الحاجة يؤاخذ عليه الإنسان، كما أنه لا ينبغي أن ينقص على حاجته فيضر بنفسه ومن تحت يده، ليس معنى هذا أن الإنسان القادر على سكن البيت أن ينزل نفسه وأولاده في طرقات الناس أو في أماكنهم العامة أو الحدائق، منهم من يسكن المقابر، لكن هذا من العجز، مثل هذا لا يلام إذا لم يجد غير هذا المكان، لكن المسألة في الزيادة على القدر قدر الحاجة، وهنا: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [(45) سورة الحج] التنصيص عليه يدل على أن الوضع يختلف عن القصر العادي، مثل هذا الذي لا يمنع من عذاب الله ولا من عقوبته، وفيه من بذل الأموال التي لا حاجة إليها ولا داعي لها مثل هذا ما يمنع أن يكون مذموم، بل جاء ما يدل على ذمه، وفي سورة النساء: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [(78) سورة النساء].

ذكر الحافظ ابن كثير قصة من المتقدمين من بني إسرائيل أو من قبلهم: أن شخصاً كان مملوكاً لأسرة فحصل ولادة لربة المنزل التي هي سيدته، فقالت له: ائتني بالسكين وكان قبل ذلك قد رأى رؤية، فقيل له: إن ربة البيت سوف تلد بنتاً وسوف تزني هذه البنت مائة زنية وسوف تتزوجها أنت، فلما طلب منه أن يأتي بالسكين لقطع السرة بقر بطنها بالسكين وهرب عن البلد، واشتغل بالتجارة ومكث مدة عشرين سنة، ثم عاد إلى بلده ظناً منه أن المسألة قد نسيت، عاد بأموالٍ طائلة، لما حضر إلى بلده قال لامرأة سمسار خِطِّيبة على ما يقولون أنها تبحث للرجال عن النساء فقال لها: أريد أجمل بنت في البلد، فدلته على واحدة، فلما اطلع على أسرارها وجد أثر خياطة في بطنها، فغلب على ظنه أنها هي، قال: ما هذه، قالت: وقت الولادة تذكر الوالدة أن مملوكاً لنا فعل كذا وكذا وهرب، ثم بعد ذلك استذكر الرؤيا، هل حصل لك كذا؟ هل سبق أن قارفت الفاحشة، قالت: قد كان شيءٌ من ذلك، قال: وهل كان العدد مائة، قالت: الله أعلم، لكن ما يبعد أن يكون العدد مائة، فتزوجها؛ لأن عنده ما يدعوه إلى نكاحها وعنده ما يصده على نكاحها، فغلب ما يدعوه على ما يصده المقصود أنه فتن بها فبنى لها قصراً مشيداً طويل ضارب في الجو، ومحكم، وكان من تمام الرؤيا أنك تتزوج هذه البنت بعد أن تزني مائة زنية، وتموت هذه المرأة بالخنفساء، الحشرة المعروف، فبنى لها هذا القصر المشيد ورفعه من أجل أن لا تدخل هذه الخنفساء، يقول في القصة: أنه دخل في يوم من الأيام فإذا بالخنفساء عنده في البيت، فقامت هذه المرأة ووطئتها برجلها وفركتها، فأصيبت بالآكلة من رجلها إلى أن ماتت. وهذه قصة على كل حال لكن ليُعلم أن هذه القصور ما منعت من خنفساء فكيف تمنع بما هو أعظم من ذلك من عذاب الله وعقوبته، نسأل الله السلامة والعافية.

ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيه إلا أخرجته، وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء، وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له حضوراء نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر وأمَّروا عليهم رجلاً يقال له: العلس بن جلاس بن سويد فيما ذكر الغزنوي، قال الثعلبي: جليس بن جلاس، وكان حسن السيرة فيهم عاملاً عليهم، وجعلوا وزيره سينحاريب بن سوادة ... أيش؟ طالب:. . . . . . . . . كأن أسفل الهاء نقطتين، يعني في صورتها تحتمل، لكن كأن الهاء أقرب، من تأملها يشوف صورتها. . . . . . . . . أيش عندكم؟ جلهاس. . . . . . . . . لأن الصورة صورة الهاء كالياء، الهاء قريبة جداً من الياء. طالب:. . . . . . . . .

قال الثعلبي: جلهاس بن جلاس، وكان حسن السيرة فيهم عاملاً عليهم وجعلوا وزيره سينحاريب بن سوادة فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها وأبازن (بالنون) من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب وأخر للبقر وأخر للغنم، والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها، وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت، وكان ممن يكرم عليهم فلما مات شق ذلك عليهم، ورأوا أن أمرهم فسد، وضجوا جميعاً بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة فكلمهم، وقال: إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح، وأمر خاصته أن يضربوا له حجاباً بينه وبينهم، ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته، فنصبوا صنم اً من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب، وأخبرهم أنه لا يموت أبداً، وأنه إلههم فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر، فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبياً كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكاً لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر، فعند ذلك أصابتهم النقمة فباتوا شباعاً رواء من الماء، وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشاً حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاة والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته، ومن الإصرار على

ما يوجب نقماته، قال السهيلي: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد ... القصة مما ينقل عن الأمم السابقة التي تحتاج إلى إسناد تثبت به، مع أن الاحتمال قائم في ثبوتها وعدمها، فمثل هذه لا تصدق ولا تكذب، لكن معناها ومحتواها ومفادها أن من عصا الله -جل وعلا- وخرج عن طاعته وعبد غيره مثل هذا يحتاج إلى عقوبة كسائر الأمم، نسأل الله السلامة والعافية. طالب:. . . . . . . . . مثل هذا ما يثبت مثل هذا الخبر حتى يكون بالإسناد الصحيح، لا بد أن يكون إسناده صحيح، مع أنه إن كان حقاً فهو داخلٌ في الإيمان المجمل بالأنبياء والرسل، وإن ثبت وجب الإيمان به بعينه. قال السهيلي: وأما القصر المشيد فقصرٌ بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس وإقفاره بعد العمران، وإن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك، فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة وذكراً وتحذيراً من مغبة المعصية، وسوء عاقبة المخالفة، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل، وقيل: إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة (الأنبياء) في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} [(11) سورة الأنبياء] فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [(46) سورة الحج] يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [(46) سورة الحج] أضاف العقل إلى القلب؛ لأنه محله كما أن السمع محله الأذن، وقد قيل: إن العقل محله الدماغ، وروي عن أبي حنيفة: وما أراها عنه صحيحة.

الخلاف في محل العقل هل هو القلب أو الدماغ؟ خلاف قديم للعلماء والأطباء لغيرهم، فأهل العلم رأوا النصوص الشرعية خطاب الشرع كله يتجه إلى القلب، جميع النصوص تتجه إلى القلب والعقل مناط التكليف، فدل على أن هناك ارتباطاً وثيقاً بينهما، وهنا {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [(46) سورة الحج] فدل أن العقل في القلب، والأدلة على ذلك كثيرةٌ جداً، وهذه حجة من يقول: أن العقل محله القلب، والأطباء يقولون: لا، محله الدماغ، الأطباء من المتقدمين والمتأخرين يرون أن محل العقل الدماغ؛ لأنه يتأثر العقل بتأثر الدماغ، ولا يتأثر بتأثر القلب؛ لأن القلب قد يصاب بمرض والعقل ثابت، فهما قولان والثالث للإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: العقل محله القلب وله اتصال بالدماغ، فيتأثر بهذا وهذا، فإذا تأثر الدماغ تأثر العقل تأثر القلب تأثر العقل والأطباء الآن يذكرون أن العقل يبقى ثابت مع أن القلب سقيم جداً، وقد يكون العقل مفقود والقلب سليمٌ جداً، فهم يرون أنه لا ارتباط بهذا وهذا، لكن إذا نظرنا إلى النصوص وجدنا أن النصوص الشرعية متجهة إلى القلب: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)) والنصوص كثيرة تدل على هذا، وهم يشترطون للتكاليف بل جاء في النص أن التكاليف معلقة بالعقل، وأن المجنون مرفوعٌ عنه القلم لا يكلف بشيء. طالب:. . . . . . . . . لكن إذا قلنا بهذا ألغينا مثل هذه الآية: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [(46) سورة الحج]. طالب:. . . . . . . . . إيه، لكن ليست شيء بالنسبة لبقية ما يتعلق به. طالب:. . . . . . . . . لا، هو كلام الأطباء مبني على الحس، لكن هناك أمور غيبية تخفى عليهم، تخفى عليهم كثيراً وليست بمكتشف، في القلب أسرار وعجائب باستمرار، ومثل هذا إذا جاء عن الشرع في مثل هذه الأمور الصريحة في الموضع ما لنا إلا أن نرضى ونسلم. طالب:. . . . . . . . .

يرد عليهم ما يرد، عقل الرشد في القلب، وماذا عن المجنون أيش يصير من ذا وإلا ذا؟ قد يفحص على قلب مجنون فيوجد سليم من كل وجه، لكن هل المراد السلامة والسقم الحسي أو المعنوي؟ يعني المؤثر في القلب في العقل هل هو السلامة {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [(89) سورة الشعراء] هل مراد السلامة الحسية أو المعنوية؟ لا شك أنها المعنوية. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [(46) سورة الحج] قال الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والمعنى واحد التذكير على الخبر والتأنيث على الأبصار أو القصة أي فإن الأبصار لا تعمى ... الهاء هذه ضمير الشأن أو ضمير القصة ضمير الشأن والقصة؛ لأن الشأن والقصة سواء إلا إنه إن أعيد مؤنثاً كما في قوله: (فإنها) فعل مراد به القصة، وإن أعيد مذكراً كما في قراءة ابن مسعود صار الشأن. أي فإن الأبصار لا تعمى أو فإن القصة {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [(46) سورة الحج] ... لماذا لا نقول: أن الضمير يعود على ما ذكر هنا؟ أولاً: لو تصورنا عوده إلى مذكور يكون عائداً إلى {الْأَبْصَارُ} يكون عائداً على {الْأَبْصَارُ} وحينئذٍ يكون عائداً على متأخر في اللفظ وفي الرتبة أيضاً، هذا الذي جعلهم يقولون: إن الضمير –الهاء- عماد أو ضمير الشأن والقصة، ولا يقولون: يعود على {الْأَبْصَارُ} وإلا فالأصل المكني عنه هنا الأبصار، فلو تقدم الأبصار تقدم الحديث عن الأبصار وجاء مر ذكرها وقيل: فإنها لا تعمى يعود على أيش؟ الأبصار بلا شك؛ لأنه يعود على متقدم، لكن كونه عاد على متأخر عدلوا عن عوده إلى متأخر إلى كونه ضمير شأن أو قصة.

{لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} أي أبصار العيون ثابتة لهم، {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [(46) سورة الحج] أي عن درك الحق والاعتبار، وقال قتادة: البصر الناظر جُعل بلغة ومنفعة والبصر النافع في القلب، وقال مجاهد: لكن عين أربع أعين، يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئاً، وقال قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى ... هذا كلام مجاهد، وأما في القلب عينين تبصران أمور الآخرة يكون العمى المذكور في الآية حقيقي لهاتين العينين، يكون العمى حقيقي {تَعْمَى الْقُلُوبُ} بمعنى أنه تذهب العينان المدركتان لما ينفعه في آخرته، وإذا قلنا: إن عمى القلب ليس المراد به ما يراد بعمى البصر، فعمى كل شيء بحسبه، يعني لو أن رجلاً وهو يمشي يضرب برجليه الحجارة وهو يمشي باستمرار ولا ينتبه قيل: إن رجليه عمياوان، فعماه بحسبه، باعتبار أنه يقع فيما يقع فيه الأعمى ولو كان مبصراً، ويكون هذا استعمال حقيقي وإن كان الأصل والأكثر العمى في العيون، لكن عمى القلب من هذا النوع، ليس بعمى حسي مثل عمى العيون لكنه عمى يقال له حقيقة في مقابل المجاز، هو استعمال شرعي حقيقة شرعية لا يقال: أنه مجاز، إنما هو حقيقة شرعية، وعمى العين تتضافر فيه الحقائق الثلاث: اللغوية والشرعية والعرفية. طالب:. . . . . . . . . اجتهاد، باعتبار أنه يريد أن يوجه الآية {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ} [(46) سورة الحج] كيف تعمى وهي ما لها عيون؟ قال ابن عباس ومقاتل: لما نزل {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [(72) سورة الإسراء] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [(46) سورة الحج] أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.

قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [(47) سورة الحج] نزلت في النضر بن الحارث وهو قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [(22) سورة الأحقاف] وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام وهو قوله: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} [(32) سورة الأنفال]. {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [(47) سورة الحج] أي في إنزال العذاب، قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شيء، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر. استعجلوا العذاب لأنهم كذبوا به. قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [(47) سورة الحج] قال ابن عباس ومجاهد: يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض، قال عكرمة: يعني من أيام الآخرة أعلمهم الله إذا استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي يوم من الأيام عذابهم في الآخرة ألف سنة، وقيل: المعنى وإن يوماً في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياساً. وإن كان يوم النعيم لا يدرك طوله كإدراك يوم البؤس والشدة، فيوم البؤس والشدة طويل وإن كان قصيراً، ويوم النعيم قصير وإن كان طويلاً. أيام إقباله كاليوم في قصرٍ ... ويوم إدباره في الطول كالحُججِ يعني مثل السنين. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (مما يعدون) بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} [(47) سورة الحج] والباقون بالتاء على الخطاب واختاره أبو حاتم. قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [(48) سورة الحج] أي أمهلتها مع عتوها، {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} أي بالعذاب، {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}. قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [(49) سورة الحج] يعني أهل مكة، {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ} أي منذر مخوف، وقد تقدم في البقرة الإنذار في أولها. يعني عند قوله -جل وعلا-: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [(6) سورة البقرة].

{مُّبِينٌ} [(49) سورة الحج] أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [(50) سورة الحج] يعني الجنة، {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} [(51) سورة الحج] أي في إبطال آياتنا، {مُعَاجِزِينَ} [(51) سورة الحج] أي مغالبين مشاقين قاله ابن عباس، قال الفراء: معاندين، وقال عبد الله بن الزبير: مثبطين عن الإسلام، وقال الأخفش: معاندين مسابقين، قال الزجاج: أي ظانين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم، وقاله قتادة، وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو (معجزين) بلا ألف مشدداً، ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي -عليه السلام- وبالآيات قاله السدي. يعني يثبطونهم، أو أنهم ينسبونهم إلى العجز. وقيل: أي ينسبون من اتبع محمداً -صلى الله عليه وسلم- إلى العجز، كقولهم: جهلته وفسقته، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [(51) سورة الحج]. كما يكتب في الصحف في هذه الأيام عن الزهد والإعراض عن الدنيا أنه ضعف، وأنه خمول، وتعطيل للحياة، يكتب هذا في الصحف. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(52) سورة الحج]. فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {تَمَنَّى} أي قرأ وتلا، و {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [(52) سورة الحج] أي قراءته وتلاوته وقد تقدم في البقرة، قال ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال مسلمة: فوجدنا المحدَّثين معتصمين بالنبوة على قراءة ابن عباس؛ لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا، وعُصموا فيما نطقوا، كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية.

يعني حينما قال: "يا سارية الجبل" وهم في غزو، وكشف لعمر -رضي الله تعالى عنه- أنهم: أشرفوا على الهزيمة فأمره -رضي الله تعالى عنه- أن يلجأ إلى الجبل ويقاتل من ورائه، وسمعه سارية وامتثل، وحصل لهم النصر، وهذا من الكرامات التي يعترف بها ويقر بها أهل السنة إذا صدرت من متبع. قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له، وقد حدثني أبي -رحمه الله- حدثنا علي بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قرأ: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن، والمحدث هو الذي يوحى إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي. الثانية: قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما: أن قوماً يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين، وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلاً، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [(52) سورة الحج] فأوجب للنبي -صلى الله عليه وسلم- الرسالة. مقتضى قول الجمهور أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه هذا يكون غير مرسل، وأما الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، ومقتضى قولهم: أنه نبي لكن غير رسول، وكل رسول نبي ولا عكس. وأن معنى (نبي) أنبأ عن الله -عز وجل-، ومعنى أنبأ عن الله -عز وجل- الإرسال بعينه، وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل -عليه السلام- إليه عياناً، والنبي الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، قال المهدوي: وهذا هو الصحيح أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، واحتج بحديث أبي ذر وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم وآخرهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي:

الثالثة: الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح، وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء أن لا يعجزوا عن شيء فلم يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضاً: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط، فبين الرب -سبحانه- أنهم بشر والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان، روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [(1) سورة النجم] فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [(19 - 20) سورة النجم] سها فقال: إن شفاعتهم ترتجى، فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه وفرحوا فقال: "إن ذلك من الشيطان" فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [(52) سورة الحج] الآية، قال النحاس: وهذا حديث منقطع، وفيه هذا الأمر العظيم، وكذا حديث قتادة، وزاد فيه: "وإنهن لهن الغرانيق العلا" ... قصة الغرانيق قصة مشهورة تذكر في تفسير هذه السورة، وتداولها المفسرون، وجزم جمعٌ من أهل التحقيق بأنها باطلة، وأنها لم ترد من وجهٍ يثبت، فالمعول عليه أن هذه القصة لا تصح، وابن حجر ذكر لها أسانيد وقال: إن هذه الأسانيد تدل على أن لها أصلاً، وأنه ثبت شيءٌ منها، وإن لم تكن بالصورة التي وردت المقصود أنه ثبت شيءٌ من ذلك لكثرة أسانيدها، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ذكرها في مختصر السيرة، المقصود أن العلماء منهم من يثبتها لكثرة طرقها، ومنهم من يحكم ببطلانها، وهذا هو الأنسب، وهذا هو اللائق بعصمة النبي -عليه الصلاة والسلام- لا سيما فيما يتعلق بالتبليغ؛ لأن هذا الكلام على هذه الرواية جرى على لسانه -عليه الصلاة والسلام- بين آيتين من القرآن، منهم من يقول: إن الشيطان تكلم بهذا الكلام في أثنائه تحين سكوت النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الآيتين فتكلم بها، والقرآن محفوظ حفظه الله -جل وعلا- تكفل بحفظه بلا زيادةٍ ولا نقصان.

المقصود أن مثل هذه القصة لا تثبت، وانبرى لها أهل العلم وفندوها وصنفوا فيها، ممن صنف فيها الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- برسالة أسماها: "فصل المجانيق لنسف قصة الغرانيق". وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ تراباً من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخاً كبيراً، ويقال: إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص حتى نزل جبريل -عليه السلام- فقرأ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ما جئتك به، وأنزل الله {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [(74) سورة الإسراء] قال النحاس: وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف، وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث -إن شاء الله- آخر الباب، قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور، بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. يعني لا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي نطق بذلك. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم بتلك الألفاظ على لسانه، وحدثني أبي -رضي الله عنه- أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [(19 - 20) سورة النجم] وقرب صوته من صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا: محمد قرأها، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي وقيل: الذي ألقى شيطان الإنس كقوله -عز وجل-: {وَالْغَوْا فِيهِ} [(26) سورة فصلت] قال قتادة: هو ما تلاه ناعساً.

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصداً ولا عمداً سهواً وغلطاً: اعلم -أكرمك الله- أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخوذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه، أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه بسند صحيح سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسناد متصل يجوز ذكره إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، والشك في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بمكة وذكر القصة، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يُعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد بين لك أبو بكر -رحمه الله- أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه، وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزاز -رحمه الله-، والذي منه في الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: {وَالنَّجْمِ} [(1) سورة النجم] بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، هذا توهيته من طريق النقل.

وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح، وقد أعاذنا الله من صحته ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة منها الغث والسمين، والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصل الآية تفصيلاً في قراءته، فما رواه الثقات عنه فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين؛ لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه، فيكون ما روي من حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [(52) سورة الحج] الآية، قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا. هذا على فرض تسليم صحته، وإلا على القول بضعفها وبطلانها لا يحتاج لمثل هذا الكلام. وقد قال سليمان بن حرب: .. يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: إذا لم يثبت الحديث فلا تتكلف اعتباره، يعني لا تتكلف توجيهه ولا الإجابة عنه ما دام ضعيفاً.

وقد قال سليمان بن حرب: إن (في) بمعنى عند، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله -عز وجل-: {وَلَبِثْتَ فِينَا} [(18) سورة الشعراء] أي عندنا، وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نصٌ في غرضنا دليل على صحة مذهبنا، أصلٌ في براءة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما ينسب إليه أنه قاله، وذلك أن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [(52) سورة الحج] أي في تلاوته، فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولاً زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، كما يفعل سائر المعاصي، تقول: ألقيت في الدار كذا وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم به، ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هُدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره، وصفاء فكره، وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض وصوَّب على هذا المرمى، وقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد ... كونها تذكر وتروى وتسطر وفيها ما فيها كغيرها مما يوصف ويختلق وينسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- مما لم يقله من الأحاديث الباطلة والموضوعة، وبقاؤها وتسطيرها وكتابتها وتدوينها لتعظم أجور أهل العلم في نقدها وتفنيدها وردها، وتعظم فتنة من أراد الله فتنته من أهل الزيغ من التمسك بها والعمل بها، كغيرها من الأحاديث الباطلة. وأما غيره من التأويلات مما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا ... يعني الشيطان أكره النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى قاله. حتى قال كذا فهو محال ... نقول: هذا أبطل من الباطل.

إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبراً عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [(22) سورة إبراهيم] ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان، ومن قال جرى ذلك على لسانه سهواً قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهواً، وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله -عز وجل- هذه الآية تمهيداً لعذره وتسلية له؛ لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهواً، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: إن شيطاناً ... . . . . . . . . . من غير النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قد يردد كلام في نفسه أو يركب شيء على شيء ثم يتلوه متتابعاً ويقرأه ويحدث فيه وغير متتابعاً وإن كان بعضه لا يرتبط ببعض، يعني على سبيل المثال: لو أن شخصاً في ورده آيات من القرآن غير منتظمة، يعني آية من البقرة وأخرى من آل عمران وثالثة من كذا إلى آخره، وهو يقرأ في سورة البقرة بناءً على أنه أخذ لسانه على هذا، فإذا انتهت آية البقرة جاء بما في آل عمران؛ لأنه يردد هذا في كل يوم، فإذا تُصور هذا من غير النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يمكن أن يتصور منه، وهو المبلغ عن الله -جل وعلا-. وقال قال ابن عباس: إن شيطاناً يقال له: الأبيض كان قد أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صورة جبريل -عليه السلام- وألقى في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى" وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعوَّل، فلا يعدل عنه إلى غيره، لاختيار العلماء المحققين إياه ... هذا على القول بتسليمه، تسليم القائل الشيطان وليس النبي -عليه الصلاة والسلام-، على فرض التسليم، لكن كما قال المؤلف: ضعف الحديث مغن كل تأويل.

وضعف الحديث مغنٍ عن كل تأويل والحمد لله، ومما يدل على ضعفه أيضاً وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [(73) سورة الإسراء] الآيتين ... وإن كادوا، يعني أنهم لم يفعلوا، لم يفعلوا هذه الفتنة لكنهم قربوا منها. فإنهما تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً فكيف كثيراً؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال -عليه الصلاة والسلام-: افتريت على الله وقلت: ما لم يقل، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟ يعني تضعف متنه ولو صح إسناده؛ لأن النظر في التصحيح والتضعيف للإسناد والمتن، وقد يصح السند ويكون في درجة الصحة لكن الحديث معلول، أي فيه شذوذ ومخالفة.

وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} [(113) سورة النساء] قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن، وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام للتوكيد، وقد قيل: إن معنى (تمنى) حدث لا (تلا) روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله -عز وجل-: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [(52) سورة الحج] قال: إلا إذا حدث، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [(52) سورة الحج] قال: في حديثه، {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [(52) سورة الحج] قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله، وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة: لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً، والمعنى عليه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله -عز وجل- أن يغنِّمك ليتسع المسلمون، ويعلم الله -عز وجل- أن الصلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، وحكى الكسائي والفراء جميعاً: (تمنى) إذا حدث نفسه، وهذا هو المعروف في اللغة، وحكيا أيضاً: (تمنى) إذا تلا، وروي عن ابن عباس أيضاً، وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما، وقال أبو الحسن بن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صفرت يداه من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان، وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، وهو اختيار الطبري.

قلت: قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [(53) سورة الحج] الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، فالله أعلم، قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحاً، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم اللات والعزى وتم الكلام، ثم أسقط (والغرانيق العلا) يعني الملائكة، (فإن شفاعتهم) يعود الضمير على الملائكة، وأما من روى: (فإنهن الغرانيق العلا) ففي روايته أجوبة منها: أن يكون القول محذوفاً كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخاً؛ لأن قبله {أَفَرَأَيْتُمُ} [(19) سورة النجم] ويكون هذا احتجاجاً عليهم فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحاً في الصلاة. وقد روي في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، والغرانقة العلا، وأن شفاعتهن لترتجى، روي معناه عن مجاهد، وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة، وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة؛ وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم ورد عليهم في هذه السورة بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى} [(21) سورة النجم] فأنكر الله كل هذا من قولهم، ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلاً للتلبيس، كما نُسخ كثير من القرآن، ورفعت تلاوته، قال القشيري: وهذا غير سديد؛ لقوله: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [(52) سورة الحج] أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(52) سورة الحج] عليم بما أوحى إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، حكيم في خلقه. لو أضاف هذا التفسير الأخير، وأن المراد بالغرانيق الملائكة، الملائكة ممن ترجى شفاعتهم إلى التوجيه السابق، وأن هذا على فرض التسليم، ويبقى أن هذه القصة ليست بصحيحة، وأن هذه الإجابات عنها إنما هي مجرد التماسات من أهل العلم على فرض صحتها، ولم تصح ولم تثبت. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة النور (1 - 3)

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير القرطبي تفسير الثلاث الآيات الأُول من سورة النور الشيخ / عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: سورة النور مدنية بالإجماع، وقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [(1) سورة النور] مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر، وكتب عمر -رضي الله عنه- إلى أهل الكوفة: "علموا نساءكم سورة النور". لأنها مشتملة على أحكامٍ كثيرة مما يهم النساء، لا سيما في مسائل العفاف والستر والحجاب والاحتياط والقرار في البيوت. وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلمونهن الكتابة، وعلموهن سورة النور والغزل" {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء .. وعلى كل حال هذه الأخبار، ويروى مرفوع: ((لا تعلموا نساءكم الكتابة)) لكنه ضعيف جداً، فالمرأة فيما يتعلق بالعلم الشرعي، وبما يتعلق بمعرفة الله ومعرفة حقوقه هي كالرجل مطالبة بذلك، وأما ما زاد على ذلك مما يختص بالرجال فلا. تعلم هذه السورة بالنسبة للنساء أمر مهم جداً، لكن كما ذكر شيخ الإسلام وبعض العلماء أن النساء ميلهن إلى سورة يوسف أكثر من ميلهن إلى سورة النور؛ لأن سورة يوسف قصص متعلقة بهن، وأما بالنسبة لسورة النور فهي أحكام ملزمة لهن، وفي بعضها مشقة عليهن. {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء، أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام، وبالتشديد، أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة .. يعني فرّضناها. وقرأ أبو عمرو: {وفرضناها} بالتشديد: أي قطعناها في الإنزال نجماً نجماً، والفرض: القطع، ومنه فرضة القوس، وفرائض الميراث، وفرض النفقة، وعنه أيضاً: {فرضناها} فصلناها وبيناها، وقيل: هو على التكثير، لكثرة ما فيها من الفرائض .. فيعود إلى الأول، فيكون فرّضناها هو معنى فرضناها إلا أن هذا البناء خاص بالتكثير، فرضناها: أنزلها في فرائض، لكن: فرّضناها: أنزلنا فيها فرائض كثيرة، فالفرق بينهما حينئذٍ التكثير فقط.

والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، قال زهير: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذبُ وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها، وقرئ {سورة} بالرفع على .. نسب البيت إلى زهير، والمعروف أنه للنابغة الذبياني. وقرئ {سورة} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنزَلْنَاهَا} في مقدمة الكتاب تطرق المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى تعريف السورة والآية بعد تعريف القرآن. وخبرها {أَنزَلْنَاهَا} قاله أبو عبيدة والأخفش، وقال الزجاج والفراء والمبرد: {سُورَةٌ} بالرفع؛ لأنها خبر الابتداء، لأنها نكرة لا يبتدئ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة، ويحتمل أن يكون قوله: {سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة، فحسن الابتداء لذلك .. لأنها نكرة موصوفة، نكرة موصوفة فهي مفيدة، والممنوع من الابتداء بالنكرة إذا لم تفد، أما إذا أفادت فإنه يجوز الابتداء بها. ولا يجوز الابتداء بالنكرة ... ما لم تفد، كعند زيدٍ نمرة ويكون الخبر في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [(2) سورة النور]، وقرئ {سورةً} بالنصب على تقدير: أنزلنا سورة أنزلناها، وقال الشاعر: والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي: اتل سورة، وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف، والحال من المكني يجوز أن يتقدم عليه .. يعني سورةً على النصب حال، أنزلناها سورةً، فالفعل استوفى الفاعل والمفعول، وتكون (سورة) حال من الضمير، صاحبه الضمير، الذي هو الكناية، يسميه كناية هو، والحال من المكني -يعني من الضمير- يجوز أن يتقدم عليه، بخلاف الحال من الاسم الظاهر فإنه لا يجوز أن يتقدم عليه، وعلى كل حال المرجح عند سيبويه النصب من حيث العربية، وعند غيره الرفع، وهو الذي تسنده القراءة. قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] فيه اثنان وعشرون مسألة ..

يعني هذا في الأصل وإلا فالصواب أن يقال: فيه اثنتان وعشرون مسألة. الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}. طالب: عندي إحدى وعشرون الشيخ: إحدى وعشرون؟ والواقع؟ طالب: اثنان وعشرون. الشيخ: اثنتان وعشرون نعم، نلاحظ أن الأصول إحدى وعشرون مسألة عدا. . . . . . . . . اثنتان وعشرون كما هو مثبت، والواقع يشهد بأنها: اثنتان وعشرون. الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنا في اللغة معروفاً قبل الشرع مثل اسم السرقة والقتل، وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح، بمطاوعتها .. ما الفائدة من هذا القيد؟ بمطاوعتها؟ يعني لو لم تكن مطاوعة ألا يسمى زنا؟ إذا لم تكن مطاوعة بالنسبة للرجل زنا، وبالنسبة للمرأة؟ طالب: اغتصاب. الشيخ: نعم اغتصاب، فلا يقام عليها الحد. طالب: ولا شبهة نكاح؟ الشيخ: شبهة النكاح أن يتزوج امرأة هي أخته من الرضاعة، وهو لا يدري، ولا يعلم، ثم يتبيّن بعد ذلك، هذه شبهة. وإن شئت قلت: هو إدخال فرجٍ في فرج، مشتهى طبعاً، محرم شرعاً، فإذا كان ذلك وجب الحد، وقد مضى الكلام في حد الزنا وحقيقته، وما للعلماء في ذلك، وهذه الآية ناسخةٌ لآية الحبس وآيةِ الأذى اللتين في سورة النساء باتفاق .. وبيان ذلك حديث عبادة بن الصامت: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم)) هذا بيان، لئلا يقال: كيف تنسخ السنة القرآن؟ والناسخ هو هذه الآية عند أهل العلم، ومنهم من يرى أنه لا مانع من أن تنسخ السنة القرآن، فتكون آية النساء منسوخة بحديث عبادة. الثانية: قوله تعالى: {مِئَةَ جَلْدَةٍ} [(2) سورة النور] هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة، وثبت بالسنة تغريب عام على الخلاف في ذلك ..

يمنع بعض العلماء التغريب ويقول: إن فيه ضياع للمرأة والرجل الذي يزني، فإذا أفسد في بلده وهو معروف فيه، ويستحي من أهله وأقاربه، فكيف يصنع إذا غرّب؟ وأيضاً التغريب جاء بالسنة ولم يثبت بالقرآن، وعندهم الزيادة على النص نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن، وهذا قول الحنفية، لكن ما دام ثبت الخبر الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا كلام لأحد، وأما ما أبدوه من فساد الزاني أو إفساده بعد تغريبه فعلى الإمام أن يحتاط لأمره، وينظر في أمره، ويحيل بينه وبين ما يريد. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [(25) سورة النساء] وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها .. العبد مقيس على الأمة، الأمة عليها نصف ما على المحصنات من العذاب، والعبد أيضاً عليه نصف ما على الأحرار من الرجال من العذاب، وأبو ثور يقول: لو قيل برجم العبد لقلت به؛ لأن النص ورد في الإماء ولا يرد في الذكور، لأن النص ورد في الإماء فقط ما ورد في الذكور {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وأما الذكور من العبيد ما ورد فيهم شيء، إلا القياس على الأمة، لكن عامة على أهل العلم على التنصيف في الجنسين في الرجال والنساء. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد، ومن العلماء من يقول: يجلد مائة، ثم يرجم، وقد مضى هذا كله ممهداً في النساء، فأغنى عن إعادته، والحمد لله .. في حديث عبادة بن الصامت: ((والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم)) وهو حجة لمن يقول بالجلد والمعروف عند الحنابلة وجمع من أهل العلم؛ لكن كأن الجمهور على عدم الجلد، لأن الوقائع الخمس التي حصلت في عصره -عليه الصلاة والسلام- لم يتطرق فيها للجلد، في حديث ماعز: ((اذهبوا به فارجموه)) في حديث: ((واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) ولم يذكر فيه الجلد، والجلد ثابت بالنص الصحيح الصريح وثبوته في خبر يغني عن إعادته في كل خبر، ثبت في خبر ملزم وحديث عبادة لا غبار عليه، وهو في الصحيح، وفيه النص على أنه يجلد مائة، وما المانع من أن يجلد مائة ثم يرجم؟.

الثالثة: قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزانيةَ} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه، لأنه عنده كقولك: زيداً اضرب، ووجه الرفع عنده: خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، وأجمع الناس على الرفع .. في التقدير الذي ذكره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فيما يتلى عليكم هو قال: خبر ابتداء، صوابه: ابتداء، لأن الخبر الجار والمجرور المتقدم، متعلق الجار والمجرور هو الخبر، حكم الزانية والزاني فيما يتلى عليكم. وأجمع الناس على الرفع، وإن كان القياس عند سيبويه النصب، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله: {فَاجْلِدُوا} لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله، وهو قول جيد، وهو قول أكثر النحاة، وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا، وقرأ ابن مسعود: والزانِ بغير ياء .. ولو قال: يجب أن يجلدا. الرابعة: ذكر الله -سبحانه وتعالى- الذكر والأنثى والزاني كان يكفي منهما فقيل: ذكرهما للتأكيد .. لأن النساء يدخلن في أحكام الرجال، يعني (الزانية والزاني) لو قال: الزاني يكفي، لكنه نص على المرأة كما نص على الرجل في {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [(38) سورة المائدة] للأهمية. كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ، والمرأة محلٌ ليست بواطئة فلا يجب عليها حد، فذكرها رفعاً لهذا الإشكال الذي أوقع جماعةً من العلماء منهم الشافعي فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال: جامعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كفر)) فأمره بالكفارة والمرأة ليست بمجامعة ولا واطئة ..

هذا رأيه، عدم ذكر الكفارة بالنسبة للمرأة، أولاً: هذه قضية عين، يعتريها ما يعتريها، يحتمل أن تكون غير مطاوعة فلا كفارة عليها، ويحتمل أنها ألزمت بالكفارة ولم ينقل، لأنه لا يلزم النقل في كل قضية، إذا ثبت الحكم في قضية واحدة يكفي، فإذا ثبت الحكم بالنسبة للرجل، وهو أصل في الباب، والمرأة كذلك أصل إن لم تكن أدخل في الباب منه، ولذا قدمت في الآية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لا شك أن إلزام المرأة بما يلزم به الرجل هو الأصل، لأنها مكلفة كتكليفه، ويقع منها الفعل كفعله، فلا فرق بينهما. لكن إذا نظرنا في الإحصان، ما الذي للمرأة من هذه المادة؟ وما الذي للرجل منها؟ للرجل منها اسم الفاعل (محصنين) وللمرأة منها اسم المفعول: (محصنات) فهل يعني هذا أن الأصل في الباب الرجل وأن المرأة تبع له؟ هو يحصنها فهو الفاعل وهي المفعول، فهو محصن، وهي محصنة، هل يعني هذا أنها لا مدخل لها في هذا الباب؟ يعني إذا قلنا: ضرب زيد عمراً، عمرو ما له علاقة بالباب، مضروب مسكين، ما دخل له في المادة التي هي: الضرب، إنما الضرب وقع من زيد، فإذا قلنا: الرجل محصن، والمرأة محصنة، فهل معنى هذا أن الإحصان جاء من طرفٍ واحد دون الثاني كما في الضرب؟ وهل نقول: الرجل يحصن المرأة والمرأة لا تحصن الرجل أو الإحصان من الطرفين؟ تروا المسألة فيها شيء من الدقة، يعني كأن الإمام الشافعي في عدم إلزام المرأة بالكفارة أن الفعل وقع من طرف واحد، من الزاني فقط، وأما المرأة فلا دخل لها، ولذا يتصور إكراهها، بخلاف الرجل الذي لا يتصور إكراهه على الزنا، يعني مسألة الإحصان هل نستطيع أن نقول أن الرجل محصَن؟ والمرأة محصِنة؟ أو نتبع اللفظ ونقول: الرجل محصِن، والمرأة محصَنة؟ طالب: الآية: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [(187) سورة البقرة]؟ الشيخ: مسألة اللباس باعتبار أن كل واحد منهما ينثني على الآخر كاللباس، هذا ما فيه إشكال، هذا لا علاقة له بالوطء.

يعني هل كون الفعل يقع من زيد على فلانة، على زوجته فلانة، يعني أن المرأة لا علاقة لها بالموضوع، أو أنها هي شقيقته ولها مما يتعلق به مثل ما له؟ يعني استمتاع الرجل أكثر من استمتاع المرأة أو العكس، أو هما سواء؟ هما سواء، لكن الذي يشكل في كون الرجل محصن، والمرأة محصنة؟ قد يقال مثلاً: أن الرجل كونه محصن بما بذله من ماله، وبما سعى به وبجهده من تحصيل هذه المرأة، والمرأة جالسة في بيتها تنتظر من يخطبها فهي محصنة، جاء زيد وبذل لها المال فأحصنها، ولا يعني هذا أنها ليست شريكةً له في الاستمتاع، بل المرأة تستمتع كالرجل، وهذا محسوس، فيلزمها كل ما يلزم الرجل. طالب: لكن لم يوجبوا الكفارة على المرأة فيمن وطأ زوجته في الحيض، بخلاف فيمن وطأ زوجته في رمضان أوجبوا الكفارة على الاثنين، والعلة واحدة؟. الشيخ: إيه، لكن في الغالب أن المرأة إذا كانت في الحيض لا تريده، فهمت؟ والذي يريده الرجل فقط. الخامسة: قدمت {الزَّانِيَةُ} في هذه الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنا النساء فاشٍ، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك، وقيل: لأن الزنا في النساء أعرّ .. (أعرّ) يعني معرّته أشد، وعاره أعظم، وتبعاته أكثر. وهو لأجل الحبل أضرّ، وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر، وعليها أغلب، فصدرها تغليظاً لتردع شهوتها، وإن كان قد ركّب فيها حياء، لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، وأيضاً فإن العار بالنساء ألحق، إذ موضوعهن الحجب والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظاً واهتماماً .. لا شك أن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وصارت سبباً في فتنة الرجال، فهي السبب الأول في هذا الباب، ولو قرت في بيتها والتزمت ما أمرت به حجاب ما افتتن كثير من الرجال بهن، وفتنة هذه الأمة كفتنة بني إسرائيل في النساء. السادسة: الألف واللام في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة، ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكمٍ فيقام مع الجلد، وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بشراحة ..

نعم جلده ايوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-. وقد مضى في النساء بيانه، وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامةٍ بخروج العبيد والإماء منها .. يعني عمومها مخصوص {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} مخصوص بالعبيد والإماء، وما دام عمومه دخله التخصيص ضعف، فلا يتناول الثيّب، وإنما هو خاص بالأبكار، لكن النص في هذه المسألة حديث عبادة ((الثيب بالثيب جلدة مائة والرجم)). السابعة: نص الله -سبحانه وتعالى- على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي، وأجمع العلماء على القول به، واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوبٍ واحد، فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة، وروي ذلك عن عمر وعلي، وليس يثبت ذلك عنهما، وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان .. نعم، عليهما التعزير، وأما الحد فلا يثبت إلا بالفعل. وقال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب، وقال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب، وقد مضى في (هود) اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده. الثامنة: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء؛ لأنه موضع أمر، والأمر مضارع للشرط، وقال المبرد: فيه معنى الجزاء أي: إن زنى زانٍ فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء، وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (38) سورة المائدة. (أل) هذه التي هي للجنس تقوم مقام (من) فكأنه قال في الآية: من زنا أو زنت فاجلدوا، ومن سرق أو سرقت فاقطعوا. التاسعة: لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه ..

وليس ذلك لأحدٍ إلا للإمام، ليس إقامة الحدود إلا للإمام أو من يقوم مقامه من نوابه، والخلاف في العبيد هل يقيد الأسياد عليهم الحدود، كما في حديث: ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها))؟ فوكل الجلد إلى سيدها، وهل للأب أن يؤدب ولده إذا وقع في هفوةٍ أو زلة من هذه الأمور؟ هل يقيم عليه الحد أو ليس له ذلك؟ الصواب أنه ليس له ذلك، نعم له أن يعزره أما أن يقيم عليه الحد فلا. وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد، قال الشافعي: في كل جلد وقطع، وقال مالك: في الجلد دون القطع .. يعني إذا سرق العبد فللسيد أن يقطع يده، وإذا زنا له أن يجلده، هذا عند الشافعي وأما عند مالك ففي الجلد دون القطع. وقيل: الخطاب للمسلمين، لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود .. من أعظم الحِكَم من وجوب تنصيب الإمام والخليفة إقامة الحدود، وإشاعة العدل والمحافظة على الأمن، فلا يتم ذلك إلا بإقامة الحدود، ولذا جاء الوعيد الشديد في ما إذا بلغت الحدود الإمام حينئذٍ فليس له أن يعفو، وليس لغيره أن يشفع، لأنه أمر لا بد منه، وأما تعافي الحدود قبل بلوغ الإمام، والستر فهذا محله عند أهل العلم فيما إذا لم تكثر المنكرات وتشيع، وفيمن لم يعرف بالفواحش وكثرة السوابق، أما من عرف بذلك فلا بد من أن يوقف عند حده، ولذلك شرعت الحدود، وأما بالستر المطلق فلا شك أن هذا صورة من صور الإباحية وتعطيل للحدود، والله المستعان. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: ما يملك، ما يملكه. طالب:. . . . . . . . .

الشيخ: يشترط أهل العلم في إقامة الحد: النية، والنية منهم لا تتجه لأنهم غير مطالبين بهذا، الحدود منوطة بالإمام، يشترطون النية في إقامة الحد، فمثلاً: لو أن شخصاً شرب الخمر، وجب عليه الحد وثبت عليه، ثم سجن حتى يقام عليه الحد، فقيل للإمام أنه حاول الهرب من السجن، فقال الإمام: اجلدوه ثمانين جلدة أو مائة جلدة عن محاولة الهرب، ثم شهد آخرون أنه لم يحاول، وتبيّنت براءته، هل يكفي هذا عن الحد أو لا يكفي؟ مقتضى قولهم: وجوب النية أن هذا لا يكفي، هذا لا يكفي لا بد من إقامة الحد عليه، لأن الحد مقصود للشرع، ومع ذلك من شهد عليه يؤدب، ويكون حينئذٍ مظلوم كسائر المظلومين. العاشرة: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب، والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطاً بين سوطين لا شديداً ولا ليناً، وروى مالك عن زيد بن أسلم: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوط فأوتي بسوط مكسور، فقال: ((فوق هذا)) فأتي بسوطٍ جديد لم تقطع ثمرته، فقال: ((دون هذا)) فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلد، الحديث .. ، قال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث مرسلاً جميع رواة الموطأ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه .. يعني يسند، يعني يتصل. وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله سواء، وقد تقدم في (المائدة) ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام يريد وسطاً .. يعني قدامة بن مظعون لما شرب الخمر متأولاً، يقول: ما دام ممن آمن واتقى وأحسن فأنه لا يضره شرب الخمر، متأول، وضربه عمر الحد؛ لأنه لو اتقى الله -جل وعلا- ما شرب الخمر، والله المستعان. الحادية عشرة: اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنا، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب، وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك، وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد، ولكن يترك عليه قميص، قال ابن مسعود: لا يحل في هذه الأمة تجريد، ولا مد، وبه قال الثوري ..

المقصود أنه يترك عليه ما يستره من ثيابه الذي اعتاد لباسها مما لا يقي دون الضرب، وأما ما زاد على ذلك مما يستعمله بعض ممن يحكم عليه من الجلد فينزع، بعضهم يضعون أشياء على ظهورهم، يلبسون أشياء تقيهم الضرب، مثل هذا تنزع عنهم. لكن لو جرد، مثلاً شخص عليه كوت يقيه عن البرد، والبرد شديد، وأريد جلده فلو جرد من هذا الكوت أو من هذا البالطو الذي يقيه أو الفنايل الكثيرة الذي بعضها فوق بعض، هو في الأصل إنما لبسها لتقيه من البرد ثم جرد فمرض بسبب هذا التجريد، أو غلب على الظن أنه يتضرر من البرد، يجرد أو لا يجرد؟ طالب:. . . . . . . . . الشيخ:. . . . . . . . . قد يتعرض للبرد، ما الحكم؟ هو ما لبسها من أجل أن تقيه الجلد، إنما لبسها لتقيه البرد. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: ما تعود، تعود أنه يلبس خمس فنايل ست فنايل وكوت، وإلا الناس يتفاوتون في هذا، بعض الناس لو خفف قليل مرض، أو يجلد في مكانٍ دافئ؟ يبحث له عن مكان ليس في العراء، محافظةً على الحد، وما يتم به الحد، أما محافظة على مسألة الإعلان هذا أمر مطلوب {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] لكن لا يمنع أن يجلد في مكان يقيه من البرد، ويشهده طائفة. الثانية عشرة: اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما ولا يجزي عنده إلا في الظهر وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجرداً قائماً غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه، وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك وينزع عنه الحشو والفرو، وقال الشافعي: إن كان مده صلاحاً مدّ .. على كل حال مسألة كيفية حال المضروب من قيامٍ أو قعودٍ أو مدّ؛ هذه مسألة اجتهادية يختلف فيها أهل العلم، ومع ذلك مرجعها إلى الإمام، وليس المراد بالتجريد أنه يجلد عارياً، لا، يجرد من الثياب الزائدة على قدر ما يستر عورته.

الثالثة عشرة: واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود، فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير، وقال الشافعي وأصحابه: يُتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء، وروي عن علي وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمةٍ جلدها في الزنا، قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل، واختلفوا في ضرب الرأس، فقال الجمهور: يتقى الرأس، وقال أبو يوسف: يضرب الرأس، وروي عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس، وضرب عمر -رضي الله عنه- صبيغاً في رأسه وكان تغزيراً لا حداً، ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله -عليه السلام-: ((البينة وإلا حد في ظهرك)) وسيأتي .. أما صبيغ وضربه في الرأس، فلأنه كان يؤذي الناس بالمسائل الغامضة ويعنتهم في هذا، ومحل مثل هذا الرأس، هذه المسائل والإشكالات إنما محلها الرأس، كما قال بعض العلماء. الرابعة عشرة: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلماً، لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، وبه قال الجمهور، وهو قول علي وابن مسعود -رضي الله عنهما-، وأتي عمر -رضي الله عنه- برجلٍ في حد فأتى بسوطٍ بين سوطين، وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه، وأتى -رضي الله عنه- بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجلٍ لا تأخده فيك هوادة، فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي، فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر -رضي الله عنه- وهو يضربه ضرباً شديداً، فقال: قتلت الرجل، كم ضربته؟ فقال ستين، فقال: أقِصَّ عنه بعشرين، قال أبو عبيدة: قوله: أقِصَّ عنه بعشرين، يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصاً بالعشرين التي بقيت، ولا تضربه العشرين .. هذه الستين تعادل ثمانين بالنسبة لضرب غيره. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف، وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضرباً وهي:

الشارب لما جيء به إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ضربوه بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ومثل هذا يستعمل إذا كانت المعصية غير منتشرة، أو ممن حصلت منه هفوة أو زلة وليس بأهلٍ لذلك، يخفف في أمرها، أما إذا زاد الأمر ولم يكتفِ الناس بالحد، فإنه في مثل هذه الحالة يزاد في العقوبة، في كيفيتها لا في كميتها، يزاد في كيفيتها، فيضرب الشارب في المرة الأولى، ثم يشدد عليه في الثانية، ثم يشدد عليه في الثالثة، ولو قتل تعزيراً في الرابعة كما جاء في حديث معاوية، الحديث كما يقرر أهل الحكم أنه محكم، ومنهم من يرى أنه منسوخ، لكن شيخ الإسلام يرى أنه تعزيز، وأنه إذا لم يرتدع الناس في الحد فللإمام أن يقتل. الخامسة عشرة: فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء، ضرب غير مبرح ضرب بين ضربين، وهو قول الشافعي -رضي الله عنه-، وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنا أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف، وقال الثوري: ضرب الزنا أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر، احتج مالك بورود التوقيف على عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. واحتج أبو حنيفة بفعل عمر فإنه ضرب في التعزير ضرباً أشد منه في الزنا، واحتج الثوري بأن الزنا لما كان أكثر عدداً في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية، كذلك الخمر لأنه لم يثبت فيه الحد إلا بالاجتهاد وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوى قوة مسائل التوقيف .. أما بالنسبة للأربعين فهي الحد، وما زاد على ذلك إلى الثمانين فهي بالاجتهاد، وجمهور أهل العلم على أن الحد ثمانين. طالب: جلد شخص 480 جلدة الشيخ: كم؟ طالب: 480 في ست أشهر الشيخ: هذا حسب عظم الجرم، هذا في التعزير. طالب: كل شهر ثمانين. الشيخ: لا لا معه شيء في القضية، الحد معه شيء في القضية. السادسة عشرة: الحد الذي أوجب الله في الزنا والخمر والقذف وغير ذلك، ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم، يختارهم الإمام لذلك ..

لأن غير فضلاء الناس وغير الخيار قد يتواطئون مع هذا المجلود ولا يقومون بالحد كما أمر الله، وأيضاً النكاية بالمحدود أشد إذا حضره خيار الناس ممن إذا حضره السفهاء وغير الأخيار. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك -رضي الله عنهم-، وسبب ذلك أنه قيام بقاعدةٍ شرعية وقربة تعبدية تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فتجب مراعاته بكل ما أمكن. روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران: أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارها (فكأنه وجد عليه) فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعدّ ... الحديث، وقد تقدم في المائدة، فانظر قول عثمان للإمام علي: قم فاجلده .. فقال: يا علي قم فاجلده، وكل الجلد إلى علي، وهو من خيار الناس في ذلك الوقت، فأناب عليّ ابنه الحسن، فقال: الحسن ولِّ حارّها من تولّى قارّها، ما معنى هذا؟ يعني الذي استفاد من الولايات هو الذي يقوم بمثل هذه الأعمال، أما شخص لا علاقة له بالولايات، ولا استفاد منها، ولا أعطي من خيرها ما له علاقة بهذه الأمور، ولّ حارّها من تولّى قارّها، يعني: إذا جاء الضرب دعيتونا، وإذا جاء الهبات والأعطيات للآخرين يتولى هذا من يتولى هذا، والله المستعان. السابعة عشرة: نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنا والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة على ما تقدم في المائدة فلا يجوز أن يُتعدى الحد في ذلك كله، قال ابن العربي: وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر، ولا احلولت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضراوة، ويعطفون عليها بالهوادة .. يعني: يتساهلون في أمرها، لعل المقصود يتساهلون في أمرها، الهوادة التساهل.

فلا يتناهوا عن منكر فعلوه، فحينئذٍ تتعين الشدة، ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب، وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة، ثمانين حد الخمر، وعشرين لهتك حرمة الشهر، فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات، وهتك الحرمات، وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط، فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي والتظاهر بالمناكر، وبيع الحدود، واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة؟! لمات كمداً، ولم يجالس أحداً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قلت: ولهذا المعنى -والله أعلم- زِيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين، وروى الدارقطني: حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن عنده فضربوه بما في أيديهم، وقال: وحثا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب، قال: ثم أتي أبو بكر -رضي الله عنه- بسكران، قال: فتوخَّى الذي كان من ضربهم يومئذٍ فضرب أربعين، قال الزهري ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي، قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر قال: فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك، وهو يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، قال: فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين، وعمر ثمانين، قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضاً ثمانين وأربعين، ومن هذا المعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو تأخر الهلال لزدتكم)) كالمنكل لهم، حين أبوا أن ينتهوا، وفي رواية: ((لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم)) وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن علياً ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة، ذكره أبو عمر، ولم يذكر سببه.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [(2) سورة النور] أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقةً على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، هذا قول جماعة أهل التفسير، وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالوا: في الضرب والجلد، وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: إقامة حدٍ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرقّ من الرحمة، وقرئ رأفة بفتح الألف على وزن فعلة وقرئ رآفة على وزن فعالى، ثلاث لغات، وهي كلها مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا رقَّ ورحم، ويقال: رأفة ورآفة مثل كأبة وكآبة، وقد رأفت به، والرءوف من صفات الله تعالى العطوف الرحيم. الطالب: هذا أثر أبي هريرة (إقامة حدٍ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة) ما هو حديث أظن في حديث يا شيخ. الشيخ: يروى مرفوع وإلا فالأصل أنه موقوف. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في حكم الله، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [(76) سورة يوسف] أي: في حكمه، وقيل: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وهذا كما تقول للرجل تحضه: إن كنت رجلاً فافعل كذا، أي هذه أفعال الرجال.

الموفية عشرين: قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب، قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف، وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياساً على الشهادة في الزنا، وأن هذا باب منه، وهو قول مالك والليث والشافعي، وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين، وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة، وقال الزهري: ثلاثة؛ لأنه أقل الجمع، وقال الحسن: واحد فصاعداً، وعنه عشرة، وقال الربيع: ما زاد على الثلاثة، وحجة مجاهد قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [(122) سورة التوبة] وقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ} [(9) سورة الحجرات] ونزلت في تقاتل رجلين، فكذلك قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} .. ويقرر أهل العلم في صلاة الخوف أنها تقوم بثلاثة، بثلاثة إمام وطائفة مع الإمام الذي هو واحد، وطائفة تحرس، ثم إذا صلى بالطائفة التي معه وهو الواحد ركعة ذهب أو أتم على ما جاء في الصور في صلاة الخوف ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت تحرس وهي واحد، لذا يقرر أهل العلم أن أقل من تقوم به صلاة الخوف الثلاثة. والواحد يسمى طائفةً إلى الألف، وقاله ابن عباس وإبراهيم، وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت، وولدت فألقى عليها ثوباً وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرحٍ ولا خفيف؛ لكن مؤلم، ودعا جماعةً، ثم تلا: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}. الحادية والعشرون: اختلف في المراد بحضور الجماعة، هل المقصود بها الإغلاظ على الزناة، والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به، ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه، فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة؟ قولان للعلماء ..

لو كان القصد أن يرتدع من يراه، وهذه لا شك أنها من الحِكَم أن يُحضر فيشيع الأمر فينتشر بين الناس، ويتناقل الناس خبره، فيعرف أن هذا مصيره وهذا مآله فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه، وفرق بين إشاعةٍ وإشاعة، لأن بعض الناس يرى في قوله -جل وعلا-: {يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [(19) سورة النور] إشاعة الفاحشة تختلف تماماً عن إشاعة خبر الفاحشة، إشاعة الفاحشة إكثار الفاحشة، تشيع الفاحشة نفسها وتنتشر بين الناس، الذي يحب هذا، هذا محل النص، لكن إذا وقعت الفاحشة، وأريد إقامة الحد على من وقعت منه، وانتشر خبره في الناس ليرتدعوا هذا ليس من إشاعة الفاحشة، هذا من باب إشاعة الخبر، لكي يرتدع الناس لأنهم يعرفون أن هذا مصيرهم، وهذا مآلهم، أما إشاعة الفاحشة فهي إشاعة الفعل نفسه، والسعي في إكثاره وانتشاره بين الناس، ويختلف إشاعة الفعل عن إشاعة خبر الفعل، وما يترتب عليه. الثانية والعشرون: روي عن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يا معاشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة، فأما اللواتي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللواتي في الآخرة: فيوجب السخط، وسوء الحساب، والخلود في النار)) وعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أعمال أمتي تعرض علي في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة)). وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئاً إلا خمسة: ساحراً وكاهناً وعاقاً لوالديه ومدمن خمر ومصراً على الزنا)). الشيخ: تخريجه هو والذي قبله؟! الطالب:. . . . . . . . . الحديث الآخر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث عائشة وإسناده ضعيف، وكرره من حديث عثمان بن أبي العاص وهو منقطع في هذا الإسناد. . . . . . . . . الشيخ: والذي قبلهما حديث حذيفة. الطالب: ضعيف جداً أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات حديث حذيفة،. . . . . . . . . وأنه ضعيف، وأنه متروك. . . . . . . . . الشيخ: كلها ضعاف.

قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [(3) سورة النور] فيه سبع مسائل: الأولى: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل: الأول: أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنا، وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين، واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ، ويريد بقوله: {لَا يَنكِحُ} أي لا يطأ، فيكون النكاح بمعنى الجماع، وردد القصة مبالغة، وأخذاً من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا، فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانيةً من المسلمين أو من هي أحسن منها من المشركات، وقد روي عن ابن عباس وأصحابه: أن النكاح في هذه الآية الوطء، وأنكر ذلك الزجاج، وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج، وليس كما قال، وفي القرآن: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [(230) سورة البقرة] وقد بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في البقرة. هذه الآية مجرد إخبار عن واقع الزاني والزانية، لا ينكح إلا زانية، لأن العفيفة لا توافقه، وقد ينكح مشركة؛ لأن أمر الزنا عند هذه المشركة لا شيء فيه، لأنه لا أعظم من الشرك، وليس معنى هذا تقرير حكم شرعي، أن الزاني ينكح الزانية، يجوز له أن ينكح الزانية، ويجوز له أن ينكح المشركة، لا، وإنما هو بيان للواقع، وأن الزاني لا يوافقه على زناه إلا زانية، فلا يطأ إلا زانية، ولا يطأ إلا مشركة، وكذلك الزانية. وقد بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في البقرة، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ولكن غير مخلص ولا مكمل، وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنىً إلا بزانية، ويفيد أنه زنىً في الجهتين، فهذا قول. زانية، يعني من عادتها الزنا، وإلا لو وقع من الزاني زنىً بعفيفة صارت زانية، فلا يفيد القيد، إلا إذا قلنا أنها زانية يعني من عادتها الزنا، وأما العفيفة فلا تقع في حبائل أمثال هؤلاء إلا نادراً.

الثاني: ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟ قال: فسكت عني، فنزلت {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [(3) سورة النور] فدعاني فقرأها علي، وقال: ((لا تنكحها)) لفظ أبي داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. العقد عليها صحيح شريطة أن تتوب من زناها. الثالث: أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضاً، استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت أن تنفق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله: عمرو بن العاص ومجاهد. الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة، وكانوا قوماً من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار، ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مخاصيب بالكسوة والطعام .. لأنهم فقراء وهنّ موسرات؛ بسبب ما يكتسبن، نسأل الله العافية. فَهَمَّ أهل الصفة أن يتزوجوهن، فيأووا إلى مساكنهن، ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن، فنزلت هذه الآية، صيانةً لهم عن ذلك، قاله ابن أبي صالح. الخامس: ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزانٍ محدود أن يتزوج إلا محدودة، وقال إبراهيم النخعي نحوه، وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله)) وروي أن محدوداً تزوج غير محدودة، ففرَّق علي -رضي الله عنه- بينهما. قال ابن العربي، وهذا معنىً لا يصح، نظراً كما لم يثبت نقلاً. لأن الحد كفارة، الحد كفارة لما وقع، فهو بمثابة التوبة.

وهل يصح أن يوقف نكاح من حدَّ من الرجال على نكاح من حدَّ من النساء؟ فبأي أثر يكون ذلك؟ وعلى أي أصل يقاس من الشريعة؟ قلت: وحكى هذا القول ألكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية قال ألكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك، وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء: إن الآية منسوخة في المشرك خاصة دون الزانية. السادس: أنها منسوخة، روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، قال: نسخت هذه الآية التي بعدها: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} [(32) سورة النور] وقاله ابن عمرو قال: دخلت الزانية في أيامى المسلمين، قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء، وأهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأةٍ فله أن يتزوجها، ولغيره أن يتزوجها، وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب -إن شاء الله- هي منسوخة، قال ابن عطية: وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي، قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء، كما قال ابن عباس أو العقد، فإن أريد به الوطء فإن معناه لا يكون زنىً إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة من الجهتين، ويكون تقدير الآية: وطء الزانية لا يقع إلا من زانٍ أو مشرك، وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنىً صحيح. وعلى هذا تكون الآية خبراً محضاً، لا يتضمن حكماً. فإن قيل: فإن زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة، فإن ذلك من جهة الرجل زنى، فهذا زانٍ نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم، قلنا: هو زنىً من كل جهة إلا أن أحدهما سقط فيه الحد، والآخر ثبت فيه، وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك.

وهذا يحصل كثير –نسأل الله السلامة والعافية– قد يوجد رجل مع امرأة، ثم يأتي ولي المرأة ويلزم هذا الزاني بالعقد عليها، يلزمه وأحياناً يكون الإلزام بالسلاح، إما أن تعقد وإما أن كذا، من أجل الستر عليها وعليه، ولكن هذا لا يحل الإشكال، لا بد من الاستبراء ولا بد من التوبة –نسأل الله السلامة والعافية-. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعاً، وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قطُّ إلا زانية، إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان، فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راضٍ بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضاً يزني. على كل حال هذه المسألة كثرت في بلاد المسلمين، وصارت من المشاكل والعضل، وهل يلزم إخبار الخاطب أو إخبار المخطوبة بالنسبة للرجل؟ مسألة تتباين فيها أقوال، وينتابها غش الطرف الآخر بأن يزوج العفيف زانية أو العكس، وينتابها أيضاً من جهةٍ أخرى أن التوبة تجبّ ما قبلها، وتهدم ما كان قبلها، وإذا دخل بها ورضي بها بعد ذلك فالأمر. . . . . . . . . والمسألة طويلة الذيول وتحتاج إلى مزيدٍ من البسط. الثانية: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته، وهذا على أن الآية منسوخة، وقيل: إنها محكمة وسيأتي .. يستدل أهل العلم على أن الاستمرار مع الزانية لا يفسد العقد، وأنه لا يلزمه طلاقها إذا زنت، لحديث: ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليبعها ولو بظفير)) فله إمساكها، وهو يطؤها وملك يمينه مثل زوجته، فيمسكها مع أنها زنت المرة الأولى والثانية ثم الثالثة عليه أن يبيعها، فإمساك الزانية عند أهل العلم أمر معروف؛ لكن هذا يرجع أيضاً إلى الإنسان نفسه، وتقديم مصلحته وغيرته ورضاه بها أماً لأولاده ومربيةً، وراعيةً لبيته وشؤونه، هذا الأمر لا يعدوه –نسأل الله السلامة والعافية-.

الثالثة: روي أن رجلاً زنى بامرأة في زمن أبي بكر -رضي الله عنه- فجلدهما مائة جلدة ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه ونفاهما سنة، وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر -رضي الله عنهم-، وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح، ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائطٍ ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره فما سرق حرام، وما اشترى حلال، وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له، وروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً .. لا شك أن الاستبراء أمر لا بد منه، لأن الولد لو ثبت ليس له، من الزنا، الولد ليس له، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ليس له، هذا هو الحكم الشرعي، وعليه فلا بد أن يستبرئها. وبهذا أخذ مالك -رضي الله عنه- فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، لأن النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة. الرابعة: قال ابن خويز منداد: من كان معروفاً بالزنا أو بغيره من الفسوق معلناً به فتزوج إلى أهل بيت سترٍ وغرهم من نفسه، فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه، وذلك كعيب من العيوب، واحتج بقوله -عليه السلام-: ((لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)) قال ابن خويز منداد: وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره، فأما من لم يشتهر بالفسق فلا .. وعلى هذا لو تزوج الرجل امرأةً قارفت الفاحشة ثم تبيّن له ذلك بعد الدخول فهو بالخيار. الخامسة: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها، وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت ولو أمسكها، أثم ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذٍ يجوز النكاح. السادسة: وحرم ذلك على المؤمنين، أي نكاح أولئك البغايا فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد -عليه السلام- ومن أشهرهن: عناق. التي تقدم ذكرها في سبب النزول.

السابعة: حرم الله تعالى الزنا في كتابه، فحيثما زنى الرجل فعليه الحدّ، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحدّ، قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء. لأن التكليف واحد، هو مكلف هنا وهناك وفي كل مكان، ما دام يتدين بالإسلام فهو مكلف، ويلزمه ما يلزم المكلفين. ومن زنى فعليه الحد على ظاهر، قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [(2) سورة النور]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.

سورة النور - الكلام على أحكام القذف

تفسير القرطبي سورة النور الكلام على أحكام القذف الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(4 - 5) سورة النور]. فيه ست وعشرون مسألة: الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين، قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاماً لا في تلك النازلة، وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبراً يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنىً به دالاً على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون .. سواء نزلت الآية في قصة الإفك وقذف عائشة -رضي الله عنها– أو في قصة هلال بن أمية أو في غيرها من القصص، فالعبرة بعمومها لا بخصوص السبب. الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول، كما قال النابغة: وجرح اللسان كجرح اليد. وقال آخر: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطوي رماني ويسمى قذفاً، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء: أي رماها. والقذف والرمي بمعنىً واحد، والأصل فيه قذف رمي المحسوسات، فإذا أطلق في المعنويات، في المعاني، في النصوص الشرعية فهو حقيقة أيضاً، ولا يقال: إنه مجاز القذف والرمي، الرمى بالكلام أو بنحوه من المعنويات والمعاني فهذه حقيقة لأنها جاءت في معناها في النصوص الشرعية، فهي استعمال اللفظ في حقيقته، فيما وضع له. الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى ..

نعم، يعني ذكر النساء والتصريح بشناعة قذف النساء، ووجوب الحد في قذف النساء، لا يعني أن الرجال يختلفون عنهن في الأحكام، فقذف الرجل كقذف المرأة، لكن قذف المرأة أشد، والعار اللاحق بأهلها وذويها أعظم، ولذلك صرح بالنساء. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى وإجماع الأمة على ذلك، وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير، ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع .. يعني جميع ما حواه جلده يحرم، وإن كان التصريح بلحمه؛ لأن غالب ما يؤكل هو اللحم ولذلك صرح به، وفي حكمه جميع ما حواه الجلد، وهل يقاس عليه جميع ما حواه جلد الجزور الإبل في نقض الوضوء أو يختص ذلك باللحم المنصوص عليه في الحديث؟ فالظاهر أنه مثل الخنزير جميع ما حواه جلده. وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات، فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} [(24) سورة النساء] وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [(91) سورة الأنبياء] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء، وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته، والله أعلم. وقرأ الجمهور {المحصَنات} بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب والمحصنات العفائف في هذا الموضع، وقد مضى في النساء ذكر الإحصان ومراتبه، والحمد لله. وأنه يطلق على المسلمات وعلى العفيفات وعلى المتزوجات. الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف وهما: العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف، إذا التكليف ساقط دونهما .. فلو أن مجنوناً قذف محصناً أو محصنة لا يقام عليه الحد، وكذا لو قذفه صبي صغير لا يقام عليه الحد؛ لأن مناط التكليف البلوغ والعقل، وهما مفقودان حينئذٍ، أما بالنسبة للمجنون فلا يلحقه شيء، لا حد ولا تعزير، وأما الصبي الصغير فلو عزر لقذفه كان متجهاً. وشرطان في الشيء المقذوف به، وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنا واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف وهي: العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفاً من غيرها أم لا؟

يعني ولو تلبس بذنوبٍ أخرى لكنه عفيف بالنسبة لما يوجب الحد من القذف بالزنا أو في اللواط هو عفيف عن هاتين المعصيتين والفاحشتين العظيمتين، وإن تلبس بغيرهما من سرقةٍ أو شربٍ أو نحوه. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف، وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عَدم العقل والبلوغ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنا .. المضرة حاصلة على من عَدم العقل، لأن القذف لا يختص بالمقذوف لأنه يتعدى إلى أهله وذويه ومعارفه، ومثل ذا الصبي، لو أن إنساناً قذف صبياً أثم بلا شك، لكن هل يلزمه الحد الكامل؟ هذا محل الكلام هنا، لا يلزمه الحد الكامل؛ لأنه في الأصل غير مكلف، ولا يكتب عليه شيء، لكنه يلحقه العار كما يلحق أقاربه وأهله وذويه. الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنا كان قذفاً ورمياً موجباً للحد، فإن عرض ولم يصرح، فقال مالك: هو قذف، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفاً حتى يقول: أردت به القذف، والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفاً كالتصريح، والمعول على الفهم، وقد قال تعالى مخبراً عن شعيب: {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [(87) سورة هود] أي السفيه الضال .. لا شك أن التعريض قد يقرب من التصريح، وقد يبعد عنه، قد يكون بلفظ قريب من التصريح، وقد يكون بلفظٍ بعيد عن التصريح بحيث لا يفهمه كل أحد، وعلى كل حال إذا قرب من التصريح أخذ حكمه، وإذا بعد بحيث لا يفهمه إلا النوادر من الناس، فمثل هذا لا يأخذ حكمه في إقامة الحد الكامل.

فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسبما تقدم في هود، وقال تعالى في أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [(49) سورة الدخان] وقال حكايةً عن مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [(28) سورة مريم] فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء أي الزنا، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [(156) سورة النساء] وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها أي ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغياً، أي أنت بخلافهما، وقد أتيت بهذا الولد .. يعني: لو أن شخصاً قال لآخر: يا فلان أبوك ليس من أهل الفواحش، أبوك لم يقترف زنا ولا لواط ولا شيء، هل يفهم من هذا أنك أنت اقترفت ذلك؟ أو أن السياق والقرائن يستدل بها على المراد؟ طالب:. . . . . . . . . الشيخ: قد يكون أبوه ممن عرف بالأسفار والذهاب إلى بلادٍ يتساهل فيها بالمنكرات والفواحش وكذا فيريد أن يبرئ والده؛ لأنه صحبه في هذه الأسفار وما عرف بذلك، فقرائن الأحوال يستدل بها على المراد، لكن لو كان أبوه ما عرف بالأسفار، وعرف أنه من أهل المسجد، وليس من أهل تلك الأعمال، عُرف أنه يريد الابن، فالقرائن لها أحكام. وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [(24) سورة سبأ] فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى ورسولَه على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه، وقد حبس عمر -رضي الله عنه- الحطيئة لما قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون، ولما سمع قول النجاشي: قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل قال: ليت الخطاب كذلك، وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة، ومثله كثير. السادسة: الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلاً من أهل الكتاب أو امرأةً منهم، وقال الزهري وسعيد بن المسيب ..

لأنهم تلبسوا بما هو أعظم من ذلك، تلبسوا بالكفر، وما بعد الكفر ذنب. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم .. نعم، صيانةً لعرض المسلم. وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد، قال ابن المنذر: وجلُّ العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحداً ولا لقيته يخالف في ذلك، وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم في ذلك خلافاً. السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حراً .. لا شك أن الكلام في الكافر بالكفر فما دونه لا إشكال فيه من جهة هذا الكافر، لكن إذا كانت تتضرر بذلك، أهله وأقاربه وذووه ومن له به صلة من المسلمين فقد جاء النهي عن ذلك، اذكروا محاسن موتاكم ولا تؤذوا الأحياء، يعني ولو كان أهل لأن يتكلم فيه بشيء ما دام يؤذي أقاربه من الأحياء فإنه لا يذكر، فالعبرة بالأذى المتعدي، فإذا كان الأذى يتعدى إلى مسلم مُنع. السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حراً يجلد أربعين لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنا، وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حراً ثمانين، وبه قال الأوزاعي، واحتج الجمهور بقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [(25) سورة النساء] .. فإذا كان هذا في الزنا، ينصّف في الحد في الزنا وهو أعظم من القذف، والقذف هو رمي بالزنا، وكلام به، واتهام به، وصيانة لعرض المسلم من الوسيلة فإذا نصّف في الغاية التي هي الزنا، فله أن ينصّف في الوسيلة من باب أولى، وحتى قول الجمهور وغيرهم لهم حجتهم. وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنا لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه، وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر كما ذكر في الزنا، قال ابن المنذر: والذي عليه عوامّ علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.

الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله -عليه السلام-: من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما يقول. ولو لزمه الحد في الدنيا لبرئ به، ولما احتيج إلى حد الآخرة. خرجه البخاري ومسلم، وفي بعض طرقه: ((من قذف عبده بزنىً ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون)) ذكره الدارقطني، قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحدٍ فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحدٍ لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم، وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير حكمة من الحكيم العليم لا إله إلا هو. التاسعة: قال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبداً فإذا هو حر فعليه الحد. وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر، قال مالك: لأن العبرة بحقيقة الحال والواقع. ومن قذف أم الولد حدّ، وروي عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي، وقال الحسن البصري: لا حد عليه. على الخلاف في العبرة بالحال أو المآل، إن نظرنا إلى الحال حكمنا عليها بأنها أمة، وإن نظرنا إلى المآل حكمنا عليها حرة، وقد أعتقها ولدها، والخلاف تبعاً لذلك، والجمهور على أن العبرة بالحال. العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين، فقال ابن القاسم: عليه الحد لأنه تعريض، وقال أشهب: لا حد فيه، لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنىً إجماعاً. الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفاً عن مالك وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: تقدم في البلوغ شرط، شرط في القاذف والمقذوف، وهنا يقول: إذا رمى صبيةً يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفاً عند مالك. والقول الثاني: هو الجاري على ما قرره سابقاً.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف، لأنه ليس بزنىً إذ لا حد عليها ويعزر قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى .. لأنه مظلوم، فحماية عرضه أولى، والتعزير متجه. لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد، قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبي .. لأنها امرأة على ما قالت عائشة -رضي الله عنها-: إذا بلغت البنت تسعاً فهي امرأة. وكذلك الصبي إذا بلغ عشراً ضرب قاذفه .. لأن مثله يطأ. قال إسحاق: إذا قذف غلاماً يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعاً مثل ذلك، قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى .. لكن وقوع الفاحشة من مثل هؤلاء متصورة، وليس بكذب لأنه يتكلم عن واقع وصدق، وقد يصدق في كلامه أنه زنى أو لاط أو ليط به، المقصود أنه يحكي واقعه، فعلى هذا إذا أمكن تصديقه حدّ القذف، إذا لم يمكن تصديقه بأن قال: هذا ابن ثلاث سنين أو أربع سنين وجدته وقع على أخته، أو على بنت فلان أو ما أشبه ذلك، هذا خبر لا يمكن تصديقه، لأن مثل هذا لا يقع، وحينئذٍ لا يحدّ. قال أبو عبيد في حديث علي -رضي الله عنه- أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادقةً رجمناه، وإن كنت كاذبةً جلدناك فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحدّ. وفيه أيضاً إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبةً جلدناك ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلاً بما يأتي وبما يقول فإن كان جاهلاً، وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله. نعم، لأن الحدود تدرئ بالشبهات، لكن حقوق العباد مبنية على المشاحة، فإذا درئ الحد بالنسبة للزنا وما يشبهه فلأن يحتاج لأعراض المسلمين من باب أولى، فمثل حد القذف بقدر ما يحتاط للقاذف في درئ الحد بالشبهة يحتاج أيضاً لعرض المقذوف فيحتاط للطرفين.

وفيه: أيضاً أن رجلاً لو قذف رجلاً بحضرة حاكم، وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده لأنه لا يدري لعله يصدقه ألا ترى أن علياً -عليه السلام- لم يعرض لها .. لأنه حق له، إن طالب به أقيم، وإن لم يطالب به لم يقم. وفيه: أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه، ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبةً جلدناك، وهذا لأنه من حقوق الناس، قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟ وسيأتي .. هل في هذا ما يدل على أن القاضي يحكم بعلمه؟ فيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذ الحاكم بالحد بسماعه، أخذه الحاكم بالحد بسماعه، يعني يكفي مجرد السماع الأول واعتراف القاذف ولا يحتاج أن يقال: أحضر البينة أنه قذفك أو يعترف بذلك من جديد؟ فنقول: أن هذا يُكتفى فيه بعلم القاضي ويحكم بعلمه، أو لا بد من البينة؟ كلامه واستناده على قول علي -رضي الله عنه- يدل على أنه يحكم بعلمه، وأن اعترافه الأول كافي. طالب:. . . . . . . . . بس ما غيبة الخصم، ما يسمى اعترافاً. طالب: لكن حكم القاضي بعلمه يكون فيما رآه خال من السماع، أو سمعه هذا في مجلس الحكم. وهذا ما عرفنا أنه في مجلس الحكم، ما في مجلس حكم أصلاً، ما هو موجود الخصم، الخصم غائب. قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟ وسيأتي، قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قوله: (غيرى نغرة) فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها، يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغِر، إذا غلت، فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد قال: ويقال منه: رأيت فلاناً يتنغر على فلان، أي يغلي جوفه عليه غيظاً .. لا شك أن الزوجة إذا رأت من زوجها شيء من ذلك، ولو لم يكن الوطء الكامل، ولو مجرد كلام أو مجرد مقدمات لا شك أنها من غيرتها ونغرتها، ولا شك أنها ترميه بما هو أعظم، ومثل هذا قد يتسامح فيه ويتجاوز عنه.

ولذلكم تجدون المرأة تعيش مع زوجها عشر سنين، أو عشرين سنة، وعنده معاصي، عنده موبقات، غير ما يتعلق بالجنس، وقد يكون الشخص متساهل بالصلاة أو لا يصلي، فإذا أراد أن يتزوج عليها بحثت عن جميع هذه المعاصي ودونتها، وسألت عنها هل يجوز البقاء معه أو لا؟ وإذا فسخنا هل نستحق شيء أو لا يستحق؟ المقصود أنهن في هذا الباب يبحثن عن أمور ما كانت تخطر لهن على بال، قد يكون الشخص في باب الصلاة ليس بالحريص عليها، وقد يتخلف عنها، وقد يتركها أحياناً، ثم بعد ذلك المرأة ساكتة معه، فإذا أراد أن يتزوج أخرى، سألت هل يجوز البقاء معه وهو لا يصلي أو يتساهل بالصلاة؟ كل هذا من أجل أنها تحركت فيها الحمية والغيرة، وإلا لو كان القصد الدين، وما يتعلق بالدين فالله غفور رحيم. الثانية عشرة: من قذف زوجةً من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حدَّ حدين، قاله مسروق، قال ابن العربي: والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النور] الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادةً في حد من قذفهن، لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص، والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة -رضي الله عنها- هل يقتل أم لا؟. يعني هل يقتل بعد نزول براءتها؟ وأما قبل ذلك فحدهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، جلدهم الحد، جلد أربعة، جلد رجلين وامرأتين. طالب: مضاعفة العذاب لهن ما يحتمل؟ هذا بالنسبة لأمهات المؤمنين، من يأتِ منكن بفاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين، وذلكم بمضاعفة الأجور، نؤتها أجرها مرتين، والغنم مع الغرم، ما دام يضاعف لها الأجر يضاعف عليها العذاب، وهكذا كل ما ارتفعت منزلة الإنسان وزادت أجوره، وزاد ثوابه، وزاد علمه بالله تعالى يزاد عليه في مخالفاته. والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يوعك كما يوعك الرجلان منكم، كما جاء في حديث مسعود، قال: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل، فأجره على قدر نصبه. طالب:. . . . . . . . . مضاعفة العذاب ما يحتمل. يعني بعد نزول براءة عائشة. طالب: ما فيه قول أنه يقتل يا شيخ. . . . . . . . .

بلا شك، لا سيما وأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [(26) سورة النور] ويقول أيضاً: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [(26) سورة النور] فإثبات الخبث لأمهات المؤمنين تعريض للنبي -عليه الصلاة والسلام-. طالب: لو كان خصمك. . . . . . . . . أمهات المؤمنين. . . . . . . . . على كل حال أصل القذف تبعاً لما يلحق الإنسان من العار، فكلما كان الإنسان عن العار أبعد كان الأمر أشد، وإذا قربت عن العار ودارت حوله التهم فقذف، لا شك أن عرضه مصون ولا بد من الإتيان بالشهود الأربعة وإلا لو اقتصر على ثلاثة لقذفوا، لكن مثل قذف هذا أسهل بكثير من قذف المحصن العفيف البريء، والله المستعان، من حيث الإثم لذا جاء في الحديث وهو ضعيف: ((قذف محصنة يحبط عبادة ستين سنة)) –نسأل الله العافية– فالأمر شديد ليس بالسهل، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار، هذا في غير القذف فكيف به؟. الثالثة عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(4) سورة النور] الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنا رحمةً بعباده وستراً لهم، وقد تقدم في سورة النساء. الرابعة عشرة: من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك -رحمه الله-: أن يكون ذلك في مجلسٍ واحد، فإن افترقت لم تكن شهادة، وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين، فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد، وبه قال ابن الحسن، ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها، وقد حصل وهو قول عثمان البتي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر، لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء} [(13) سورة النور] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين. فإذا جاء بالأربعة مجتمعين صدق أنه جاء بأربعة شهداء، وإذا جاء بهم مفترقين صدق أنه جاء بأربعة شهداء، فالآية تحتمل هذا وهذا. الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود.

لا على الشهود لأنهم جاؤوا بما طلب منهم، ووفوا بما طلب منهم، ولا حد على المشهود باعتبار أن هؤلاء الشهود لم يعدوا، والشهادة لا تقوم إلا بالثقات. وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن .. النعمان هو أبو حنيفة، محمد بن الحسن صاحبه. وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنا فإن كان أحدهم مسخوطاً عليه أو عبداً يجلدون جميعاً، وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنا: يضربون. لأن مرد هذه الشهادة إلى النظر، إلى الرؤية، إلى البصر، وليسوا من أهلها، اللهم إلا إن شهدوا على اعترافها، شهدوا أنها اعترفت بالزنا، فهذا شيء آخر. طالب: معنى مسخوطاً عليه؟ مسخوطاً عليه، يعني ليس بمرضي، شاهد غير مرضي. السادسة عشرة: فإن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنا، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية، ولا شيء على الآخرين، وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: إن قال تعمدتُ ليقتل فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية .. لأن القتل لا يتبعض، وإنما قتل المقتول بشهادته التي الدافع له عليها أن يقتل، فمثل هذا يستحق القتل، وإن عفوا عن القتل وقبلوا الدية فإنما قتل بربع -بالنسبة له- بربع البينة، فعليه حينئذٍ ربع الدية، والدية تتبعض. وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية وعليه الحد، وقال الحسن البصري: يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية، وقال ابن سيرين: إذا قال: أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل، وبه قال ابن شبرمة. السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؟ الأول: قول أبي حنيفة، والثاني: قول مالك والشافعي، والثالث: قاله بعض المتأخرين، وفائدة الخلاف أنه إن كان حقاً لله تعالى وبلغ الإمام أقامه، وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا، وإن كان حقاً للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف. نعم، لأن الأمر لا يعدوه حق له.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ} [(4) سورة النور] قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بأربعةٍ} بالتنوين {شهداء} وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلاً، ويجوز أن يكون حالاً من نكرة، أو تمييزاً، وفي الحال والتمييز نظر، إذ الحال من نكرة والتمييز مجموع، وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر، وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة، وحبب على قراءة الجمهور، قال النحاس: ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب، بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء. التاسعة عشرة: حكم شهادة الأربعة: أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في النساء في نص الحديث، وأن تكون في موطن واحد على قول مالك، وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة، كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه شهد عليه بالزنا أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاءوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين. الموفية عشرين: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [(4) سورة النور] إذا لم يتم النصاب الأربعة جلد الشهود، وإن كانوا صادقين في حقيقة الأمر، وإن كان الثلاثة قد رأوه يزني زنىً تاماً حقيقياً بالشرط المعروف كما يُرى الميل في المكحلة، يجلدون صيانةً لأعراض المسلمين، لا بد من تمام الأربعة، ولو على غلب على الظن صدقهم، ولو دلت القرائن على صدقهم. قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} الجلد الضرب، والمجالدة والمضاربة في الجلود، أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيفٍ أو غيره، ومنه قول قيس بن الخطيم: أجالدهم يوم الحديقة حاسراً ... كأن يدي بالسيف محراق لاعبِ {ثَمَانِينَ} على المصدر {جَلْدَةً} تمييز {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون، أي خارجون عن طاعة الله -عز وجل-.

فالقاذف يحكم عليه بثلاثة أحكام، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة رداً مؤبداً مع الفسق، هذه الثلاثة، ويستثنى من ذلك إلا الذين تابوا. طالب: لو شهد ثلاثة وشهادة الرابع عبارة عن تصوير؟ الشيخ: ما يكفي، ما يكفي، لا بد من أربعة. طالب: ما يكونوا الثلاثة قرينة، قرينة قوية؟ ولو كانت القرينة قوية ما تكفي، لا بد من أربعة، والتصوير يعتريه ما يعتريه، قد لا يحكي الواقع. الحادية والعشرين: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(5) سورة النور] في موضع نصب على الاستثناء، ويجوز أن يكون في موضع خفضٍ على البدل، والمعنى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف، فإن الله غفور رحيم، فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبداً، وفسقه، فالاستثناء غير عامل في جلده بالإجماع إلا ما روي عن الشعبي على ما يأتي، وعامل في فسقه بإجماع، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة .. وهكذا الشأن في كل استثناء يتعقب جملاً، هل يعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة فقط؟ محل خلافٍ بين أهل العلم، أما عوده على الجملة الأخيرة بمحل اتفاق، وما عداها حسب ما تدل عليه الأدلة الخارجية. فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى .. دليل أنه قال: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النور] هذا التأبيد له تأثيره. وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة، ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحالٍ من الأحوال، وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته .. لأن رد الشهادة سببه الفسق، الفسق الناشئ عن هذا القذف، فإذا ارتفع الوصف الذي هو الفسق وسبب رد الشهادة ارتفع ما رتب عليه وهو رد الشهادة. فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردها لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقاً، قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء.

ثم اختلفوا في صورة توبته فمذهب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه، وهكذا فعل عمر فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب الشبل بن معبد، ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما، وتابا وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لا يقبل شهادته، وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة .. قد يقول قائل: كيف يكذب نفسه وقد رأى الأمر حقيقةً بعين رأسه؟ هو فيما بينه وبين ربه صادق، رأى الفعل صادقاً، فكيف يشترط في قبول توبته إكذاب نفسه وهو صادق في حقيقة الأمر؟ وإذا أردنا من إنسان أن يكذّب نفسه في أمرٍ قد صدق فيه، أمر صدقه فيه قطعي بالنسبة له، كلفناه بمحال، يعني لو قلنا: لشخص يرى هذه اللمبة، يقول: إني رأيت هذه اللمبة أو هذه الشمعة والعة، ورأيت الشمس طالعة في النهار، ثم ألزمناه أن يكذب نفسه لأمرٍ من الأمور، هل يستطيع أن يكذب نفسه؟ تصور في هذا القاذف من الثلاثة أنه رأى، بل الثلاثة كلهم رأوا، المسألة مسألة حكم شرعي، فكونهم يحدون هذا حكم شرعي، ولو كانوا صادقين، لأن النصاب ما تمّ، النصاب الذي يرفع عنهم الحد ما تم، إذاً يلزمهم الحد، وكوننا نطالبهم بأن يكذبوا أنفسهم هل هذا مرده أن الأمر لم يقع، وأنهم تراجعوا عن شهادتهم، وهم يجزمون بأن الأمر قد وقع؟ فكيف يلزم الإنسان بما يخالف الواقع؟ أو نقول: أن أيضاً التكذيب حكم شرعي فائدته صيانة عرض المسلم، فيكذب نفسه فيما بينه وبين الناس، وإن كان في حقيقة الأمر والواقع أنه صادق؟ يعني يكذب نفسه من أجل المصلحة الراجحة، وإلا إذا قال: ليس بصحيح، أنا ما رأيته يزني، وقد رأى هذا كذب، مخالف للواقع، مثل هذا إنما هو مجرد حكم شرعي لا يلتفت فيه إلى الواقع، وإنما يلتفت فيه إلى ما شرعه الله -جل وعلا- من صيانة عرض المسلم حتى يتم النصاب. وقالت فرقة منها مالك -رحمه الله تعالى- وغيره: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه، والاستغفار منه، وترك العود إلى مثله .. وجاء في الحديث: ((الندم توبة)) فإذا ندم على ذلك صحّت توبته.

وهو قول ابن جرير، ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة إذا تاب، وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته، وزال عنه التفسيق، لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء، وقد قال الله -عز وجل-: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [(82) سورة طه] الآية .. إكذابه نفسه وتوبته هل توبته مما يوجب الحد عليه أو مما يوجب الحد على غيره؟ هل توبته المطالب بها مما يوجب الحد عليه أو مما يوجب الحد على غيره؟ هو حدّ وجلد، فهل قبول التوبة وعلامة التوبة أن يكذب نفسه مما حدّ بسببه، وأنه شهد شهادةً ناقصة بحيث لم يتم نصابها، أو لأنه قذف شخصاً محصناً؟ طالب: فيه خلاف. نعم، نعود إلى المسألة السابقة، وهو أنه كان مجرد قذف لا يستند إلى واقع، وأنه تعجل في القذف ولم يتحقق من حقيقة ما يوجب الحد هذا لا بد أن يكذب نفسه، وأما إذا كان قد رأى ذلك حقيقةً فهو يتوب مما حدّ بسببه، وهو عدم تمام النصاب. الثانية والعشرون: اختلف علماؤنا -رحمهم الله تعالى- متى تسقط شهادة القاذف؟ فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفوٍ أو غيره لم ترد شهادته، وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة، ورجح القول بأن التوبة، إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدلٍ إن قذف وحد وبقي على عدالته. الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضاً على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؟ فقال مالك -رحمه الله تعالى-: تجوز في كل شيء مطلقاً، وكذلك كل من حدّ في شيء من الأشياء .. يعني ما لم يمنع مانع آخر، ما لم يمنع من قبول شهادته مانع آخر.

رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة، وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله، قال سحنون: من حد في شيء من الأشياء، فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه، وقال مطرف وابن الماجشون: من حدَّ في قذفٍ أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنا ولا في قذف ولا لعان، وإن كان عدلاً، وروياه عن مالك، واتفقوا على ولد الزنا أن شهادته لا تجوز في الزنا .. ولد الزنا لا تجوز شهادته بالزنا، وهو رجل حر مكلف، عدل ثقة صالح، وما الذي يمنع من قبول شهادته؟ قد يقول قائل: أنه معروف بهذا الوصف، وأنه ولد زنا، وأنه مشتهر بين الناس بذلك، فيريد من يكثر ويحول من شأن الزنا فيقذف به الناس، معروف بهذا الوصف، وبهذا الانتساب، ويشقّ عليه أن ينظر الناس إليه من هذه الحيثية بعين النقيصة، فتجده قد يتساهل في قذف فلان وفلان، ويفرح بخبرٍ جاء عن فلان وأن فلان زنا، وأن فلانة زنت، يعني ليخف الأمر بين الناس إذا كثر، يعني إذا كان جنسه كثير في البلد هان عليه الأمر، بخلاف ما إذا كان واحد نشاز في البلد تضيق به الدنيا بما رحبت. وهذا شأن كل من اتصف بنقيصة، سواء كانت خلقية أو خلقية أو غير ذلك، تجد سيء الخلق يعزّ عليه أن لا يكون في بلد إلا هو سيء الخلق، تجد الناس كلهم أو جلهم على هذا الوصف ليخف أمره عند الناس، فهل السبب في كونه لا تقبل شهادة ابن الزنا -ولد الزنا- أنه يتساهل بها؟ يتساهل بالقذف، ويتساهل بما يتعلق بأمور الزنا ليكثر من يتصف بوصفه؟ يعني كل شخص اتصف بنقيصة ما يتمنى أن يكثر من يتصف بهذا الوصف؟ بغض النظر عن كون المسألة شرعية، وأن هذا لا يجوز أن يتمنى لأحد، ولو كان أسوأ الناس حالاً لا يتمنى أن يوجد مثله ولا واحد؛ لكن هذا واقع الناس، وهذا ما جبل عليه الناس، يتمنى أن يكون في البلد أكثر من شخص يحمل معه هذا العبء.

يعني لو افترضنا أن بلد سكانه مائة ألف، ووجد واحد –مثلاً- أبرص، ألا يتمنى هذا الشخص أن يكون في البلد عشرة أو عشرون، يعني يخف عليه الأمر، بحيث إذا رآهم خف عليه الأمر؟ وإذا تكلم فيهم المجالس فإذا يشاركه ويشاطره عدد، فهل كلامهم هذا من حيث الحيثية، من هذا الباب أو مرده شيء آخر؟ لا تجوز شهادة ولد الزنا في الزنا؟ العلماء يقولون: تصح إمامة ولد الزنا، تصح إمامة ولد الزنا إذا سالم دينه، وهو شخص مسلم مكلف، قد يكون ثقة، وقد يصل إلى درجة من أهل العلم، ومن أهل الفضل والخير، فما الذي يمنع من قبول شهادته؟ طالب: سهولة الطن فيه. سهولة الطعن فيه، لكن إذا كان بريء مما يطعن فيه إلا ما حصل من سبب وجوده وهو الزنا، هذا ما عليه تبعه هو، يعني هل عليه ذنب إن كان ولد زنا؟ ليس عليه ذنب، وليس هذا جرمه، ما جاء في الحديث أن ولد الزنا شر الثلاثة ليس بصحيح، هذا ليس بصحيح، فلا علاقة له في هذه المسألة، ولا تبعة عليه، قد يقول قائل: أن الغالب فيمن هذا وصفه أنهم في الغالب أنهم يخرجون غير صالحين أو غير ثقاة أو شيء من هذا، لكن الكلام على كل شخص بحسبه، إذا افترضنا أنه ولد زنا، صار في غاية الصلاح والتقى والورع والفضل والمبادرة إلى الخيرات والمسارعة إليها، وصار له شأن في علم أو جاهٍ أو غير ذلك، فما المانع من قبول شهادته؟ هل لأنه يتساهل في الشهادة في هذا الباب؟ أما كونه يسهل الطعن فيه إذا كان الطعن بحق قبل؛ وإذا كان بغير حق لم يقبل. طالب: لكي لا يتساهل أمر الزنا بين الناس. يعني: ينبذ ولد الزنا من أجل أن لا يتتابع الناس على الزنا؟ إيش مرد شهادته يا شيخ؟ الطالب: ما ترد لأجل أنه من الزنا، أصل قبولها ما لم يقدح فيه. ما لم يقدح فيه بما يخرم ما ترد به شهادته. الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقب جملاً معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما، وعند أبي حنيفة وجلّ أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق، ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.

وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان: أحدهما: هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال، وحروف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض على ما يعرف من النحو. نعم، إذا عطف جملة على جملة قد تكون هذه الجمل مختلفة، زيد راكب وعمر قائم، وبكر يأكل وفلان يشرب .. الخ، جمل مختلفة، ولا تقتضي أن تكون متساوية، لكن عطف الأفراد على نية تكرار العامل، فهي مشرك بينهما فيما عطفوا عليه. السبب الثاني: يشبه الاستثناء بالشرط في عودة إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به؛ لأنه من باب القياس في اللغة، وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه، والأصل أن كلَّ ذلك محتمل، ولا ترجيح فتعين ما قاله القاضي من الوقف، ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله -عز وجل- كلا الأمرين، فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأً فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين فتعين الوقف من غير ميل، قال علماؤنا: وهذا نظر كلي أصولي ويترجح قول مالك والشافعي -رحمهما الله- من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق، والنهي عن قبول الشهادة .. النظر الكلي الأصولي يعني في القاعدة العامة، في الاستثناء المتعقب جمل، هل يعود إلى الأخيرة أو إلى الجميع؟ النظر الجزئي الفقهي في هذه المسألة بعينها، ما الحكم؟ بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعاً، إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له، وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر فوجب أن يكون ما دون ذلك أولى، والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، قال: وليس من نسب إلى الزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والتوبة تهدم ما كان قبلها.

وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [(33) سورة المائدة] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع، وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرماً من الكافر فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال: وقوله: {أَبَدًا} أي ما دام قاذفاً، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً، فإن معناه ما دام كافراً .. يعني ما دام متصفاً بالسبب الذي من أجله ردت شهادته. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته، ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(4) سورة النور] تعليل لا جملة مستقلة بنفسها: أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلما لا تقبل شهادتهم؟ ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز، وغير ذلك من الأقطار، ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبداً، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب فسقط قولهم، والله المستعان. وأما بالنسبة للقول في هذه المسألة، فالحد لا تسقطه التوبة، وأما بالنسبة لارتفاع الوصف وهو الفسق فلا إشكال فيه، ومحل اتفاق بين أهل العلم، والأقرب فيه ما اختلف فيه من قبول الشهادة أن الشهادة مقبولة؛ لأن السبب في التوقف في الشهادة وقبول الخبر هو الفسق، مجرد التوقف، فإذا زال هذا الوصف زال هذا التوقف وزال الرد من باب أولى، فتقبل شهادته، ومن باب أولى روايته؛ لأن الرواية خبر، يختلف حكمها عن حكم الشهادة؛ لأن الشهادة في حقوق الآدميين ومبناها على المشاحة، وأما بالنسبة للأخبار فالأمر فيها أوسع وأسهل في مثل هذا، ولذا يقبل فيها الرجل الواحد.

أقول: باب الرواية أوسع، ولذا يقبل فيها الواحد، الرواية، وتقبل فيها المرأة، تقبل رواية المرأة، ولو لم يشركها أحد، تقبل رواية العبد ولا تقبل شهادته، تقبل رواية المرأة ولا تقبل شهادتها منفردة، فباب الرواية أوسع، والصحيح قبول الشهادة أيضاً؛ لأنه تاب وسبب رد شهادته الفسق قد ارتفع بالتوبة، ووجد من يشغب ويشوش على الناس في الأحاديث الصحيحة التي جاءت من طريق أبي بكرة، ولا يهمهم جميع ما يرويه أبو بكرة سوى حديثٍ واحد: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) لا يهمهم من أحاديث أبي بكرة إلا هذا الحديث، ويقولون: هذا مجلود بحد فلا تقبل شهادته، ولا تقبل روايته، ويقول هذا الكلام من لا يمت إلى العلم الشرعي من قبيل ولا دبير ولا علاقة له به، لكن وجد هذه الفرصة يدلي بها ينصر بها حزبه وأقوامه، والله المستعان، فشهادته مقبولة، وروايته من باب أولى، ولا كلام لأحدٍ في مثل هذا. الخامسة والعشرون: قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهيَ عن قبول الشهادة معطوف على الجلد، قال الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النور] وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين حدّ؛ لأن الحدود كفارات فكيف تُردُّ شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما؟. قلت: هكذا قال ولا خلاف، وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته، وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته، وإن لم يحد؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنا، أو بقيام البينة عليه.

ترتيب رد الشهادة على الحد، أولاً إقامة الحد وعدمه مرجعه إلى المحدود، قد يكون عفا عنه، وقد قذفه قذفاً يستحق به العقوبة وما رتب عليها، وكونه عفا عنه ولم يطالبه بذلك لا يعني أن ذنبه أخف، ولذا لو حد خفّ عليه الذنب لأن الحدود كفارات، لكن إذا كان عدم المطالبة من قبل المقذوف مرجعها إلى تصديق المقذوف للقاذف كان الأمر في حقه أخف، فيكون حينئذٍ رد شهادته لا يترتب على إقامة الحد عليه، فينظر في كل مسألةٍ على حده. السادسة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} [(5) سورة النور] يريد إظهار التوبة، وقيل: وأصلحوا العمل، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(5) سورة النور] حيث تابوا وقبلت توبتهم. اللهم صلى على محمد، يكفي إلى هنا، لأن الكلام طويل على آيات اللعان، طويل جداً. طالب: إذا قذف أكثر من واحد؟ إذا قذف شخصاً واحداً، أو أشخاص؟ كل شخص له حكم، إذا طالب أقيم عليه الحد، وإذا قذف. . . . . . . . .

سورة النور - مسائل القذف

تفسير القرطبي سورة النور مسائل القذف الشيخ / عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [(6 - 10) سورة النور]. فيه ثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} {أَنفُسُهُمْ} بالرفع على البدل، ويجوز النصب على الاستثناء، وعلى خبر {يَكُن} {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} على الابتداء والخبر، أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {أربعَ} بالنصب لأن معنى {فَشَهَادَةُ} أن يشهد. لأنه مصدر منسبك من أن والفعل، هذا الأصل في شهادة أنها أن يشهد أحدهم، كما جاء في الآية الثانية، {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} ولو قيل: ويدرأ عنها العذاب شهادتها أربع شهادات لصح؛ لأن أن وما بعدها تؤول –تسبك- بمصدر. والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات، ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة. أربع الثاني في حق المرأة لا خلاف أنه منصوب. {وَالْخَامِسَةُ} [(7) سورة النور] رفع بالابتداء، والخبر {أن} وصلتها، ومعنى المخففة كمعنى المثقلة، لأن معناها أنه، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص {والخامسة} بالنصب بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة ..

المخففة، (الخامسة أن) هذه مثقلة مشددة، لكن لو خففت؟ المعنى واحد، نعم عملها يقل، وتأثيرها على مدخولها أقل من تأثير المشددة، لكن المعنى واحد. بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة، والباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [(7) سورة النور] أي: والشهادة الخامسة، قوله: {لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ}. الثانية: في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البينة أو حد في ظهرك)) قال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟! فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((البينة وإلا حد في ظهرك)). يعني هذا الحكم الشرعي قبل نزول اللعان، ما في إلا أن تحضر بينة، أو تجلد حد القذف. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [(6) سورة النور] فقرأ حتى بلغ {لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [(6) سورة النور] الحديث بكماله، وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات، وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم .. نعم، عمومها يتناول الأزواج، يعني قبل نزول آيات اللعان، الزوج وغيره سواء. قال سعد بن معاذ: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة؟! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)) وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي، على ما ذكرناه، وعزم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضربه حد القذف، فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة، لما وعظت، وقيل: إنها موجبة، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فالتعنت، وفرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وولدت غلاماً جمل أورق -على النعت المكروه–.

الذي يشبه الزاني –نسأل الله السلامة والعافية-. ثم كان الغلام بعد ذلك أميراً بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أباً، وجاء أيضاً عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن، والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية، وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل، وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة. قال أبو عبد الله بن أبي صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر وهلال بن أمية خطأ، قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني، شهد أحداً مع النبي -صلى الله عليه وسلم- رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني، كذلك كان يقول أهل الأخبار، وقيل: قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الناس في الخطبة يوم الجمعة {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النور] فقال عاصم بن عدي الأنصاري: جعلني الله فداك، لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين وسماه المسلمون فاسقاً، فلا تقبل شهادته، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود، فقد فرغ الرجل من حاجته، فقال -عليه السلام-: ((كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي)) .. يعني كذلك أنزلت آية حد القذف على ما تقدم، وليس للمسلم إلا أن يرضى ويسلم، وكون آيات اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو في هلال بن أمية، والمحاولة بين التوفيق بين ما ورد، والترجيح، لا يمنع أن تكون الآيات نزلت في هذا وهذا، تكون قصة هذا حصلت ثم نزلت الآيات، ثم تحصل قصة الثاني أو تحصل قصة الثاني قبل نزول الآيات، بكل هذا قال أهل العلم ولا يلزم من هذا ترجيح، أن تكون قصة عويمر أرجح من قصة هلال، أو قصة هلال خطأ، كلها محفوظة، ولا يمنع أن يكون حصل لأحدهما ما حصل ثم حصل للثاني، ثم أنزلت الآية بسببهما، وأقيم اللعان مع الاثنين، وقد يكون السبب واحد، ثم بعد ذلك لقرب الثاني، لقرب قصة الثاني، ذكر بعض الرواة أن الآيات نزلت بسببه، وعلى كل حال القصتان صحيحتان.

فقال -عليه السلام-: ((كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي)) فخرج عاصم سامعاً مطيعاً فاستقبله هلال بن أمية يسترجع فقال: ما وراءك؟ فقال: شراً، وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها، وخولة هذه بنت عاصم بن عدي كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكاً هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه، قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكاً عويمر العجلاني؛ لكثرة ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لاعن بين العجلاني وامرأته، واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة، وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك إلى المدينة قاله الطبراني، وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته مرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك وأنكر حملها الذي في بطنها، وقال هو لابن السحماء، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هات امرأتك، فقد نزل القرآن فيكما)) فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل، في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول فذكره .. والواقدي ضعيف، الواقدي ضعيف. الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [(6) سورة النور] عام في كل رمي، سواءً قال: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس مني، فإن الآية مشتملة عليه، ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا قول جمهور العلماء، وعامة الفقهاء، وجماعة أهل الحديث، وقد روي عن مالك مثل ذلك وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني أو ينفي حملاً، أو ولداً منها .. يعني لا بد من التصريح، لا بد من التصريح برؤية الزنا. وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف، وإنما تجب بالرؤية، أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء، هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم، والصحيح الأول لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ..

يعني بالزنا، بأي لفظٍ كان مما يدل على الزنا. قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية، فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فاذهب فأت بها)) ولم يكلفه ذكر الرؤية، وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته، ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى، قاله أبو عمر -رضي الله عنهما- وقد ذكر ابن القصار عن مالك .. وبعض النسخ ابن عمر طالب: ابن عمر يا شيخ. لا، هو أبو عمر بن عبد البر. وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها .. يعني قياساً على قول المبصر: رأيتُ. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء هلال بن أمية -وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- فجاء من أرضه عشاءً، فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينه، وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاءً فوجدت عندهم رجلاً، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [(6) سورة النور] الآية .. وذكر الحديث، وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يُتعدى ذلك، ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤيةً حدّ؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النور]. كون الواقعة التي حدثت في عصره -عليه الصلاة والسلام- اللفظ فيها محدد لا يعني نفي سواه من الألفاظ التي تدل على المقصود، يعني ما ذُكر في القصة التي حصلت هذا مثال من الأمثلة، وإلا فالمقصود الرمي، إذا صرح بأنها زنت أو رماها بأنها زانية، المقصود أنه قذفها فلزمه الحد، كيف يدرأ عن نفسه الحد؟ يشهد أربع شهادات.

الرابعة: إذا نفى الحمل فإنه يلتعن، لأنه أقوى من الرؤية، ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده، واختلف علماؤنا في الاستبراء، فقال المغيرة ومالك في أحد قوليهما: يجزي في ذلك حيضة، وقال مالك أيضاً لا ينفيه إلا بثلاث حيض، والصحيح الأول؛ لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة .. يعني في الحيضة الواحدة، كذلك في غيره من الفسوخ من الاستبراء. وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق -إن شاء الله تعالى-. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا ينفى الولد بالاستبراء؛ لأن الحيض يأتي على الحمل، وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز .. هذا لازم كل من يقول: أن الحامل تحيض، وأنه يجتمع الحيض مع الحمل، والصواب أنه لا يجتمع، ولو صح اجتماعه لما كان للاستبراء أو الاعتذار بالحيض معنى. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز وقاله ابن المغيرة .. عندك ابن المغيرة أو المغيرة؟ الطالب: وقاله المغيرة. نعم. وقاله المغيرة، وقال: لا يُنفى الولد إلا بخمس سنين؛ لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم. الخامسة: اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين .. يعني ما دون هذه المدة، مدة أكثر الحمل، يحتمل أنه من الزوج، بجماعٍ حصل له قبل هذا الزنا. الخامسة: اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين ..

الفائدة المرتبة على اللعان انتفاء الحد والولد، أن ينتفي الولد بمجرد اللعان، وينتفي الحد من القاذف والفرقة المؤبدة على ما سيأتي، والإشكال أنه إذا وقع الزنا في طهرٍ جومعت فيه المرأة، فالولد يحتمل أن يكون من ماء أبيه، من ماء الزوج، ويحتمل أن يكون من ماء الزاني، فإذا وقع اللعان ترتب عليه الحكم الشرعي فانتفى الولد، والاحتمال قائم أنه لأبيه، لكن لا يتم البت في الحكم الشرعي إلا بمثل هذا، لا يمكن أن يوجد حكم شرعي في كل قضيةٍ بعينها، تأتي الأحكام عامة لسائر الناس، ثم إن كان منه أو مما .... ، المقصود أن هذا حكم شرعي، وقد يكون الواقع أنه من ماء أبيه، وكونها زنت زناً محقق، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: إن جاءت به كذا فهو لأبيه، إن جاء به كذا فهي صادقة، وإن جاءت به كذا فهي كاذبة، يعني ما في قسم ثالث؟ أن تأتي به على شكل أبيه وهي كاذبة؛ لأنه من ماء أبيه، هذا في حالة ما إذا زنت في طهرٍ جومعت فيه، ووقع الحمل فيه من زوجها، يعني التقسيم في الحديث: إن جاءت به كذا، يعني شبيهاً لأبيه فهي صادقة، وإن جاءت به شبيهاً للزاني فهي كاذبة، ألا يحتمل به أن تأتي به شبيهاً لأبيه وهي كاذبة؟ لأن ماء أبيه قد سبق الزاني؟ ما يحتمل هذا؟ إذاً القسمة حاصرة أو غير حاصرة في الحديث؟ طالب: غير حاصرة. نعم؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما قضى بهذا وذكر هذا كأنه استروح إلى صدق الزوج، وأنها كاذبة، فقصر الأمر على ما يدل على كذبها غالباً. طالب: ولو وجد أنه أشبه بأبيه هل يترتب عليه حكم أم ينتفي؟ لا لا، ينتفي ما دام ثبت اللعان تترتب عليه آثار، تترتب عليه آثار.

اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين مؤمنين أو كافرين فاسقين أو عدلين، وبه قال الشافعي، ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده، وقيل: لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة، بخلاف اللعان، وقد قيل: إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن، والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب، وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين وذلك لأن اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه، واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين، وفي قوله: "وجد مع امرأته رجلاً" دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين، لأنه لم يخص رجلاً من رجل، ولا امرأة من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب، فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [(6) سورة النور] ولم يخص زوجاً من زوج، وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، وأيضاً فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق، فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه، واللعان أيمان لا شهادات، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} [(107) سورة المائدة] أي أيماننا، وقال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [(1) سورة المنافقون] ثم قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [(2) سورة المنافقون] وقال -عليه السلام-: ((لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)). لكن هل اللعان أيمان أو شهادة؟ لفظ الآيات، آيات اللعان تدل على أنه شهادة، {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [(6) سورة النور] {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [(8) سورة النور] فسماها شهادة، وإذا قلنا: بأنها شهادة وشهادة العبد لا تجوز ولا تصح فلا يصح اللعان من العبد؛ لأنها شهادة، وإذا قلنا: أنها أيمان وهل يلزم تأكيد هذه الأيمان بلفظ الشهادة أو الشهادة بلفظ اليمين؟ إذا قلنا أنها شهادة؟ هل يلزم هذا؟ أو يكفي أن يشهد من دون يمين؟ أو يحلف من دون لفظ الشهادة؟ والله إنه رآها زنت، ثم تقول: والله إنها ما زنت، من غير أن تشهد.

على كل حال المرجح عند الجمهور أنها أيمان، ولذا تصح من العبد وغيره، من كل من صحّ طلاقه صحّ لعانه؛ لأن الآثار المترتبة على اللعان في حق الرقيق مثل ما تكون في حق الحر، وجاء ما يدل على إطلاق لفظ الشهادة والمراد اليمين، فشهادتنا أحق من شهادتهما، مثل ما ذكر المؤلف -رحمه الله- {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ثم قال بعد ذلك: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ}. طالب. . . . . . . . . القول {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}. . . . . . . . . وين. الآية نعم، آية: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [(6) سورة النور]. طالب:. . . . . . . . . لا، حتى لو قال: أشهد بالله، لو قال: أشهد بالله صار يمين؟ ما يصير يمين. لو ضمّن (أشهد) معنى (أحلف) فشهادة أحدهم يعني فحلف أحدهم بالله، وأن تشهد أربع، تحلف أربع شهادات يعني أيمان، فإذا ضمّن ساغ ذلك. وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان)) أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها. لكن إذا وجد ولد من كتابية ويجزم أبوه أنه ليس له، وقد رأى منها الزنا، ماذا يصنع؟ إذا رآها قد زنت ثم جاءت بولد كيف يصنع لانتفاء الولد؟ لا بد من اللعان، وقل مثل هذا فيما لو تزوج أمةً. وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله: ولم يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [(6) سورة النور] وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته، وأيضاً فلو كانت يميناً ما رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنا، قلنا: هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر، وليست بشهادة إجماعاً.

والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء، قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهداً يشهد لنفسه بما يوجب حكماً على غيره؟! هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر. حجة قوية، يقول: لو كانت شهادة فهو يشهد لنفسه، يشهد لإبراء نفسه، ولا يتجه أن يشهد الإنسان لنفسه، بينما اليمين يدرأ بها عن نفسه، ولذلك الشهادة في حق المدعي، واليمين في حق المنكر. السادسة: واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس، فقال مالك والشافعي: يلاعن لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه إذا فهم ذلك عنه. يعني بالإشارات المفهمة. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحد عليه .. هذا احتمال في غاية البعد، يعني كونه ينطق، قد ينطقه الله بعد ذلك ثم ينكر اللعان، يقول: أنا ما أردت بإشاراتي هذه اللعان، لكن هذا في غاية البعد. وقد تقدم هذا المعنى في سورة مريم والدليل عليه والحمد لله. السابعة: قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنا قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن، ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النور] وهذا رماها محصنة غير زوجة، وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب، فلا يوجب لعاناً كما لو قذف أجنبية. وهي في وقت القذف أجنبية؛ لأن العبرة بالحال لا بالمآل.

الثامنة: إذا قذفها بعد الطلاق نظرت فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن، وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين؛ لأنها ليست بزوجة، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفاً، بل هذا أولى؛ لأن النكاح قد تقدم، وهو يريد الانتفاء من النسب، وتبرئته من ولد يلحق به، فلا بد من اللعان، وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به، وكان قذفاً مطلقاً داخلاً تحت عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النور] الآية .. فوجب عليه الحد، وبطل ما قاله البتي لظهور فساده. التاسعة: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة وهي أن يكون الرجل غائباً فتأتي امرأته بولد في مغيبه، وهو لا يعلم، فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها هاهنا بعد العدة، وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدةٍ من العدة ويرثها؛ لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. نعم، يترجح اللعان في حق الزوج إذا وجد هناك حمل، ووجد ولد، لا بد من نفيه لئلا يدخل على أهله من ليس منه، أما إذا لم يكن ثمّ ولد ولم تحبل من هذا الزنا، فلو طلقها من غير لعان؛ لأن أمر اللعان شديد بالنسبة له إن كان كاذباً أو لها إن كانت كاذبة. والفائدة العملية المرتبة على اللعان هي انتفاء الولد، والفرقة تحصل بالطلاق بدون لعان، والله المستعان، أما إذا وجد الولد فلا بد من اللعان. الطالب: إذا غاب الزوج غيبة معلومة كأن كان في سجن أو كان خارج البلد والناس يعرفون ذلك أو القاضي هل يلزم على الزوج أن يلاعن؟ هو يجزم بهذا لأنه يدرأ عن نفسه، يعني مدة يمكن أن تحمل فيها، لكن هم نظروا في هذا إلى أكثر مدة الحمل، لأنه يحتمل أن يكون منه في مثل هذه الصورة إذا لم يرها تزني، فهم يحكمون بأكثر مدة الحمل. الطالب: سنتين يا شيخ؟ لا، أربع سنين عند بعضهم، ومرّ علينا أنها خمس، كأنه قول المالكية.

العاشرة: إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع لأنه يحتمل أن يكون ريحاً أو داء من الأدواء ودليلنا النص الصريح بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لاعن قبل الوضع، وقال: إن جاءت به كذا فهو لأبيه، وإن جاءت به كذا فهو لفلان فجاءت به على النعت المكروه. يعني إن جاءت به كذا فهو لأبيه حكماً أو حقيقةً؟ حقيقة لا حكماً، وإلا فاللعان ينفي كونه لأبيه. الحادية عشرة: إذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن، وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد، وهذا فاسد لأن الرمي به فيه معرة، وقد دخل تحت عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [(6) سورة النور] وقد تقدم في الأعراف والمؤمنون أنه يجب به الحد. نعم حد القذف يجب بالرمي بالزنا أو اللواط –نسأل الله السلامة والعافية-. الثانية عشرة: قال ابن العربي: من غريب أمر هذا الرجل أنه قال: إذا قذف زوجته وأمها بالزنا: إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم، وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئاً يحكى، وهذا باطل جداً، فإنه خص عموم الآية في البنت، وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه. الثالثة عشرة: إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وأكثر أهل العلم، وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحد عن القاذف وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها؛ لأن الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده ..

نعم لأن العبرة بالحال، والحال القذف، ولذا لو شهد ثقة لفلان من الناس أنه له مبلغ على فلان وهو ثقة، ثم تراخى بعد ثبوت الحق أو بشهادة الثقات عن استيفاءه، ثم حصل أن هؤلاء الثقات فسقوا، فصاروا ممن ترد شهادتهم، فالعبرة بالحال وقت الشهادة، هم ثقات يستوفى بهم الحق، وإلا لما استقام حق، لأن الحديث الصحيح: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ثم لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب .. )) الخ، تدل على أن كل ثقة معرض لمثل هذا، كل ثقة في الحياة معرض لمثل هذا، فلا بد أن ننتظر إلى ما يختم به له، فالعبرة بالحال لا بالمآل ولو تغيرت حاله. كما لو قذف مسلماً فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه، وأيضاً فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة، ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجوداً في ابتداءٍ مَنَعَ صحة اللعان ووجوب الحد، فكذلك إذا طرأ في الثاني، كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمراً فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك .. لكن لو حكم؟ لو حكم الحاكم بناءً على أنهما ثقتان؟ ثم بعد ذلك تبيّن فسقهما فيما بعد؟ يقام الحد. وأيضاً فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيث القطع واليقين، وقد قال -عليه السلام-: ((ظهر المؤمن حمى)) فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع، وبالله التوفيق .. خرج الحديث؟ الطالب:. . . . . . . . . الطبراني في الكبير من حديث. . . . . . . . . وهذا ظاهر. ضعيف؟ ضعيف جداً. الرابعة عشرة: من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، هو لدفع الحد، وهي لدرء العذاب، فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد، ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء .. لا يلزمها حد لأنها غير مكلفة. وقال ابن الماجشون: لا حد على قاذف من لم تبلغ، قال اللخمي: فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل.

أما لو كانت تحمل ولو كانت صغيرة؟ يمكن أن تحمل الصغيرة؟ لأنه قال: لا حد على قاذف من لم تبلغ، فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل، هل في صغيرة تحمل؟ هل هناك صغيرة تحمل؟ أو إذا حملت حكمنا ببلوغها؟ لأنها لا يمكن أن تحمل إلا بعد الإنزال، والإنزال من علامات البلوغ، فقوله: الصغيرة يكفي عن قوله: لا تحمل. طالب: السن؟ السن، يقولون التسع. الخامسة عشرة: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها، فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة، وهو أحد قولي الشافعي والقول الثاني أنهم لا يحدون .. إذا كان الزوج من هؤلاء الثلاثة، الذي هو رابعهم؛ لأن له مخرج شرعي باللعان، لم يبق إلا الثلاثة، فإذا نظرنا إليه باعتباره شاهداً كشهادتهم، قلنا: أنها تحد ولا يحدوا، لأن النصاب كامل، واللعان إنما يلجأ إليه إذا أراد إسقاط الحد عن نفسه، وهنا لا حد عليه لأن النصاب كامل. وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداءً قبلت شهادتهم وحدَّت المرأة، ودليلنا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النور] الآية .. فأخبر أن من قذف محصناً ولم يأت بأربعة شهداء حدّ، فظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رامٍ لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود والله أعلم. السادسة عشرة: إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته، وقال شريح ومجاهد: له أن ينفيه أبداً وهذا خطأ؛ لأن سكوته بعد العلم به رضىً به، كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه، والله أعلم. يوجد بعض القضايا من بعض العوام الذين لا يحتاطون لأعراضهم ولا لأديانهم يوجد تساهل من بعض العوام إذا وجد في ولده شبهاً لا يشبهه، شبهاً بعيداً عنه، تجده في حال الرضا يقول: هو ولدي، وفي حال الغضب وفي حال السخط -إذا سخط عليه- تبرأ منه، وهذا لا يجوز بحال –نسأل الله السلامة والعافية– هو إما ولدك باستمرار أو ليس بولدك، فإذا قال: أنه ليس بولده، لا بد أن يلاعن.

السابعة عشرة: فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال: رجوت أن يكون ريحاً ينفش، أو تسقطه فأستريح من القذف فهل لنفيه بعد وضعه مدةً ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك؟ فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه، وبهذا قال الشافعي، وقال أيضاً: متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك .. لأنه رضي به، إلا إن كان جاهل بالحكم، إن كان جاهل بالحكم له ذلك. وقال أبو حنيفة: لا أعتبر مدة، وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوماً مدة النفاس، قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه، واستلحاق ولدٍ ليس منه محرم عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا؟ نعم يعني أحياناً يحصل التردد، لا سيما إذا كان الزنا في الطهر الذي جامعها فيه، يحصل التردد كثيراً، فيترك له مدة ثلاثة أيام يفكر فيها، لأنه إن أثبت الولد والاحتمال أن يكون لغيره هذا حرام –نسأل الله السلامة والعافية– وإن نفاه وهو ولده حرام كذلك –نسأل الله السلامة-. وإنما جعلنا الحد ثلاثة؛ لأنه أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصرّاة، فكذلك ينبغي أن يكون هنا، وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع، إذ لا شاهد لهم في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهداً في الشريعة من مدة المصرّاة. يعني إذا كان هناك أصل يمكن أن يلحق به الفرع أصل من الشرع أولى من إلحاقه بما لا أصل له. طالب: الجينات هذه قرائن وليست أدلة، قرائن يرجح بها. الثامنة عشرة: قال ابن القصار: إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانية –بالهاء- يعني بلفظ ما تقذف به المرأة، قذفت الرجل بما تقذف المرأة، وقالت: يا زانية، فما الحكم؟ أو قال الرجل لزوجته: يا زاني؟

وكذلك الأجنبي لأجنبي فلست أعرف فيه نصاً لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفاً وعلى قائله الحد، وقد زاد حرفاً، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يكون قذفاً، واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زانٍ أنه قذف، والدليل على أنه يكون في الرجل قذفاً هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواءً كان بلفظ أعجمي أو عربي، ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت -بفتح التاء- كان قذفاً، لأن معناه يفهم منه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [(30) سورة يوسف] صلح أن يكون قوله: يا زانٍ للمؤنث قذفاً، ولمّا لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، والله أعلم. هذا من حيث العربية، أما بعد أن تغيرت لغات ولهجاتهم وصار الرجل يخاطب بما تخاطب به المرأة والعكس في بعض الجهات موجود هذا، يوجد عند بعض الأعاجم يخاطب الرجل كأنه يخاطب امرأة، وفي بعض الجهات من بلاد العرب من يخاطب مجموعة الرجال بنون النسوة، هذا موجود حتى في بعض جهات الجزيرة، فمثل هذا ينظر فيه إلى ما تعورف عليه. التاسعة عشرة: يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشاً، ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه. الموفية عشرين: اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان، فقال أبو حنيفة: لا حد عليه؛ لأن الله تعالى جعل على الأجنبي الحد، وعلى الزوج اللعان، فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج، ويسجن أبداً حتى يلاعن؛ لأن الحدود لا تؤخر قياساً .. ما معنى لأن الحدود لا تؤخر؟ طالب. . . . . . . . . ويسجن أبداً حتى يلاعن، مقتضى ذلك أنه يؤخر؟ أليس كذلك؟ الذي يسجن حتى يلاعن. طالب:. . . . . . . . .

لأن الحدود لا تؤخر، هو لا يلزمه حد الآن، ولأنه لو كان يسجن حتى يلاعن أو يحد، قلنا أن الحدود تؤخر، لكنه يسجن حتى يلاعن فقط، ما في حد، لأن القسمة عند أبي حنيفة، القسمة عنده كالزوج وغيره، الزوج ما فيه إلا اللعان ما في حد، وغير الزوج ما فيه إلا الحد إذا قذف، وليس هناك لعان، فالزوج ما دام لا حد في حقه، إذاً يسجن حتى يلاعن فقط، لا يمكن قسم آخر حتى يلاعن أو يحد لأن الحدود لا تؤخر. وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء: إن لم يلتعن الزوج حد؛ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد، فكذلك الزوج إن لم يلتعن، وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا لقوله: إن سكتُّ سكت على غيظ وإن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت. الحادية والعشرون: واختلفوا أيضاً هل للزوج أن يلاعن مع شهوده فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد فيه من اللعان .. يعني لو أحضر أربعة شهود ينتفي الولد وإلا ما ينتفي؟ لو أخضر أربعة شهود أنها زنت، ينتفي وإلا لا ينتفي إلا باللعان؟. طالب: لا ينتفي. لا ينتفي الولد إلا باللعان، وإنما الشهود يقونه الحد فيقام عليها بهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه، لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [(6) سورة النور] الثانية والعشرون: البداءة في اللعان بما بدأ الله به وهو الزوج، وفائدته درء الحد عنه، ونفي النسب منه، لقوله -عليه السلام-: ((البينة وإلا حد في ظهرك)) ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز، لأنه عكس ما رتبه الله تعالى .. ولأن المرأة تدرأ عن نفسها شيئاً لم يثبت بعد، لأنه لا يثبت إلا بلعانه. وقال أبو حنيفة: يجزي، وهذا باطل؛ لأنه خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه، ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا؛ لأن المرأة إذا بدأت باللعان فتنفي ما لم يثبت، وهذا لا وجه له.

الثالثة والعشرون: وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن: قل أشهد بالله لرأيتها تزني، ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة، وما وطئتها بعد رؤيتي، وإن شئت قلت: لقد زنت وما وطئتها بعد زناها، يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه الأيمان أو عن شيء منها حد، وإذا نفى حملاً قال: أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد، وما هذا الحمل مني ويشير إليه، فيحلف بذلك أربع مرات، ويقول في كل يمين منها: وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها، ثم يقول في الخامسة: عليّ لعنة الله إن كنتُ من الكاذبين، وإن شاء قال: إن كنت كاذباً فيما ذكرت عنها، فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد، فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده، فحلفت بالله أربعة أيمان تقول فيها: أشهد بالله إنه لكاذب، أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه عليّ وذكر عني، وإن كانت حاملاً، قالت: وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة: وعليّ غضب الله إن كان صادقاً، أو إن كان من الصادقين في قوله ذلك، ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنا، ويقول في الخامسة: عليّ لعنة الله إن كنت كاذباً فيما رميتها به من الزنا، وتقول هي: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة: عليّ غضب الله إن كان صادقاً فيما رماني به من الزنا، وقال الشافعي: يقول الملاعن: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الإمام، ويذكره الله تعالى ويقول: إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله، فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول: إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجباً، فإن أبى تركه يقول ذلك: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا، احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أمر رجلاً حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول: إنها موجبة.

إنها موجبة فيما دعوت به على نفسك، اللعن بالنسبة للرجل، والغضب بالنسبة للمرأة –نسأل الله العافية-. طالب:. . . . . . . . . قلنا: إذا كانت قد وطئها في نفس الطهر الذي حصل فيه الزنا فالاحتمال قائم أن يكون الولد له، والأصل له أن له، لا يبرأ منه، ولا يجوز اللعان في ذلك، لا يفيد اللعان في انتفاء الولد. الرابعة والعشرون: اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد أم لا؟ فقال مالك: عليه اللعان لزوجته وحد للمرمي، وبه قال أبو حنيفة، لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه، وقال الشافعي: لا حد عليه؛ لأن الله -عز وجل- لم يجعل على من رمى زوجته بالزنا إلا حداً واحداً، بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [(6) سورة النور] ولم يفرق بين من ذكر رجلاً بعينه وبين من لم يذكر، وقد رمى العجلاني زوجته بشريك، وكذلك هلال بن أمية فلم يحد واحد منهما، قال ابن العربي: وظاهر القرآن لنا؛ لأن الله تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان، وبقي الأجنبي على مطلق الآية، وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه. وحد القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعاً منا ومنه. يعني الإمام مالك. . . . . . . . . والشافعي الذين يخالفونه في هذا، فلا بد من المطالبة. الخامسة والعشرون: إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعاً تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما .. يعني يخرج كل واحدٍ منهما من باب لتمام الفرقة. ولا خلاف في أنه لا يكون اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام، وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر، وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها بمثل ما تلتعن به المسلمة. السادسة والعشرون: قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً.

طالب: في وضع النصرانية. . . . . . . . . هل يقال في بعض. . . . . . . . . الحلف بالأولياء أكثر والعياذ بالله. . . . . . . . .؟ لا، هذا شرك ما يقرّ على شرك، مكان سهل يعني أسهل من الشرك، الشرك عظيم، لأنه يحصل لها تردد، قد يحصل لها تردد إذا كانت في موضع تعظمه، يحصل .. الطالب: ما يثبت الحق إلا إذا قيل له احلف بالحسين؟ ولو كان، ولو ضاع الحق، لأن الشرك عظيم. السادسة والعشرون: قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين .. قد يوجد حيلة مثلاً يستخرج بها الحق من مثل هذا بغير الشرك، من عباد البقر أخذ أمانة وجحدها لمسلم، أمانة لمسلم فجحدها، وهو موجود في دول الخليج، فتحاكما عند القاضي فقال القاضي: ائتوني بسكين، ثم قال له –للذي جحد– لأنه يلزمه اليمين، قل: ورب البررة، جعل هذا الذي يعبد البقر يمسك السكين بيده، فقال له القاضي: قل ورب البررة، قال: ورب البررة، فقسم بالله ما في إشكال، مهلك الفجرة، قال: مهلك الفجرة، لئن كان صادقاً لأذبحن البقرة –يعني بهذه السكين– قال: لا لا، أنا مال أدفع، بقرة ما أذبح، فهذا ما ارتكب محظور، فإذا حصل استخراج الحق بمثل هذا لا بأس به، أما أن يرتكب الشرك فلا. فلا يجتمعان أبداً، ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبداً لا قبل زوج ولا بعده. يعني فرقة مؤبدة. وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو قول الثوري لقول ابن عمر: فرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المتلاعنين فأضاف الفرقة إليه. ولقوله -عليه السلام-: ((لا سبيل لك عليها)) وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته إلتعنت أو لم تلتعن، قال: وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير، وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى .. لأن الاستمرار وعدمه من حقوق الزوج، من حقوق الزوج فيتعلق بلعانه كالطلاق. ولما كان لعان الزوج ينفي الولد، ويسقط الحد، رفع الفراش، وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئاً من عصمة الزوجين حتى يطلق .. يعني تستمر زوجته حتى يطلقها.

وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك، فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكماً، وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة .. لأن من الآثار المترتبة عليه، من الآثار المرتبة على اللعان، الفرقة المؤبدة وانتفاء الولد وسقوط الحد. واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة وبقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها فطلقها ثلاثاً، قال: ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليه، ولم يقل له: لم قلت هذا وأنت لا تحتاج إليه؛ لأن باللعان قد طلقت، والحجة لمالك في المشهور، ومن وافقه قوله -عليه السلام-: ((لا سبيل لك عليها)) وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عليها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذاً لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة .. الطرد والإبعاد، معنى اللعان واللعن في اللغة الطرد والإبعاد –نسأل الله السلامة والعافية-. السابعة والعشرون: ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبداً فإن أكذب نفسه جلد الحد، ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبداً، وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف، وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد، وقال: قد تفرقا بلعنة من الله، وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد، ولحق به الولد، وكان خاطباً من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبد العزيز بن أبي سلمة .. لكن إذا أكذب نفسه، ولم تطالب بالحد، لأنه يقول -أبو حنيفة-: إذا أكذب نفسه جلد الحد، ولحق به الولد، يحد وإلا ما يحد؟ أكذب نفسه فلم تطالب بالحد؟ طالب: ما يحد وإن كان هذا الحد وصل السلطان وحصل اللعان؟ طالب: إذا لم تطالب بحق الله.

الآن الأمر وصل للسلطان، والموضوع بين يديه، وعرف أنه قاذف، وثبت القذف عنده بإقراره، بإكذابه نفسه، صار قاذفاً، فهل نقول: أن مجرد وصول الأمر إلى السلطان خرج من يده ويدها؟ أو نقول: أن الأمر لا يعدوها ومن حقها فإن طالبت حدّ وإلا فلا؟ طالب: السرقة والزنا؟ السرقة والزنا إذا بلغت الحدود السلطان، فإن عفا فلا عفا الله عنه، لكن الكلام في القذف يرجح فيه حق المخلوق، السرقة والزنا بالشهود يقوم، لكن القذف ما يقوم بالشهود حتى تتم المطالبة من المقذوف. طالب: .... للمرأة أن ترجع ولم يقم عليها الحدود. أي قصة؟ شراحة التي جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة؟ طالب:. . . . . . . . . لأن أبا حنيفة يقول: إذا أكذب نفسه جلد الحد، يعني جلد الحد معلق بإكذابه نفسه، بمجرد أن يكذب نفسه يجلد الحد، ولم يذكر فيه المطالبة، ولحق به الولد، وإذا قلنا أن الأصل أن الحد من حقها فإذا تنازلت ولم تطالب به كغيره، كغير الزوج، كغير الزوج إذا قذف لا يحد حتى يطالب به. طالب: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأته جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها، فقال: إن كنت صادقة رجمناه، وإن كنت كاذبة جلدناك، قالت: ردوني إلى أهلي غير نغرة .. يعني تجلد ولو لم يطالب؟ الطالب: قال: إن كنت كاذبة جلدناك، ولم يذكر فيه المطالبة. هو الأصل في هذا الباب أنه لا بد فيه من المطالبة. الطالب .. لكن على وصوله إلى السلطان؟ لهذا الكلام يعني في قول أبي حنيفة: إذا أكذب نفسه جلد الحد؛ لأن المسألة انتهت، كأنها مطالبة، يعني بمجرد لعانه يقتضي المطالبة منها، والمسألة قابلة للنظر. قالوا: يعود النكاح حلالاً كما لحق به الولد؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك .. يعني الآثار المترتبة حكمها واحد، فإما أن تعود بالكلية أو ترتفع بالكلية.

وحجة الجماعة قوله -عليه السلام-: ((لا سبيل لك عليها)) ولم يقل: إلا أن تكذب نفسك، وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال: فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ورواه الدارقطني ورواه مرفوعاً من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبداً)) وروي عن علي وعبد الله قالا: مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان، عن علي أبداً. الثامنة والعشرون: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء: عدد الألفاظ: وهو أربع شهادات على ما تقدم. والمكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه. الطالب: يدخل اللعان بين الكفار؟ لأنهم يعتبرون مطالبين، يتحاكموا إلينا، يعتبرون مطالبين بالفروع وتحاكموا إلينا. طالب. . . . . . . . . على كل حال إذا تحاكموا إلينا نحكم بينهم بحكم الله؛ لأنهم مطالبون بفروع الشريعة، أما إذا لم يتحاكموا فشأنهم. والوقت: وذلك بعد صلاة العصر، وجمع الناس: وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعداً، فاللفظ وجمع الناس مشروطان والزمان والمكان مستحبان. التاسعة والعشرون: من قال: إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر، ومن قال: لا يقع إلا بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك، وتمام اللعان ورثه الآخر، وعلى قول الشافعي: إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا .. لأن الحكم منوط بلعان الرجل عنده. الموفية ثلاثين: قال ابن القصار: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ، وهو مذهب المدونة: فإن اللعان حكم تفريقه حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق، وفي مختصر ابن الجلاب: لا شيء لها، وهذا على أن تفريق اللعان فسخ. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد.

سورة النور - الكلام على قصة الإفك

تفسير القرطبي سورة النور الكلام على قصة الإفك الشيخ / عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين أجمعين آمين. قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [(11) سورة النور] .. الآيات. فيه ثمان وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} عصبة خبر (إن) ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [(11) سورة النور] وسبب نزولها: ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة -رضوان الله عليها- وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصراً، وأخرجه البخاري تعليقاً، وحديثه أتمّ، قال: وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال؟ قال: وقال أبو أسامة. قال: أسامة. طالب: قال في الحاشية وقع في نسخ وقال أسامة .... أبو أسامة حماد بن أسامة طالب: الصحيح أسامة أحسن الله إليك؟ لكن على الأصل يصحح.

قال: وقال أبو أسامة، وأخرجه أيضاً عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشياً عليها، وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال: حدثني مسروق بن الأجدع قال: حدثتني أم رومان، وهي أم عائشة، قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان، وفعل بفلان! فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت ابني فيمن حدث الحديث! قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا قالت عائشة: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر، قالت: نعم! فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمىً بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطيتها، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما شأن هذه؟ فقلت: يا رسول الله أخذتها الحمى بنافض، قال: فلعل في حديث تحدث به، قالت: نعم، فقعدت عائشة، فقالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني! ولئن قلت: لا تعذروني! مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف، ولم يقل شيئاً فأنزل الله عذرها، قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول: الإرسال في هذا الحديث أبين، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومسروق لم يشاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا خلاف، وللبخاري من حديث عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [(15) سورة النور] وتقول: الولق الكذب، قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها، لأنه نزل فيها .. يعني فتقدم قراءتها على قراءة غيرها، لأنها صاحبة الشأن، هذا رأيه.

قال البخاري: وقال معمر بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع، قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع، وأخرجه البخاري من حديث معمر عن الزهري، قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أَبَلغك أن علياً كان فيمن قذف؟ قال: قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان عليّ مسلماً في شأنها ..

مسلِّماً أو مسلَّماً، يعني ما خاض في الموضوع، يعني سلم منه، لم يقل فيه شيئاً، ومع ذلك لما استشاره النبي عليه الصلاة والسلام، قال: "النساء غيرها كثير" فوجد في نفسها عليه إلى أن مات -رضي الله عنه وأرضاه- المقصود أن هذه القصة عظيمة، فيها من الدروس والعبر وهي مصيبة بالنسبة لعائشة -رضي الله عنها-، ترتّب عليها الخير الكثير في الدنيا والآخرة بالنسبة لها -رضي الله عنها وأرضاها-، ولذلك مثل هذه المصائب من استعمل الأسلوب الشرعي في استقبالها، ومع ذلك صبر واحتسب لله -جل وعلا- فإنه يثاب ثواباً عظيماً، ولذا قال: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [(11) سورة النور]، الآثار المترتبة عليه خير، بان بعض الأشخاص وانكشف بعض الأشخاص الذين يتسترون، ومع ذلك رفع الله درجة عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وقد يتعرض بعض النساء لمثل هذه المصيبة، والنساء لضعفهن، وقلة صبرهن قد يحاولن كشف هذه المصيبة بأسلوبٍ غير مرضي، وهذا يتعرض له بعد وجود الآلات التي تنشر الصور على نطاقٍ واسع، فيهدد بها، حصل لبعض النساء وبعض الشباب من الصبية وغيرهم أنه يصور وجهه ثم يركب عليه صورة عارية، ثم يركب عليها صورة أخرى فيها ممارسة الفاحشة، أو شيء من هذا، ثم يهدد بها، تصير ورقة يساوم بها، فإن استجاب أو استجابت، وإلا نشرت، وأبلغ ولي الأمر بها والزوج إن كانت متزوجة، وما أشبه ذلك، فيحصل منه المصائب والكوارث الشيء العظيم، لا شك أن هذا بالنسبة لمن صنعه أمر خطير جداً، في غاية الخطورة –نسأل الله السلامة والعافية– ومثل هذا يبتلى في الدنيا قبل الآخرة، لكن من رمي بمثل هذه الأفعال ودبلجت صورته على مثل هذا التركيب عليه أن يصبر ويحتسب ولا يستسلم للضغوط، لا يعالج قذف أو إشاعة أو شيء من هذا بحقيقة، لأن بعض النساء تضعف عن الصبر والاحتمال لمثل هذه الأمور فتستجيب لهذه الضغوط، لأن هؤلاء الأشرار وهؤلاء الفسقة ما صوروها إلا لأجل أن يضغطوا عليها بهذه الصور، وعلى هذا فالحل الوحيد الأمثل أن ترضى وتسلم، يعني إن قالت ما صدقت من قبل ولي الأمر، يعني مثل ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها-،

يعني ولي الأمر لما ينظر إلى الصورة ومعها رجل يعاشرها مثلاً، هذا كله كذب وبهتان –نسأل الله السلامة– هذا إفك، مثل هذا إذا رآه ولي الأمر لا شك أنه يتعامل معاملة مع هذه المولية سواء كانت زوجته أو بنته على ضوء ما رأى، والناس يصدقوا ما يرون، الناس يصدقون، ويخفى على كثيرٍ منهم أن هذه الأمور يمكن دبلجتها، ويريد أن يجعل نفسه ويقف موقف المدافع الغيور على محارمه، ويزيد في ذلك حتى يصل إلى حدٍ غير مشروع، المقصود أنه حصل سؤال في نور على الدرب قبل أسبوعين أو ثلاثة في بلدٍ من البلدان حصل هفوة من بنت فجاء أخوها وضيق عليها وأخبر أباها وطردوها من المنزل، طردوها من المنزل؟؟ ما الذي يكون مصير هذه البنت بعد أن طردت؟ وهي تكتب تنادي بأعلى صوتها أنها خائفة على نفسها من الوحوش البشرية، هذه وقد وقع منها هذه الهفوة، يجب أن تعامل معاملة شرعية، يعني إن كانت المسألة تقتضي حد يقام عليها حد، وإن كانت تابت وأنابت واستترت وستر الله عليها، فالأمر يحتمل ذلك، أما كونها تعامل بمثل هذه القسوة وتطرد من البيت، لا بد من معالجة وضعها، معالجة مناسبة، لا تكون الغيرة يترتب عليها من الآثار أكثر مما ترتب على أصلها، الفاحشة لا يقرها مسلم في أهله، ولا في غيره من المسلمين فضلاً عن كونه يقرها في بيته، المقصود أن مثل هذه الأمور تعالج معالجة شرعية حكيمة، مر علينا في الدرس السابق أنه الصحابي هلال بن أمية وجد مع مرأته رجلاً في الليل، متى غدا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يخبره الخبر؟ في الصباح، هل نقول أن هلال بن أمية لا غيرة عنده؟ وهل الذي يجرؤ فيقتل هذه المرأة أكثر منه غيرة؟ الغرائز لا بد أن تقاد بزمام الشرع، لا يجوز للإنسان أن يقر الخبث في أهله، وله أن يغضب، هذا غضب شرعي، وله أن يحزن ويتحسر، لكن بحدود، لأن بعض الناس إذا حصل له مثل هذه الهفوة، حصل في بيته مثل هذه الهفوة، أظلمت الدنيا في وجهه، ونسي الدنيا والآخرة، هذه غيرة، لكن غيرة إلى حد، المسألة مسألة لا بد من التوسط في الأمور كلها، لا بد أن تحل هذه المشاكل بحلول شرعية، طيب مثل هذه المرأة وهذه البنت، أو هذه الزوجة التي صورت صورةً عارية ودبلج معها شخص يعاشرها؟ هذا لا

يخلو من حالين، إما أن يكون الكلام صحيح أو خطأ، فإن كان خطأ تصبر وتحتسب، وهذا إفك، وسينزل الله -جل وعلا- وإن لم يكن قرآن لكن يقذف في قلوب الناس بيان صدقها وبراءتها، سوف يظهر للناس جلياً براءتها، لكن عليها أن تصبر وتحتسب، ولا تستسلم للضغوط، وإن كان صحيح يعني استجابت للمغريات، استجابت لإغراءات، وقد كانت عفيفة، إن كان صحيح وصورت هذه الصورة أيضاً لا تستجيب مرة ثانية، لأن الخطأ ما يعالج بخطأ، لا بد أن تتوب إلى الله -جل وعلا- وتصدق التوبة وتصبر وتحتسب على الآثار المترتبة على فعلتها السيئة، المقصود أن كلا الحالين لا يجوز لها أن تستجيب لمطامع هؤلاء الأشرار، فإن كانت صادقة سوف يظهر الله -جل وعلا- براءتها، كما برأ عائشة من فوق سبع سماوات، وإن كان وقع منها شيء من ذلك وتابت وأنابت إلى الله -جل وعلا- فالتوبة تجب ما قبلها، ولا تستجيب لمثل هذه الضغوط، على كل حال القصة فيها من الدروس والعبر ما لا يحتمله درس أو درسين أو ثلاثة، وهي في الوقت نفسه مصيبة بالنسبة لأم المؤمنين، ويحز في نفس كل مسلم أن يسمع مثل هذا الكلام في أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فالحديث بتفصيله في البخاري لا شك أنه لا يطاق سماعه، الذي جاء في القرآن كلام إجمالي فصل في الأحاديث الصحيحة، فكيف بمن يقذفها الآن؟ وقد برأها الله -جل وعلا- من فوق سبع سماوات؟ هذا لا نزاع في كفره، لأنه مكذب لله -جل وعلا-، ما هي مسألة أحاديث، يقول: والله أحاديث أخبار فيها ما فيها، قد يقول مبتدع: أن هذه أحاديث أخبار، لكن ماذا عما في كتاب الله -جل وعلا-؟ لا أحد يتردد في أنه قطعي الثبوت، وفي الوقت نفسه هو قطعي الدلالة على براءتها، فالذي يقذفها بعد نزول براءتها لا شك في كفره، لا شك في كفره كفراً مخرجاً عن الملة، وأما الذين قذفوها في وقته عليه الصلاة والسلام قبل نزول براءتها فلا شك أنهم ارتكبوا أمراً عظيماً، وقذف محصنة -كما جاء في الحديث وصحته فيه كلام- يحبط عمل ستين سنة، يحبط عبادة ستين سنة، أي مؤمنة محصنة غافلة! فكيف بأمهات المؤمنين، كيف بعرضه عليه الصلاة والسلام! والله -جل وعلا- يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [(26) سورة النور]

ويقول أيضاً: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [(26) سورة النور] يعني: إذا قلت: أن عائشة خبيثة اقترفت فمعناه أنك قلت: أن النبي عليه الصلاة والسلام خبيث، حاشاه عليه الصلاة والسلام، فالأمر جد خطير في هذه المسألة وتفصيلها لا يطاق سماعه، لكن نمره كما جاء، والله المستعان، ومع ذلك نستفيد منه من الدروس والعبر بقدر ما يحتمله الوقت. طالب: ما وجدته عائشة في نفسها .. علي رضي الله عنه هل كان له تأثير في معارضتها ... بالخلافة؟ الشيخ: علي -رضي الله عنه- لما استشاره النبي -عليه الصلاة والسلام-، الرجل ما وقع في القصة، ما وقع في الإفك، لكنه لما استشير أداه اجتهاده إلى أن يقول: "النساء غيرها كثير"، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- فيمن ادعت الرضاع بينهما: ((كيف وقد قيل؟ )) يعني من هذا الباب، وإلا فالبراءة نزلت، ليس لعلي ولا لأحدٍ، ولا لأي شخصٍ من الأشخاص، بل صار من مناقبها أنها حصلت لها هذه القصة، يعني بعد أن كانت مصيبة صارت من مناقبها -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فليس لعلي ولا لغيره أن يقول أي كلام، ولا تردد في كونها من أمهات المؤمنات الطاهرات، علي -رضي الله عنه- من الورع بمكان، ما وقع فيما وقع فيه غيره، ومع ذلك أدى ما عليه من النصيحة حسب اجتهاده، ومع ذلك وقع فيها نفسها ما وقع، ولم تقل مع ذلك إلا الحق، في مرضه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصلاة يعتمد على أبي بكرٍ وآخر، تقول عائشة الآخر هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، لكن ما استطاعت أن تذكره باسمه بعد أن قال ما قال، ومع ذلك لما قيل لها: إن عثمان قتل فمن نبايع؟ قالت: علي -رضي الله عنه وأرضاه-، يعني ما منعها أن تقول الحق، وهكذا يجب أن يكون حال المسلم أن يكون قوالاً للحق في كل الظروف، ولا يقول الباطل تحت أي ظرف من الظروف. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجهٍ آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه: قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال: الذي تولى كبره، منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت: لا ..

شوف الوليد بن عبد الملك، من بني أمية معروف، وعداء بني أمية وما وقع بينهم وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هم أصحاب ملك، قد يقع منهم مثل هذا الكلام، ومع ذلك إذا بلغهم الخبر الصحيح الصريح ما تعدوه. قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال: الذي تولى كبره، منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول: سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبي، وأخرج البخاري أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي. الثانية: قوله تعالى: {بِالْإِفْكِ} [(11) سورة النور] الإفك: الكذب والعصبة: ثلاثة رجال، قاله ابن عباس وعنه أيضاً من الثلاثة إلى العشرة، ابن عيينة: أربعون رجلاً، مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض، والخير حقيقته: ما زاد نفعه على ضره، والشر: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيراً لا شر فيه هو الجنة، وشراً لا خير فيه هو جهنم .. تشتمل عليه هذه الحياة الدنيا من الخير لا بد أن يكون مشوباً بشيءٍ من الشر، لكنه يكون مرجوحاً، والعكس الشر لا بد أن يكون مشوباً بالخير، لكن الخير يكون فيه مرجوح. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى، فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان إذ الخطاب لهم في قوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [(11) سورة النور] لرجحان النفع والخير على جانب الشر. الثالثة: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه .. الجزع الخرز، ظفار معروفة بلدة في عمان.

انقطع فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه فوجدته وانصرفت، فلم تجد أحداً، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه، فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها فنامت في الموضع، ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته، وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة، فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذاً بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه، ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل، وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل، ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه، وقال: تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت ليس بشاعر فأخذ جماعة حسان ولببوه، وجاءوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأهدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرح حسان، واستوهبه إياه، وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر على ما يأتي، والله أعلم.

الذي تولى الكبر واحد، لكن الذي شارك هذا الذي تولى الكبر مجموعة، جاء عن حسان أنه شارك، وجاء عنه أنه تبرأ من المشاركة على ما سيأتي، وما دعا عائشة -رضي الله تعالى عنها- بالعفة، وممن شارك مسطح بن أثاثة قريب من أبي بكر على ما سيأتي في قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [(22) سورة النور] وممن شارك أيضاً حمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين، أم المؤمنين ما وقعت وهي الضرة لعائشة وزينب من باب الحمية لأختها وقعت –نسأل الله السلامة والعافية– وهذا يؤخذ منه أن أكثر ما يقع من الخلافات والآثار المترتبة عليها إنما هو بين الأتباع، أكثر مما يقع بين الرؤوس، يعني لو بحثت ما وجدت خلاف يعني بين أئمة، لكن تجد الخلاف بين أتباعه المنتصرين لهم، يعني يقع مخالفات ومشادات بين شافعية وحنفية، لكن هل يتصور بين الشافعي وأبي حنيفة يوجد مثل هذا الكلام؟ إلى عصرنا الحاضر، تجد الكبار ما بينهم إشكال، يعني اختلاف في وجهات النظر لا يترتب عليه شيء، ولا عداوة، ولا كلام سيء، ولا بذيء، ولا غيبة، ولا وقوع في أعراض أبداً، لكن تجد هؤلاء الأتباع هم الذي يستوشون، وهم الذين يوقدون النار تحت، ولذلك زينب أم المؤمنين صاحبة الشأن الذي تمنى كل ضرة تتمنى لضرتها لا سيما إذا كانت أثيرة عند الزوج أن يقع منها ما يقع لترتفع كفتها، ومع ذلك حماها الدين أن تقول شيئاً، وحمنة تبعاً لها قالت ما قالت، والله المستعان. وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة، وقيل: كان حصوراً، لا يأتي النساء، ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة، وقيل: كان له ابنان يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في ابنيه: ((لهما أشبه به من الغراب بالغراب)) وقوله في الحديث: ((والله ما كشفتُ كنف أنثى قط)) يريد بزنىً، وقتل شهيداً -رضي الله عنه- في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.

الرابعة: قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [(11) سورة النور] يعني ممن تكلم بالإفك، ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله، وجهل الغير قاله عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة كما قال الله تعالى، وفي مصحف حفصة عصبة أربعة. طالب: يا شيخ هي المريسيع أو المريصيع؟ المريسيع، بالسين، نعم. الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [(11) سورة النور] وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {كُبره} بضم الكاف، قال الفراء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا: أي أكبره، روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره، رواه عنها مسروق، وروي عنها أنه عبد الله بن أبي وهو الصحيح، وقاله ابن عباس، وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئاً، وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئاً من ذلك في قوله: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل غرثى: يعني جائعة، جائعة من لحوم الغوافل، يعني أنها لا تقع في أعراض الناس. حليلة خير الناس ديناً ومصباً ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بُلغت أني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سَورة المتطاول وقد روي أنه لما أنشدها: حصان رزان، قالت له: لست كذلك، تريد أنك وقعت في الغوافل، وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حساناً لم يقل ذلك نصاً وتصريحاً، ويكون عرض بذلك، وأومأ إليه، فنسب ذلك إليه، والله أعلم. وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا؟ وهل جلد الحد أم لا؟ فالله أعلم، أي ذلك كان، وهي المسألة. السادسة: فروى محمد بن إسحاق وغيره: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحاً وحسان وحمنة. وذكره الترمذي ..

ولم يجلد عبد الله بن أبي لأن الحدود كفارات، وما وقع فيه كفارات، وما وقع فيه عبد الله بن أبي أعظم من أن يكفر، ولئلا يتحدث الناس لا سيما وأن عبد الله بن أبي حامل راية نزاع وشقاق، ولعدم موافقته النبي عليه الصلاة والسلام في الباطن، وله أتباع وأنصار، قد يتحدثون بأن كما أشير على النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض المواضع وهو مستحق القتل لأنه منافق كافر، ويقع منه ما يدل على كفره، فاعتذر النبي عليه الصلاة والسلام عن قتله، وقال: ((لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)) فلا شك أن عين الحكمة والمصلحة في مثل هذا، الذي له أتباع، وله شأن وشرق بالدعوة، لأنه كان يتوقع الملك على الأنصار، ثم بعد ذلك عامله النبي عليه الصلاة والسلام بالرفق واللين إلى أن مات على نفاقه، والله المستعان. طالب: ما يقال أنه ما ثبت أنه تكلم وإنما شارك في الإفك؟ الشيخ: من أهل العلم من قال: أنه كان يعرض تعريض ويستوشي ويشيع في المجالس وينسبه إلى غيره، ولم يتكلم به نسبةً إلى نفسه، فلم يكن قاذفاً، قيل: بهذا لكن أمره أعظم –نسأل الله السلامة والعافية-. طالب: حسان؟! الشيخ: لا لا، عبد الله بن أبي، لأنه ما ثبت أنه حُد حَد القذف. طالب: يا شيخ قد يقال أنه على قول أنه له أتباع يعني مسألة إقامة الحدود تقام على من له أتباع ومن ليس له أتباع؟ الشيخ: لا شك، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا وقت تشريع، بعد أن أكمل الله الدين لا كلام لأحد، هذا وقت تشريع ووقت توطيد ما هو مثل الآن، خلاص انتهى، كل شيء تم، لا بد من إقامة الحدود على كل أحد كائناً من كان، وإذا بلغت الحدود السلطان فإن عفا فلا عفا الله عنه. طالب: ما يقال أنه مطالب بفروع الشريعة - يعني عبد الله بن أبي-؟ الشيخ: لا شك – إلا- مطالب ولا بد أن يؤدي أحكام الإسلام كلها، ظاهرةً وباطنة، لكن هو منافق يعامل حسب الظاهر معاملة المسلمين.

وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح، قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحاب الإفك على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحداً من أصحاب الإفك، لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن الله -عز وجل- يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(4) سورة النور] أي على صدق قولهم: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [(4) سورة النور]. والقول الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش .. النبي عليه الصلاة والسلام حدّ رجلين وامرأة، كما في السنن بسند جيد، رجلين وامرأة، والأكثر على أن المراد بالرجلين حسّان ومسطح، والمرأة حمنة. وفي ذلك قال شاعر من المسلمين: لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيراً ومسطح وابن سلول ذاق في الحد خزية ... كما خاض في إفك من القول يفصح تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا وآذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحوا فصبّ عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي، روى أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما نزل عذري قام النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي: ثمانين ثمانين. قال علماؤنا وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذاباًَ عظيماً، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصاً من عذابه في الآخرة، وتخفيفاً عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة -رضي الله عنها- وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد إذ مقصوده إظهار كذب القاذف، وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [(13) سورة النور] وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الحدود: إنها كفارة لمن أقيمت عليه. كما في حديث عبادة بن الصامت، ويحتمل أن يقال: إنما ترك حدّ ابن أبي استئلافاً لقومه، واحتراماً لابنه، وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة، ومن قومه كما في صحيح مسلم، والله أعلم.

السابعة: قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [(12) سورة النور] هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا، قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، قاله المهدوي و {لولا} بمعنى هلا، وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فذلك في عائشة وصفوان أبعد، وروي أن هذا النظر السديد، وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل! فقال: نعم! وذلك الكذب! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟! قالت: لا والله! قال: فعائشة -والله- أفضل منك، قالت أم أيوب: نعم فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم .. الثامنة: قوله تعالى: {بِأَنفُسِهِمْ} [(12) سورة النور] قال النحاس: معنى {بِأَنفُسِهِمْ} بإخوانهم، فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً، ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله. قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسداً أو مجهولاً.

الأخبار التي تشاع ولو كثر ناقلوها فإنها لا تفيد علماً ما لم تستند إلى الحس، يعني مجرد إشاعة لا تفيد العلم ولو حملها مئات الألوف، فإنها حينئذٍ لا تفيد علماً ما لم تستند إلى الحس يكون لها مصدر معروف يثبت الخبر بنقله، يعني لو أن شخص أو إذاعة من الإذاعات بثت خبر، ثم تلقت هذا الخبر وكالات الأنباء كلها وبثته في العالم يكتسب مصداقية هذا الخبر مع أن أصله واحد، هذه الإذاعة أيضاً ليست من أهل التثبت والتوثيق فلا يثبت الخبر بهذا، وكثيراً من الأخبار التي يتداولها العالم ويلوكونها ثم يعلن نقضها وتكذيبها، في قصة اعتزال النبي -عليه الصلاة والسلام- زوجاته في المشربة، وكونه آل منهن لمدة شهر، شاع في المدينة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- طلق نساءه، واجتمع الناس حول المنبر كلهم يتداولون هذا الخبر، ودخل عمر -رضي الله تعالى عنه- مغضباً، وسأل الناس أطلق النبي -عليه الصلاة والسلام- نساءه؟ قالوا: نعم، بناءً على هذه الإشاعة، فاستأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً ثم أذن له، فقال له: أطلقت نساءك؟ قال: لا، هذه مجرد إشاعة استندت إلى فهم، ما استندت إلى حس، يعني ما سمع من النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه طلق نسائه، ولا رؤية الآثار المترتبة على الطلاق، فلم يكن لا سماع ولا رؤية مشاهدة، ولا شيء إنما هي مجرد إشاعة استندت إلى وهم، النبي -عليه الصلاة والسلام- آل ألا يجالس نساءه بعد أمور حصلت منهن من تضييق عليه، وكثرة المطالب، فاعتزلهن لمدة شهر في المشربة، فجزم الناس أنه طلق نساءه، لكن هذه مجرد إشاعة، وما أكثر الإشاعات لا سيما إذا كانت الأوهام تتطاول عليها، أو تودها، أو تحذر منها، فإذا كان الناس يتمنون طول الإجازة مثلاً لأن الظرف يقتضي إطالتها، والإجازة قصيرة ما تكفي للناس أو تقديم شيء أو تأخير شيء، يعني الناس مشرئبون لمثل هذا الخبر، تجد أدنى شخص يقول أدنى كلمة في الموضوع يجزم بأنه صدر من مصدره الذي يملك التمديد، ثم بعد ذلك لا يلبث أن ينفى مثل هذا الخبر، وهذا كثير، زيادة الرواتب، نقص رواتب، زيادة كذا، من الأشياء التي تمس حاجة الناس، أدنى كلمة ولو كانت لو صدرت من غير أهل، تلقيت بالقبول، فهذه الإشاعات

لا تفيد العلم مهما كثر ناقلوها. التاسعة: قوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(13) سورة النور] هذا توبيخ لأهل الإفك و {لولا} بمعنى هلا، أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء، وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف .. يعني هذا رد على الحكم الأول، الحكم الأول أنه لا بد من إقامة البينة، لا بد من إقامة البينة التي جاءت في الآية السابقة، وهو الحكم الأول للمسألة. العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [(13) سورة النور] أي هم في حكم الله كاذبون .. ولو كانوا في نفس الأمر وحقيقته صادقين، يعني لو جاء ثلاثة وحلفوا وجزموا أنهم رأوا الفعلة الشنيعة الفاحشة بين رجلٍ وامرأة رأوها بأعينهم، رأوها رؤيةً لا مرية فيها هم في الواقع وحقيقة الأمر صادقون لكنهم في الحكم الشرعي كاذبون، {فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أما في حقيقة الأمر وإن كانوا صادقين فهم كاذبون، ويستحقون بذلك الحدّ. أي هم في حكم الله كاذبون، وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة، وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب، لا في علم الله تعالى، وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة. قلت: ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمّناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم يؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة، وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله -عز وجل-.

الحاديةَ عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [(14) سورة النور] (فضل) رفع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا تظهره العرب، وحذف جواب {لولا} لأنه قد ذكر مثله بعد قال الله -عز وجل-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، وهذا عتاب من الله تعالى بليغ ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً والإفاضة: الأخذ في الحديث وهو الذي وقع عليه العتاب، يقال: أفاض القوم في الحديث: أي أخذوا فيه. الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [(15) سورة النور] قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف من الإلقاء، وهذه قراءة بينة، وقرأ أبي وابن مسعود إذ تتلقونه من التلقي، بتاءين، وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام، وهذا أيضاً من التلقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء، وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء، وهذه قراءة قلقة، لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ فلا تناجوا ولا تنابزوا؛ لأن دونه الألف الساكنة وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال، وقرأ ابن يعمر وعائشة -رضي الله عنهما- وهم أعلم الناس بهذا الأمر- {إذ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقاً إذا كذب واستمر عليه، فجاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي، قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه فحذف حرف الجر فاتصل الضمير، وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع يقال: جاءت الإبل تلق أي تسرع قال: لما رأوا جيشاً عليهم قد طرق ... جاؤوا بأسراب من الشأم ولق إن الحصين زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشأم تلق يقال: رجل زلق وزملق مثال: هدبد وزمالق وزملق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، قال الراجز: إن الحصين زلق وزمّلق. والولق: أيضاً أخف الطعن، وقد ولقه يلقه ولقاً، يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات فهو مشترك.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم} [(15) سورة النور] مبالغة وإلزام وتأكيد والضمير في {وَتَحْسَبُونَهُ} [(15) سورة النور] عائد على الحديث، والخوض فيه والإذاعة له، و {هَيِّنًا} أي: شيئاً يسيراً، لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} في الوزر {عظيم}، وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) أي بالنسبة إليكم. الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(18) سورة النور]. عتاب لجميع المؤمنين، أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه، ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام، وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه، وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. لما حذر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الغيبة، قيل له عليه الصلاة والسلام: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) فالبهتان -نسأل الله السلامة والعافية- أعظم مع أن الغيبة محرمة. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة و {أن} مفعول من أجله بتقدير: كراهية أن أو خشية أن ونحوه. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [(17) سورة النور] توقيف وتوكيد كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلاً. يعني من باب الإغراء.

السادسة عشرة: قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [(17) سورة النور] يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لما في ذلك من أذاية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرضه وأهله، وذلك كفر من فاعله ... الطالب: أذاية يا شيخ! إيه أذاية – المقصود بها الأذى-، نعم. السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكرٍ وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [(17) سورة النور] فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل، قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سبّ عائشة -رضي الله عنها- أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) حقيقة، قلنا: ليس كما زعمتم، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى، فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر، ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب .. بغير ما اتهمت به من الإفك، يعني سبها لأمرٍ آخر، لرأيٍ رأته أو لتصرفٍ تصرفته، مثل هذا يؤدب، لكن ليس مثل ما لو قذفها مما نزل الله ببراءتها منه –نسأل الله السلامة والعافية-.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [(19) سورة النور] أي: تفشو، يقال: شاع الشيء شيوعاً وشيعاً وشيعاناً وشيعوعة: أي ظهر وتفرق {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [(19) سورة النور] أي في المحصنين والمحصنات، والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان -رضي الله عنهما- والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح، وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيء {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي الحد، وفي الآخرة عذاب النار، أي للمنافقين فهو مخصوص، وقد بيّنا أن الحد للمؤمنين كفارة، وقال الطبري: معناه إن مات مصراً غير تائب ..

في قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أولاً: اللفظ على عمومه، واسم الموصول من صيغ العموم، فالذين يحبون أن تشيع الفاحشة بمعنى أنها تكثر وتنتشر، فييسرون أسبابها، ويسهلون سبلها، سب الفاحشة، يعني يرغبون أن تكون الفاحشة في كل بلد، وفي لك حي، تيسيراً لأهلها، لأهلها من الأشرار، هؤلاء لهم العذاب الذي يترب على هذا الأمر، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة –نسأل الله السلامة والعافية-، لأن من يرضى ويحب ما يكرهه الله هذا على خطر عظيم –نسأل الله السلامة– لأنها محادة ومعاندة، فالذي يحب أن تشيع الفاحشة وتكثر، هذه الفاحشة وغيرها من المنكرات مثل هذا متوعد بهذا العذاب العظيم، وليس المراد بذلك إشاعة الخبر، المراد بذلك إشاعة الفاحشة نفسها، إشاعة الفعل، أما إشاعة خبر الفاحشة وما ترتب عليها من حد من أجل قمع من يرتكبها فهذا مطلوب، {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] هذا لا بد أن يشيع وينتشر في الناس لكي يرتدعوا، وإلا لما شرع حضور هذه الطائفة، ولما كانت إقامة الحدود معلنة، لكانت إقامة الحدود في بيوت أو في أماكن لا يحضرها الناس، لكن الحدود إنما تقام في البلدان حيث مجتمعات الناس، وقد أمر بشهودها، من أجل أن يشع الخبر فيرتدع من تسول له نفسه ارتكاب هذه الفاحشة، وأما بالنسبة للمراد بالآية، يحبون أن تشيع الفاحشة معناها أن تكثر، وذلك بتيسير سبلها والتسهيل على أهلها، ولا شك أن الستر مطلق على أهل الفواحش، وعدم إقامة الحدود عليهم من إشاعة الفاحشة، لأن هذا ييسر لهم، ويسهل لهم ارتكاب الفاحشة إذا أمنوا العقوبة. طالب. . . . . . . . . الشيخ: القول القبيح والفعل القبيح، كل شيء محرم لا يجوز تسهيله وتيسيره وإشاعته بين الناس، لا يجوز هذا بحال. طالب. . . . . . . . . المقصود إذا كان يحب أن تنتشر هذه الفواحش وتكثر في أحياء المسلمين وفي مجتمعاتهم داخل في الآية. طالب. . . . . . . . . أصل الصور القبيحة الفاحشة، الفحش، الذنب الكبير الذي يفحش ويعظم، وهذا لا شك أنه وسيلة وتوطئه للفاحشة، فالوسائل لها أحكام الغايات.

طالب: لكن من ينشرها هل يعد محباً لها أم هم قائم بنشرها؟ يعني هو الذي أشاع الفاحشة؟ هو الذي أشاع الفاحشة. طالب: فوق المحبة؟ نعم، هو يحبها ولو المحبة لما نشرها –نسأل الله السلامة والعافية-. طالب: يعني يكون يا شيخ إثمه أعظم؟ بلا شك، لأن الذي يحب أن تشيع قد يكون في بعض الصور أعظم ممن يفعل الفاحشة، لأن محبة إشاعة الفاحشة يعني أنها يحب أن يحصل هذا المنكر على نطاق واسع، لكن لو فعل مرة أو مرات بنفسه، واستتر بذلك أسهل ممن يحب أن تشيع وينتشر في المجتمع، لأن العذاب المعجل إنما يرتب على المعاصي والجرائم الكبيرة التي لا تجد من ينكرها، وإذا كثرت هذه الفواحش وشاعت بين الناس صعب إنكارها، وصارت بما عمت به البلوى، كما هو حال كثير من البلدان التي تنتسب إلى الإسلام، وقبل ذلك إشاعة الأسباب والوسائل التي من أجلها ترتكب هذه الفواحش. طالب: المحبة عمل قلبي، فلو شخص فتح الجوال، وشاهد مثل هذه الصور المحرمة، وضحك لذلك وسرّ بذلك، هل يدخل في الوعيد؟ هو حرص على أن يرسل إليه مثل هذه الصور، أو حرص على أن يشتري الصحف والمجلات التي فيها هذه الصور، لا شك أن مثل هذا محب لهذا العمل الذي هو وسيلة للفاحشة. طالب .... إذا جاء ما يدل عليه، يعني إذا عورض العموم، أو جاء ما يدل على أنه مراد به الخصوص مثل قول الله -جل وعلا-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [(173) سورة آل عمران] هل المراد بقوله: {الناس} جميع الناس، الذين قال لهم الناس يعني جميع الناس جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقالوا له عليه الصلاة والسلام: إن جميع الناس قد جمعوا لكم؟ لا، الذي قال لهم الناس شخص واحد اسمه: نعيم بن مسعود، إن الناس هم أهل الأحزاب الذين تجمعوا لحربه عليه الصلاة والسلام. طالب: توجيه لمن يذكر بعض قصص الفواحش بالتفصيل، محاضرات وخطب.

والله هذه الأمور بمقاصدها، لكن ينبغي أن يحترز من شيءٍ واحد؟ وهو أن هذا التفصيل قد يفيد بعض الناس أن يصيدوا بمثل هذه الظروف فيرتكبوا مثل هذه الظروف والملابسات التي احتفت بهذه القضية ليصلوا إلى ما وصل إليه صاحب القضية؛ لأن بعض الناس ينشر وسائل تسهل للناس ارتكاب الجرائم، وجاء في بعض المسلسلات، وجاء في بعض التمثيليات تسهيل لبعض الجرائم كالسرقة والاغتصاب وغيره بذكر وسائل من طريق أناس محترفين فتجد الشباب والصبيان يقلدونهم ليصلوا ما وصلوا إليه، فهذا لا شك أنه تسهيل لأمر الفاحشة شاء أم أبى. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [(19) سورة النور] أي: يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء. {وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأيما رجل قال بشفاعته دون حدّ من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا، ً وأقدم على سخطه، وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها بريء، يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار -ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. مخرج؟ طالب: ضعيف، أخرجه الطبراني كما في المجمع من حديث أبي الدرداء، وقال حيث فيه من لم أعرفه -يعني في مجال-. نفس الشيء؟ نعم.

الموفية عشرين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [(21) سورة النور] يعني مسالكه ومذاهبه، المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان وواحد الخطوات خطوة، وهو ما بين القدمين، والخطوة (بالفتح) المصدر يقال: خطوت خطوةً، وجمعها خطوات، وتخطّى إلينا فلان، ومنه الحديث: أنه رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وقرأ الجمهور {خطوات} بضم الطاء وسكنها عاصم والأعمش، وقرأ الجمهور {ما زكا} بتخفيف الكاف، أي: ما اهتدى، ولا أسلم، ولا عرف رشداً، وقيل: {ما زكا} أي ما صلح يقال: زكا يزكو زكاء، أي صلح وشددها الحسن وأبو حيوة: أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم، وقال الكسائي:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معترض وقوله: {مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [(21) سورة النور] جواب لقوله أولاً وثانياً {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.

خطوات الشيطان، الشيطان يعرف أنه لو بدأ بالغاية ما ووفق، ما وافقه من ينتسب إلى الإسلام، لأن لو قال للإنسان: اكفر قال: ما أكفر، لكن يبدأ به خطوات، يبدأ به بالمكروهات والشبهات، ثم لا يلبث أن يتجاوز به إلى المحرمات، ثم المحرمات تهون عليه وتسهل فلا يكون هناك سد يحول بينه وبين الكفر، لأنه إذا تساهل بالمحرمات تساهل بما فوقها من الكبائر والموبقات، ثم إذا هانت عليه هذه ما صار بينه وبين الشرك والكفر حاجز معين سياج يمنعه من اقتحامه يسهل عليه ارتكابه، وهذا أمر مشاهد أن من يتساهل في أول الأمر لا ينتهي إلى حد، فخطوات الشيطان يبدأ بأدنى الوسائل، يقول مثلاً: النساء الآن قلت: الأعمال عندهن في بيوتهن، وكل امرأة عندها خادمة ولا تستطيع أن تصنع شاهي، فهي دائماً جالسة، ولذلك ركبتها الشحوم، وتوالت عليها الأمراض، وهددت بالأخطار، لا بد لها من رياضة، تقول: افعلي رياضة في البيت، المسألة مسألة كسل متراكم ما تعان على أن تزاول الحركة في البيت، لو كانت تتحرك لاشتغلت في أعمالها الأصلية، لكن لا تتحرك، لا بد أن تلزم، وفي البيوت ما يستطيع أحد أن يلزم، ما لها إلا في المجامع العامة وفي المدارس بحيث يوضع لها درجات تلتزم بها، هذه خطوة من خطوات الشيطان، الخطوة الأولى يقول تحتشم، احتمال في أول الأمر أن يقول: تلعب، تزاول الرياضة بعباءتها، ما المانع؟ وفي محيط نساء، وقد يقال في أول الأمر في الفصل نفسه لا في الفناء، ثم بعد ذلك يقال الفصل غير مناسب، كراسي وطاولات ومدري إيش؟ اخرجن في الأسياب أوسع شوي، ثم الخطوة التي تليها في الفناء، ثم بعد ذلك هذا اللباس، هي في محيط نساء، وهذه الألبسة تعيقها أن تزاول ما تريد بحرية، ثم بعد ذلك يقضي عليها من حيث لا تشعر، ثم تقع في الغايات، مثل ما وقع من وقع في البلدان المجاورة، يعني أعظم درس نستفيده ما وقع فيه جيراننا من المسلمين وغيرهم، يعني المسألة خطوات لو تتبعنا تاريخ هذه الفواحش التي انتشرت في البلدان الإسلامية، لوجدناها إتباعاً لخطوات الشيطان، هي تخطيط خبيث مغرض من شياطين الإنس يوحي إليه شياطين الجن بهذه الخطوات ويطبق وينفذ وينظر والناس يتبعونه كالأغنام، يأتي بمبرر مقبول ثم

الخطوة الأولى تسهل على الناس ثم الثانية ثم الثالثة، كنا نتساءل عن هؤلاء اللواتي يزاولن بعض الأعمال التي لا تخطر على عقل، بنت من بيت مسلم محافظ تخرج شبه عارية تغني بين الناس في الملأ، كنا نسأل الوافدين من تلك البلدان، هل لهؤلاء البنات آباء؟ يعني هل هن من أسر، من أبٍ وأمٍ مسلمين؟ وإلا من لا أنساب لهم؟ ولا أحد يغار عليهم؟ قال: لا هؤلاء من الأسر الكبيرة، لأنهم يعدون هذا تطور وتقدم، هذه خطوات الشيطان، يملي عليهم شيئاً فشيئاً .. الخ إلى أن يكون هذا هو القدوة، يكون هذا قدوة في المجتمع، ولذلك تجدون أرذال الناس تجدونهم القدوات الآن، والدعايات بأسمائهم، وصورهم يكتسب من وراءها الملايين وهكذا، وهم أرذال الناس وأسافلهم، لكنها خطوات الشيطان، يعني تساهلنا في الخطوة الأولى، الخطوة الثانية أختي أختي تليها بلا محالة، ثم الثالثة إلى أن نجد أنفسنا في وحل، لا نستطيع الخروج منه، وعلى هذا على من ولاه الله الأمر وبيده حل وعقد لا يجوز له أن يجيز الخطوة الأولى مهما كانت الظروف يعني تموت المرأة في بيتها من الأمراض ولا ترتكب ما حرم الله عليها، فإن ما عند الله لا ينال بسخطه؟ ترجون العافية من الله -جل وعلا-، فكيف تطلب بما يسخط الله -جل وعلا-، ولم يجعل الله -جل وعلا- شفاء أمتي كما في الحديث فيما حرم عليها. فهذه صورة لخطوات الشيطان، من اتبع خطوات الشيطان، اتبع الخطوة الأولى لا بد أن يقع في الثانية، لأن المبررات موجودة، مرصودة من الأصل، ومضبوطة ومتقنة إلى أن تخرج إلى الشارع عريانة، لكنها تدرج في المجتمع، لأن المجتمع ما يقبل مثل هذا في أول الأمر، فخطوات الشيطان التي يمليها على أوليائه ينتظرون بها الفرص المناسبة، نسأل الله السلامة والعافية. طالب .... لا بد من النصيحة، لا بد من التحذير، لا بد من النكير.

الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [(22) سورة النور] الآية، المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه- ومسطح بن أثاثة، وذلك أنه كان ابن بنت خالته، وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف وقيل: اسمه عوف ومسطح لقب، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإفك، وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبداً، فجاء مسطح فاعتذر، وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع، ولا أقول، فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومرّ على يمينه، فنزلت الآية .. يعني مضى عليه لأن أبا بكر أقسم وحلف ألا ينفق على مسطح، وهذا إجراء طبيعي بالنسبة لعموم الناس، يعني وقعت منه هذه الزلة العظيمة، وهي مسألة ما هي مسألة مال أو حتى مسألة دم، لا هذه مسألة عرض، لا بد أن يتخذ موقف ينتصر فيه لنفسه، ولابنته التي رميت بما رميت به، لكن ما جاء في القرآن أعظم من ذلك، يعني ذاك باب وأخذ نصيبه وحد عليه وأما مسألة النفقة التي تتعلق بك أنت وفضلك والثواب المترتب عليها بالنسبة لك لا ينقطع. وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعةً من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم، والأول أصح، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.

روى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [(11) سورة النور] العشر آيات، قال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره-: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً، بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [(22) سورة النور] قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبداً. الثانية والعشرون: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحاً بعد قوله بالهجرة والإيمان .. فدل على أن أمر الهجرة والإيمان قائم، ما حبط بمجرد القذف. وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [(65) سورة الزمر] .. على خلافٍ بين أهل العلم أن حبوط الأعمال هو بمجرد الشرك أو بالموت عليه، يظهر هذا فيمن حج ثم حصل منه ما يحكم بردته من أجله ثم رجع وتاب وأناب هل يحبط ويبطل الحج الذي حجه؟ فيلزمه إعادته؟ أو نقول: أنه ما مات على الشرك فيموت وهو كافر؟ بهذا القيد والأكثر على هذا. طالب .. صلاة العصر؟ حبط عمله! لكن مع ذلك هذا مجرد تغليظ، هذا تغليظ، لأن الكلام والخلاف في الشرك، هل يحبط عمل من مات على الإسلام، بمعنى أنه أشرك وارتد ثم عاد إلى الإسلام هل يحبط عمله السابق أو لا يحبط أو حبوط مشروط بموته على الكفر؟. طالب: في قوله يا شيخ: لا يحبط الأعمال إلا الشرك. صحيح: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. الطالب: لكن ورد حديث بحبوط العمل؟ لكن من ورد بالحبوط، الحبوط حبوط نسبي. الطالب: .. الصلاة مثلاً، أجر الصلوات السابقة، كيف يوجه الحديث؟

على كل حال: المسألة متفاوتة، الصلاة دون الشرك، ومع ذلك هو كفر، وشرك في الوقت نفسه، لكن شرك مختلف فيه هل هو مخرج أو غير مخرج؟ بينما الشرك، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فهو أعظم من الصلاة من هذه الحيثية، وإن كان يدخل فيه الشرك الأصغر على قول، فالمسألة تحتاج إلى بسط. الثالثة والعشرون: من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفّر عن يمينه أو كفر عن يمينه وأتاه، كما تقدم في المائدة، ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوباً وأبّد ذلك أنها جرحة في شهادته. لأنه حلف أن لا يفعل السنة، ومن داوم على تركها فهو رجل سوء. ذكره الباجي في المنتقى. الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [(22) سورة النور] {وَلَا يَأْتَلِ} معناه: يحلف وزنها يفتعل من الألية، وهي اليمين، ومنه قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [(226) سورة البقرة] وقد تقدم في البقرة. وقالت فرقة: معناه يقصر .. ومنه الإيلاء المعروف، الإيلاء أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر فأكثر. من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [(118) سورة آل عمران]. الخامسة والعشرون: قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [(22) سورة النور] تمثيل وحجة: أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم، فكذلك اغفروا لمن دونكم وينظر إلى هذا المعنى قوله -عليه السلام-: ((من لا يرحم لا يرحم)).

السادسةُ والعشرون: قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ، وقيل: أرجى آية في كتاب الله -عز وجل- قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [(47) سورة الأحزاب] وقد قال تعالى في آية أخرى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [(22) سورة الشورى] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك، ومن آيات الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [(53) سورة الزمر] وقوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [(19) سورة الشورى] وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله -عز وجل-: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [(5) سورة الضحى] وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. السابعة والعشرون: قوله تعالى: {أَن يُؤْتُوا} [(22) سورة النور] أي لا يؤتوا فحذف {لا} كقول القائل: فقلت يمين الله أبرح قاعدا. ذكره الزجاج، وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا} {وَلْيَعْفُوا} من عفا الربع أي درس، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع. يكفي بارك الله فيك. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة النور - تكملة مسائل القذف وآداب الاستئذان

تفسير القرطبي تفسير سورة النور تكملة مسائل القذف وآداب الاستئذان الشيخ / عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [(23) سورة النور]. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {الْمُحْصَنَاتِ} تقدم في النساء، وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياساً واستدلالاً. فمن قذف رجلاً كان كمن قذف امرأة، والتنصيص على المرأة في هذا الباب أكثر من التنصيص على الرجل؛ لأن العار اللاحق بها وبأهلها أشد، ولأن التطاول على المرأة أسهل من التطاول على الرجل، فتجد الإنسان القاذف سهل عليه أن يقذف امرأة لأنه لا يراه ولا تراها، بينما الرجل لا يتطاول عليه بهذه السهولة، وإلا فالحكم واحد. وقد بيناه أول السورة -والحمد لله- واختلف فيمن المراد بهذه الآية، فقال سعيد بن جبير: هي في رماة عائشة -رضوان الله عليها- خاصة، وقال قوم: هي في عائشة وسائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما، ولا تنفع التوبة ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة؛ لأنه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(4) سورة النور] إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة قاله الضحاك، وقيل: هذا الوعيد لمن أصرّ على القذف ولم يتب، وقيل: نزلت في عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة، وقيل: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكرٍ وأنثى، ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات فدخل في هذا المذكر والمؤنث، واختاره النحاس وقيل: نزلت في مشركي مكة؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر ..

المحصنات الأصل فيه أنه عام في عائشة وفي غيرها، في أمهات المؤمنين وفي غيرهن، فمن قذف المحصنة استحق هذا الوعيد الشديد –نسأل الله السلامة والعافية– إلا إذا أقيم عليه الحد، وسقط بذلك حق المخلوق، وتاب إلى الله -جل وعلا- فالله يقبل التوبة، والتوبة تهدم ما كان قبلها. الثانية: {إلُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [(23) سورة النور] قال العلماء: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة: الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم، وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين .. جاء لعن بعض العصاة، لعن الله السارق، فالعنوهن، يعني المتبرجات، وقذف المحصنات ليس بأسهل من هذا، فهو مستحق للعن -نسأل الله السلامة والعافية-. وعلى قول من قال: هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبي وأشباهه .. كل هذا لأنه يرى أن المسلم لا ينطبق عليه هذا الوعيد، ولا يستحق كل هذا الوعيد، لكن ما المانع أن يستحق؟ لأنه حُذر وأنذر من القذف، ورتب عليه حد في الدنيا، ولعن في الآخرة ما المانع؟ لأن القذف والرمي بالفاحشة أمر ليس بالسهل، هذا متحقق في القذفة، لكن إذا أقيم الحد هذا في مسألة ما إذا لم يقم الحد عليه ولم يتب منه، فإذا أقيم عليه حد سقط حق المخلوق، والحدود كفارات، وإذا تاب تاب الله عليه، والتوبة تهدم ما كان قبلها إذا كانت بشروطها. وعلى قول من قال: نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، ومن أسلم فالإسلام يجبّ ما قبله، وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية أنه عام لجميع الناس القذفة من ذكرٍ وأنثى، ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يُرمون، إلا أنه غلب المذكر على المؤنث. ولذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} ما قال: إن الذين يرمين، فجانب الرمي القاذف غلب المذكر، وفي جانب المقذوف غلب المؤنث، وإلا فالحكم يعمّ هذا وهذا، في الجزئين.

قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [(24) سورة النور] قراءة العامة بالياء، واختاره أبو حاتم، وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف {يشهد} بالياء، واختاره أبو عبيد لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل. نعم، إذا وجد فاصل بين الفعل والفاعل للمؤنث جاز التذكير والتأنيث للفعل، إذا وجد الفاصل جاز التذكير والتأنيث، مع أن الألسن جمع تكسير يجوز تذكيره وتأنيثه، مثل الرجال، وجاء الرجال، وجاءت الرجال، ولو لم يوجد فاصل فلا مانع من تأنيث الفعل، وإن كان جمع تكسير؛ لأنه إن أريد به الجمع ذُكّر، وإن أريد به الجماعة أنث، فيجوز على حدٍ سواء. والمعنى: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض، بما كانوا يعملون من القذف والبهتان، وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به .. نعم، ألسنتهم يعني ألسنة القذفة، لا شهادة ألسنة غيرهم عليهم كما قدمه هو هنا، قال: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض، لكن في يوم القيامة لا مانع من أن يشهد على نفسه، لأنها تشهد عليه جوارحه، ومن ذلك ألسنتهم. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم} [(24) سورة النور] أي: وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [(25) سورة النور] أي حسابهم وجزاؤهم، وقرأ مجاهد: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ} برفع {الحق} على أنه نعت لله -عز وجل-، قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع؛ ليكون نعتاً لله -عز وجل-، وتكون موافقة لقراءة أبي .. لا وجه للترجيح هنا؛ لأن الله -جل وعلا- كما يوصف بأنه الحق كذلك يوصف الدين بأنه الحق، يوصف الدين والجزاء من الله -جل وعلا- على أنه حق. وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبي: يوفيهم الله الحق دينهم. قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضاً فيه؛ لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبي كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذٍ يوفيهم الله الحق دينهم.

يعني ما يمنع أن يكون (الحق) منصوب على القراءتين. يكون {دينهم} بدلاً من الحق، وعلى قراءة العامة {دينهم الحق} يكون {الحق} نعتاً لدينهم، والمعنى حسن؛ لأن الله -عز وجل- ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق، كما قال الله -عز وجل-: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [(17) سورة سبأ] لأن مجازاة الله -عز وجل- للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل .. فهو حق وزيادة، فالحق موجود للمحسن والمسيء، المسيء بالعدل، والمحسن بالفضل، والحق موجود في الطرفين. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [(25) سورة النور] اسمان من أسمائه -سبحانه وتعالى-، وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى. يعني في شرح الأسماء الحسنى للمؤلف، للمفسر. قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [(26) سورة النور]، قال ابن زيد: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ظاهر السياق في الآيات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. وهذا يؤيده مجيء هذه الآية بعد القذف، والقذف كلام خبيث، لا يناسب إلا الخبيثين من الرجال، من الناس، وكذلك الكلام الطيب يناسب الطيبين من الرجال.

قال النحاس في كتاب معاني القرآن: وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية، ودل على صحة هذا القول: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [(26) سورة النور] أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات، وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [(3) سورة النور] الآية .. فالخبيثات الزواني والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات، واختار هذا القول النحاس أيضاً، وهو معنى قول ابن زيد {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [(26) سورة النور] يعني به الجنس، وقيل: عائشة وصفوان فجمع كما قال: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [(11) سورة النساء] والمراد: أخوان .. وهذا جاري على مذهب ابن عباس فيمن يقول بقوله: إن أقل الجمع اثنين. قاله الفراء، و {مبرؤون} يعني منزهين مما رموا به، قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف -عليه السلام- لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى -صلوات الله عليه-، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل -عليه السلام- بصورتي في راحته حين أُمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. نعم، رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم في سرقة من حرير، وقيل له: هذه امرأتك، بصورة عائشة -رضي الله عنها-، أما كونها نزلت في راحة جبريل هذا يحتاج إلى نقل، وأما الحديث الصحيح هو ما ذكرنا.

حين أُمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري، ولقد توفي -صلى الله عليه وسلم- وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة ببيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً، تعني قوله تعالى: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [(26) سورة النور] وهو الجنة. مخرج؟ طالب: نعم. ماذا يقول؟ طالب: قال: صحيح، إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، ومن وجه آخر أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن صفوان عن عائشة، وصححه ووافقه الذهبي، وليس فيه: "وهو في أهله فينصرفون عنه" فهذا منكر، تفرد به ابن زيد، وله طرق أخرى راجعة له. يعني جمله، لكل جملة منها ما يشهد لها، اللهم إلا ما تفرد به علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف عند أهل العلم. طالب:. . . . . . . . . هذا زجر وردع وتنفير لا بد من التوبة من الطرفين. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [(27) سورة النور]. فيه سبع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا} [(27) سورة النور] لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج، أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم، لئلا يطلع أحد منهم على عورة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقئوا عينه)) وقد اختلف في تأويله، فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} [(126) سورة النحل].

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} يعني من اطلع على المنزل يطلع على منزله؟ هذا مقتضى هذا القول، أن من اطلع على منزل أحد يطلع على منزله؟ هذا شرعي وإلا ما هو شرعي؟ ليس بشرعي، وإنما المراد بحقيقة ما أراده النبي -عليه الصلاة والسلام- على ما سيأتي، نعم. ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد، لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفاً لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم بالكلام في الظاهر، وهو يريد شيئاً آخر، كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: قم فاقطع لسانه، وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئاً، ولم يرد به القطع في الحقيقة، وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين، والمراد أن يعمل به عملاً، حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره، وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص، وهو الصحيح -إن شاء الله تعالى- لحديث أنس على ما يأتي. وهو مقتضى الحديث. الثانية: سبب نزول هذه الآية، ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت الآية، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [(29) سورة النور]. الشيخ: مخرج؟ الطالب: قال: ضعيف أخرجه الطبري والواحدي من حديث عدي بن ثابت، وهو ضعيف، لضعف أشعث بن سواق، وهو عند الطبري دون آخره، وعند الواحدي قال: قال المفسرون: فلما نزلت قال. . . . . . . . . .

أحياناً يكون الولد أو البنت في مكانٍ مستقل من البيت، في غرفة يغلقون على أنفسهم، فمثل هؤلاء الاطلاع على ما يعملون، أما كونه في البيت ويستأذن عليهم على ما كان عليه الناس قبل وجود هذه المحدثات وهذه المنكرات، وهذه الأمور التي تجر إلى الفجور، فماذا عن طفل في العاشرة أو في الحادية عشرة أو الثانية عشرة يناهز البلوغ وعنده شيء في غرفته، ويقفل على نفسه؟ مثل هذا يطلع عليه أو ما يطلع عليه؟ أو ينتظر حتى يخرج ويفتش المكان؟ المقصود أنه لا بد من محاسبته، ولا يترك له المجال، يخلو بنفسه بما شاء من مخالفات –نسأل الله العافية-. طالب:. . . . . . . . . قد يقع ما يكره. . . . . . . . . لا بد من وقوعهم على ما يكره إذا أراد التغيير، أما كونه يطلع عليه وهو على حالٍ لا يرضاها لا الأب ولا الابن مما اشتمل عليه خلقته، تفترض أنه ينام بثيابٍ ليست ساترة، فمثل هذا يترك حتى ينتبه ويستيقظ، يطرق عليه الباب ويستأذن ويفتش المكان. لكن أحياناً قد يكون في المكان أمور تفوت، إذا شك الأب في أولاده مثلاً أنهم يستعملون أشياء من هذه الفواحش، ثم إذا استأذن عليهم تمكنوا من الفراغ منها أو من وضعها في مكان لا يطلع عليه من الغرفة مثل هذا لا مانع أن يباغتوا في بعض الأوقات، لأن ارتكاب أخف الضررين مطلوب، فإذا ترك لهم المجال استفحل الأمر، وما وجد كثير من المنكرات واستمر عليها أربابها وأصحابها من الشباب والشابات في بيوت المسلمين نعم هو شيء قليل ويسير لا يعني أنه ظاهرة، لكن وجد من يخلو بأخته مدة عشر سنين بدون علم الأب والأم، مثل هذا لو جرى التفتيش عليهم ومحاسبتهم ما استمر الأمر، فمثل هذا لا بد من القضاء عليه. الثالثة: مدّ الله -سبحانه وتعالى- التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس وهو الاستئذان، قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى -والله أعلم- الاستئذان، وكذا في قراءة أبي وابن عباس وسعيد بن جبير: حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها، وقيل: إن معنى {تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا أي تستعلموا من في البيت، قال مجاهد: بالتنحنح أو بأي وجهٍ أمكن ..

أما الاستئناس فله دلالة غير دلالة الاستئذان، والترتيب في الاستئذان يدل على أنه غيره؛ لأن الاستئذان يحصل بقولك حتى تسلموا، الاستئناس قبل السلام، حتى تستأنسوا وتسلموا، وأما الاستئذان فهو بعد السلام، السلام عليكم، أأدخل؟ هذا الاستئذان، وأما الاستئناس فهو شيء قبله، قد يكون للاستعلام، هل في البيت أحد؟ أو هل فيه من يرغب الجلوس معك أو من لا يرغب؟ هل فيه من تكره أو من لا تكره؟ لأن بعض الناس إذا صار بينه وبين أحدٍ شيء في نفسه لا يطيق الجلوس معه، وهذا يزول بالاستئناس، بأن يستعلم في أول الأمر ثم يسلم ويستأذن، أما إذا دخل وفي المكان من لا يريد الجلوس معه، واضطر إلى أن يخرج، هذا أو هذا، هذا أمر ليس بالحسن، بل هو أمر مكروه في الشريعة، الشريعة جاءت بما يدل على الألفة والتحاب، وأنه لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا، وهذا فيه النفرة الشديدة –نسأل الله العافية– وقد يكون الإنسان في نفسه على آخر شيء، لكن ما يبدي له شيء في وجهه مما يكره، النبي -عليه الصلاة والسلام- ما واجه أحداً بسوء، قد يكون في النفس شيء، لكن لا يعني هذا أنه إذا كان في نفسه شيء يبديه في المحافل وفي المجالس ويبديه أمام صاحبه، يكتمه، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [(134) سورة آل عمران] لا بد من هذا، فالاستئناس للاستعلام بوجود مثل هذا، ويدل له المآل، يدل لهذا الاستظهار المآل، وهو أنه لا يحصل الأنس قبل هذا الاستئناس، فيحصل أنه إذا دخل من غير استئناس، ومن غير استئذان أنه لا يحصل الأنس، بل يحصل الضيق والحرج وثقل المجلس. ويتأنّى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك، وقال معناه الطبري، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا} [(6) سورة النساء] أي علمتم، وقال الشاعر: آنست نبأة وأفزعها القنـ ... ـاص عصراً وقد دنا الإمساءُ قلت: وفي سنن ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قلنا: يا رسول الله، هذا السلام فما الاستئناس؟ قال: ((يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح، ويُؤذِن أهل البيت)) طالب: في نسخة (فما الاستئذان) فما الاستئناس؟

طالب: قال يا رسول الله هذا السلام فما الاستئذان؟ إيه، هذا موجود في بعض النسخ، موجود في نسختين. طالب: لأنه موجود حتى في طبعة ابن ماجة؟ فما الاستئذان؟ طالب: قال -هنا يا شيخ نقلته من حاشية مشهور- قال: في أصل السند طبعة الألباني وعبد الباقي الاستئذان، قال مشهور: وهو خطأ صححته من مصنف أبي شيبة الذي رواه المؤلف عنه، ومن مصادر أخرى شاركه في روايته عنه، وكذلك ذكره المزي في التحفة، برواية المؤلف كما حققته في المصدر المذكور. فما الاستئناس؟ طالب: صحح (الاستئناس) قال: الاستئذان خطأ. إيه، لأنه هو الذي مذكور في الآية، هو الذي يسأل عنه، أما الاستئذان ما يسأل عنه لأن كل أحدٍ يعرفه. الشيخ: وسنده؟ طالب: قال المحقق: ضعيف أخرجه ابن ماجة من حديث أبي أيوب قال البصيري في الزوائد: في إسناده أبو سورة منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب لا يتابع عليها، وفي التقريب ضعيف، وفي الميزان قال البخاري: عنده مناكير، وضعفه الألباني. قال: ((يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة)) ليعرف هذا الرجل، ويعرف من في المجلس أو في المكان أنه يريده وهو لا يريده، قد يكون صاحب البيت يريده، لكن بعض الجالسين لا يريده، فلا يحصل الأنس لا به ولا منه، فإذا عرف بصوته وأنه فلان، لكن لو قال: السلام عليكم أأدخل؟ قيل: نعم ودخل، الجلسة يضيق بها أهلها ذرعاً في بعض الحالات، بعض الناس لا يطاق. قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان كما قال مجاهد ومن وافقه. الرابعة: وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} خطأ أو وهم من الكاتب إنما هو حتى تستأذنوا، وهذا غير صحيح .. والوهم في الأصل تفتح الهاء، الوهَم، يسكنوها تخفيفاً.

عن ابن عباس وغيره، فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس، وقد قال -عز وجل-: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [(42) سورة فصلت] وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر] وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: حتى تسلموا على أهلها، وتستأنسوا، حكاه أبو حاتم، قال ابن عطية: ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تَسْتَأْنِسُوا} متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب، وقد قال عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: استأنس يا رسول الله، وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور، وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به -صلى الله عليه وسلم- فكيف يخطئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا. قلت: قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية على بابها، لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم، والله أعلم. الخامسة: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يُزاد عليها .. فيقول: السلام عليكم، فإن أجيب وإلا كرر، السلام عليكم، السلام عليكم، ثلاث مرات، ومنهم من يقول: أن السلام ثلاثاً، معناه أن يسلم عند الباب، يعني يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثم إذا دخل المحل سلم عليهم، ثم إذا أراد الانصراف سلم، فهذه ثلاث مرات، لكن هذه غير الظاهر من لفظ الخبر، لأن التكرار ثلاثاً قد لا يسمع صاحب البيت السلام من أول مرة، قد لا يسمعه في المرة الثانية، فيحتاج إلى ثالثة، فإذا سلم ثالثة ولم يؤذن له ينصرف، على ما في حديث أبي موسى وسيأتي. طالب: .... ما يجمع بين الاستئناس والسلام والاستئذان.

يجمع، ما في مانع أن يكون الإنسان يستأنس بمعنى أنه يستعلم من في البيت، هل يصلح لهم أو يصلحون له أو لا يصلح؟ يستأنس مثل هذا، بحيث تكون الزيارة يبتغى بها وجه الله -جل وعلا-، أما إذا كانت مجاملة ولا احتمال لأحدهم من بعض، فمثل هذا ما تحصل الآثار المترتبة من الزيارة، الزيارة من أجل الألفة بين المسلمين وهذه ضدها. طالب: الآن في الأجراس؟ كيف يكون الاستئذان؟ تدق مرة واحدة؟ الأجراس إذا ضغطه ثلاث مرات على أن لا يكون فيه إطراب، أما إذا كان فيه إطراب لا يجوز لك أن تستأذن به، أما إذا لم يكن فيه إطراب وفيه استعلام، فيه أيضاً الصوت الذي معه،. . . . . . . . . هذا إذا ضربته فما أجبت بحيث يغلب على ظنك أنهم لو كانوا في البيت أو أرادوا دخولك لسمعوا، لكن أحياناً يكون البيت بعيد، كما هو حال كثير من القصور، فمثل هذا لا بد من علمهم بك. قال ابن وهب قال مالك: الاستئذان ثلاث لا أحب أن يزيد أحد عليها إلا من علم أنه لم يسمع فلا أرى بأساً أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع، وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل .. مثل هذا الاستئذان، وعدم دخول البيت قبله، هل المراد به الباب الذي في السور أو الباب الذي على البيت نفسه يعني داخل البيت؟ إن كان باب السور يغلق فلا بد من الاستئذان، وإن كان لا يغلق، لأن بعض البيوت كبيرة جداً والأبواب التي في السور لا تغلق، وإذا استأذن من عندها لم يسمع، وجرت العادة بأن الناس يدخلون إلى الباب الداخلي فلا مانع حينئذٍ، إذا كان يفتح باستمرار. طالب: إذا كان على موعد هل يزيد على ثلاث؟ والله إذا غلب على ظنه أنه يسمع فلا، إذا غلب على ظنه أنه ما سمع، وهو على موعد يزيد لا مانع.

فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثاً، ثم ينصرف من بعد الثلاث، وإنما قلنا: إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها؛ لحديث أبي موسى الأشعري الذي استعمله مع عمر بن الخطاب، وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبي بن كعب، وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح، فإن فيه: فقال -يعني عمر- ما منعك أن تأتيَنا؟ فقلت: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)) وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان، فما رواه أبو داود عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لخادمه: ((اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان)) فقال له: قل: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل. وذكره الطبري وقال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمة له يقال لها: روضة: ((قولي لهذا يقول: السلام عليكم أدخل؟ )) الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوماً، فأتى فسطاطاً لامرأة من قريش، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة: ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، فقال لها: قولي: أُدخل، فقالت ذلك فدخل، فتوقف لما قالت: بسلام، لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك. ولأنها لا تملك السلام هي، يعني لما قال الله -جل وعلا-: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} [(46) سورة الحجر] يملك، لكن هل تملك أن يدخل بسلام؟ أعطته ما لا تملك، أمنته، وهي لا تملك، ولئلا يُتشبه بالقرآن، يتشبه الناس به، ولذلك بعض الناس يكتب على بابه {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} وبعض المساجد مكتوب عليها، لا ينبغي كل هذا.

نعم لو حصل عذر من الدخول في مثل هذه الصورة عند الباب رمضاء، حر شديد في الأرض، والباب مفتوح، أو يكون بحاجة إلى دورة، والدورة بجوار الباب، والباب مفتوح، ماذا يصنع؟ يدخل وإلا ما يدخل؟ الأصل ألا يدخل إلا باستئذان؛ لأن الضرر اللاحق به لا يرفع بضرر غيره، وقد حصل لشخص توفي -رحمة الله عليه- في بلد غير بلده، ولا يعرف أماكن قضاء الحاجة في هذا البلد فوجد باباً مفتوحاً، والدورة بجوار الباب، فتكلم يا محمد يا محمد، دخل وقضى حاجته وخرج، فإذا بالمرأة تقول: من الذي يريد محمد؟ قال: أنا وانتهيت، للضرورات أحياناً تحكم، لكن يبقى أن المسألة البيوت لها حرمتها. السادسة: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم- إنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثاً سمع وفهم، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثاً، وإذا كان الغالب هذا فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه .. مشغول، إنسان مشغول، مع الأسف أن كثير من الناس توسع في مثل هذا في الجانبين، تجد المستأذن يصر إلا أن يفتح له، والمستأذن عليه يعتذر بشغل وهو ليس بمشغول، وسببه إصرار الأول، يعني لو قيل له: انصرف وانصرف ولم يكن في نفسه شيء البتة، وهو أزكى له وأفضل لما احتاج الثاني أن يعتذر بعذر غير صحيح، يعني عادي ترفع السماعة تقول: مشغول، أو قولوا له: مشغول، وأحياناً يتعدى الأمر ذلك إلى الكذب، قولوا: غير موجود؛ لأن بعض الناس يصر إصرار يلجئ الآخرين إلى أن يفعلوا مثل هذا، فلا يكون سبباً لمثل هذا، وهذا ليس بمبرر إلى أن يرتكب الشخص الآخر المحرم. فينبغي للمستأذن أن ينصرف؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح، حتى ينقطع عما كان مشغولاً به، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلاً، فقال: ((لعلنا أعجلناك)) الحديث ... وروى عُقيل عن ابن شهاب قال: أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى سعد بن عبادة، فقال: ((السلام عليكم)) فلم يردوا ..

وهم يسمعون، لكن ما ردوا، والمسلم الرسول -عليه الصلاة والسلام-. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((السلام عليكم)) فلم يردوا، فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف، فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال: وعليكم السلام يا رسول الله، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله سمعنا، فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. لأن السلام دعاء، دعاء للمسلم عليه. فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع سعد حتى دخل بيته، قال ابن شهاب: فإنما أخذ التسليم ثلاثاً من قبل ذلك، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منزلنا فقال: ((السلام عليكم ورحمة الله)) قال: فرد سعد رداً خفياً، قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام، الحديث أخرجه أبو داود وليس فيه: "قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثاً من قبل ذلك" قال أبو داود: ورواه عمر بن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلاً، لم يذكرا قيس بن سعد. السابعة: روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الاستئذان ترك العمل به الناس، قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها، والله أعلم. روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، فيقول: ((السلام عليكم، السلام عليكم)) وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور .. كانت الأبواب في عهده -عليه الصلاة والسلام- تقرع بالأظافير –هكذا– بعض الناس إذا قرع الباب خلعه من شدة الضرب، يعمد إلى حجر أو شيء من هذا فيزعج الحي كله، هذا خلاف السنة، بعض الناس إذا ضرب الجرس يعلقه، ما رفع إصبعه عنه، كأن وراءه سبع –نسأل الله العافية- هذا خلاف الأدب الشرعي. طالب: الاتصال -يا شيخ- بالهاتف يكون ثلاث مرات قياساً على الاستئذان على البيوت؟ يعني كونه يتصل عليه أن يفتح؟ طالب: الاتصال على شخص.

تخليه يرن ثلاث مرات ثم تقطعه؟ طالب: نعم والله هذا الأصل، لكن جوال يعتريه ما يعتريه، أحياناً يصير ما هو قريب أو شيء من هذا. طالب: أحياناً ما يمديه يطلعه. لا يمكن هذا يصير عذر للذي يتصل ويقطعه، على شان يتصل الطرف الآخر، والأمور بمقاصدها. الثامنة: فإن كان الباب مردوداً فله أن يقف حيث شاء منه، ويستأذن، وإن شاء دق الباب، لما رواه أبو موسى الأشعري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في حائط بالمدينة على قف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إئذن له، وبشره بالجنة)) هكذا رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد فرووه جميعاً عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع عن أبي موسى وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك، وإسناده الأول أصح، والله أعلم. إيش قال عندك؟ الأخير، لأن الإشكال عن نافع بن عبد الحارث هذا. شوف التقريب يا أبا عبد الله. الثاني. طالب: حديث: كان في حائط بالمدينة؟ إيه معروف هو وما يليه، خرجه، وخرج الروايات الأخرى. الطالب: قال هذا صحيح أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى وله تتمة. أما الذي يليه قال: أخرجه البخاري في الأدب المفرد. . . . . . . . . إيش؟ تخريج على الأول. طالب: نافع بن عبد الحارث بن خالد الخزاعي صحابي فتحي الإشكال في اسم أبيه، أبوه ما هو صحابي، فلا يلزم تغييره. تغيير اسمه. التاسعة: وصفة الدق أن يكون خفيفاً بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كانت أبواب النبي -صلى الله عليه وسلم- تقرع بالأظافير، ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه. ذكره أيضاً الحاكم قبله في المعرفة، نعم. طالب: عبد المطلب يقال فيه مثلما قيل في أبي الحارث أنه ليس صحابي.

لا، هو الإشكال في صحابي اسمه عبد المطلب، وله رواية، ومن يقول بجواز التسمية بعبد المطلب قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- ما غير هذا، ولو كان ما يجوز التسمية بعبد المطلب لغيره، وإلا عبد المطلب الذي مات ولم يدخل في الإسلام، لأن الذي ما أسلم ما غير اسمه، لأنه ليس بأعظم من الشرك، أما إذا أسلم فيغير اسمه، أما بالنسبة لعبد المطلب الصحابي، فهذا الصواب في اسمه المطلب بدون عبد، وإن كانت اللجنة الدائمة أجازوا عبد المطلب بناءً عليه، وقبلهم ابن حزم. طالب: ابن حنتم هو؟ لا، شوف التقريب، الصواب اسمه المطلب. طالب:. . . . . . . . . ما ينظر. . . . . . . . . التسمية. . . . . . . . . النبي صلى الله عليه وسلم. . . . . . . . . ولو كان، التعبيد لغير الله -جل وعلا- لا يجوز في الإسلام، أما قبل ذلك، المشرك ما يغير اسمه، لأن عنده الشرك أعظم. العاشرة: روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: استأذنت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من هذا؟ )) فقلت: أنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا أنا! )) كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لأن قوله: أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه، كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأبو موسى .. يذكر اسمه الذي يتميز به، لا يكفي أن يقال من؟ يقول: محمد، ومتوقع أن يطرق في هذا الوقت أكثر من محمد، يذكر ما يتميز به. لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب، ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مشربة له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى السلام عليكم هذا الأشعري. الحديث .. لكن بعض الناس يدلس في مثل هذا، يغلب على ظنه أنه غير مرغوب لصاحب البيت ويريد أن يدخل، أو يكون غريم لصاحب البيت يطالبه بديون، ثم يسمي نفسه بغير ما اشتهر به، أو يصرح باسم كذب لا يمتّ له بصلة، فمثل هذا لا يجوز بحال.

الحادية عشرة: ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة، فدققت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أنا، فقال: يا هذا ما لي صديق يقال له: أنا، ثم خرج إلي فقال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاجة لي فطرقت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا! )) كأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره قولي هذا. أو قوله هذا .. لأن مثل هذا الضمير الذي يسنده إلى نفسه يشعر بشيءٍ من التعاظم، وأنه مثله لا يحتاج إلى تعريف أن يذكر باسمه، مجرد صوته معروف، فإذا قال: أنا خلاص ما يحتاج إلى أن يعرف، وبعض الناس يضيق ذرعاً إذا كلم بالتلفون يقول له: من أنت؟ هل مثلي يخفى؟ أو أنا بحاجة إلى تعريف؟ ويحمل في نفسه على من يقول: من؟ هذا ما فيه شيء، -احمد الله- على شأن تنزل منزلتك، وقد أمرنا أن ننزل الناس منازلهم. طالب:. . . . . . . . . لو ذكر اسمه. . . . . . . . . يوري مثلاً. إذا ورَّى والحاجة قائمة وليس فيه ظلم له ما فيه إشكال -إن شاء الله-. وذكر عن عمرَ بن شبة، قال: حدثنا محمد بن سلام عن أبيه، قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله، قال الخطيب: سمعت علي بن المحسن القاضي يحكى عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا؟ فقال الذي على الباب: أنا، يقول الشيخ: أنا همٌّ دقَّ. الثانية عشرة: ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، كما رواه أبو بكر الخطيب مسنداً عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة، فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أندر؟ هي فارسية. قالت: أندرون، وترجم عليه (باب الاستئذان بالفارسية) وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصبهان، نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي. وبذلك الآن بان لنا معنى الجملة الأولى (أندر) يعني: أأَدخل؟ و (أندرون) يعني: أُدخل، هذا الاستئذان وهذا الإذن.

الثالثة عشرة: روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلبن وجدايا وضغابيس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم، فقال: ((ارجع فقل: السلام عليكم)) وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية، وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له)) وذكر ابن جريج أخبرني عطاء .. أبو الزبير عن جابر تدليس شديد، إيش قال؟ طالب: قال: أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث جابر، وفي سنده مجهول، ونسبه في المجمع لأبي يعلى، وقال: فيه من لم أعرفهم، وله شواهد أنظر. . . . . . . . . وذكر ابن جريج قال: أخبرني عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال الرجل أدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا، حتى تأتي بالمفتاح، فقلت: السلام عليكم، قال: نعم هذا المفتاح، نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة: أما بعينك فقد دخلت! وما باستك فلم تدخل. همزة وصل ما تنطق. وأما باستك فلم تدخل .. بعض الناس يستأذن وهو في نصف الطريق، يعني مثلاً تجد طلاب في الفصل، طلاب في الفصل وعندهم مدرس، يأتي واحد من آخر الفصل ويقف، بل يخطو أحياناً خطوات ويستأذن من المدرس، أنت الآن خرجت بدون أذن، أو مجرد الوقوف هذا تصرف من غير إذن، فالمفترض أن يستأذن وهو جالس، فإن أذن له قام، وإلا فلا. الرابعة عشرة: ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رسول الرجل إلى الرجل إذنه)) أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول .. إذا قيل: قم يا فلان فادع فلاناً، وخرج فلان من البيت يريد أن يدع فلان من الجيران أو من أي مكان، والباب ما زال مفتوح، يدخلون، هذا إذن، الطلب هذا إذن. يبينه قوله -عليه السلام-: ((إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن)) أخرجه أبو داود أيضاً عن أبي هريرة .. طالب: إذا عمل وليمة وأرسل الدعوات، فهل يقف الإنسان المدعو بالباب، وينتظر الأذن، والباب مفتوح؟

الشيخ: هذا تقدم الإذن على الاستئذان، ما في إشكال -إن شاء الله- ما لم يخش –مثلاً- يوجد في الطريق أو شيء لا يحب أن يطلع عليه فيحتاط لهذا. الخامسة عشرة: فإن وقعت العين على العين، فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذناً لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه، تقول: أدخل؟ فإن أذن لك وإلا رجعت. السادسة عشرة: هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها .. يعني الزوجة، الزوجة لا إذن عليها، لأنها أسوأ احتمال أن تراها عريانة. إلا أنك تسلم إذا دخلت، قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليهم .. لكن لا يعني أن هذا الإنسان له أن يتجسس على زوجته، ويتخبأ لها، وينظر ماذا تصنع في الغفلات وغيبته؟ لا. فإن كان فيه معك أمك أو أختك، فقالوا: تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها .. يعني الزوجة. وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها، قال ابن القاسم قال مالك: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما، وقد روى عطاء بن يسار أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أستأذن على أمي؟ قال: ((نعم)) قال: إني أخدمها؟ قال: ((استأذن عليها)) فعاوده ثلاثاً، قال: ((أتحب أن تراها عريانة؟ )) قال: لا، قال: ((فاستأذن عليها)) ذكره الطبري. الشيخ: من خرجه؟ الطالب: قال ضعيف أخرجه الطبري بإثر حديث -وذكر الرقم-: عن عطاء بن يسار مرسلاً، وفيه مجهول، لكن أخرجه البيهقي بسندٍ جيد عن عطاء مرسلاً. يبقى ضعيف، ومعناه صحيح. السابعة عشرة: فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، فقال علماؤنا: يقول: السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات لله السلام. رواه ابن وهب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنده ضعيف .. ضعيف جداً. وقال قتادة: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه يؤمر بذلك .. يعني كما جاء في التشهد، يعني له أصل شرعي، نعم.

طالب: جاء حديث في البخاري في الأدب المفرد قال: (باب إذا دخل بيتاً غير مسكون) حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني معن قال: حدثني هشام بن سعد عن نافع أن عبد الله بن عمر قال: "إذا دخل البيت غير المسكون فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" قال الألباني حسن. الشيخ: له أصل، التسليم على النفس وعلى عباد الله الصالحين، هذا له أصل مع وجود الخبر الخاص. قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم، قال ابن العربي: والصحيح ترك السلام والاستئذان، والله أعلم. قلت: قول قتادة حسن. إذا لم يكن في البيت أحد يقول: الصحيح ترك السلام والاستئذان. طالب:. . . . . . . . . إيه هذا خلاف الحديث، خلاف الحديث الصحيح. قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [(28) سورة النور]. فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} الضمير في {تَجِدُوا فِيهَا} للبيوت التي هي بيوت الغير، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي: لم يكن لكم فيها متاع، وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هو في غاية الضعف، وكأن مجاهداً رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع، ورأى لفظة المتاع متاع البيت الذي هو البسط والثياب، وهذا كله ضعيف، والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث التقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا فإن أذن لكم فادخلوا، وإلا فارجعوا، كما فعل -عليه السلام- مع سعد، وأبو موسى مع عمر -رضي الله عنهما- فإن لم تجدوا فيها أحداً يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذناً، وأسند الطبري عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها، أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: ارجع، فارجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [(28) سورة النور].

نعم عمره كله يتمنى أن يقال له: ارجع، ليطلب هذا الزكاء والنماء المذكور، بعض الناس لا يحتمل هذه الكلمة (ارجع) يقول: طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها، أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط. الثانية: سواءً كان الباب مغلقاً أو مفتوحاً؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب، ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت، لا في إقباله ولا في انقلابه، فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال: من ملا عينيه من قاعة بيت فقد فسق، وروى الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِدرى يرجل به رأسه .. يعني مثل المشط إلا أن أسنانه اثنين أو ثلاثة ما هي كثيرة. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر)) وروي عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح)). الثالثة: إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير، وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم -رضي الله عنهم-. نعم الصبي يستأذن، ويأذن أيضاً، المميز يأذن في دخول البيت عند الشافعية والحنابلة، يملك الإذن في دخول البيت، ومنهم من يرى أنه لا يملك؛ لأنه لا يدرك مراد الداخل وحقيقة ما في نفس صاحب البيت، هل يريد أن يدخل أو لا يدخل؟ فليس له أن يأذن إلا إذا كان مدركاً، أما الصبي ولو كان مميزاً لا يأذن، وأما عند الشافعية والحنابلة يملك الإذن. وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم -رضي الله عنهم- وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة، إن شاء الله تعالى. الرابعة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [(28) سورة النور] توعد لأهل التجسس على البيوت، وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر، إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور.

هذا إذا كانت المعصية المتوقعة والتي تغلب على الظن أنها لا تفوت، فإنه لا يجوز حينئذٍ اقتحام البيوت، أما إذا كانت المعصية تفوت فلا بد من هذا، إذا غلب على الظن أن رجلاً خلا بآخر ليقتله أو خلا بغلام ليلوط به، أو امرأة ليزني بها حينئذٍ إذا كان هذا الأمر يفوت فلا بد من الاقتحام، ولا بد من تخليص المجني عليه من الجاني، هكذا قرر أهل العلم. {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [(29) سورة النور]. فيه مسألتان: الأولى: روي: أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر، فكان لا يأتي موضعاً خرباً ولا مسكوناً إلا سلم واستأذن، فنزلت هذه الآية أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد؛ لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم. يعني إذا احتاج أن يقضي حاجته في خربة لا يحتاج أن يستأذن إذا عرف أنه ليس فيها أحد، وكذلك إذا أراد أن يأتي إلى محل دكان مفتوح فيه البضائع ما يجلس عند بابه ويستأذن صاحبه، مثل هذا لا يحتاج إلى إذن. الثانية: اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت، فقال محمد ابن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة، قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وفيها متاع لهم أي استمتاع بمنفعتها، وعن محمد ابن الحنفية أيضاً: أن المراد بها دور مكة، ويبينه قول مالك، وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها، وأن مكة أخذت عنوة .. هذا على قول من يقول: أن مكة فتحت عنوة، وأنها أوقفت كأرض السواد وليست ملكاً لأحد، وأن الناس فيها سواء، وهذا مقتضى كونها عنوة، وأما من قال: أن فتحت صلح وبقي كل شخص في بيته ملكه ثابت له فلا يرد مثل هذا الكلام، وعلى القول بأنها فتحت عنوة، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- منّ على أهل مكة ببيوتهم ومساكنهم كما منّ عليهم بأنفسهم، وقال: ((أنتم الطلقاء)) فتكون أيضاً ملكاً لأصحابها، ولو كانت عنوة.

وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيساريات، قال الشعبي: لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا: للناس هلم، وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضاً متاع، وقال جابر بن زيد: ليس يعنى بالمتاع الجهاز .. يعني ليس يعنى بالمتاع الأثاث، أنما يعني به الاستمتاع، وكل ما ينتفع به متاع. ولكن ما سواه من الحاجة أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها، فهذا متاع، وكل منافع الدنيا متاع، قال أبو جعفر النحاس: وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة، والمتاع في كلام العرب: المنفعة، ومنه أمتع الله بك، ومنه {فَمَتِّعُوهُنَّ} [(49) سورة الأحزاب]. قلت: واختاره أيضاً القاضي أبو بكر بن العربي، وقال: أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفسر، وجاء بالفيصل، وبيّن أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع، فالطالب يدخل في الخانكات، وهي المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة، وكل يؤتى على وجهه من بابه، وأما قول ابن زيد والشعبي فقول، وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس. أما المستودعات والمخازن مثل هذه لو قيل فيها مثل هذا الكلام وأنها لا تدخل إلا باستئذان، أما المحلات المشرعة التي فيها البضائع معروضة للناس للزبائن فهذه لا تحتاج إلى استئذان. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة النور - الكلام على غض البصر والحجاب

تفسير القرطبي تفسير سورة النور الكلام على غض البصر والحجاب الشيخ / عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [(30) سورة النور]. فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر، يقال: غض بصره يغضه غضاً، قال الشاعر: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وقال عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه، ويحفظ الفرج غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المُحرم دون المحلل .. يعني كل ما يحرم النظر إليه يغض منه البصر، ويستوي في ذلك بالنسبة للرجال النظر إلى النساء على حقيقتهن، أو في صورهن الثابتة والمتحركة، كل هذا يغض عنه البصر، يجب غض البصر عنه. وفي البخاري: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن، قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [(30) سورة النور].

نعم، هذا يطالب به المكلف، وليس معنى هذا أن يقرّ أولئك النسوة اللاتي يكشفهن عن رؤوسهن وصدروهن، لكن لكلٍ ما يخصه من الخطاب، فالرجل عليه أن يغض البصر، والمرأة عليها أن تستتر، وولي الأمر أن يأطر الناس على الحق، لا يترك النساء يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ثم إذا تكلم أحد من الغيورين، قيل له: غض بصرك، هو مطالب بهذا بلا شك، لكن المرأة مطالبة بالستر، ولا يجوز لها أن تتبرج، وإذا تبرجت جاز لعنها على الجملة، فالأمر ليس مطالب به جهة واحدة، فلكلٍ من الجهات ما يخصه من الخطاب، الرجل عليه أن يغض البصر {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [(30) سورة النور]، والمرأة عليها أن تستر، وتغض البصر عن الرجال، ولا تكن سبباً ومثاراً لفتنتهم، وولي الأمر ومن يملك الإنكار باليد عليه أن ينكر باليد، والذي يملك الإنكار باللسان يملكه باللسان، والذي لا يستطيع لا هذا ولا هذا ففي قلبه، ولا يترك الأمر هكذا، يترك النساء يلعبن بعقول الرجال بالتبرج المشين الفاضح المستورد الذي لا يليق بالمسلمات بحال، ثم بعد ذلك يطالب الرجال بالغض، نعم هم مطالبون بالغض، ولا أحد ينكر هذا، وهذا نص القرآن، لكن مع ذلك التبعة عليهن أكثر. {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [(30) سورة النور] وقال قتادة: عما لا يحل لهم، {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [(31) سورة النور] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه. الثانية: قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [(30) سورة النور]. هذه عادة البخاري -رحمه الله تعالى- أنه يفسر ما يتعلق بالمقام، وما له أدنى مناسبة بالحديث أو الأثر، فلما ذكر خبر سعيد بن أبي الحسن وقتادة قال: خائنة الأعين لأن لها تعلق بالموضوع، لها تعلق بالموضوع، لأن الإنسان قد يدعي أنه غض بصره، وهو يسارق النظر لما حرم الله عليه، فالله -جل وعلا- يعلم خائنة الأعين، التي تنظر إلى ما نهي عنه، ولو خفي ذلك على الناس، فإن الله -جل وعلا- لا تخفى عليه.

قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (من) زائدة، كقوله: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [(47) سورة الحاقة] وقيل: (من) للتبعيض، لأن من النظر ما يباح، وقيل: الغض: النقصان، يقال: غض فلان من فلان، أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص، فـ (من) صلة الغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة. وإذا قلنا: إن الغض هو إلغاء النظر في الكلية فقلنا: (من) للتبعيض؛ لأن المطلوب غض بعض البصر، لا جميع البصر؛ لأنه ليس المسلم مطالب بأن يمشي وقد أغمض عينيه بالكلية، فيقع في حفرة، أو في شيءٍ يضره، ليس مطالباً بهذا، وإنما مطالب أن يغض بصره بما يكفيه شر هذه المرأة المتبرجة التي ينظر إليها. الثالثة: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والجلوس على الطرقات)) فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها، فقال: ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه البخاري ومسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي: ((لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية)) وروى الأوزاعي قال: حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت، فقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك، فلقي أبا موسى فسأله، فقال: ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب، فإن لها أول نظرة، وعليها ما كان بعد ذلك. حتى أول نظرة له ذلك إذا لم تكن فجأة من غير قصد، له ذلك، أما إذا كانت عن قصد، قاصداً النظرة الأولى وأدامها، فإن هذه لا شك أنه يؤاخذ عليها، لأنه نظر إلى عمل محرم بقصده، أما إذا كان فجأة من غير قصد، ثم صرف بصره عنها، فهذا هو المذكور في الحديث.

قال الأوزاعي: وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات -رضي الله عنه- وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري، وهذا يقوي قول من يقول: إن (من) للتبعيض؛ لأن النظرة الأولى لا تملك، فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصوداً، فلا تكون مكتسبة، فلا يكون مكلفاً بها، فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج؛ لأنها تملك، ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا، وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها .. ولو كانت بنته أو أخته أو من محارمه، لا يجوز له النظر إليها بشهوة، فهي داخلة في عموم الآية. الرابعة: قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [(30) سورة النور] أي يستروها عن أن يراها من لا يحل، وقيل: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [(30) سورة النور] أي عن الزنا، وعلى هذا القول لو قال: من فروجهم لجاز، والصحيح أن الجميع مراد، واللفظ عام، وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك)) قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: ((إن استطعت ألا يراها فافعل)) قلت: فالرجل يكون خالياً؟ فقال: ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) وقد ذكرت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحالها معه، فقالت: ما رأيت ذلك منه، ولا أرى ذلك مني. مخرج؟ الطالب: رواه الطبراني في الصغير وأبو نعيم والخطيب عن عائشة، وفيه بركة بن محمد الحلبي كذاب، وعده الحافظ في اللسان من أباطيله، وله شواهد واهية. الخامسة: بهذه الآية حرم العلماء نصاً دخول الحمام بغير مئزر، وقد روي عن ابن عمر أنه قال: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة .. يعني في الوقت الذي لا يكثر فيه الرواد من المغتسلين.

وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة، فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة، كغسلهن من الحيض أو النفاس، أو مرض يلحقهن، والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن .. كان الأمر غير متيسر عند من تقدم لأن البيوت صغيرة، وتوافر المياه ليس على الطريقة التي نعيشها، فكانوا يخرجون للوضوء، ويخرجون لقضاء الحاجة، ويخرجون للاغتسال، لكن -الحمد لله- الآن كل شيء متيسر، الإنسان بكل راحة، وبكل بساطة يغتسل فيه بيته، ولا يراه أحد البتة، ولا من أولاده، إذا كان المغتسل في داخل غرفة النوم، أو ما أشبه ذلك، هذه من النعم، كم كان آباؤنا وآباؤهم، ومن قبلهم يعانون من نقل المياه في أوقات الحر الشديد والبرد الشديد، ويعانون من الاستتار في الاغتسال؟ والله المستعان. فقد روى أحمد بن منيع قال: حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول: لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد خرجت من الحمام فقال: ((من أين يا أم الدرداء؟ )) فقالت: من الحمام فقال: ((والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن -عز وجل-)) وخرج أبو بكر البزار عن طاووس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((احذروا بيتاً يقال له: الحمام)) فقالوا: يا رسول الله ينقي الوسخ، قال: ((فاستتروا)) قال أبو محمد عبد الحق: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن طاووس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة، فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد، وكذلك ما خرجه الترمذي. المدينة لا يوجد فيها حمامات والحجاز عموماً في زمنه -عليه الصلاة والسلام-، وهي موجودة في مصر والشام والآفاق، أما في بلاد الحجاز فلا يوجد فيها حمامات، ولذا يحكم كثير من أهل العلم على أن جميع ما ورد في الحمام مرفوعاً أنه ضعيف، نعم الصحابة رأوا الحمامات لما فتحت البلدان ودخلوها، المقصود أن مثل هذه الأحاديث لا تخلو من ضعف. ماذا يقول عندك؟

طالب: الحديث الأول: قال: ضعيف أخرجه أحمد وابن الجوزي في الواهيات من حديث أبي الدرداء. . . . . . . . . وابن لهيعة وابن زبان قال عنه أحمد أحاديثه مناكير، وقال ابن الجوزي وهذا الحديث باطل. . . . . . . . . والحديث مرفوع صححه الألباني في الترغيب. طالب: الآخر قال: أخرجه الحاكم والبزار كما في المجمع من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وقال فيه. . . . . . . . . البزار غير صحيح، إلا أن البزار قال رواه الناس عن طاووس مرسلاً. طالب: حديث عائشة. . . . . . . . . المقصود أن ابن القيم وغيره الذين ضعفوا هذه الأحاديث احتجوا أنه لم يكن بالمدينة حمامات، لكن لا يمنع أن يكون من دلائل نبوته -عليه الصلاة والسلام- وعلاماتها أن يتحدث بشيءٍ يحدث بعده ويرونه بعده، ويدخلونه بعده –عليه الصلاة والسلام-. قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام، رموا مآزرهم حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائماً منتصباً، وسط الحمام وخارجه، بادياً عن عورته، ضاماً بين فخذيه، ولا أحد يغير عليه هذا أمر بين الرجال، فكيف من النساء؟! لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المطاهر، التي هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. يعني يذكر بعض الناس لا سيما النساء في حمامات المواقيت، أنه يحصل شيء من التساهل كثير، والتجاوز بحيث يُرى بعض النسوة، وإن لم يكن كثيراً، لكنه يوجد بعض النسوة من تمشي بين الحمامات بدون شيء، ففي هـ تساهل كثير مثل هذا، وعورة المرأة عند المرأة معروفة، حرام عليها أن تبدي لها أكثر مما تبدي لمحارمها. السادسة: قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط: الأول: ألا يدخل إلا بنية التداوي، أو بنية التطهير عن الرحضاء. يعني التنظيف بعد العرق، والرحضاء: العرق، بنية التداوي إذا كان مريض يستشفي بالماء الحار، يوصف علاج لبعض الأمراض لا مانع.

الثاني: أن يعتمد أوقات الخلوة، أو قلة الناس. الثالث: أن يستر عورته بإزار صفيق. الرابع: أن يكون نظره إلى الأرض، أو يستقبل الحائط، لئلا يقع بصره على محظور. الخامس: أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول: استتر سترك الله .. مثل هذا الأسلوب يمكن أن يقال: إذا رأى الإنسان امرأة متبرجة، قال لها: استتري سترك الله. السادس: إن دلَّكه أحد لا يمكنه من عورته من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته، وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا؟ في الحديث، حديث جرهد: ((غطِ فخذك، فإن الفخذ عورة)) وجاء في حديث أنس في الصحيح حسر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن فخذه، فمنهم من يقول: أن الأصل التغطية، وأنه يجب ستر الفخذ، وأما كونه حسر فلأمرٍ من الأمور، أو شيءٍ غير مقصود أو شيءٍ يسير، فهذا يتساهلون فيه. السابع: أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس. لئلا يؤدي ذلك إلى النزاع والشقاق، عند الفراغ من الحمام يقول صاحب الحمام: أريد عشرة وهو يقول: لا: خمسة، فمثل هذا لا بد من معرفة الأجرة، أما إذا جرت العادة بالأجرة المعلومة فلا يحتاج لمثل هذا. الثامن: أن يصب الماء على قدر الحاجة. التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه. العاشر: أن يتذكر به جهنم، فإن لم يمكنه ذلك كله .. ما معنى هذا؟ إن لم يقدر على دخوله وحده؟ إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قومٍ يحفظون أديانهم على كرائه؟ طالب: استأجره بالكامل. يعني: إذا كان لا يؤجر إلا بالكامل؟ فيتفق مع أناس يستطيعون دفع الكراء كاملاً، وأيضاً يحتاجونه بحيث لا يكون أكثر من قدر الحاجة؛ لأن الاستئجار بأكثر من قدر الحاجة أو لأكثر من ذوي الحاجة لا شك أنه تضييع للمال. العاشر: أن يتذكر به جهنم، فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر، وليجتهد في غض البصر. منها ما هو شرط، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو أدب.

ذكر الترمذي -أبو عبد الله- في نوادر الأصول من حديث طاووسٍ عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اتقوا بيتاً يقال له: الحمام)) قيل: يا رسول الله إنه يذهب به الوسخ، ويُذكّر النار، فقال: ((إن كنتم لا بد فاعلين فادخلوه مستترين)) وخرج من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام، وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة، واستعاذ به من النار، وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس، وذلك لأنه يرغبه في الدنيا، وينسيه الآخرة)) قال أبو عبد الله: فهذا لأهل الغفلة صير الله هذه الدنيا بما فيها سبباً للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه، ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كتفلة عوقب بها مجرم أو مسيء، قد كان استوجب بها القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا. الأحاديث الأولى؟ حديث حكيم الترمذي معروف إذا تفرد بحديث فهو ضعيف. طالب: كتفلة أو كقتلة؟ الظاهر أن هذه أقرب؟ كتفلة، نعم. قتلة عظيمة، لا، كأنها أظهر، تفلة، لأنه يريد أن يقلل من شأنها. طالب: كسب صاحب الحمام؟ كسبه إذا احتاط ورأى مزاحمة أهل الفسوق الذين يقيمون الحمامات بلا شروط، وأراد مزاحمة وتقليل الشر وتخفيفه، واحتاط لذلك ووضع القيود اللازمة، يؤجر على هذا الشيء -إن شاء الله- كغيرها من الصنائع والمهن. طالب: حديث: ((اتقوا بيتاً يقال له: الحمام)) قال: ضعيف أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف لضعف يحي ابن عثمان. . . . . . . . .، ولكن الألباني -رحمه الله- قال: أخرجه الطبراني في الكبير والضياء في المختار وغيرهما وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وفيه رد على من قال: لا يصح في الحمام حديث وقد صححه. . . . . . . . . الشيخ: غيره، الثاني.

طالب: الحديث الثاني قال: باطل وهو في نوادر للأصول ولم أقف على إسناده وهو حديث باطل بلا ريب وأمارات الوضع لائحة عليه قال الألباني: أنا أرى أن هذا الحديث موضوع. السابعة: قوله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [(30) سورة النور] أي غض البصر، وحفظ الفرج أطهر في الدين، وأبعد من دنس الآثام {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ} أي عالم {بِمَا يَصْنَعُونَ} تهديد ووعيد. قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] إلى قوله: {مِن زِينَتِهِنَّ}. فيه ثلاث وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ} [(31) سورة النور] خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ} يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين حسب كل خطاب عامٍ في القرآن .. نعم، كل خطاب للرجال يدخل فيه النساء، إلا ما دل الدليل على استثنائهن، وإذا كان الخطاب بلفظ المذكر فهو خاص بامرأة، كقوله -جل وعلا-: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [(12) سورة التحريم] هي مفردة، الأصل أن يقال: من القانتات، لكن لمراعاة رؤوس الآي، ولأن الخطاب يتجه إلى المرأة كاتجاهه إلى خطاب الرجل جاز ذلك. وظهر التضعيف في {يَغْضُضْنَ} ولم يظهر في {يَغُضُّوا} [(30) سورة النور}] لأن لام الفعل من الثاني ساكنة، ومن الأول متحركة .. يعني: لماذا فك الإدغام هنا (يغضضن) وأدغم الضاد في الضاد في (يغضوا)؟ ولا شك أنه إذا أمكن الإدغام فهو أولى من الفك، لكن جاء بالإدغام والفك في كلمةٍ واحد (يرتد) و (يرتدد)، نعم. وهما في موضع جزم جواباً، وبدأ بالغض قبل الفرج؛ لأن البصر رائد للقلب، كما أن الحمى رائد الموت، وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: ألم تر أن العين للقلب رائد **** فما تألف العينان فالقلب آلفُ وفي الخبر: ((النظر سهم من سهام إبليس مسموم، فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه)).

نعم، ومن أرسل البصر تشتت عليه أمره، وزادت حسرته، وأثم مع ذلك لمخالفته للنهي، بخلاف من غض بصره، فإنه لا شك أنه يجتمع عليه قلبه ويتجه إلى ما هو بصدده، ولا يتشتت، ثم بعد ذلك يورث هذه الحلاوة، وهذا أمر مجرب، الذين جربوه ذكروه. وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها، فزينها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس على عجزها، فزينها لمن ينظر، وعن خالد بن أبي عمران قال: لا تتبعن النظرة النظرة، فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه، كما ينغل الأديم، فلا ينتفع به .. نعم، يتأثر تأثر كبير، يتأثر بها، يتأثر بهذه النظرة –نسأل الله العافية-، كثير من الناس لا يحس بهذا الأثر، لأنه اعتاده. فأمر الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا المرأة إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر)) الحديث ... وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن .. يعني الصغيرة غير المكلفة. ممن يشتهى النظر إليهن، وإن كانت صغيرة .. وعلى هذا يخطئ من يقول ويفتي في القنوات والوسائل بأن البنت إذا كانت غير مكلفة لا مانع من تصويرها، ولا مانع من إخراجها في هذه القنوات، فهذا خطأ كبير، وخطأ فاشٍ، يضر بالناس، لا شك أن البنت إذا كانت غير مكلفة قد يكون حجمها وجرمها بقدر المكلفة، الناس إذا نظروا إلى المرأة لا يطلبون دفتر العائلة، نشوف كم عمرها على شأن ننظر أو لا ننظر؟ ثم ينظرون إلى جسدٍ يثيرهم، سواءً كانت كبيرة أو صغيرة، فكل ما يثير الرجال لا يجوز أن يُخرج لا في قنوات ولا في غيرها، بل لا بد من حجبها عن أعين الناس، هذا عند من يتجاوز ويقول: بجواز التصوير لهذه القنوات، وجواز المشاركة في هذه القنوات، وإلا أهل التحري -إن شاء الله- ما يقولون بهذا، نعم.

وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري، وفي الصحيحين عنه -عليه السلام- أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها، وقال -عليه السلام-: ((الغيرة من الإيمان، والمذاء من النفاق)) والمذاء: هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال، ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضاً .. المقصود أنه يخرج هذا المذي، بسبب نظر النساء إلى الرجال، والعكس. ماذا قال عنه؟ مخرج؟ طالب: قال: أخرجه البزار والديلمي من حديث أبي سعيد، وأشار البزار إلى تفرد أبي مرحوم الأرطباني به، وقال الهتمي في المجمع وثقه النسائي وغيره، وضعفه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح وفي الميزان عبد الرحيم بن خلدون، هو شيخ ليس بواه ولا هو مجهول الحال ولا هو بالثبت، ثم ذكر الذهبي له هذا الحديث، وقال الخبر غير قوي، والحديث ضعفه الألباني -رحمه الله-. وقيل: مأخوذ من المذي، وقيل: هو إرسال الرجال إلى النساء من قولهم: مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى، وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له، أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد .. يعني زوجها أو محرمها. فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها، لوقوع اليأس له منها. مع أنه في هذه الأزمان التي كثرت فيها الشرور، وانتشرت فيها وسائل الإثارة، ينبغي أن يحتاط حتى من المحارم.

الثانية: روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها ولميمونة، وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: ((احتجبا)) فقالتا: إنه أعمى، قال: ((أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ )) فإن قيل: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل؛ لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها، وهو ممن لا يحتج بحديثه، وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه -عليه السلام- تغليظ على أزواجه لحرمتهن، كما غلظ عليهن أمر الحجاب، كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة، ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: ((تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، ولا يراك)) قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة .. دلالة الحديث الأول: ((احتجبا)) ((أفعمياوان؟ )) هذا بالنسبة إلى نظر المرأة إلى الرجل، سواءً كان مبصراً أو أعمى، فتمنع من النظر إليه، من تكرار النظر إليه بشهوة تمنع منه، سواءً كان مبصراً أو أعمى، ولو لم يثبت الحديث، لعموم {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} [(31) سورة النور] سواء كان أعمى أو مبصر، بالنسبة للعكس نظر الرجل للمرأة، التي في حديث فاطمة هذا لا شك أنه بالنسبة إلى الأعمى أقل ضرراً من المبصر؛ لأنه لا يرى، والوسيلة التي موصلة إلى الفاحشة بالنسبة إلى الأعمى مأمونة، التي هي النظر إلى المرأة، فلا تعارض بين الخبرين؛ لأن الحديث الأول، حديث ميمونة هذا بالنسبة إلى نظر المرأة إلى الرجل، هذا ممنوع سواءً كان الرجل مبصراً أو أعمى. وأما بالنسبة للحديث الثاني، حديث فاطمة بنت قيس، وهو في الصحيحين وغيرهما، مثل هذا لا شك أن ضرر الرجل الأعمى عند الاحتياج إلى أن تعتد عنده، ليس معنى هذا أنه يخلو بها، أبداً، لكن إذا خرج من محل إلى محل في داخل بيته فإنه يكون الخطر منه أقل، تضعين ثيابك ولا يراك.

قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة، كالرأس ومعلق القرط، وأما العورة فلا، فعلى هذا يكون مخصصاً لعموم قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [(31) سورة النور] وتكون (من) للتبعيض كما هي في الآية قبلها، قال ابن العربي: وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم؛ لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أم شريك، إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم. طالب: يمكن أن يقال: في الحديث مفهوم والآية منطوق عام؟ لا، هو دلالته تختلف عن دلالة الآية، الآن الأعمى، امرأة اضطرت إلى أن تسكن عند أسرة، مات ولي أمرها، مات محرمها في بلدٍ لا يوجد لها محرم، هل الأفضل أن تسكن عند أسرة الرجل عندهم أعمى أو رجل مبصر؟ أيهما أفضل؟ أعمى؛ لأنه انقطع نصف المحظور، الآن انتهينا من نصف المحظور، لكن إذا كانت هي تنظر إلى الرجل سواءً كان أعمى أو مبصر لا فرق؛ لأن التبعة عليها، والحديث الثاني التبعة على الرجل، والحديث الأول موضوعه نظر المرأة إلى الرجال، والثاني نظر الرجال إلى النساء. طالب: مدرس أعمى للبنات؟ موجود؟! عميان عند البنات، فهذا خطأ، كونها تنظر إليه، لكن يؤمرن بغض البصر، وإن كان من وراء حجاب فلا مانع -إن شاء الله تعالى-.

الثالثة: أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية، حذراً من الافتتان، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير الوجه، وقال سعيد بن جبير أيضاً وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة: هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس، وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر آخر عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا)). عركت يعني: حاضت. وقبض على نصف الذراع، قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية: أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك .. يعني: إذا خرج هذا من غير قصد، وحديث عائشة يمكن توجيهه على الأولياء المذكورين في الآية، وأنها لا تخرج لهم إلا ما يظهر غالباً. فـ {مَا ظَهَرَ} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه، قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما ..

لكن لا يصلح أن يكون الاستثناء راجحاً لوجود الأدلة المعارضة، والأدلة على وجوب تغطية الوجه والكفين أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، حديث عائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك، فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهها، وقالت: إنه كان يعرفها قبل الحجاب، ولو كان كشف الوجه جائزاً لما احتاجت إلى مثل هذا؛ لأنه يعرفها باستمرار، وأيضاً المرأة إذا خطبت يُنظر إليها ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) ولو كانت تكشف وجهها ما احتاج إلى أن يقال مثل هذا، وقد كان جابر -رضي الله عنه- يتخبأ لها لينظر إليها، فلو كانت ممن يكشف الوجه، وكشف الوجه سائغ في وقتهم لما احتاجوا إلى مثل هذا. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها- أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لها: ((يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا -وأشار إلى وجهه وكفيه-)). والحديث مضعف عند أهل العلم. فهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس، فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها .. وعلى كل الحالين إن أظهرت وجهها فلتظهر كل شيء؛ لأن الوجه هو محل المحاسن. والله الموفق لا رب سواه، وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزاً أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها .. ولو كانت عجوزاً أو مقبحاً ما لم تكن من القواعد اللاتي استثنين، فلا يجوز لها أن تكشف شيئاً من وجهها، لأن لكل ساقطةٍ لاقطة، هذه العجوز تجد من يشتهيها، وهذه المقبحة تجد من يميل إليها، وعلى كل حال كل ما كان مثار فتنة الرجال وجب على المرأة ستره، وإذا كان الزمان زمان فتنة، فالستر محل إجماع بين أهل العلم.

الرابعة: الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها، فإنه أصل الزينة، وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع، وطرق العلوم، وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [(31) سورة الأعراف] وقال الشاعر: يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن خير عواطل (عطلن) يعني: من الزينة، يعني ما استعملن الزينة فهن خير عواطل، يعني خير النساء اللاتي لا يتزين، لأنهن لسن بحاجة إلى التزين. طالب: يا شيخ يستدلون ببيت: قل للمليحة بالخمار الأسودِ ... ماذا فعلت بناسك متعبدِ؟ فما وجه الاستدلال للذي يقول: أن الوجه ليس بعورة؟ الشيخ: وجه الاستدلال أنها تفعل فعلها بالرجل، ولو كانت مغطيةً وجهها؛ لأن النظر إلى المرأة عموماً يفتن الرجال ((ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن)) فهي تسلب الرجل بصوتها، بهيئتها، بحجمها، بكلامها. الخامسة: من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبداً لكل الناس من المحارم والأجانب، وقد ذكرنا ما للعلماء فيه، وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه الآية، أو حل محلهم، واختلف في السوار، فقالت عائشة: هو من الزينة الظاهرة، لأنه في اليدين، وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة، لأنه خارج عن الكفين، وإنما يكون في الذراع، قال ابن العربي: وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة، إذا كان في القدمين. السادسة: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} قرأ الجمهور بسكون اللام التي هي للأمر، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل؛ لأن الأصل في لام الأمر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضدٍ وفخذ. كتسكين، كتسكين. الطالب: كتسكين؟ نعم الذي يظهر كتسكين. وإنما تسكينها كتسكين عضدٍ وفخذ و {يضربن} في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بني على حالة واحدة إتباعاً للماضي عند سيبويه، وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر، قال النقاش: كما يصنع النبَط ..

النبَط والأنباط هم الواردون من بلاد الروم، سموا بذلك لأن لهم خبرة في استنباط الماء. فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب وهيئة ذلك: أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها، روى البخاري عن عائشة أنها قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن أزرهن فاختمرن بها. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن -رضي الله عنهم- وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك، فشقته عليها، وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر .. نعم، نساء الأنصار لما نزلت آية الحجاب خرجن ممتثلات كالغربان، يعني: لا يخرج منهن شيء، والله المستعان. السابعة: الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها، ومنه اختمرت المرأة، وتخمرت وهي حسنة الخمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو من الجوب، وهو القطع، ومشهور القراءة ضم الجيم من {جُيُوبِهِنَّ}. الجيب: هو موضع القطع ممن يدخل معه الرأس. وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء، كقراءتهم ذلك في: بيوت وشيوخ، والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة، ويقولون: بيت وبيوت كفَلس وفلوس، وقال الزجاج: يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر، فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز، وقال مقاتل: {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي على صدورهن، يعني على مواضع جيوبهن.

الثامنة: في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر، وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف -رضوان الله عليهم- على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس، وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم، وقد ترجم البخاري -رحمة الله تعالى عليه- (باب جيب القميص من عند الصدر وغيره) وساق حديث أبي هريرة قال: ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، الحديث ... وقد تقدم بكماله، وفيه: قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: بأصبعيه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع، فهذا يبين لك أن جيبه -عليه السلام- كان في صدره؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه. يعني الفتحة، فتحة القميص تكون على الصدر، لا على المنكب ولا من الخلف، هذا الأصل فيها. طالب. . . . . . . . . هذا عملهم، هو يشرح عملهم، أما بالنسبة الحكم الشرعي شيء آخر. وهذا استدلال حسن. التاسعة: قوله تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [(31) سورة النور] البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل: ((إذا ولدت الأمة بعلها)) يعني سيدها، إشارةً إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها، وكأنه سيدها الذي منَّ عليها بالعتق إذ كان العتق حاصلاً لها من سببه، قاله ابن العربي.

وهذا موجود في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا يكون من علامات الساعة، أمهات الأولاد موجودات في عصره -عليه الصلاة والسلام- وبعده كثرن، في صدر الإسلام مع كثرة الفتوحات، وجدوا أمهات الأولاد، فلا يتجه مثل هذا التأويل، أما إذا كان في آخر الزمان يكثرن كثرةً بحيث تلد الأمة من السيد، ثم تعتق به، ثم بعد ذلك -كما قال أهل العلم- من الكثرة بحيث يكون هذا الولد يتزوج هذه المرأة، كما نص على ذلك الشراح، أما كونها مجرد أنها تعتق بولدها فهذا موجود في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول: ((إذا ولدت الأمة بعلها)) يعني: سيدها إشارةً إلى كثرة السراري، وكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أمٍ بولدها، وكأنه سيدها الذي منّ عليها بالعتق .. السيادة هنا ولدت الأمة بعلها، يعني زوجها الذي سيكون زوجاً لها فيما بعد، لكثرة هؤلاء النسوة من السراري اللاتي أعتقهن أولادهن ثم مع هذه الكثرة يتزوج الإنسان من ولدته وهو لا يشعر. قلت: ومنه قوله -عليه السلام- في مارية: ((أعتقها ولدها)) فنسب العتق إليه، وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث، والله أعلم. مسألة: فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة، وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذةً ونظراً، ولهذا المعنى بدأ بالبعولة؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [(29 - 30) سورة المعارج]. العاشرة: اترك العاشرة إلى الحادية عشرة، العاشرة كل إنسان يقرؤها لنفسه، العاشرة كل إنسان له أن يقرأها بنفسه؛ لأن فيها كلام فيه شيء من الإسفاف لا يليق بدرس التفسير ولا بالمسجد، وإن كانت المسألة أحكام شرعية، يعني الإنسان إذا سئل أن يجيب بحكم شرعي، لكن الإنسان يقرؤها لنفسه ويستفيد.

الحادية عشرة: لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنَّى بذوي المحارم، وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها، وتختلف مراتب ما يبدى لهم، فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج، وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين -رضي الله عنهما- أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين، وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. لأنهن زوجات أبيه، يحل لهم النظر إليهن. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي قول تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [(55) سورة الأحزاب] وقال في سورة النور: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [(31) سورة النور] الآية. فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى. لكن عموم الآية يدخل فيها أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام-. الثانية عشرة: قوله تعالى: {أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ} يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد، وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث، كبني البنين وبني البنات، وكذلك آباء البعولة والأجداد، وإن علوا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن، وإن سفلوا، وكذلك أبناء البنات، وإن سفلن، فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات، وكذلك أخواتهن، وهم من وَلَدَهُ الآباء والأمهات، أو أحد الصنفين .. يعني: الآباء والأمهات في الأشقاء، أحد الصنفين من الأب أو من الأم. وكذلك بنو الإخوة وبنو الأخوات .. يعني من الجهات الثلاث.

وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات، وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات، وهؤلاء محارم، وقد تقدم في النساء، والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم، وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم، وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم، وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية لأنهما تَبَعَان لأبنائهما. فأبناؤهما ليسا من المحارم، هم من المحارم أبناء العم وأبناء الخال؟ طالب: لا. نعم ليسوا من المحارم. فكيف يتبع الأب أباه؟ لكن هل المقصود تَبَعَان لأبنائهما أبناء العم والخال؟ هل هذا هو المقصود؟ هو قال عند الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم، وفي الحديث الصحيح: ((عم الرجل صنو أبيه)) يعني مثل أبيه، فهو من المحارم بلا شك، كذلك الخال بمنزلة الأم، الخالة. الثالثة عشرة: قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة، إلا أن تكون أمةً لها .. ولذا يوجد من الطبيبات من غير المسلمات في بلاد المسلمين وحينئذٍ لا يجوز للمرأة أن تكشف عندها، لأنها ليست من نسائها. فذلك قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وكان ابن جريج وعبادة بن نُسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة، أو ترى عورتها، ويتأولون {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وقال عبادة بن نُسَي: وكتب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع من ذلك، وحُل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة، قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل، وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها، فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية؛ لئلا تصفها لزوجها .. هذه العلة حتى في المسلمة إذا خشيت المرأة من المسلمة أن تصفها لزوجها لا يجوز لها أن تراها.

وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء، فإن كانت الكافرة أمةً لمسلمةً جاز أن تنظر إلى سيدتها، وأما غيرها فلا؛ لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام وأهل الكفر، ولما ذكرناه، والله أعلم. الرابعة عشرة: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات، وهو قول جماعة من أهل العمل، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وقال أشهب: سئل مالك أتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي؟ فقال نعم: إذا كان مملوكاً لها أو لغيرها، وأما الحر فلا، وإن كان فحلاً كبيراً، وغداً تملكه لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها، قال أشهب: قال مالك: ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض، قال الله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [(3) سورة النساء]. ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض، ما معنى المرحاض؟ طالب: المغتسل. إيه أن تدخل المرحاض على الرجل، يعني محل الاغتسال، أو قضاء الحاجة، ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل، جارية الولد لا تدخل على أبيه المرحاض، ولا زوجة الولد؛ لأنها ليست من محارمه، ولذا قد يحتاج بعض الرجال أو بعض النساء إلى الخدمة لمرضٍ أو كبرٍ أو هرم، فكثير من الناس يتسامح، يتساهل في هذا الباب، فيجعل الولد نفسه يتولى خدمة أبيه، مع أن نظره إلى عورته لا يجوز، هذا الولد يريد أن يبرّ بأمه، ولا يريد أنها تتولى هذا الأمر، فيقوم مقامها، لا يجوز للرجل أن ينظر عورة الرجل، وقد يكلف زوجته بأن تخدم أباه هذه الخدمة التي لا يجوز أن يطلع عليها إلا الزوجة أو ما ملكت اليمين، وكل هذا تساهل غير مرضي. فالحل في هذا أن تتولاه زوجته إن كانت تقدر على ذلك، وإلا بحث عن جارية تتولى سواء كانت أمة أو زوجة، والحلول موجودة -ولله الحمد-، لكن الناس يتساهلون.

قال الله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال أشهب عن مالك: ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج، وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} إنما عني بها الإماء، ولم يعن بها العبيد، وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول مجاهد وعطاء، وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها قال: وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تلقى من ذلك قال: ((إنه لا بأس عليك، أنما هو أبوكِ وغلامكِ)). طالب: قال: حسن أخرجه أبو داود من حديث أنس، وإسناده غير قوي وفيه سهل ابن دينار قال في التقريب: مقبول واعترضه الألباني في الإرواء فقال: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وابن دينار وثقه يحيى وغيره. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس، قال الألباني: فقول الحافظ في التقريب عنه: مجهول مما لا وجه له عندي، وقد تابعه سلام بن أبي الصهباء وهو وإن ضعف فلا يضره ذلك في المتابعات. أ. هـ. والصواب قول ابن حجر، وقد جاء في الميزان سالم القزاز وثقه يحيى ولينه أبو زرعة، وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس، وقال أبو داود: شيخ. أ. هـ. أي ضعيف، فالرجل غير قوي، وأما ما ذكره الألباني من متابعة غيره له، فالصواب أن الذي تابعه هو فقط سلام بن أبي الصهباء عند البيهقي، وقد قال عنه البخاري: منكر الحديث، ثم ساق له هذا الخبر مستنكراً له، انظره في الميزان. وقد قال البخاري: كل من قلت عنه: منكر الحديث فلا يحل الرواية عنه، وتصحيح الألباني له تساهل منه، والله أعلم.

الشيخ: على كل حال إذا قلنا في قوله -جل وعلا-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُن} فغلام المرأة مثل محارمها؛ لأنه نسق عليهم، عطف عليهم، فيجوز لها أن تظهر له ما يظهر لمحارمها، كما أنه يجوز لها أن تظهر للنساء ما تظهره لمحارمهن فقط، ما يظهر غالباً، والتوسع في هذا غير مرضي، والغلام يشتهي كغيره إذا بلغ مبلغ الرجال كغيره، فعلى المرأة أن تحتاط له أكثر من غيره، الناس يتساهلون الآن مع الخدم سواء كن من النساء أو من الرجال، فتأتي الخادمة إلى مجتمع الرجال، الأولاد وغيرهم، وكذلك سائق السيارة يدخل البيت من غير إذن، ويطلع على ما لم يطلع غيره، وحكمه حكم غيره من الرجال الأجانب. وأما التساهل بين الخدم بعضهم مع بعض من السائقين والخادمات هذا شيء كأنه تعارف عليه الناس، وكأنه ليس بمنكر، مع أنه لا يقرب بعضهم لبعض، لا قرابة بينهم، كل هذا يسهل أمر الفاحشة، ويسهل في إشاعتها وانتشارها. طالب: نساء الكفار في المستشفيات؟ نساء الكفار لا يجوز لهن أن يطلعن على محارم المسلمين، لا مستشفيات ولا غيره. طالب: و (نسائهن) للجنس؟ المقصود بنسائهن المسلمات. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} أي غير أولي الحاجة والإربة: الحاجة، يقال: أربت كذا آرب أربا، والإرب والإربة والمأربة والأرب: الحاجة والجمع مآرب، أي حوائج، ومنه قوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [(18) سورة طه] وقد تقدم .. في عصا موسى -عليه السلام-، {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [(18) سورة طه] قد تقدم هذا في سورة طه، له حاجات كثيرة، وذكر القرطبي كثير من فوائد العصا هناك. وقال طرفة: إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا ... تقدم يوماً ثم ضاعت مآربه

واختلف الناس في معنى قوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ} فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء، وقيل: الأبله، وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم، ويرتفق بهم، وهو ضعيف، لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن، وقيل: العنين، وقيل: الخصي، وقيل: المخنث، وقيل: الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك، وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء، وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة: بادية بنت غيلان أمر بالاحتجاب منه، أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ .. لأنه أوصى بعض الناس أنه إذا فتح الله عليهم الطائف، فعليك بابنة غيلان، تقبل بأربع، وتدبر بثمان، يعني يصفها وصف دقيق، دال على أنه له نظر في النساء، المقصود: {غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ} الذين لا حاجة بهم إلى النساء، ولا يكفي في هذا أن يكون غير عاقل مع وجود الحاجة، بل الاحتجاب من غير العاقل كما قرر بعض أهل العلم أولى من الاحتجاب من العاقل؛ لأن غير العاقل الشهوة عنده والرغبة موجودة، ما الذي يردعه من تحقيق ما يريد؟ ما الذي يردعه إذا كان غير عاقل؟ غير عاقل لا يترتب عليه حد، ولا يترتب عليه شيء، ولا عقل له يردعه، ولا يستحي، فينبغي أن يحتاط له أكثر من غيره، يعني إذا كان له حاجة إلى النساء. طالب: غير أولي الإربة يخلو بالمرأة؟ إذا تيقّنا أنه لا حاجة به إلى النساء مطلقاً فينظر إليها، وإذا خيفت الفتنة منه يمنع، وأما الخلوة فالأدلة الأخرى تدل على عدمه. وغيرهم عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، قال أبو عمر: ذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال: قلت لمالك: إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان: أن مخنثاً يقال له: هيت، وليس في كتابك هيت؟ فقال مالك: صدق هو كذلك، وغربه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحمى، وهو موضع من ذي الحليفة، ذات الشِّمال من مسجدها .. يعني من جهة اليسار يقابلها اليمين، وأما الشَّمال يقابله الجنوب.

قال حبيب: وقلت لمالك: وقال سفيان في الحديث: إذا قعدت تبنّت، وإذا تكلمت تغنّت، قال مالك: صدق هو كذلك، قال أبو عمر: ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة أن مخنثاً يدعى هيتاً، فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام لا ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث إن مخنثاً يدعى هيتاً، وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث: إذا قعدت تبنَّت، وإذا تكلمت تغنَّت، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي .. والواقدي ضعيف شديد الضعف. والعجب أنه يحكيه عن سفيان، ويحكي عن مالك أنه كذلك، فصارت رواية عن مالك ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضاً، والله أعلم. وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم لا يكتب حديثه، ولا يلتفت إلى ما يجيء به ذكر الواقدي والكلبي أن هيتاً المخنث قال لعبد الله بن أمية المخزومي -وهو أخو أم سلمة لأبيها، وأمه عاتكة عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له -وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمع: إن فتح الله عليكم الطائف، فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنّت، وإن تكلمت تغنّت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم: تغترف الطرف وهي لاهية ... نما شف وجهها نزفُ بين شكول النساء خلقتها ... قصد فلا جَبلة ولا قضفُ تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويداً تكاد تنقصفُ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله)) ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى، قال: فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف، فولدت له منه بريهة، في قول الكلبي، ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد، وقيل: إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة، فيسأل ويرجع إلى مكانه .. يعني: يسأل الناس، كان فقير.

قال: وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي، وكان له طويس أيضاً، فمن ثم قبل الخنث، قال أبو عمر: يقال: (بادية) بالياء و (بادنة) بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء .. ولا تعارض بين بادية وبادنة، لأن بادية اسمها، وبادنة وصفها، بدينة يعني سمينة، وأما بادنة فهو اسمها، الحديث الأخير خرج؟ ((لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله)). طالب: قال: هذه الرواية عند الواقدي في المغازي وهو غير حجة كما تقدم آنفاً، ولذا ذكرت لك لفظ البخاري. قال: أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان، فإن تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخلن هؤلاء عليكم)) هذا لفظ البخاري. السادسة عشرة: وصف التابعين بغير، لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة وغير لا يتمحض نكرة فجاز أن يجرى وصفاً على المعرفة، وإن شئت قلت: هو بدل، والقول فيها كالقول في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} [(7) سورة الفاتحة] وقرأ عاصم وابن عامر {غيرَ} بالنصب، فيكون استثناء .. لأن غير متمحضة في النكرة، لا تقبل التعريف. أن يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم، ويجوز أن يكون حالاً، أي والذي يتبعونهن .. إلا إذا وقع بين متضادين، إذا وقع بين متضادين، النساء والرجال صح. ويجوز أن يكون حالاً، أي والذي يتبعونهن عاجزين عنهن، قاله أبو حاتم، وذو الحال ما في التابعين من الذكر. يعني: صاحب الحال ما ذكر في التابعين. السابعة: عشرة: قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ} اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك نعته بـ (الذين)، وفي مصحف حفصة أو الأطفال على الجمع، ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم .. المقصود الجنس جنس الطفل.

و {يَظْهَرُوا} معناه يطلعوا بالوطء، أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن، وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء، يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته، والجمهور على سكون الواو من {عَوْرَاتِ} لاستثقال الحركة على الواو، وروي عن ابن عباس فتح الواو مثل جفنة وجفنات، وحكى الفراء أنها لغة قيس {عورات} بفتح الواو، قال النحاس: وهذا هو القياس؛ لأنه ليس بنعت كما تقول: جفنة وجفنات إلا أن التسكين أجود في {عَوْرَاتِ} وأشباهه؛ لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قبلت ألفاً، فلو قيل هذا لذهب المعنى. تصير عارات. الثامنة عشرة: اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين: أحدهما: لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح، والآخر: يلزمه، لأنه قد يشتهى وقد تشتهى أيضاً هي .. الحوادث والوقائع تدل على أن من تغيرت فطرهم ومسخت لا يعفون عن شيء، لا عن صغير ولا عن صغيرة، ولا عن كبيرة ولا عن قبيحة، حتى أنه وجد من فتن بكبار السن من الرجال، الكبار، الكبار جداً، وحصل منه وقائع ثم تخلص منه -ولله الحمد- بإقامة شرع الله عليه، قتل -ولله الحمد –نسأل الله العافية-. فإن راهق فحكمه حكم البالغ في وجوب الستر، ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته، واختلف فيه أيضاً على قولين كما في الصبي، والصحيح بقاء الحرمة، قاله ابن العربي. التاسعة عشرة: أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها، فإنهم اختلفوا فيهما، وقال أكثر العلماء في الرجل: من سرته إلى ركبته عورة، لا يجوز أن تُرى، وقد مضى في الأعراف القول في هذا مستوفى. الموفية عشرين: قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة، قال ابن العربي: وكأنهم ظنوها رجلاً أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج، وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصاً، العبد منهم فما لنا ولذلك! هذا نظر فاسد، واجتهاد عن السداد متباعد ..

يعني ما ذكر في الآية من المحارم حكمهم واحد، بما في ذلك النساء وما ملكت اليمين، ولم يستثنى من ذلك إلا الزوج بالأدلة الأخرى، فحكمهم واحد، إنما ينظرون إلى ما يظهر غالباً. وقد تأول بعض الناس قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} على الإماء دون العبيد، منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد، ثم يلحقون بالنساء؟ هذا بعيد جداً! قال ابن العربي: وقد قيل: إن التقدير: أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، حكاه المهدوي. ما ملكت الأيمان بالوصف اللاحق، فيكون الوصف ساري لما قبله والذي قبله. الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية .. أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد .. لأنه يترتب عليه من الفتنة ما يترتب على الإبداء. والغرض التستر أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة، واتخذت جزعاً، فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت، فنزلت هذه الآية، وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها، قاله الزجاج. الثانية والعشرون: من فعل ذلك منهن فرحاً بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجاً وتعرضاً للرجال فهو حرام مذموم، وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجباً حرم، فإن العجب كبيرة، وإن فعل ذلك تبرجاً لم يجز. الثالثة والعشرون: قال مكي -رحمه الله تعالى-: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع، قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَتُوبُوا} أمر، ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة .. لأنه هو الأصل، الأصل في الأمر الوجوب. وأنها فرض متعين، وقد مضى الكلام فيها في النساء، وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك والمعنى: وتوبوا إلى الله، فإنكم لا تخلون من سهوٍ وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال.

الثانية: قرأ الجمهور {أيها} بفتح الهاء، وقرأ ابن عامر بضمها، ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها، وضعف أبو علي ذلك جداً، وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء هاهنا لاقترانها بالكلمة .. لأن الياء المشدد عبارة عن حرفين، فالياء عبارة عن ياءين، والإعراب إنما هو على الياء الثانية، وأما الأولى فساكنة. لجاز ضم الميم في {اللهم} لاقترانها بالكلمة في كلام طويل، والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة وأنشد الفراء: يا أيه القلب اللجوج النفس ... أفق عن البيض الحسان اللعس اللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلاً، وذلك يستملح، يقال: شفة لعساء وفتية ونسوة لعس، وبعضهم يقف {أيه} وبعضهم يقف {أيها} بالألف؛ لأن علة حذفها في الوصل إنما هو سكونها، وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة، فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على {محلي} من قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [(1) سورة المائدة] وهذا الاختلاف الذي ذكرناه هو في {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} [(49) سورة الزخرف] و {أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [(31) سورة الرحمن]. اللهم صلي على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة النور - مسائل متفرقة في أحكام النكاح

تفسير سورة النور مسائل متفرقة في أحكام النكاح الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [(32) سورة النور]. فيه سبع مسائل: الأولى: هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح، أي زوجوا من لا زوج له منكم، فإنه طريق التعفف، والخطاب للأولياء، وقيل: للأزواج، والصحيح الأول، إذ لو أراد الأزواج لقال: وانكحوا بغير همز، وكانت الألف للوصل، وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي، وهو قول أكثر العلماء .. مما يدل على ضعف القول الثاني، وأن الخطاب للأزواج عطف الصالحين، فإذا تيسر للأزواج أن ينكحوا الأيامى، فكيف يتيسر لهم أن ينكحوا الصالحين من عبادهم؟ والله المستعان. وقال أبو حنيفة: إذا زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفئاً لها جاز، وقد مضى هذا في البقرة مستوفى. وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا نكاح إلا بولي)) وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) فالصحيح قول جمهور أهل العلم أن الولي شرط لصحة النكاح، أما الحنفية فلا يرونه شرطاً، لكن لا بد أن يكون الزوج كفئاً، وعند المالكية الشريفة لا يزوجها إلا الولي، بخلاف غيرها، ولو كان قولهم بالعكس لكان أوجه، والله المستعان. الثانية: اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال، فقال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر، وزوال خشية العنت عنه، وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما، فالنكاح حتم، وإن لم يخش شيئاً، وكانت الحال مطلقة، فقال الشافعي: النكاح مباح، وقال مالك وأبو حنيفة: هو مستحب، تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة، فكان مباحاً كالأكل والشرب، وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح: ((من رغب عن سنتي فليس مني)).

يعني حكم النكاح يعتريه الأحكام الخمسة، وهو واجب بالنسبة لمن خاف العنت، وسنة ومستحب على الأصل لمن لم يخف العنت على نفسه؛ لأنه سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو مباح في بعض الصور والأحوال إذا كان لا رغبة له في النساء وحاجته إليهن ضعيفة ولا يغلب على ظنه أنه يمتع نفسه أو يمتع المرأة يعني على حدٍ سواء، وأما إذا تزوج امرأة للإضرار بها فهذا حرام، وهو مكروه لمن يخشى منه ضرر المرأة ولم يتحقق. الثالثة: قوله تعالى: {الْأَيَامَى مِنكُمْ} أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء واحدهم أيم، قال أبو عمرو: أيامى مقلوب أيايم، واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما، تقول العرب: تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج، وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا، أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة)). مخرج؟ طالب: قال: تقدم. ما خرج في الطبعة الثانية؟ ولا أحال على رقم ولا صفحة ولا شيء؟. وقال الشاعر: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي **** وإن كنت أفتى منكم أتأيمُ ويقال: أيمٌ بيِّن الأيمة، وقد آمت هي، وإمت أنا، قال الشاعر: لقد إمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كما إمتُ هذا ينتظرها، علّها أن تطلق أو يموت زوجها، فهو ينتظرها، لا يزال أيمٌ حتى تتأيم هي. قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، وقال أمية بن بي الصلت: لله در بني علي أيمٌ منهم وناكح. وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [(3) سورة النور] وقد بيناه في أول السورة، والحمد لله. يعني هذا التحريم، تحريم نكاح الزانية على المؤمنين منسوخ بهذه الآية {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} فهي أيم، لكن عليها أن تتوب قبل ذلك. طالب: النسخ صحيح؟

الشيخ: لا، ما يلزم منه النسخ، لكن جاء على أسلوب التنفير، وهو خبر أيضاً، خبر كما تقدم تقريره أن الزانية لا يقدم عليها في الغالب إلا زاني، أو مشرك الذي يستبيح ما هو أشد من الزنا، وكذلك العكس. الرابعة: المقصود من قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} الحرائر والأحرار، ثم بين حكم المماليك فقال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وقرأ الحسن: والصالحين من عبيدكم، وعبيد: اسم للجمع، قال الفراء: ويجوز وإمائكم بالنصب، يرده على {الصالحين} يعني الذكور والإناث، والصلاح والإيمان .. والصلاح الإيمان، يعني المؤمنين. والصلاح الإيمان وقيل: المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين، فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب، كما قال: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النور] ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيراً، ولكن الخطاب ورد في الترغيب والاستحباب، وإنما يستحب كتابة من فيه خير. لأن الذي لا خير فيه يكون عالةً على غيره، ولا يستفيد لا هو ولا غيره من هذا النكاح ولا المكاتبة. الخامسة: أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح، وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما، قال مالك: ولا يجوز ذلك إذا كان ضرراً، وروي نحوه عن الشافعي، ثم قال: ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح، وقال النخعي: كانوا يكرهون المماليك على النكاح، ويغلقون عليهم الأبواب .. يغلقون عليهم الأبواب خشيةً من كراهيتهم لهذا النكاح أن يأبقوا ويشردوا وينفروا، فهو يزوجه أمة، ثم بعد ذلك يغلق عليه الباب، لئلا يهرب. تمسك أصحاب الشافعي فقالوا: العبد مكلف فلا يجبر على النكاح؛ لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية، وإنما تتعلق به المملوكية، فيما كان حظاً للسيد من ملك الرقبة والمنفعة، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه، فأما بضع العبد فلا حق له فيه ..

إذا كان العبد ملك الرقبة والمنفعة، بالنسبة للرقيق ذكراً كان أو أنثى فالمنفعة هذه سواء كانت بالنتاج البدني –العمل– أو بالنتاج من حيث النسل، هذه منفعة، فهو يملك منفعته فيملك تزويجه من غير إذنه، ويجبره على ذلك. ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضاً الطلاق فإنه يملكه العبد بتملك عقده، ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد .. يعني: ملك داخل ملك، يعني يتصرف العبد في هذه الملكية التي هي الطلاق، وما جاء في حكمه داخل تصرف السيد، فهو ملك داخل ملك. ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع، والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها، ويقيمها للعبد. السادسة: قوله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [(32) سورة النور] رجع الكلام إلى الأحرار، أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله، واعتصاماً من معاصيه، وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، وتلا هذه الآية، وقال عمر -رضي الله عنه-: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعال: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وروي هذا المعنى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضاً، ومن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثة كلهم حق على الله عونه: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء)) أخرجه ابن ماجة في سننه، فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغني، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام .. مخرج؟ طالب: يقول: حسن، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي كله من حديث أبي هريرة وإسناده حسن، ومحمد بن عجلان روى له مسلم وتابعه وهو صدوق، والحديث حسنه الألباني. قد يوجد العكس، أحياناً يتزوج الإنسان ويفتقر بسبب هذه المرأة بعينها، ووعد الله لا يتخلف، فيجيب عنه المؤلف.

فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغني، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد، وقد قيل: يغنيه أي يغني النفس، وفي الصحيح: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)) وقد قيل: ليس وعد لا يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال غادٍ ورائح، فارجوا الغنى، وقيل: المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء، كقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [(41) سورة الأنعام] وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء} [(62) سورة العنكبوت] وقيل: المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال، ليتعففوا عن الزنا. السابعة: هذه الآية دليل على تزويج الفقير .. لكن ظاهر الآية أنه وعد من الله -جل وعلا- لمن تزوج، ولا يختص هذا بالزواج الأول أو الثاني أو الثالث، المقصود أن من تزوج هو موعود بالغنى، والزواج سبب من أسباب الغنى، قد يعارضه مانع، فلا يترتب أثره عليه. طالب: في الخبر (إن يكن الشؤم ففي ثلاثة ... وذكر المرأة)؟ الشيخ: والمرأة أيضاً، هذا إن وجد، هذا لا يعني أنه موجود، لكن إن كان فأقرب الأمور إليه هذه الثلاثة. طالب: يعني معناه خبر؟ الشيخ: استبعاد. ولا يقول: كيف أتزوج وليس لي مال؟! فإن رزقه على الله، وقد زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار؛ لأنها دخلت عليه .. دخلت عليه على علمٍ بحاله، أما لو دخلت عليه على خلاف ذلك، بأن ظنته غنياً أو تظاهر بالغنى، ثم تبين لها أنه فقير لها أن تفسخ، إذا عجز، إذا أعسر وعجز عن النفقة، أما إذا دخلت على بيّنة، وعرفت أنه فقير وقبلته على هذا الأساس ليس لها الفسخ بعد ذلك. وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسراً، أو طرأ الإعسار بعد ذلك؛ لأن الجوع لا صبر عليه، قاله علماؤنا، وقال النقاش: هذه الآية حجة على من قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيراً لا يقدر على النفقة؛ لأن الله تعالى قال: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ} ولم يقل: يفرَّق، وهذا انتزاع ضعيف، وليس هذه الآية حكماً فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوج فقيراً ..

والإغناء والفقر، الإغناء قد يكون بقدر زائد على مجرد النفقة، والفقر هو العجز عن الإنفاق، فقد يكون ليس بغني وليس بفقير، بمعنى أنه يجد ما ينفق، ولكن ليس له غنىً يجعله يعد من الأغنياء، وليس بفقير فقراً يعجزه عن النفقة، فهما ليسا متقابلين، ومنهم من يرى أن من يملك الخمسين درهماً يكون غنياً، هذا في تحديد الغنى والفقر عند أهل العلم. وعلى كل حال المرد في ذلك إلى القدرة على النفقة وعدم القدرة عليه، فإن قدر على نفقتها ولو لم يكن غنياً، إذا صارت عنده أموال زائدة على هذا القدر فلا فسخ، حينئذٍ لا فسخ، أما إذا عجز عن الإنفاق عليها، وتضررت من البقاء معه فإنه يفرق بينهما {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [(130) سورة النساء] فأما من تزوج موسراً وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما، قال الله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها .. يعني ليس الفقر أو الغنى وصف لازم للمرء لا يفارقه، بل يعرض هذا ويطرأ هذا، ويزول هذا، ويتصف بهذا الوصف حيناً وبالآخر حيناً آخر، والله المستعان. طالب: هل النية لها أثر كبير في هذا الوعد؟ الشيخ: يعني من دخل رجاء هذا الوعد طالب: الناكح يريد العفاف. نعم، الذي يريد عفاف نفسه، بهذا القصد. طالب: لكن لو دخل لقصد الغنى؟ يعني جعله من المقاصد، إذا ذكر الثواب المرتب على العمل سواء كان دنيوي أو أخروي فقصده لا يضر، فمثلاً لو أن إنسان جاء بذكر رتب عليه أجور حسنات، وقصد هذه الأجور، هل نقول: هذا يقدح في إخلاصه؟ لا، كذلك لو رتب عليه أمر من أمور الدنيا، حفظ مثلاً، حفظه الله من الشيطان، حفظه الله من كذا، وقصد هذا الحفظ، وكان في ذمة الله حتى يمسي، أو في ذمة الله حتى يصبح، وقصد هذا لا يؤثر في العبادة؛ لأنه لو كان مؤثراً لما ذكر في النص، التنصيص عليه يدل على أنه لا يؤثر قصده. قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ} الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره، فإنه يقوده إلى ما يراه كالمحجور عليه قولاً واحداً، والأمة والعبد على أحد قولي العلماء. الثانية: واستعفف وزنه استفعل، ومعناه طلب أن يكون عفيفاً، فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف .. من الوجوه الممكنة سؤال الناس مثلاً، هو فقير، ولا يمكن أن يتزوج إلا بأن يسأل الناس، يتكفف الناس، يأخذ من الزكوات والصدقات، هل نقول لمثل هذا عليه أن يستعفف؟ {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} هذا ما وجد يستعفف، فقير ما عنده شيء، وإذا بذل أحد له المهر هل يلزمه أخذه أو لا يلزمه لأن فيه منّة؟ على كل حال إذا كان الدافع إلى النكاح قوي وخشي على نفسه العنت، فليسلك كل مسلك مباح لتحصيله، من زكوات وصدقات وهبات وأعطيات، وتأجير نفسه لأحدٍ يعمل عنده، فعليه أن يبذل ليعفّ نفسه. أما إذا كان الداعي أقل ورغب أن يستعفف حتى يغنيه الله من فضله، فمثل هذا لا يلام -إن شاء الله تعالى-. ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال، وعد بالإغناء من فضله، فيرزقه ما يتزوج به .. طالب: يا شيخ وعد بالإغناء من فضله. . . . . . . . .؟ من فضله، من فضله. لكن يبقى هل بين هذه الآية والتي قبلها تعارض؟ الأولى: أمر بالنكاح ووعد بالغنى، والثانية: أمر بالاستعفاف لعدم القدرة؟ طالب: لا يوجد تعارض. ولا في الظاهر بين الآيتين؟ هناك قال: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فأمر بالنكاح مع وجود الفقر، ووعد بالغنى، وهنا قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} في تعارض في الظاهر وإلا ما في؟ هناك أمر بالنكاح مع وجود الوصف، الذي هو الفقر، والوعد بالغنى، وهنا أمر بالاستعفاف وعدم النكاح حتى يحصل الوصف الذي يمكنه من النكاح. طالب: الفقر في الآية الأولى -يا شيخ- فقر يستطيع معه النكاح؟ الشيخ: يعني قادر على المهر ولا يستطيع النفقة.

طالب: والفقر في هذه الآية لا يستطيع أبداً الإنفاق. الشيخ: لا يقدر على المهر ولا على النفقة. أو يجد امرأةً ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء، وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثة كلهم حق على الله -عز وجل- عونهم: المجاهد في سبل الله، والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء)). في حديث عبد الله بن مسعود: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) فعلق الأمر في الزواج على الاستطاعة، ومن لم يستطع ما قال: يتزوج يغنيه الله من فضله، الذي لا يستطيع الباءة، يعني القدرة على تكاليف النكاح فعليه بالصوم، والذي لا يستطيع ما جاءه الأمر فليتزوج يغنيه الله من فضله، كما جاء في الآية التي تقدمت. الثالثة: قوله تعالى: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي طول نكاح فحذف المضاف، وقيل: النكاح هاهنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين، وحملهم على هذا قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف، وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر كما قدمناه، والله تعالى أعلم. الرابعة: من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف، فإن أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء، كما جاء في الخبر الصحيح، ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى، وفي الخبر: ((خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد)) وقد تقدم جواز نكاح الإماء ..

لا شك أن مثل هذا الخفيف الحاذ أقل تبعات ممن لديه النساء ولديه الأولاد ولديه الأموال، لا شك أن الإنسان عليه تبعات من أهله، سواء كان من زوجته أو ولده أو بناته أو غير ذلك، فهذا الخفيف حسابه أقل، لكن الذي يتزوج ويكثر من الزواج على مراد الله ومراد الرسول وعلى شرعه وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، يكثر من النساء، ويكثر من الأولاد، ويبذل الأسباب في وقايتهم من النار، لا شك أن هذا أجره أعظم، لكن المسألة مفترضة بين شخص يقول: أنا لا أستطيع أن أَقوّم الزوجة، ولا أأطرها على أمر الله، وإذا رزقنا أولاد لا أستطيع تربيتهم، فهو يعيش بدون زواج، وآخر يعيش بالزواج وكثرة النساء، وكثرة الأولاد ويهملهم، لا شك أن هذا أقل تبعة ومسؤولية، لكن الذي يكثر من الزواج ويكثر من الأولاد ((خير أمتي أكثرها نساء)) ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) وجاء الأمر بالتكاثر، لكن مع الشرط وهو وقايتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [(6) سورة التحريم]. بالتربية الصالحة على مراد الله، وعلى منهج الله، هذا الأكمل بلا شك. الطالب: صحة الخبر أحسن الله إليكم. الشيخ: إيش يقول؟ طالب: قال: حديث باطل أخرجه ابن الجوزي في الواهيات والخطيب من حديث حذيفة، وقال ابن الجوزي: قال الدراقطني: وتفرد به رواد وهو ضعيف، وقال أحمد: روى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم في العلل: هذا حديث باطل، وانظر المقاصد الحسنة، والحديث في ضعيف الجامع. الشيخ: على كل حال الحديث لا يصح، لكن يبقى أن من تزوج وأهمل وضيع، وأنجب الأولاد وضيعهم، وعرضهم للفتن، ولم يراقبهم، وجعلهم يتأذون ويؤذنون الناس، مثل هذا عدم زواجه أولى. مثل المال شخص يجمع المال من حله ومن غير حله، ويفسد فيه، وشخص فقير لا مال له عاش على الزكوات، وعلى أوساخ الناس، لا شك أن هذا أفضل، وأما القسم الثالث وهو أفضل منهما، من كسب المال في حله، وأنفقه في وجوه البر. طالب: حديث:. . . . . . . . . لا لا، هذا ضعيف.

وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة في (النساء) والحمد لله، ولما لم يجعل الله له من العفة والنكاح درجة دل على أن ما عداهما محرم، ولا يدخل فيه ملك اليمين؛ لأنه بنص آخر مباح، وهو قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [(3) سورة النساء] فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاستمناء رداً على أحمد .. يعني كما قرره في أوائل سورة المؤمنون، وأن الجمهور على تحريمه ومنعه، ونسب للإمام أحمد أنه يجيزه -على ورعه- على كل حال هو قوله في المذهب، والمعمول به عندهم أن من استمنى بيده لغير حاجةٍ عزر، فيدل على أنه محرم. وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدم هذا في أول المؤمنون. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النور]. فيه ست عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} {الذين} في موضع رفع، وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل؛ لأن بعده أمراً، ولما جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتابة فالمستحب كتابته فربما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد فيكون أعف له، قيل: نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى، يقال له: صُبْح، وقيل: صبيح، طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً، فأداها، وقتل بحنين في الحرب، ذكره القشيري، وحكاه النقاش، وقال مكي: هو صبيح القبطي، غلام حاطب بن أبي بلتعة وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك، وطلب المملوك الكتابة، وعلم سيده منه خيراً.

الثانية: الكتاب والمكاتبة سواء مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين؛ لأنها معاقدة بين السيد وعبده، يقال: كاتب يكاتب كتاباً ومكاتبة، كما يقال: قاتل قتالاً ومقاتلة، فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع، وقيل: الكتاب هاهنا هو الكتاب المعروف الذي يكتب فيه الشيء، وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتاباً، فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم. الثالثة: معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً عليه، فإذا أداه فهو حر، ولها حالتان: الأولى: أن يطلبها العبد ويجيبه السيد، فهذا مطلق الآية وظاهرها، الثانية: أن يطلبها العبد ويأباها السيد، وفيها قولان: الأول لعكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم، وجماعة أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد .. وهو ما يقتضيه الأمر {فَكَاتِبُوهُمْ} على الشرط المذكور –إن علمتم– والأصل في الأمر الوجوب. وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك .. لا يجب ذلك؛ لأن المكاتبة أقل من العتق، والعتق ليس بواجب إلا في الكفارات، ما دام العتق ليس بواجب فالمكاتبة مثله، وهذا قول علماء الأمصار.

وتعلق من أوجبها بمطلق الأمر، وافعل بمطلقه على الوجوب، حتى يأتي الدليل بغيره، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبري، واحتج داود أيضاً بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة، وهو مولاه، فأبى أنس، فرفع عمر عليه الدرة، وتلا {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فكاتبه أنس، قال داود: وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله، وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه، وإن ضوعف له في الثمن، وكذلك لو قال له: أعتقني أو دبرني أو زوجني، لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض، وقولهم: مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح، لكن إذا عري عن قرينةٍ تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه، فعلق الوجوب على أمرٍ باطن، وهو علم السيد بالخيرية، وإذا قال العبد: كاتبني، وقال السيد: لم أعلم فيك خيراً، وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه، ويعول عليه، وهذا قوي في بابه. الرابعة: واختلف العلماء في قوله تعالى: {خَيْرًا} فقال ابن عباس وعطاء: المال ... يعني كما جاء في الوصية، إن ترك خيراً الوصية، المراد بها المال. مجاهد: المال والأداء الحسن، والنخعي: الدين والأمانة، وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون: هو القوة على الاكتساب والأداء .. القدرة على كسب المال الذي يؤديه في مقابل مكاتبته، وإلا في الأصل هو لا مال له، ولا يملك عند الجمهور، وإن ملكه مالك بالتمليك. وعن الليث نحوه وهو قول الشافعي، وقال عَبِيدَةُ السلماني: إقامة الصلاة والخير، قال الطحاوي: وقول من قال: إنه المال لا يصح عندنا؛ لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم، بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم، وقال أبو عمر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال: علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال: علمت عنده المال.

قلت: وحديث بريرة يرد قول من قال: إن الخير المال على ما يأتي. الخامسة: اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له .. وقد كوتبت، ولم تكاتب إلا بعد أن تحقق الوصف فيها، وهو علم الخير، ولا مال لها؛ لأنها جاءت تطلب من عائشة -رضي الله عنها- فدل على أن الخير هنا ليس هو المال، وإنما هو القدرة على تحصيل المال، والقدرة على النفع والانتفاع، انتفاع الناس بهذا الرقيق، يعني علمت في هذا الرقيق خير أنه ينتفع بنفسه، يطلب العلم ويتفرغ للعلم وينفع الأمة هذا خير، ولو لم يقدر على تحصيل المال لم يتسنَ له المال، ممكن بواسطة الزكاة لأنه من الرقاب المأمور بعتقها، فإذا علم فيه خير، أي خيرٍ كان، لو كان بتحصيل علم، بتحصيل مال، بنفع المسلمين، بقدرته على التعامل مع الناس بوضوح وصراحة، وعدم غش ولا خيانة، هذا فيه خير -إن شاء الله تعالى-. الخامسة: اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له، فكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: أتأمرني أن آكل أوساخ الناس، ونحوه عن سلمان الفارسي .. أتأمرني أن آكل أوساخ الناس، من الذي يقول هذا؟ المكاتِب أو المكاتَب؟ ابن عمر السيد؛ لأن هذا الرقيق اضطر إلى أن يأخذ إلى الزكوات، وهي أوساخ الناس، ثم يدفعها إلى السيد، فيكون مآل أوساخ الناس إلى هذا السيد. وروى حكيم بن حزام قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد: أما بعد: فأنه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس، وكره الأوزاعي وأحمد وإسحاق ورخص في ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعي، وروي عن علي -رضي الله عنه- أن ابن التياح -مؤذنه- قال له: أكاتب وليس لي مال؟ قال: نعم، ثم حض الناس على الصدقة عليّّ فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت علياً، فقال: اجعلها في الرقاب، وقد روي عن مالك كراهة ذلك، وأن الأمة التي لا حرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها، والحجة في السنة لا فيما خالفها.

روى الأئمة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين كل سنة أوقية، فأعينيني ... الحديث، فهذا دليل على أن للسيد أن يكاتب عبده، وهو لا شيء معه، ألا ترى أن بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها، وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئاً، كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، أخرجه البخاري، وأبو داود، وفي هذا دليل على جواز كتابة الأمة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال .. لكن لا بد من أن يكون عدم وقوعها في الفاحشة وتعريضها للفتنة يكون غلبة ظن، بحيث يغلب على الظن أنها لا تزاول الفاحشة، ولا تكون مثار فتنة بين الناس، فإذا تحقق هذا فلا مانع من كتابتها، أما إذا خشي أن تكون مثار فتنة للناس، ومحل تحرش بها لأنها لا يوجد من يحميها، أو أنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها فلا. طالب: فترة الكتابة إن طالت الكتابة إلى سبع سنوات -مثلاً- هل تكون في خدمة سيدها؟ لا لا، خدمة نفسها، تبحث عما تسدد به، نجوم الكتابة، يترك الرقيق إذا كوتب، وإن كان رقيق ما بقي عليه درهم، هو ما زال في حكم الرق، لكن الخدمة لا، يترك الأمر له ليكتسب ويسدد. ولم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- هل لها كسب أو عمل واصب أو مال، ولو كان هذا واجباً لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث مبيناً معلماً -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النور] أن المال الخير ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة، والله أعلم. السادسة: الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنجم؛ لحديث بريرة، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، والحمد لله.

فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلاً نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد، قال الشافعي: لا بد فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم، واختلفوا إذا وقعت على نجمٍ واحد، فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد، وقال الشافعي: لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالّة البتة، وإنما ذلك عتق على صفة، كأنه قال: إذا أدَّيت كذا وكذا فأنت حر، وليس كتابة. قال ابن العربي: اختلف العلماء والسلف في الكتابة إذا كانت حالةً على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم، والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة، كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق، في كل عام أوقية، وكما فعلت الصحابة، ولذلك سميت كتابة؛ لأنها تكتب ويشهد عليها، فقد استوسق الاسم والأثر، وعضده المعنى، فإن المال إن جعله حالاً، وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعة، وعقد مقاطعة لا عقد كتابة، وقال ابن خويز منداد: إذا كاتبه على مال معجل كان عتقاً على مال، ولم تكن كتابة وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالّة، وسماها قطاعة، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسب، ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه، وبجواز الكتابة الحالة قال الكوفيون. هذا الكلام يجري على مذهب مالك وهو القول بأن العبد يملك، وأما على قول الجمهور وأن العبد لا يملك فلا يمكن مكاتبه على مبلغٍ حال لا يترك له فرصة يتكسب فيها، وقول الجمهور على أنه لا يملك فلا بد من ترك فرصة بحيث يغلب على الظن أنه يستطيع جمع ما كتب عليه في هذه الفرصة. طالب: هل يوجد فرق بين الكتابة والعتق في الأحكام؟ العتق ينفذ من وقته، من وقته يكون حراً من التلفظ به، أما المكاتبة فلا تكمل الحرية حتى يؤدي جميع النجوم، ولو أدى عشرة نجوم وبقي واحد فإنه ما زال رقيقاً. طالب: لو مات السيد. . . . . . . . .؟

لو مات السيد وأرادوا أن يبطلوا العقد هل المكاتبة عقد لازم أو جائز؟ هل هي عقد لازم كالإجارة أو جائز؟ بمعنى أن لكل واحدٍ من الطرفين أن يلغيه في آخر لحظة؟ لأن السيد له أن يقول: ما دام العبد رقيقاً ولي عليه شيء ولو كان درهم كما جاء في الخبر، يقول: لي ما دام رقيق أنا أتصرف وما اكتسبه فهو في مدة ملكي له، ما بعد تحرر، فهو من نصيبي، له أن يقول هذا وإلا ليس له أن يقول؟ له أن يفسح وإلا ليس له أن يفسخ؟ كما أنه بالمقابل للعبد أن يعجز نفسه، يقول: عجزت عن تسديد نجوم الكتابة، فأعود رقيقاً، فيلغي المكاتبة، فهل تلغى من الطرفين أو من طرفٍ واحد؟ يعني ليس للسيد أن يلغيه؟ إذا كاتب واتفقوا على نجوم، والحديث يدل على أنه رقيق، ما زال رقيقاً حتى تنتهي هذه النجوم، والسيد يقول: ما دام رقيق إلى أن تنتهي، فقبل أن تنتهي هو يسعى ويكتسب وما زال في ملكي، فسعيه وأجرته وما يكتسبه لي، تبعاً له، تبعاً للرقيق نفسه، فهل هي عقد جائز أو لازم؟ طالب: مثل عقد التبرعات؟ هذا فيه معاوضة. طالب: المكاتبة ما يكون فيها شروط؟ إلا كتابة، فيها كتابة بين الطرفين. طالب: إذاً العقد لازم. طالب آخر: المسلمون على شروطهم. المسلمون على شروطهم، لكن يقول الأخ: ما فائدة الكتابة والإشهاد؟ إذا كان لكل واحدٍ أن يلغي العقد إيش الفائدة من الكتابة والإشهاد عليها؟! طالب: إذا بلغ المبلغ، إذا أدى العبد المبلغ خلاص؟ طالب: العبد له أن يفسخ إذا عجز أما السيد ليس له. يعني لازم من وجهٍ دون وجه، لكن السيد أن يقول: ما دام الحديث يقول: ((المكاتب رقٍ ما بقي عليه درهم)) فهو رقيق إلى آخر نجم، ما دام ما سلم آخر نجم فهو رقيق، وهذه النجوم التي اكتسبها وأداها إليّ من حقي، هو اكتسبها في ظل ملكي له.

لكن الغنم مع الغرم، والخراج بالضمان، إن كان ينفق عليه أثناء تأديته نجوم الكتابة، ويؤديه ويسكنه، ويصرف مطعمه وملبسه فهو في حكم الرقيق، وما جمعه في هذه المدة لسيده، ولسيده حينئذٍ أن يتصرف مثل هذا التصرف؛ لأنه ينفق عليه، والخراج بالضمان، أما إذا كاتبه وقال: لا تعرفني ولا أعرفك إلا في كل شهر وإلا في كل سنة، تعطيني هذا المبلغ، ولا ينفق عليه ولا يؤويه ولا يلبسه مما يلبس ولا يطعمه مما يطعم، مثل هذا ليس له عليه كلام. طالب: التعاون معه،. . . . . . . . . العبد قن ما بقي عليه درهم. باقي قن. الشيخ: إيه حكماً هذا، هو في حكم القن، لكن هل لسيده أن يستخدمه؟. الطالب: لا. وهو ما يكد عليه ولا ينفق عليه ولا يسكنه؟ هذا ينافي مقتضى عقد الكتابة، إذا قال له: أكاتبك على اثنا عشر ألف في كل شهر تعطيني ألف، لكن تجي تشتغل عندي في المحل، ما دام ما سددت، أنت قن لا زلت، هل له أن يقول ذلك؟ يقول: كيف أكتسب لك وأجيب لك نجوم، وأنا أشتغل عندك؟ لا شك أنه ليس له عليه سلطان في هذه المدة. طالب: كذلك الورثة ليس لهم أن يفسخوا العقد؟ هو ما دام العقد لازم مع أبيهم فهم في حكمه. قلت: لم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة، والأصحاب يقولون: إنها جائزة ويسمونها قطاعة، وأما قول الشافعي: إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح؛ لأنه لو كان صحيحاً لجاز لغيره أن يقول: لا يجوز على أقل من خمسة نجوم .. يعني تحديد لم يرد به الشرع، فللخصم أن يدعي من التحديد غير ما حدده خصمه. لا يجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأنها أقل النجوم التي كانت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بريرة، وعلم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقضى فيها فكان بصواب الحجة أولى .. تقدم في قصة بريرة أنه على تسع أواقٍ في تسع نجوم، فهي تسعة نجوم لا خمسة. روى البخاري عن عائشة: أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين .. الحديث .. وتقدم قبل ذلك أنها تسع أواق في تسع سنين، وقد رواه الأئمة.

كذا قال الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين، وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، الحديث ... وظاهر الروايتين تعارض، غير أن حديث هشام أولى لاتصاله وانقطاع حديث يونس لقول البخاري وقال الليث: حدثني يونس، ولأن هشاماً أثبت في حديث أبيه وجده من غيره، والله أعلم. السابعة: المكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء، لقوله -عليه السلام-: ((المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم)) أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروي عنه أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيّما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد)) وهذا قول مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري وروي ذلك عن ابن عمر من وجوه وعن زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة لم يختلف عنهم في ذلك -رضي الله عنهم-، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء، قال مالك: وكل من أدركنا ببلدنا يقول ذلك، وفيها قول آخر روي عن علي أنه إذا أدى الشطر فهو غريم، وبه قال النخعي، وروي ذلك عن عمر -رضي الله عنه- والإسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، خير من الإسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رِق عليه، قاله أبو عمر، وعن علي أيضاً يعتق منه بقدر ما أدى .. فيكون مبعضاً، إذا أدى الشرط يكون حينئذٍ مبعضاً على هذا القول.

وعنه أيضاً: أن العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه، وقال ابن مسعود: إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم، وهذا قول شريح، وعن ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدَّى العبد المائة التي هي قيمته عتق، وهو قول النخعي أيضاً، وقول سابع: إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي الربع فهو غريم، ولا يعود عبداً، قاله عطاء بن أبي رباح، رواه ابن جريج عنه، وحكي عن بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر، وهو غريم بالكتابة، ولا يرجع إلى الرق أبداً، وهذا القول يرده حديث بريرة لصحته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه دليل واضح على أن المكاتب عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك، إذ من سنته المجمع عليها ألا يباع الحر، وكذلك كتابة سلمان وجويرية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا الكتابة، وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، وقد ناظر عليَّ بن أبي طالب زيد بن ثابت في المكاتب، فقال لعلي: أكنتَ راجمه لو زنى، أو مجيزاً شهادته لو شهد؟ فقال علي: لا، فقال زيد: هو عبد ما بقي عليه شيء، وقد روى النسائي عن علي وابن عباس -رضي الله عنهم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما أدى، ويرث بقدر ما عتق منه، وإسناده صحيح .. مخرج؟ طالب: قال: أخرجه النسائي في. . . . . . . . . من حديث علي وابن عباس ورجاله رجال مسلم، سوى محمد بن عيسى النقاش شيخ النسائي فإنه مقبول، بل إسناده لين، وصدر الحديث يتقوى بشواهده، وأما عجزه فغريب وهو ضعيف، والحديث في الإرواء ولكن ما نظرت فيه.

وهو حجة لما روي عن علي، ويعتضد بما رواه أبو داود عن نبهان مكاتب أم سلمة قال: سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه)) وأخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، إلا أنه يحتمل أن يكون خطاباً مع زوجاته أخذاً بالاحتياط والورع في حقهن، كما قال لسودة: ((احتجبي منه)) مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة: ((أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ )) يعني: ابن أم مكتوم، مع أنه قال لفاطمة بنت قيس: ((اعتدي عند ابن أم مكتوم)) وقد تقدم هذا المعنى. تقدم هذا المعنى قريباً، قبل درس أو درسين أن المرأة مأمورة أن تحتجب عن الأعمى، وأضفنا فيما تقدم أن الحديث فيه ضعف، وأما أمره بالاعتداد عند أم مكتوم فلأنه رجل أعمى، فإذا احتاجت المرأة أن تسكن مثل ما ذكرنا سابقاً عند أسرة بدون خلوة ورب هذه الأسرة أعمى فهو أفضل من ما لو كان مبصراً، لأنه لا يراها، وإذا أرادت النظر إلى الرجل يستوي في ذلك الأعمى والمبصر، هذا من قبلها، لا يجوز للمرأة أن تنظر نظر شهوة إلى الرجال، لا المبصرين ولا العميان، وأما بالنسبة للرجل الأعمى، فلا شك أن الحاسة مفقودة عنده فهو خير من المبصرين في هذه المسألة بالنسبة للنساء. الثامنة: أجمع العلماء على أن المكاتب إذا حَلّ عليه نجم من نجومه، أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين. التاسعة: قال مالك: ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال فذلك إليه، وقال الأوزاعي: لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قوياًَ على الأداء .. بل يلزم بما اشترط، إذا كان قادراً. وقال الشافعي: له أن يعجِّز نفسه، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم، فإذا قال: قد عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه، وقال مالك: إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده قبل العجز حَلَّ له كان من كسبه أو من صدقة عليه، وأما ما أعين به على فكاك رقبته فلم يفِ ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب ..

لأن هذا كالمشروط، إذا أعطي المال ليدفعه إلى سيده الذي كاتبه بهذا القيد، يعطيه التاجر المال ويقول: اقض به دين الكتابة، فانحلت الكتابة وارتفع الوصف، لا يحل له أن يأخذ لا هو ولا السيد من هذا المال شيء، ومثل هذا لو أعطي شخص لعمل برٍ من الأعمال، إما لبناءة مسجد، أو لتفطير صائم، أو لشراء شيء للفقراء أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يصرف إلا في هذه المصارف، فلو بقي منه شيء؟ أعطي عشرة آلاف لتفطير الصوام خلاص شهر رمضان فكفاهم خمسة آلاف، يقول: هذه الخمسة نحتاجها في ترميم المسجد، أو شراء بعض الآلات التي يحتاجها المصلون؟ نقول: لا، الذي أعطاك المال، أعطاك على أساس أنه لتفطير الصائم، فكأنه اشترط عليك، فإما أن تعيده إليه، أو تستأذنه في أن يصرف في غير هذا المصرف، ومثل هذا لو أعطي العبد لسداد نجوم الكتابة، ثم بعد ذلك عجز عنها، أنه لا يحل له ولا يحل لسيده. طالب: يعاد المال؟ الشيخ: يعاد المال، إلا إذا طابت به نفس صاحبه، ولم يكن زكاة. طالب: لو كان المصرف الثاني أكثر نفعاً؟ الشيخ: ولو كان، ما دام خصصه المعطي لا يتجاوز به ما خصص؛ لأن له نظر في ماله غير نظر غيره. طالب: وإن كان من مسجد إلى مسجد؟ المقصود أنه إذا لم يحتج إليه في المصرف نفسه ووجد مصرف مثل مصرفه، يعني أعطي تفطير صائم لهذا المسجد، اكتفى هذا المسجد فيفطر به صائم في مسجدٍ آخر، المصرف واحد، فأعطي لهذا المسجد لشراء أدوات، فتبرع شخص آخر وبادر وأمن هذه الأدوات، يصرف في نفس المصرف، وإن لم يوجد يعاد إلى صاحبه. طالب: الأوقاف؟ الشيخ: الأوقاف التي ينص على مصرفها، مثله. طالب: لو تعطلت منافعها؟ الشيخ: أما إذا تعطلت منافع الوقف بالكلية، فهذا ينقل. طالب: هل ينقله الناظر، أولا بد أن يرجع إلى ولي الأمر؟ الشيخ: لا بد من الرجوع، لا يتصرف أحد من نفسه، لأن تقدير هذه المسألة، تقدير تعطل المنافع وغيرها إنما هو له، النظر له أو لمن ينيبه. طالب: إذا كانت الأموال من عدة أشخاص، مثلاً تفطير صائم في هذا المسجد، فجمعوا جماعة المسجد فبقي المال؟ الشيخ: يصرف تفطير صائم في مسجدٍ آخر؛ لأنه من نفس المصرف اللي هو التفطير. طالب: يؤخر إلى سنة قادمة؟

الشيخ: على كل حال إذا لم يجد من يحتاجه في هذا الوقت وأخره لمصلحة المستفيد منه، وهو الصائم لا مانع -إن شاء الله تعالى-. ولو أعانوه صدقة لا على فكاك رقبته، فذلك إن عجز حل لسيده ولو تم به فكاكه وبقيت منه فضلة فإن كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص، أو يحللونه منها، هذا كله مذهب مالك فيما ذكر ابن القاسم، وقال أكثر أهل العلم: إن ما قبضه السيد منه من كتابته وما فضل بيده بعد عجزه من صدقة أو غيرها فهو لسيده يطيب له أخذ ذلك كلِّه، هذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد بن حنبل ورواية عن شريح. وقال الثوري: يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب، وهو قول مسروق والنخعي، ورواية عن شريح، وقالت طائفة: ما قبض منه السيد فهو له، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده، وهذا قول بعض من ذهب إلى أن العبد يملك، وقال إسحاق: ما أعطي بحال الكتابة ردّ على أربابه .. لأنه أعطي لهذا الأمر، وعلق بهذا الوصف، ما دام الوصف موجوداً ساغ أو مضت العطية، وإذا ارتفع الوصف تعاد هذه العطية. العاشرة: حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت، واختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك، وقد ترجم البخاري (باب بيع المكاتب إذا رضي) وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضي المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزاً ذهب ابن المنذر والداودي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، وبه قال ابن شهاب وأبو الزناد وربيعة غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبيع عجز منه، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتباً حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال، وهو قول الشافعي بمصر .. على كل حال في مثل هذه الصورة يلاحظ مصلحة الرقيق، فإن كان بيعه بعد مكاتبته لمن أراد أن يستعمله ويعيده رقيقاً، هذا ليس من مصلحته، أما بيعه لمن يعتقه فهذا من مصلحته، وهو ما تدل عليه قصة بريرة. وكان بالعراق يقول: بيعه جائز، وأما بيع كتابته فغير جائزة، وأجاز مالك بيع الكتابة، فإن أداها عتق، وإلا كان رقيقاً لمشتري الكتابة .. كأنه بيع مشروط، أبيعك هذا الغلام إن عجز عن تسديد نجوم الكتابة، فيكون كأنه بيع بشرط. ومنع من ذلك أبو حنيفة؛ لأنه بيع غرر ..

لأنه ما يدرى ما مآل هذا العبد، هل يثبت عقده أو لا يثبت؟. واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة، وقالت طائفة: يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته، فإن أدَّى عتق، وكان ولاؤه للذي ابتاعه، ولو عجز فهو عبد له، وبه قال النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور، وقال الأوزاعي: لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد وإسحاق قال أبو عمر: في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع، ولم يكن عاجزاً عن أداء نجم قد حل عليه بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز؛ لأن بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم ولا أخبرت بأن النجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعاجزة أنت؟ أم هل حل عليك نجم؟ ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن أداء ما قد حل؛ لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سألها أعاجزة هي أم لا؟ وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه -صلى الله عليه وسلم- أنها عاجزة، ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها، وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئاً ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء يعارضه، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها. استدل من منع من بيع المكاتب بأمور: منها أن قالوا: إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها كاتبت أهلي معناه أنها راوضتهم عليها .. يعني مجرد وعد بينهما، ولم يتم العقد، هذا جواب من يرى منع بيع المكاتب، والصواب جواز بيعه لمن أراد أن يعتقه، إذا كان به حظ للمكاتب؛ لأن الشرع يتشوف إلى العتق بخلاف العكس، أما من أراد أن يعيده إلى الرق فلا يباع عليه.

وقدروا مبلغها وأجلها ولم يعقدوها، وظاهر الأحاديث خلاف هذا، إذا تؤمل مساقها، وقيل: إن بريرة عجزت عن الأداء فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صحّ البيع إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف، وقال سحنون: لا بد من السلطان، وهذا إنما خاف أن يتواطأ على ترك حق الله تعالى، ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت، فظاهر هذا أن جميع كتابتها أو بعضها استحق عليها؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم. هذه التأويلات أشبه ما لهم فيها من الدخل ما بيناه، وقال ابن المنذر: ولا أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت، قال الشافعي: وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه .. لأن عائشة اشترت بريرة، فالدليل يدل على جواز بيع المكاتب، لكن هذا ليس على إطلاقه يباع من أي أحد، كما أنه لا يجوز بيعه لمن يظلمه أو يخشى منه أن يستعمله استعمالاً غير شرعي لا يجوز بيعه عليه، فكذلك في مثل هذه الصورة لا يباع على من أراد إعادته إلى الرق، إنما يباع على من أراد عتقه؛ لأن الشرع يتشوف إلى العتق. الحادية عشرة: المكاتب إذا أدى كتابته عتق، ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد .. يعني يعتق بمجرد سداد نجوم الكتابة، ولا يحتاج أن يتلفظ بأنه عتق، فلا يقول السيد: أعتقتك وأنت حر بعد ذلك. وكذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته يعتقون بعتقه ويرقون برقه؛ لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتباراًَ بالحر، وكذلك ولد المكاتبة فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط. الثانية عشرة: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [(33) سورة النور].

لكن لو كان وقت الكتابة حمل، ثم ولد بعد الكتابة، حُمل به قبل الكتابة ثم ولد بعدها، هل تشمله الكتابة أو لا بد من التنصيص عليه؟ لأنه يقول هنا: "كذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه؛ لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتباراً بالحر، وكذلك ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط" يعني فرق بينما كان قبل الكتابة وبينما كان بعده، ما كان بعده يدخل، وما كان قبله لا يدخل، لكن إذا كان قبله حملاً، هو حمل قبل، وولد بعد الكتابة، فهل العبرة بالحمل به أو العبرة بولادته؟ طالب: إذا عرف. . . . . . . . .؟ يعني تبعاً لما تترتب عليه أحكامه هو، وأحكام الحمل إنما تترتب على نفخ الروح، فلا يصلى عليه ولا يغسل ولا يكفن إلا إذا نفخت فيه الروح، وأما أحكام الأم فهي تتربت على تخليقه، إذا ظهر فيه خلق الإنسان، والمراد ما يتعلق به هو من نفخ الروح. الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [(33) سورة النور] هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً مما في أيديهم -أعني أيدي السادة- أو يحطوا عنهم شيئاً من مال الكتابة قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته، وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفاً، واستحسن علي -رضي الله عنه- أن يكون ذلك ربعَ الكتابة. قال الزهراوي: روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستحسن ابن مسعود والحسن بن أبي الحسن ثلثها، وقال قتادة: عشرها، قال ابن جبير: يسقط عنه شيئاً ولم يحده، وهو قول الشافعي، واستحسنه الثوري، قال الشافعي: والشيء أقل شيء يقع عليه اسم شيء .. يعني مثل متعة المرأة المطلقة، مأمور بها لكن لا تحد بشيء، يرجع فيها إلى يسار الزوج وعسره، ومثل هذا فيه المكاتبة يرجع فيه إلى يسر السيد وعسره.

ويجبر عليه السيد، ويحكم به الحاكم على الورثة إن مات السيد، ورأى مالك -رحمه الله تعالى- هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضيعة حداً، واحتج الشافعي بمطلق الأمر في قوله: {وَآتُوهُم} ورأى أن عطف الواجب على الندب معلوم في القرآن ولسان العرب، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [(90) سورة النحل] وما كان مثله. قال ابن العربي وذكره قبله إسماعيل بن إسحاق القاضي، جعل الشافعي الإيتاء واجباً والكتابة غير واجبة، فجعل الأصل غير واجب والفرع واجباً، وهذا لا نظير له، فصارت دعوى محضة، فإن قيل: يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه منها المتعة، قلنا: عندنا لا تجب المتعة، فلا معنى لأصحاب الشافعي، وقد كاتب عثمان بن عفان عبده وحلف ألا يحطه في حديث طويل. التنظير المطابق لمثل هذا في النذر، أصل النذر ليس بواجب بل مكروه، ولا يأتي بخير، لكن إذا ثبت لزم ووجب. قلت: وقد قال الحسن والنخعي وبريدة: إنما الخطاب بقوله: {وَآتُوهُم} للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم، وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، وهو الذي تضمنه قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [(60) سورة التوبة] وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئاً عن مكاتبه، ودليل هذا أنه لو أراد حط شيء من نجوم الكتابة لقال: وضعوا عنهم كذا. لقال: ... إيش. الطالب: لقال وضعوا عنهم. خبر ولا أمر. الطالب: أمر. كاتبهم وضعوا الثالثة عشرة: إذا قلنا: إن المراد بالخطاب السادة، فرأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مبادرةً إلى الخير خوفاً ألا يدرك آخرها، ورأى مالكُ -رحمه الله تعالى- وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم، وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد، فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته، وهي شبه الصدقة، وهذا قول عبد الله بن عمر وعلي، وقال مجاهد: يترك له من كل نجم ..

إذا كاتبه على اثنا عشر نجم مثلاً، كل نجم ألف، ووضع عنه من كل نجمٍ مائة، صار المجموع ألف ومائتين، أو وضع عنه النجم الأول أو النجم الأخير، إن خفف عنه من كل نجمٍ مائة لا شك أن هذا قد يكون أيسر، وإن خفف عنه الأخير لا سيما وأنه في أول الأمر سوف يسعى ويجتهد ويجد في الأشهر الأولى ويحصل النجم كاملاً، وقد يزيد عليه، لكنه في الآخر قد يتراخى فيحتاج إلى مساعدة ومعاونة، يكون في الأخير. قال ابن العربي: والأقوى عندي أن يكون في آخرها؛ لأن الإسقاط أبداً إنما يكون في أخريات الديون. وفيه حفز للمدين أن يسدد؛ لأنه إذا وعد بأن يسقط عنه النجم الأخير حرص على السداد، لكن إذا أسقط عنه النجم الأول تراخى. الرابعة عشرة: المكاتب إذا بيع للعتق رضاً منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه شيئاً، سواءً باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه منها أو يضعُ عنه من آخرها نجماً أو ما شاء، على ما أمر الله به في كتابه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر موالي بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئاً وإن كانوا قد باعوها للعتق. الخامسة عشرة: اختلفوا في صفة عقد الكتابة، فقال ابن خويز منداد: صفتها أن يقول السيد لعبده: كاتبتك على كذا وكذا من المال في كذا وكذا نجماً إذا أديته فأنت حر، أو يقول له: أدّ إليّ ألفاً في عشرة أنجمٍ وأنت حر، فيقول العبد: قد قبلت، ونحو ذلك من الألفاظ، فمتى أدّاها عتق .. لأنها متضمنة للإيجاب والقبول. وكذلك لو قال العبد: كاتبني، فقال السيد: قد فعلت، أو: قد كاتبتك، قال ابن العربي: وهذا لا يلزم؛ لأن لفظ القرآن لا يقتضيه، والحال يشهد له، فإن ذكره فحسن، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه، ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرنا من أصوله جملةً فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية.

السادسة عشرة: في ميراث المكاتب، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك أن المكاتب إذا هلك وترك مالاً أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته؛ لأن حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالاً، ولا يعتقون إلا بعتقه، ولو أدّى عنهم ما رجع بذلك عليهم؛ لأنهم يعتقون عليه فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله .. الكتابة دين من الديون مقدمة على الإرث كما هو معلوم. والقول الثاني: أنه يؤدى عنه من ماله جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حراً، ويرثه جميع ولده، وسواء في ذلك من كان حراً قبل موته من ولده، ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته؛ لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدّت عنهم كتابتهم، روي هذا القول عن علي وابن مسعود، ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق. والقول الثالث: أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبداً، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته؛ لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبداً، وماله لسيده فلا يصح عتقه بعد موته؛ لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدّوا عتقوا؛ لأنهم كانوا فيها تبعاً لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا، هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ..

إذا مات المكاتب وبقي عليه نصف نجوم الكتابة وله أولاد إما أن أعتقوا عتق لا كتابة وتحرروا، وبقي والدهم مكاتباً فمات بعد سداد نصف النجوم فهل عليهم أن يؤدوا ليكون حراً؟ تتم حريته؟ أو ليس عليهم ذلك ليموت رقيقاً ويكون من مال سيده؛ لأنه ما زال رقيقاً ما دام من نجوم الكتابة شيء باقي؟ يلزمهم وإلا ما يلزمهم؟ يعني: هل هو كالدين العادي؟ يعني لو أن المكاتب مات، هل نقول: أن حكمه حكم المدين؟ بمعنى أنه مرتهن بدينه، ويكفر عنه كل شيء إلا هذا الدين دين الكتابة، أو نقول: هذا عقد إرفاق، ولا يدخل في المعاوضات، ولا يكون حكمه حكم الديون التي قد يكون أخذها تكثراً؟ لا شك أن هذا في شراء الإنسان نفسه يختلف عن سائر الديون. قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [(33) سورة النور] روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس -رضي الله عنهم- أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى معاذة، والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنا ويضربهما عليه ابتغاء الأجر، وكسب الولد، فشكتا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت الآية فيه، وفيمن فعل فعله من المنافقين، ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوجها. وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذٍ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرِهاً، ويمكن أن يُنهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يُتصور أن يقال للسيد لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها، وهي مريدة للزنا ..

إن أردن تحصنا عن الزنا بهذا الشخص بعينه، أو أردن تحصناً عن الزنا مطلقاً؟ لأنها قد تريد التحصن عن الزنا بهذا الرجل الذي أكرهت عليه، فيتصور الإكراه لها وهي لا تريد التحصن لأنها تريد الزنا من غيره، فهذا وصف حينئذٍ كاشف لا مفهوم له، وحينئذٍ لا تكره على الزنا مطلقاً، إن أرادت التحصن أو لا تريد التحصن. فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن عن المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبةٌ في الزنا لم يتصور إكراه، فحصلوه، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قولَه: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} راجع إلى الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير: أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم، إن أردن تحصناً، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: {إِنْ أَرَدْنَ} ملغى ونحو ذلك مما يضعف، والله الموفق. قوله تعالى: {لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [(33) سورة النور] أي الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها، والولد ليسترقَّ فيباع، وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها. قوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ} أي يقهرهن، {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ} لهن {رَّحِيمٌ} بهن، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير: لهنَّ غفور، بزيادة لهن .. في كلام أبي حيان في البحر المحيط ما يفهم منه أن المغفرة هذه، فإن الله من بعد إكراههن غفور لهم، للمكرهين، رحيم بهم، لكن هذا مشروط بالتوبة، أما إذا أكرهوا فعليهم العذاب لا الرحمة ولا المغفرة، عليهم هذا الوعد. وقد مضى الكلام في الإكراه في النحل، والحمد لله، ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل عليهم من الآيات المنيرات، وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم، ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه. اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد. طالب: العبد إذا أراد أن يسدد ما بقي عليه من النجوم دفعة واحدة له ذلك؟. الشيخ: له ذلك، إيه لأن التنجيم من مصلحته، فإذا تنازل فالأمر لا يعدوه.

سورة النور - تفسير الآيتين: {الله نور السماوات} و {في بيوت}

تفسير القرطبي سورة النور تفسير الآيتين: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ} و {فِي بُيُوتٍ} الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [(35) سورة النور] قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية .. ، النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر، واستعمل مجازاً فيما صح من المعاني ولاح، فيقال منه: كلام له نور، ومنه الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر: نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عموداً والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره، وقال: فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ. وقال آخر: هلا خصصت من البلاد بمقصد ... قمر القبائل خالد بن يزيد وقال آخر: إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها

فيجوز أن يقال لله تعالى: نور من جهة المدح؛ لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وهذا كله محال على الله تعالى عقلاً ونقلاً، على ما يعرف في موضعه من علم الكلام، ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام، نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور، وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام، والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها، منها هذه الآية، وقوله -عليه السلام- إذا قام من الليل يتهجد: ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض)) وقال -عليه السلام- وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: ((رأيت نوراً)) إلى غير ذلك من الأحاديث. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد ابتدأ المؤلف تفسير هذه الآية بالنور المثبت للبشر، وتصور أنه لا نور إلا هذا النور، فلما هجم على قلبه وعلى رأيه هذا الأمر، والله -جل وعلا- ليس كمثله شيء، ومنزه عن مشابهة المخلوقين، كما هو دأبهم وشأنهم في جميع الصفات، يهجم على قلوبهم ما يخص البشر منها، ثم يستصحبون تنزيه الله -جل وعلا- عن مشابهة المخلوقين، ليس كمثله شيء، ثم ينفون ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله -عليه الصلاة والسلام- ظناً منهم أنه مثل ما يليق بالبشر، ومثلما ما يعرفون، فشبهوا أولاً ثم عطلوا –هذه عادتهم– والله -جل وعلا- أثبت لنفسه أنه نور، وأثبت أنه له نفس {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [(116) سورة المائدة] لكن هل هذه النفس هل هي مثل نفوس المخلوقين؟ أثبت له بصر، أثبت له سمع، هل يلزم من هذا الإثبات أن يكون سمعه وبصره مثل سمع المخلوقين وبصرهم؟ وكذلك النور، لا يلزم منه أن يكون مثل نور المخلوقين، وقوله هنا: أن هذا تناقض، هذا ليس بتناقض، هم يقولون أنهم يثبتون أنه نور لا كالأنوار، فإذا أثبتوا أنه نور لا بد أن يكون كالأنوار –على رأيه– فإذا أثبتوا أنه نور ثم نفوا أنه نور هذا تناقض، أثبتوا أن له جسم ثم نفوا أن له جسم، أثبتوا أن له جسم، له نور، كما جاء في هذه الآية وغيرها، ثم قالوا: لا كالأنوار فنفوا، لأنه لا يعرف من النور إلا الأنوار المشاهدة، ومن هنا دخل على هؤلاء المبتدعة الدخل، لا يتصورون مما جاء في النصوص مما يتعلق بالرب -جل وعلا- إلا ما يتصورون عن المخلوق، لا يتصورون إلا هذا.

فإذا أثبتوا له سمع، قالوا ما نعرف سمع إلا سمع المخلوق الذي يطرقه الكلام بواسطة الأذن، ثم بعد ذلك تنقله الأذن إلى كذا، ما نتصور إلى هذا، وكذلك السمع والبصر، ما نتصور إلا هذا والله -جل وعلا- منزه عن مشابهة المخلوقين، وما علموا أن للخالق ما يخصه من هذه الأمور، من هذه المثبتات، في كتاب الله -جل وعلا- وعلى لسانه نبيه -عليه الصلاة والسلام- وللمخلوق ما يخصه، إذا كان المخلوق يتفاوت، تتفاوت هذه الصفات فيه وهو مخلوق يشبه غيره، زيد وعمرو، زيد له وجه وعمرو له وجه، هل نقول: أن وجه زيد مثل وجه عمرو؟ وهذا مخلوق وهذا مخلوق، كل له ما يخصه، هل سمع زيد مثل سمع عمرو؟ لا، هذا له ما يخصه، وهذا له ما يخصه، فضلاً عن أن ننتقل إلى المخلوقات الأخرى، فالإنسان له وجه والحمار له وجه، والكلب له وجه، والقرد له وجه، والنملة لها وجه، وهي مخلوقات، تشترك، قاسمها المشترك أنها كلها مخلوقة ومرئية ومتصورة، ومع ذلك هذا التفاوت الكبير بين هذه المخلوقات، فكيف بالتفاوت بين الخالق والمخلوق؟. طالب: هم أثبتوا أن الله تعالى نور لا كالأنوار، ما يكون بناءً على فهم لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [(11) سورة الشورى]؟. هذا الإثبات صحيح، نور لا كالأنوار صحيح، سمع لا كالأسماع، بصر لا كالأبصار، يعني لله -جل وعلا- ما يليق به. طالب: يعني ليس هناك محذور في هذا؟ ما في إشكال، مسألة الجسم هذا الذي فيه كلام. طالب: لأنه قال يا شيخ: "وهذا كله محال على الله تعالى عقلاً ونقلاً".

هذا عندهم، عندهم لما تصوروا فيما ورد عن الله في كتابه ولسان النبي -عليه الصلاة والسلام- تصوروا أنه لا بد أن يكون مثلما يعرف عن المخلوق، فهذا محال، إذا قلنا أنه نور مثل نور المخلوق، مثل نور الشمس، ومثل نور القمر، ومثل نور الكهرباء، هذا محال؛ لأن الله -جل وعلا- ليس كمثله شيء، فهم ما تصوروا في النور غير هذا، وقل مثل هذا في السمع، قالوا: سمعه مثل سمع البشر، إذا أثبتنا له سمع صار مثل سمع المخلوق، فلا بد أن ننفيه، والله -جل وعلا- ليس كمثله شيء، فالدخل عليهم دخل عليهم من هذه الناحية، فهم شبهوا أولاً، تصوروا المشابهة، ثم انتقلوا منها إلى التعطيل الذي هو على حد زعمهم التنزيه. طالب: الآن المؤلف ينتقد كلام هشام الجوالقي الذي يقول: هو نور لا كالأنوار وجسم لا كالأجسام، يقول: وهذا كله محال على الله أليست هذه. . . . . . . . .؟ لا؛ لأنه يرى أن هذا تناقض، ما دام أثبت أنه نور، لا بد أن يكون كالأنوار –عندهم-، أثبت أنه كالأنوار. طالب: هذا كلام من؟ وأين؟ طالب: "هذا كله مخالف ... " تابع لكلام من؟ هذا كلام القرطبي، هشام الجوالقي ومجموعة مجسمة معروف أنهم مشبهة، لكن كلامه هنا حق، نور ليس كالأنوار، سمع لا كالأسماع، بصر لا كالأبصار، لا يشبه المخلوقين. طالب: لا كالأنوار -يا شيخ- لا يوجد فيه نفي هنا. هو نور، أثبت كما أثبت الله لنفسه، لا كالأنوار نفى المشابهة، ما في إشكال ((نور أنى أراه)) والله -جل وعلا- كما جاء في الحديث الصحيح ((حجابه النور)) وفي رواية: ((النار)). طالب: هل يفهم من كلام القرطبي النفي؟ نعم ينفي قطعاً، هذه جادة عندهم، هو أشعري. طالب: يفهم من قوله لله تعالى نور من جهة المدح أنه. . . . . . . . . نور معنوي فقط، لأنه منور الكون.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها، فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد، أي به قِوام أمرها، وصلاح جملتها، لجريان أموره على سنن السداد، فهو في الملك مجاز، وهو في صفة الله حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات، وخلق العقل نوراً هادياً؛ لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات تبارك الله تعالى لا رب غيره، قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما، قال ابن عرفة: أي منور السموات والأرض، كذا قال الضحاك والقرظي، كما يقولون: فلان غياثنا، أي مغيثنا، وفلان زادي، أي مزودي، قال جرير: وأنت لنا نور وغيث وعصمةٌ ... ونبت لمن يرجو نداك وريقُ أي ذو ورق، وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض، أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، وقال ابن عباس وأنس: المعنى الله هادي أهل السموات والأرض، والأول أعم للمعاني، وأصح مع التأويل. قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} [(35) سورة النور] أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى نوراً، وقد سمى الله تعالى كتابه نوراً، فقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [(174) سورة النساء] وسمى نبيه نوراً، فقال: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [(15) سورة المائدة] وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول، ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع التشبيه فيه جملةً بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق، وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.

والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة، قاله ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء، والمشكاة وعاء من أدم، كالدلو يبرد فيه الماء، وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة، قال الشاعر: كأن عينيه مشكاتان من حجرٍ ... قيضا اقتياضاً بأطراف المناقير وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وقال مجاهد: هي القنديل. وقال: {فِي زُجَاجَةٍ} [(35) سورة النور] لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج والمصباح: الفتيل بناره. {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [(35) سورة النور] أي في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك، وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور، قال الضحاك: الكوكب الدري هو الزهرة. قوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي من زيت شجرة فحذف المضاف، والمباركة المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان كذلك، والعيان يقتضي ذلك، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس: ليت شعري مسافر بن أبي عمرو ... وليت يقولها المحزون بورك الميت الغريب كما بورك ... نبع الرمان والزيتون طالب: هذه اللفظة -يا شيخ- (والمعسان) قال في الحاشية: هكذا وردتها هذه الكلمة في بعض نسخ الأصل وفي بعضها والمعنيان يقتضي، ولعلها: والمعنى يقتضي. والعيان يقتضي ذلك، يعني المشاهدة، الواقع يشهد بذلك. وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها، وقال ابن عباس: في الزيتونة منافع يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة، حتى الرماد يغسل به الأبريسم، وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء، والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبياً بالبركة، منهم إبراهيم ومنهم محمد -صلى الله عليهما وسلم- فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اللهم بارك في الزيت والزيتون)) قاله مرتين. مخرج؟

طالب: قال لم أجده بهذا اللفظ وتقدم في الزيتون والزيت أحاديث كثيرة في. . . . . . . . . سورة النور. قوله: في تفسير قول الله -جل وعلا-: {مَثَلُ نُورِهِ} مثل نوره: النور نور الرب -جل وعلا-، ولكن هل المقصود به في مثل هذه الإضافة المنفصل عنه أو المتصل به؟ لأن ابن القيم أيضاً يفسر مثل هذا التفسير، مثل تفسير القرطبي، يقول: مثل نوره في قلب عبده المؤمن، يعني نور الله الذي يقذفه في قلب عبده المؤمن ويكون هذا بالدلائل من الكتاب والسنة، وبالإتباع والإخلاص يكون النور في قلب العبد، وهذا يرجحه التشبيه بالمشكاة، فالمشكاة وعاء فيها هذا النور، والقلب وعاء فيه هذا النور الذي يقذفه الله -جل وعلا-، فالتأويل على هذا مستقيم، وخص الزيتون لا شك أنه مبارك، يوقد من شجرةٍ مباركة. وقد رأى كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه رجل مريض رأى رجلاً في المنام يقول له: شفاؤك في لا ولا، فذهب إلى عابر فقال: الزيتون {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} شفاؤك في لا ولا، فوصف له الزيتون؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} يعني هل هذا التأويل الذي ذكره المؤلف وابن القيم كذلك يكون معارض لما تقدم مما يليق بالله -جل وعلا-؟ يعني الذي يضاف إلى الله -جل وعلا- نوره مثلاً، بيته، دابة الله، الدابة، البيت، فإذا كان معنىً من المعاني له حكم، وإن كان جسماً من الأجسام له حكم، والنور يحتمل أن يكون معنى وأن يكون جسماً، فمثل نوره مثل مثل بيته، النور المنفصل مثل بيت المخلوق المبدَع المنشئ، هذا النور الذي يقذفه الله -جل وعلا- في قلب عبده المؤمن لأنه اقترن بالتشبيه الذي فيه: {مَثَلُ نُورِهِ} والله -جل وعلا- قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [(11) سورة الشورى] وما يقال في ذاته يقال في صفاته، ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، وما دام ثبت هذا التمثيل لا بد أن يكون غير المتصف به -جل وعلا-؛ لأن الله -جل وعلا- ليس كمثله شيء.

قوله تعالى: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} اختلف العلماء في قوله تعالى: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت؛ لأن لها ستراً والغربية عكسها، أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض، لا يواريها عن الشمس شيء، وهو أجود لزيتها .. يعني تصيبها الشمس من الشرق والغرب، ومن جميع الجهات، أما إذا كانت بحذاء الجدار الغربي فإنها شرقية تصيبها الشمس من جهة الشرق فقط، وإذا كانت بحذاء الجدار الشرقي صارت غربية، تصيبها الشمس إذا غربت، وهكذا، وأما هذه التي أشير إليها فإنها تصيبها الشمس في طلوعها ومغربها. طالب: يا شيخ الجدار الشرقي؟ إي جدار شرقي؟ الآن لو جبنا زيتون وفرضنا أن هذا مكشوف، تضربه الشمس، وزرعناها هنا، تضربها الشمس إذا طلعت؟ طالب: لا. إذاً هي غربية وليست شرقية؛ لأنها تضربها الشمس إذا غربت، وقل مثل هذا لو زرعناها هناك عندك الجدار الثاني، أي جدارٍ كان. فليست خالصةً للشرق فتسمى شرقية، ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية، وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب، قال ابن عطية: وهذا قول لا يصح عن ابن عباس؛ لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود، وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، إنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وأما غربية، قال الثعلبي: وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا؛ لأنها بدل من الشجرة، فقال: {زَيْتُونِةٍ} وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقي ولا غربي، وشجر الشام هو أفضل الشجر، وهي الأرض المباركة، وشرقية نعت لـ {زَيْتُونِةٍ} و {لا} ليست تحول بين النعت والمنعوت، و {وَلَا غَرْبِيَّةٍ} عطف عليه ..

يعني: إذا قلنا: أنها من شجر الشام، فالشام في وسط الأرض ليس في شرقها ولا في غربها، ليست من شجر المغرب، وليست من شجر المشرق كالهند والصين وباكستان، وما أشبه ذلك، فهي في وسط الأرض، وهي الأرض المباركة على هذا التقدير، وأما على القول الأول أنها في أي بلدٍ كان مباركة، على القول الثاني لا بركة إلا في زيتون الشام؛ لأنها في الوسط لا شرقية ولا غربية، وعلى القول الأول أنها الغربية التي تصيبها الشمس إذا غربت، والشرقية تصيبها الشمس إذا شرقت، والشجرة المباركة ليست كذلك، فتكون في أي أرضٍ زرعت مباركة. قد يقول قائل: لماذا لا نقول في قوله -جل وعلا-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}؟ وهذا التشبيه إنما هو لمجرد التقريب ولبيان الحقيقة، يعني مثلما جاء في الحديث: كان الله سمعياً بصيراً، وضع إصبعه على عينه، والأخرى على سمعه، وهذا لا يقتضي التشبيه، وإنما ليدل أن الكلام على حقيقته كما أن بصر المخلوق وسمع المخلوق حقيقة، ولا يقتضي هذا المشابهة، وإنما الاشتراك في أصل الحقيقة. قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغةً في حسنه وصفائه وجودته. {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور، واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون، فكذلك براهين الله تعالى واضحة وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، كإرساله الرسل وإنزاله الكتب ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء، وأسعد من عباده، وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان.

وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي {الله نَوَّر} بفتح النور والواو المشددة واختلف المتأولون في عود الضمير في {نُورِهِ} على من يعود؟ فقال كعب الأحبار وابن جبير: هو عائد على محمد -صلى الله عليه وسلم- أي مثل نور محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن الأنباري: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقف حسن ثم تبتدئ {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} على معنى نور محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقال أبي بن كعب وابن جبير أيضاً والضحاك: هو عائد على المؤمنين، وفي قراءة أبي: مثل نور المؤمنين، وروي أن في قراءته: مثل نور المؤمن، وروي أن فيها: مثل نور من آمن به، وقال الحسن: هو عائد على القرآن والإيمان، قال مكي: وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله: {وَالْأَرْضِ} قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال .. ولا مانع أن يعود الضمير على ما لم يجر له ذكر إذا لم يحصل لبس، إذا كان معلوماً لدى المخاطب. وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل، فعلى من قال: الممثل به محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو قول كعب الحِبر، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. نعم، أهل اللغة يكسرون الحاء، قول أكثر اللغويين يقولون: حِبر، واحد الأحبار، والمحدثون يفتحونها فيقولونها: حَبر، واحد الأحبار حَبر. هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي، والملائكة رسل الله إليه، وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي.

ومن قال: الممثل به المؤمن، وهو قول أبي، فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها، قال أبي: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، ومن قال: إن الممثل به هو القرآن والإيمان فتقدير الكلام: مثل نوره الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة، أي كهذه الجملة، وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين؛ لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان، وقالت طائفة: الضمير في {نُورِهِ} عائد على الله تعالى، وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي، وقد تقدم معناه، ولا يوقف على هذا القول على {الْأَرْضِ} قال المهدوي: الهاء لله -عز وجل- والتقدير: الله هادي أهل السموات والأرض مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة، وروي ذلك عن ابن عباس، وكذلك قال زيد بن أسلم والحسن: إن الهاء لله -عز وجل-، وكان أبي وابن مسعود يقرءآنها مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة، قال محمد بن علي الترمذي: الحكيم، صاحب نوادر الأصول. فأما غيرهما فلم يقرءآها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره في قلب المؤمن وتصديقه في آية أخرى، يقول: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [(22) سورة الزمر] واعتل الأولون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء لله -عز وجل-؛ لأن الله -عز وجل- لا حد لنوره، وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الدوري الألف من {مِشْكَاةٍ} وكسر الكاف التي قبلها.

وقرأ نصر وعاصم {زَجاجة} بفتح الزاي و {الزَجاجة} كذلك، وهي لغة، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم {دري} بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفاته، وإما أن يكون أصله دريء مهموز، فعيل من الدرء، وهو الدفع، وخففت الهمزة، ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها: الدراري، بغير همز، فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم دريء بالهمز والمد، وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها يدفع بعضها بعضاً، وقرأ الكسائي وأبو عمرو دريء بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع مثل السكير والفسيق .. يكون للمبالغة، التضعيف هذا للمبالغة. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضاً من لمعانه، قال النحاس: وضعف أبو عبيد قراءة أبي عمرو والكسائي تضعيفاً شديداً؛ لأنه تأولها من درأت أي دفعت، أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب، ألا ترى أنه لا يقال: جاءني إنسان من بني آدم، ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبي عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب مندفع بالنور، كما يقال: اندرأ الحريق: أي اندفع، وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة، وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال: الأول محمد بن يزيد المعروف بالمبرد، والثاني سعيد بن مسعدة المجاشعي، الأخفش الأوسط.

وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا، وقال الجوهري في الصحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءاً، أي طلع مفاجأة، ومنه كوكب دريء على فعيل مثل سكير وخمير؛ لشدة توقده وتلألؤه، وقد درأ الكوكب دروءاً، وقال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلاً من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدريء، وكان من أفصح الناس، قال النحاس: فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعاً قالوا: هي لحن لا تجوز؛ لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل، وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل، وإنما هو فعول مثل سبوح أبدل من الواو ياء كما قالوا: عتي، قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشده؛ لأن هذا لا يجوز البتة ولو جاز ما قال: لقال في سبوح: سبيح، وهذا لا يقوله أحد، وليس عتوي من هذا، والفرق بينهما واضح بين؛ لأنه ليس يخلو عتوي من إحدى جهتين: إما أن يكون جمع عاتٍ فيكون البدل فيه لازماً؛ لأن الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن، وقبل الساكن ضمة، والساكن ليس بحاجز حصين، أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء، وإن كان عتي واحداً كان بالواو أولى، وجاز قلبها؛ لأنها طرف، والواو في فعول ليست طرفاً فلا يجوز قلبها، قال الجوهري: قال أبو عبيد: إن ضممت الدال قلت: دري يكون منسوباً إلى الدر على فعلي ولم تهمزه؛ لأنه ليس في كلام العرب فعيل، ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولاً، مثل سبوح، فاستثقل لكثرة الضمات فرد بعضه إلى الكسر، وحكى الأخفش عن بعضهم دريء من درأته وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول، قال: وذلك من تلألئه، قال الثعلبي: وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء دَريء بفتح الدال مهموزاً، قال أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل فإن صح عنهما فهما حجة. إن صح عنهما فهما حجة، يكون موجود في كلام العرب، ونفي أبي حاتم لأنه لم يطلع على هذا.

{يُوقَدُ} قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص {يوقد} بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال، وقرأ الحسن والسلمي وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري {توقد} مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد، قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان؛ لأنهما جميعاً للمصباح .. وإذا أوقد المصباح توقّد، فلا اختلاف بينهما. وهو أشبه بهذا الوصف؛ لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له، و {توقد} فعل ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد، وقرأ نصر بن عاصم: {توقد} والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين؛ لأن الأخرى تدل عليها، وقرأ الكوفيون {توقد} بالتاء يعنون الزجاجة فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} تقدم القول فيه. {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} على تأنيث النار، وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة، وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ {ولو لم يمسسه نار} بالياء، قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده .. إذا كان غير حقيقي، يجوز تذكيره وتأنيثه، تقول: طلعت الشمس، وطلع الشمس. طالب: الضابط في التذكير والتأنيث ما هو؟ يقول: ما له فرج حقيقي، وما لا فرج له ليس بحقيقي، مجاز يسمونه.

وقال ابن عمر: المشكاة جوف محمد -صلى الله عليه وسلم-، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه، يوقد من شجرة مباركة: أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته، فأوقد الله تعالى في قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- النور كما جعله في قلب إبراهيم -عليه السلام-، وقال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد -صلوات الله عليهم أجمعين-، سماه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً، فقال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [(46) سورة الأحزاب] يوقد من شجرة مباركة وهي آدم -عليه السلام- بورك في نسله، وكثر منه الأنبياء والأولياء، وقيل: هي إبراهيم -عليه السلام- سماه الله تعالى مباركاً؛ لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه. {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وإنما كان حنيفاً مسلماً، وإنما قال ذلك؛ لأن اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى تصلي قبل المشرق. {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي يكاد محاسن محمد -صلى الله عليه وسلم- تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه. {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} نبي من نسل نبي، وقال الضحاك: شبه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزجاجة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بالمصباح كان في قلبهما فورث النبوة من إبراهيم. هذا الكلام لا أصل له، سواءً هذا والذي قبله عن محمد بن كعب، يعني هذه أمور معاني شبهت معاني، والمشبه بها أجساد. {مِن شَجَرَةٍ} أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والإيمان، شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروءة وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ومن غريب الأمر أن بعض الفقهاء قال: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبَّه عبد المطلب بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة، ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري.

{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} يعني إرث النبوة من إبراهيم -عليه السلام- هو الشجرة المباركة يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية. {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه. {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} إبراهيم ثم محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال القاضي: وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه. يعني يكون من باب التقريب، لا من باب التطبيق، يعني تقريب لأذهان السامعين في هذا التمثيل يمكن أن يتوسع به، أما تطبيق المثال على ما ذكر فلا. قلت: وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا مثل ضربه الله تعالى لنوره ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلاً تنبيهاً لخلقه إلا ببعض خلقه؛ لأن الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده، قاله ابن العربي، قال ابن عباس: هذا مثل نور الله، وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار زاد ضوؤه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا جاءه العلم زاده هدىً على هدى، ونوراً على نور .. تشوفون في بعض المحلات الثريات هذه اللي ذات الأقيام المرتفعة جداً، تجدها مثلما قال الله -عز وجل-: تكاد تضيء ولو لم يمسسها نار، يعني إن جئتها من جهة ظهر لها ألوان وأشكال وأنوار، ومن جهة أخرى كذلك، ومن جهة ثالثة كذلك، ثم إذا أشعلت فيها الأنوار زادت أنوارها، وهذا أيضاً مثال تقريبي. كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: {هَذَا رَبِّي} [(76) سورة الأنعام] من قبل أن يخبره أحد أن له رباً، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، فقال له ربه: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [(131) سورة البقرة] ومن قال: إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي.

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} يعني أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نوراً على نور، ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز، وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه، فقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أي يبيّن الأشباه تقريباً إلى الأفهام {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي بالمهدي والضال، وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء؟ فضرب الله تعالى ذلك مثلاً لنوره. قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} [(36 - 37) سورة النور] فيه تسع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} الباء في {بيوت} تضم وتكسر، وقد تقدم، واختلف في الفاء من قوله {في} فقيل: هي متعلقة بـ {مصباح} وقيل: بـ {يُسَبِّحُ لَهُ} فعلى هذا التأويل يوقف على {عليم} قال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب، كأنه قال: وهي في بيوت، وقال الترمذي الحكيم محمد بن علي: {فِي بُيُوتٍ} منفصل كأنه يقول: الله في بيوت أذن الله أن ترفع، وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنه يجالس ربه. ماذا قال؟ طالب: قال: مراده حديث: ((أنا جليس من ذكرني)) ونحوه. لا، هذا غير هذا، يعني لو ذكره في بيته صار جليساً له، لكن هذا في المسجد.

وكذا ما جاء في الخبر فيما يحكى عن التوراة: أن المؤمن إذا مشى إلى المسجد قال الله -تبارك اسمه-: عبدي زارني، وعلي قراه، ولن أرضى له قرىً دون الجنة. قال ابن الأنباري: إن جعلت {في} متعلقة بـ {يسبح} أو رافعة للرجال حسن الوقف على قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال الرماني: هي متعلقة بـ {يوقد} وعليه فلا يوقف على {عليم} فإن قيل: فما الوجه إذا كانت البيوت متعلقة ب {يوقد} في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت، ولا يكون مشكاةً واحدة إلا في بيت واحد؟ قيل: هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح بالتوحيد، ويختم بالجمع، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} [(1) سورة الطلاق] ونحوه وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت، وقيل: هو كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [(16) سورة نوح] وإنما هو في واحدة منها. واختلف الناس في البيوت هنا على خمسة أقوال: الأول: أنها المساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة، وأنها تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن. وهي المأمور برفعها –يعني ببنائها-. الثاني: هي بيوت بيت المقدس عن الحسن أيضاً، الثالث: بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مجاهد أيضاً، الرابع: هي البيوت كلها قاله عكرمة، وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [(36) سورة النور] يقوي أنها المساجد .. نعم، وأما البيوت كلها فلا فضل لها ولا مزية على البراري والقفار، أنما المراد بها المساجد التي أمر الله ببنائها، وتسبيح الله -جل وعلا- بالصلوات والأذكار في الغدو والآصال.

وقول خامس: أنها المساجد الأربعة التي لم يبنها إلا نبي: الكعبة، وبيت أريحا، ومسجد المدينة، ومسجد قباء، قاله ابن بريدة، وقد تقدم ذلك في (براءة). قلت: الأظهر القول الأول، لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أحب الله -عز وجل- فليحبني، ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد، فإنها أفنية الله أبنيته، أذن الله في رفعها، وبارك فيها، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم والله -عز وجل- في حوائجهم، هم في مساجدهم، والله من ورائهم)). ماذا قال عنه؟ طالب: قال: باطل، أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس وأعله بموسى بن عبد الرحمن الثقفي وذكر له أحاديث أخر وقال: هذه بواطيل، ووافقه الذهبي في الميزان وفي بيسان قال: ابن حبان: هو دجال وضعيف ذكره في التفسير. لكن حديث أنس؟ وعزاه لأنس؟ طالب: هو هذا حديث أنس. أنت قلت: من حديث ابن عباس؟ عند ابن عدي من حديث ابن عباس؟ طالب: أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس. على كل حال لو روي من طريقٍ آخر مثله ما يستفيد، ما دام باطل ما يستفيد، ما يرتقي. الثانية: قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} [(36) سورة النور] {أَذِنَ} معناه أمر وقضى وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر، فإن اقترن بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى و {تُرْفَعَ} قيل: معناه تبنى وتعلى، قاله مجاهد وعكرمة، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [(127) سورة البقرة] وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من بنى مسجداً من ماله بنى الله له بيتاً في الجنة)) وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تحض على بنيان المساجد .. حتى عدّ من المتواتر، عدّوه من المتواتر. مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتاً واحتسب طالب: الذي يبني مسجد ويكتب عليه اسمه؟ يقول ابن الجوزي ما له من الأجر إلا هذا الاسم، يقول: ليس له إلا هذا الاسم –يكفيه-. طالب: بعضهم يكتب اسمه يقول حتى إذا شاهده الناس يدعو لي ويستغفر لي. يدعو لمن بناه، لا يسمي نفسه، يقول: بني على نفقة من يرجو ثواب الله، ويكفي ويدعى له -إن شاء الله-.

طالب: إن كان من مال الورثة؟ باسم من؟ ورثة فلان؟ المقصود أن الإنسان بذاته لا يظهر عمله، إن أظهره الناس هذا شيء ما يملكه. وقال الحسن البصري وغيره: معنى {تُرْفَعَ} تعظم ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار، ففي الحديث: ((إن المسجد لينزوي من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار)) وروى ابن ماجة في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أخرج أذىً من المسجد بنى الله له بيتاً في الجنة)) وروى عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب .. الأمر باتخاذ المساجد في الدور هذا ثابت في الصحيح وغيره، وتطهر وتطيب, والمراد بالدور القبائل، خير دور الأنصار بني عبد الأشهل، وآل فلان وآل فلان، يعني قبائلهم، وليس المراد بذلك أن تتخذ المساجد في الدور، وتعطل المساجد التي في الأسواق وفي الأحياء، اللهم إلا إن كان المراد بذلك للنساء، فالنساء لهن أن يتخذن من دورهم أماكن للصلاة، وينظفنها ويطيبنها. الحديث الذي قبله؟ طالب: (من أخرج أذىً من المسجد)؟ (إن المسجد لينزوي .. ) طالب: قال: لا أصل له في المرفوع، ذكره العجلوني في كشف الخفاء، وقال: قال القاري: لم يوجد. انتهى كلامه، وذكره السيوطي في الدور فقال: أخرجه ابن أبي شيبه بسنده عن أبي هريرة. . . . . . . . . والثاني؟ حديث ابن ماجة؟ طالب: قال: ضعيف أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد، قال البصيري في الزوائد: إسناده منقطع، ومسلم بن يسار لم يسمع من أبي سعيد، ومحمد بن صالح لين، وضعفه الألباني. وجاء في تنظيف المساجد وأنها مهور الحور العين. الثالثة: إذا قلنا: إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك فكرهه قوم وأباحه آخرون، فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وقتادة عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) أخرجه أبو داود، وفي البخاري وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً.

يعمرونها بالصلاة، يعني يشيدونها ولا يعمرونها بالصلاة، يعني تحصل العمارة الحسية دون العمارة المعنوية {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} [(18) سورة التوبة] يعني بالصلاة، وإما عمارته الحسية فيعمرها كل أحد. وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى .. وهكذا وقع، في مسجد في تركيا يقول واحد من الإخوان: دخل هذا المسجد فإذا به متحف، يقول: دخل المسجد فإذا به غاية في الزخرفة والتشييد، فإذا به يجد شيخ على كرسي على هيأة حسنة وحوله طلاب، فقال: أجلس لأستفيد، فلما جلست فإذا الشيخ لا يشرح، والطلاب لا يستمعون كلامه، إنما يصورون مشهد، ولا وجدوا مكان يصور به هذا المشهد أشد جمال من هذا المسجد، والله المستعان. يعني كون المساجد تعمر على أيدي أناس من العامة، ويحصل شيء من المخالفات هذا أمر عادي وطبيعي لكن كون المساجد يتولاها من طلاب العلم ثم بعد ذلك يزخرفونها ويعرفون ما جاء في هذا الباب هذه مشكلة، ولا يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن هذا يقع من باب التقدير الكوني أنه لا بد أن يقع، وأن المسلم عليه أن يساهم في إيقاعه؟ أبداً، المسلم يتجه إليه الأوامر الشرعية، وأما ما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يقع كوناً فهذا لا بد من وقوعه، لكن لا يكون على يديك. طالب: الذين يأخذون أموال الوقف ويسرفون في الزخرفة؟ لا يجوز، لا يجوز استخدام أكثر من الحاجة، لا يجوز هذا إسراف، وداخل في المنهي عنه. طالب: ما يختلف الحكم باختلاف المكان خاصة في الدول الغير إسلامية؟ مذهب الحنفية عندهم إذا زخرفت البيوت فبيوت الله أولى، لكن لا كلام لأحد، المسألة شرعية ولو كان في الخارج. طالب: طيب إذا كان هناك مصلحة أعظم وهي قضية تعظيم هذا الدين؟ تعظيم الدين بالإتباع، وقد يقر في قلوبهم من التعظيم بسبب الاتباع أعظم بكثير من المظاهر، الناس ملوا المظاهر، ترى ما تدل على شيء، إذا لم يكن هناك مخبر فالمظهر لا قيمة له.

وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث أبي الدرداء قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم)) احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} يعني تعظم. وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالساج وحسنه، قال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته قبل خلافته ولم ينكر عليه أحد ذلك، وذكر أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات، وروي أن سليمان بن داود -عليهما الصلاة السلام- بنى مسجد بيت المقدس، وبالغ في تزيينه .. يعني هكذا جرت عادة الملوك والأمراء أنهم يستملئون مثل هذه الأمور، لأن عيشهم قريب من هذا، بيوتهم مزخرفة، فيريدون ألا ينظروا إلى الأماكن التي دونها. طالب: بعض المساجد الآن لا تزخرف لكن توضع كل الزخرفة في السجاد؟ كذلك، الحكم واحد. طالب: والسجاد إشكاليته أكثر في قضية الخشوع في الصلاة. المسألة واحدة، الزخرفة سواء كانت فوق أو تحت وإلا يمين وإلا شمال داخلة، الآن لو لاحظت أن أكثر السجاد يقصد فيها الحمرة مع الصفرة، هذا اللون كثير في المساجد، تلقى اللون أحمر والخط أصفر، وعمر قال: لما قال: لا تصفروا ولا تحمروا، فالمسألة مسألة المشي على ما أراده الله -جل وعلا- وقضاؤه لا بد منه، لا بد أن يقع، كما جاء في الحديث: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه)) والله المستعان، وحصل ما أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-. طالب: يحمل النهي على الكراهة يا شيخ؟ الشيخ: أي نهي؟ طالب: نهي الزخرفة؟ الشيخ: لا لا، تحريم، تحريم. طالب: وعدم الإنكار يا شيخ؟ الشيخ: عدم الإنكار تقصير.

الرابعة: ومما تصان عنه المساجد وتنزه عنه الروائح الكريهة، والأقوال السيئة، وغير ذلك على ما نبينه وذلك من تعظيمها، وقد صح من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في غزوة تبوك: ((من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتين المساجد)) وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أكل من هذه البقلة الثوم)) وقال مرة: ((من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)). وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خطبته: ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين، ولا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً. خرجه مسلم في صحيحه. قال العلماء: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى به، ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيهاً عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه لسوء صناعته أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه، وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول، وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم، والولائم وما أشبهها ..

العلة مركبة، من كونه في المسجد وكونه يؤذي؛ لأن الأحاديث جاءت بهذا، من كونه في المسجد، ومن كونه يؤذي؛ لأنه لو قلنا: أنه يحرم في غير المسجد، لماذا يخرجه النبي -عليه الصلاة والسلام- من المسجد؟ ((فلا يقربن مسجدنا)) فالاختصاص بالمسجد ظاهر، فإذا صلى في بيته أو في برية أو في غيرها له أن يأكل من هذه الشجرة، لكن لا يصلي في المسجد، وإذا صلى في مسجدٍ ليس فيه من يتأذى به لا مانع من ذلك؛ لأنه لا يتأذى به أحد، فالعلة مركبة من الأمرين، من كونه مسجد، وكونه يتأذى به، والعلة المركبة لا يترتب عليها الحكم إلا إذا اجتمعت مركباتها، وعلى هذا لو أن إنساناً في المسجد بمفرده واحتاج إلى إرسال الريح، وليس عنده من يتأذى به، أهل العلم يقولون: ولا بأس بإرساله للحاجة، لكن لا بد أن لا يوجد من يتأذى به، نعم المسجد ينبغي أن يصان ويعظم، لكن إذا احتاج لذلك، شخص معتكف ونائم مثلاً أو جالس، نقول: لا بد أن تخرج من المسجد، أو يديم الجلوس في المسجد؟ العلماء يقولون: لا بأس به للحاجة، إذا لم يوجد من يتأذى به، فالعلة حينئذٍ مركبة. طالب: البصل بالطبخ تزول الرائحة منه؟ الشيخ: ينتهي ينتهي، يمات طبخاً، ما في شيء، ومع ذلك حتى لو أكل لا يقال: إن هذه الشجرة حرام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له -في صحيح مسلم–: أحرام هي؟ قال: ((لا أحرم ما أحل الله)) لكن من أكل لحاجة فلا يصلي في المسجد مع الناس، يصلي في بيته أو ينظر في مكان ليس فيه أحد. طالب: أحياناً رائحة الدخان أشد من رائحة البصل؟ الشيخ: مثله، الحكم واحد. طالب: هل يجوز قطع الصلاة؟ الشيخ: قطع من؟ طالب: الذي بجانبه؟ الشيخ: إذا كان لا يطيق بحيث لا يستطيع أن يصلي بجانبه أو لا يدرك من صلاته شيء يقطع الصلاة. طالب: إن كان يغثى يا شيخ؟ الشيخ: غثيان وشبهه؟ إذا خشي ذلك وغلب على ظنه يقطع الصلاة. طالب: في هذه الحال يجوز له أن يضع لثام؟ الشيخ: اللثام مكروه عند أهل العلم، وعندهم الكراهة تزول بأدنى حاجة. طالب: لو كان جماعة في مسجد وأكلوا كلهم بصل فهل لهم أن يصلوا في المسجد؟ الشيخ: لأنهم لا يتأذون؟ طالب: نعم. الشيخ: ارتفع جزء العلة، لكن لا شك أن هذا يبقى فيه امتهان المسجد.

طالب: الحديث يقول: فإن الملائكة تتأذى ... ؟ الشيخ: الملائكة في كل مكان ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم)) فإذا وجد من يتأذى من بني آدم تأذت الملائكة، وإلا فلا. وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم، والولائم وما أشبهها من أكل الثوم وما في معناه مما له رائحة كريهة تؤذي الناس، ولذلك جمع بين البصل والثوم والكراث، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به، قال أبو عمر بن عبد البر: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام -رحمه الله- أفتى في رجل شكاه جيرانه، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده، فشور فيه فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه .. وليس هذا ترخيص له في ترك المسجد وترك الجماعة، إنما هو تعزير، بعض الناس قد يفرح بمثل هذا، أكل شيء أجعلهم يطردوني من المسجد، وفرصة أني ما أقصد المسجد فيؤذي الناس لكي يقال له: لا تقرب المسجد، أو يأكل من ذوات الروائح ليقال له: لا تقرب المسجد، هذه كانت تعد لما كانت الفطر سليمة هذا تعزير، لو أن إنساناً في وليمة فأقيم وطرد من المجلس، ماذا يكون وضعه؟ يتأذى بذلك أذىً كبيراً، ولا يمكن أن يحتمل، يمكن أن يترك البلد، يهاجر من هذا البلد، فكيف بمسجد –بيت الله– في ضيافة الله -جل وعلا-؟ لكن لهوان العبادات على الناس وأماكن العبادات صاروا يفرحون بمثل هذا. واطلعت في كتابات بعض القضاة ممن تقدم أن في معاملة لنقل شخص من مسجد إلى مسجد، يعني طرد من هذا المسجد إلى مسجدٍ آخر، وأخذ عليه التعهد أنه لا يصلي في هذا المسجد؛ لأن فيه من يتأذى به، أن ينقل إمام أو ينقل مؤذن مقبولة؛ لأنهم يتبعون مصالحهم، لكن ينقل مأموم؟! هذه لا تكاد توجد.

فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشاهد معهم الصلاة إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يوماً أمره، وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك، وراجعته فيه القول، فاستدل بحديث الثوم، وقال: هو عندي أكثر أذىً من أكل الثوم وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد، قلت: وفي الآثار المرسلة: ((أن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد الملك من نتن ريحه)) فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول بالباطل، فإن ذلك يؤذي .. مخرجة الآثار؟ طالب: (يأتي يوم القيامة)؟ أو (أن الرجل ليكذب الكذبة)؟ الشيخ: ((إن الرجل ليكذب الكذبة)). طالب: قال: أخرجه الطبراني في الصغير، والديلمي من حديث ابن عمر، وفيه عبد الرحيم بن هارون متروك كما في الميزان، والحديث أخرجه الترمذي، وقال فيه: هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه تفرد به عبد الرحيم بن هارون وفي الضعيفة، قال: عنه منكر، قال في ضعيف الترغيب: ضعيف جداً، وعبد الرحيم كذبه الدارقطني، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وكذبه الدارقطني. الشيخ: واضح واضح ضعفه. الخامسة: أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء؛ لحديث ابن عمر، وقال بعضهم: إنما خرج النهي على مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجل جبريل -عليه السلام- ونزوله فيه، ولقوله في حديث جابر: ((فلا يقربن مسجدنا)) والأول أصح؛ لأنه ذكر الصفة في الحكم وهي المسجدية، وذكر الصفة في الحكم تعليل، وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض، قوائمها من العنبر، وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك، وأزمِّتها من الزبرجد الأخضر، وقوامها المؤذنون فيها يقودونها، وأئمتها يسوقونها، وعمارها متعلقون بها، فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف، فيقول أهل الموقف: هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء مرسلون، فينادى: ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء، ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-)) طالب: قال عزاه المصنف للثعلبي ولم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، والثعلبي يرى الموضوعات.

الشيخ: واضح واضح. وفي التنزيل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} [(18) سورة التوبة] وهذا عام في كل مسجد، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان إن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [(18) سورة التوبة] وقد تقدم. الحديث مضعف؛ لأن المنافقين يعتادون المسجد في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-. السادسة: وتصان المساجد أيضاً عن البيع والشراء وجميع الاشتغال؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر: ((لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له)) أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى، قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له)) وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن .. هذا بالنسبة لمن يطلب ضالته، أما من ينشد ضالة غيره إذا وجدها، الحكم يختلف وإلا واحد؟ من يطلب لنفسه هذا واضح، الذي ينشد ضالته يقال له: لا وجدت، لكن الذي وجد ضالة في المسجد ثم قال: من أضل كذا؟. طالب: يدخل في الحكم. الشيخ: ما يظهر، يظهر أن هناك فرق كبير؛ لأنه الذي يطلب لنفسه ليس كالذي يطلب لغيره، هذا محسن، ما يظهر أن الحكم واحد. طالب: الآن من يسأل عن ضالته وهي له يقرَّع، طيب من يسأل أموال الناس؟ الشيخ: الذي يسأل أموال الناس وهو مو مستحق لها مثل، لكن من يتعرض بغير سؤال، بأن جلس مجلس السائل ولم يسأل، ولم يؤذي الناس، ولم يقطع عليهم أذكارهم هذا لا بأس -إن شاء الله-. طالب: الآن الذين يقومون بعد الصلاة ويتكلمون! الشيخ: يشوشون على الناس ويقطعون عليهم أذكارهم، يسكتون، هؤلاء بأسلوب مناسب من غير نهرٍ لهم يُفهمون أن هذا ليس موضع لذلك. طالب: ما هي علة النهي؟ الشيخ: في إيش؟ طالب: أن المساجد بنيت للعبادة! الشيخ: هي بنيت للعبادة، لكن من العبادة الإحسان إلى الآخرين. طالب: يعني مثل هؤلاء يوقفون ما يجعلون يتمون كلامهم؟

الشيخ: والله لو أشير إليهم أن ينصرفوا إلى مكانٍ مناسب لهم، ولا يقطعون على الناس أذكارهم من غير نهر، يعني لا نخرج من مخالفة ونقع في مخالفة. طالب: بعضهم يقول: (وأما السائل فلا تنهر) إطلاقاً يعني، ما دام أنه يسأل لن أقول له؟ الشيخ: هو إذا وجد من يتكلم غيرك فالسلامة لا يعدلها شيء لئلا تقع في النهي. وكذا جاء مفسراً من حديث أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مهٍ مه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزرموه دعوه)) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنَّه عليه، خرجه مسلم، ومما يدل على هذا من الكتاب قوله الحق: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [(36) سورة النور] وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية بن الحكم السلمي: ((إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)). طالب: حديث معاوية إن هذه الصلاة، وهنا يقول: إن هذه المساجد. الشيخ: لا، غلط غلط، هذا غلط من المؤلف نفسه، المؤلف نفسه؛ لأن الكلام في المساجد فأدرج هذا الحديث وهماً، والحديث في الصلاة. أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه وحسبك!. وسمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟! أتدري أين أنت؟ وكان خلف بن أيوب جالساً في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فقام وخرج من المسجد وأجابه فقيل له في ذلك فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا فكرهت أن أتكلم اليوم. يكفي. اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأصحابه.

سورة النور - تفسير الآيات: من {36} إلى {39} …

تف سير القرطبي (سورة النور) تفسير الآيات: من {36} إلى {39} ... الشيخ / عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: السابعة: روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة. قال: وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن، قال محمد بن إسماعيل: رأيت محمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب .. الشيخ: الصواب أحمد، الذي في الترمذي أحمد وإسحاق. رأيت محمداً، صوابه أحمد، ما علق عليه في الحاشية عندك؟ الطالب: الذي في الترمذي أحمد؟ الشيخ: نعم. رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق، وروي أن عيسى ابن مريم -عليهما السلام- أتى على قوم يتبايعون في المسجد فجعل رداءه مخراقاً ثم جعل يسعى عليهم ضرباً، ويقول: يا أبناء الأفاعي اتخذتم مساجد الله أسواقاً! هذا سوق الآخرة .. هذا الحديث يصل إلى درجة الحسن كما قال الترمذي، من حديث عمرو بن شعيب، والخلاف فيه معروف، الخلاف في عمرو بن شعيب معروف، لكن القول الوسط فيه أن حديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وتناشد الأشعار، وقد أنشد بين يديه -عليه الصلاة والسلام- الشعر في المسجد من قبل حسان وابن رواحة وغيرهما، والنشيد غير التناشد، كون شخص واحد ينشد بين يدي الخليفة، أو ما أشبهه، بكلامٍ ينصر فيه الإسلام، ويعز فيه الإسلام، ويذم فيه الشرك والمشركين، وقل مثل هذا في العلوم الشرعية، ولو جاءت على طريقة وعلى هيئة الشعر والمنظومات العلمية لا بأس بذلك، لكن التناشد والمراد يعني كل واحد ينشد ويرد عليه الآخر مما يحصل معه التفاخر والتباهي هذا هو محل المنع.

وأما البيع والشراء فمعروف النهي عنه، والنهي هنا للتحريم، والعقد غير صحيح عند الحنابلة، وصححه الجمهور، لكن يبقى أن الحديث يدل على النهي عن البيع والشراء، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة، ولو كان للعلم؛ لأنهم حينئذٍ يضيقون على المصلين، الشراح يذكرون هذه العلة، وأيضاً من جاء إلى الجمعة وهو بصدد التأهب لها، وسماع الخطبة والصلاة قبل ذلك حتى يقوم الإمام كما هو فعل السلف، وأما إلقاء الدروس وحلق العلم فلا ينبغي أن تكون يوم الجمعة قبل الصلاة، وأما بعد الصلاة أو بعد العصر فلا بأس به -إن شاء الله تعالى- وهو معلوم عند أهل العلم يصنعونه، كان شيخ الإسلام له درس في التفسير بعد صلاة الجمعة في الجامع، وغيره كثير. طالب: السفر قبل الجمعة إذا غلب على ظنه أن يدرك الجمعة؟ الشيخ: السفر قبل الزوال ما في إشكال، لكن بعد الزوال يحرم عند أهل العلم، قبل الزوال إذا غلب على ظنه أنه يدرك جماعة يصلون جمعة في أي بلد من البلدان له ذلك. قلت: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد .. لأنه مظنة للعبث بالمسجد، والعبث بالجملة مكروه، ومظنة أيضاً إلى تلويثه، فالصبيان لا يتحفظون عما يتحفظ منه الكبار، لكن هذه طريقة أيضاً مأثورة عند أهل العلم، علموا وتعلموا في المسجد، وأما ما جاء عن تجنيب الصبيان المساجد والمجانين، خبر ضعيف ((جنبوا صبيانكم ومجانينكم المسجد)) معروف ضعفه عند أهل العلم، وقد كانوا يحضرون الحسن والحسين يدخلون المسجد، ويحتفي بهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقد صلى -عليه الصلاة والسلام- وهو حامل أمامة، كان ينوي أن يطيل الصلاة -عليه الصلاة والسلام- ثم يوجز فيها لما يسمع من بكاء الصبيان، كل هذا يدل على جواز إدخالهم المساجد، لكن لا يتركون يعبثون ويلوثون المسجد. عندما يأتي الصبي غير المميز أكثر ما يعبث بالمصاحف، ويتركه أبوه على هذا العبث، لا يجوز بحال؛ لأن المصاحف محترمة، تشتمل على كلام الله -جل وعلا-، فينتبه لهذا. قلت: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة فلو كان بغير أجرة لمنع أيضاً من وجه آخر ..

على كل حال إن كان يرى أنه من باب البيع لأنه بأجرة فيدخل فيه أيضاً تعليم الكبار، إذا كان بأجرة يدخل فيه تعليم الكبار. وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والوسخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر -صلى الله عليه وسلم- بتنظيفها وتطييبها فقال: ((جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وسل سيوفكم، وإقامة حدودكم، ورفع أصواتكم وخصوماتكم، وأجمروها في الجمع، واجعلوا على أبوابها المطاهر)) في إسناده العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية، وهو ضعيف عندهم .. الخبر ضعيف جداً. ذكره أبو أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ، وذكر أبو أحمد أيضاً من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين، فرأى خياطاً في ناحية المسجد، فأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه يكنس المسجد، ويغلق الأبواب، ويرش أحياناً، فقال عثمان: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((جنبوا صناعكم من مساجدكم)) هذا حديث غير محفوظ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي، وهو ذاهب الحديث. قلت: ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه ليِّناً فهو صحيح معنى، يدل على صحته ما ذكرناه قبل. قال الترمذي: وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد. قلت: أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك فمن مانع مطلقاً، ومن مجيز مطلقاً، والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله -عز وجل- أو على رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا، والتقلل منها فهو حسن في المساجد وغيرها، كقول القائل: طوفي يا نفس كي أقصد فرداً صمدا ... وذريني لست أبغي غير ربي أحدا فهو أنسي وجليسي ودعي الناس ... فما إن تجدي من دونه ملتحدا

وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك؛ لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} [(36) سورة النور] وقد يجوز إنشاده في المسجد، كقول القائل: كفحل العدا بالفرد يضربه الندى ... تعلى الندى في متنه وتحدرا وقول الآخر: إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز؛ لأنه خال عن الفواحش والكذب .. لكنه فخر، لا سيما البيت الأخير (إذا سقط السماء) هذا فخر ممنوع، على كل حال الشعر أنشد بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- في المسجد، أنشده حسان وعبد الله بن رواحة، فما كان بنصر الإسلام والذب عن الدين، وذم الكفار والكفر وما أشبه ذلك، وفي حكمه العلوم التي تنظم هذا كله لا بأس به، بل مطلوب. وسيأتي ذكر الأشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في الشعراء -إن شاء الله تعالى-، وقد روى الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: ذكر الشعر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((هو كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح)) .. هذا ما يثبت، ماذا يقول؟ طالب: أخرجه الدارقطني من حديث عائشة، وفيه عبد العظيم بن حبيب متروك، ومن حديث عبد الله بن عمرو أخرجه البخاري. . . . . . . . . والدارقطني، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم واهٍ، ومن حديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في إسناده ابن عياش وهو غير قوي، لكن حديث محسن بهذه الشواهد. والله أعلم. والألباني قال -في الأدب المفرد-: صحيح لغيره، وهو في الصحيحة. الشيخ: لفظه فيه إشكال، هو بكلام أهل العلم أشبه، معناه صحيح، المعنى ما فيه إشكال، لكن رفعه محل نظر. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره في السنن. قلت: وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي، وأنه لم يتكلم به غيره، وكأنهم لن يقفوا على الأحاديث في ذلك، والله أعلم.

الثامنة: وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضي مصلحةً للرافع صوته دعي عليه بنقيض قصده؛ لحديث بريدة المتقدم، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)) وإلى هذا ذهب مالك وجماعة حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة والعلم، قالوا: لأنهم لا بد لهم من ذلك، وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: لا بد لهم من ذلك ممنوع، بل لهم بد من ذلك لوجهين: أحدهما بملازمة الوقار والحرمة وبإحضار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه، والثاني: أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعاً يخصه، كما فعل عمر حيث بنى رحبةً تسمى البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعراً -يعني في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليخرج إلى هذه الرحبة، وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، ولذلك بنى البطيحاء خارجه .. مسألة الجواز -جواز الشيء- جواز حصوله في المسجد لا يعني أنه ينبغي أن يقع، احترام المساجد حتى عن بعض المباحات، الأمور المباحة لا مانع من أن تنزه المساجد عنها، يعني إذا قلنا: أن رفع الصوت جائز في المسجد، وأنه حصل التقاضي بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- وحصلت الخصومة، وتلاحى رجلان من أجلهما رفع العلم بليلة القدر كل هذا حصل، لكن هذا يدل على الإباحة بمعنى أنه لو فعله أحد لم يعزر، لكن ينبغي أن تصان المساجد عن مثل هذا اللغو، والله المستعان. طالب: إنشاد الضالة بعضهم يكتب لها إعلان في المسجد؟ الشيخ: لا، يكتب الإعلان برع، الإعلان له حكم الكلام، لكن الكلام فيما لو أنشدها غير صاحبها، الواجد، وجدها وقال: وجدت كذا، هذا لا يطلب شيئاً لنفسه، لو قال: أنه وجد هذه الضالة في المسجد، أما كون صاحبها هو الذي ينشدها هذا يقال: لا ردها الله عليك، وإذا كان غيرهم ممن وجدها ويبحث عن صاحبها هذا لا يبحث عن ضالة، وإنما يصنع معروفاً.

التاسعة: وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء، ومن لا بيت له فجائز؛ لأن في البخاري، وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا في الصفة، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة فقراء، وفي الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وبحث النبي -عليه الصلاة والسلام- عن علي -رضي الله تعالى عنه- فوجده في المسجد، ومقتضى شرعية الاعتكاف جواز النوم في المسجد، بل إذا صاحب الاعتكاف يكون هو المطلوب؛ لأنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد بغير حاجة أصلية لا تقضى في المسجد، فالنوم في المسجد لا بأس به -إن شاء الله-. لفظ البخاري وترجم (باب نوم المرأة في المسجد) وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء التي اتهمها أهلها بالوشاح، قالت عائشة: وكان لها خباء في المسجد أو حفش، الحديث ... ، ويقال: كان مبيت عطاء بن أبي رباح في المسجد أربعين سنة. العاشرة: روى مسلم عن أبي حميد أو عن أبي أسيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)). خرجه أبو داود كذلك إلا أنه زاد بعد قوله: ((إذا دخل أحدكم المسجد: فليسلم، وليصل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ليقل: اللهم افتح لي .. )) الحديث، وروى ابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد قال: ((باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج قال: ((باسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك)) وروي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم)). ابن ماجة هذا؟

طالب: أخرجه ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي كلهم من حديث أبي هريرة، وقال البصيري في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات، وهو كما قال: إلا أنه معلول وأخرجه البزار وابن أبي شيبة عن أبي هريرة عن كعب بن عجرة موقوف، ورواه النسائي في اليوم والليلة عن أبي هريرة عن كعب الأحبار قال فذكره، وتكلم الحافظ ابن كثير في الأذكار على هذا الحديث، وختم كلامه بقوله: هو في الجملة حسن في ظاهره نقله عنه ابن عجلان وهو صحيحه. الشيخ: لا التعليل عليل، يعني كونه يعل بالموقوف ما يعل بالموقوف، حتى الموقوف ما يمكن أن يقال بالرأي هذا. طالب: التسمية عند الخروج من المسجد؟ الشيخ: هذا ذكره هنا، وستأتي أيضاً لا نقول: بسم الله. طالب: التسمية؟ الشيخ: جاءت بها الأحاديث التي جاءت بالدعاء، فأمرها واحد -إن شاء الله تعالى-. طالب:. . . . . . . . . بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله. الشيخ: على كل حال، والدخول كذلك؟ مثلما يدخل بيته، لا بد، ما فيها إشكال. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: ما يمنع مثل دخول البيت ومثل دخول غيره، التسمية ملازمة. وخرج أبو داود عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) قال: نعم قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: ((حفظ مني سائر اليوم)). الحادية عشرة: روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)). وعنه قال: دخلت المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس بين ظهراني الناس، قال فجلست، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما منعك أن تركع ركعتبن قبل أن تجلس؟ )) فقلت: يا رسول الله رأيتك جالساً والناس جلوس، قال: ((فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)) قال العلماء: فجعل -صلى الله عليه وسلم- للمسجد مزيةً يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس حتى يركع، وعامة العلماء على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب ..

يعني لا على سبيل الوجوب، هذا قول جماهير أهل العلم خلافاً للظاهرية؛ لأن الأمر ظاهره الوجوب، لكن الصوارف كثيرة، فالمعتمد أنه سنة، ولا يجزئ أقل من ركعتين، لو أوتر بواحدة ما يكفي، فلا بد من ركعتين، كما أنه لا يجزي تسبيح ولا تحميد ولا تهليل، كما قال النووي وغيره، ما يكفي عن الركعتين. وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب، وهذا باطل، ولو كان الأمر على ما قالوه؛ لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ، ولا قائل به فيما أعلم، والله أعلم. فإن قيل: فقد روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين، وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل من ركعتيه في بيته خيراً)) وهذا يقتضى التسوية بين المسجد والبيت، قيل له: هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت لا أصل لها، قال ذلك البخاري، وإنما يصح في هذا حديث أبي قتادة الذي تقدم لمسلم، وإبراهيم هذا لا أعلم روى عنه إلا سعد بن عبد الحميد، ولا أعلم له إلا هذا الحديث الواحد، قاله أبو محمد عبد الحق .. الأمر بالركعتين لدخول المسجد هذا ما فيه إشكال، صحيح ثابت، وأما الأمر بهما لدخول البيت فلا. طالب: أقوى الصوارف؟ الشيخ: أقواها، من دخل على النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو جالس ما أمره بالصلاة، سلم وجلس عنده -عليه الصلاة والسلام-، وأيضاً: حديث الأعرابي قال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا إلا أن تطوع)) وغير ذلك كثير، كثيرة الصوارف، ذكروا جملةً منها. طالب: عبد الحق من هو؟ الشيخ: عبد الحق الأشبيلي في أحكامه. طالب: سماع الخطبة واجب والركعتين سنة، فكيف يترك واجب لأجل سنة؟. الشيخ: أي نعم، يترك الواجب ويأتي بسنة؛ لأن هذا الواجب ما يبدأ إلا عند السماع، بدليل أنك لو تأخرت في بيتك حتى انتهت الخطبة ما أثمت. طالب: وإذا دخلت المسجد؟ الشيخ: دخلت المسجد، لكنك الآن ما شرعت بعد في الاستماع، أنت تصلي ركعتين للأمر بهما.

الثانية عشرة: روى سعيد بن زبان، حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند -رضي الله عنه- قال: حمل تميم -يعني الداري- من الشام إلى المدينة قناديل وزيتاً ومقطا، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاماً يقال له: أبو البزاد، فقام فنشط المُقط، وعلق القناديل، وصب فيها الماء والزيت، وجعل فيها الفتيل فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بها تزهر فقال: ((من فعل هذا؟ )) قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: ((نورت الإسلام، نور الله عليك في الدنيا والآخرة، أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها)) قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت فأنكحه إياها. زبَّان (بفتح الزاي والباء وتشديدها بنقطة واحدة من تحتها) ينفرد بالتسمي به سعيد وحده، فهو أبو عثمان سعيد بن زبَّان بن قائد بن زبان بن أبي هند .. قائد وإلا فائد؟ طالب: عندنا قايد. الشيخ: فائد هو، الصواب فائد، وجاءت تسميته بالأمرين لكن ابن حجر يرجح أنه فائد بالفاء. وأبو هند هذا مولى ابن بياضة حجام النبي -صلى الله عليه وسلم- والمُقُط: جمع المقاط، وهو الحبل فكأنه مقلوب القماط، والله أعلم. ما زال الاستعمال قائم للحبل يسمونه مقاط، امقطوه، يعني اربطوه بالحبل، امقطوه، إذا قيل: امقطوه يعني اربطوه بالحبل، مستعمل، لكن القماط، لف القماط! طالب:. . . . . . . . . القماط؟ يعني لفافة، كل ما يلف يسمى قماط. وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: أول من أسرج في المساجد تميم الداري .. إيش قال عن حديث تميم قبله؟ طالب: إسناده ضعيف جداً لزبّان. . . . . . . . . ضعيف الحديث،. . . . . . . . . قول ابن سعيد متروك. . . . . . . . . مجاهيل. الشيخ: ضعفه، زبّان مشهور بالضعف. وروي عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون عليه، ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه، وإن كنس غبار المسجد نقد الحور العين)). يعني مهر، إيش قال عن الحديث؟

طالب: باطل لا أصل له، ذكره الذهبي في ميزانه بترجمة الحاكم بن. . . . . . . . . بقوله: قال الأزدي: كذاب، وقال البخاري: عنده عجائب، ثم ذكره له حديثاً موضوعاً لكن فيه إسحاق بن بشر .... ثم ذكره من حديث أنس. . . . . . . . . قال الألباني: ضعيف موضوع، وقال الألباني فائدة: تنبيه: لم يقف شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الإسناد، وقد ذكر الحديث في الفتاوى وقال: لا أعرف له إسناد، وقد عرفنا إسناده وبيّنا حاله ومنه علمنا أنه بلا إسناد. الشيخ: نعم، وجوده مثل عدمه، قد يكون نفي شيخ الإسلام صحيح، يعني لا يعرف له إسناداً يثبت به، أما الإسناد الذي لا يثبت به، قد يكون موجوداً كهذا. طالب: هل ثبت في مهر الحور العين شيء؟ الشيخ: لا، من هذا الحديث. طالب: هل ورد شيء عن مهر الحور لمن غض البصر؟ الشيخ: لا، هو ما ثبت إلا هنا، ما عرف إلا هنا، تنظيف المسجد مهر الحور العين. طالب: ولا حتى رواية ضعيفة؟ الشيخ: فيما ذا؟ طالب: في غض البصر أنه مهر الحور؟ الشيخ: لا لا، مسألة أن كونه يورث حلاوة يورثه حلاوة، أما كونه المهر لا. قال العلماء: ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد .. للحاجة إليها، للحاجة إلى هذه الأنوار حاجة قائمة لتسهل القراءة على الناس.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [(36 - 37) سورة النور] اختلف العلماء في وصف الله تعالى المسبحين، فقيل: هم المراقبون أمر الله الطالبون رضاءه الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل، وبادروا ورأى سالم بن عبد الله أهل الأسواق، وهم مقبلون إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين أراد الله بقوله: {لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وروي ذلك عن ابن مسعود، وقرأ عبد الله بن عامر وعاصم في رواية أبي بكر عنه والحسن {يسبَّح له فيها} بفتح الباء على ما لم يسم فاعله، وكان نافع وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرؤون {يسبِّح} بكسر الباء، وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم فمن قرأ {يسبح} بفتح الباء كان على معنيين: أحدهما: أن يرتفع {رجال} بفعل مضمر دل عليه الظاهر، بمعنى يسبحه رجال .. كأن فيه تقدير سؤال، يسبّح له فيها بالغدو والآصال، كأنه قيل: من يسبحه؟ الجواب معاد في السؤال، يعني إعادة السؤال في الجواب معروفة، كأنه قال: يسبحه رجال، جواباً عن هذا السؤال. فيوقف على هذا على {الْآصَالِ} وقد ذكر سيبويه مثل هذا وأنشد: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه قال: من يبكيه؟ قال: يبكيه ضارع. المعنى: يبكيه ضارع، وعلى هذا تقول: ضُرب زيد عمرو، على معنى ضربه عمرو، والوجه الآخر: أن يرتفع {رِجَالٌ} بالابتداء والخبر، {فِي بُيُوتٍ} أي في بيوت أذن الله أن ترفع رجال، و {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} حال من الضمير في {تُرْفَعَ} كأنه قال: أن ترفع مسبحاً له فيها، ولا يوقف على {الْآصَالِ} على هذا التقدير ومن قرأ {يسبح} بكسر الباء لم يقف على {الْآصَالِ} لأن {يسبح} فعل للرجال، والفعل مضطر إلى فاعله، ولا إضمار فيه، وقد تقدم القول في {الْغُدُوِّ وَالآصَالِ} في آخر الأعراف، والحمد لله وحده .. يعني: الغداة أول النهار والأصيل آخره، يسبحونه في أوائل النهار وفي آخره، ومن آناء الليل أيضاً.

الرابعة عشرة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} قيل: معناه يصلي، وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة، ويدل عليه قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي بالغداة والعشي، وقال أكثر المفسرين: أراد الصلاة المفروضة، فالغدو صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر، والعشاءين؛ لأن اسم الآصال يجمعها. الخامسة عشرة: روى أبو داود عن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)). وخرج عن بريدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). الحديث الأول حديث أبي أمامة؟ طالب: قال: ضعيف، أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف، لضعف القاسم بن عبد الرحمن جرحه أحمد وغيره، وهو صاحب مناكير كثيرة، والحديث حسنه الألباني. طالب: والثاني يا شيخ؟ الشيخ: بشر المشائين، لا بأس به. الشيخ: ماذا يقول؟ طالب: قال: صحيح أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بريدة وابن ماجه والحاكم من حديث أنس، وابن ماجه وابن خزيمة من حديث سهل بن سعد وابن حبان من حديث أبي الدرداء وأسانيدها حسان، والحديث صحيح بشواهده -إن شاء الله-. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح)) في غير الصحيح من الزيادة: كما أن أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته. ذكره الثعلبي. وخرج مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله كانت خطوتاه أحدهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة)). إحداهما؛ لأنه يعود إلى مؤنث، ما دام يعود إلى مؤنث (إحداهما).

وعنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة، لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)). في رواية: ما يحدث؟ قال: ((يفسو أو يضرط)) وقال حكيم بن زريق: قيل لسعيد بن المسيب: أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ فقال: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان، والجلوس في المسجد أحب إليّ؛ لأن الملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه. وروي عن الحكم بن عمير صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كونوا في الدنيا أضيافاً، واتخذوا المساجد بيوتاً، وعودوا قلوبكم الرقة، وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلف بكم الأهواء تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون)). وقال أبو الدرداء لابنه: ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن المساجد بيوت المتقين، ومن كانت المساجد بيته ضمن الله تعالى له الروح والراحة، والجواز على الصراط)). ماذا قالوا عن الأحاديث؟ طالب: قال: أخرجه ابن الجوزي في العلل، والخضعي من حديث أبي الدرداء، وأعله ابن الجوزي بأن فيه عمرو بن جرير متروك، ذكره القضاعي والطبراني في الكبير من طريق آخر وخصهما البزار، وقال: الهيتمي في المجمع رجاله رجال الصحيح، وله شواهد، انظر الصحيح، والألباني حسن ((المسجد بيت كل تقي)) وضعف شطره الباقي. الشيخ: المساجد بيوت المتقين؟ طالب: نعم

وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب: أن عليك بالمساجد فالزمها فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء، وقال أبو إدريس الخولاني: المساجد مجالس الكرام من الناس، وقال مالك بن دينار: بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول: "إني أهمّ بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد، وجلساء القرآن، وولدان الإسلام فيسكن غضبي". وروي عنه -عليه السلام- أنه قال: ((سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد، فيقعدون فيها حلقاً حلقاً ذكرهم الدنيا وحبها، فلا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة)) وقال ابن المسيب: من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيراً. وقد مضى من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه كفاية، وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة فقال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .. يعني كما يدخل بيته، أو بيت ليس فيها أحد يسلم على نفسه. وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يسل فيه سهماً ولا سيفاً، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصلٍ، ولا يبصق ولا يتنخم ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزَّه عن النجاسات والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله تعالى، ولا يغفل عنه، فإذا فعل هذه الخصال فقد أدى حق المسجد، وكان المسجد حرزاً له، وحصناً من الشيطان الرجيم. وفي الخبر: أن مسجداً ارتفع بأهله إلى السماء يشكوهم إلى الله لما يتحدثون فيه من أحاديث الدنيا، وروى الدارقطني عن عامر الشعبي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من اقتراب الساعة أن يُرى الهلال قبلاً فيقال: لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة))، هذا يرويه عبد الكبير بن المعافى عن شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس وغيره يرويه عن الشعبي مرسلاً، والله أعلم. وقال أبو حاتم: عبد الكبير بن معافى ثقة كان يعد من الأبدال.

وفي البخاري عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلماً)). وخرج مسلم عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)) وعن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)). وجاء أن النخاعة والبصاق في المسجد خطيئة، وحك النبي -عليه الصلاة والسلام- بصاقاً وجده في القبلة– قبلة المسجد –حكه بنفسه -عليه الصلاة والسلام- ويبقى أن هذا إذا كان في المسجد يعني في أرضه أو في جداره كان خطيئة، ولا شك أن مثل هذا لا يجوز؛ لأنه تلويث للمسجد، لكن إن كان في منديل أو في شيءٍ خارج عن المسجد، يعني ممكن مع الحاجة إليه فلا مانع، مثل هذا كما قالوا في إرسال الريح عند الحاجة إليها بحيث لا يتأذى بها أحد أجازوه للحاجة، ويبقى أن الأصل احترام المساجد وتنظيفها وتطييبها، وإذا منع من أكل ما له رائحة قبيحة فلأن يمنع مثل هذا من باب أولى. لكن المسجد الذي رفع بأهله أو ارتفع بأهله يشكوهم، ماذا قال عنه؟ طالب: لم أجده مسنداً، والأشبه كونه من الإسرائيليات. الشيخ: يعني: مو بعيد. وحديث المرسل حق الشعبي؟ طالب: عزاه المصنف للدارقطني مرسلاً وموصولاً، والموصول إسناده حسن. . . . . . . . .، وذكره الألباني شاهداً لحديث صححه في الصحيحة من طرقه، وهو من اقتراب الساعة أن يُرى الهلال قبلاً فيقال: لليلتين،. . . . . . . . . وعزاه الطبراني في الصغير والضياء في المختارة وزيادة: ((اتخذوا المساجد طرقاً)) حسنها بشاهد عن ابن مسعود، وظهور الموت فجأة، حسنه بشاهد آخر. . . . . . . . . طالب:. . . . . . . . . الشيخ: إذا مات؟ ماذا فيه؟ طالب. . . . . . . . .

الشيخ: والله إذا كان له حق، أو يخشى أن لا يحضره أحد لا مانع، ما يظهر عندي أي مانع من الإعلان عنه بالمسجد، من أجل كثرة الجمع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي من أجل أن يصلي عليه الناس، وأما الإعلان الذي يحصل على طريق أهل الجاهلية بالسكك وأبواب البيوت، وما أشبه ذلك من أجل أن يكثر الجمع ليفتخر به أهله، فهذا ممنوع، إذا كان القصد منه نفع الميت لا بأس به -إن شاء الله-. طالب: وضع سلات المهملات في المسجد؟ الشيخ: والله إذا كانت في الخلف ما يظهر مانع، لكن إن كانت في القبلة في جهة المصليين، لا. طالب: إذا وضع فيها نجاسة؟ الشيخ: لا، يجب إخراجها من المسجد، لا يجوز بقاؤها. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: لا، خارج، يخرج عن المسجد. وخرج أبو داود عن الفرج بن فضالة عن أبي سعد الحميري قال: رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على الحصير ثم مسحه برجله، فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فرج بن فضالة ضعيف، وأيضاً فلم يكن في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصر، والصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما بصق على الأرض، ودلكه بنعله اليسرى، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل الحصير عليه .. يعني: قاسوا على التراب، قاسوا على ما كان مغطىً به مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن لو طلب ماءً فجيء له بماء فوجد الماء بارد شديد البرودة فبصقه في الأرض؟ هذا ليس بصاق ولا نخاع، ماء بصقه في أرض المسجد ما الحكم؟ لأنه لو شربه تضرر به، كراهة متجهة أو لا؟ هو ماء، يعني غاية ما فيه أنه اختلط بالريق، ولم يصاحبه شيء من البصاق؟ في ما يمنع يا إخوان؟ جيء له بماء يشرب فوجده بارد يضره لو شربه؟. طالب: الماء ليس بنجس. الشيخ: والبصاق ليس بنجس، البصاق أيضاً والنخاعة ليست بنجسة. طالب: إذاً نفسه. الشيخ: لكن رؤيتها مقززة وشنيعة، البصاق وغيره والنخاع، لكن الماء إذا اختلط بالريق طاهر ما فيه إشكال، لا سيما وإنه إنما مجه للحاجة لئلا يتضرر به، وقد رأينا من يفعل هذا من الشيوخ الكبار. طالب: ما يقال: أن المساجد تصان عن مثل هذا؟ الشيخ: أنا رأيت الشيخ ابن باز فعله –رحمه الله-.

السادسة عشرة: لما قال تعالى: {رِجَالٌ} وخصهم بالذكر، دلَّ على أن النساء لا حظ لهن في المساجد، إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل. روى أبو داود عن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)). يعني كلما زاد الاختفاء بالنسبة للمرأة، وكذلك الرجل في النافلة كان الأجر أعظم. السابعة عشرة: قوله تعالى: {لَّا تُلْهِيهِمْ} أي لا تشغلهم {تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} خص التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة، فإن قيل: فلم كرر ذكر البيع والتجارة تشمله؟ .. لأنه فرد من أفرادها، والتجارة شاملة للبيع وغيره، لكن تخصيصه للاهتمام به، والعناية بشأنه، لأنه هو الذي يكثر بين الناس من أنواع التجارات. قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله: {وَلَا بَيْعٌ} نظيره قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [(11) سورة الجمعة] قاله الواقدي، وقال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} اختلف في تأويله .. لا يمنع أن يكون عطف البيع على التجارة من باب عطف الخاص على العام للاهتمام بشأن الخاص، والعناية به، وإلا فالبيع داخل في التجارة، وأما قوله: {لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} رأينا وسمعنا من ألهتهم التجارة عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم. فقال عطاء: يعني حضور الصلاة، وقاله ابن عباس، وقال: المكتوبة، وقيل: عن الآذان، ذكره يحيى بن سلام، وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه، والآية نزلت في أهل الأسواق، قاله ابن عمر، قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسوق .. يعني مرّ به.

وقد أغلقوا حوانيتهم، وقاموا ليصلوا في جماعة، فقال: فيهم نزلت {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ} الآية ... ، وقال أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدهما بياعاً فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعاً، وإن كان بالأرض لم يرفعه، وكان الآخر قيناً يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان .. نعم، إذا رفع المسحاة إن كان فلاح مثلاً –مزارع– أو عامل رفع المسحاة ليضرب بها الأرض لتلين للزرع فإذا سمع النداء ألقاها من وراء ظهره، ولا يعيدها إلى مكانها، وهذا من تمام الامتثال، الله المستعان. فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما، وعلى كل من اقتدى بهما. الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} هذا يدل على أن المراد .. قد يقول طالب العلم: أنا لا تلهيني التجارة ولا البيع عن الصلاة، ولا عن ذكر الله ولا شيء، لكن يلهيني طلب العلم، أنا جالس في المكتبة أحفظ وأراجع الكتب وأسمع النداء ولا أجيب، وإنما أخرج قبيل الإقامة، لأني مشغول بالعلم لا مشغول بالتجارة ولا بيع، أشتغل بالعلم، والعلم عند أهل العلم مقرر أنه أفضل من نوافل العبادة، وعلى كل حال كل وقت له عمله الشرعي، فإذا أذن فالصلاة، والله المستعان. قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} هذا يدل على أن المراد بقوله: {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} غير الصلاة؛ لأنه يكون تكراراً يقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقواماً، فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفاً وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء؛ لئلا تحذفها فتجحَف .. فتجحِف، يعني إذا حذفتها أجحفت. فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء، فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن وزنة، فلا يجوز حذف الهاء؛ لأنك قد حذفت واواً؛ لأن الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإذا أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف. وروي من حديث أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض، قوائمها من العنبر، وأعناقها من الزعفران، ورؤوسها من المسك، وأزمتها من الزبرجد الأخضر، وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها، وأئمتها يسوقونها، وعمارها متعلقون بها، فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف، فيقول أهل الموقف: هؤلاء ملائكة مقربون، أو أنبياء مرسلون، فينادى: ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء، ولكنهم أهل المساجد، والمحافظون على الصلوات من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-)). ضعيف؟ طالب: قال: تقدم، وقال عزاه المصنف للدارمي ولم أقف عليه وأمارة الوضع لائحة عليه. . . . . . . . . الشيخ: تقدم ذكره في الدرس الماضي. وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم، وهي من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمان علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود -يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا-. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} قيل: الزكاة المفروضة، قاله الحسن، وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال {يَخَافُونَ يَوْمًا} يعني يوم القيامة. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} يعني: من هوله وحذر الهلاك، والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم، فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أمكانها، ولا هي تخرج، وأما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل، والعمى بعد البصر، وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم. وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين، وذلك مثل قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [(22) سورة ق] فما كان يراه في الدنيا غياً يراه رشداً، إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة ..

نعم، لانقطاع وقت التكليف، بعد المعاينة وانكشاف الأمور، لا ينفع مثل هذا -نسأل الله العافية- والإيمان إذا لم يكن بالغيب ما نفع. وقيل: تقلب على جمر جهنم، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [(66) سورة الأحزاب] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [(110) سورة الأنعام] في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار، وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة، وقيل: إن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [(38) سورة النور] فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات، وإن كان يجازى عليها لأمرين: أحدهما: أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة، والثاني: أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر، فكانت صغائرهم مغفورة. {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها، والثاني: ما يتفضل به من غير جزاء .. يعني إلى أكثر من ذلك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وأهل العلم يقولون: قد خاب من فاقت آحاده عشراته، إذا كانت الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بواحدة فمن يهلك بعد هذا إلا من كتب الله له الشقاوة. الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، إذ لا نهاية لعطائه، وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد، قال: ((نعم يا ابن رواحة)) قال: وصلى فيها قائماً وقاعداً، قال: ((نعم يا ابن رواحة)) قال: ولم يبت لله إلا ساجداً، قال: ((نعم يا ابن رواحة كف عن السجع، فما أعطي عبد شيئاً شراً من طلاقة في لسانه)) ذكره الماوردي .. لا سيما إذا استعمله فيما لا يرضي الله -جل وعلا-، أما إذا استعمل هذه الطلاقة فيما يرضي الله والذب عن الدين وأهله يؤجر عليها، لذا جاء في الحديث الصحيح: ((إن من البيان لسحراً)) والسحر مذموم على كل حال، لكن هذا إن كان هذا البيان في نصر الحق فهو ممدوح، وإن كان في نصر الباطل فهو مذموم.

طالب: خبر أن مسجد قباء أول ما بني. الشيخ: سبب نزول الآية؟ طالب: لما نزلت هذه الآية أمر ببناء مسجد قباء. الشيخ: لا لا، مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، بناه النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يدخل المدينة. طالب: قبل مسجده؟ الشيخ: قبل مسجده -عليه الصلاة والسلام-. طالب: يعني ضعيف هذا الخبر. الشيخ: نعم بلا شك، ماذا قالوا عنه؟ طالب: ذكره الماوردي في تفسيره بدون إسناده، ولم يعزوه لأحد، وعلى العموم هو غريب حيث لم يذكره أحد من أهل التفسير، والله أعلم. الشيخ: وإذا لم يوجد في الدواوين المعروفة المسندة الأصلية فهذا أمارة وضع. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [(39) سورة النور] لما ضرب مثل المؤمن ضرب مثل الكافر، قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان يترهب متلمساً للدين، فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفر، قال أبو سهل: في أهل الكتاب، وقال الضحاك: في أعمال الخير للكافر كصلة الرحم، ونفع الجيران، والسراب: ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض، والآل الذي يكون ضحىً كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء، وسمي السراب سراباً؛ لأنه يسرب، أي يجري كالماء، ويقال: سرب الفحل: أي مضى وسار في الأرض، ويسمى الآل أيضاً، ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به العطشان، قال الشاعر: فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابية صلد وقال آخر: فلما كففنا الحرب كانت عهودهم ... كلمع سراب بالفلا متألقِ وقال امرؤ القيس: ألم أنض المطي بكل خرق ... أمق الطول لماع السراب والقيعة: جمع القاع، مثل جيرة وجار، قاله الهروي، وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد حكاه النحاس، والقاع ما انبسط من الأرض واتسع، ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب .. ولا يكون السراب إلا في المنبسط من الأرض، أما الأرض التي فيها ارتفاع ونزول وجبال ورمال هذه لا يكون فيها سراب، إنما السراب الذي يكون بالقيعة –الأرض المنبسطة-.

وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان، قال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع، وهو أيضاً من الواو، وبعضهم يقول: هو جمع. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} أي العطشان، {مَاء} أي يحسب السراب ماء، {حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} مما قدره، ووجد أرضاً لا ماء فيها، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطةً بالكفر، أي لم يجدوا شيئاً، كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضاً لا ماء فيها، فهو يهلك أو يموت .. لأنه يستمر في طلب هذا السراب إلى أن يهلك. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} أي وجد الله بالمرصاد {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي جزاء عمله، قال امرؤ القيس: فولى مدبراً يهوي حثيثاً ... وأيقن أنه لاقى الحسابا وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله، وقيل: وجد أمر الله عند حشره، والمعنى متقارب، وقرئ بقيعات قال المهدوي: ويجوز أن تكون الألف مشبعة من فتحة العين، ويجوز أن تكون مثل رجل عزهٍ وعزهاة للذي لا يقرب النساء، ويجوز أن يكون جمع قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف، وروي عن نافع وابن جعفر وشيبة: (الظمان) بغير همز، والمشهور عنهما الهمز، ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة فقلت: الظمان. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ابتداء {أَعْمَالُهُمْ} ابتداء ثان، والكاف من {كَسَرَابٍ} الخبر والجملة خبر عن {الَّذِينَ} ويجوز أن تكون {أَعْمَالُهُمْ} بدلاً من {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي: وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف. قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} [(40) سورة النور] ضرب تعالى مثلاً آخر للكفار، أي أعمالهم كسراب بقيعة، أو كظلمات، قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بالظلمات فـ {أو} للإباحة حسبما تقدم من القول في {أَوْ كَصَيِّبٍ} [(19) سورة البقرة] وقال الجورجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم ..

فتكون (أو) هنا للتقسيم، ويجوز أن تكون أيضاً لتنويع، منهم من أعماله كسراب، ومنهم من أعماله كظلمات، فتكون للتقسيم والتنويع. ونسقُ الكفر على أعمالهم؛ لأن الكفر أيضاً من أعمالهم، وقد قال تعالى: {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [(257) سورة البقرة] أي من الكفر إلى الإيمان، وقال أبو علي: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} أو كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف، قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني؛ لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر، وقال ابن عباس في رواية: هذا مثل قلب الكافر. {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} قيل: هو منسوب إلى اللَّجة، وهو الذي لا يدرك قعره، واللجة معظم الماء، والجمع: لجج، والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه، ومنه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من ركب البحر إذا التج فقد برئت منه الذمة)) .. خرجه؟ إيش يقول؟ طالب: قال: ضعيف، ذكره الذهبي في الميزان، في ترجمة محمد بن زريع، وقال: تابعي لا يعرف، أرسل حديثاً ثم ذكره، ووافقه الحافظ في اللسان، حديث أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والتأريخ عن زهير بن عبد الله عن رجل من الصحابة، فذكره مرفوعاً، وزهير مجهول لا يعرف، وإن وثّقه ابن حبان كعادته في توثيق المجاهيل والحديث حسنه الألباني في الأدب المفرد وهو الصحيحة. الشيخ: معناه صحيح، لأنه من الإلقاء باليد إلى التهلكة، إذا رأى علامات الهلاك ومع ذلك يصرّ إلى أن يركب، ومثل هذا من يركب الطائرة مع سوء الأحوال الجوية التي قد تعرض هذه الطائرة للسقوط، أما مع عدم ذلك فالغالب السلامة. والتج الأمر، إذا عظم واختلط. وقوله تعالى: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [(44) سورة النمل] أي ما له عمق، ولججت السفينة أي خاضت اللجة (بضم اللام) فأما اللجة (بفتح اللام) فأصوات الناس، يقول: سمعت لجَّة الناس: أي أصواتهم وصخبهم، قال أبو النجم: في لجة أمسك فلاناً عن فلِ.

والتجت الأصوات: أي اختلطت وعظمت {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} أي يعلو ذلك البحر اللجي موج {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب، فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب، وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج، فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضاً، حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب، وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما: أنه قد غطى النجوم التي يُهتدى بها، الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير {سحابُ ظلمات} بالإضافة والخفض وقنبل: {سحاب} منوناً {ظلمات} بالجر والتنوين، والباقون بالرفع والتنوين، قال المهدوي: من قرأ {من فوقه سحابُ ظلمات} بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها، كما يقال: سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر، ومن قرأ {سحابٌ ظلمات} جرّ {ظلمات} على التأكيد لـ {ظلمات} الأولى أو البدل منها .. أو كظلمات مجرور بالكاف، والثاني إذا كان مؤكداً له أو بدلاً منه يجرّ. و {سَحَابٌ} ابتداء، و {مِّن فَوْقِهِ} الخبر، ومن قرأ {سحاب ظلمات} فظلمات خبر ابتداء محذوف، والتقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات، قال ابن الأنباري: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} غير تام؛ لأن قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} صلة للموج، والوقف على قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} حسن، ثم تبتدئ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا {ظلمات} على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب، ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب، وظلمة الموج، وظلمة الليل، وظلمة البحر، فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئاً، ولا كوكباً، وقيل: المراد بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض، وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر .. هذه الظلمات -هذه الشدائد- تحجب العقل كما أن الظلمات تحجب الرؤية، يعني على قول من يقول أن المراد بها الشدائد، ولا شك أن الكافر في شدائد، وفي ظلمات يتيه في دياجير الجهل وظلماته.

وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه، روي معناه عن ابن عباس وغيره: أي لا يبصر بقلبه نور الإيمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها، وقال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار، وبئس المصير. {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} يعني الناظر {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي من شدة الظلمات، قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد، وهو معنى قول الحسن، ومعنى {لَمْ يَكَدْ} لم يطمع أن يراها، وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها كما تقول: ما كدت أعرفه، وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد، كما تقول: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة. وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم يرَ، كما يقال: كاد العروس يكون أميراً، وكاد النعام يطير، وكاد المنتعل يكون راكباً، قال النحاس: وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة .. كاد إذا كانت منفية لها حكم، وإذا كانت مثبتة فلها حكم، إذا كانت منفية أثبتت على بُعد، وإذا كانت مثبتة (كاد) فهي للنفي، فإذا قلت: (لم يكد زيد أن ينجح) معناه أنه نجح لكنه بعد جهدٍ جهيد، وإذا أثبت كاد، وقلت: (كاد زيد أن ينجح) فهل هو نجح وإلا ما نجح؟ ما نجح، لكنه قرب منه، وجاء إخفاء الساعة وأنه لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، وقال الله -جل وعلا- عنها: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [(15) سورة طه] فعلى هذا {أَكَادُ أُخْفِيهَا} هل هي مخفية أو غير مخفية؟ طالب: مخفية. الشيخ: معروف، لكن الآن، من هذا الأسلوب هل هي مخفية أو غير مخفية؟ {أَكَادُ أُخْفِيهَا}. يعني: أقرب من أن أخفيها، معناه أنه ما أخفاها؟ طالب: ليست مخفية.

الشيخ: لكنها مع الشدة، أنها إلى الخفاء أقرب، ومع ذلك ليست مخفية، ولذا يقول جمع من المفسرين: أكاد أخفيها حتى عن نفسي، وأما عن الخلق فهذا أمر مفروغ منه، أنها مخفية، ولا يعلمها أحد، ولا يعلم عن الساعة أحد إلا الله -جل وعلا-، وهذا من باب المبالغة في إخفائها. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} يهتدي به أظلمت عليه الأمور، وقال ابن عباس: أي من لم يجعل الله له ديناً فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نوراً يمشي به يوم القيامة لم يهتدِ إلى الجنة، كقوله تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [(28) سورة الحديد] وقال الزجاج: ذلك في الدنيا، والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد، وقال مقاتل بن سليمان: نزلت في عتبة بن ربيعة كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام، قال الماوردي: في شيبة بن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية، ويلبس الصوف، ويطلب الدين فكفر في الإسلام، قلت: وكلاهما مات كافراً، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما .. نعم؛ لأن سبب النزول لا يقتضي القصر عليه، لا يقتضي قصر النازل عليه، بل حكمه في كل من حاله تشبه حاله. وقد قيل: نزلت في عبد الله بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم تنصر بعد إسلامه، وذكر الثعلبي: وقال أنس قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى خلقني من نور، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة، فمن لم يحبني ويحب أبا بكرٍ وعمرٍ وعائشة فما له من نور)) فنزلت: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} .. الشيخ: باطل، الخبر باطل. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد. ٍ

سورة النور - تفسير الآيات من (41 إلى 55)

تفسير القرطبي (سورة النور) تفسير الآيات من (41 إلى 55) الشيخ/عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [(41 - 42) سورة النور]. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعاً قادراً على الكمال، فله بعثة الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار والخطاب في {أَلَمْ تَرَ} للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعناه: ألم تعلم، والمراد الكل {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة {وَالْأَرْضِ} من الجن والإنس، {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق، وقال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها تسبيح، حكاه النقاش. وقيل: التسبيح هاهنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة، ومعنى {صَافَّاتٍ} مصطفات الأجنحة في الهواء، وقرأ الجماعة {والطيرُ} بالرفع عطفاً على {من}، وقال الزجاج: ويجوز {والطير} بمعنى مع الطير .. فتكون الواو حينئذٍ للمعية، العطف والرفع على أنها عاطفة، والنصب على أنها واو المعية. قال النحاس: وسمعته يخبر (قمت وزيداً) بمعنى مع زيد، قال: وهو أجود من الرفع .. نعم إذا قلت: (قمتُ وزيداً) فالنصب أجود من الرفع؛ لأن الرفع في هذه الصورة ضعيف، العطف على ضمير الرفع المتصل دون فاصل ضعيف، فالمتجه في مثل هذه الصورة النصب، (والنصب مختار لدى ضعف النسق). يعني إذا ضعف النسق فالنصب هو المختار والعكس. قال: فإن قلت: (قمت أنا وزيد) كان الأجود الرفع، ويجوز النصب ..

لأن الرفع هو الأصل، النسق هو الأصل فهو الأجود إذا وجد ضمير الفصل. {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [(41) سورة النور] يجوز أن يكون المعنى: كل قد علم الله صلاته وتسبيحه: أي علم صلاة المصلي، وتسبيح المسبح، ولهذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [(41) سورة النور] أي لا يخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم، ومن هذه الجهة يجوز نصب {كل} عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده، وقد قيل: المعنى قد علم كل مصلٍ ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه، وقرأ بعض الناس (كلٌ قد عُلم صلاته وتسبيحه) غير مسمى الفاعل، وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ (كلٌ قد علَّم صلاته وتسبيحه) فيجوز أن يكون تقديره: كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه، ويجوز أن يكون المعنى: كل قد علَّم غيره صلاته وتسبيحه: أي صلاة نفسه، فيكون التعليم الذي هو الإفهام والمراد الخصوص؛ لأن من الناس من لم يعلِّم، ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل، فعبَّر عن الاستدلال بالتعليم، قاله المهدوي، والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر تأكيداً، كقوله: يعلم السر والنجوى، والصلاة قد تسمى تسبيحاً، قاله القشيري. والسبحة هي السنة، وهي الصلاة، ففي ارتباط بين التسبيح وبين الصلاة الشرعية، وأولى التقديرات هو الأول، (كلٌ) تنوين عوض عن مضاف إليه، تقديره: كل أحدٍ قد علم الله -جل وعلا- صلاته وتسبيحه، وامتثاله لأمره، وعدم امتثاله. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [(42) سورة النور] تقدم في غير موضع. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [(43) سورة النور] ذكر من حججه شيئاً آخر: أي ألم تر بعيني قلبك، {يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق إلى حيث يشاء، والريح تزجي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي: تسوقه، ومنه زجا الخراج يزجو زجاء (ممدوداً) إذا تيسرت جبايته ..

الرؤية هذه أولها المؤلف -رحمه الله- على أنها قلبية، وليست بصرية؛ لأن هذا الفعل غير مرئي؛ لأن هذا الفعل حقيقته غير مرئي، فلا بد من أن تكون الرؤية قلبية، ولا مانع أن تكون علمية بمعنى: ألم تعلم، لأنه بلغك من النصوص ما يجعل علمك بهذه المسألة كالرؤية. طالب: يقول المفسر: "وكرر تأكيداً، كقوله: يعلم السر والنجوى" قال في الحاشية: لا يوجد في القرآن آية هكذا، والذي في سورة التوبة: {يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [(78) سورة التوبة] وفي طه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [(7) سورة طه]. الشيخ: هذا لا شك أنه غلطة، على كل حال الأمثلة كثيرة في عطف الشيء على نفسه إذا اختلف المعنى، ما يلزم أن يكون هذه الآية على وجه الخصوص. وقال النابغة: إني أتيتك من أهلي ومن وطني ... أزجي حُشاشة نفس ما بها رمقُ وقال أيضاً: أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه عند انتشائه؛ ليقوى ويتصل ويكثف، والأصل في التأليف الهمز تقول: تألف، وقرئ: يولف بالواو تخفيفاً .. السحاب قد يكون متقطع في أماكن، ثم بعد ذلك يؤلف بينه، يجمع بينه؛ ليكون أقوى. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا قال: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ} [(12) سورة الرعد] و {بين} لا يقع إلا لاثنين فصاعداً فكيف جاز بينه؟ فالجواب: أن {بينه} هنا لجماعة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه؛ لأنه جمع، وذكَّر الكناية على اللفظ، قال معناه الفراء. وجواب آخر: وهو أن يكون السحاب واحداً، فجاز أن يقال: بينه؛ لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال: (بين الدخول فحومل) فأوقع {بين} على الدخول .. التجويز الأخير يرجع مفاده إلى الأول، ما دام متفرق فيمكن أن تدخل بين أجزائه {بين}، ما تستطيع أن تقول: (زيد جلست بينه) لكن تقول: (جلست بين يديه) لأنه أكثر من جزء، أما بينه باعتباره شيء واحد لا يُجلس بينه، أما بين يديه فهذا ممكن؛ لأنهما اثنتان، والسحاب لو كان قطعة واحدة ما تستطيع أن تجلس بينه، لكن قطع متعددة تجلس بينها.

فأوقع {بين} على الدخول وهو واحد لاشتماله على مواضع، وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة؛ لأن الكوفة أماكن كثيرة، قاله الزجاج وغيره .. يعني بين أحيائها، وأحياؤها متعددة. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز، وكان يروي: بين الدخول وحومل. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي مجتمعاً، يركب بعضه بعضاً، كقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [(44) سورة الطور] والركم: جمع الشيء، يقال منه: ركم الشيء يركمه ركماً إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع، والركمة: الطين المجموع، والركام: الرمل المتراكم، وكذلك السحاب وما أشبهه، ومرتكم الطريق (بفتح الكاف): جادته. {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [(43) سورة النور] في {الودق} قولان: أحدهما: أنه البرق، قاله أبو الأشهب العقيلي، ومنه قول الشاعر: أثرنا عجاجةً وخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب الثاني: أنه المطر، قاله الجمهور، ومنه قول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقال امرؤ القيس: فدمعهما ودق وسحٌ وديمةٌ ... وسكب وتوكاف وتنهملان يقال: ودقت السحابة فهي وادقة، وودق المطر يدق ودقاً: أي قطر، وودقت إليه: دنوت منه، وفي المثل: ودق العير إلى الماء: أي دنا منه، يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه، والموضع مودق، وودقت به ودقاً استأنست به، ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودقت تدق ودقاً، وأودقت واستودقت، وأتان ودوق، وفرس ودوق، ووديق أيضاً، وبها وداق .. الأتان عند العامة إذا أرادت الفحل هنا يقال: ودقت الأتان يعني كالفرس، يعني: أرادت الفحل الضراب، فعند العامة إيش يسمونه؟ ها يا أبو عبد الله؟! الأتان إذا أرادت الفحل؟ لا تدري أيضاً، ما يقبل منك هذا، هو ما في غيرك؟!. طالب: صارف. الشيخ: لا الصارف العنز أو الشاة، هذا في الغنم يقال: صارف، وفي البقر: معطي، وفي الإبل يقولون ماذا؟ طالب: معشر الشيخ: لا ما هي معشر، مجسر، مجسر، وفي الأتان؟ هنا جعلها من ذوات الحافر فهي كذلك فحكمها حكم الفرس، لكن الاستعمال غير هذا، يعني وإن كان الاستعمال أحياناً يكون خطأ، هم يقولون: طالب.

والوديقة: شدة الحر، وخلال: جمع خلل مثل الجبل والجبال وهي فرجه، ومخارج القطر منه وقد تقدم في (البقرة) أن كعباً قال: إن السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض .. لقوته، فإذا وجد شيء يرده يقلل من قوته، هذا على كلامه، وهذا شأن الذي ينزل من مكان بعيد مرتفع جداً لا شك أن وقعه على الأرض أشد مما لو نزل من مسافةٍ أقل. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية من خلله على التوحيد، وتقول: كنتُ في خلال القوم: أي وسطهم. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [(43) سورة النور] قيل: خلق الله في السماء جبالاً من برد فهو ينزل منها برداً، وفيه إضمار: أي ينزل من جبال البرد برداً، فالمفعول محذوف، ونحو هذا قول الفراء؛ لأن التقدير عنده: من جبال برد، فالجبال عنده هي البرد، و {برد} في موضع خفض، ويجب أن تكون على قوله المعنى: من جبال برد فيها بتنوين {جبال}. وقيل: إن الله تعالى خلق في السماء جبالاً فيها برد فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد. و {من} صلة، وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض فـ {من} الأولى للغاية؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض؛ لأن البرد بعض الجبال، والثالثة: لتبيين الجنس؛ لأن جنس تلك الجبال من البرد، وقال الأخفش: إن {من} في الجبال و {برد} زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب: أي ينزل من السماء برداً يكون كالجبال، والله أعلم. {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} فتكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة .. أما نزول الثلوج في هذه السنة بعضه أعظم من الجبال، كما يشاهد أعظم من الجبال، ومن الغرائب أنه في خبر من الأخبار، قالوا: إن شخصاً من الأردن استطاع أن يستخرج من جوف الأرض غاز يدفئ به الكرة الأرضية، والخبر الذي يليه: وقد بلغت الثلوج في كذا، بلدٍ مجاور أربعة أمتار، هذا استطاع أن يخرج غاز يدفئ الكرة الأرضية، والثلج بقربه، يعني أحياناً تكون الدعوة مقرونة بما يكذبها، يستخرج غاز من الأرض يدفئ به الكرة الأرضية، يعني لو يدفئ بيته كفى، والله المستعان.

ويجد من يصدق مثل هذا، تجد الآن الشمس يقولون: أكبر من الأرض بستة وأربعين مليار مرة، ويتناقلها الإخوان وطلاب العلم في دروسهم ومحاضراتهم مثل المصدقين، طيب لو زاد مليار زائد أو ناقص من الذي يصدق ومن الذي يكذب؟ هذه عظمة الرب -جل وعلا- ثبتت في ما جاء عنده فيما لا يعلم إلا من قبله، أما ما يقال لنا من قبل أي شخص مسلم أو كافر ملحد أو زنديق نأخذه بالتسليم هذا ليس بصحيح، وتفسير الجواهر مشحون من هذه الأرقام، وهذه الأصفار، كلها مأخوذة من كلام الأعداء، ليقرروا في يوم من الأيام أن الأرض أكبر من كذا أو أصغر من كذا، ثم يخلونا تبعاً لهم، يتحدثون في مسلماتنا ثم نصدقهم بعد ذلك؛ لأننا صدقناهم في غيرها، ثم كذبوا أنفسهم فتبعناهم، فما صار لنا رأي ولا استقلال ولا نظر، وإنما إمعات، إذا قالوا قلنا، وإذا نفوا نفينا. {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} فيكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة، وقد مضى في (البقرة) و (الرعد) أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثاً، عوفي مما يكون في ذلك الرعد {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب .. أحال على المرفوع والظاهر أنه ضعيف! إنما هو عن الزبير. لأنه تقدم! تقدم في الرعد. مضى في البقرة. طالب: مكتوب حديث ملفق من حديثين. الشيخ: إيه، أما قول: سبحان من يسبح الرعد بحمده من قول الزبير ما هو مرفوع، وعوفي؟ بس كذا؟ طالب: قال: فقد أخرج الطبري من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع صوت الرعد قال: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده)) وقيل: فيه راوٍ لم يسم. الشيخ: معروف، مرفوع ضعيف، والثاني؟ الشيخ: مو قال: ملفق من حديثين؟ طالب: الحديث الثاني من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس يقول هذا مجهول. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} من شدة بريقه وضوئه، قال الشماخ: وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلا البصير وقال امرؤ القيس: يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الذبال المفتل

فالسنا (مقصور) ضوء البرق، والسنا أيضاً نبت يتداوى به، والسناء من الرفعة ممدود، وكذلك قرأ طلحة بن مصرف (سناء) بالمد على المبالغة في شدة الضوء والصفاء، فأطلق عليه اسم الشرف، قال المبرد: (السنا) مقصور هو اللمع، فإذا كان في الشرف والحسب فهو ممدود، وأصلهما واحد وهو الإلماع، وقرأ طلحة بن مصرف (سناء برقه) وقال أحمد بن يحيى: وهو جمع برقة، قال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة: المرة الواحدة، وقرأ الجحدري وابن القعقاع: {يُذهِب بالأبصار} بضم الياء وكسر الهاء، من الإذهاب وتكون الباء في {بالأبصار} صلة زائدة .. لأن الفعل يتعدى بدونها إذا دخلت عليه الهمزة، يُذهب أصلها: أذهب يُذهب؛ فإذا دخلت الهمزة على الفعل اللازم تعدى بنفسه، أما: ذهب الثلاثي هذا لازم. والباقون {يذهب بالأبصار} بفتح الياء والخاء، والباء للإلصاق، والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق, {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [(44) سورة النور] قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر، وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما، وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى، وكذا الليل مرةً بظلمة السحاب ومرةً بضوء القمر، قاله النقاش، وقيل: تقليبهما باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر، ونفعٍ وضر، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر، والصيف والشتاء ..

هذه الأقوال في تقليب الليل والنهار، الأول: يقول: قيل تقليبها أن يأتي بأحدهما بعد الآخر؛ لأن الذي يقلَّب هل هو شيء واحد أو أكثر من شيء؟ إذا كان شيء واحد معناه أن الله -جل وعلا- يقلب الوقت، فيجعله أحياناً نهاراً، ويجعله أحياناً ليلاً استقام القول الأول، وأما إذا نظرنا إلى كل واحد بمفرده فكيف يكون تقليبه؟ تقليب الليل بمفرده، وتقليب النهار بمفرده؟ إذا قلنا تقليب الوقت انتهى الإشكال، يأتي بالليل بعد النهار، والنهار بعد الليل هذا تقليب، أما إذا قلنا أنه يقلب النهار على حده، ويقلب الليل على حده، فالتقليب إنما يكون بسبب أحياناً الطول والقصر أو بالحر والبرد، بالظلمة شدتها وخفتها، المقصود أنه يتنزل كلامه الأول على أن المراد به تقليب الشيء الواحد وهو الوقت، وتقليبه يكون: ليل ثم بعده نهار، ثم بعده ليل ثم نهار وهكذا، وهذا تقليب؛ لأن التقليب التغيير، وإذا نظرنا إلى كل واحدٍ على حده فلا بد أن ننظر إلى أوصاف الليل على حده وأوصاف النهار على حده. طالب: في قوله: (ألم تر) من قال في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكراً)): لا بد من الرؤية، ما يرد عليه بمثل هذه الآية يا شيخ؟ الشيخ: الرؤية عند أهل العلم تكون بصرية، وتكون علمية، وتكون قلبية، والرؤية إذا بلغك الخبر ممن تثق به فكأنك شاهدته، إذا بلغك الخبر بواسطة من تثق به فكأنه مشاهد، كما في قول الله -جل وعلا-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل] ما رأى الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه ولد في تلك السنة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [(6) سورة الفجر]؟ هو رأى؟ لكن بلغه الخبر بطريقٍ قطعي فكأنه مشاهد، فالخبر المصحح أو المقطوع به بمنزلة المشاهد. {لَعِبْرَةً} أي اعتباراً، {لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} أي لأهل البصائر من خلقي.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} [(45) سورة النور] قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: والله خالق (كل) بالإضافة، والباقون {خلق} على الفعل، قيل: إن المعنيين في القراءتين صحيحان، أخبر الله -عز وجل- بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى القراءتين أصح من الأخرى، وقد قيل: إن {خلق} لشيء مخصوص، وإنما يقال: خالق على العموم، كما قال الله -عز وجل-: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [(24) سورة الحشر] وفي الخصوص {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [(1) سورة الأنعام] وكذا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [(189) سورة الأعراف] .. الفرق بين خلق وخالق أن الفعل يدل على التجدد، بينما الاسم يدل على الثبوت والدوام، فلكل واحدٍ منهما معنى. فكذا يجب أن يكون {اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [(45) سورة النور] والدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان، يقال: دب يدب فهو دآب، والهاء للمبالغة، وقد تقدم في (البقرة). {مِن مَّاء} لم يدخل في هذا الجن والملائكة؛ لأنا لم نشاهدهم ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل في الصحيح: أن الملائكة خلقوا من نور، والجن خلقوا من نار، وقد تقدم .. فعلى هذا يخرجون من هذا العموم، وإن دبوا على الأرض أحياناً فهم يخرجون من هذا العموم؛ لأنهم لم يخلقوا من ماء. وقال المفسرون: {مِن مَّاء} أي من نطفة، قال النقاش: أراد أمنية الذكور، وقال جمهور النظرة .. يعني النظار، النظرة النظار، الطبري كثيراً ما يقول، بل لا يقول إلا القرأة، ويريد بهم القراء، والصحيح بذلك عندنا كذا لإجماع القرأة على كذا، ويريد بهم القراء، وهنا: النظرة يراد بهم النظار. أراد أن خلقةَ كل حيوان فيها ماء، كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى هذا يتخرج قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للشيخ الذي سأله في غزاة بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نحن من ماء)) الحديث، وقال قوم: لا يستثنى الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء، وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء، إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء.

قلت: ويدل على صحة هذا قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [(45) سورة النور] المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره، وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى، والأربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي: ومنهم من يمشي على أكثر، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش .. لكن هل يوجد له أربع ويمشي على اثنتين، له أربع ومشيه على اثنتين؟ طالب: الكنغر. الشيخ: الكنغر، لكن أنا ما وجدته في حياة الحيوان، ما وجدت اسمه هذا في حياة الحيوان، ما وجدته بهذا الاسم، هو له اسم ثان؟ هو معروف الحيوان هذا له يدان قصيرتان ويمشي على رجلين. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: ما اسمه؟ طالب. . . . . . . . . الشيخ: قفزه على الأربع، لكن هذا على رجلين فقط، من العجائب، لكن أحد يعرف اسمه؟ لأني ما وجدته في حياة الحيوان بهذا الاسم؟ طالب: ما أعرف، ذكره هو؟ الشيخ: لا ما ذكره، هو ذكر عن. . . . . . . . . أن طوله ستة أشبار، يعني إلى كم؟ إلى 150سم، يعني متر ونصف، الله المستعان، في بعض الحيوانات لا شك أنها تخفى علينا، والأسماء تختلف من بلدٍ إلى آخر. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: لا عاد جعله مقياس الشبه، متردد بين الوزغ والضب. طالب:. . . . . . . . . الشيخ: يعني شبهه، بين الوزغ والضب، من أجازه قال: هو مثل الضب، ومن منعه قال: مثل الوزغ. ولكنه قرآن لم يثبته إجماع، لكن قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها .. لأنه يستقيم على أربع سواء كان في وقوفه أو في مشيه، لكن إذا كان طويلاً وهذه الأربع قصيرة لا شك أنه يحتاج إلى شيءٍ يدعم هذه الأربع، تشوفون السيارات يعني غالبها على أربع كفرات، لكن بعضها لطولها تحتاج إلى داعم، يعني الزواحف هذه أم سبع وسبعين، وأم أربع وأربعين لها أرجل كثيرة، لكن لو كانت أربع فقط؟ تحتاج إلى ما يدعمها فيكون هذا هو الغالب، وهذا شيء نادر.

قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه، وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع. وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشي على أكثر من أربع، كما وقع في مصحف أبي، والله أعلم. و {دآبة}: تشمل من يعقل وما لا يعقل، فغلب من يعقل، لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب والمتعبد، ولذلك قال: {فمنهم} وقال: {مَّن يَمْشِي} فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع أي: لولا أن للجميع صانعاً مختاراً لما اختلفوا، بل كانوا من جنسٍ واحد، وهو كقوله: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [(4) سورة الرعد] يخلق ما يشاء إن الله على كل شيء مما يريد خلقه قدير .. التقييد هذا لا قيمة له. طالب: مما يريد خلقه؟ الشيخ: مما يريد خلقه، والقدرة مطلقة، لكن إذا كان المراد مجرد التصريح بما هو توضيح من غير إرادة للمفهوم فلا بأس، يعني جاء في حديث: آخر من يخرج من النار كما في صحيح مسلم، ((فإني على ما أشاء قدير)) في صحيح مسلم، فإني على ما أشاء قدير، فهذه اللفظة فلا مفهوم لها؛ لأننا إذا قلنا أنه لا يقدر على الشيء الذي لا يريده أو لا يشاؤه هذا مفهومها، أن الذي لا يشاؤه ولا يريده لا يقدر عليه، هذا المعنى باطل، والقيد لا مفهوم له. طالب: الآية: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [(29) سورة الشورى]. الشيخ: (إذا) ممكن تأويلها بمتى، متى شاء. {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(46) سورة النور] تقدم بيانه في غير موضع، قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} [(47) سورة النور] يعني المنافقين يقولون بألسنتهم: آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص، {وَأَطَعْنَا} [(47) سورة النور] أي ويقولون وكذبوا، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [(47) سورة النور].

ولو قيل: إن الذي يقولون آمنا بالله وبالرسول الجميع –المؤمنون والمنافقون– ثم يثبت الله الذين آمنوا وأولئك يتولى فريق منهم. قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. [(48 - 49) سورة النور]. فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قال الطبري وغيره: إن رجلاً من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان المنافق مبطلاً، فأبى من ذلك وقال: إن محمداً يحيف علينا، فلنحكم كعب بن الأشرف، فنزلت الآية فيه .. لعلمه أنه يأخذ الرشوة، فإذا أعطاه الرشوة حكم له، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحكم بالحق، وهو مبطل. وقيل: نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية، كان بينه وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خصومة في ماء وأرض، فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: إنه يبغضني، فنزلت الآية، ذكره الماوردي، وقال: {لِيَحْكُمَ} ولم يقل ليحكما؛ لأن المعني به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما بدأ بذكر الله إعظاماً لله واستفتاح كلام .. وحكمه -عليه الصلاة والسلام- هو حكم الله، ((إنما أقضي بينكم بكتاب الله)) فصحّ الإفراد، {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [(62) سورة التوبة] يصح الإفراد؛ لأن حكم الله حكم الرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

الثانية: قوله تعالى: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [(49) سورة النور] أي طائعين منقادين لعلمهم أنه -عليه السلام- يحكم بالحق، يقال: أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعاناً، وقال النقاش: {مُذْعِنِينَ} خاضعين مجاهد: مسرعين، وقال الأخفش وابن الأعرابي: مقرين، {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [(50) سورة النور] شك وريب، {أَمِ ارْتَابُوا} أم حدث لهم شك في نبوته وعدله. {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [(50) سورة النور] أي يجور في الحكم والظلم، وأتى بلفظ الاستفهام؛ لأنه أشد في التوبيخ، وأبلغ في الذم، كقول جرير في المدح: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [(50) سورة النور] أي المعاندون الكافرون؛ لإعراضهم عن حكم الله تعالى. الثالثة: القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم، ولا حق لأهل الذمة فيه وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما، فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض كما تقدم في المائدة. الرابعة: هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم؛ لأن الله سبحانه ذمَّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} .. الآية. قال ابن خويزمنداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه، وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له)) ذكره الماوردي أيضاً، قال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: ((فهو ظالم)) فكلام صحيح .. يعني صحيح المعنى، وإن لم يصح نسبة، معناه صحيح ظالم. طالب: رفع دعوى إلى حقوق الإنسان؟ الشيخ: إذا كان القاضي فيها غير مسلم، المرفوع إليه غير مسلم فهو من التحاكم إلى الطاغوت، وإن كان القاضي فيها مسلم، ويطلب الحق منه، وهو أهل للقضاء والفصل بين الناس لا مانع إذا كان يحكم بشرع الله. طالب: لها الأنظمة يا شيخ؟

الشيخ: على كل حال، الله المستعان، الخلل موجود، الله يرضى عنا. طالب: المعاهد هو الذمي؟ الشيخ: الذمي هو الذي يدفع الجزية، والمعاهد هو الذي يدخل بالعهد والإيمان والميثاق يبرمه مع ولي الأمر، هذا معاهد، وأما الذمي هو الذي يدفع الجزية من يهوديٍ أو نصراني. وأما قوله ((فلا حق له)) فلا يصح. لأن مثل هذا لا يبطل الحق، مثل هذا لا يبطل الحق. ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، فلا يتكلف اعتباره. قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [(51) سورة النور] أي إلى كتاب الله وحكم رسوله {أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون: أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا يقولون سمعنا وأطعنا، فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله: {أَن يَقُولُوا} نحو {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [(147) سورة آل عمران]. وقيل: إنما قول المؤمنين، وكان صلة في الكلام كقوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [(29) سورة مريم]. يعني كان هذه إنما قول المؤمنين هذا الأصل و (كان) صلة، وأنه لا يلزم قولهم في الماضي دون الحاضر والمستقبل، وإنما قولهم في كل وقت وفي كل زمان وفي كل مكان، والشاهد يدل عليه في أوقاتٍ متأخرة يوجد من يقول هذا، وهذا كثير قبل انفتاح الدنيا، حتى وجد منذ عهدٍ قريب من يطلبه خصمه إلى القضاء، فيقولون له: أنت تعرف القضية اعرضها على القاضي، والذي يقوله هو الحق، وينتهي الإشكال ما يحتاج نحضر كلنا، وبالفعل يذهب الخصم إلى القاضي، ويعرض عليه القضية، فيقول القاضي: الحق لصاحبك، ويذهب يخبره بما حصل، وأما الآن يجلبون المسائل بكل ما أوتوا من قوة وحيل ومحامين وفجور في الخصومة، وكذب وحيل، كل هذا من أجل حطام الدنيا الذي تكالبوا عليه فأنساهم ذكر الله، وصار بعضهم يتردد، طبعاً أنا لا أريد المحكمة أنا أريد الحقوق، المسألة حقوقية ما نحتاج إلى محكمة، يترددون في هذا فصار في كثير منهم من أوصاف المنافقين ما صار.

وقرأ ابن القعقاع {ليُحكم بينهم} غير مسمى الفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب {إنما كان قولُ} بالرفع. يعني ما كان الناس إلى عهد قريب يستسيغون كلمة: قانون، فضلاً عن أن تكون موجودة في بلادهم في غير المحاكمات، يعني مستشار قانوني في مؤسسة كذا، في مصلحة كذا، كان هذا الأمر عظيم جداً، يعني ما يطاق سماعه، فكيف يتحاكم المسلم إلى القانون، إلى ما وضعه البشر ويتركون حكم الله؟!. طالب: تعلمه يا شيخ في المدارس؟ الشيخ: تعلمه من أجل إبطاله لا بأس، أما تعلمه من أجل لحكم به هذا محادة لله ورسوله. قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [(52) سورة النور] فيما أمر به وحكم. {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} قرأ حفص {ويتقه} بإسكان القاف على نية الجزم، قال الشاعر: ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي وكسرها الباقون؛ لأن جزمه بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر، واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص، وأشبع كسرة الهاء الباقون. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ذكر أسلم أن عمر -رضي الله عنه- بينما هو قائم في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله، قال: هل لهذا سبب؟ قال: نعم! إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل، وكثيراً من كتب الأنبياء فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن جُمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت، قال: ما هذه الآية؟ قال: قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ} في الفرائض {وَرَسُولَهُ} في السنن {وَيَخْشَ اللَّهَ} فيما مضى من عمره {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة، فقال عمر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أوتيتُ جوامع الكلم)). معزو؟ طالب: قال: هو أسلم العدوي مولى عمر، وهو ثقة، لكن الإسناد إليه لم أقف عليه، والظاهر أنه مصنوع فهو خبر غريب عجيب والمرفوع منه تقدم مراراً، وهو صحيح. . . . . . . . . الشيخ: غيره؟ نفس الكلام!؟

هذه القضايا وهذه الحوادث تحدث على مر العصور، كونه يأتي شخص يسلم بسبب أو بدون سبب، قد يذكر من الأسباب ما جعله يسلم، كاليهودي الذي نسخ التوراة والإنجيل والقرآن وحرف فيها، فقبلت منه التوراة والإنجيل وعمل بها ورد عليه القرآن، دل على أن الكتاب محفوظ، كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر] فأسلم بسبب ذلك. ومنهم من يسلم بسبب التشريع الإسلامي وما فيه من حكمة ظاهرة أمريكي أسلم -وهو غسال- فسئل عن السبب فقال: السبب في ذلك أن الثياب تختلف، ثياب المسلمين طاهرة ونظيفة وثياب غيرهم من النصارى واليهود والمشركين لا تطاق رائحتها؛ لأنهم لا يستنجون، وهندي أسلم فقيل له، قال: إن المسلمين إذا مات فيهم الميت حفروا له ودفنوه، نظفوه وستروه ودفنوه –وهو هندي– قال: إذا مات فينا الميت نحرقه، ولو كان من أعز الناس علينا، حصل له قصة، جاء بأمه على عادتهم ليحرقها فجمع لها حطباً عظيماً فأوقده عليها، فأكلت الكفن فقط، وبقيت الأم عارية بين الناس، ثم بعد ذلك لأنها توصي بهذا مذهبهم ودينهم، فجمع لها حطب مرة ثانية فأحرقها، ثم جاء ليعلن إسلامه، وعرف أن دينهم باطل. والقصص في هذا كثيرة جداً ما يمكن أن يحاط بها وهي متجددة، تكاد تكون يومية، ولله الحمد، وهذا من عظمة هذا الدين وبقائه ناصعاً نقياً إلى قيام الساعة. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [(53) سورة النور] عاد إلى ذكر المنافقين فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونساءنا وأموالنا لخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا، فنزلت هذه الآية: أي وأقسموا بالله أنهم يخرجون معك في المستأنف ويطيعون .. يعني فيما سيأتي. {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا، وقال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين وقد مضى في الأنعام بيان هذا و {جهد} منصوب على مذهب المصدر تقديره: إقساماً بليغاً {قُل لَّا تُقْسِمُوا} وتم الكلام.

{طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أولى بكم من أيمانكم، أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول معروف بإخلاص القلب ولا حاجة إلى اليمين .. يعني لا تقسموا، قل لا تقسموا، إنما الكلام إذا لم يصدقه العمل فلا قيمة له، يعني هل وجد منكم طاعة معروفة؟ هم يقسمون،. . . . . . . . . دل عملكم على صدق قولكم، لا تقسموا الإنسان ليس بحاجة لا سيما الذي يصدق قوله عمله، أما الذي يدعي الدعاوى هو الذي يحتاج إلى الأيمان ليصدق، أما إذا كانت أعماله موافقةً لأقواله، ما يحتاج إلى أن يقسم، الناس كلهم يصدقونه. وقال مجاهد: المعنى قد عرفت طاعتكم وهي الكذب والتكذيب: أي المعروف منكم الكذب دون الإخلاص، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [(53) سورة النور] من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل. قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [(54) سورة النور] بإخلاص الطاعة وترك النفاق، {فَإِن تَوَلَّوا} أي فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين، ودل على هذا أن بعده {وَعَلَيْكُم} ولم يقل وعليهم، {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي من تبليغ الرسالة، {وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} أي من الطاعة له، عن ابن عباس وغيره {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .. ولو قال: (وعليهم) لقلنا: (فإن تولوا) ماضي، وليس بمضارع ولا نحتاج إلى تقدير تاء، لكن لما قال: (وعليكم) ما قال (وعليهم) عرفنا أنه مضارع وليس بماض. {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} جعل الاهتداء مقروناً بطاعته، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أي التبليغ المبين .. وهذه الجملة الشرطية شاهدها الواقع، أن كل مطيع يهديه الله -جل وعلا- إلى الحق والصواب، كل مطيع يعان على الهداية في أقواله وفي أفعاله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [(69) سورة العنكبوت].

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(55) سورة النور]. نزلت في أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- قاله مالك، وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم، فنزلت الآية، وقال أبو العالية: مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه، يدعون إلى الله سراً وجهراً، ثم أمِرَ بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل: يا رسول الله: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال -عليه السلام-: ((لا تلبثون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة)) ونزلت هذه الآية .. ليس عليه حديدة – يعني من آلات السلاح-، الحديث مخرج؟ طالب: قال: مرسل ذكره الواحدي عن الربيع عن أبي العالية من دون إسناد، وهو مرسل. . . . . . . . . الشيخ: المقصود أنه وقع ما جاء في الخبر، وأمن الناس على أديانهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم، وعلى مرّ العصور ينتابهم الأمن -وهو الغالب- ثم ينتابهم الخوف لمخالفتهم أوامر الله وشرعه، ينتابهم شيء من الخوف، ويبتلون به حتى يرجعوا إلى دينهم، والله المستعان. ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فوضعوا السلاح وأمنوا، قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله -جل وعز- أنجز ذلك الوعد، قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الخلافة بعدي ثلاثون)) وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه واختاره ..

وخلافة الأربعة مدتها ثلاثون سنة. وقال: قال علماؤنا: هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم-، وأن الله استخلفهم، ورضي أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم؛ لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذاً؟ وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده -رضي الله عنهم-، وحكى هذا القول القشيري عن ابن عباس، واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)) قال سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشراً، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستاً، وقال قوم: هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)). واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد، ويجعلهم أهلها، كالذي جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب، قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة، وإقامة الدعوة، وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله، حتى في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء، ثم ذكر اعتراضاً وانفصالاً معناه: فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة، وعلي قد نوزع في الخلافة، قلنا: ليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان، وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهباً للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب، إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة ..

يعني بمعنى أن تكون الدولة للمسلمين، وإن وجد فيها بعض ما ينكد ويخالف هذا الأمن من وجه لأسبابه التي رتّب عليها؛ لأن النصر مشروط {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [(7) سورة محمد] والأمن مشروط {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [(55) سورة النور] فإذا وجد الشرك في بلد اختل هذا الأمن بقدر وجوده، وإذا ضعف التوحيد في بلد ضعف الأمن بقدر ضعفه، فلا بد من تحقق الشرط ليترتب عليه المشروط. ومعروف أنه في زمن علي -رضي الله تعالى عنه- وجد شيء من الغلو به، ووجد من طوائف الغلاة الذي غلوا به وألهوه من دون الله، فلا بد أن يختل الأمن بسبب هذا، لا بد من أن يختل الأمن بسبب مثل هذا {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فمتى حقق التوحيد وانتفى الشرك حصل الأمن، وإذا اختل شيء من هذا اختل الأمن بقدره {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [(82) سورة الأنعام] والمراد بذلك الشرك. نسأل الله العافية. طالب: خلافة الحسن؟ الشيخ: ستة أشهر؟ تكمل الثلاثين. طالب: الأمن هنا المراد به الأمن على النفس أم العرض أم الدين أم ماذا؟ الشيخ: الأمن من جميع وجوهه، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ} لم يخلطوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن يعني التام، من كل وجه. ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين، فهذا نهاية الأمن والعز.

قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين، بل وغيرهم، ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [(10 - 11) سورة الأحزاب] ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيراً، وأمن المؤمنين، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} [(55) سورة النور] وقوله: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [(55) سورة النور] يعني بني إسرائيل إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم، فقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [(137) سورة الأعراف] وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمَّنهم ومكنهم وملكهم، فصحَّ أن الآية عامة لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- غير مخصوصة، إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم .. يعني حتى يرد المخصص، تمسك بالعموم حتى يرد المخصص. وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح؟ فقال -عليه السلام-: ((لا تلبثون إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة)). تقدم قريباً. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) خرجه مسلم في صحيحه، فكان كما أخبر -صلى الله عليه وسلم- فالآية معجزة النبوة؛ لأنها إخبار عما سيكون فكان. قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يعني أرض مكة .. يعني المعهودة، الأرض المعهودة.

لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك، فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل، قال معناه النقاش الثاني: بلاد العرب والعجم، قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة)) وقال في الصحيح أيضاً: ((يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً)). واللام في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم} جواب قسم مضمر؛ لأن الوعد قول مجازها: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض، فيجعلهم ملوكها وسكانها. {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام، وأورثهم أرضهم وديارهم، وقراءة العامة {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بفتح التاء واللام لقوله: {وعد} وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم} وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم {استُخلفَ} بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول، و {لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وهو الإسلام، كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [(3) سورة المائدة] وقد تقدم. وروى سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيزٍ، أو ذل ذليل، أما بعزهم فيجعلهم من أهلها، وأما بذلهم فيدينون بها)) ذكره الماوردي حجةً لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم، وهو القول الثاني على ما تقدم آنفاً .. مخرج؟ طالب: قال: صحيح أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث المقداد، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، والصواب أنه على شرط مسلم، وفي الباب من حديث تميم الداري -رضي الله عنه- لأحمد والحاكم وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي، وهو كما قال، وصححه الألباني وصححه محققي الرسالة. الشيخ: من هم؟ طالب: محققي الرسالة. طالب:. . . . . . . . .

الشيخ: ما في شك الأمن وإن أمِن أمْن البهائم وسلمت نفسه وروحه وماله وعرضه، لكن أين الأمن التام المطلق الذي يتدين الإنسان كما يشاء، ويقول ما يشاء، إذا كان مرضياً لله -جل وعلا-، فعلى كل حال كل شيءٍ بقدره. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم} [(55) سورة النور] قرأ ابن محيصن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبي حاتم الباقون بالتشديد من بدَّل، وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [(64) سورة يونس] وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [(101) سورة النحل] ونحوه وهما لغتان، قال النحاس: وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: قرأ عاصم والأعمش {وليبدلنهم} مشددة، وهذا غلط عن عاصم، وقد ذكر بعده غلطاً أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف، قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقاً، وأنه يقال: بدلته: أي غيرته، وأبدلته: أزلته وجعلت غيره، قال النحاس: وهذا القول صحيح كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم أي أزله، وأعطني غيره، وتقول: قد بدلت بعدنا: أي غيرت، غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر، والذي ذكره أكثر، وقد مضى هذا في (النساء) والحمد لله. وقد وذكرنا في سورة إبراهيم الدليل من السنة على أن بدَّل معناه إزالة العين، فتأمله هناك وقرئ {عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا} [(32) سورة القلم] مخففاً ومثقلاً، {يَعْبُدُونَنِي} هي في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص، ويجوز أن يكون استئنافاً، على طريق الثناء عليهم. {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يعبدون إلهاً غيري، حكاه النقاش. الثاني: لا يراءون بعبادتي أحداً، الثالث: لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع: لا يحبون غيري قاله مجاهد .. معناه أنهم لا يعبدون أحداً غير الله -جل وعلا- لا عبادةً تامة، ولا يصرفون له شيئاً من حقوق الرب -جل وعلا-.

{وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي بهذه النعم، والمراد كفران النعمة؛ لأنه قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله، قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [(56) سورة النور] تقدم فأعاد الأمر بالعبادة تأكيداً. قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [(57) سورة النور] هذا تسلية للنبي -صلى الله عيه وسلم- ووعد بالنصرة، وقراءة العامة {تَحْسَبَنَّ} بالتاء خطاباً، وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة {يحسبن} بالياء بمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض؛ لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، وهذا قول الزجاج، وقال الفراء وأبو علي: يجوز أن يكون الفعل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين في الأرض .. حتى على القراءة الأولى، لا تحسبن يا محمد الذين كفروا. فـ {الذين} مفعول أول و {مُعْجِزِينَ} مفعول ثان، وعلى القول الأول {الَّذِينَ كَفَرُوا} فاعل. {أنفسهم} مفعول أول وهو محذوف مراد، و {مُعْجِزِينَ} مفعول ثان، قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يُخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم، وقال الفراء: هو ضعيف، وأجازه على ضعفه على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه، قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: يكون {الَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع نصب قال: ويكون المعنى: ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض. قلت: وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي، إلا أن الفاعل هناك النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا القول {الكافر} و {معجزين} معناه: فائتين، وقد تقدم {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [(57) سورة النور] أي المرجع .. لا شك أن الخطاب في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ} للنبي -عليه الصلاة والسلام- وفي حكمه كل من يتأتى، ومن يمكن أن يوجه إليه هذا الخطاب، وكل أحدٍ لا يحسبن أن الكافرين معجزين – نسأل الله العافية-. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد.

سورة النور - تفسير الآيات من (58 إلى 61)

تفسير سورة النور (من آية 58 – 61) (أحكام الاستئذان -والقواعد من النساء -والأكل من بيوت الأقارب) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه: قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(58) سورة النور]. فيه ثمان مسائل: الأولى: قال العلماء: هذه الآية خاصة، والتي قبلها عامة؛ لأنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [(27) سورة النور]. هذه الآية عامة في جميع من يتجه إليه الخطاب، يمكن أن يوجه إليه من الذكور والإناث، والأحرار والأرقاء، وهذه الآية التي معنا خاصة باستئذان ملك اليمين، والخطاب موجه للرجال والنساء خلافاً لمن قال أنه للرجال؛ لأن (الذين) موصول للذكور لكن الخطاب للرجال يدخل فيه خطاب النساء، خلافاً لمن يقول أن الخطاب خاص بالنساء؛ لأن (الذين) لم يوضع للنساء إنما يدخل فيه النساء تبعاً للرجال وإلا فالأصل أنه للرجال، فمن أهل العلم من يقول: أن المخاطب بهذه الآية النساء دون الرجال، فلا بد من استئذان ملك اليمين على سيدته، والآية الأصل فيها أنها للرجال، وعرف من جميع نصوص الشرع -إلا ما دل الدليل على تخصيصه- أنه إذا وجه الخطاب للرجال دخل فيه النساء. ثم خص هنا فقال: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.

اللام هنا لام الأمر، فالاستئذان هنا لا بد منه؛ لأنه مأمورون به، ففي هذه الأوقات الثلاثة لا بد من الاستئذان، وهذا حينما كان الناس جارين على سنن السنة الإلهية في كون الليل سكن والنهار معاش، بمعنى أنه في العصر مثلاً لا يحتاج إلى استئذان؛ لأنه وقت المعاش، والناس مستيقظون ومنتبهون أو الضحى مثلاً، يدخل الساعة تسع وعشر ما في حاجة للاستئذان؛ لأن الناس مستيقظون، وكان هذا قبل أن توجد الأبواب والأغلاق التي يلزم من خلالها قرع هذه الأبواب وطرقها من أجل أن يعلم من في البيت من الداخل، أما بعد وجود هذه الأبواب فلا بد من الاستئذان على كل حال، لكن لما لم تكن الأبواب موجودة والأغلاق إنما هي مجرد ستور يمكن أن يدخل من غير استئذان ففي غير الأوقات الثلاثة لا داعي للاستئذان حينما كان الناس جارين على السنة الإلهية في كون النهار معاش والليل سكن، ووقت القيلولة معروفة –أوقات النوم معروفة- لكن الآن اضطربت أحوال الناس ولو قيل: أنه يستأذن في الضحى وأن الاستئذان في هذا الوقت أهم من الاستئذان في الليل؛ لأن الناس في الليل مستيقظون، أما في النهار فلا شك أن الساعة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة أحياناً في بعض البيوت مثل نصف الليل فيما تقدم؛ لأن الناس قلبوا هذه الفطرة وهذه السنة الإلهية. فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضاً يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموماً، وخص في هذه الآية بعض الأوقات فلا يدخل فيها عبد ولا أمة، وغداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. يعني وغداً لا يفهم شيئاً، لا يفهم ولم يطلع على العورات، ولا ذا منظر يعني صاحب نظر في النساء بحيث يفهم، أو مطلع على العورات سواء كانت بالنسبة للرجال أو النساء. قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد دخل عليها غلام لها كبير فاشتكت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت عليه الآية، وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر، وسيأتي. الثانية: اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} على ستة أقوال: الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير. الثاني: أنها ندب غير واجبة، قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظراً لهم.

نظراً لهم ورعايةً لمصالحهم، وما كان من هذا الباب فإنه لا يصل إلى حد الوجوب عند بعضهم، لكن المقرر عند أهل العلم أن الأمر الأصل فيه الوجوب، واللام لام الأمر، فلا محيد عن القول بوجوبه. الثالث: عنى بها النساء، قاله أبو عبد الرحمن السلمي. نعم، وهذا مردود حقيقة، يعني به النساء؛ لأن (الذين) إنما وضعت في الأصل للذكور لا للنساء. وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء، وهو القول الرابع. الخامس: كان ذلك واجباً إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس. يعني هل هو حكم معلق بعلةٍ يدور معها وجوداً وعدماً؟ أو هو حكم سابق رُفع بحكمٍ متأخر، بمعنى أنه لا يعود ولو عادت العلة؟ يعني فرق بين قولنا: أنه منسوخ وبين قولنا: أنه كان واجباً إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب ولو عاد الحال لعاد الوجوب، على القول الأول أنه لا يعود هذا الحكم إطلاقاً، خلاص رفع الحكم، رفع حكم المنسوخ بالناسخ، وعلى القول الخامس: يدور مع علته، إذا ألغيت الأبواب واكتفى الناس بالستور عاد الحكم وإلا لا داعي له مع وجود هذه الأبواب. السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي، وأضعفها قول السلمي؛ لأن {الَّذِينَ} لا يكون للنساء في كلام العرب .. قول أبي عبد الرحمن السلمي أنها خاصة بالنساء، وهو القول الثالث الذي تقدم. لأن {الَّذِينَ} لا يكون للنساء في كلام العرب .. يعني على سبيل الاستقلال، أما دخولهن تبعاً للرجال في (الذين) فهذا مطّرد. إنما يكون للنساء (اللاتي واللواتي)، وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر؛ لأن {الَّذِينَ} للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم. وضعفه معروف مقرر عند أهل العلم، وهو من الطبقة الدنيا بالنسبة لمسلم الذين قد يحتاج إليهم عند فقد أحاديث الطبقات العليا ينتقي من أحاديثهم. وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس، آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن عليّ.

يعني لم يؤمر بها من ليس عنده ملك يمين، لا يتجه أمره بها {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الإذن أو الاستئذان مربوط بملك اليمين، (ملكت أيمانكم) فالذي ليس عنده ملك يمين لا خادم ولا خادمة، يعني لا عبد ولا أمة ما يحتاجون يستأذنون، ما يتجه إليهم الخطاب في هذا. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به، وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى .. هنا آية لم يؤمر بها أكثر الناس، والرواية الثانية: يأمر به أكثر الناس. وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد قوله الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} [(58) سورة النور] قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، أمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد. وهذا ماشي على القول الخامس، وأن الاستئذان كان واجباً، إذ كانوا لا غلاق لهم ولا أبواب، ما في إلا ستور، لكن لما وجدت الأبواب والأغلاق، الأبواب توصد وترتج فحينئذٍ لا بد من طرق هذه الأبواب. قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية. وعرفنا القول بين القولين، الأول والخامس. وعلى أنها كانت على حالٍ ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها.

لأنهم لا غلاق لهم ولا أبواب، يعني بيوت من الشعر أو من المدر يتجاوزون ويتسمحون فيها كبيوت بعض القرى والأرياف والبوادي في الصحاري فلا يوجد لهم أبواب محكمة تمنع من الدخول. وروى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [(58) سورة النور] قال: ليست بمنسوخة، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله -عز وجل- المستعان. نعم لو أجمع الناس واتفق أهل العلم على عدم العمل بها لقلنا: أنها منسوخة، ودل الإجماع على وجود نسخ ولو لم نطلع عليه. الثالثة: قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [(58) سورة النور] قال: يريد ثلاث دفعات. في ثلاثة أوقات، ثلاث مرات يعني في ثلاثة أوقات، أما الاستئذان ثلاثاً فمأخوذ من السنة الصحيحة، كان إذا استأذن استأذن ثلاثاً، فإذا استأذن أحدكم فليقل: السلام عليكم أأدخل؟ ثلاثاً، المقصود أن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من السنة، وهنا الاستئذان في ثلاثة أوقات. طالب: ما تكون السنة تفسير للآية؟ السنة الاستئذان ثلاث غير الوارد في الآية، الآية ثلاثة أوقات، منصوص عليها في الآية وكل وقت من هذه الثلاث يحتاج إلى استئذان ثلاث مرات، هذا الذي تفسيره السنة، أما مجمل الأوقات الثلاثة فلا دلالة للحديث عليها. قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجميع، قال ابن عبد البر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله: {ثلاث مَرَّاتٍ} أي في ثلاث أوقات، ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها: {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} [(58) سورة النور].

الرابعة: أدب الله -عز وجل- عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها. يعني ظهروا واطلعوا على عورات النساء ويمكن أن يصفوها لغيرهم فمثل هؤلاء يمنعون ويحجبون لا بد من الاستئذان. يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة. لأنها وقت النوم والراحة، والعادة جرت بأن هذه الأوقات هي أوقات النوم، والناس يتخففون من الملابس فيها وينامون بالشيء الخفيف، فقد يطلع على شيءٍ من عوراتهم. وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري، فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت القائلة وقت التجرد أيضاً وهي الظهيرة؛ لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره، وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم، فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يُروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه فوجده نائماً قد أغلق عليه الباب فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل فاستيقظ عمر وجلس، فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجداً شكراً لله، وهي مكية. مخرج؟ طالب: قال: ذكره الواحدي عن ابن عباس بدون إسناد فلا حجة فيه. فقط؟ إذاً قال هنا: يُروى أن رسول الله، مع أنه لا يفرق بين الصيغ، المؤلف -رحمه الله- لا يفرق، قد يأتي بحديثٍ في الصحيحين ويقول فيه: يروى، لا يراعي الاصطلاح في مثل هذا. طالب: المعلق قال: السورة مدنية بإجماع كما نقل القرطبي في أولها فلا أدري ما وجه قوله: وهي مكية؟ طالب آخر: الغلام أنصاري فكيف يقول: السورة مكية؟ مدلج؟ طالب: هذا يدل أنها مدنية. هي السورة مدنية، لكن الخبر فيه ما فيه، الخبر لا يعتمد عليه، وموافقات عمر معروفة، موافقات عمر أكثر من عشرين.

الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ} أي الذين لم يحتلموا من أحراركم قاله مجاهد، وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم .. إسماعيل بن إسحاق القاضي. وذكر إسماعيلَ بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء، وقرأ الجمهور بضم اللام وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها و {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في {ثَلَاثَ} بينة. {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} وقد مضى معناه، ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت، {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} قرأ جمهور السبعة {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} برفع {ثَلَاثُ} وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثَلَاثَ} بالنصب على البدل من الظرف في قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود، وقال الفراء: الرفع أحب إلي، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات، والرفع عند الكسائي بالابتداء والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصاً بالابتداء، قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما: أنه مردود على قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ولهذا استبعده الفراء، وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و {عَوْرَاتٍ} جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات ونحو ذلك، وسكَّنوا العين في المعتل كبيضةٍ وبيضات؛ لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك، فأما قول الشاعر: أبو بيضات رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوحُ فشاذ.

لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله، ما معنى هذا؟. . . . . . . . . هنا يقول: وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات، هنا قال: {عَوْرَاتٍ} ما قال: عوَرات، أن يجيء على فعلات كجفنةٍ وجفنات، وسكّنوا العين في المعتل كبيضةٍ وبيضات مثل: عورة وعوْرات؛ لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ لأنه تنطبق عليه القاعدة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، تصير (عارات) ما تصير (عورات)؛ لأنه لو فتحت الواو في الصحيح تفتح، لكن في المعتل ما تفتح؛ لأنه يلزم قلبها ألف، لو قلنا تحركت الواو، القاعدة أنها إذا تحركت الواو وانفتح ما قبلها تقلب ألفاً، وهم أحياناً ولو لم تنفتح الواو يتوهمون انفتاحها إذا أرادوا قلبها، فمثلاً: إقامة وإجازة، القاف الأصل: إقوامة، وإجوازة، يقول: تحركت الواو وتوهّم انفتاح ما قبلها فقلبت ألفاً، وهنا سكّنوها لئلا تنقلب، لماذا؟ لأنهم يمشون على السماع، ما سمع (عارات) من أجل أن يقال: تحركت الواو فتحمل ما قبلها فقلبت ألفاً. السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا. خطوة وخطُوات، تقلب هنا ألف وإلا ما تقلب؟ لأن بعضهم أجمعوا على (خطَوات)؟ الواو متحركة، وخطَوات على هذا الجمع على القائل تقلب الواو ألف، لكن الذي تلاه في الأمثال، ألف مع ألف لا يمكن النطق بها فلا تقلب، وأيضاً الجمع الصحيح (خطُوات).

السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا، وإن كنتم متبذلين، {طَوَّافُونَ} بمعنى: هم طوافون، قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم وأجاز الفراء نصب طوافين؛ لأنه نكرة والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة، ولا يجوز البصريون أن يكون حالاً من المضمرين اللذين في {عَلَيْكُمْ} وفي {بَعْضُكُمْ} لاختلاف العاملين، ولا يجوز مررت بزيد ونزلت على عمرو العاقلين على النعت لهما فمعنى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} أي: يطوفون عليكم وتطوفون عليهم، ومنه الحديث في الهرة: ((إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات)) فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [(13) سورة الأحزاب] أي سهلة للمدخل، فبيَّن العلة الموجبة للإذن وهي الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله، وتعذر نسخه. لأن العلة قائمة، ما دامت العلة قائمةً فلا نسخ، إذا كانت العلة قائمة فلا نسخ. ثم رفع الجناح بقوله: .. يعني بعض الناس الآن يشاهد من بعض الناس أنهم إذا بنوا البيوت وجعلوا الأبواب من زجاج، بحيث يُرى من ورائها، فهل نقول أن هذا في حكم الستور لا في حكم الأبواب؟ أو نقول: هذه أبواب تغلق لا يمكن الولوج من ورائها، وكونهم يضعونها بهذه الطريقة لا شك أنه تفريط كغيره من أنواع التساهل، يعني يفترض أن هذا الشخص وضع باباً ثم استأذن الداخل ثم بعد ذلك النساء ما احتجبن عن الداخل، هذا تفريط من صاحب البيت وقل مثل هذا في الباب الذي يكشف ما وراءه، هذا تفريط ولا يؤخذ حكم الستور الذي لا تمنع من أراد الدخول؛ لأن هذه تمنع من أراد الدخول. ثم رفع الجناح بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يطوف بعضكم على بعض. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الكاف في موضع نصب: أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بياناً مثل ما يبيّن لكم هذه الأشياء، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تقدم.

السابعة: قوله تعالى: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} يريد العتمة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل)) وفي رواية: ((فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤخر العشاء، وقال أنس: أخر النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، وهذا يدل على العشاء الأولى، وفي الصحيح: (فصلاها) -يعني العصر- بين العشاءين المغرب والعشاء، وفي الموطأ وغيره: ((ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)). فدل على أن النهي في الأحاديث السابقة للكراهة، والصارف ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((لو يعلمون ما في العتمة)) والمقصود بها العشاء، ولو كان النهي التحريم لما قاله -عليه الصلاة والسلام-. وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف الصلاة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ، ونهيه -عليه السلام- عن تسمية المغرب عشاء، وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلاً عمن عداهم، وقد كان ابن عمر يقول: من قال: صلاة العتمة فقد أثم، وقال ابن القاسم قال مالك: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} فالله سماها صلاة العشاء، فأحبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تسمى بما سماها الله تعالى به، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال: عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم. من لا يفهم الاصطلاح الشرعي، الذي لا يفهم الاصطلاح الشرعي وإنما يفهم الاصطلاح العرفي الذي درجوا عليه وهكذا عوام المسلمين يخاطبون بأعرافهم وعاداتهم التي جروا عليها، فإذا درجوا على تسمية شيء لا يعدل بهم عنه إلا بعد إفهامهم الاصطلاح الشرعي.

أما لو قلت لشخص: أعطِ زكاتك، ابحث عن شخص محروم وأعطه زكاتك فإنه أفضل من السائل، ثم يذهب إلى شخصٍ عنده الأرصدة في البنوك لكنه لا ينفق منها، يقول: هذا المحروم في عرفنا؟ يخاطب في عرفه وإلا بالعرف بالشرعي؟ لا بد أن يبيّن له العرف الشرعي والاصطلاح الشرعي، وحينئذٍ يقال له: لا تعط المحروم، والله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24 - 25) سورة المعارج] فأنت نهيت عمّن أمر الله بإعطائه مراعاة لاصطلاح هذا العامي الذي لا يعرف الحقيقة الشرعية، وإنما يعرف الحقيقة العرفية؛ لأنك لو قلت له: أعطِ المحروم وهو أفضل من السائل لذهب إلى شخص يملك الملايين والأرصدة الطائلة في البنوك لكنه مقتر على نفسه وعلى من يمون ويقول: هذا المحروم، صحيح هذا المحروم في عرف الناس لكن ليس هذا هو المقصود في الآية، فلا بد من ملاحظة هذا لا سيما عند مخاطبة من لا يفهم، لا بد من إفهامه. وقد قال حسان: وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاءُ فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاءُ وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة إنما كان لئلا يعدل بهما عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء}. بمعنى أنه لا يطغى الاسم الأعرابي على الاسم الشرعي، لا يطغى بحيث لا تعرف إلا بهذا –العتمة- ولهذا جاء في الحديث: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم)) بمعنى أنكم تنسوا الاسم الشرعي، لا أنه لا يجوز أن يطلق بالكلية، وإنما لا يغلب عليه هذا الاسم بحيث تُنسى التسمية الشرعية. فكأنه نهي إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز، ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشريفة الدينية على أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلةٍ دنيوية وهي الحلبة التي كانوا يحتلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة، ويشهد لهذا قوله: ((فإنها تعتم بحلاب الإبل)).

الثامنة: روى ابن ماجة في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: ((من صلى في جماعةٍ أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقاً من النار)). حديث ابن ماجة ماذا قال عنه؟ طالب: قال: أخرجه ابن ماجة من حديث أنس عن عمر مرفوعاً، وقال البصيري: فيه إرسال وضعف، قال الترمذي والدارقطني: لم يدرك عمارةً أنساً ولم يلقه، وإسماعيل بن عياش كان يدلس. انتهى كلامه، وأخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلافٍ يسير فيه وصوب وقفه، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجة: هو حسن دون قوله: ((لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء)) وانظر الصحيحة والضعيفة. وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)). وروى الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة، وصلى بعدها أربع ركعات فأتمَّ ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كنّ له بمنزلة ليلة القدر. ما يقترئ يعني يقرأ، يعلم ما يقترئ يعني يعلم ما يقرأ، ينتبه لما يقرأ ويتدبر ما يقرأ، لا أنه يقرأ شيئاً لا يدري ما يقول، ولا يتدبر ما في كلام الله. قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(59) سورة النور].

قرأ الحسن {الحلْم} فحذف الضمة لثقلها والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا، ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله -عز وجل- لأحكامه، وإيضاح حلاله وحرامه. وقال: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم، وقال في الأولى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين، وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}. يعني الأطفال غير مخاطبين ولذا لم يوجه لهم الخطاب، ما قيل: يا أيها الأطفال استأذنوا، وجه لمن يعقل الخطاب، ولمن يمتثل الخطاب، ولم يلتزم بالخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا أمر للذين آمنوا بأمر هؤلاء وإلزامهم بالاستئذان، وإلا فالأصل أن الطفل لا يتجه إليه الخطاب؛ لأنه غير مخاطب ولا متعبد. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحراراً كانوا أو عبيداً، وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين قال: لا يدخل على امرأة حتى يستأذن، وقاله الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية. أما التحديد بأربع سنين لا شك أن الأطفال يتفاوتون في مثل هذا، بعض الأطفال وهو ابن ثلاث سنين يعقل وينتبه لأمور لا ينتبه لها من هو أكبر منه في الرابعة والخامسة وأحياناً في السادسة، وبعض الأطفال يناهز الحلم ولما يعقل بعد، فهم يتفاوتون والتمييز متفاوت عند الأطفال، منهم من يتقدم تمييزه ومنهم من يتأخر، وأهل الحديث حينما حدّوا صحة السماع بالخمس اعتمدوا على حديث محمود بن الربيع الذي عقل المجة وهو ما يتجاوز خمس سنين وفي روايةٍ: أربع سنين، فلعلها هي معوّل بن جريج حينما حدد بالأربع، لكن الذي في الصحيح: ابن خمس سنين.

قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [(60) سورة النور]. فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء} القواعد: واحدتها قاعد، بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: لا أنه ضد القيام، إذا قيل في المرأة إذا أريدت أن تصوف بالقعود الذي هو ضد القيام قيل: قاعدة، أما إذا كان من قعود الكبر، الكبر الذي أقعدها عن النظر إلى الزواج وكونها لا تريد النكاح يقال: قاعد؛ لأن هذا خاص بالنساء، كما يقال: امرأة حامل ما يقال: حاملة، وامرأة حائض؛ لأن هذا من خواصها ما تحتاج إلى تمييز بينها وبين الرجال، لكن إذا بلغ الرجل مبلغاً بحيث يتعبه العمل هل يوصف أنه قاعد أو متقاعد؟ يعني هل التسمية بمن ترك العمل أو تركه العمل لكبر سنه كونه متقاعد –يعني عاجز عن العمل- هذه مظنة يعني مظنة أنه إذا بلغ هذا السن أنه قد يكون العمل يشق عليه فيتقاعد، فهل هو من هذا الباب أو من غيره؟ المرأة التي تأنف ولا ترغب في الزواج لتبعاته وتعجز عن حقوق الزوج مثلاً يقال لها: قاعد، اللواتي لا يرجون نكاحاً فهذه قاعد، والرجل الذي بلغ من السن مبلغاً وعمل عملاً طال به العمل وأراد أن يرتاح ويتجه لآخرته أو لأي عملٍ من الأعمال، المقصود أن هذا العمل الذي أفنى فيه جلّ عمره يتركه ويسمونه متقاعد، لكنهم لا يفرقون بين المتقاعد وبين مقاعد؛ لأنه إذا تقاعد باختياره وطوعه قيل: متقاعد، وإذا تقاعد بقوة النظام يعني ما يحق له أن يستمر في العمل يقال له: مقاعد، هذا الأصل.

لكن هل هناك ارتباط بين القواعد والمتقاعد والمتقاعدة؟ وهل نفرق بين المتقاعد والمتقاعدة؟ لا بد؛ لأن هذا أمر مشترك بين الرجال والنساء فلا بد من التفريق، ولو قدّر أن العمل خاص بالرجال كما هو الأصل دون إقحامٍ للنساء في ما لا يعنيهنّ؛ لأن الأعمال في الأصل للرجال ليست للنساء فيكون من خواصّ الرجال، كما أن القواعد من خواص النساء، والتقاعد لأن العمل خاص بالرجال يكون خاص بالرجال، فلا نحتاج حينئذٍ إلى التفريق بين متقاعد ومتقاعدة، الآن هم في بعض الألفاظ يجرون على النساء على سبيل الاستقلال ما هو في الأصل للرجال، فيقال: الدكتورة فلانة بنت فلان آل فلاني أستاذ في جامعة كذا، ما يقولون أستاذة، هذا اصطلاحهم، ولا شك أنه اصطلاح خاطئ، يعني هذا من الإيغال في تشبه الرجال بالنساء، وأنه لا فرق بين المرأة والرجل، فعلى كل حال هذه الأمور مرتبة على أمورٍ يريدونها. كما قالوا: امرأة حامل ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل، قال الشاعر: فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن وإن كن القواعد عقرا وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها بالهاء، والقواعد أيضاً: أساس البيت واحده: قاعدة بالهاء. الثانية: القواعد العجَّز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض، هذا قول أكثر العلماء، قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها، وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد وليس ذلك بمستقيم؛ لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي. لأن الناس يتفاوتون بعض الناس يستمتع بالمرأة أياً كان سنها، وبعض الناس يأنف منها، وفي كتب أهل العلم يتسامح في أمر العجوز التي لا تشتهى، وقرأ بعضهم على بعض المشايخ لا تشتهي قال: العجوز تشتهي، لكن كونها تشتهي ما هو هذا الحل، كونها لا تشتهى، فالمرأة بعض الناس لا يستنكف عن الاستمتاع بها ولو كانت كبيرة وبعض الناس يستمتع بها على أي وجهٍ كان، يقول: لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، والقعود عن الولد حقيقةً لا ارتباط له بالاستمتاع؛ لأنها تقعد عن الولد في سنٍ مبكرة، في الخمسين، وفيها مستمتع لبعض الناس إلى أن تصل إلى حدٍ بحيث لا تشتهى.

الثالثة: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا مذهب للرجال فيهن فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب لهن. الرابعة: قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس: أن يضعن من ثيابهن بزيادة (من) قال ابن عباس: وهو الجلباب، وروي عن ابن مسعود أيضاً: من جلابيبهن، والعرب تقول: امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها، وقال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبيرة وغيرهما. لا يجوز للمرأة وإن كبر سنها أن تتنازل عن شيءٍ مجمع متفق عليه، كالشعر ونحوه، لكن الوجه المختلف فيه أو نصف الوجه مثلاً، إذا كانت عجوز لا تشتهى وكان محافظتها على حجابها التي كانت تتشدد فيه لما كانت شابة يشق عليها لا شك أن الأمر بالنسبة لها أسمح من الشواب التي تقع بهن أو عليهن الفتنة. الخامسة: قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق، والتبرج: التكشف والظهور للعيون ومنه: بروج مشيدة، وبروج السماء والأسوار: أي لا حائل دونها يسترها، وقيل لعائشة -رضي الله عنها-: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً.

وقال عطاء: هذا في بيوتهن فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب، وعلى هذا {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} غير خارجات من بيوتهن وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بد لها من جلباب فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب، والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير، وقرأ ابن مسعود وأن يتعففن بغير سين، ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات؛ لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات؛ لأن الثوب إذا رقّ يصفهن ويبدي محاسنهن، وذلك حرام. قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى، والثاني: أنهن كاسيات من الثياب، عاريات من لباس التقوى، الذي قال الله تعالى فيه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [(26) سورة الأعراف] وأنشدوا: إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تقلب عرياناً وإن كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصي ا لا شك، وفي معنى قول بعضهم في معنى الحديث: أنهن كاسيات من النعم عاريات عن الشكر، لكن السياق سياق لباس، كاسيات هذا الأصل أن الكساء حسي، الأصل فيه أن الكساء حسي فهن كاسيات عليهن ثياب، لكنهن في حكم العاريات؛ لأن هذه الثياب التي اكتسين بها لا يسترنهن ولا يسقطن ما أوجب الله عليهن من الستر. طالب: كونه يشف وهو يستر الأعضاء يا شيخ هل يدخل في التحريم؟ كذلك نعم.

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ومرَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) فتأويله -صلى الله عليه وسلم- القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [(26) سورة الأعراف]. هو في البخاري الحديث؟ طالب: نعم، قال: صحيح أخرجه البخاري ومسلم. الحديث في البخاري، لكن عناية المغاربة وأهل الأندلس بمسلم أكثر من عنايتهم بالبخاري، ولذلك يعزون لصحيح مسلم والحديث في البخاري، هذا كثير عندهم. والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب، كما قال شاعرهم: ثياب بني عوفٍ طهارى نقيةٌ. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعثمان: ((إن الله سيلبسك قميصاً، فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه)) فعبر عن الخلافة بالقميص، وهي استعارة حسنة معروفة. مخرج؟ طالب: قال: أخرجه الحاكم من حديث عائشة وصححه، وتعقّبه الذهبي فقال: أنّى له الصحة، وفيه فرج بن فضالة مداره عليه. انتهى كلامه، وله شواهد منها: حديث عائشة أخرجه ابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، وصححه أيضاً في تخريجه لابن أبي عاصم، وعزاه لأحمد والترمذي وابن حبان وغيره. قلت: هذا التأويل أصحّ التأويلين وهو اللائق بهن في هذه الأزمان وخاصةً الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهراً وباطناً حيث تبدي زينتها ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. من الغرائب اجتماع المتناقضات، يعني في المطاف وهذه ما هي بضرب من الخيال أو بالنقل يعني شيء ثابت مؤكد، وجد امرأتان في غاية التبرج وهما تطوفان وإحداهما ممسكة بالمصحف والقراءة أظن في سورة الأعراف أو التوبة، والثانية تقرأ من حفظها في المطاف، والأخرى ممسكة تفتح عليها إذا أخطأت، وهما في غاية التبرج.

وهنا يقول: فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، يعني هذا التبرج، ولا شك أن العادات وما جرى عليه الناس في بيوتهم وأعرافهم قد يدرجون على أشياء يتساهلون فيها ويرونها كلا شيء ويهتمون بأمور، وهذا يختلف من بلد إلى بلد، تجد هذا البلد عندهم محافظة على جهة، مثلاً على الستر، بينما هم مفرطون في أمور كثيرة، يعني هذه متسترة وتسألها عن أقصر السور يمكن ما تقرأ عليك قراءة صحيحة، والأخرى تجدها تقرأ قراءة متقنة من طوال السور، ومع ذلك تجد عليها ملاحظات، والبلدان يختلفون في محافظتهم على بعض الشعائر دون بعض، واهتمامهم ببعضها دون بعض، فتجد في بعض الآفاق من عظائم الأمور مسألة الغيبة مثلاً، وعندهم أمور يتساهلون فيها، وفي بعض البلدان تجد يهتمون بأمورٍ هي أقل بكثير من الغيبة وتجد في مجالسهم الغيبة وهم أخيار منتشرة، فلا شك أن هذا له أثر –يعني البيئة لها أثر- ومع ذلك الدين واحد نزل من الرب -جل وعلا- على جميع المكلفين، فالذي يحرم على هذه يحرم على هذه، والذي يطلب من هذه يطلب من هذه، لكن قد يكون البيئة التي أثرت عليها وغطت على عقلها بحيث جهلت الحكم الشرعي في هذه المسألة أو رأت الناس يعملون هذا ويستمرونه ولا ينكرونه بينهم فظنته جائزاً، وإلا منظر حقيقةً مؤثر جداً يعني كيف التبرج هذا الموجود ومعه أيضاً العطر والروائح ومدري إيش؟ وتحفظ -نسيت الآن هل هي الأعراف أو التوبة؟ - وأختها ممسكة بالمصحف لتفتح عليها، يعني العقل السوي ما يستطيع يجمع مثل هذه الأمور، والمؤلف -رحمه الله- في بلاد الأندلس بلاد ترف معروف لا سيما في عصره وبعد أن جاء إلى مصر في القرن السابع يقول: "حيث تبدي زينتها ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك .. " الخ. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: ((رؤوسهن كأسنمة البخت)) والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبّه رؤوسهن بها لما لرفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. يعني هذا موجود، يعني التسريحات الموجودة الآن موجودة عندهم.

وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء)) خرجه البخاري. طالب:. . . . . . . . . اللاتي لا يرجون نكاحاً، يعني كونها لا تشتهى فقط لا بد أن يكون من الطرفين يعني هي لا ترجو نكاح وأيضاً هيئتها لا تغري بها. طالب: لو توفّر حدود .... يعني مثلاً لو كانت متسترة -يا شيخ- كاسية ما فيها شيء من التعري لكن تفعل مثل هذه التسريحات؟ يُنكر عليها. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [(61) سورة النور] فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوالٍ ثمانية أقربها هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة؟ فهذه ثلاثة أقوال: الأول: أنها منسوخة من قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ} إلى آخر الآية، قاله عبد الرحمن بن زيد قال: هذا شيء قد انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد فسوَّغ الله -عز وجل- أن يأكل منه، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحدٍ أن يفتحها فذهب هذا وانقطع، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يَحْتلبَنَّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه)) الحديث خرجه الأئمة.

ولا يحل مال امرئ إلا بطيبة نفسٍ منه، فأموال الناس محرمة ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) فلا يتصرف في مال أحد إلا بإذنه. الحديث خرجه الأئمة. الثاني: أنها ناسخة قاله جماعة، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [(29) سورة النساء] قال المسلمون: إن الله -عز وجل- قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحدٍ منا أن يأكل عند أحد فكفَّ الناس عن ذلك، فأنزل الله -عز وجل-: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} إلى {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} قال: هو الرجل يؤكل الرجل بضيعته. قلت: علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم، سكن الشام يكنى أبا الحسن، ويقال: أبا محمد، واسم أبيه أبي طلحة سالم تُكلم في تفسيره فقيل: إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم. يعني منقطع، يكون السند حينئذٍ منقطع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، لكن مرويات علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إذا صحّ السند إليه تداولها الأئمة وخرجوها في كتبهم واعتمدوا عليها وعوّلوا عليها؛ ويرونها من أقوى ما يروى عن الصحابة، لكن مع ذلك الانقطاع ظاهر. الثالث: أنها محكمة، قاله جماعة من أهل العلم ممن يُقتدى بقولهم، منهم سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وروى الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إن احتجتم فكلوا، فكانوا يقولون: إنما أحلوه لنا من غير طيب نفس. يعني في مقابل الحفظ والرعاية وإلا فلولا هذا الحفظ والرعاية لبيوتهم لما أباحوا لنا أن نأكل منها، فكأنه بغير طيب نفسٍ منهم، أجرة.

فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلى آخر الآية، قال النحاس: يوعبون: أي يخرجون بأجمعهم في المغازي، يقال: أوعب بنو فلان لبني فلان، إذا جاؤوهم بأجمعهم، وقال ابن السكيت: يقال: أوعب بنو فلان جلاء فلم يبق ببلدهم منهم أحد، وجاء الفرس بركض وعِيب: أي بأقصى ما عنده، وفي الحديث: ((في الأنف إذا استوعب جدعه الدية)). واستيعاب الشيء الإتيان على آخره، يعني إذا قيل: استوعب الكتاب معناه أنه قرأه كاملاً. وفي الحديث: ((في الأنف إذا استوعب جدعه الدية)) إذا لم يترك منه شيء، واستيعاب الشيء استئصاله، ويقال: بيت وعِيب: إذا كان واسعاً يستوعب كل ما جعل فيه، والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن مثل زمن قال النحاس: وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف، أن الآية نزلت في شيء بعينه، قال ابن العربي: وهذا كلام منتظم؛ لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد، وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} قد اقتضاه، فكان هذا القول بعيداً جداً، لكن المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها والجهاد ونحو ذلك. يعني وغيرهم من أهل الأعذار الذي لا يتمكنون من أداء بعض العبادات، مثل هؤلاء ليس عليهم حرج، لكن ليس معنى هذا أن الإنسان إذا احتيج إليه في جهادٍ ونحوه تمنى أنه أعرج ليعذر، أو أعمى ليعذر، لا، فالنيات تبلغ أعظم مما تبلغه الأعمال، بعض الناس يتمنى أنه في وقتٍ من الأوقات أعمى على شان ما يكلف، وبعض الناس يتمنى أنه في هذا اليوم مريض ولا يطلع لأداء عبادةٍ وشبهها، فمثل هذا على قدر نيته، والله المستعان، والأمور بمقاصدها.

ثم قال بعد ذلك مبيناً: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم، فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد يعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل، قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، فأما ما قال الناس في هذا الحرج هنا وهي: الثانية: فقال ابن زيد: وهو الحرج في الغزو: أي لا حرج عليهم في تأخرهم، وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ} الآية معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم، قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار، فبعضهم كان يفعل ذلك تقذراً؛ لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته، وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجاً من غير أهل الأعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل؛ لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض، فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم.

نعم لأن الإنسان إذا بلغ به الورع مبلغه يتحرج أن يأكل مع مثل هؤلاء الذين قد لا يأكلون نصف ما يأكل، ما يأكله الصحيح، الأعمى قد لا تمتد يده إلى أطايب الطعام، بل قد تقصر دونه فيقتصر على الأقل، والأعرج أيضاً قد تضطره رجله التي لا تنثني مثلاً أن لا يقرب من بعض الأطعمة التي تكون هي أفضل من غيرها، وقل مثل هذا في المريض أو مثلها أيضاً الذي لا يستطيع أن يمضغ الطعام مضغاً جيداً بحيث يلحق بركب الأصحاء، بعض الناس إذا كان من أهل الورع ويأكل مع هؤلاء قد يتورع، وقد لا يملك نفسه أن يقتصر على ما اقتصروا عليه، ويأكل بنسبة ما يأكلون، والمسألة مفترضة في النهد –يعني إذا كانت التي يسمونها قَطَّة، يعني كل واحد يبذل من المال بقدر صاحبه، لكن لو بذل ضعف مثلاً ما يبذلون فله أن يأكل أكثر منهم، مع أن هذه الأمور جاء الشرع بالتسامح فيها، وأن مثل هذه الأمور لا يلتفت إليها، والناس يتناهدون من أول الزمن إلى آخره، ولا يتناقشون عن مثل هذه الأمور، ولا يلتفتون إليها، فمثل هذا لا حرج فيه. لكن إذا أبان الآكل عن شحّ في نفسه، وحرصٍ شديد على استيعاب نصيبه فلا، كما نهي عن اقتران التمر، القرن بين التمرتين مع من يأكل تمرة تمرة، وعند العوام إذا رأوا شخصاً بديناً قالوا له: أنت تأكل مع عميان؛ لأنه أعمى قد يقتصر على غير الجيد من الطعام؛ لأنه ما يشوف، بينما المبصر ينتقي ما ينفعه وما يستفيد منه، وما يفيده، وينتقي من أطايب الطعام على ما يشتهي، والله المستعان. وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت الآية مبيحةً لهم. وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب به إلى بيوت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك، فنزلت الآية.

الثالثة: قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ} هذا ابتداء كلام: أي ولا عليكم أيها الناس، ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلَّب المخاطب؛ لينتظم الكلام، وذكر بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون: ذلك؛ لأنها داخلة في قوله: {مِن بُيُوتِكُمْ} لأن بيت ابن الرجل بيته، وفي الخبر: ((أنت ومالك لأبيك)) ولأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد. الأولاد لا يحتاجون إلى ذكر؛ لأن بيت الولد بيت للوالد، فلا يحتاجون إلى ذكر فهم داخلون في بيوتهم. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب الله تعالى، بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفاً لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أنت ومالك لأبيك)) بقوي لوهي هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة. نقول في مثل هذا المقام لا حاجة لمثل هذا الحديث، يعني مجرد عدم ذكر الأولاد دليل على أن بيوت الأولاد بيوت للآباء، لا نحتاج إلى الحديث، الحديث صح أو لم يصح، عدم ذكرهم في الآية يدل على أنهم في حكم النفس. وأنه لو صح لم تكن فيه حجة، إذ قد يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه، وقد قيل إن المعنى: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ أي: ومالك لك، والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن. يعني لو كان مال الابن هو مال الأب لما حصل توارث، أن كل شيء باقي على أصله، إذا مات الابن ما نقول: يرثه الأب، هو مال الأب من الأصل ما يحتاج إلى إرث، هذه حجته، لكن الحديث له معنى والتوارث له معنى، وما عندنا في الآية له معنى، وكل شيء له ما يخصه من هذه المعاني. وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} كأنه يقول: مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم، فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت. وحينئذٍ لا يكون هذا من الرجوع، ولا يكون هذا من الرجوع. أو يكونَ للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج.

يعني ونظير ذلك لو تصدق شخص على آخر وهو من أهل الصدقة، تصدق عليه بشيءٍ من المال أو بشيءٍ من الطعام ثم دعاه المتصدق عليه وأكل عنده، هل نقول: أن هذا رجوع في العطية؟ هذا لا، كل من الطرفين لا يتصور هذا. الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك، وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم، وذلك لأن في تلك القرابة عطفاً تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا، قال ابن العربي: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولاً، فإذا كان محوزاً دونهم لم يكن لهم أخذه. إذا بذل ووضعت المائدة تأكل، لكن ما تنطلق إلى المستودع وتأخذ منه ما شئت وتفتح ما شئت، من المخزن حق البيت أو المستودع، لا، أنت ما لك إلا ما قدّم لك، مأذون لك فيما قدم لك. ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول، وإن كان غير محوز عنهم إلا بإذنٍ منهم. نعم، غير محوز، هذا عندهم في المجلس كتب وإلا تحف وإلا شيء، نقول: هذا بيت صديقنا أو أحد ذكر في هذه الآية ولا جناح علينا ولا بأس أن نأخذ، نقول: لا، هذا خاص بالطعام المبذول، وغير الطعام لا يدخل فيه، والطعام غير المبذول أيضاً لا يدخل. الخامسة: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} يعني مما اخترتم وصار في قبضتكم، وعُظْم ذلك .. عُظمه يعني أعظمه.

وعُظْم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه، وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء، قال ابن عباس: عنى وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله، فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه، وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، قال ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعاً، وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل. وقرأ سعيد بن جبير {ملِّكتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها، وقرأ أيضاً مفاتيحه بياء بين التاء والحاء: جمع مفتاح، وقد مضى في الأنعام، وقرأ قتادة (مفتاحه) على الإفراد، وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غازياً وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. السادسة: قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصديق: بمعنى الجمع وكذلك العدو، قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي} [(77) سورة الشعراء] وقال جرير: دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديقُ والصديق: من يصدقك في مودته، وتصدقه في مودتك. يعني قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} يقول: الصديق بمعنى الجمع، لماذا؟ لأنه مفرد مضاف، والمفرد إذا أضيف يفيد العموم، فهو بمعنى الجمع. والصديق: من يصدقك في مودته، وتصدقه في مودتك ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [(53) سورة الأحزاب] وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا} [(28) سورة النور] .. الآية. وقوله -عليه السلام-: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسٍ منه)) وقيل: هي محكمة وهو أصح. ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطباً فجعلت آكله، فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطباً.

لأنه أعمى؛ لأن قتادة ولد أكمة، ما يراه وهو يأكل، فسأله ما هذا؟ حسّ بالأكل، وعندهم حساسية، يعني فقدوا البصر لكن يحسون، فقال له: ما هذا؟ فذكر له، قال: أبصرت رطباً في بيتك فأكلت. فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطباً في بيتك فأكلت قال: أحسنت، قال الله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس، وقال معمر: قلت لقتادة: ألا أشرب من هذا الحُب؟ قال: أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟!. وكان -صلى الله عليه وسلم- يدخل حائط أبي طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه على ما قاله علماؤنا. لأن مثل هذا جرت العادة بالمسامحة فيه لا سيما إذا كان الآكل له محل من قلب المأكول عنده سواء كان صديق أو عزيز عليه أو كبير عنده فضلاً عن أن يكون الرسول -عليه الصلاة والسلام-. قالوا: والماء متملك لأهله إذا جاز الشرب من ماء الصديق من غير إذنه، جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤونته، أو لما بينهما من المودة، ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له -صلى الله عليه وسلم- إذا نام عندها؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية، وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خبنة. خبنة يخرج معه، يخرج بشيءٍ منه معه، يتخذ منه ما يخرج به ويتحفه به أولاده، إذا أكل مجرد أكل فلا مانع، يمرّ بالبستان ويأكل الشيء اليسير الذي لا يضر بصاحبه غير مفسد ولا متعدي ولا يتخذ خبنة، له ذلك. ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافهاً يسيراً. لكن بعض الناس يدخل المحلات التجارية –محلات الأغذية والأطعمة والمكسرات وأنواع ما يؤكل- ثم يأخذ من هذا ويأخذ من هذا ويأخذ من هذا –يعني شيء يسير- يأخذ من هذا شيء، ومن هذا شيء، ثم إذا شبع خرج، هل نقول: أن هذا داخل في الآية أو أن هذا تعدي؟ الكلام أولاً هو في البيوت، لا في محلات البيع والشراء، الآية في البيوت لا في محلات التجارات.

الأمر الثاني: إنه إن كان هذا الأمر يسير من هذا الصنف ويسير من ذلك الصنف لكنها إذا اجتمعت صار كثيراً، قد يقول قائل: أنا لا آخذ شيئاً يضره أنا آخذ حبتين من هذا المحل، وحبتين من المحل الذي يليه، وثلاث من الذي بعده، يأخذ من هذا تفاحة ومن هذا برتقالة، وهذا فستق، وهذا زبيب، وهذا .. يمشي وهو يرعى في طريقه، هو شيء يسير لا يضر بالناس لكن ليست هذه عيشة مسلم متقي ورع، الإنسان يتورع عن الحبة، النبي -عليه الصلاة والسلام- خشي أن تكون التمرة من الصدقة، ولا يقول: أن هذا محل صديق أو لا يضر به، هذا في البيوت، فيما يعدّ ويهيأ للضيوف، لا ما يدخر في المستودعات والمخازن أو المحلات التجارية. السابعة: قرن الله -عز وجل- في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة؛ لأن قرب المودة لصيق. الأسوأ من ذلك إذا أوهم صاحب المحل أنه يجرب، يريد أن يشتري لكنه يريد أن يجرب الطعام هل هو مناسب أو غير مناسب؟ وهو لا يريد الشراء في الحقيقة، مثل هذا لا شك في منعه. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى استغاثة الجهنميين {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [(110 - 101) سورة الشعراء] قلت: ولهذا لا تجوز .. ولذلك ما قالوا: ولا أبٍ ولا عمٍ ولا خال، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ما قالوا: فما لنا من آباء ولا أمهات ولا إخوان ولا أخوات ولا أعمام ولا أخوال، فدل على أن الصديق أوكد من القريب، وهذا جرت به العادة أن النفع المتبادل بين الأصدقاء أكثر مما يتبادل بين الأقارب؛ لأن أمور الأقارب مبنية في الغالب على الاحتشام، كل واحد يقدر الثاني، والآخر .. بينما الصديق ترتفع الكلفة فيما بينهم؛ لأنه لو حصل لأن ارتفاع الكلفة أحياناً يصير وسيلة إلى القطيعة، ارتفاع الكلفة أحياناً لأنه لا ينضبط بضابط ثم يتسبب في قطيعة فإذا حصلت القطيعة بين الصديق وصديقه أمره أخفّ من أن تقع هذه القطيعة بين الأقارب، فهم يتساهلون فيها من هذه الحيثية.

الأمر الثاني: أن الإنسان قد يجرؤ على صديقه أكثر مما يجرؤ على قريبه، لا سيما في أمور الأموال؛ لأن مظنة الاستجابة من الصديق أكثر من مظنة الإجابة من القريب، والسبب في ذلك أن الصديق صديق، يعني لو امتنعت من الدفع شكاك، ورفع أمرك إلى المسؤولين، بينما القريب يظنك أن تأكل ما تقترضه منه، وإذا حصل بينكم ما حصل من الشكاوى صارت القطيعة، فيحسم الباب من هذه الحيثية من أول الأمر، هذا في تصور كثير من الناس، يروح يذهب إلى صديقه يكلمه في أمره ويطلب منه ما يطلب أكثر مما يطلب من قريبه. قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه، وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في (النساء) وفي المثل: أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: أخي إذا كان صديقي. يعني إذا لم تكن بين الإخوة شحناء ولا بغضاء فهم أقرب الناس إليك. الثامنة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث أياماً جائعاً حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان لا يأكل وحده، وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه، فنزلت الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً، نَحَت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد. يحرّم، بمعنى: يمنع الانفراد، شريطة أن لا يمنع من الانفراد؛ لأن بعض الناس إذا اتخذ على نفسه شيء لا بد أن يحققه ويطبقه، فإذا جرت عادته بأنه لا يأكل وحده إذا صار منفرداً عافت نفسه الطعام، بعض الناس تنفتح نفسه وشهيته مع الأكل مع الإخوان والأصدقاء ثم إذا صار بمفرده عافت نفسه الطعام، وبعض الناس العكس، إذا رأى الناس يأكلون من مائدته انقفلت شهيته، فالناس يتفاوتون في الكرم والبخل والشح، وكتب الأدب مملوءة من القصص في النوعين.

التاسعة: قوله تعالى: {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} {جَمِيعًا} نصب على الحال، و {أشتاتاً} جمع شت، والشت المصدر بمعنى: التفرق، يقال: شتَّ القوم: أي تفرقوا، وقد ترجم البخاري في صحيحه: باب: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .. الآية، والنهد والاجتماع. النهد المقصود به القطَّة، التي يسمونها الناس القطّّه، يعني يدفع كل فرد من أفراد المجموعة مبلغاً من المال ويشترون مجتمعين هذا الطعام ليأكلوه، وهذا لا شيء فيه ولو كان عرف من حال بعضهم أنه يأكل أكثر من بعض، هذا أمر يتسامح فيه. بينما لو وضع هذا الأمر من أجل التجارة، ووجد التفاوت الكبير بينهم قيل: لا يجوز؛ لأن هذا مقابل عوض، ويراد من وراءه التجارة، مثل ما يقال: البوفية المفتوحة، لك ملئ بطنك حتى تشبع بمبلغ كذا، نقول: هذا ممنوع للجهالة؛ لأن بعضهم يأكل ما قيمته نصف ما يدفع وبعضهم يأكل ما قيمته ضعف ما يدفع، فهذا ممنوع للجهالة؛ لأن المسألة مسألة عقود وبيع وشراء، والجهالة لا بد من زوالها، أما مسألة الناس فهي مبنية على الإرفاق والاتفاق وكل واحد باذل من هذا الشيء لنفسه ولغيره، وليس المراد به العقد. ومقصوده فما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الأكل جميعاً وإن اختلفت أحوالهم في الأكل، وقد سوغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فصارت تلك سنةً في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم، وفي الإملاق في السفر، وما ملكت مفاتحه بأمانةٍ أو قرابةٍ أو صداقةٍ، فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك، والنِّهد: ما يجمعه الرفقاء من مالٍ أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا عن صاحب العين، وقال ابن دريد: يقال من ذلك ... وقد تناهدوا يعني المفاعلة من النهد، جاء ذكره عن صاحب العين منسوبة للخليل بن أحمد.

يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم، قال الهروي: وفي حديث الحسن: أخرجوا نِهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم. والنِّهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة: وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره، والعرب تقول: هات نِهدك بكسر النون، قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وقد قيل: إن تركها أشبه بالورع، وإن كانت الرفقة تجتمع كل يومٍ على طعام أحدهم، فهو أحسن من النِّهد؛ لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعلَّ أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله، وإذا كانوا يوماً عند هذا ويوماً عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافاً، والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه. يعني هذا مثل الدوريات التي تكون بين الأقارب وبين الأصدقاء وبين المعارف، يعني واحد يتكلف، وواحد يقتصد، وواحد يزيد وواحد ينقص، وواحد يقدم أكثر من الثاني، لا شك أن هذا إنما فعله بطيب نفسٍ منه، لكن ليجتنب الإسراف. وقال أيوب السختياني: بفتح السين، السَّختياني، أيوب بن أبي تميمة السّختياني. وقال أيوب السَّختياني: إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر، فيسبق بعضهم إلى المنزل، فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضاً إلى المنزل فيفعل مثل ذلك. نعم، ليقدم الخدمة لإخوانه، بينما بعض الناس يسبق إلى المنزل ليختار المنزل المناسب الأفضل قبل غيره، والله المستعان. فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله، فتعالوا نجعل بيننا شيئاً لا يتفضل بعضنا على بعض فوضعوا النهد بينهم، وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سراً دونهم.

العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} اختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد، والمعنى: سلِّموا على من فيها من صنفكم، فإن لم يكن في المساجد أحد، فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله، وقيل: يقول: السلام عليكم يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} .. الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقيل: المراد بالبيوت: البيوت المسكونة: أي فسلموا على أنفسكم قاله جابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً وعطاء بن أبي رباح، وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح. لأن (بيوتاً) نكرة في سياق الشرط فتعمّ، لكن هل تعمّ المقابر مثلاً التي هي بيوت ومساكن الأموات؟ الصواب: لا، لا تدخل في البيوت؛ لأن السلام مخصوص بأهلها، السلام عليكم أهل الديار، ولا يسلم على النفس فيها. ولا دليل على التخصيص، وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه فإذا دخل بيتاً لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتاً لنفسه سلَّم كما ورد في الخبر يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قاله ابن عمر، وهذا إذا كان فارغاً فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم، وإن كان مسجداً فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ.

قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغاً ألا يلزمه السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة، فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وقد تقدم في سورة (الكهف)، وقال القشيري في قوله: {إذا دَخَلْتُم بُيُوتًا} والأوجه أن يقال: إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال: السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وهذه التحية تحية غير المسلمين، السلام على من اتبع الهدى، كما كتب النبي -عليه الصلاة والسلام- لهرقل في كتابه المشهور: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم: السلام على من اتبع الهدى. وذكر ابن خويزمنداد قال: كتب إلي أبو العباس الأصم قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله، فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هاهنا ولا عشاء، وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت والعشاء)) قلت: هذا الحديث ثبت معناه مرفوعاً من حديث جابر خرجه مسلم، وفي كتاب أبي داود عن أبي مالك الأشجعي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله)). الحادية عشرة: قوله تعالى: {تَحِيَّةً} مصدر؛ لأنه قوله: {فَسَلِّمُوا} معناه: فحيوا، وصفها بالبركة؛ لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم، ووصفها أيضاً بالطيب لأن سامعها يستطيبها، والكاف من قوله {كَذَلِكَ} كاف تشبيه، و {ذَلِكَ} إشارة إلى هذه السنن: أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك.

آخر سورة النور وبداية سورة الفرقان

تفسير القرطبي تفسير (سورتي النور والفرقان) من آية (62 – إلى آخر السورة) (ومن بداية سورة الفرقان إلى آية 16) الشيخ/ عبد الكريم الخضير أسئلة وأجوبتها: هذا شخص يقول: دخل المسجد ليؤدي صلاة الجمعة، فوجد الخطيب يلقي درساً قبل الصلاة، فقال الخطيب أثناء دعاءه في آخر الدرس: وأسألك بجاه خير البرية، فخرج هذا الشخص من المسجد وصلاها ظهراً، فهل فعله صحيح؟ وماذا يتوجب عليه إن كان مخطئاً؟ لا شك أن السؤال بالجاه بدعة لا تجوز، لكن هي بدعة لا تخرج صاحبها من الملة، والصلاة خلفه صحيحة، فمثل هذا إن كان يجد مسجداً آخر يصلي فيه الجمعة ممن كان إمامه غير متلبس ببدعة فعمله صحيح، يخرج من هذا إلى شخص لا يرتكب بدعة، أما إذا ترك الجمعة من أجل هذا وصلاها ظهراً فهو مخطئ حينئذٍ وعليه أن لا يعود، ثم يسعى في مثل هذا الإمام أن يغيّر بشخصٍ غير مبتدع. ما حكم تشقير الحواجب؟ تشقير الحواجب بلون البشرة، بحيث إذا رأى الرائي قال إنها نامصة، ذكرنا مراراً أن هذا لا يجوز، وأما بالألوان الأخرى غير السواد، وما لا مشابهة فيه للكفار والفساق لا بأس به -إن شاء الله تعالى-. كيف أدرس البلاغة؟ تدرس البلاغة بالبداية بصغار المتون –متون البلاغة– ثم تترقّى فيها، فلو قرأ في التلخيص أو في الجوهر المكنون مع شروحهما ثم بعد ذلك يقرأ ما هو أكبر منها. يقول: كيف نفهم التفسير على وجهه الصحيح في هذا العصر الذي غلبت عليه التطورات والأزمات حتى يقال: أنه فلان قد فهم النصوص بشكلٍ خطأ؟ التفسير يفهم كما فهمه السلف الصالح، القرآن نزل للأمة من بعثة محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة فلا بد من أن يفهم القرآن على مقتضى فهم السلف الصالح، ويعنى بما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في تفسير القرآن، ثم عن صحابته الكرام، ثم بعد ذلك من أقوال التابعين ولغة العرب، وسائر الفنون تعين وتفيد في فهم القرآن. يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته -وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته- ما حكم من تزوج وله أربعة أشهر ولم يدفع المهر، ودخل على زوجته، وهل تأثم إذا رفضت أن تمكنه من نفسها علماً بأنه لا ينفق عليها؟

لها أن تمتنع حتى يدفع المهر، لها أن تمتنع من تسليم نفسها وتمكينها نفسها لزوجها حتى يسلّم المهر، والنفقة عليه واجبة، المهر إذا كان حالاً وهو قادر على أدائه هذا مطل لا يجوز له أن يؤخره، وإن كان عاجزاً فليسعى بأن يسدده ويدفعه إلى زوجته في أقرب وقت ولو من الزكاة، وهي إن رضيت أن تنظره وإلا لها أن تفسخ. يقول: ما حكم التعدد؟ هل هناك شروط للزواج بالثانية؟ أقول: التعدد جمع من أهل العلم يرون أنه الأصل لمن قدر عليه وأطاقه واستطاعه بشرطه وهو العدل؛ لأنه إن خاف ألا يعدل فواحدة، فإن استطاع –غلب على ظنه أنه يعدل بين الزوجات– وقادر على ذلك من الناحية المادية بمعنى أنه استطاع الباءة فليتزوج ثانية وثالثة .. الخ، لكن عليه أن يعدل. شاب كان قبل أن يلتزم كثير الكذب، يكذب على الناس بالقذف وغيره -أسأل الله العافية- ولكنه التزم الآن والحمد لله، ولكن قال له بعض الناس: إن توبتك لن تقبل حتى تذهب للأشخاص الذين كذبت عليهم وتقول لهم: إنني قد كذبت عليكم فسامحوني، وحتى تذهب إلى من كنت تتحدث أمامهم وتقول لهم: إن ما قلته لكم عن فلان وفلان كذب مني، فهل هذا صحيح أم تكفيه التوبة بينه وبين الله؟ هذا إن تيسر أن يذهب إلى المظلوم ويستبيحه من مظلمته من غير مفسدة زائدة على الذنب الأصلي؛ لأن بعض الأمور يترتب عليها مفاسد أعظم منها، فإن كان هذا لا يترتب عليه المفسدة فهو الأصل؛ لأنه إذا أباحك وسامحك برئت من العهدة من حقه، وحقه مبني على المشاحاة، أما حق الله -جل وعلا- فهو مبني على المسامحة، وأيضاً المجالس التي كنت ترتادها وتغتاب الناس فيها وتقذفهم فيها، عليك أن تبين فيها بنفس المستوى الذي كنت تتحدث فيه، تبيّن أنك كاذب، وعلى كل حال إذا لم تتمكن من ذلك وتبت توبةً نصوحاً وصدقت الله -جل وعلا-، ودعوت لمن اغتبته أو قذفته فيرجى أن يعفى عنك. مدرستنا أقامت نشاطاً بمناسبة المولد النبوي، يقول: ومن ضمن فعالياته محاضرة عن المولد النبوي؟

هذا من بلدان متفرقة يعني منها من ليبيا ومن السعودية ومن مصر والمغرب والإمارات وليبيا والكويت والمغرب وفرنسا والكويت والجزائر والإمارات، المقصود أنه لا يظن به بلد معين، وإنما هو كثير من بلدان العالم الإسلامي يحتفلون بالمولد وهو معروف أنه بدعة، لم يكن على عهده -عليه الصلاة والسلام- ولا عهد صحابته الكرام ولا التابعين ولا في عهد الأئمة، وإنما ابتدع في القرن الرابع. يقول: مدرستنا أقامت نشاطاً بمناسبة المولد النبوي، ومن ضمن فعالياته: محاضرة عن المولد النبوي، وقد طلب مني أن أكون محاضراً لها، فهل يجوز أن ألقي هذه المحاضرة علماً بأنني سوف أركز على بدعية هذا الأمر المنكر من باب الإنكار؟ نعم، لك أن تشارك بل يندب لك أن تشارك إذا أردت الإنكار، وبيان الحكم الشرعي في المسألة. هذا يريد أن يرحل ويطلب العلم لكنه -هو من المغرب- يمنعه من ذلك المرض بسبب مسٍ لا يستطيع أن يغادر الحي، وأعاني من مشاكل كبيرة في التنفس، هذا يسأل أن يدعى له بإلحاح على الله أن يشفيه؟ نسأل الله -جل وعلا- أن يشفيه، وأن يذهب ما به من ضر، وأن يكشف ما به من بلاء. يقول: هل للسحر شفاء؟ هل من سحر يمكن أن يشفى ويعافى؟ ما من داء إلا وله دواء، والنبي -عليه الصلاة والسلام- سحر وعوفي. وما هو العلاج الناجح في ذلك؟ نقول: هو الرقية الشرعية على يد من ترجى إجابته؛ لأن الرقية في حكم الدعاء. ما حكم من علم من سحره وذهب وآذاه؟ على كل حال، الساحر معروف حكمه في الشرع، ذهب إليه وآذاه؛ لأنه سحره فلا شك أنه ظالم له، عليه أن يرفع أمره إلى ولاة الأمر ليأخذ حكمه الشرعي. إذا تاب الساحر يا شيخ؟ إذا تاب الساحر، من أهل العلم من يرى أنه لا توبة له؛ لأن أمره خفي فكيف يعلم بصدقه؟ لكن إذا تاب وظهرت عليه أمارات الصدق، وبدل عمله السيء بأعمالٍ صالحة، فحق الله -إن شاء الله- تهدمه التوبة، وأما حقوق العباد الذين ضرهم بسحره هؤلاء سوف يجتمعون عند حكمٍ عدلٍ معه. يقول: أين بلغ الشيخ بالدرس بعد العشاء (التعليق على الموافقات) (قرة عيون الموحدين) و (زاد المعاد وسبل السلام)؟

أما الموافقات فالمسألة الثانية عشرة في المجلد الثاني، وأما قرة عيون الموحدين فهي موقفة؛ لأن صاحبها معتذر عن هذا الفصل، وزاد المعاد أيضاً لا يلازم، لأنه يحضر يوماً ويغيب أياماً، وسبل السلام في كتاب الطلاق، ونحن بصدد بحث عن وقتٍ أنسب من هذا الوقت؛ لأن عشاء الجمعة الأسفار فيه كثيرة، فلعل الله أن ييسر، ولو قسمنا هذه الكتب الأربعة على يومين يكون أنسب. يقول: رجل تزوج مع امرأة؟ -كيف تزوج مع امرأة؟ - تزوج امرأة، ولهما أطفال صغار، علم بعد ذلك الرجل بأن زوجته تستعمل المخدرات -هذا في فرنسا- فما نصيحتكم للزوج والزوجة، وهل يجوز للرجل أن يطلق زوجته؟ هل يجوز للرجل أن يطلق زوجته؟! على كل حال إن وعظها وامتثلت فبها ونعمت، وإن لم تمتثل فالطلاق لا شك أنه في مثل هذه الحالة التي يخشى منها الضرر عليه وعلى أولاده منها حلّ لهذه المشكلة، فيجوز له أن يطلق لا سيما إذا غلب على ظنه أنها لا تستجيب، مثل هذه المرأة لا خير فيها. يقول: إنني كنت أشارك أخي في مركز كمبيوتر وانترنت، ولكن من شهر رمضان السابق لم أعد أستطيع أن أواصل في النت، ولذلك فصلت الصيانة والمبيعات عن الانترنت فكيف أستطيع أن أحصل على مالي في الأجهزة وشكراً؟ لعله تأثم من عمله في هذه الآلة التي فيها من الشرور ما لا يخطر على البال، فعلى كل حال هذه الآلات فيها شر مستطير، وفيها خير، لكن على حسب الاستعمال، فإذا كان البائع يبيع على جميع الناس فهذا لا شك أنه آثم؛ لأن كثير من الناس يستعملها في غير النافع، وإذا كان يتوخى بيع هذه الآلات على من يغلب على ظنه أنه لا يستعملها إلا فيما ينفع، فالأمر -إن شاء الله- فيه سعة، علماً بأن التورع عن مثل هذه الأمور التي شرها كثير لا شك أنه هو الأصل. يقول: هل تنصحونني بقراءة كتاب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، تحقيق: عصام الدين الصبابطي؟ على كل حال التذكرة مطبوعة طبعات كثيرة، لكن من أنفسها ما طبعت في ثلاثة مجلدات، صدرت عن دار المنهاج، هذه طبعة طيبة ومتقنة.

يقول: أنا متزوج وأعيش مع والدي وجميع أخوتي، مشكلتي تتمثل في وجود صراعٍ دائم بين أمي وزوجتي عكّر عليّ صفو حياتي، وسؤالي كالآتي: هل السكن لوحدي يعتبر عقوق وأنا أحرص على برّ والدي؟ أو البقاء مع والدي والصبر على ما يصدر منهما ... الخ؟ هذا فيه مشاكل بين زوجته وبين أمه، وعلى كل حال البيوت في مثل هذه المشاكل تعج لا سيما مع تخلف التقوى لله -جل وعلا- والمراقبة فتجد الأم تغار من زوجة الابن، ثم بعد ذلك تحصل الفرقة والشقة، ويحصل من الزوجة أيضاً أن تستأثر بالابن وتحرم والديه منه، فيحصل مثل هذا، وعلى كل حال على الزوجة أن تحترم الوالدة، وبرّها وطاعتها من طاعة الزوج، ثم بعد ذلك تستقيم الأمور، وعلى الأم أن تتقي الله -جل وعلا- في حسن المعاملة، وعلى كل حال إذا أعياك الأمر ولم تستطع أن توفق بين بر والديك وبين القضاء على هذه المشاكل واستأذنت والديك في الخروج في بيتٍ مستقل وأذنا لك فخروجك حل لهذه المشكلات على أن لا تنساهم. يقول: أنا رجل من عامة المسلمين سمعت رجلاً يسب الله ورسوله سباً صريحاً، وأنا متيقن أن موانع التكفير عنه منتفية، فهل يجوز لي الإقدام على تكفيره، والحال فيه هي ما سبق ذكره أو لا؟ على كل حال إذا كان يسب الله ورسوله هذا كافر بلا شك –نسأل الله السلامة والعافية-. طالب: يعذر بالجهل يا شيخ؟ هو يحكم عليه، وإذا أبدى عذراً وأنه لا يعرف هذا مع أنه لا يمكن أن يتصور أن يعيش في بلاد المسلمين ويتذرع بالجهل في مثل هذا. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [(62) سورة النور]. فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} (إنما) في هذه الآية للحصر، المعنى: لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن بالله ورسوله إلا بأن يكون من الرسول سامعاً غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع ونحو ذلك، وبيَن تعالى في أول السورة أنه أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد -صلى الله عليه وسلم- فختم السورة بتأكيد الأمر في متابعته -عليه السلام-؛ ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن. الثانية: واختلف في الأمر الجامع ما هو؟. الآن المحصور عليه في الحصر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إن كان المحصور عليه {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} فالإيمان لا يتم إلا بذلك، ولا يصح إلا بذلك، وإذا ادعى أنه مؤمن ولم يؤمن بالله ولا رسوله هذه دعوة لا تصح، فليس بمؤمن إذا لم يؤمن بالله -جل وعلا- ويؤمن برسوله، وإذا كان الحصر من أجل قوله -جل وعلا-: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فلا شك أن هذا لا يسلب تركه الإيمان بالكلية، وإن كان يخل بأصله. الثانية: واختلف في الأمر الجامع ما هو؟ فقيل: المراد به ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس فيه، لإذاعة مصلحة من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم وللحروب، قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [(159) سورة آل عمران] فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك، والإمام الذي يُترقب إذنه هو إمام الإمرة.

يعني المقصود به الإمام الأعظم، ومن ينيبه الإمام في جمع الناس لأمرٍ من الأمور، فإذا اجتمعوا لأمرٍ من الأمور لا يجوز الخروج إلا بإذنه إلا إذا كان ثمّ منكر، فإنه حينئذٍ لا يحتاج إلى إذن إلا إذا استطاع أن ينكر فيتعيّن عليه الإنكار، إذا لم يستطع ينصرف، إذا ترتب على الانصراف مفسدة أعظم فينظر في المصالح والمفاسد، إذا كان لا يستطيع الإنكار وترتب على الانصراف مفسدة أعظم لا شك أن العزيمة أن ينصرف، ولو ترتب عليه ضرر في نفسه أو بدنه أو ماله هذا هي العزيمة، وإن خشي على نفسه وجلس حتى ينتهي الموضوع خوفاً على نفسه ففيه مندوحة وهو مكره على هذا، لكن لا يستدل بفعله على جواز هذا المنكر، يعني كثير من الناس يستدلون على جواز بعض المحرمات؛ لأن والله شفنا الشيخ فلان جالس، ما تدري ما ظرف الشيخ فلان في جلوسه هذا؟ هو يخشى مفسدة أعظم، أو يخشى على نفسه، والإنكار لا يستطيعه ولا يستطيع الخروج فتقرير هذا الشخص على هذا المنكر ليس فيه دليل على جوازه، ولا يمكن أن ينسب إليه القول بجوازه؛ لأنه جلس ولم يستطيع الخروج ولم يستطع الإنكار. فالتقرير خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى الصحابة تقريرهم ليس بحجة، يعني لو جلس صحابي فتقريره ليس بحجة، لنفترض مثل ما فعل مروان حينما خطب جالس، كثير من الصحابة الحاضرين ما أنكروا عليه، أنكر عليه أبو سعيد، هل يقال: أن الصحابة –جمهور الصحابة- يرون أن مثل هذا المنكر لا ينكر أو هذا الفعل يجوز؟ لأنهم ما أنكروا؟ وكثير من المسلمين ما أنكر على الوليد في إدخاله القبر – الحجرة النبوية في المسجد- مع أنه وجد الإنكار من جمع من أهل العلم في وقته، هل نقول: أن جمهور الأمة يرون مثل هذا العمل؟ لا يمكن.

فالإقرار كونه تشريع خاص بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ونسمع كثيراً مما يستدل على جواز بعض الأمور بأننا رأينا الشيخ الفلاني جالس، طيب وما يدريك عن الشيخ الفلاني؟ يمكن يخشى على نفسه، لا يستطيع الإنكار، يوازن بين المصالح والمفاسد يرى أن المصلحة في البقاء، فمثل هذا لا يستدل به على الجواز، فإذا جمعهم الإمام على أمرٍ فيه مصلحة فإنه حينئذٍ لا يجوز لأحدٍ أن ينصرف حتى يستأذن، وهل يدخل في ذلك كل جمع؟ بمعنى أنه في الصلاة مثلاً، أو في خطبة الجمعة، احتاج إلى الخروج، هل يستأذن الإمام؟ أو في الدرس هل يستأذن الشيخ؟ لا شك أن المستأذن هنا هو الإمام الأعظم أو من ينيبه، وهناك أمور لا تحتاج إلى إذن، وإن كان بعضهم يرى أنها تحتاج إذن، فمن انتقض وضوءه والإمام يخطب، هل يقول للإمام: أتأذن لي أن أتوضأ؟ هذا ما يحتاج إلى إذن، وإن قال بعض أهل العلم أنه لا بد منه. وفي كل هذا مبالغة على الحفاظ، من أجل الحفاظ على الجماعة، والدين دين اجتماع وألفة ومودة، ولذا لا يجوز إقامة جماعة ثانية في مسجد في آنٍ واحد، ولو كبر المسجد، مع علم الجماعة الثانية بالأولى؛ لأن هذا يؤدي إلى شقاق ونزاع ويشحن النفوس، وأيضاً لو أدى صلاة جار المسجد في مسجدٍ آخر لو أدى ذلك إلى وجود شيء في نفس الإمام أو جماعة المسجد القريب عليه أن يلازم هذا المسجد كفاً للغيبة عن نفسه وحفاظاً على الألفة والمودة، وإذا كان هناك مبرر له وشرحه للجماعة ورضوا به وكذلك الإمام، لا شك أن مثل هذا لا مانع منه، لو قال: أنا أحتاج إلى المشي، أنا نصحني الطبيب أن أمشي، ولا في فرصة أن أمشي إلا إذا أذن أصلي بالمسجد الفلاني، فحينئذٍ لا مانع على أن يبين ويسلب ما في قلوبهم من أثر لهذه الفرقة، وإلا فالأصل أن الفرقة مذمومة. والإمام الذي يُترقب إذنه هو إمام الإمرة فلا يذهب أحد لعذرٍ إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن السيء، وقال مكحول والزهري: الجمعة من الأمر الجامع، وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة إذا كان يرى المستأذن.

قال ابن سيرين: كانوا يستأذنون الإمام على المنبر فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على فيه فليخرج دون إذن، وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام، وظاهر الآية يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل؛ لأمر من أمور الدين، فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه؛ لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة. إذا احتاج الإمام إلى جمع الناس في غير وقت الدوام مثلاً، قال: على الجهة الفلانية أن تحضر بعد صلاة العصر أو بعد صلاة المغرب أو بعد صلاة العشاء للتشاور في بعض الأمور التي تهم العمل، بعض أهل العلم يرى أنه تلزم الإجابة، ولو كانت خارج الوقت المؤجر عليه، ومنهم من يرى أنه إذا كانت المسألة مقايضة ووظيفة ويصرف لها مقابل أنه لا يلزم إلا في وقت العمل، وهذا يحتاج إليه في كثير من الدوائر الحكومية، يعني هناك جلسات في الجهات الرسمية، فهل إذا دعي إلى الجلسة في غير وقت الدوام يلزمه الحضور؟ وإذا لم يرضَ إلا بمقابل، هل يصرف له هذا المقابل أو لا يحتاجه وهو من صميم العمل، لا سيما إذا كان فائدته تعود على العمل؟ مثلاً: جلسات –مجالس الكليات والجامعات وغيرها من الدوائر الرسمية التي تحتاج إلى جلسات وفيها لجان تجتمع هذه اللجان أو مجالس في غير وقت الدوام- أما بالنسبة لوقت الدوام لا يجوز أن يتخلف أحد، لا يجوز أن يتخلف إذا كان من مصلحة العمل؛ لأنه استؤجر، في هذه المدة هو أجير لا يجوز له أن يتخلف، وإذا كان في غير وقت الدوام فالمسألة تحتاج إلى نظر. طالب: لو علم بوجود منكرات وقت الدوام؟ إذا علم بوجود منكرات لا يجوز الإقدام، الآن يقولون في إجابة وليمة العرس والدعوة إليها واجبة عند أهل العلم ومع ذلك إذا كان ثمّ منكر لا يجوز الحضور، إلا إذا كان يحضر بنية الإنكار ويستطيع الإنكار، يستطيع التغيير؛ فإنه حينئذٍ يجيب. طالب: إذا خشي من وجود منكر، توقع منكر؟

إذا غلب على ظنه وجود منكر، نفترض مثلاً أنه لا يرى التصوير، ويقول: أنه بيجي المسؤول الفلاني احتمال قوي أن يكون التصوير موجود، ما يحضر في هذه الحالة، وإذا كان وجوده يمنع التصوير مثلاً، وقيل: إن الشيخ الفلاني بيحضر وهو ما يرى التصوير فلا تصوروا هذا لا شك أنه مصلحة ظاهرة، أو مثلاً سيدعى إلى مجلس ثم يدعى معه نساء مثلاً، كما يحصل في مثل هذه الأيام فلا يحضر، لا يحضر أبداً، إذا وجد منكر، إن حضر للإنكار واستطاع ذلك فبها ونعمت، وإلا فلا يحضر. وروي أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سيفان وغطفان وقائدها عيينة بن حصن، فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذاً من العمل ويعتذرون بأعذار كاذبة، ونحوه روى أشهب وابن عبد الحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق، وقال مقاتل: نزلت في عمر -رضي الله عنه- استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له، وقال: ((انطلق فوالله ما أنت بمنافق)) يريد بذلك أن يسمع المنافقين، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنما استأذن عمر -رضي الله عنه- في العمرة، فقال -عليه السلام- لما أذن له: ((يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك)). ومثل هذا طلب الدعاء من الرجل الصالح لا بأس به، ولا إشكال فيه، ولا يدخل في النهي عن السؤال، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لعمر هذا الكلام، وقال لعمر: ((إذا أتى وفد اليمن فاسأل عن فلان)) أويس بن عامر- هذا في صحيح مسلم وسأل عنه، فطلب منه الدعاء، هذا لا إشكال فيه -إن شاء الله تعالى-. هذه الآية فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الآية الأخرى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} في معارضة وإلا ما في معارضة؟ طالب: لا. لماذا؟ طالب: المقصود في الآية الأولى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هم أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-.

في الآية التي معنا هذه {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}؟ المسألة لا تخلو من حالين: الأولى: أن يكون هناك عذر يمنع من البقاء، أو لا يكون هناك عذر، فإن كان هناك عذر فالاستئذان لا بد منه مع العذر، فنتصور اثنين كليهما معذورين في مثل هذا –كلاهما لديه عذر- واحد استأذن وواحد مشى بدون استئذان، الآية في حق من استأذن {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لوجود عذر يمنعهم من مواصلة البقاء، هناك ليس فيه عذر وإنما فيه فرار عمّا أوجب الله عليهم، هناك ليس فيه عذر فيستأذن ويعتذر بعذر غير صحيح، فالذي يستأذن للتخلص مما أوجب الله عليه من جهادٍ ونحوه فمثل هذا تنطبق عليه الآية الأولى. قلت: والصحيح الأول؛ لتناوله جميع الأقوال، واختار ابن العربي ما ذكره في نزول الآية عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب، قال: والذي يبين ذلك أمران: أحدهما: قوله في الآية الأخرى {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} [(63) سورة النور] وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة، ويتركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد منهم؛ حتى يأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبذلك يتبين إيمانه. الطلاب في المدارس النظامية –في الكليات مثلاً– يحرص الطالب أنه يجلس إلى أن يؤخذ الحضور، ثم بعد ذلك يستغفل الشيخ ويتغافل ويخرج، أو يستأذن ولا عذر له، كل هذا لا يجوز؛ لأنه يأخذ في مقابل هذا أجرة محسوسة وأجرة معنوية؛ لأنه منتظم، وتعاقد مع الكلية على هذا الأمر، أنه منتظم والمنتظم عليه أن يحضر فلا يجوز له أن يخرج حتى يستأذن إذا كان له عذر، إذا كان له عذر يستأذن وإلا يبقى.

قد يقول قائل: إن بعض الأساتذة وبعض المدرسين الفائدة منهم ليست كبيرة فأنا أخرج لأستفيد فائدة أكبر، أنت تعاقدت على أن تبقى في هذا المكان وفي شرح هذا الدرس المقرر عليك، وإلا لو افترضنا أنه يوجد في هذا المكان –في هذه الكلية– شخص هو أعلم الناس مثلاً، وأنت بين يدي شخص الفائدة منه قليلة وتقول: أنا أستأذن وأذهب إلى فلان –الذي هو العالم الحقيقي- وشيخ هذا الشيخ مثلاً، لا يجوز مثل هذا، العالم الفلاني له وقت آخر تذهب إليه، أما أنت في هذا الوقت وفي هذا الظرف عليك أن تلزم مكانك، وتلتزم بما تعاقدت عليه. الثاني: قوله: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وأي إذن .. الأعذار، حينما يطلب عذر عن التخلف، كثير من الناس يتساهل فيها فيدلي بعذرٍ ليس بصحيح، وقد يكون لديه عذر ويبدي غيره؛ لأن الجهة لا تقبل إلا تقرير طبي، وهو مسافر –سفر حاجة- هو معذور في الحقيقة لكن الجهة لا تقبل هذا العذر، وإنما لا بد أن يكون بتقرير طبي ثم يزور تقرير طبي، هذا أيضاً لا يجوز، لا يجوز بحال، وبعضهم يتعاظم أن يفوته الامتحان ولا يعاد الامتحان والضرر كبير عليه، ثم يقول: هذه مفسدة يسيرة، نقول: لا يا أخي العلم المبني على هذه الأمور وعلى هذه المخالفات لا خير فيه. وأي إذن في الحدث والإمام يخطب وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه، وقد قال: {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب، قلت: القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيار إن شاء أن يأذن وإن شاء منع، وقال قتادة: قوله: {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} منسوخة بقوله: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [(43) سورة التوبة]. يعني هذا في حال تعيّن الجهاد لا يجوز لمن تعين عليه أن يتخلف، كما أنه لا ينبغي للإمام أن يأذن له، وجاء عتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}.

{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذراً {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا} يريد: يصيح من بعيد: يا أبا القاسم، بل عظموه كما قال في الحجرات: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} [(3) سورة الحجرات] .. الآية، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا: يا رسول الله في رفق ولين، ولا تقولوا: يا محمد بتجهّم، وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه، وقال ابن عباس: لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} التسلل والانسلال: الخروج، واللواذ من الملاوذة وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك، فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة، {لِوَاذًا} مصدر في موضع الحال أي: متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتاراً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة، حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه، وقيل: كانوا يتسللون في الجهاد رجوعاً عنه، يلوذ بعضهم ببعض، وقال الحسن: {لِوَاذًا} فراراً من الجهاد، ومنه قول حسان: وقريش تجول منا لواذاً ... لم تحافظ وخف منها الحلوم وصحّت واوها لتحركها في لاوذ يقال: لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذاً، ولاذ يلوذ لوذاً ولياذاً انقلبت الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها اتباعاً للاذ في الاعتلال، فإذا كان مصدر: فاعَلَ لم يعل؛ لأن فاعَلَ لا يجوز أن يعل. يعني لاوذ لا يجوز أن يعل، ولاذ يعل. قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب.

لأنه رتب عليه عقوبة {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ما دام رتب عليه عقوبة فالمراد به الوجوب، ولو لم يرتب عليه عقوبة لكان للاستحباب، فالأمر هنا مطلق، مجرد عن قرائن وعن صوارف، إذاً هو للوجوب، كما في هذه الآية، وكما في الحديث: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم)) دل على أن الأمر إذا أطلق ينصرف إلى الوجوب، أو دلالته على الوجوب، إلا إذا وجد صارف، ولو لم يكن كذلك لما رتّب عليه عقوبة، وأمر الاستحباب بالنسبة للسواك ثابت فلم يبق من الأمر المنفي إلا أمر الوجوب. ووجهها أن الله -تبارك وتعالى- قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره، والفتنة هنا القتل، قاله ابن عباس، وقال عطاء: الزلازل والأهوال، وقال جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلط عليهم، وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول. ولا يمنع أن تجتمع هذه الأمور، بل غير هذه الأمور مما هو أشد منها. والضمير في {أَمْرِهِ} قيل: هو عائد إلى أمر الله تعالى، قاله يحيى بن سلام، وقيل: إلى أمر رسوله -عليه السلام- قاله قتادة، ومعنى {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يعرضون عن أمره، وقال أبو عبيدة والأخفش: (عن) في هذا الموضع زائدة، وقال الخليل وسيبويه: يعني في الأصل: فليحذر الذين يخالفون أمره، يرونها زائدة، لكن الصواب أنها ليست بزائدة، كما قال الخليل وسيبويه. وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة، والمعنى يخالفون بعد أمره، كما قال: لم تنتطق عن تفضل، ومنه قوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [(50) سورة الكهف] أي بعد أمر ربه، و (أن) في موضع نصب بـ (يحذر) ولا يجوز عند أكثر النحويين حذر زيداً، وهو في (أن) جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [(64) سورة النور].

قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقاً وملكاً، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} فهو يجازيكم به، و {يَعْلَمُ} هنا بمعنى علم. لأن دخول قد على المضارع الغالب فيه التقليل، قد يعلم، وهنا المراد بها التحقيق، فكأن المضارع هنا بمنزلة الماضي، إذا قيل: قد جاء زيد، يعني محقق، وإذا قيل: قد يجيء زيد، فهذا للتقليل، يعني ليغلب على الظن أنه ما يجيء، فهنا قالوا: إن يعلم بمنزلة التحقيق في الماضي. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} بعد ما كان في خطاب رجع في خبر، وهذا يقال له: خطاب التلوين، {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} أي يخبرهم بأعمالهم ويجازيهم بها، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من أعمالهم وأحوالهم، ختمت السورة بما تضمنت من التفسير، والحمد لله على التيسير. سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [(68) سورة الفرقان] إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [(70) سورة الفرقان] وقال الضحاك: هي مدنية، وفيها آيات مكية، قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .. الآيات، ومقصود هذه السورة. . يعني عكس قول ابن عباس، قول ابن عباس أنها مكية إلا ثلاث آيات، قال الضحاك: هي مدنية إلا ثلاث آيات. ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة، والرد على مقالاتهم وجهالاتهم، فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله، قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [(1) سورة الفرقان] (تَبَارَكَ) اختلف في معناه، فقال الفراء: هو في العربية و (تقدس) واحد، وهما للعظمة، وقال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة، قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقيل: {تَبَارَكَ} تعالى، وقيل: تعالى عطاؤه: أي زاد وكثر، وقيل: المعنى: دام وثبت إنعامه، قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل والطير على الماء: أي دام وثبت.

فأما القول الأول فمخلط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء، قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك؛ لأنه يُنتهى في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف، وقال الطرماح: تباركت لا معط لشيءٍ منعته ... وليس لما أعطيت يا رب مانعُ وقال آخر: تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر. قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنة (المبارك) وذكرناه أيضاً في كتابنا، فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع، وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عده كالدهر وغيره، وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله. أخذوا هذا الاسم من الفعل (تبارك) الذي مقتضاه الإخبار، علماً بأن دائرة الأسماء أضيق من دائرة الأوصاف فضلاً عن الإخبار، فالاسم يؤخذ منه صفة ولا عكس، والإخبار أوسع لا يؤخذ منه صفة ولا اسم، هذا الإخبار، فكونهم يأخذون المبارِك أو المبارَك من قوله -جل وعلا-: {تَبَارَكَ} هذا ليس جارياً على القواعد المعروفة عند أهل السنة، فيبقى الاسم توقيفي فإن جاء به نص ملزم قيل به وإلا فلا، و {تَبَارَكَ} بهذه الصيغة تفاعل لا يطلق إلا على الله -جل وعلا-، لا يجوز إطلاقه على أحد، وإن كان يقال: فلان مبارك، وفلان رجل فيه بركة هذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال في هذه الصيغة {تَبَارَكَ} لا تطلع إلى على الله -جل وعلا-؛ لأنه بلغ الغاية في هذا الشأن. طالب: يقال: هذا الحلال عندي تبارك، وهذه الغنم تباركت يريد كثرتها؟ يعني إذا ظهرت فيه البركة بالكثرة أو النفع لا مانع -إن شاء الله-. طالب: أو هذا المال تبارك؟ لا، تبارك لا. طالب: المال؟ ولو كان، يعني حصل فيه بركة، أما تبارك لا. طالب: الزيارة، تبارك المحل بدخولك، تبارك دخولك؟. لا، يعني كونكم حضرتم حصلت البركة لا مانع -إن شاء الله تعالى-، لكن البركة تحصل بأدنى شيء، يعني لو لم يكن من بركة هذا الحاضر مثلاً إلا حصول الأجر المترتب على الزيارة، وحصول الأجر للمزور المرتب على الضيافة وهكذا، لكن التبارك الذي هو بلغ الغاية في هذا الأمر هذا خاص بالله -جل وعلا-. طالب: هل يمكن أن نقول: تبارك البيت بقدومكم؟ هل ينكر على هذا القول؟

تبارك نعم، هذا اللفظ ممنوع على أي حال. و {الْفُرْقَانَ} القرآن، وقيل: إنه اسم لكل منزل، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [(48) سورة الأنبياء] وفي تسميته فرقاناً وجهان: أحدهما: لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر، والثاني: لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش، {عَلَى عَبْدِهِ} يريد محمداً -صلى الله عليه وسلم-، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} اسم {يَكُونَ} فيها مضمر يعود على {عَبْدِهِ} وهو أولى؛ لأنه أقرب إليه، ويجوز أن يكون يعود على {الْفُرْقَانَ}، وقرأ عبد الله بن الزبير: {على عباده} ويقال: أنذر إذا خوّف، وقد تقدم في أول البقرة، والنذير المحذر من الهلاك، قاله الجوهري، والنذير المنذر، والنذير الإنذار. والمراد بـ {الْعَالَمِينَ} هنا الإنس والجن؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح، فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان؛ لأنه بدأ به الخلق. العموم في رسالة نوح -عليه السلام- عموم ضرورة أنه لا يوجد إلا هؤلاء الناس الذين أمر بدعوتهم؛ لأن من عداهم غرق بالطوفان وانتهوا، وأما عموم رسالته -عليه الصلاة والسلام- فهو عموم مقصود لذاته، فهو بعث إلى الناس كافة، وهذا من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-. قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عظم تعالى نفسه، {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله، يعني بنات الله سبحانه وتعالى، وعما قالت اليهود: عزير ابن الله -جل الله تعالى-، وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله -تعالى الله عن ذلك-. {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما قال عبدة الأوثان، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء، ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد.

يعني: أنه يخلق فعل نفسه، وهذا قول القدرية المعتزلة، يقولون: أن الإنسان يخلق فعله، وفعل العبد ليس من مخلوق الله -جل وعلا- ولذلك سموا مجوس هذه الأمة؛ لمشابهتهم إياهم في إثبات خالق غير الله -جل وعلا-. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد، فالآية رد على هؤلاء، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة فهو الخلق المقدر، فإياه فاعبدوه، قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} [(3) سورة الفرقان] ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. {لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} يعني الآلهة، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لمَّا اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع عبَّر عنها كما يعبر عما يعقل. فقال: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يعني عبر عنهم بضمير الجمع، وأثبت لهم النون التي في الأصل للعقلاء، عاملهم معاملة جمع المذكر السالم، ولا يجمع على هذه الصيغة إلا من يعقل، فهذا على سبيل التنزل لعابديهم الذين عاملوهم معاملة العقلاء. {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف، وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء ولا لمن يعبدهم؛ لأنها جمادات، {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} أي لا يميتون أحداً ولا يحيونه، والنشور: الإحياء بعد الموت، أنشر الله الموتى فنشروا وقد تقدم، وقال الأعشى: حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي قريش، وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحارث ابن الحارث يعني يكتبونها بدون ألف. القائل منهم ذلك النضر بن الحارث، وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير، قال محمد بن إسحاق: وكان مؤذياً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، {إِنْ هَذَا} يعني القرآن، {إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أي كذب أختلقه، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني اليهود، قاله مجاهد.

وقال ابن عباس: المراد بقوله: {قَوْمٌ آخَرُونَ} أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وقد مضى في النحل ذكرهم، {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا} أي بظلم، وقيل: المعنى فقد أتوا ظلماً، {وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث، وقال غيره: أساطير جمع أسطار، مثل أقوال وأقاويل، {اكْتَتَبَهَا} يعني محمداً، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أي تلقى عليه وتقرأ، {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} حتى تحفظ، و {تُمْلَى} أصله تملل، فأبدلت اللام الأخيرة ياءً من التضعيف: كقولهم: تقضى البازي وشبهه. مع إمكان الفك، يعني حصل هذا الإبدال مع إمكان أن يؤتى بالأصل فليملل، يعني فك الإدغام، والبقاء على الحروف الأصلية ممكن. قوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [(6) سورة الفرقان] أي قل يا محمد: أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر فهو عالم الغيب فلا يحتاج إلى معلم، وذكر (السر) دون الجهر؛ لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم، ولو كان القرآن مأخوذاً من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها فليس مأخوذاً منها، وأيضاً ولو كان مأخوذاً من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضاً، كما تمكن محمد -صلى الله عليه وسلم- فهلا عارضوه، فبطل اعتراضهم من كل وجه. {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} يريد غفوراً لأوليائه، رحيماً بهم، قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [(7) سورة الفرقان] فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَقَالُوا} ذكر شيئاً آخر من مطاعنهم، والضمير في {قَالُوا} لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله .. يعني أولاً طعنوا في الكتاب قالوا: أساطير الأولين ثم طعنوا في النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي أنزل عليه الكتاب.

وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلس مشهور، وقد تقدم في (سبحان) ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره مضمنه: أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد، إن كانت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق، فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكاً، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان -عليه السلام- يخالطهم في أسواقهم ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا فما له يخالف سيرة الملوك، فأجابهم الله بقوله وأنزل على نبيه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [(20) سورة الفرقان] فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها. يعني زائل، زائل عنك عارها كما في المثل، ولا شك أن أهل الترفع والكبر لا يمشون مع الناس، ولا يغشون مجالسهم، هذا خلق أهل الكبر، التعالي والترفع عن الناس، حتى وجد منهم من لا يصلي في المسجد، فكيف يصلي –على حد زعمه- بين حمّال وزبّال، بعضهم يخشى على ثيابه أن تتسخ بملامسة ثياب الآخرين، وبعضهم يأنف أن يصاف فقير، هذا ضروب من الكبر شنيعة. نعم قد يوجد بعض الناس من فيه ما يكره من أجله، إما رائحة أو جروح أو قروح مثل هذا هناك مبرر أن الإنسان لا يصافه، لكن بعض الناس بدون مبرر، يتعالى ويترفع وقد عرف عن بعض الناس أنه لا يصلي مع الجماعة لهذا، هو موجود في القدم. الثانية: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش، وكان -عليه السلام- يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل؛ لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق.

دخول الأسواق لا شك أنها شر البقاع لكن إذا ترتب على ذلك مصلحة أعظم، إما قضاء حاجة له أو لغيره أو لمزاولة دعوة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، كل هذه مصالح راجحة، وأسواق المسلمين لا يمكن أن تترك للعوام الذين يزاولون من العقود ما فيه بعض المخالفات، أو للمتسوقة من الرجال والنساء وما يحصل من بعضهم بعض المخالفات، مثل هؤلاء لا بد من غشيان الأسواق من أجل الإنكار عليهم. وإلى وقتٍ قريب والوعاظ يأتون إلى الأسواق ويتكلمون، يصعدون على مكان مرتفع ويتكلمون ويعظون الناس، لكنه انقطع الآن، ما فيه إلا مسألة الإنكار، وعلى ضعفٍ شديد، والله المستعان. طالب: دخول بعض الأسواق للصالحين متميزة تجد كثير من المنكرات .... التي يكثر فيها المنكرات من أجل الإنكار؟ طالب: لا، ليس للحاجة؟ إذا لم يكن ثمّ حاجة بس لمجرد مشاهدة المنكر وعدم القدرة على إنكاره لا يجوز؛ مشاهدة المنكرات منكر مع عدم الإنكار، يعني يقيم الحجة على نفسه. طالب: ترى الأسواق يا شيخ متميزة من. . . . . . . . . .. ولو كان، ولو كان هذا ما يكفي، ما يكفي هذا، وإلا فتح الباب للسياحة ورؤية المنكرات واستمرائها وعدم إنكارها والذين جربوا هذا تساهلوا في كثيرٍ من الأمور، يعني بعد أن سافروا سياحة وفرجة ونزهة رجعوا بأفكارٍ متغيرة، تغيرت حياتهم بعد ذلك؛ لأن كثرة الإمساس تضعف الإحساس، أو تقلله وفي النهاية تقضي عليه، إذا كان الإنسان يرى هذا المنكر، هذا الشرك، ولا يستطيع إنكاره، يرى المتبرجة ولا يستطيع الإنكار عليها، ويرى الشاب يصنع ما يصنع، هذا لا بد من إنكاره أو هجره. وفي البخاري في صفته -عليه السلام-: ((ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق)) وقد تقدم في (الأعراف)، وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح، وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، خرجه البخاري، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة -إن شاء الله-، قوله تعالى: {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي: هلَّا {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} جواب الاستفهام. يعني هذا عرض وتحضيض، لولا أنزل إليه ملك.

قوله تعالى: {أَوْ يُلْقَى} [(8) سورة الفرقان] في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى {إِلَيْهِ كَنزٌ} أو هلا {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ}. يقترحون على الله -جل وعلا- أن يفعل هذا، كما اقترحوا أحد رجلين من القريتين عظيم، إما أبو جهل أو عروة بن مسعود الثقفي، فهم يقترحون وليس لهم خيرة، وليس لهم أمر، ولا مدخل لهم في هذا. {يَأْكُلُ} بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده فأن يعود الضمير عليه أبين ذكره النحاس. {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [(8) سورة الفرقان] تقدم في (سبحان) والقائل عبد الله بن الزَّبعرى فيما ذكره الماوردي. قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [(9) سورة الفرقان] أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ} [(10) سورة الفرقان] شرط ومجازاة، ولم يدغم {جَعَلَ لَكَ} لأن الكلمتين منفصلتان ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. جعلك. {وَيَجْعَل لَّكَ} في موضع جزم عطفاً على موضع {جَعَلَ} ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعاً من الأول، وكذلك قرأ أهل الشام، ويروى عن عاصم أيضاً: {وَيَجْعَل لَّكَ} بالرفع: أي سيجعل لك في الآخرة قصوراً، قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصراً كائناً ما كان، والقصر في اللغة: الحبس. يعني ولو كان صغيراً، بخلاف ما عليه عرف الناس من القصر لا يقال إلا للكبير.

والقصر في اللغة: الحبس وسمي القصر قصراً لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل: العرب تسمي بيوت الطين القصر، وما يتخذ من الصوف والشعر البيت، حكاه القشيري، وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئاً، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة فقال: ((يجمع ذلك لي في الآخرة)) فأنزل الله -عز وجل-: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [(10) سورة الفرقان]. ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: مخرج هذا؟ طالب: قال: ضعيف جداً أخرجه الواحدي مطولاً عن ابن عباس، وفيه جويبر واهٍ بمرة والضحاك لم يلق ابن عباس والخبر شبه موضوع. طيب ويروى أن هذه الآية أنزلها؟ طالب: علق عليه وقال: هذا باطل والراوي لا يعرف من هو؟ ولم ينزل بالقرآن من الملائكة إلا جبريل. هذا المعروف. وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام وهذا سفط، فإذا سفط من نور يتلألأ يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع، فقال: ((يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلي، وأن أكون عبدا صابراً شكوراً)) فقال رضوان: أصبت! الله لك .. وذكر الحديث. هذا أيضاً؟ طالب: قال: ضعيف جداً أخرجه الواحدي ...

قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} [(11) سورة الفرقان] يريد يوم القيامة، {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} يريد جهنم تتلظى عليهم، {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [(12) سورة الفرقان] أي من مسيرة خمسمائة عام، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} قيل: المعنى إذا رأيتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم، وقيل: المعنى: إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيضاً وزفيراً، حرصاً على عذابهم، والأول أصح .. لأنه لا يوجد ما يمنع من حصول هذا من جهنم نفسها –نسأل الله السلامة والعافية-. لما روي مرفوعاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً)). المحفوظ والمعروف: ((من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) وأما بهذا اللفظ ماذا قال عنه؟ طالب: قال: أخرجه الطبري مختصراً، وابن أبي حاتم. . . . . . . . . عن تفسير ابن كثير عن خالد بن بريك قال: رجل من الصحابة وإسناده غير قوي، وإن صححه ابن العربي كما نقل عنه القرطبي -رحمه الله-، فإن فيه إرسالاً، قال الذهبي في الميزان: خالد بن بريك روايته عن الصحابة مرسلة، وفيه أصبغ بن زيد وفيه كلام، وهو في الضعيفة، وحكم عليه الألباني بالضعف. إيه ضعيف واضح. قيل: يا رسول الله ولها عينان؟ قال: ((أما سمعتم الله -عز وجل- يقول: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} يخرج عنق من النار له عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول: وكّلت بكل من جعل مع الله إلهاً آخر، فله أبصر بهم من الطير بحبّ السمسم فيلتقطه))، وفي رواية: ((فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم)) ذكره رزين في كتابه .. المسمى (تجريد الأصول) رزين له كتاب اسمه: (تجريد الأصول) جمع فيه الأصول الستة، ومع ذلك هو غير موجود، ويذكر ابن الأثير شيئاً من زوائده في جامع الأصول.

وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة؛ كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكّلت بثلاث: بكل جبارٍ عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين))، وفي الباب عن أبي سعيدٍ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الكلبي: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} كتغيظ بني آدم، وصوتاً كصوت الحمار، وقيل: فيه تقديم وتأخير: سمعوا لها زفيراً، وعلموا لها تغيظاً، وقال قطرب: التغيظ لا يسمع ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظاً، وسمعوا لها زفيراً، كقول الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحا أي: وحاملاً رمحاً، وقيل: {سَمِعُوا لَهَا} أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظاً وزفيراً للمعذبين، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [(106) سورة هود] و (في) و (اللام) يتقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله. قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [(13) سورة الفرقان] قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح، ذكره ابن مبارك في رقائقه، وكذا قال ابن عباس ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبد الله بن عمرو، ومعنى {مُقَرَّنِينَ} مكتفين قاله أبو صالح، وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، وقيل: قرنوا مع الشياطين: أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه. الذي هو قرينه، وهذا قريب جداً، والقرن التقرين إنما يكون للجمع بين أكثر من شيء. قاله يحيى بن سلام، وقد مضى هذا في (إبراهيم) وقال عمرو بن كلثوم: فآبوا بالنهاب والسبايا ... وأبنا بالملوك مقرنينا يقول: أنهم رجعوا بعد هذه المقتلة، هم رجعوا بسبايا من الأموال، ورجعنا بالملوك، قرناهم وصفدناهم.

{دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي هلاكاً، قاله الضحاك وقال ابن عباس: ويلاً، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أول من يقوله إبليس، وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار، فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه، وهو يقول: واثبوراه)) وانتصب على المصدر: أي ثبرنا ثبوراً، قاله الزجاج، وقال غيره: هو مفعول به، قوله تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [(14) سورة الفرقان] فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، وقال: ثبوراً لأنه مصدر يقع للقليل والكثير، فلذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه. قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [(15) سورة الفرقان]. يعني لفظ الثبور الواحد مثل لفظ الثبور الكثير، ثبور واحد، يعني لفظه واحد، سواءً كان واحداً أو كثيراً؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. إن قيل: كيف قال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار؟ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ وقد علم أن السعادة أحب إليه، وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير .. يعني ليس من باب أفعل التفضيل؛ لأن النار لا خير فيها، فأفعل هنا خير، أصلها أخير، لكن هنا ليست على بابها؛ لأن النار لا خير فيها ولا مقارنة بينها وبين الجنة بوجهٍ من الوجوه، والأصل في أفعل التفضيل أنه يكون بين شيئين يشتركان في وصف يفوق أحدهما الآخر في هذا الوصف.

قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال: فشركما لخيركما الفداء، قيل: إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلين، وقيل: هو مردود علي قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ} [(10) سورة الفرقان] .. الآية، وقيل: هو مردود على قوله: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [(8) سورة الفرقان] وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيراً. يعني بلسان الحال وإن لم يكن بلسان المقال، فلما عملوا لها كأنهم زعموا أو ظنوا أن فيها خيراً. قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ} [(16) سورة الفرقان] أي من النعيم، {خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا} [(16) سورة الفرقان] قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاءً على أعمالهم فسألوه ذلك الوعد فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} [(194) سورة آل عمران] وهو معنى قول ابن عباس وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة دليله قوله تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم} [(8) سورة غافر] .. الآية، وهذا قول محمد بن كعب القرظي، وقيل معنى {وَعْدًا مَسْؤُولًا} أي واجباً وإن لم يكن يسأل كالدين، حكي عن العرب: لأعطينك ألفاً، وقيل: {وَعْدًا مَسْؤُولًا} يعني أنه واجب لك فتسأله، وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا، وأعطاهم ما طلبوا، وهذا يرجع إلى القوم الأول. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، يكفي هذا. طالب:. . . . . . . . . على كل حال، لهم فيها ما يشاءون، وما يطلبون، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الإنسان إذا دخلها ما عليه. . . . . . . . . طالب: بعضهم يتوسع في بعض. . . . . . . . . على كل حال التوسع، أقول: فضل الله أوسع. اللهم صل على محمد وعلى آله.

سورة الفرقان من آية 17 - 27

تفسير القرطبي تفسير (سورة الفرقان) (من آية 17 - 27) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [(17 - 19) سورة الفرقان]. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري: {يَحْشُرُهُمْ} بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله في أول الكلام: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} [(16) سورة الفرقان] وفي آخره: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء} [(17) سورة الفرقان] والباقون بالنون على التعظيم. قراءة الياء مناسبة لقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} [(16) سورة الفرقان] وقراءة النون مناسبة للآخر: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء} [(17) سورة الفرقان] والنون هذه للتعظيم والتأكيد، والعرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجماعة. {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [(17) سورة الفرقان] من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير قاله مجاهد وابن جريح، وقال الضحاك وعكرمة: الأصنام {فَيَقُولُ} [(17) سورة الفرقان] قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم، {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [(17) سورة الفرقان] وهذا استفهام توبيخ للكفار، {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [(18) سورة الفرقان] أي قال المعبودون من دون الله: سبحانك: أي تنزيهاً لك.

{مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تُعبد تُحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل، وقرأ الحسن وأبو جعفر: (أن نُتخَذ) بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول، وقد تكلم في هذه القراءة النحويون، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا يجوز (نُتخذ)، وقال أبو عمرو: لو كانت (نُتخذ) لحذفت (من) الثانية فقلت: أن نتخذ من دونك أولياء، كذلك قال أبو عبيدة: لا يجوز (نُتخذ)؛ لأن الله تعالى ذكر (من) مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء، وقيل: إن (من) الثانية صلة، قال النحاس: ومثل أبي عمرو علي جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة وشرح ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلاً ولياً، فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه، ثم يقال: ما اتخذت من رجل ولياً فيكون نفياً عاماً، وقولك: ولياً تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه من؛ لأنه لا فائدة في ذلك. لكن القراءة الأولى {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [(18) سورة الفرقان] ينزهون الله -جل وعلا- عمّا نسب إليهم من عبادتهم من دونه {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} [(18) سورة الفرقان] هذه القراءة هي الثابتة، وهي المتواترة، وأما قوله في قراءة: (ما كان ينبغي لنا أن نُتخذ) هم اتخذوا، أما كونهم لا ينبغي لهم أن يتخذوا، هذا كلام صحيح، جواب صحيح، لا يتخذون إلهاً من دون الله، ولا ولياً من دونه، لكن كونهم يتخذون أولياء من دون الله –اُتخذوا- ولذا يقول في أوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [(17) سورة الفرقان] المقصود أنهم عُبدوا من دون الله. {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ} [(18) سورة الفرقان] أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم، {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطراً وجهلاً فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك، وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل، تركوا العمل به، قاله ابن زيد.

الثاني: الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي هلكى، قاله ابن عباس مأخوذ من البوار وهو الهلاك، وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه- وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص هلمّ إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون؟! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيداً، وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً، فقوله: {بُورًا} أي هلكى. يعني ليس عندهم ما ينكر إلا ما ذكر، ليس عندهم ما ينكر إلا ما ذكر، وإن كان ما ذكره يعني إنكاره لا شك أنه مزيد في التحري والحرص عليهم، وإن كان في الجملة لا ينكر، يقول: ما لكم لا تستحون، تبنون ما لا تسكنون، من يلوم على البناء اليوم؟ وتجمعون ما لا تأكلون، من يلوم على مثل هذا اليوم؟ وتأملون ما لا تدركون، ثم بعد ذلك بيّن لهم حال من تقدم، بنوا مشيداً، وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، يعني هل هذه منكرات تنكر بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب على أهل بلدٍ بأكمله يدعوهم ويناديهم ثم يقول لهم ما ذكر؟ وما ذلك إلا لأن المعاصي لم تكن موجودة أو ما وجد منها لم يكن ظاهراً يجاهر به، فالذي ينكر مثل هذه الأمور اليوم مع وجود المنكرات المحققة التي فيها النصوص الصحيحة الصريحة لا شك أن إنكار المنكر الذي فيه مخالفة صريحة للنص هو الذي ينبغي إنكاره، أما مثل هذا فلا يلجأ إلى إنكاره إلا إذا لم يوجد المنكر الذي فيه المخالفة، يعني إنكار بالعموم، وبترك الأولى، ينكر عليهم لأن ما فعلوه خلاف الأولى، لا لأنه محرم، فالذي يبني قصر يقال له: حرام عليك تبني؟ الذي يشيد مسكناً له يرتاح فيه هو وأسرته لا ينكر عليه إلا إذا دخل في حيّز السرف.

وأما بالنسبة لمن جمع ما لا يأكل، جمع الأموال الطائلة على وجهٍ من وجوهها الشرعية، وأنفق منها ما يجب عليه، وادخر الباقي لا يلام إذا لم يحبس ما أوجب الله عليه، لكن هذا من باب الكمال لأولئك الأقوام الذين لا توجد عندهم منكرات، وقد يقال: إن هذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهؤلاء عندهم سيئات لكن لو كانت عند غيرهم صارت حسنات بالنسبة لهم؛ لأنهم يزاولون منكرات صريحة حرمت بالنصوص كما هو واقع كثير من المسلمين اليوم، والله المستعان. وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بوراً: أي خاليةً لا شيء فيها، وقال الحسن {بُورًا} لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير، وقال شهر بن حوشب: البوار الفساد والكساد، مأخوذ من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد، ومنه الحديث: ((نعوذ بالله من بوار الأيم)). إيش قال في الحديث؟ طالب: قال: لا أصل له في المرفوع وإنما هو من كلام. . . . . . . . . وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، قال ابن الزبعرى: يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنا بورُ إذا أباري الشيطان في سنن الغي ... ومن مال ميله مثبورُ وقال بعضهم: الواحد: بائر والجمع: بور، كما يقال: عائذ وعوذ، وهائد وهود، وقيل: {بُورًا} عمياً عن الحق، قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ} [(19) سورة الفرقان] أي قول الله تعالى عند تبرئ المعبودين. {فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ} أي في قولكم إنهم آلهة، {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولا نصركم، وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون {صَرْفًا} للعذاب {وَلَا نَصْرًا} من الله ..

ولا يستطيعون أيضاً تكذيب الآلهة الذين عبدوهم من دون الله، لا يستطيعون تكذيبهم؛ لأنهم هم المعبودون ويدعى فيهم أنهم آلهة فقالوا: لسنا بآلهة، هل يستطيع أحد أن يقول: أنك كذا وأنت تقول: لا، أنا لست بكذا؟ اللهم إلا إذا كان نفي الشيء على سبيل التواضع وهضم النفس، يعني لو قيل: أنت شيخ أو أنت عالم مثلاً، وقال: لا، أنا لست بعالم، يعني إذا كان من هذا الباب يمكن أن يقال: بلى، أما إذا قيل: قالوا هم آلهة، وقول الناس: لسنا بآلهة، هذا لا يمكن نفيه. وقال ابن زيد: المعنى فقد كذبهم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد، وعلى هذا فمعنى {بِمَا تَقُولُونَ} [(19) سورة الفرقان] بما تقولون من الحق، وقال أبو عبيد: المعني فيما تقولون فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق .. طالب: الآن يا شيخ قراءة تستطيعون؟ قراءة المؤلف غير القراءة التي نعتمدها، الذين أدخلوا القرآن في التفسير أدخلوا القراءة التي تختلف عن قراءة المؤلف، معروف أن القرآن المطبوع مع التفسير هو مصحف فاروق –على ما يقولون- هذا مصحف فاروق وعلى رواية عاصم، والمفسر ماشي على قراءة قالون، فتختلف، ولذلك الذي يطبع الكتب يلزمه أن يتركها على وضعها، ما يدخل فيها شيء لم يدخله المؤلف؛ لأن المؤلف قصداً حَذَفَ، ولذلكم المجلد الأول والثاني من الطبعة الأولى ما فيها آيات، ماشي على وضع المؤلف، ثم بعد ذلك الطبعة الثانية رأوا إدخال الآيات، أدخلوا الآيات من باب التيسير على القارئ، لكن مع ذلك إذا تصرف إنسان في كتاب عليه أن ينظر إلى ما يوافق الكتاب. يعني لما طبع فتح الباري والأصل أن فتح الباري مجرد عن الأحاديث، طبع معه البخاري، وليتهم إذ تصرفوا وأدخلوا الكتاب وابن حجر قاصد حذف الأحاديث، جاؤوا بالرواية التي توافق ما شرحه الحافظ، ومثل هذا في سبل السلام وغيره من الكتب التي ليس فيها المتن، وأولى من عملهم هذا في الإدخال أن يوضع فوق مثلاً في القرآن فوق يوضع ويوضع خط تحته ثم يذكر التفسير، بمعنى أنه لا يمزج بالتفسير لئلا يوجد اضطراب.

وقال أبو عبيد: المعني فيما تقولون فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصراً لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم، وقراءة العامة {بِمَا تَقُولُونَ} [(19) سورة الفرقان] بالتاء على الخطاب وقد بيَّنا معناه، وحكى الفراء أنه يقرأ: (فقد كذبوكم) مخففاً (بما يقولون) وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى: (يقولون) بقولهم، وقرأ أبو حيوة بـ (ما يقولون) بياء، (فما تستطيعون) بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء، ومن قرأ بالياء فالمعنى: فما يستطيع الشركاء، {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} [(19) سورة الفرقان] قال بان عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه. والشرك، الشرك ظلم عظيم، كما في قول العبد الصالح لقمان الذي ساقه الله -جل وعلا- في سورته، هنا صرف الظلم إلى الشرك، والشرك – نسأل الله السلامة والعافية – هو الظلم العظيم، وهو الظلم المطلق الذي لا خير معه، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [(82) سورة الأنعام] قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: بشرك ((ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [(13) سورة لقمان] ولهذا اقتصر عليه هنا، ودليله جواب الشرط {نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [(19) سورة الفرقان] نذقه على سبيل الجواب للشرط، لكن الذي يظلم العباد في أموالهم وفي أعراضهم وفي أبدانهم هذا إن لم يعف الله عنه ويتجاوز عنه ويرضي خصومه ينال مثل هذا الجزاء؛ لأنه متوعد بالعقاب، وعلى كل حال الشرك هو الظلم العظيم بل الأعظم، ثم يليه أنواع من الظلم. قال بان عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه {نُذِقْهُ} أي في الآخرة، {عَذَابًا كَبِيرًا} أي شديداً، كقوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [(4) سورة الإسراء] أي شديداً، قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [(20) سورة الفرقان] فيه تسع مسائل:

الأولى: قوله تعالى {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [(7) سورة الفرقان]، وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفاقة وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} .. الآية حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك، فنزلت تعزيةً له، فقال جبريل -عليه السلام-: السلام عليك يا رسول الله، الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [(20) سورة الفرقان] أي يبتغون المعايش في الدنيا. يعني كغيرهم من البشر، فهم بشر ينتابهم ما ينتاب البشر، ويحتاجون ما يحتاج إليه البشر. الثانية: قوله تعالى: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [(20) سورة الفرقان] إذا دخلت اللام لم يكن في (إن) إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضاً إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة. إذا دخلت اللام وهي تفيد التأكيد لم يكن إلا الكسر –كسر النون التي تكون للتأكد المحض- أما لو دخلت اللام وفتحت الهمزة –همزة أن- صار فيه شيء من التنافر، تأكيد وعدم تأكيد، فلا بد من أن يتسق الحرف مع جوابه.

هذا قول جميع النحويين، قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن زيد قال: يجوز في (إنّ) هذه الفتح وإن كان بعدها اللام وأحسبه وهماً منه، قال أبو إسحاق الزجاج: وفي الكلام حذف والمعنى (وما أرسلنا قبلك رسلاً إلا إنهم ليأكلون الطعام) ثم حذف رسلاً؛ لأن في قوله: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [(20) سورة الفرقان] ما يدل عليه، فالموصوف محذوف عند الزجاج، ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء، قال الفراء: والمحذوف (من) والمعنى: (إلا من إنهم ليأكلون الطعام) وشبهه بقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [(164) سورة الصافات]، وقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [(71) سورة مريم] أي: ما منكم إلا من هو واردها، وهذا قول الكسائي أيضاً، وتقول العرب: ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك، فقولك: إنه ليطيعك صلة (مِن) .. صلة (مَن) التي هي الموصول. صلة (مَن)، قال الزجاج: هذا خطأ لأن (مَن) موصلة فلا يجوز حذفها، وقال أهل المعاني: المعنى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون) دليله قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [(43) سورة فصلت]. أما قوله: لا يجوز حذف الموصول فقد جاء ما يدل على حذفه، كما في قول الشاعر: أمنتِ وهذا تحملين طليق. يعني وهذا الذي تحملينه طليقُ، حذف الموصول هنا لدلالة السياق عليه. وقال ابن الأنباري كسرت {إِنَّهُمْ} بعد (إلا) للاستئناف بإضمار واو: أي إلا وإنهم، وذهبت فرقة إلى أن قوله: {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [(20) سورة الفرقان] كناية عن الحدث.

نعم، ليس المقصود الطعام نفسه، وإنما هو كناية لما يعقبه من الحدث؛ لأنه قد يقال: هذا نبي مرسل من قبل الله -جل وعلا- فإذا افترضنا أنه يأكل مثلما يأكل الناس لكن كيف يتصرف هذا الأكل بعد ذلك، وهذا نقص ولا شك أن هذا باعتباره بشر هو مثل البشر يأكل وينتج منه ما ينتج من غيره، فهو كناية عن الحدث، هم لا يريدون الأكل لذاته؛ لأن الأكل لا عيب فيه، اللهم إلا من جهة الحاجة إليه، والرسول على حد زعمهم ينبغي أن لا يكون محتاجاً، فبيّن الله -جل وعلا- {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [(20) سورة الفرقان] ومع ذلك يلزم منهم ما يلزم غيرهم من الفضلة. قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [(75) سورة المائدة]، {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [(20) سورة الفرقان] قراءة الجمهور {يَمْشُونَ} بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين، وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى: يمشون، قال الشاعر: ومشَّى بأعطان المباءة وابتغى ... قلائص منها صعبة وركوب وقال كعب بن زهير: منه تظل سباع الجو ضامرة ... ولا تمشِّي بواديه الأراجيل بمعنى: تمشي.

الثالثة: هذه الآية أصل في تناول الأسباب، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك، وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء -عليهم السلام- إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء، فقلت مجيباً له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف، فقال وقوله الحق: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [(80) سورة الأنبياء] وقال: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [(20) سورة الفرقان] قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي)) وقال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [(69) سورة الأنفال]، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتجرون ويحترفون، وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون، أتراهم ضعفاء؟! بل هم كانوا -والله- الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء، قال: إنما تناولها لأنهم أئمة الاقتداء فتناولها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا، وبيان ذلك أصحاب الصفة. يريد أن الأنبياء –هذا القائل المدعي الشيخ- يريد أن الأنبياء لا يتناولون أسباباً من أجلهم، وإلا لو كان المقصود هم ما تناولوا الأسباب؛ لأن الله يكفيهم ما يريدون ويحتاجون، وإنما يفعلون الأسباب من أجل الضعفاء ليقتدوا بهم، طيب كبار الصحابة وسادات الأمة، أبو بكر وعمر، هل يصنفون من الضعفاء أو من الأقوياء؟ لا شك أنهم من الأقوياء وليسوا من الضعفاء، من الجلة، من السادة، فليسوا من الضعفاء، وهم يقتدون بنبيهم -عليه الصلاة والسلام- في ذلك، يقول: حتى هؤلاء الأقوياء إنما يعملون من أجل الضعفاء، ويتسلسل الأمر والكلام لا وجه له، بل هم مطالبون ببذل الأسباب كغيرهم.

قلت: لو كان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان كما ثبت في القرآن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [(44) سورة النحل] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [(159) سورة البقرة] .. الآية، وهذا من البيان والهدى، وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان -عليه السلام- إذا أتته صدقة خصَّهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وصفهم البخاري وغيره، ثم لما افتتح الله عليهم البلاد، ومهّد لهم المهاد، تأمروا، وبالأسباب أمروا، ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ لأنهم أيدوا بالملائكة وثبَّتوا بهم فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة، وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر، نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله وهو الحق المبين، والطريق المستقيم، الذي انعقد عليه إجماع المسلمين، وإلا كان يكون قوله الحق: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [(60) سورة الأنفال] .. الآية، مقصوراً على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك، وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} [(63) سورة الشعراء] وقد كان قادراً على فلق البحر دون ضرب عصا، وكذلك مريم -عليها السلام-: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [(25) سورة مريم] وقد كان قادراً على سقوط الرطب دون هزٍّ ولا تعب، ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يُلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرمه بكرامةٍ في خاصة نفسه، أو لأجل غيره، ولا نهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجَمِلية. الجُمْلِية. ولا نهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجُمْلِية، هيهات هيهات ..

يبقى أن الأصل هو فعل الأسباب، وأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، لا بد من بذل الأسباب، لكن كون هذه العادة المضطردة قد تُخرق لبعض الناس فيحصل له رزق بدون سبب، هذا لا شك أنه على خلاف الأصل إنما وجد لحاجة لنفس من حصلت على يديه، أو لتثبيت من يتبعه من أجل أن تُصدّق دعوته، وهذه الأمور التي تخرق العادات إن اقترنت بدعوى النبوة فهي المعجزة، وإن كانت على يد من هو على سنن الكتاب والسنة -على الجادة- فهي الكرامة وإلا فهي من الخوارق الشيطانية التي تحصل على يد بعض الناس مع مخالفتهم للكتاب والسنة من أجل الابتلاء بهم والامتحان، والله المستعان. هيهات هيهات، لا يقال: فقد قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [(22) سورة الذاريات] فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل، بدليل قوله: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا} [(13) سورة غافر] وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [(9) سورة ق] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك، وهو معنى قوله -عليه السلام-: ((اطلبوا الرزق في خبايا الأرض)) أي بالحرث والحفر والغرس. إيش قال عنه؟ طالب: قال: واهٍ بمرة، أخرجه أبو يعلى والديلمي وابن حبان في المجروحين من حديث عائشة ومداره على هشام بن عبد الله قال ابن حبان: يروي ما لا أصل له، وقال النسائي: هذا حديث منكر، وقال ابن الجوزي: قال ابن طاهر: لا أصل له، إنما هو من كلام عروة، والألباني في الضعيفة قال منكر.

وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقاً لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب، وقال -عليه السلام-: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحداً أعطاه أو منعه)) وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب، ولو قدِّر رجل بالجبال منقطعاً عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام، وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به، وهو معنى قوله -عليه السلام-: ((لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) فغدوُّها ورواحها سبب. يعني ما قال: تجلس في أوكارها، مع هذا التوكل العظيم ما قال: تجلس في أوكارها وترزق، نعم إذا عطّلت هذه الطيور أو غير الطيور مما تبذل به السبب، لو افترضها أن طائر ليس له جناح فلا يستطيع الطيران وليس له ما يتسبب به، فقد وجد في بعض الأحوال أن الله -جل وعلا- يهيئ له ويسبب له ما يقتات منه، ولو لم يتسبب هو؛ لأنه محروم مما يتسبب به. وقصص في كتب العلماء كثيرة بأن الطائر الفلاني لا يطير مثلاً وأعمى لا يرى، أو الحيوان الفلاني يؤتى له بما يتغذى به، أو يأتيه رزقه في مكانه، كما أنه حصل مثل هذا لبعض الأولياء، أولياء الله -جل وعلا-، كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، وإلا فالأصل أن بذل السبب هو السنة الإلهية. فغدوُّها ورواحها سبب، فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم.

هذا يجلس يتكفف الناس ويسألهم وهذا ليس من التوكل، إنما هو من التأكل، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-، هو مع ذلك بذل السبب ولم يتوكل، يعني بذل سبب غير شرعي، لكن لو بذل السبب الشرعي؛ لأن تكفف الناس وسؤال الناس منهي عنه، هو تسبب وبذل هذا السبب وفي زعمه أنه معطل للأسباب توكلاً على الله -جل وعلا-، نقول: نعم، أنت عطلت الأسباب المشروعة، وسلكت أسباب ممنوعة، فبدلا ًمن أن تعمل وتشتغل وتكدح من أجل طلب الرزق جلست تتكفف الناس وهذا سبب، يعني هلا جلست في بيتك لترى هل ينزل عليك شيء من السماء كرامةً لك أو لا؟ أنت جلست في طريق الناس تسألهم وتتكففهم، وهذا سبب إلا أنه غير شرعي إلا عند الانقطاع وبذل الأسباب، وعدم حصول ما تقوم به الحياة حينئذٍ يباح لك أن تسأل الناس. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجُّون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ} [(197) سورة البقرة] ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقاً، والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه، ويجمع عليه أربه، ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر، وهذا هو الحق، سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال: إني أريد الحج على قدم التوكل، فقال: اخرج وحدك فقال: لا إلا مع الناس، فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم. والأجربة جمع جراب وهو الذي يوضع فيه المتاع، فهو متوكل على هذه الأجربة، وما فيها من أمتعة، فلا شك أن الأسباب تعطيلها خلل في العقل، والاعتماد عليها خلل في الشرع، يعني ضعف في الديانة، الاعتماد عليها دون الله -جل وعلا-، وكونها مؤثرة هي مؤثرة لكن ليست بذاتها، خلاف المعتزلة الذين يقولون: أن الأسباب مؤثرة بذاتها ولا معطلة عن التأثير كما يقول الأشعرية، بل هي مؤثرة والذي جعل فيها التأثير هو الله -جل وعلا-. وقد أتينا على هذا في كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة، وردِّ ذل السؤال بالكسب والصناعة).

الرابعة: خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) وخرج البزار عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته)) أخرجه أبو بكر البرقاني مسنداً عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرخ)) عاصم بن أبي النجود؟ طالب: الحديث الذي قبله، قال المحقق: أخرجه الطبراني في الكبير، والخطيب وابن حبان في المجروحين، وابن الجوزي في الواهيات، من حديث سلمان وأعله ابن الجوزي بيزيد بن سفيان، وقال: هذا حديث لا يصح، قال ابن حبان: يزيد. . . . . . . . . عن سليمان التيمي نسخة مكذوبة، الخ كلامه، ثم عزاه إلى الإمام مسلم، والحديث في صحيح مسلم. في صحيح مسلم؟ مفروغ منه، ما قال في الحديث الأول صحيح؟ لكن: ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها)) طالب: حديث: ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ... )) هذا المحقق ما عزاه إلى مسلم، وهو في صحيح مسلم. لا لا، أحب البلاد إلى الله مساجدها، هذا الذي في صحيح مسلم. طالب: وهذا في صحيح مسلم أيضاً. أيه؟ طالب: حديث: ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته)) في صحيح مسلم. . . . . . . . . . . . . . . . . . رقم مائة، في فضائل أم سلمة. إذن خرجه هو والبزار، يعني مسلم والبزار، كأنها سقطت سهواً. طالب: موجود في رياض الصالحين وعزاه النووي إلى مسلم. والثاني الأخير؟ طالب: الثاني قال: هذه الرواية عند الطبراني فقط. ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان .. في هذه الأزمان يعني في القرن السابع، فكيف لو رأى ما عليه الحال في أسواق المسلمين اليوم؟ والله المستعان.

وهكذا قال علماؤنا: لما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيها المناكر كُره دخولها لأرباب الفضل، والمقتدى بهم في الدين؛ تنزيهاً لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها. هذا مع عدم الإنكار، هذا إذا لم يمكن الإنكار، أما مع وجود الإنكار وتخفيف المنكرات فيتعين على بعض الناس أن يدخل لينكر وليغير المنكر، نعم وهذا فرض كفاية على الأمة، تغيير المنكر لا بد منه ((من رأى منكم منكراً فليغيره)) ولو هجرت هذه الأماكن وتركت للأشرار لاستفحل أمرها، وزاد شرها، ثم بعد ذلك لا يستطاع إنكارها، والله المستعان. طالب: التجول في السوق بلبس البشت. . . . . . . . .؟ لا بد من الإنكار، إذا رؤي المنكر لا بد أن يغير باليد إن أمكن وإلا فباللسان، بعض الإخوان يقول: لو -وهذا مجرب- يعني لو أن الإنسان الذي هيأته حسنة، لحيته مثلاً وافية، ومنظره جميل شرعي، ثوبه قصير ولحيته وافية، ولباسه يعني مناسب، ولو لم يتكلم يغشى هذا الأماكن يحصل خير في مجرد مروره لا سيما في المحافل التي تُغلق بالأبواب كالمستوصفات وما أشبهها يعني مجرد دخوله ومروره بالسيب وخروجه يوجد رعب في قلوبهم، والذي عنده نية شر ينكف عنها، وإلا ففيها شر مستطير، هذه المستوصفات لا سيما الأهلية فيها شر، نسأل الله السلامة والعافية؛ لأنه يفسح لبعض الناس وهم ليسوا بأكفاء وليسوا على قدرٍ من الديانة ما يردعهم عن مزاولة بعض المنكرات، وتعرفون أن الأماكن التي يختلط فيها الرجال والنساء تزداد فيها الشرور –نسأل الله السلامة-. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان، ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته. الخامسة: تشبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- السوق بالمعركة تشبيه حسن، وذلك أن المعركة موضع القتال سمي بذلك؛ لتعارك الأبطال فيه، ومصارعه بعضهم بعضاً، فشبَّه السوق وفعل الشيطان بها، ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة، والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك، بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.

السادسة: قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة، ومن الأحاديث الموضوعة: ((الأكل في السوق دناءة)). قال بعضهم لا يدخل السوق إلا سوق الكتب والسلاح، يعني ما يدخل إلا سوق الكتب ليشتري من الكتب ما يفيد منه لا سيما إذا كان ممن ينتسب إلى طلب العلم، وكذلك السلاح الذي يحتاجه لقتال عدوه، وهناك أيضاً أمور يحتاج إليها أكثر من حاجته إلى الكتب والسلاح، كالطعام والشراب واللباس وغير ذلك، فيدخل من الأسواق ما يحتاج إليه، فخلاف ما لا يحتاج إليه إلا بنيّة الإنكار، إذا دخل هذه الأسواق بنية الإنكار فهو مأجور على هذا -إن شاء الله تعالى-. قلت: ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعمَّا هو، فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن، إذ ليس بذلك من حاجتهن. لكن الآن صار من حاجتهن، المكتبات الآن تعجّ بالنساء، مملوءة بالنساء، ووضع لهن أيام يدخلن المكتبات، بل وضع للأسر والعوائل وجلّ النساء لسن من أهل الكتب، ويكفيهن من ذلك البلغة، لكن كثير منها تتذرع بالخروج إلى المكتبة، وهي تذهب للتمشية والفرجة –والله المستعان-. إذ ليس بذلك من حاجتهن وأما غيرهما من الأسواق فمشحونة منهن، وقلة الحياة قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدةً متبرجةً بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا -نعوذ بالله من سخطه-. هذا منذ أكثر من سبعمائة عام، وإلى عهدٍ قريب وخروج النساء يسير وقليل جداً بالنسبة إلى ما يوجد اليوم امتثالاً لقول الله -جل وعلا-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [(33) سورة الأحزاب] ومع ذلك إذا خرجت المرأة سواء كانت في العهد القريب الذي أدركناه أو كان على عهد المؤلف لا شك أن هذه الملابس التي تفتن الرائي غير موجودة عندهم؛ لأن اللباس يتطور ما هو ... يعني لا تتصور أن لباساً قبل سبعمائة سنة مثل لباس اليوم؟ حتى ولو مثل لباس قبل أربعين وخمسين سنة الذي يوجد في بلادنا وفي غيرها من البلدان.

المقصود أن اللباس يتطور ويخشى أن يزيد تطوره على حد زعمهم إلى أن يصل إلى لا شيء، وكثير من نساء المسلمين الآن في أسواقهم وفي محافلهم تمشي كاسيةً عارية –نسأل الله السلامة والعافية-، وبعض النساء بلباسها أشد فتنةً من عدمه، وهذا القرطبي يتوجّع مما حصل في زمانه قبل سبعمائة سنة، فكيف لو رأى ما عليه نساء المسلمين اليوم حتى من نساء من ينتسب إلى العلم، أو منهن من تنتسب إلى العلم؟ فكيف إذا كان هذا موجوداً في أقدس البقاع، يعني في الحرمين وما حواليهما وفي المساجد، وقد تأتي المرأة لصلاة التهجد في العشر الأواخر ومع ذلك متبرجة ومتطيبة ومع سائقٍ أجنبي، هذا تناقض وتنافر شديد، لو جلست في بيتها ولم تصل كان أفضل لها، فكيف إذا صلت في بيتها وبيتها خير لها –والله المستعان-. السابعة: خرج أبو داود الطيالسي في مسنده، حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: ((من دخل سوقاً من هذه الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له قصراً في الجنة)) خرجه الترمذي أيضاً وزاد بعد: ((ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة)) وقال: هذا حديث غريب. هذا حديث السوق مضعف عند أهل العلم، أكثر أهل العلم على تضعيفه، وبعضهم يجعله من قبيل الحسن، لا سيما في مثل هذا الباب الذي هو باب الترغيب لا يشتمل على حكم شرعي، وإنما هو من باب الفضائل التي يقبل فيها مثل هذا عند الجمهور. قال ابن العربي: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه؛ ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذا عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة، ويذكر الناسين.

الثامنة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [(20) سورة الفرقان] أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنةً لبعض على العموم في جميع الناس، مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني، ومعنى هذا أن كل واحدٍ مختبر بصاحبه، فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسه ولا يخسر منه، والفقير ممتحن بالغني عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق كما قال الضحاك في معنى: {أَتَصْبِرُونَ} أي على الحق، وأصحاب البلايا يقولون: لمَ لمْ نعاف؟ والأعمى يقول: لمَ لمْ أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل، ألا ترى إلى قولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [(31) سورة الزخرف] يعني من مكة أو الطائف، من القريتين مكة أو الطائف ويعنون بذلك أبا جهل وعروة بن مسعود الثقفي، يقترحون على الله -جل وعلا- أن لو أرسل بدل محمد -عليه الصلاة والسلام- من هذه القريتين رجل عظيم لا رجل يتيم، لكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وأما بالنسبة للابتلاء، ابتلاء الناس بعضهم ببعض فهذا ظاهر، فالفقير مبتلى بالغني، فعليه ألا يحسده ولا يسعى في ضره، وكذلك الغني مبتلى بالفقير كما قال المؤلف عليه أن يواسيه من ماله ولا يبخل عليه، وكذلك العالم بالطالب، والطالب بالعالم، وكل نوعين متضادين مبتلىً بعضهما ببعض، ولكل منهما ما يخصه من خطاب الشرع. فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى، والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه هذا عن البطر وذاك عن الضجر، {أَتَصْبِرُونَ} محذوف الجواب يعني أم لا تصبرون؟ فيقتضي جواباً كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصياً في مراكب ومناكب فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية: {أَتَصْبِرُونَ} فقال: بلى ربنا نصبر ونحتسب، وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر.

وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، وبعضهم لبعض فتنة، وهو قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [(20) سورة الفرقان])) أسنده الثعلبي، تغمده الله برحمته. إيش قال؟ طالب: قال: عزاه المصنف -رحمه الله- للثعلبي عن أبي الدرداء مرفوعاً، وأخرجه أبو نعيم بهذا التمام على التقديم والتأخير، وأبو يعلى من حديث أنس وإسناده منقطع، والأعمش لم يسمع من أنس -رضي الله عنه- فالإسناد ضعيف، والأشبه فيه الوضع، وهو في ضعيف الجامع. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة، ومهجعاً مولى عمر بن الخطاب، وجبراً مولى الحضرمي، وذويهم فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؟ فالتوقيف بـ {أَتَصْبِرُونَ} خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين أي اختباراً لهم ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [(111) سورة المؤمنون]. التاسعة: قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [(20) سورة الفرقان] أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، وبمن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي، وقيل: {أَتَصْبِرُونَ} أي اصبروا، مثل: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [(91) سورة المائدة] أي انتهوا، فهو أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبر، قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} [(21) سورة الفرقان] يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك، قال:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواملُ وقيل: {لَا يَرْجُونَ} [(21) سورة الفرقان] لا يبالون، قال: لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي بمناسبة ذكر النحل ولسع النحل مع الصبر، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهو في صلاته لسعته نحلة في بضعة عشر موضعاً من جسده وهو يصلي وما شعر بذلك، لم يشعر بذلك ممن حوله أحد، فلما قيل له: لمَ لمْ تقطع صلاتك؟ لأنه لما سلم صار جسده كله متغير، كله أورام من إثر هذه اللسعات فقال: إنه افتتح سورة فكره أن يقطعها، والله المستعان، وواحد من طلاب العلم قطع صلاته من أجل سلك رفيع جداً يتدلى من ثوبه ويمر على رجله، هذه حقيقة ما هي ... يعني وجد من الإمام البخاري هذا، ووجد أيضاً مقابله من شخص من طلاب العلم المعروفين يعني ما هو نكرة، سلك رفيع يتدلى من ثوبه ويمس رجله رايح جاي، ظنه حشرة وإلا شيء فقطع صلاته، ولم يتأذى بذلك لكن الله يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [(4) سورة الليل]. قال ابن شجرة: لا يأملون، قال: أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جدة يوم الحساب {لَوْلَا أُنزِلَ} [(21) سورة الفرقان] أي هلا أنزل، {عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} فيخبروا أن محمد صادق، {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} عياناً فيخبرنا برسالته، نظيره قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا} [(90) سورة الإسراء] إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} [(92) سورة الإسراء] قال الله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا} حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار فلا عين تراه. يعني في الدنيا، وأما في الآخرة فالمؤمنون يرون ربهم -جل وعلا-، {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [(103) سورة الأنعام] يعني لا تحيط به، وهذا في الدنيا كما هو معلوم، وحمله على الآخرة متجه؛ لأن الإدراك قدر زائد على مجرد الرؤية، الإدراك المراد به الإحاطة من جميع الجهات.

وقال مقاتل: {عُتُوًّا} علواً في الأرض، والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم وإذا لم يكتفوا بالمعجزات، وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولا بد لهم من معجزة يقيمها من يدعي أنه ملك، وليس للقوم طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة، وأن {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [(22) سورة الفرقان] يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت، فتبشِّر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم. {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} يريد تقول الملائكة: حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وأقام شرائعها، عن ابن عباس وغيره وقيل: إن ذلك يوم القيامة، قاله مجاهد وعطية العوفي، قال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة، وانتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} [(22) سورة الفرقان] بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة، و {يَوْمَئِذٍ} [(22) سورة الفرقان] بأكيد لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ} [(22) سورة الفرقان] قال النحاس: لا يجوز أن يكون {يَوْمَ يَرَوْنَ} منصوبا بـ {بُشْرَى} [(22) سورة الفرقان] لأن ما في حيِّز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة، ودل على هذا الحذف ما بعده، ويجوز أن يكون التقدير: لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و {يَوْمَئِذٍ} مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم ابتدأ فقال: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} [(22) سورة الفرقان] أي وتقول الملائكة: حراماً محرماً أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين، قال الشاعر: ألا أصبحت أسماء حجراً محرماً ... وأصبحت من أدنى حموتها حما أراد: ألا أصبحت أسماء حراماً محرماً، وقال آخر: حنت إلى النخلة القصوى فقالت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس

وروي عن الحسن أنه قال: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا} [(22) سورة الفرقان] وقف من قول المجرمين، فقال الله -عز وجل-: {مَّحْجُورًا} [(22) سورة الفرقان] عليهم أن يعانوا أو يجاروا فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة، والأول قول ابن عباس، وبه قال الفراء، قاله ابن الأنباري، وقرأ الحسن وأبو رجاء: (حُجراً) بضم الحاء، والناس على كسرها، وقيل: إن ذلك من قول الكافر قالوه لأنفسهم قاله قتادة فيما ذكر الماوردي، وقيل: هو قول الكفار للملائكة، وهي كلمة استعانة، وكانت معروفةً في الجاهلية، فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال: حجراً محجوراً: أي حراماً عليك التعرض لي، وانتصابه على معنى: حجرت عليك أو حجر الله عليك كما تقول: سقياً ورعياً: أي إن المجرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا: نعوذ بالله منكم، ذكره القشيري وحكى معناه المهدوي عن مجاهد. وقيل: {حِجْرًا} من قول المجرمين و {مَّحْجُورًا} من قول الملائكة: أي قالوا للملائكة: نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا، فتقول الملائكة: {مَّحْجُورًا} أن تعاذوا من شر هذا اليوم قاله الحسن، قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [(23) سورة الفرقان] هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة، أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل برٍ عند أنفسهم، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا: أي قصده، وقال مجاهد: {قَدِمْنَا} [(23) سورة الفرقان] أي عمدنا، وقال الراجز: وقدم الخوارج الضلال إلى ... عباد ربهم فقالوا إن دماءكم لنا حلالُ وقيل: هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى. {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [(23) سورة الفرقان] وذلك لتخلف الشرط - شرط القبول- وهو الإيمان، إذا تخلف الشرط ما نفع العمل، وقد يجازون عليه في دنياهم، لكن يومئذٍ –يوم القيامة- لا يجدون ثواباً لعملهم؛ لأنه هباء منثور –نسأل الله السلامة والعافية-.

وقيل: هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى فاعله، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} أي لا ينتفع به أي: أبطلناه بالكفر، وليس {هَبَاء} من ذوات الهمز، وإنما همزت لالتقاء الساكنين، والتصغير هُبَيّ في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هُبَيٍّ في موضع الرفع حكاه النحاس، وواحده هباة، والجمع أهباء، قال الحارث بن حلزة يصف ناقة: فترى خلفها من الرجع والوقع ... منيناً كأنه أهباءُ وروى الحارث عن علي قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة، وقال الأزهري: الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار، تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار، والمنبث المتفرق، وقال ابن عرفة: الهبوة والهباء: التراب الدقيق، قال الجوهري: ويقال له إذا ارتفع: هبا يهبو هبواً وأهبيته أنا، والهبوة: الغبرة، قال رؤبة: تبدو لنا أعلامه بعد الغرق ... في قطع الآل وهبوات الدققُ وموضع هابي التراب: أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة، وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، قاله قتادة وابن عباس، وقال ابن عباس أيضاً: إنه الماء المهراق، وقيل: إنه الرماد، قاله عبيد بن يعلى. الماء المهراق، تنتهي ماليته إذا أهريق لا يستفاد منه، وكذلك الرماد الذي تذروه الرياح لا يستفاد منه، وكذلك عمل الكافر الذي تخلف شرطه وهو الإيمان لا يستفيد منه. قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [(24) سورة الفرقان] تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [(15) سورة الفرقان] قال النحاس: والكوفيون يجيزون (العسل أحلى من الخل) وهذا قول مردود؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيراً منه ولا حلاوة في الخل، ولا يجوز أن يقال: النصراني خير من اليهودي؛ لأنه لا خير فيهما، فيكون أحدهما أزيد في الخير، لكن يقال: اليهودي شر من النصراني، فعلى هذا كلام العرب.

مقتضى أفعل التفضيل أن يكون الأمران قد اشتركا في وصفٍ واحد، وفاق أحدهما الآخر في ذلك الوصف، فإذا قلت: النصراني خير من اليهودي أثبت الخير للطرفين، لكن النصراني نصيبه من هذا الخير أكثر من نصيب اليهودي، فهذا التعبير ليس بصحيح، أما إذا قلت: اليهودي شر من النصراني فهذا تعبير صحيح؛ لأنك أثبت الوصف للفريقين، وأثبت أن اليهودي أدخل في هذا الوصف وأعظم شراً، وهنا {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [(24) سورة الفرقان] ليست على بابها، فأفعل التفضيل ليست على بابها، أهل الجنة بخير وأهل النار ليس لديهم خير بالكلية، فأفعل التفضيل ليست على بابها –والله المستعان-. و {مُّسْتَقَرًّا} نصب على الظرف إذا قدر على غير باب (أفعل منك) والمعنى: لهم خير في مستقر، وإذا كان من باب (أفعل منك) فانتصابه على البيان، قاله النحاس والمهدوي، قال قتادة: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} منزلاً ومأوى، وقيل: هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار، ومنه الحديث المرفوع: ((إن الله -تبارك وتعالى- يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار)) ذكره المهدوي. يعني مقدار صف يوم من أيام الآخرة، مقداره نصف يوم من أيام الآخرة، ومنتصف اليوم هو القيلولة –وقت القيلولة- فإذا فرغ من حساب الخلائق في النصف مقدار خمسمائة سنة يقيل كل في مكانه من أهل الجنة في أماكنهم، وأما أهل النار فلا مقيل لهم –نسأل الله السلامة والعافية-. طالب: القيلولة بعد الظهر أو قبل؟ الأصل أنها قبل الظهر، يعني بعد الفراغ من الأعمال، إذا بقي على الظهر مقدار ساعة يقيل الإنسان، هذا الأصل، لكن ما دام الناس ارتبطوا بأعمالٍ رتبت أوقاتهم، ووقت القيلولة في صلب الدوام فللإنسان أن يقيل إذا خرج من دوامه يرتاح من عناء التعب ومن عمله فلا مانع من ذلك، والمسألة مسألة عرفية، ووقت نومهم قبل الظهر. ماذا قال عن الحديث؟

طالب: قال: لم أره مرفوعاً، وإنما أخرجه الطبري عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرون أنه يفرغ من الحساب، وكذا نسبه السيوطي في الدر عن ابن المبارك وسعيد بن منصور وغيرهم عن إبراهيم النخعي ولا يحتج بالمرفوع بمثل هذا المقام. هذا لو ثبت عن هؤلاء لقلنا: أن له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال: بالرأي ولا يدرك بالاجتهاد، فيكون مرفوعاً إلا أنه مرفوع مرسل، إذا ثبت عن تابعي، وإذا ثبت عن تابع التابعي قلنا: معضل، وإن كان مرفوعاً؛ لأن له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال: بالرأي ولا يدرك به.

وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ثم قرأ: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم) كذا هي في قراءة ابن مسعود، وقال ابن عباس: الحساب من ذلك اليوم في أوله فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ومنه ما روي: ((قيلوا فإن الشياطين لا تقيل))، وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) فقلت: ما أطول هذا اليوم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا))، قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ} [(25) سورة الفرقان] أي واذكر تشقق السماء بالغمام، وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو: {تَشَقَّقُ} [(25) سورة الفرقان] بتخفيف الشين وأصله (تتشقق) بتاءين، فحذفوا الأولى تخفيفاً، واختاره أبو عبيد، والباقون {تشقق} بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم، وكذلك في (ق)، {بِالْغَمَامِ} [(25) سورة الفرقان] أي عن الغمام، و (الباء) و (عن) يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس، روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه، وهو الذي قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} [(210) سورة البقرة]، {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} من السموات ويأتي الرب -عز وجل- في الثمانية الذين يحملون العرش؛ لفصل القضاء على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال. يعني مجيء الله -جل وعلا- وإتيانه ونزوله على ما يليق بجلاله وعظمته من غير مشابهة لنزول المخلوقين أو مجيئهم أو إتيانهم إنما له ما يليق به -جل وعلا-.

وقال ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، وهو معنى قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا} [(25) سورة الفرقان] أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين، وقيل: إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس، فبتشقق الغمام تتشقق السماء، فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها، وطويت ونزلت الملائكة إلى مكانٍ سواها، وقرأ ابن كثير: {وننزل الملائكةَ} بالنصب من الإنزال، والباقون: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} بالرفع، دليله: {تَنزِيلًا} ولو كان على الأول لقال: إنزالاً، وقد قيل: إن نزل وأنزل بمعنى، فجاء {تَنزِيلًا} على (نزل)، وقد قرأ عبد الوهاب عن أبي عمرو: {وَنُزِلَ الملائكة تنزيلًا} وقرأ ابن مسعود: (وأنزل الملائكة)، وأبي بن كعب: (ونزلت الملائكة) وعنه (وتنزلت الملائكة). وهذا كله قبل الاتفاق على القراءة الموافقة للعرضة الأخيرة من جبريل للنبي -عليه الصلاة والسلام- التي عنها أخذ مصحف عثمان ووزع في الأمصار التي لا يوجد فيه شيء من اختلاف القراءات إلى هذا المستوى. قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [(26) سورة الفرقان]، {الْمُلْكُ} مبتدأ و {الْحَقُّ} صفة له و {لِلرَّحْمَنِ} الخبر؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك فبطلت يومئذٍ أملاك المالكين، وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاةٍ مكتوبة على ما تقدم في الحديث، وهذه الآية دالة عليه؛ لأنه إذا كان على المؤمنين عسيراً فهو على المؤمنين يسير، يقال: عَسِر يَعسَر وعَسُرَ يَعسُر.

{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [(26) سورة الفرقان] أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الحزن والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاةٍ مكتوبة، هذا من باب المفهوم، إذا كان عسير على الكافرين، فهو على المؤمنين يسير بلا شك، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [(8 - 10) سورة المدثر]. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [(27) سورة الفرقان] الماضي: عضضت، وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى، وجاء التوقيف عن أهل التفسير منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم هاهنا يراد به عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أمية بن خلف فعقبة قتله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله، فقال: أأقتل دونهم؟ فقال: نعم، بكفرك وعتوك، فقال: من للصبية؟ فقال: النار، فقام علي -رضي الله عنه- فقتله، وأمية قتله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان هذا من دلائل نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه خبَّر عنهما بهذا فقتلا على الكفر، ولم يسميا في الآية؛ لأنه أبلغ في الفائدة ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله -عز وجل-، قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: وكان عقبة قد همَّ بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتلهما جميعاً، قتل عقبة يوم بدر صبراً، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد، ذكره القشري والثعلبي، والأول ذكره النحاس، وقال السهيلي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [(27) سورة الفرقان] هو عقبة بن أبي معيط، وكان صديقاً لأمية بن خلف الجمحي، ويروى لأبي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشاً، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم، وكره عقبة أن يتأخر .. لأن إجابة الدعوة من حق المسلم على المسلم، وليست من حق الكافر على المسلم إلا إذا رجي إسلامه، فيكون من باب تغليب المصلحة، وإلا فالأصل أنها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.

وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشرف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله وأكل من طعامه فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائباً، فقال عقبة: رأيت عظيماً ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش، فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه، وتطأ عنقه، وتقول: كيت وكيت، ففعل عدو الله ما أمره به خليله، فأنزل الله -عز وجل-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [(27) سورة الفرقان] قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه حتى أثر في وجهه وأحرق خديه فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل، وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله. {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [(27) سورة الفرقان] في الدنيا، يعني: طريقاً إلى الجنة، {يَا لَيْتَنِي} دعا بالويل والثبور على مخالفة الكافر ومتابعته، {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [(28) سورة الفرقان] يعني أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه؛ لئلا يكون هذا الوعد مخصوصاً به ولا مقصوراً، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما، وقال مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان، واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [(29) سورة الفرقان] وقرأ الحسن: (يا ويلتي) وقد مضى في (هود) بيانه، والخليل: الصاحب والصديق، وقد مضى في (النساء) بيانه. {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [(29) سورة الفرقان] أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلاً عن القرآن والإيمان به، وقيل: {عَنِ الذِّكْرِ} أي: عن الرسول، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم، وتمام الكلام على هذا عند قوله: {بَعْدَ إِذْ جَاءنِي} [(29) سورة الفرقان]، والخذل الترك من الإعانة، ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم، وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولاً عند نزول العذاب والبلاء.

لأنه يتخلى عنه أحوج ما يكون إليه إذا ورطه تخلى عنه، إذا ورطه في معصية وفي جريمة تخلى عنه، حتى يصل إلى حد أن يأمره بالسجود لغير الله -جل وعلا- فيسجد ثم بعد ذلك يتخلى عنه، أحوج ما يكون إليه –نسأل الله السلامة والعافية-. وأما المشورة التي يعقبها الندم كما يقال: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [(28) سورة الفرقان] فهذا جاري حتى في أمور الدنيا إذا أشار إليك شخص على أن تقتني كذا أو تشتري كذا أو تذهب إلى كذا ثم وجدت أن هذا ليس من مصلحتك تقول: ليتني والله ما أطعت فلان، وكم من شخصٍ قال حينما نزلت الأسهم حينما مدحت له هذه الشركة أو تلك وقيل: أن الأرباح مضاعفة ومدة أسبوع وأنت كذا وبعد شهر تكون أرباحك مائة بالمائة، هذا سمع حتى من بعض من تظهر عليهم علامات الصلاح، الشركة الفلانية مضمونة، كيف مضمونة والمسألة غيب؟! ثم بعد ذلك قرعوا سن الندم، وقالوا: ليتنا ما أطعنا فلان، وليتنا ما صدقنا فلان، فكل مشورةٍ يعقبها الندامة هذه نتيجتها، والله المستعان. ولقد أحسن من قال: تجنب قرين السوء واصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصاً فداره وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ... إذا اشتعلت نيرانه في عذاره اشتعلت نيرانه يعني شيبه، إذا لاح شيبه نهاه عن ما يفعله الصبيان، وبعض الناس يستمر ولو لاح شيبه، يستمر ويزاول ما يزاوله الصبيان، من ألفاظ الجرح عند أهل العلم، من ألفاظ الجرح عند أهل الحديث: شيخ يتصابى، لا شك أن هذا ليس بمقبول من كبير السن أن يفعل ما يفعله الصبيان، ويقلد الصبيان في مشيته في أكله في طريقته، في هديه، هذا قبيح جداً بالشيخ أن يفعل هذا، نعم قد يوجد من الصبيان من يقلد الشيوخ؛ لأن هذا ترقي أما ذاك نزول، فلا يقبل من المكلف أن يحصل له مثل هذا. وقال آخر: اصحب خيار الناس حيث لقيتهم ... خير الصحابة من يكون عفيفا والناس مثل دراهم ميَّزتها ... فوجدت منها فضةً وزيوفا

وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة)) هذا لفظ مسلم، وأخرجه أبو داود من حديث أنس وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله: أي جلسائنا خير؟ قال: ((من ذكركم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله))، وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار، وأنشد: وصاحب خيار الناس تنج مسلماً ... وصاحب شرار الناس يوماً فتندما يكفي، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد.

سورة الفرقان من آية 30 - 47

تفسير القرطبي تفسير (سورة الفرقان) من آية (30 - 47) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه: قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [(30 - 31) سورة الفرقان] قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} يريد محمداً -صلى الله عليه وسلم- يشكوهم إلى الله تعالى، {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [(30) سورة الفرقان] أي قالوا: فيه غير الحق من أنه سحر وشعر، عن مجاهد والنخعي. يعني قالوا فيه هجراً من القول، يعني مهجور، وقالوا فيه هجراً من القول، وزعموا أنه سحر أو شعر، وهذا القول ينبغي أن يهجر، ولم يكن الهجر بمعنى الترك الذي يفهم بادئ الأمر من هذا اللفظ وإن كان مقصوداً، الشكوى هذه حاصلة من الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا سيما عند من يقول أن هذه الشكوى تكون في الآخرة، أنه جاء من بعده -عليه الصلاة والسلام- من هجر القرآن من أمته ممن ينتسب إليه -عليه الصلاة والسلام- هجر كلام الله، هجر قراءته، هجر تلاوته، هجر التدبر، هجر العمل، والمعنى كله مقصود، كل ما يتناوله اللفظ مقصود. وقيل: معنى {مَهْجُورًا} أي متروكاً فعزاه الله -تبارك وتعالى- وسلاه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [(31) سورة الفرقان] أي كما جعلنا لك يا محمد عدواً من مشركي قومك وهو أبو جهل في قول ابن عباس، فكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من مشركي قومه فاصبر لأمري كما صبروا، فإني هاديك وناصرك على كل من ناواك، وقد قيل: إن قول الرسول: {يَا رَبِّ} إنما يقوله يوم القيامة: أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني، وقال أنس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول: يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجوراً فاقض بيني وبينه)) ذكره الثعلبي. ضعيف؟

طالب: قال: حديث باطل، وعزاه المصنف الثعلبي عن أنس مرفوعاً وأعله الألوسي في روح المعاني والبيضاوي وغيرهما بأبي هدبة وأنه كذاب، وجاء في ترجمته في الميزان، قال الخطيب: حدث عن أنس بالأباطيل، قال أبو حاتم وغيره، كذاب، وقال يحيى: كذاب خبيث. انتهى كلامه، ثم إن أكثر الصحابة لم يكن لديهم مصاحف. التعليل بكون الصحابة لم يكن لديهم مصاحف لا يتجه؛ لأن المصاحف وجدت بعد، ولا يمنع أن يخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بما سيكون بعد، قد أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن جهاتٍ معينة، وأخبر عن مناسباتٍ كثيرة، وأخبر عما يقع في آخر الزمان، وكون الصحابة ليس لديهم مصاحف، لديهم القرآن الذي بلغهم، بواسطته -عليه الصلاة والسلام-، والمصاحف لمن بعدهم حينما وقّت المواقيت -عليه الصلاة والسلام- قال لأهل الشام: كذا، ولأهل اليمن: كذا، ولأهل العراق: كذا, على رواية: ولأهل مصر: كذا، قبل أن تفتح هذه الأمصار. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [(31) سورة الفرقان] نصب على الحال أو التمييز: أي يهديك وينصرك، فلا تبال بمن عاداك، وقال ابن عباس: عدو النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو جهل لعنه الله. يعني {كَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا} [(31) سورة الفرقان] يعني حال كونه هادياً لك ونصيراً لك فهما منصوبان على الحال، أو {هَادِيًا} منصوب على الحال و {نَصِيرًا} معطوف عليه، أو التمييز من تكفيك هدايته ونصره لك.

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [(32) سورة الفرقان] اختلف في قائل ذلك على القولين: أحدهما: أنهم كفار قريش قاله ابن عباس، والثاني: أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقاً قالوا: هلا أنزل عليه جملةً واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ففرقناه؛ ليكون أوعى للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأيسر على العامل به فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب. الفائدة من التنجيم يعني لنزول القرآن منجماً فوائد عظيمة، تثبيت الفؤاد، والشيء الذي يؤخذ بالتدريج يسهل أخذه وييسر على آخذه، ويبعد نسيانه بخلاف الذي يؤخذ جملة واحدة فإنه يصعب، وإن كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- ضمن له –حفظ له-، ضمن له حفظه -عليه الصلاة والسلام- لكن كونه يأتي بالتدريج لا شك أن فيه من تثبيت الفؤاد ما فيه، وفيه أيضاً كون النزول على هذه الكيفية على حسب الحاجة ومقتضيات الأحوال، ومنها أيضاً: التعاهد المستمر من بداية التنزيل إلى وفاته -عليه الصلاة والسلام- لا شك أن فيه تثبيت للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأيضاً فيه الناسخ والمنسوخ، لا يمكن أن ينزل الناسخ والمنسوخ في وقتٍ واحد، بل ينزل المنسوخ فيعمل به مدة أو لا يتمكن من العمل به كما في بعض الوقائع -وإن كان نادراً- ثم تكون المصلحة في رفع هذا الحكم بحكمٍ متراخٍ عنه بعد العمل بالحكم الأول، وعلى كل حال نزوله على هذه الكيفية لا شك أنه أكمل. قد يقول قائل: القرآن نزل جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، وهذا ثابت عن ابن عباس أنه نزل جملة واحدة، نقول: العبرة بنزوله على النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلى المكلفين المطالبين بالعمل به.

قلت: فإن قيل: هلا أنزل القرآن دفعةً واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟ قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه. لا يسأل عما يفعل -جل وعلا-. وقد بينا وجه الحكمة في ذلك، وقد قيل: إن قوله {كَذَلِكَ} من كلام المشركين: أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك. يعني كما أنزل الكتب السابقة. أي: كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على {كَذَلِكَ} ثم يبتدئ {ولِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [(32) سورة الفرقان]. يعني هذا جواب الاقتراح الذي اقترحوه –اقترحه الكفار- هذا جوابه: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}. ويجوز أن يكون الوقف على قوله: جملة واحدة، ثم يبتدئ {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [(32) سورة الفرقان] على معنى: أنزلناه عليك كذلك متفرقاً؛ لنثبت به فؤادك، قال أبن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [(1) سورة القدر] قال: أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله -عز وجل- في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء فنجَّمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل -عليه السلام- على محمد عشرين سنة، قال: فهو قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [(75) سورة الواقعة] يعني نجوم القرآن {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [(76 - 77) سورة الواقعة] قال: فلما لم ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- جملةً واحدة، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [(32) سورة الفرقان] فقال الله -تبارك وتعالى-: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} يا محمد، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [(32) سورة الفرقان] يقول: ورسلناه ترسيلاً، يقول: شيئاً بعد شيء.

نعم قد يقول قائل: كيف يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [(1) سورة القدر] والمعلوم أنه لم ينزل جملة واحدة، فإما أن يكون نزوله في ليلة القدر جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، أو يقال: أن بداية التنزيل في ليلة القدر، بداية التنزيل في شهر رمضان {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [(185) سورة البقرة] يعني بداية التنزيل. {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [(33) سورة الفرقان] يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملةً واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت، قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة؛ لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي فكان ذلك تثبيتاً لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [(33) سورة الفرقان] ولو نزل جملةً بما فيه من الفرائض؛ لثقل عليهم، وعلم الله -عز وجل- أن الصلاح في إنزاله متفرقاً؛ لأنهم ينبَّهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملةً واحدة لزال معنى التنبيه، وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقتٍ بعينه، قد علم الله -عز وجل- فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك، فمحال أن ينزل جملةً واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا، قال النحاس: والأولى أن يكون التمام جملةً واحدة؛ لأنه إذا وقف على {كَذَلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور، ولم يتقدم لها ذكر، قال الضحاك: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي تفصيلاً، والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلاً. مَثَلهم، ولا يأتونك بمَثَلٍ.

أحسن من مثَلَهم تفصيلاً فحذف لعلم السامع، وقيل: كان المشركون يستمدُّون من أهل الكتاب، وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن تفسيراً مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [(42) سورة البقرة]. وقيل: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} [(33) سورة الفرقان] كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب، {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} (34) سورة الفرقان} تقدم في (سبحان)، {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} لأنهم في جهنم، وقال مقاتل: قال الكفار لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- هو شر الخلق، فنزلت الآية، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي ديناً وطريقاً، ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم. {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} هذا خبر، خبر الذين يحشرون على وجوههم، الذين يحشرون على وجوههم أولئك شر مكاناً، فهذه جملة تامة من مبتدأ وخبر، فلما قال الكفار لأصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام-: صاحبكم شر الخلق، بيّن الله -جل وعلا- أن هؤلاء الكفار الذين يحشرون على وجوههم، وفي الحشر على الوجه ما فيه؛ لأنه أشرف ما في الإنسان وكون هذا الأشرف أول ما تباشره النار لا شك أن هذا فيه ردع لهم وفيه زجر –نسأل الله العافية والسلامة-. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [(35) سورة الفرقان] يريد التوراة، {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} تقدم في (طه). الوزير هو من يؤازر ويعين من استوزره، هذا الوزير الذي هو هارون بطلب موسى -عليه السلام- أن يجعل أخاه وزيراً له، فأجيب الطلب، ولذا يقول أهل العلم: أنه لا يوجد أخ أنفع لأخيه من موسى -عليه السلام-، حيث سأل له النبوة وحصلت له، والفضل أولاً وأخيراً لله -جل وعلا-. {فَقُلْنَا اذْهَبَا} [(36) سورة الفرقان] الخطاب لهما.

طالب: لما ذكر الله -عز وجل- في سورة النور ذكر إبراهيم وذكر. . . . . . . . . يعني في ذريته من بعده، فهو أبو الأنبياء الذين جاؤوا من بعده. طالب: ذكر موسى وقال: (ووهبنا له). هو طلب، اجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، فأجيب، وهب هذا الطلب. . . . . . . . . طالب: هل يدخل يا شيخ. . . . . . . . . هارون ما يقال: إذا كان هذا هبة أليس بمنزل عليه؟ كيف نزل عليه؟ طالب: يعني يوحى إليه؟ على كل حال هو نبي، هو نبي -عليه السلام-. وقيل: إنما أمر موسى -صلى الله عليه وسلم- بالذهاب وحده في المعنى، وهذا بمنزلة قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [(61) سورة الكهف] وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [(22) سورة الرحمن] وإنما يخرج من أحدهما، قال النحاس: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال -جل وعز-: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [(44 - 45) سورة طه]. فالتكليف لهما جميعاً، لا لموسى وحده. {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [(46 - 47) سورة طه] ونظير هذا: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [(62) سورة الرحمن] وقد قال جل ثناؤه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} [(45) سورة المؤمنون] قال القشيري: وقوله في موضع آخر: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [(24) سورة طه] لا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور، ويجوز أن يقال: أمر موسى أولاً ثم لما قال: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [(29) سورة طه] قال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [(43) سورة طه]، {إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [(36) سورة الفرقان] يريد فرعون وهامان والقبط، {فَدَمَّرْنَاهُمْ} في الكلام إضمار: أي فكذبوهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [(36) سورة الفرقان] أي أهلكناهم إهلاكاً. نعم؛ لأن التدمير هذا إنما وقع بعد التكذيب، لا بمجرد وصولهما إليه، لما كذبهما دُمّر.

قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} [(37) سورة الفرقان] في نصب {قَوْمَ} أربعة أقوال: العطف على الهاء والميم في {فَدَمَّرْنَاهُمْ}، الثاني: بمعنى اذكر. يعني واذكر قوم نوح، وكثيراً ما يضمر أهل العلم في التفسير هذه الكلمة، اذكر يا محمد، إذا وجد صدر الآية منصوباً قدروا: اذكر يا محمد قوم نوح .. الخ. الثالث: بإضمار فعلٍ يفسره ما بعده، والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم، والرابع: أنه منصوب بـ {أَغْرَقْنَاهُمْ} [(37) سورة الفرقان] قاله الفراء، وردَّه النحاس قال: لأن (أغرقنا) ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر، وفي {وَقَوْمَ نُوحٍ} المضمر المتصل به {أَغْرَقْنَاهُمْ} ويعمل أيضاً في المتقدم عليه {وَقَوْمَ نُوحٍ} ولا يعمل إلا بفعلٍ واحد. {لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [(37) سورة الفرقان] ذكر الجنس والمراد: نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده. ومن كذب رسولاً واحداً فقد كذّب بقية الرسل؛ لأن دعواهم واحدة. فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة، وقيل: إن من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبياً فقد كذب كل من صدقه من النبيين، {أَغْرَقْنَاهُمْ} أي بالطوفان على ما تقدم في (هود)، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [(37) سورة الفرقان] أي علامةً ظاهرة على قدرتنا، {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أي للمشركين من قوم نوح، {عَذَابًا أَلِيمًا} أي في الآخرة، وقيل: أي هذه سبيلي في كل ظالم. ولا يختص بقوم نوح، وفي حكمهم كل من اتصف بهذا الوصف.

قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [(38) سورة الفرقان] كله معطوف على {قَوْمَ نُوحٍ} [(37) سورة الفرقان] إذا كان {قَوْمَ نُوحٍ} منصوباً على العطف، أو بمعنى اذكر، ويجوز أن يكون كله منصوباً على أنه معطوف على المضمر في {دَمَّرْنَاهُمْ} أو على المضمر في {جَعَلْنَاهُمْ} [(37) سورة الفرقان] وهو اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليه، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار فعل: أي اذكر عاداً الذين كذبوا هوداً فأهلكم الله بالريح العقيم، وثموداً كذبوا صالحاً فأهلكوا بالرجفة. {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [(38) سورة الفرقان] والرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية، والجمع: رساس قال: تنابلة يحفرون الرساسا: يعني آبار المعادن، قال ابن عباس: سألت كعباً عن أصحاب الرس قال: صاحب (يس) الذي قال: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [(20) سورة يس] قتله قومه ورسُّوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل، قال السدي: هم أصحاب قصة (يس) أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار مؤمن آل (يس) فنسبوا إليها، وقال علي -رضي الله عنه-: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم، وكان من ولد يهوذا فيبست الشجرة فقتلوه ورسُّوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم، وقال ابن عباس: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعاً وعطشاً، وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم شعيباً فكذبوه وآذوه وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم، انهارت بهم وبديارهم، فخسف الله بهم فهلكوا جميعاً، وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيباً فكذبوه فعذبهما الله بعذابين، قال قتادة: والرس قرية بفلج اليمامة.

وقال عكرمة: هم قوم رسُّوا نبيهم في بئر حياً، دليله ما روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود، فحفر أهل القرية بئراً وألقوا فيها نبيهم حياً، وأطبقوا عليه حجراً ضخماً، وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه، ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه، فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً، ثم هبّّ من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر، فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم هبَّ فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده، وكان قومه قد أراهم الله تعالى آيةً فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه، ومات ذلك النبي)) قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة)) وذكر هذا الخبر المهدي والثعلبي واللفظ للثعلبي. طالب: قال: باطل أخذه الطبري عن ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي وهو حديثٍ واهٍ. . . . . . . . . لأن فيه غرابة ونكارة، انتهى كلامه، وهو باطل؛ لأن نبينا -عليه السلام- هو أول من يدخل الجنة. على كل حال هذا من أخبار بني إسرائيل التي جاء شرعنا بخلافها، هذه من أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق؛ لأن شرعنا جاء بخلافها. وقال: هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم، وقال الكلبي: أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه، وهم أول من عمل نساؤهم السحق، ذكره الماوردي وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين وسيأتي، وقيل: هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في (الحج) في قوله: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} [(45) سورة الحج] على ما تقدم.

وفي الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود، وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات، وروي من حديث أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وذلك السحق)) وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد، وقيل: الثلج المتراكم في الجبال ذكره القشري، وما ذكرناه أولاً هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر، قال أبو عبيدة: الرس كل ركية لم تطوَ وجمعها رساس، قال الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم ... فيا ليتهم يحفرون الرساسا والرس: اسم وادٍ في قول زهير: بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفمِ ورست رساً: حفرت بئراً، ورسَّ الميت: أي قبر، والرس: الإصلاح بين الناس والإفساد أيضاً، وقد رسست بينهم فهو من الأضداد، وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره الثعلبي وغيره. {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [(38) سورة الفرقان] أي أمماً لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، وعن الربيع بن خثيم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر به؟ قال: لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً كانوا أكثر وأشد حرصاً على جمع المال فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت، فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات -رحمه الله-. قوله تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} [(39) سورة الفرقان] قال الزجاج: أي وأنذرنا كلاً ضربنا له الأمثال وبينَّا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة، وقيل: انتصب على تقدير ذكرنا كلاً ونحوه؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ، ذكره المهدوي والمعنى واحد، {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي أهلكنا بالعذاب، وتبَّرت الشيء: كسرته، وقال المؤرج والأحفش: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [(36) سورة الفرقان] تبدل التاء والباء من الدال والميم. قال المؤرج والأحفش: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} تبدل التاء والباء من الدال والميم، دمرنا، تبّرنا.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} [(40) سورة الفرقان] يعني مشركي مكة، والقرية قرية قوم لوط، و {مَطَرَ السَّوْءِ} [(40) سورة الفرقان] الحجارة التي أمطروا بها، {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [(40) سورة الفرقان] أي في أسفارهم ليعتبروا، قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمرُّ بمدائن قوم لوط، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} [(137) سورة الصافات] وقال: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [(79) سورة الحجر] وقد تقدم، {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي لا يصدقون بالبعث، ويجوز أن يكون معنى {يَرْجُونَ} يخافون، ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه: بل كانوا يرجون ثواب الآخرة. لكن المعنى الأول كأنه أقرب، {لَا يَرْجُونَ} لا يتوقعون ولا يصدقون بالنشور الذي هو البعث، كأنه أقرب من الخوف والرجاء المعروفين. طالب: ذكر. . . . . . . . . وهم في رحلتهم إلى الشام؟ طالب: ما لهم آثار؟ الآن؟ لكن في وقته -عليه الصلاة والسلام- عن الصحابة، وقت نزول القرآن، وهم لا يبعد أن يكون لهم آثار. طالب:. . . . . . . . . ما أدري عنهم، لكن لا يبعد أن يكون لهم آثار من كلام ابن عباس. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [(41) سورة الفرقان] جواب {إِذَا} {إِن يَتَّخِذُونَكَ} لأن معناه يتخذونك وقيل: الجواب محذوف، وهو قالوا أو يقولون: {أَهَذَا الَّذِي} [(41) سورة الفرقان] وقوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} كلام معترض، ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- مستهزئاً: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [(41) سورة الفرقان] والعائد محذوف أي بعثه الله {رَسُولًا} نصب على الحال، والتقدير: أهذا الذي بعثه الله مرسلاً، {أَهَذَا} رفع بالابتداء، و {الَّذِي} خبره، {رَسُولًا} نصب على الحال و {بَعَثَ} في صلة {الَّذِي}، واسم الله -عز وجل- رفع بـ {بَعَثَ} ويجوز أن يكون مصدراً؛ لأن معنى بعث أرسل، ويكون معنى {رَسُولًا} رسالة على هذا، والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار.

لأن معنى {بَعَثَ} أرسل، ويكون معنى رسولاً: رسالةً، هل الذي يبعث ويرسل هو الرسول أو الرسالة؟ الذي يرسل الرسول ويحمل معه الرسالة. {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} [(42) سورة الفرقان] أي قالوا: قد كاد أن يصرفنا، {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [(42) سورة الفرقان] أي حبسنا أنفسنا على عبادتها، قال الله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} يريد من أضل ديناً، أهم أم محمد؟ وقد رأوه في يوم بدر. قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [(43) سورة الفرقان] عجَّب نبيه -صلى الله عليه وسلم- من إضمارهم على الشرك، وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجرٍ يعبده من غير حجة، قال الكلبي وغيره: كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئاً عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن، فعلى هذا يعني: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه، فحذف الجار، وقال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية. يعني اتخذه إلهاً يعبده من دون الله، والهوى قد يتمثل بمحسوس إذا دفع الهوى عبادة هذا المحسوس، وقد يبقى معنوياً ويعبد من دون الله -جل وعلا- إذا قدم الهوى على ما يأمر الله به -جل وعلا- وعلى مخالفة ما ينهى عنه -عز وجل-، هذه هي العبادة، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث عدي بن حاتم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} [(31) سورة التوبة] قال: لسنا نعبدهم، قال: ((أليس يحرمون الحلال فتحرمونه، ويحلون الحرام فتحلونه؟ )) قال: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)) يعني تقديمهم على أمر الله -جل وعلا- لا شك أن هذا هو معنى العبادة. قال الشاعر: لعمر أبيها لو تبدت للناسك ... قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك لصلى لها قبل الصلاة لربه ... ولأرتد في الدنيا بأعمال فاتك

وقيل: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [(43) سورة الفرقان] أي أطاع هواه، وعن الحسن لا يهوى شيئاً إلا اتبعه، والمعنى واحد، {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} أي حفيظاً وكفيلاً حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك التبليغ، وهذا رد على القدرية، ثم قيل: إنها منسوخة بآية القتال، وقيل: لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

أما الرد فيها على القدرية في قوله: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} أي حفيظاً وكفيلاً حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، بل مردهما إلى مشيئة الله -جل وعلا-، فإذا كان الأمر بيده أولاً وآخراً فلا كلام لأحد لا قدرية ولا غيرهم، بل الأمر إليه -جل وعلا-، ثم هل قوله: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} يعني هذا الذي أراد الله إضلاله هل أنت تستطيع أن تلزمه بهذا ولو بقتاله وقتله؟ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [(43) سورة الفرقان] أم أن هذه محكمة؟ ما دام الأمر كذلك والله -جل وعلا- قضى عليه بذلك فليترك، وتكون هذه مناسبة لبعض الناس دون بعض، منهم من يلزم ومنهم من يترك، من أهل العلم من يقول: بأنها منسوخة بآية السيف –بآية القتال- مثل هذا: إذا اتخذ إلهه هواه إما أن يدعى إلى الإسلام وإلا قتل؛ لأنه لا دين مع الإسلام، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [(85) سورة آل عمران] ومنهم من يقول: إن آيات الموادعة والمصالحة والمهادنة حكمها باقٍ لكن تنزّل على بعض الأحوال دون بعض، فإذا كان في المسلمين قوة أعملت فيهم آيات القتال، وإذا كان فيهم ضعف أعملت فيهم آيات المهادنة، وهما طريقان لأهل العلم –منهم من يقول: إن ما كان في العهد المكي من الموادعة والمهادنة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [(94) سورة الحجر] كل هذا منسوخ بما جاء بعده في العهد المدني من الأمر بالقتال ومنهم من يحمله على حال الضعف، وأن المسألة مسألة أحوال تختلف، فإذا كان في المسلمين ضعف فيتنزل عليهم حال العهد المكي، وإذا كانوا بهم قوة تتنزل عليهم أحوال العهد المدني. قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [(44) سورة الفرقان] ولم يقل (أنهم)؛ لأن منهم من قد علم أنه يؤمن، وذمهم -جل وعز- بهذا، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه: أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع.

لأن السمع الذي لا ينفع وجوده مثل عدمه، والعقل الذي لا يهدي صاحبه وجوده مثل عدمه فيصح نفيه عنه. وقيل المعنى: أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون، فكأنهم لم يسمعوا، والمراد أهل مكة، وقيل: (أم) بمعنى: بل في مثل هذا الموضوع، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} [(44) سورة الفرقان] أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام، وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضاً. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [(44) سورة الفرقان] لأن مثل ما ذكر في آخر الأمر أن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد وتتعبد به أقل الأحوال أن جهلها بسيط، يعني لا تعلم، وأما جهل هؤلاء مركب، لا يعلمون ولا يعقلون التوحيد ولا يرون صحته ويعملون بضده وهو الشرك –نسأل الله السلامة والعافية-. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [(45) سورة الفرقان] يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: مدّ الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها، والأول أصح، والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة، فإن فيها يجد المريض راحة، والمسافر وكل ذي علة، وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها، وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب، وقال أبو العلية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر، قال أبو عبيدة: الظل بالغداة والفيء بالعشي؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سمي فيئاً؛ لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق وعلى هذا يكون المراد بالظل من بعد طلوع الشمس إلى الزوال، والفيء يكون من الزوال إلى غروب الشمس؛ لأنه فاء إلى الجهة الأخرى يعني رجع إليها.

وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس، وحكى أبو عبيدة عن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [(45) سورة الفرقان] أي دائماً مستقراً لا تنسخه الشمس، قال ابن عباس: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع. ليستمر الظل. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [(45) سورة الفرقان] أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالةً على أن الظل شيء ومعنى؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولا النور ما عرفت الظلمة، فالدليل فعيل بمعنى الفاعل، وقيل: بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب، أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به، أي أتبعناها إياه، فالشمس دليل أي حجة وبرهان وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه، ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس؛ لأنه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان والشمس حق. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} [(46) سورة الفرقان] يريد ذلك الظل الممدود، {إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي يسيراً قبضه علينا، وكل أمر ربنا عليه يسير، فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضاً. يعني الظل الممتد إلى طلوع الشمس، لكن إذا طلعت الشمس أخذ ينقبض شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي بالزوال، ثم إذا زالت الشمس يبدأ الظل ويسمى الفيء بعد رجوعه إلى جهة المشرق يزداد شيئاً فشيئاً إلى غروب الشمس.

وخَلَفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل إنما ذلك بقية نور النهار، وقال قوم: قبضه بغروب الشمس؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما بتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه، وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئاً فشيئاً، قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي، وقيل: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} [(46) سورة الفرقان] أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء، {قَبْضًا يَسِيرًا} [(46) سورة الفرقان] وقيل: {يَسِيرًا} أي سريعاً قاله الضحاك، وقال قتادة: خفياً: أي إذا غاب الشمس قبض الظل قبضاً خفياً كلما قبض جزء منه جُعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعةً واحدة، فهذا معنى قول قتادة، وهو قول مجاهد. {قَبْضًا يَسِيرًا} يعني تدريجاً شيئاً فشيئاً، بحسب من يتابعه ويراه يجد أن قبضه بطيء جداً؛ لأن الشمس وإن كانت سرعتها هائلة إلا أنها تبدو للناظر لبعدها بطيئة المشي، وتبعاً لذلك يكون الظل، ظل ماله ظل إذا زالت عليه الشمس، ولا شك أن الظل يتفاوت طولاً وقصراً من فصلٍ إلى فصل من فصول السنة، وذلك تابع أيضاً لطول ما يستظل به، فطول الحائط القصير ظله بقدره، والحائط الطويل ظله بقدره، إضافةً إلى الوقت الذي يتدرج به هذا القبض، فوقت صلاة الظهر إلى مصير ظل الشيء مثله، ثم بعد ذلك يزيد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، إلى أن تغيب الشمس، وينقطع الظل، هذا كله بالتدريج، يعني ليست دفعةً واحدة، مو مثل الكهرباء، بضغطة زر يشتعل، وبضغطة أخرى ينطفئ، وهذه آية من آيات الله -جل وعلا-. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [(47) سورة الفرقان] فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [(47) سورة الفرقان] يعني ستراً للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن، قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث يستر الأشياء ويغشاها. الثانية: قال ابن العربي: ظن بعض الغفلة أن من صلى عرياناً في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس.

فيكفي عن السترة، إذا كان الليل لباس يكفي عن السترة، والمقصود أن لا يرى وهو في الظلام لا يرى، لكن هذا تغفيل لا شك. وهذا يوجب أن يصلى في بيته عرياناً إذا أغلق عليه بابه، والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس. لأنها شرط، ستر العورة شرط لصحة الصلاة. ولا حاجة إلى الإطناب في هذا. الثالثة: قوله تعالى: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [(47) سورة الفرقان] أي راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال، وأصل السبات من التمدد، يقال: سبتت المرأة شعرها: أي نقضته وأرسلته، ورجل مسبوت: أي ممدود الخلقة، وقيل: للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة، وقيل: السبت القطع فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه، وقيل: السبت الإقامة في المكان فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة، وقال الخليل: السبات نوم ثقيل: أي جعلنا نومكم ثقيلاً ليكمل الإجمام والراحة. يقابله السِّنة والنعاس وهو النوم الخفيف، أما السبات فهو النوم الثقيل. الرابعة: قوله تعالى: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [(47) سورة الفرقان] من الانتشار للمعاش: أي النهار سبب الإحياء للانتشار، شبَّه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة، وكان -عليه السلام- إذا أصبح قال: ((الحمد لله الذي أحيانا من بعد ما أماتنا وإليه النشور)) ولا شك أن النوم موت، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [{(42) سورة الزمر] فهو لا شك أنه موت، وهو يشبه الموتة الكبرى إلا أنه بعده عود للروح بخلاف الموت الحقيقي الذي لا عود للروح فيها، هذه الآية التي يذكرها المؤلف فيها طول، يمكن حدود خمسة عشر صفحة أو أكثر، أكثر حدود ثمانية عشر صفحة أو سبعة عشر صفحة. الجمعة ليس فيها درس؛ لأن عندنا سفر، إن رأيتم أن تؤخذ بدرسٍ واحد متتابعة فالأمر إليكم؛ لأن مباحثها مترابطة. طالب: الذي تراه يا شيخ؟ الاثنين القادم؟ الاثنين القادم -إن شاء الله- لأن مباحث الآية مترابطة، وثمانية عشر صفحة ما يصلح تفريقها، نأخذها -إن شاء الله- في الاثنين القادم. طالب:. . . . . . . . . الجمعة أنا مسافر عندي دروس في المنطقة الشرقية -إن شاء الله-. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة الفرقان - تفسير قوله تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} [(48)]

تفسير القرطبي سورة الفرقان تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [(48)] الشيخ/ عبد الكريم الخضير هذا يسأل يقول: ما هي الطريقة الجيدة التي تجعل قارئ التفاسير المطولة يفهم المراد ويبقى مستحضراً في ذهنه لأقصى مدة؟ الطريقة الجيدة أن يكون بيده قلم، يضع علامات على ما يريده مما يذكره المفسر حول هذه الآية، ثم ينقل هذا الذي وضع عليه العلامة إلى مذكرته، ويراجعه متى ما أراد؛ لأن في كتب التفاسير المطولة أشياء مكررة، وأشياء قد لا يحتاجها طالب العلم، لكنه مع ذلك يوجد في ثنايا كلامه الكثير المطول كلام جيد، يحتاج إلى ترديد، مثل هذا يوضع عليه علامات فيردد إما في الكتاب نفسه أو بعد نقله إلى مذكرة. هذا يقول: هل كل كبيرة داخل تحت مسمى الكفر دون كفر؟ وهل كل كبيرة مثل شرب الخمر والزنا تعتبر كفراً دون كفر؟ لا يسمى من المعاصي كفر إلا ما جاء النص بتسميته كفراً، فإن كان ما أطلق عليه الكفر مما يخرج من الملة فهو الكفر الأكبر، وإلا فهو الأصغر الذي يقول عنه أهل العلم كفر دون كفر، أما ما لم يطلق عليه في النصوص الشرعية كفر فلا يدخل تحت مسمى الكفر لا الأكبر ولا الأصغر، وإنما يسمى معصية، إما كبيرة أو صغيرة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [(48) سورة الفرقان]. تقدم في الأعراف مستوفى. معروف أن (نشراً) هذه القراءة التي عليها المؤلف -رحمه الله- تعالى وهي قراءة نافع كما هو معلوم، والمؤلف يقرأ بقراءة نافع، ويفسر قراءة نافع، والذين طبعوا الكتاب أدخلوا الآيات على قراءة عاصم، وهذا تصرف لا يليق، إذا تصرفوا وأدخلوا المتن سواء كان القرآن كما هنا أو غيره من المتون أنه ينبغي أن يدخل متن يتفق مع شرح المؤلف، الآن الآية التي معنا: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} هذا أدخلوها من مصحف فاروق كما هو معلوم، ومرّ بنا مراراً التنبيه على مثل هذا، والمؤلف يقرأ على رواية نافع (نشراُ).

قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان]. فيه خمس عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {مَاء طَهُورًا} يتطهر به، كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به، وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهوراً. نعم، هذا على مذهب من يجعل المياه ثلاثة أنواع، طهور وطاهر ونجس، أما من يجعل أو يقسم الماء إلى قسمين، طاهر ونجس، فيجعل الطهور من الطاهر. فالظهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر وهذا هو المعروف في اللغة، قاله ابن الأنباري فبين أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهراً مطهراً، وإلى هذا ذهب الجمهور، وقيل أن {طَهُورًا} بمعنى طاهر، وهو قول أبي حنيفة، وتعلق بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [(21) سورة الإنسان] يعني طاهراً، وبقول الشاعر: خليلي هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي علي فجورُ إلى رجّح الأكفال غيد من الظبا ... عذاب الثنايا ريقهن طهورُ فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر، وتقول العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه، ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب، وعن خسائس الصفات كالغل والحسد فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب، وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [(73) سورة الزمر] ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة.

الصيغة (طهور) صيغة مبالغة، وهذه المبالغة في هذه الصفة هل هي ترجع إلى الماء ذاته؟ بمعنى أنه أطهر من غيره، أو لأنه يتكرر منه التطهير، يعني أنه مطَهر أكثر من غيره؟ ولهذا يصلح لتطهير غيره أو أنه تكرر منه التطهير؟ وفرق بينهما، يعني الماء إذا خرج من الأرض أو نزل من السماء ثم وضع في فلتر، لا شك أنه تزداد طهوريته، ويزداد نقاؤه وصفاؤه ثم إذا نقّي مرة ثانية وثالثة وكل ما ينقّى يسلم من الشوائب فيكون أشد في التطهير، يعني هل هذا الطهور؛ لأنه تكرر تطهيره أو لأنه تكرر التطهر به؟ هذه المبالغة، المبالغة لا تأتي من شيءٍ واحد؛ لأن ما طَهُر مرةً واحدة لا يستحق صيغة المبالغة، يقال: طاهر، إنما يقال: طهور إذا كانت طهارته تكررت مراراً أو كان التطهر به تكرر مراراً، الذي يدعو إلى مثل هذا الكلام ما ذكره البغوي في شرح السنة من أن الماء المستعمل في الطهارة أكثر من مرة هو الذي يستحق أن يسمى طهور؛ لأنه تكرر التطهر به مثل الشكور مثل الصبور، ما يستحق هذه الصيغة إلا بعد أن يتكرر منه الفعل، لكن هل المراد من هذه الصيغة تكرار التطهر به أو تكرار طهارته بنفسه؟.

الآن البغوي يقرر يقول: أنه لا يستحق هذه الصيغة إلا إذا تكرر التطهر به، إذا تكرر تطهيره لغيره كالصبور والشكور، إذا تكرر منه الصبر والشكر، لكن هل استعماله في طهارة -في تطهير- يزيده نقاوة وطهارة وإلا يزيده كدرة؟ يزيد كدرة بلا شك؛ لأن هذا يخفف من طهارته؛ لأنه إنما استعمل بالطهارة لإزالة الأوساخ، يعني عندنا طهور صيغة مبالغة، وهذه مسألة ترى فيها شيء من الخفاء وكلام البغوي قد يمشي على بعض الناس، يقول: الطهور ما يتكرر التطهير به، فالماء الذي يستعمل في الوضوء أو في الغسل مرتين، ثلاث، خمس كلما يزيد التطهر به يزداد دخولاً وإيغالاً في هذه الصفة، يريد أن يقرر أن الماء المستعمل في الطهارة أولى بوصف الطهور من غير المستعمل، والعلماء معروف عندهم أن المستعمل لا سيما عند الحنابلة والشافعية المستعمل في رفع الحدث خلاص انتهى، صار طاهر ما يطهر غيره، ويريد أن يقرر كل ما استعمل في هذه الطهارة صار دخوله في هذا الوصف أولى؛ لأن عندنا فيما يتعلق بالماء أمران: طهارته بنفسه، وتطهيره لغيره، فطهارته بنفسه الأصل أنه طهور وطاهر، الأصل أنه طاهر؛ لأنه لم تخالطه نجاسة، فهو طاهر، إذا نقّي مرة ثانية تزداد طهارة، نقّي ثالثة خامسة عاشرة، كل مرة يزداد طهارة فيستحق الوصف بأنه طهور، والبغوي -رحمه الله- جعل المسألة عكس، أن كل ما استعمل في طهارة صار في الوصف أدخل. طالب: هل كونه يزداد بعدد مرات التطهير به هل يترتب عليه حكم؟ ما يترتب، لكنه أنقى وأطهر من الذي لم يكرر أصلاً أو كرر مرة أو مرتين. طالب: البغوي شافعي؟ إيه شافعي، يعني خلاف مذهبه، هو خلاف مذهبه. وأما قول الشاعر: (ريقهن طهور) فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب وطيبه في النفوس، وسكون عليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب. لكن المجازاة هل هي بتاء مربوطة وإلا مفتوحة؟ طالب: مفتوحة. هذا الأصل، مجاز جمعه مجازات لكن يبقى أنه كتبها: (مجازاة) بالمربوطة يحتاج إلى نظر. عندكم الطبعات الجديدة؟ طالب: مربوطة. مثلما عندنا.

طالب: أليست مجاراة؟ مجاراة عندك؟ طالب: لا. مجازات مجازات، يعني التجاوز، يعني مجاوزات، تجاوز الحد، مبالغة يعني، المقصود به المبالغة، وليس من باب المجاز لا، وقد يكون من باب المجاز عندهم، من باب المجاز؛ لأنه استعمال للفظ في غير موضعه، استعمل الطهر في غير ما وضع له. ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث يشعرون ألا ترى إلى قول بعضهم: ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها ... لما كنت أدري علةً للتيممِ مبالغة، نسأل الله العافية، نسأل الله العافية. وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه، قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنِّه إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعاً مشرقاً، وهو أن بناء فعول للمبالغة إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدي، كما قال الشاعر: ضروب بنصل السيف سوق سمانها وقد تكون في الفعل القاصر، كما قال الشاعر: نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ فالأول فعله متعدي، يكثر منه الضرب لغيره، والثاني فعله قاصر يكثر النوم بنفسه لا لغيره فلا ينيم غيره، بينما الضروب يضرب غيره. وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة، ومن الشرع طهارة، كقوله -عليه السلام-: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) وأجمعت الأمة لغةً وشريعةً على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهِّر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله، وهو العبارة به عن الآلة للفعل، لا عن الفعل، كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء فإنها عبارة عن الحطب والطعم المتسحر به. والطُّعم يعني الطعام، كالوضوء عبارة عن الماء الذي يتوضأ به.

فوصف الماء بأنه طَهور (بفتح الطاء) أيضاً يكون خبراً عن الآلة التي يتطهر بها، فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبراً عنه فثبت بهذا أن اسم الفَعول (بفتح الفاء) يكون بناءً للمبالغة ويكون خبراً عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان] وقوله -عليه السلام-: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [(11) سورة الأنفال] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره. الثانية: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالِطَها غيرها والمخالط للماء على ثلاثة أضرب: ضرب يوافقه في صفتيه جميعاً فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفاً منهما لموافقته لهما وهو التراب، والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة. يعني الوصفان هما الطهارة في نفسه والتطهير لغيره، فالتراب طاهر في نفسه مطهر لغيره، باعتبار أنه يُتطهر به في التيمم، فهذا إذا خالط الماء لم يؤثر فيه ما لم يمنع من تسميته ماءً كأن يكون طين مثلاً، أما إذا منع من تسميته ماء فلا يصح الوضوء به، والثاني: موافقته في إحدى صفتيه وهي الطهارة كسائر المائعات التي لا يطلق عليها اسم الماء كاللبن مثلاً، إذا صب على الماء بحيث من رآه لا يقول هذا ماء، أو المرق، أو غيرهما، إذا صبّ على الماء سلبه الاسم. والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه، وهو التطهير كماء الورد وسائر الطاهرات. والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعاً، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعاً لمخالفته له فيهما، وهو النجس. الثالثة: ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات ولم يحدُّوا بين القليل والكثير حداً يوقف عنده.

يعني هذا هو رأي الحنابلة والشافعية إلا أنهم يحدّون، يضعون حداً بين القليل والكثير، ويجعلون الحدّ الفاصل القلّتين، وهو أيضاً رأي الحنفية إلا أن تحديدهم والحدّ الفاصل بين القليل والكثير يختلف عن رأي الشافعية والحنابلة باعتبار أن الحنفية يقولون: القليل ما زاد عن عشرة في عشرة، أو ما إذا حرك طرفه لم يتحرك طرفه الآخر. إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من المصريين، إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك، وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالَّة فيه قليلاً كان أو كثيراً إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالَّة فيه وتغير منه طعماً أو ريحاً أو لوناً. وهذا ما يرجحه شيخ الإسلام -رحمه الله-، أن الماء لا ينتقل من وصف الطهارة إلى النجاسة حتى يتغير، قلّ أو كثر، وذلكم لأن حديث القلتين فيه كلام كثير لأهل العلم، وشيخ الإسلام معروف يصحح الحديث لكنه يعمل بمنطوقه دون مفهومه، مع تصحيحه للحديث يعمل بمنطوقه دون مفهومه، فلا يرى تأثر ما دون القلتين بما خالطه ما لم يتغير، أما إذا تغير فهو نجس بالإجماع قلّ أو أكثر، نجس بالاتفاق، والغزالي صاحب الإحياء تمنى أن لو كان مذهب الإمام الشافعي مثل مذهب الإمام مالك في الماء، أنه لا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير قلّ أو أكثر، ولا شك أن هذا أوضح، ومن نظر في الكتب الفقهية المطولة سواءً من الشافعية أو الحنابلة أو الحنفية رأى شيء لا يليق بسهولة الشريعة ويسرها في كثير من مسائل الطهارة والمياه عنت وتشديد شيء لا يليق بسهولة الشريعة ولذا المرجح في هذه المسألة هو قول مالك -رحمه الله-. وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي، وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيِّد الأثر.

وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيراً كان أو قليلاً، إذا تحققت عموم النجاسة فيه ووجه تحققها عنده أن تقع مثلاً نقطة بولٍ في بركة فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي: بحديث القلتين وهو حديث مطعون فيه، اختلف في إسناده ومتنه، أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني فإنه صدَّر به كتابه وجمع طرقه، قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحِّح حديث القلتين فلم يقدر، وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلَّتين فمذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل؛ ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حداً لازماً لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حدّ ما حدّه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف. قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد، وفي سنن الدارقطني عن حمّاد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال الخوابي العظام، وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لما رفعتُ إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة ... )) وذكر الحديث، قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم. أن الماء طهور لا ينجسه شيء، سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الحيض والنتن فقال: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) وأما الزيادة: (إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه) هذه ضعيفة بالاتفاق، باتفاق الحفاظ، لكن الحكم مجمع عليه.

وهو أيضاً حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه، وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه إذا لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان] وهو ما دام بصفاته فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم؛ لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري -إمام الحديث والفقه- في الباب خبراً يعول عليه قال: (باب إذا تغير وصف الماء) وأدخل الحديث الصحيح: ((ما من أحد يكلم في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك)) فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائجة عن صفة الدموية، ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه. يعني إذا كان التغير بسبب المجاورة لا المخالطة، بسبب المجاورة لا تؤثر.

ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيساً له للمخالطة، والأول مجاورة لا تعويل عليها، قلت: وقد استدل به أيضاً على نقيض ذلك وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله، ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثاً نجساً، وأنه صار مسكاً، وإن المسك بعض دم الغزال، فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء، وإلى الأول ذهب عبد الملك، قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون فكان الحكم لها، فاستدلوا عليها -في زعمهم- بهذا الحديث، وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسةٍ أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسةٍ وتغير، فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله، وقال الجمهور: إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة. وحمأةٍ؟ كذا وحمأةٍ؟ عندنا الحاء ليست موجودة. إلا أن يكون تغيره من تربة وحمأة، وما أجمعوا عليه فهو الحق لا إشكال فيه ولا التباس معه. الرابعة: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه، لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به؛ لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه، وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه. غيره أولى منه؛ لأنه تغير، وإن كان يشق التحرز منه كالماء الذي تغير بطول المكث، الماء الآجن، يجوز الوضوء به ويصح اتفاقاً، إلا ما يحكى عن ابن سيرين من كراهته، وهو موافق لقول مالك غيره أولى منه.

الخامسة: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: ويُكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة، قال البخاري: وتوضأ عمر -رضي الله عنه- من بيت نصرانية، ذكر سفيان عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذباً ولا ماء سماءٍ أطيب منه، قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالحق، قال: فكشفت عن رأسها فإذا مثل الثغامة فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن! فقال عمر -رضي الله عنه-: اللهم اشهد، خرجه الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال: حدثنا سفيان فذكره. ورواه أيضاً عن الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي، وذكر الحديث بمثل ما تقدم. لو أن الله -جل وعلا- كتب لها السعادة لأسلمت؛ لأن كونها تموت الآن أفضل أن تسلم، أفضل أن تسلم من أن تصرّ على كفرها – نسأل الله السلامة والعافية-. السادسة: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعاً ولا يتوضأ منه وهو طاهر، وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتيمم معه، وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز ومحمد بن مسلمة، وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الإناء منه؛ لأنه نجس وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه، وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا يُنجِّس ولوغه شيئاً ولغ فيه طعاماً لا غيره إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤونته، وكلب البادية والحاضرة سواء، ويغسل الإناء منه على كل حال سبعاً تعبداً، هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه.

ذكر ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: ((لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور)) أخرجه الدارقطني، وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه، وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يرشون شيئاً من ذلك. في بعض الروايات، بعض الروايات في رواية الصحيح وتبول، تقبل وتدبر وتبول، هذه في بعض الروايات، لا أقول الروايات المخرجة في الصحيح، إنما الروايات في الصحيح عن البخاري، يعني بعض من يروي الصحيح عن البخاري أثبت هذه اللفظة وبعضهم لم يثبت، لا أنها ثابتة في بعض الروايات دون بعض؟ نفرق بين أن تكون الرواية في البخاري وتكون الرواية عن البخاري، هذه في بعض الروايات عن البخاري لا في البخاري عن غيره.

وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا، أخرجه مالك والدارقطني، ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف في الأمر بإراقة ما ولغ فيه، وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته؛ لأن النفس تعفه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظاً عليهم؛ لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قاله ابن عمر والحسن، فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلِّته عندهم في البادية حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها، وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما: أن الغسل قد دخله العدد، الثاني: أنه جُعل للتراب فيه مدخل لقوله -عليه السلام-: ((وعفروه الثامنة بالتراب)) ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب فيه مدخل كالبول، وقد جعل -صلى الله عليه وسلم- الهرَّ وما ولغ فيه طاهراً، والهر سبع لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة، فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نص في أحدهما كان نصاً في الآخر؛ وهذا من أقوى أنواع القياس هذا لو لم يكن هناك دليل، وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف، والحمد لله. يستدلون على طهارته لأن كلب الصيد يأتي بالفريسة وقد نهشها بأسنانه ولم يؤمر بغسلها ولا بتتريبها، وهذا أشد من مجرد الولوغ، فغسل الإناء وإراقة الماء وتعفيره بالتراب كل هذا من باب التنفير من اقتنائه، هذا على رأيهم هم، والصواب أنه لنجاسته، والكلب نجس عند عامة أهل العلم خلافاً لمالك -رحمه الله-، هو نجس، والغسل إنما يكون لطهارة الحدث والخبث، ولا حدث حينئذٍ إذاً فيكون السبب هو الخبث، والخبث هو النجاسة، أما عدم الأمر بغسل ما يصيده الكلب فلأنه سوف يعرض على النار ويُغلى ويطبخ وتطهره خلافاً للإناء، وطبخ هذه الفريسة وغليها بالنار أشد من مجرد غسلها وتتريبها. طالب:. . . . . . . . . هو إن كان الماء قليل فهو يراق بلا شك، الماء القليل يراق، والكثير عند أهل العلم لا يؤثر فيه الولوغ كغيره من النجاسات ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه.

طالب: كلاب التفتيش يتحرج بعض الناس من تفتيش الملابس وكذا، هل يجب غسلها؟ نعم، الكلام التي يسمونها البوليسية، والكلام التي تكشف المجرمين والمخدرات أولاً في اقتنائها محل نظر، هل هي مقيسة على كلب الماشية أو كلب الزرع؟ أم قياسها من باب الأولى، مقياس الأولى أن اقتنائها من أهم كلب زرعٍ أو ماشية، فحينئذٍ يجوز اقتنائها، وإذا قلنا: أن النص توقيف في هذه الأمور الثلاثة، وأنه لا يتعداها وما عدا ذلك لا يجوز وينقص من أجر المقتني كل يوم قيراط، وعلى كل حال هي مثلها من حيث النجاسة والطهارة، مثل غيرها. طالب: تنجسها بشم الملابس والشناط وكذا في المطارات وغيرها؟ يلحقها شيء من لعابها؟ طالب: أحياناً. لا بد من غسلها، لا بد من غسلها. طالب: التفريق بين كلاب الزرع والماشية وغيرها من الكلاب؟ لا، هي نجسة. طالب: تعامل معاملة واحدة؟ إيه معاملة واحدة، كلها نجسة. السابعة: ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه فإن أنتن لم يتوضأ به، وكذلك ما كان له دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجسٍ عند مالك، وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه .. والنفس السائلة هي الدم، إن كان له دم يؤثر، وما لا دم له لا يؤثر. وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلاً أن كثيراً عند المدنيين، واستحب بعضهم أن ينزح من ذلك الماء دلاءً؛ لتطيب النفس به ولا يحدون في ذلك حداً لا يتعدى، ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا، وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم فيجمع بين الطهارتين احتياطاً، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه.

وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين: أن زنجياً وقع في زمزم يعني فمات، فأمر به ابن عباس -رضي الله عنه- فأخرج فأمر بها أن تنزح، قال: فغلبتهم عين جاءتهم من الركن، فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم، وأخرجه عن أبي طفيل: أن غلاماً وقع في بئر زمزم فنزحت، وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم. وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول: كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به، قال شعبة: وأظنه قد ذكر الوزغة أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة فذكره. طالب: لو تغير بهذه الأشياء التي لا نفس لها سائل. لو تغير لو أنتن مثلاً، تقدمت الإشارة إليه أنه لا يتوضأ به، لو أنتن؛ لأن هذا النتن تغير، ومجرد الرائحة لا سيما إذا كانت خفيفة لا تؤثر في الماء؛ لأنها تكون عن مخالطة وعن مجاورة وعن مكث أيضاً لا عن تغير حقيقي بوجود نجاسة فيه حالّةٍ فيه. الثامنة: ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق: أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره؛ لحديث أبي قتادة أخرجه مالك وغيره، وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف، وروي عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماءٍ ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه، واختلف في ذلك عن الحسن، ويحتمل أن يكون الحسن رأى في فمه نجاسة؛ ليصحَّ مخرج الروايتين عنه.

قال الترمذي لما ذكر حديث مالك: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين ومن بعدهم مثل الشافعي وأحمد وإسحاق لم يروا بسؤر الهرة بأساً، وهذا أحسن شيء في الباب، وقد جوَّد مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ولم يأتِ به أحد أتمَّ من مالك، قال الحافظ أبو عمر: الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت ... الحديث، وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقوله فإنه كان يكره سؤره، وقال: إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجةً لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت السنة بينهما في باب التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خلفها مطرح، وبالله التوفيق. لعل المراد خصمته، يعني غلبته. ومن حجتهم أيضاً ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين)) شك قرَّة، وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد وقرة ثقة ثبت. قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني ومتنه: ((طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات، الأولى بالتراب، والهر مرةً أو مرتين)) قرّة شك، قال أبو بكر: كذا رواه أبو عاصم مرفوعاً، ورواه غيره عن قرة ولوغ الكلب مرفوعاً، وولوغ الهر موقوفاً. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب)) قال الدارقطني: لا يثبت هذا مرفوعاً، والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب، وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال: اغسله سبع مرات، قاله الدارقطني. المعول في هذا حديث أبي قتادة وأن سؤره طاهر، وهو أصحّ ما ورد في الباب.

التاسعة: الماء المستعمل طاهر إذا كان أعطاء المتوضئ به طاهرة إلا أن مالكاً وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به، وقال مالك: لا خير فيه ولا أحب لأحد أن يتوضأ به فإن فعل وصلى لم أرَ عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل، وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحديث ومن توضأ به أعاد؛ لأنه ليس بماء مطلق ويتيمم واجده؛ لأنه ليس بواجد ماء. لأن وجود مثل هذا الماء كعدمه فيتيمم مع وجوده ولا يلزم إراقته؛ لأنه انتقل من وصف الطهورية إلى الطهارة؛ لأنه استعمل في رفع الحدث وهذا معروف عند أكثر أهل العلم. وقال بقولهم في ذلك أصبغ بن الفرج وهو قول الأوزاعي، واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك، وحديث عمرو بن عبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار، وقالوا: الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه فوجب التنزه عنه؛ لأنه ماء الذنوب، قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء؛ لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده، وإنما معنى قوله: خرجت الخطايا مع الماء، إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين رحمةً منه بهم وتفضلاً عليهم، وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق. واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة، وإلى هذا ذهب أبو عبد المروزي محمد بن نصر، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللاً: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه، فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل.

روى عبد السلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلا بن زياد عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مرضي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خرج عليهم ذات يومٍ وقد اغتسل، وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقالوا: يا رسول الله هذه لمعة لم يصبها الماء فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبله، أخرجه الدارقطني، وقال عبد السلام بن صالح: هذا بصري وليس بقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلاً، وهو الصواب. وأما قولهم عن رجلٍ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مرضي فهو وصف كاشف لا مفهوم له، إذ كل الصحابة مرضيون. قلت: الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اغتسل ... الحديث فيما ذكره هشيم. قال ابن العربي: مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدي بها فرض آخر أم لا؟ فمنع ذلك المخالف قياساً على الرقبة إذا أدّى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر، وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرقّ أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتقٍ آخر، ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدّى به فرض آخر لتلف عينه حساً، كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكماً، وهذا نفيس، فتأملوه. العاشرة: لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليها الماء راكداً .. يعني من فروع هذه المسألة وما ينظر عليها استعمال الحجارة في رمي الجمار فإذا استعمل مرة في عبادة صارت مستعملة لا تستعمل مرةً أخرى قياساً على الماء، هذا عند من يقول أن الماء المستعمل لا يستعمل في الطهارة مرةً أخرى، ولا شك أن هذا قياس مع الفارق، أولاً: الأصل -المقيس عليه- لم يسلم للخلاف الموجود، والأمر الثاني: أن الماء يتأثر بالطهارة والحجارة لا تتأثر.

العاشرة: لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليها الماء راكداً كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه)) وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة على الماء تنجَّس .. يعني يفرقون بين ورود النجاسة على الماء فتؤثر فيه، وبين ورود الماء على النجاسة فلا تؤثر فيه، يؤثر فيها ولا تؤثر فيه، كما لو صُب الماء على النجاسة يطهرها، ولا يقال: أنه التقى الماء بالنجاسة ثم انتقل من كونه طاهر إلى كونه نجس، لا، ففرق بين أن يكون الماء وارداً أو موروداً، فإن كان وارداً أثّر، كالذنوب الذي صُب على بول الأعرابي، وإن وردت عليه النجاسة أثّرت فيه، فالحكم للوارد عندهم -عند الشافعية-. طالب: حمل النجاسة الآن يسألون المرضى كثير منهم، حمل البول يكون في العلبة البلاستيك وهو يصلي. أما عند الحاجة إليه كأن كان التخلي عنه أو فصله من محله هذا إذا اضطر إليه كما لو فتح للمريض مخرج غير المخرج الأصلي ووضع فيه ليّات ووعاء يحمل فيه البول، إذا كان يتأثر بإزالته فلا شك أن صلاته صحيحة، كمن حدثه دائم، وأما إذا كان لا يتأثر فينزع في وقت الصلاة. طالب:. . . . . . . . . لا، لا، هذا مفرعة عن تأثر الماء بالنجاسة. واختاره ابن العربي وقال: من أصول الشريعة في أحكام المياه أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) فمنع من ورود اليد على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة، قليلاً كان أو كثيراً لما طهرت. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بول الأعرابي في المسجد: ((صبوا عليه ذنوباً من ماء)) قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضاً .. أبو العباس شيخ المصنّف – شيخ المفسّر-، والمقصود به أبو العباس القرطبي صاحب المفهم.

قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضاً بحديث القلتين فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجّس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقلَّ على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة، وهذه مناقَضة إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات، بل من باب عقلية المعاني فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها، ثم هذا كله منه يرده قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه)) ... قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رِشدين بن سعد أبي الحجاج عن معوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي إمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس فيه ذكر اللون، وقال: لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر تلقى فيها الحيَض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الإسناد، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد جوَّد أبو أمامة هذا الحديث. أبو أسامة، أبو سامة. طالب: أسامة؟! نعم. وقد جوَّد أبو أسامة هذا الحديث ولم يروِ أحد .. جوده حمّاد بن سلمة، أبو أسامة الذي ضبطه وأتقنه، أبو أسامة هو الذي جود الحديث، حماد بن سلمة معروف. الطالب: حمّاد بن سلمة؟ معروف، أبو أسامة هو الذي ضبط إسناده.

ولم يروِ أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، فهذا الحديث نص في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم -صلى الله عليه وسلم- بطهارته وطهوره، قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قلت: أكثر ما يكون الماء فيها؟ قال: إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، قال أبو داود: وقَّدرتُ بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ فقال لا، ورأيت فيها ماء متغير اللون فكان هذا دليلاً لنا على ما ذكرناه غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السبخة فماؤها يكون متغيراً من قرارها، والله أعلم. بئر بضاعة يلقى فيها الحيّض –يعني الخرق التي تستعملها الحائض لمنع ما يخرج منها– ولحوم الكلام والنتن، والذي يلقي هذه الأشياء هي الرياح؛ لأنها في منخفضٍ من الأرض، ولا يظن بالصحابة أنهم يلقون فيها وقد نُهوا عن البراز في الموارد وغيرها، وإنما التي تلقيها الرياح. طالب: أقول: الماء متجدد ليس راكداً؟ الماء إيش؟ طالب: بئر بضاعة الماء يتجدد أم أنه راكد؟ لا، يتجدد يتجدد، كل الآبار على هذا، لها نبع كل ما أخذ منها زادت. الحادية عشرة: الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماءً مطلقاً غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله -عز وجل- صافياً، ولا يضره لون أرضه على ما بيَّناه وخالف في هذه الجملة أبو حنيفة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمر، فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائعٍ طاهر، فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به إلا أن أصحابه يقولون:

نعم؛ لأنه امتهان، امتهان لهذه النعمة أن تزال بها النجاسة، وعلى هذا لا يجوز استعمال المطعوم في إزالة النجاسة وإزالة الأوساخ وتنعيم البشرة وترطيبها وإزالة بعض ما يؤثر عليها لا يجوز كل هذا؛ لأن هذا امتهان لنعمة الله -جل وعلا-، وليس هذا من شكرها، نعم قد يحتاج إلى الملح، وقد جاء التوجيه في بعض الأحاديث إلى إزالة النجاسة عند الحائض بشيءٍ من الملح، والملح لا شك أن أصله الماء، فإذا خلط بالماء عاد إلى أصله وانتفت مطعوميته، صار حكمه حكم الماء، وبعض الناس يستعمل العسل، وبعضهم يستعمل الزبادي، وبعضهم يستعمل أشياء من المطعوم لإزالة الأوساخ عن البدن، كل هذا لا يجوز؛ لأنه امتهان، لكن قد يقول قائل: إن بعض هذه الأمور إذا انتهت صلاحيتها، الزبادي عشرة أيام وينتهي بعد العشرة الأيام ويرمى فهل يستعمل في مثل هذه الأشياء؟ نقول: الطعام إذا لم يكن مما يستفاد منه، مما يستفيد منه إنسان أو حيوان فإنها انتفت مطعوميته الآن، انتفت فيستعمل. طالب: للعلاج؟ استعمال العلاج، علاج القروح بالعسل؟ كونه دواء لا بأس -إن شاء الله-، ما في إشكال -إن شاء الله-. طالب: الآن يوجد صابون مكتوب عليه أن فيه خيار وفيه عسل، هل هذا له دخل؟ الشيء إذا استحال ولم يصلح للاستعمال هل ممكن أن يؤكل؟ لا ما يصلح، انتفت مطعوميته. فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز، وكذلك عنده النار والشمس حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ، وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضوع بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب، قال ابن العربي: لما وصف الله -سبحانه- الماء بأنه طهور، وامتنَّ بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك.

وكذلك قال -عليه الصلاة والسلام- لأسماء بن الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب ((حتّيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء)) فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء؛ لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوساً حتى يقال: كل ما أزالها فقد قام به الغرض! وإنما النجاسة حكم شرعي عيَّن له صاحب الشرع الماء فلا يُلحق به غيره إذ ليس في معناه؛ ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه، وقد كان تاج السنة ذو العز ابن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنا. طالب: أحسن الله إليك: استعمال المغاسل في البخار بغير الماء في الصوف، في إزالة النجاسة؟ عند من يرى أن النجاسة إذا زالت بنفسها أو استحالت يكفي وهذا رأي الحنفية واختيار شيخ الإسلام يقول: يكفي البخار، والذين يعينون الماء لإزالة النجاسة كبقية الأئمة يقول: لا يكفي، لا بد من الماء. ما معنى كلامه هذا؟ طالب: ولو أفسدها الماء يفسد الصوف الماء؟ ما يتلفه الماء يُكتفى بأدنى ما يزيل النجاسة، يعني مثل الورق، الورق يتلفه الماء، فإذا زالت النجاسة بغيره كفى. ماذا يقول هنا؟ وقد كان تاج السنة .. وقد كان تاج السنة ذو العز ابن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنا. ماذا يسمي؟ يسمي الفرع الذي يعود على أصله بالإبطال؟ طالب: والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل سقط في نفسه. يعود على أصله بالإبطال، إذا عاد على الأصل بالإبطال سقط، ما وجه تسميته بفرخ الزنا؟ طالب: ولد الزنا؟ يعني ولد الزنا إيش فيه؟ يعود على ولده بالإبطال بإبطال الانتساب إليه؟ طالب: نعم يا شيخ. إيه، وجه.

قلت: وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية ضعاف، لا يقوم شيء منها على ساق، ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها، وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفاً: (النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء) في طريقه ابن محرز متروك الحديث، وكذلك ما روي عن علي أنه قال: لا بأس بالضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان، وضعف حديث ابن مسعود، وقال: تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، وذكر عن علقمة بن قيس قال: لعبد الله بن مسعود: اشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ فقال: لا. قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته، وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود. إما أن يحمل على تعدد القصة، ففي هذه المرة لم يصحبه أحد وقد صحب في غيرها، أو يقال: إنه صحبه في أول الطريق من صحبه ثم في بقية الطريق تفرد -عليه الصلاة والسلام-، وفي حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ أنه ليلة الجن، سمعه يقول: تمرة طيبة وماء طهور، والحديث ضعيف عند أهل العلم بلا شك. قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته، وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما في إداوتك؟ )) فقلت: نبيذ، فقال: ((تمرة طيبة وماء طهور)) قال: فتوضأ منه قال أبو عيسى: وإنما روي هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحبَّ إليّ. قال أبو عيسى: وقول من يقول: لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف، وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في المائدة بيانه، والله أعلم.

الثانية عشرة: لما قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان] وقال: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [(11) سورة الأنفال] توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء حتى رووا عن عبد الله بن عمر وابن عمرو معاً أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار، ولأنه طبق جهنم، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن حكمه حين قال لمن سأله: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)) أخرجه مالك، وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو بكر وعمر وابن العباس لم يروا بأساً بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الوضوء بماء البحر منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: هو نار. قال أبو عمر: وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال: هو عندي حديث صحيح، قال أبو عيسى: فقلت للبخاري: هُشيم يقول فيه ابن أبي برزة، فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة، قال أبو عمر: لا أدري ما هذا من البخاري -رحمه الله-؟ ولو كان صحيحاً لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد، وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده وهو عندي صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه. وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز إلا ما روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه ولا التفت إليه؛ لحديث هذا الباب، وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به، وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنىً ترده الأصول، وبالله التوفيق. الحديث إذا تلقي بالقبول من قبل أهل العلم ازداد قوة، واكتسب القطعية، وصار أقوى من حديثٍ يروى من طرقٍ كثيرة متباينة؛ لأن التلقي بالقبول وحده أقوى من مجرد تعدد الطرق عند أهل العلم.

قال أبو عمر: وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري من عُبَّاد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكاً كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير كثير العمل خائفاً لله يكنى أبا عبد الله، سكن المدينة لم ينتقل منها ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سليم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين، وأما سعيد بن سلمة فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان، والله أعلم، ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم. لم يروِ عنه إلا واحد فهو مجهول العين، مجهول العين عند أهل العلم، لكن أثبت أهل العلم أنه روى عنه غير واحد، فارتفعت جهالته. وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة، وقيل: ليس بمجهول، قال أبو عمر: المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر، وروى الدارقطني من غير طريق مالك عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله)) قال إسناده حسن. الثالثة عشرة: قال ابن العربي: توهَّم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضلة لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله ليغتسل منه، فقلت: إني قد اغتسلت منه، فقال: ((إن الماء ليس عليه نجاسة أو إن الماء لا يجنب)) قال أبو عمر: وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وزاد بعضهم في بعضها: ولكن ليغترفا جميعاً، فقالت طائفة: لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه، وقال آخرون: إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها، وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثراً. والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالماء أو لم تنفرد.

معروف عند الحنابلة أن الماء الذي تخلو به المرأة لطهارة كاملة عن حدث أنه لا يرفع حدث الرجل، ومعروف في هذا حديث عن رجلٍ صحب النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: ((لا يتوضأ الرجل بفضل المرأة، ولا المرأة بفضل الرجل)) فقالوا: بشقّه الأول ولم يقولوا بشقّه الثاني، يعني عملوا بالنهي عن وضوء الرجل بفضل المرأة، لكنهم لم يعملوا بالشق الثاني الذي فيه النهي عن طهارة المرأة بفضل الرجل، ولا شك أن هذا تفريق بين المتماثلين، فإما أن يعملوا بالجملتين، أو يطرحوا الجملتين؛ تبعاً لثبوت الخبر وعدمه، وما هو أصحّ من ذلك، ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- توضأ بفضل بعض نسائه، توضأ مع نسائه، فالذي يظهر أنه لا مانع ولا بأس أن تتوضأ المرأة بفضل الرجل والعكس. وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح، والذي نذهب إليه أن الماء لا ينجسه شيءٌ إلا ما ظهر فيه من النجاسات، أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان. روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد من الجنابة، قال هذا حديث حسن صحيح، وروى البخاري عن عائشة قالت: كنت اغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، يقال له: الفرق، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بفضل ميمونة، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جفنة فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله إني كنت جنباً، قال: ((إن الماء لا يجنب)) قال: هذا حديث حسن صحيح وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي. وروى الدارقطني عن عمرة عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: كنت أتوضأ أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك، قال: هذا حديث حسن صحيح، وروى أيضاً عن رجل من بني غفار قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن فضل طهور المرأة، وفي الباب عن عبد الله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق.

الرابعة عشرة: روى الدارقطني عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخَّن له الماء في قمقمة ويغتسل به، قال: وهذا إسناد صحيح، وروي عن عائشة قالت دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سخنت ماءً في الشمس فقال: ((لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص)) رواه خالد بن إسماعيل المخزومي. حديث ضعيف، وضعفه شديد، حديث في غاية الضعف. رواه خالد بن إسماعيل المخزومي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وهو متروك، ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح ولا يصح عن الزهري قاله الدارقطني. الخامسة عشرة: كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذهما وذلك -والله أعلم- للتشبه بالأعاجم والجبارة لا لنجاسة فيهما، ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه، وكان عاصياً باستعمالهما، وقد قيل: لا يجزئ الوضوء في أحدهما والأول أكثر، قاله أبو عمر، وكل جلد ذُكّي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك، وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، وقد تقدم في النحل. أما ما جاء في الذهب والفضة فالشرب فيهما والأكل جاء به الحديث الصحيح الصريح، وقياس سائر الاستعمالات التي منها الوضوء على الشرب وكذلك الأكل يراه بعضهما أنه من قياس الأولى فالشرب قد يحتاج إليه، الحاجة إليه داعية للإناء، أما سائر الاستعمالات فالحاجة إليها أقل، فمنع الاستعمال أولى من استعمال الأكل والشرب فقط للحاجة الداعية إلى ذلك، ومنهم من لا يقيس، يقول: يمنع الأكل والشرب وتباح سائر الاستعمالات، ولا شك أن هذا توسع، وأمور الدنيا جاءت النصوص بعدم التوسع فيها، فالمتجه منع جميع الاستعمالات إلا ما استثنى بالنصوص. وأما مسألة الدباغ وهي المسألة التي تليها ولا شك أن الدباغ طهور ((أيّما إهابٍ دبغ فقد طهر)) ويشمل جميع الأهب، إلا ما نهي عن استعماله مع كونه يطهر كجلود السباع التي نهينا عن اتخاذها والجلوس عليها، فهذه وإن طهرت بالدباغ إلا أنه لا يجوز استعمالها، وما عدا ذلك فإنه يدبغ ويستعمل ويطهر، ويستعمل في المائعات واليابسات على حدٍ سواء، خلافاً لمن فرق بين ذلك، والله أعلم. وصلى الله على محمد. اللهم صلّ وسلم عليه.

سورة الفرقان - الآيات (49 - 67)

تفسير القرطبي سورة الفرقان الآيات (49 - 67) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله- تعالى-: قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [(49) سورة الفرقان]. قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي بالمطر، {بَلْدَةً مَّيْتًا} بالجدوبة والمحل وعدم النبات، قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به، وقال: {مَّيْتًا} ولم يقل ميتة لأن معنى البلدة والبلد واحد، وقاله الزجاج وقيل: أراد بالبلد المكان. البلدة، المراد البلدة، وقيل أراد بالبلدة المذكورة في الآية المكان، وإلا لو كان المراد البلد ما احتاج إلى تأويل. وقيل: أراد بالبلدة المكان، {وَنُسْقِيَهُ} قراءة العامة بضم النون، وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما نَسقيه (بفتح) النون. نُسقيه من أسقى الرباعي، ونَسقيه من الثلاثي. {مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي بشراً كثيراً، وأناسي واحده إنسي، نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء، وله قول آخر: وهو أن يكون واحده إنساناً ثم تبدل من النون ياء فتقول: أناسي والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضاً من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي لا فرق بينهما. يعني مثل أناسي، ما دام جاز إبدال النون بالياء في أناسي يجوز أن يبدل ما كان على زينته كالبساتين والسراحين. قال الفراء: ويجوز (أناسي) بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه مثل: قراقير وقراقر. يعني بياء وبدونها، مثل مفاتح ومفاتيح، ومساند ومسانيد، ومراسل ومراسيل .. الخ.

وقال: {كَثِيرًا} ولم يقل كثيرين؛ لأن فعيلاً قد يراد به الكثرة، نحو {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [(69) سورة النساء]، قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [(50) سورة الفرقان] يعني القرآن وقد جرى ذكره في أول السورة، قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [(1) سورة الفرقان] وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي} [(29) سورة الفرقان] وقوله: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [(30) سورة الفرقان]. ضمير (صرفناه) إما أن يعود إلى القرآن، وقد مرّ ذكره مراراً، أو يعود إلى المطر الذي هو أقرب مذكور، وكأن هذا أقرب إلى الفهم باعتبار أنه أقرب المذكور، أقرب من القرآن والسياق فيه. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي جحودا له وتكذيباً به. وقيل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر، روي عن ابن عباس وابن مسعود: وأنه ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعضٍ نقص من غيرهم، فهذا معنى التصريف، وقيل: {صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} وابلاً وطشاً وطلاً ورهاماً، قال الجوهري: الرهام الأمطار اللينة ورذاذاً، وقيل: تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه. أما الضمير فعوده إلى المطر أظهر، وتصريفه بمعنى توزيعه بين الناس حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، فقد يعطى أناس ويحرم أناس آخرون، يعطى الكفار ابتلاء وامتحان، ويحرم المسلمون عقوبةً لهم على ما اقترفوه واجترحوه من السيئات والذنوب والمعاصي –نسأل الله العافية-.

{لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} قال عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا، قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافاً أن الكفر هاهنا قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلاً فهو كافر، وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فلما أصبح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أصبح الناس فيها رجلين، شاكر وكافر، فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه، وأما الكافر فيقول: مطرنا بنوء كذا وكذا)) وهذا متفق على صحته بمعناه، وسيأتي في الواقعة -إن شاء الله-. وروي من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما من سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار)). مخرج؟ طالب: قال: ذكره المصنف مرفوعاً تبعاً للبغوي حيث ذكره في تفسيره بدون إسناد عن ابن مسعود، وعزاه ابن عباس من قوله وهو الصواب، وقد أسنده الطبري والحاكم عن ابن عباس موقوفاً وصححه ووافقه الذهبي، وهو على شرطهما، وأسنده الطبري عن ابن مسعود موقوفاً وهو الصواب، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره ابن مسعود وابن عباس موقوفاً. يعني وقفه أشبه إما على ابن عباس أو ابن مسعود. وقيل: التصريف راجع إلى الريح، وقد مضى في البقرة بيانه، وقرأ حمزة والكسائي: {ليذكروا} مخفقة الذال من الذكر، والباقون مثقلاً من التذكر، أي ليذكروا نعم الله، ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به، فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بَعُد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر, قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [(51) سورة الفرقان] أي رسولاً ينذرهم، كما قسمنا المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكن لم نفعل، بل جعلناك نذيراً للكل؛ لترتفع درجتك، فاشكر نعمة الله عليك.

قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [(52) سورة الفرقان] أي فيما يدعونك إليه من إتباع آلهتهم، {وَجَاهِدْهُم بِهِ} [(52) سورة الفرقان] قال ابن عباس: بالقرآن، وقال ابن زيد: بالإسلام، وقيل: بالسيف وهذا فيه بُعْد؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال. {جِهَادًا كَبِيرًا} لا يخالطه فتور. فالمراد بالجهاد هنا جهاد اللسان، جهاد الكلمة. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [(53) سورة الفرقان] عاد الكلام إلى ذكر النعم، و {مَرَجَ} خلّى وخلط وأرسل، قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدها في الآخر، وقال ابن عرفة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان، يقال: مرجته إذا خلطتَه، ومرَج ومرِج الدين .. يعني على الضبطين. والأمر اختلط واضطرب، ومنه قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [(5) سورة ق] ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو بن العاص: ((إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا وهكذا)) وشبَّك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: ((إلزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة أمر نفسك، ودع عنك أمر العامة)) خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. في الحديث الآخر بمعناه: ((إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، فعليك بخويصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)). وقال الأزهري: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [(53) سورة الفرقان] خلى بينهما، يقال: مَرجْتُ الدابة إذا خليتها ترعى، وقال ثعلب: المرج الإجراء، فقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما، وقال الأخفش: يقول قوم: أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنى، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [(53) سورة الفرقان] أي حلو شديد العذوبة، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة، وروي عن طلحة أنه قرأ: {وهذا مَلِح} بفتح الميم وكسر اللام، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه. مَلِح، يعني صيغة مبالغة مثل حذر، يعني شديد الملوحة، بالغ الملوحة.

كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [(19 - 20) سورة الرحمن]. {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز والحجر المانع. وقال الحسن: يعني بحر فارس وبحر الروم، وقال ابن عباس وابن جبير: يعني بحر السماء وبحر الأرض. قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه، {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} حراماً محرماً أن يعذب هذا الملح بالعذب أو يملح هذا العذب بالملح. طالب: يلتقيان أين؟ بحر فارس والروم؟ التي تصب الحلو، الماء الحلو من الأنهار والمالح، ولا يختلط هذا ولا هذا. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [(54) سورة الفرقان]. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا} أي خلق من النطفة إنساناً، {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَبًا وَصِهْرًا} وقيل: {مِنَ الْمَاء} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وفي هذا الآية تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم والتنبيه على العبرة في ذلك. الثانية: قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين، قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقاً مطلقاً ولم يكن نسباً محققاً، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [(23) سورة النساء] بنته من الزنا؛ لأنها ليست ببنتٍ له في أصح القولين لعلمائنا، وأصح القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعاً فلا صهر شرعاً، فلا يحرم الزنا بنت أم، ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتنَّ بالنسب والصهر على عباده.

لأنها ليست ببنتٍ في أصح القولين لعلمائنا، هي ليست ببنت من حيث الحكم الشرعي فلا تنسب إليه؛ لأن الولد للفراش، وليست للزاني، فليست ببنتٍ له اتفاقاً، أما قوله: في أصح القولين لعلمائنا: فيما يترتب على ذلك من كونه ليست بنتاً له أنه يجوز له أن يتزوجها، والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يتزوجها؛ لأنها خلقت من ماءه وإن لم تثبت نسبتها إليه، ولعل هذا أحوط. لأن الله امتنَّ بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما، قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنا، أو أخته أو بنت ابنه من زنا، فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز آخرون منهم: عبد الملك بن الماجشون وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في النساء مجوداً. قال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر الذي يحل نكاحه، وقاله الزجاج: وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه فسميت المناكح صهراً؛ لاختلاط الناس بها، وقيل: الصهر قرابة النكاح فقرابة الزوجة هم الأَختان وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عاماً لذلك كله قاله الأصمعي. وقال ابن الأعرابي: الأَختان أبو المرأة وأخوها وعمها -كما قال الأصمعي- والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه، وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني: أَختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته، قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعاً يقال: صهرت الشيء: أي خلطته، فكل واحد منهما قد خلط صاحبه، والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن؛ لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع.

روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك)) فهذا على أن زوج البنت ختن، والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه وكأن الزوج قد انقطع عن أهله وقطع زوجته عن أهلها، وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع، قال ابن عطية: وذلك عندي وهمٌ أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس، وفي رواية أخرى: من الصهر سبع، يريد قوله -عز وجل-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [(23) سورة النساء] فهذا هو النسب، ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [(23) سورة النساء] إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ثم ذكر المحصنات، ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى: وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذوات الأزواج، قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسباً، وهو قول الزجاج، قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من قوله -جل ثناؤه-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} والصهر من له التزويج، قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولاً: أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات. قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال؛ لأن المصاهرة من جهتين تكون وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلي -رضي الله عنه- لأنه جمعه معه نسب وصهر، قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [(54) سورة الفرقان] على خلق ما يريده.

يعني الحرمة في هذا متأكدة، كمن يتزوج القريبة فهذا يجتمع فيه النسب والمصاهرة، وأيضاً العم الصهر والخال الصهر يتأكد حقه أكثر من حق العم غير الصهر والخال غير الصهر، فكلما اجتمع في الشخص سببان أو ثلاثة كان حقه آكد بقدر ما يجتمع له، فالعم المجرد له حق العمومة وعمّ الرجل صنو أبيه، يعني مثل أبيه، لكن إذا كان مع ذلك صهر كان له أيضاً من الحق أعظم من الآخر، وإن كان ممن يودّ ويحبّ في الله -جل وعلا- وسائر العمومة لا يشتركون معه في هذا الوصف ازداد حقه. طالب: الأصهار من الزوجة هل يدخلون في الحث على صلة الرحم؟ أبو الزوجة؟ هو بقدر ما يحقق الهدف الشرعي من النكاح من المودة والتآلف والمحبة يطلب ذلك وإلا لا يجب له من الصلة ما يجب لذوي الأرحام، وأيضاً صلة الأصهار بالنسبة للأولاد – أولاد الرجل- الذين هم ليسوا بأخواله ولا أعمامه بأن يكونوا أصهاراً له من زوجةٍ أخرى مثلاً، إنما صلتهم بقدر ما يؤدي الغرض في برّ أبيهم، يعني مثلاً زوجة الأب ليس لها حق على أولاده إلا من جهة أن صلتها برّ بالوالد، يعني من حق الوالد وإلا فالأصل أن ليس لها حق، وأهلها كذلك إذا كانت صلتهم من قبل الأولاد مما يسرّ الوالد كان ذلك من برّه. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} [(55) سورة الفرقان] لما عدد النعم، وبيَّن كمال قدرته، عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر، أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتاً جمادات لا تنفع ولا تضر.

{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [(55) سورة الفرقان] روي عن ابن عباس {الْكَافِرُ} هنا أبو جهل لعنه الله، وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه، وقال عكرمة: الكافر إبليس ظهر على عداوة ربه، وقال مطرف: {الْكَافِرُ} هنا الشيطان، وقال الحسن: {ظَهِيرًا} أي معيناً للشيطان على المعاصي، وقيل: المعنى وكان الكافر على ربه هيِّناً ذليلاً لا قدر له ولا وزن عنده، من قول العرب: ظهرت به: أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} [(92) سورة هود] أي هيناً، ومنه قول الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا عليَّ جوابها يعني وراء ظهرك؛ لزهدك فيه، وأما الشيء الذي ترغب فيه فأنت تقبل عليه بوجهك ولا توليه ظهرك. هذا معنى قول أبو عبيدة، وظهير: بمعنى مظهور: أي كفر الكافرين هيِّن على الله تعالى، والله مستهين به؛ لأن كفره لا يضره، وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قوياً غالباً يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدره له على دفع ضر ونفع. طالب: الراجح في الآية؟ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}؟ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} يظهر -والله أعلم- أن المراد الجنس، كل كافر بهذه الصفة. طالب: ما معنى ظهيراً؟ جاء الكلام، إن كان المراد بالرب هو الله -جل وعلا- لأن ظهير فعيل، تأتي بمعنى فاعل وتأتي بمعنى مفعول، يعني ظاهر قادر أو مظهور مقدور عليه، فإن كان المراد به الآلهة الكفار فهي مقدور عليها، مظهور عليها، لا قدرة لها –مغلوبة- بخلاف إذا قلنا: أن المراد به ظاهر: اسم فاعل: يعني أن الله قادر عليهم. طالب: معنى المظهور عليه؟ يعني المقدور عليه. طالب: هل تحتاج أن تتعدي، تتعدي بعلى؟ المقصود مقدور عليهم، المعنى واحد. طالب: في بعض المساجد تكون هناك دواليب خلف المصلي فيها مصاحف؟

والمصاحف على الجهة الثانية؟ يعني الذي على ظهر المصلي تكأة مثل هذه، والمصاحف في ظهرها –من خلفها-؟ والله لا ينبغي هذا، لا ينبغي؛ لأنها بالفعل مولاة، مولاة الظهر، لكن إذا كبر الحاجز وصار واسع يخف الأمر، إن كان الحاجز بينهما واسع، لكن إذا كان مجرد طبقة رقيقة فالأولى تركها، مو الآن يحطون الكراسي التي يستندون عليها هذه، الجدار الذي يستندون عليه، يحطون في خلفه مصاحف من أجل الذي في الصف الثاني، مو هذا المقصود؟ فإن كان الحاجز كبير يخف الأمر، وإلا فالمنع متجه. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [(56) سورة الفرقان] يريد بالجنة مبشراً ونذيراً من النار، وما أرسلناك وكيلاً ولا مسيطراً، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي و {من} للتأكيد، {إِلَّا مَن شَاء} لكن من شاء، فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء {أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق، ويجوز أن يكون متصلاً ويقدر حذف المضاف، التقدير: إلا أجر من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، بإتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [(58) سورة الفرقان] تقدم معنى التوكل في آل عمران، وهذه السورة، وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. مثل التوكيل، كون الإنسان يوكل أحد أن ينوب عنه لكنه لا يعني أنه يتوكل عليه، يجعله سبب في تحقيق مراده والتوكل على الله -جل وعلا- هو الذي يحقق المطلوب، وأما الوكيل فهو مجرد سبب، وسيلة وواسطة بين موكله وبين غيره؛ لتحقيق المطلوب، كثير من الناس يقول -جاء مناسبة لهذه الكلمة- يقول: وكّل الله، المفروض أنه يقول: توكّل على الله، وأما التوكيل فهو للواسطة، السبب الذي يتحقق على يديه الأمر -إن شاء الله- يعني إذا أراد الله ذلك. طالب: يُنهى عن هذه اللفظة؟

وكّل الله، نعم، من باب على جهة التوسع في اللفظ، فإذا أردنا أن الله -جل وعلا- من أسمائه الوكيل فكونه وكيل لا يعني أنه سبب أو يتوصل به إلى قضاء الحوائج، هو الذي يقضي الحوائج، وليس كالوكيل من البشر، كأن مقصود قولهم: وكّل الله، يعني توكّل عليه أو فوّض أمرك إليه، أو اتخذه وكيلاً فلا مانع -إن شاء الله تعالى-، لكن لا على معنى الوكيل من البشر الذي هو مجرد سبب قد يتحقق الأمر على يديه أو لا. طالب: الغالب أنه يقصد: اتخذه وكيلاً، فوّض الأمر إليه ... من هذه الحيثية لا بأس. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزِّه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء، والتسبيح: التنزيه، وقد تقدم، وقيل: {وَسَبِّحْ} أي وصلِّ له، وتسمى الصلاة تسبيحاً. الصلاة تسبيحاً، والنافلة سبحة. {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي عليماً فيجازيهم بها، قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [(59) سورة الفرقان] تقدم في الأعراف، و {الَّذِي} في موضع خفضٍ نعتاً للحي، وقال: {بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين كقول القطامي: ألم يحزنك أن حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا أراد وحبال تغلب فثنَّى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين. نعم إذا عاد الضمير إلى فريقين ولو تعدد أفراد الفريقين فإنه يعود إليهما بالتثنية، ولو تعدد الأفراد، وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فعود الضمير بالجمع بناءً على تعدد الأفراد وعوده بالتثنية بناءً على الطائفتين. {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه، وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة: أن الباء تكون بمعنى عن، كما قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [(1) سورة المعارج] وقال الشاعر: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي وقال علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب

أي: عن النساء وعما لم تعلمي، وأنكره علي بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفساداً لمعاني قول العرب: لو لقيت فلاناً للقيك به الأسد: أي للقيك بلقائك إياه الأسد، المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيراً، وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى، فـ {خَبِيرًا} نصب على المفعول به بالسؤال. قلت: قول الزجاج يخرَّج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيراً: أي علماً به أي: بصفاته وأسمائه، وقيل: المعنى فاسأل له خبيراً فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوي: ولا يحسن حالاً إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول، ولا يصح كونها حالاً من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره، ولا يكون من المفعول؛ لأنه المسؤول عنه، وهو الرحمن خبير أبداً، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة، مثل: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} [(91) سورة البقرة] فيجوز. وأما {الرَّحْمَنُ} ففي رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلاً من المضمر الذي في {استوى} ويجوز أن يكون مرفوعاً بمعنى: هو الرحمن، ويجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ويجوز الخفض بمعنى: وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن، يكون نعتاً، ويجوز النصب على المدح. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [(60) سورة الفرقان] أي الله تعالى، {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} على جهة الإنكار والتعجب، أي: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك بقوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه -رحمه الله- لم يقرأ الآية الأخرى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [(30) سورة الرعد]. على مقتضى كلام ابن العربي –رحمه الله- أنهم يقرّون بالرحمن باعتبار أنه الإله الخالق المدبر؛ لكن لا يعترفون بهذه الصفة التي هي صفة الرحمة، لكن قوله -جل وعلا-: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} يرد قولهم.

طالب: أليست السورة مكية؟ طيب كيف يفسرونها بمسيلمة وهو لم يأت بعد؟ {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة –يعنون مسيلمة- ومسيلمة لم يأتِ بعد، يعني هذا قبل مسيلمة؛ لأن السورة مكية، على كل حال هذا الاسم ينكرونه؛ لأنهم تصوروه على معنى تعدد الآلهة فالرحمن غير الرب -جل وعلا-، ولذا قال الله -جل وعلا-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [(110) سورة الإسراء] وهذا من أسمائه الحسنى، ولجهلهم وكفرهم ما يستوعبون مثل هذه الأمور. فعلى كلٍ كون المفسر وغيره أيضاً يقولون: أنهم يقولون: أنهم ما يعرفون إلا رحمان اليمامة، هذا قالوه فيما بعد حينما وجد مسيلمة الكذاب –لعنة الله وقاتله- لما وجد بعد السورة بأزمانٍ متطاولة قالوا: ما نعرف إلا رحمان اليمامة، فهم يشبهونه بالرب -جل وعلا-؛ مع أن جمعاً من أتباعه يعرفون كذبه، يعرفون أنه كذاب ويعترفون بذلك وينطقون به، ويقولون: كذاب اليمامة خير من صادق مضر، مع أن هذا كذاب وهذا صادق، لكنه التعصب المقيت، هذا شؤم التعصب يعمي القلب ويصمه فلا ينطق بحق –نسأل الله السلامة والعافية-. على كل حال هم ينكرون الاسم، الرحمن ينكرونه ولا يلزم أن يكون بهذه المناسبة يعني بقولهم: رحمان اليمامة. {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذه قراءة المدنيين والبصريين أي: لما تأمرنا أنت يا محمد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: (يأمرنا) بالياء يعنون الرحمن، كذا تأوله أبو عبيد، قال: ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفاراً، فقال النحاس: وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم: أنسجد لما يأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولاً. {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي زادهم قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن، نفوراً عن الدين، وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعاً ما زاد أعداك نفوراً.

الذي زادهم النفور هو الأمر، والذي زاده الخضوع هو الأمر، فالذي زادهم النفور هو الأمر بالسجود والذي زاده الخضوع هو الأمر بالسجود، فالذي زادهم النفور هو الذي زاده الخضوع. قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا} [(61) سورة الفرقان] أي منازل، وقد تقدم ذكرها، {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} قال ابن عباس: يعني الشمس نظيره: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [(16) سورة نوح] وقراءة العامة: {سِرَاجًا} بالتوحيد، وقرأ حمزة والكسائي: (سُرحاً) يريدون النجوم العظام الوقادة، والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأول أن السُرج: النجوم، وأن البروج: النجوم، فيجيء المعنى نجوماً ونجوماً، قال النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السرج: النجوم الدراري، قال الثعلبي: كالزهرة والمشتري وزحل والسماكين ونحوها. {وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [(61) سورة الفرقان] ينير الأرض إذا طلع، وروى عصمة عن الأعمش و {قُمْرًا} بضم القاف وإسكان الميم وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [(62) سورة الفرقان]. فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء، وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابته خلفة: أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات: وهو روق يخرج بعد الورق الأول في الصيف، ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى: بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم الرئم ولد الظبي وجمعه آرام، يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج، ومنه قول الآخر يصف امرأةً تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلَّق بيعا في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا جلّق هذه هي دمشق.

قال مجاهد: {خِلْفَةً} من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى، وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، وقيل: هو من باب حذف المضاف أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة: أي اختلاف. جعل الليل والنهار خلفة يعني يخلف أحدهما الآخر، فإذا ذهب النار خلفه الليل، وإذا ذهب الليل خلفه النهار. {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} [(62) سورة الفرقان] أي يتذكر فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثاً فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. وفي الصحيح: ((ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة)). وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)). يعني من فاته من قراءته بالليل فليقرأ بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس، ومن فاتته صلاة الليل فيصلي إذا خرج وقت النهي بعد ارتفاع الشمس إلى الزوال، ويكون كأنما فعله بالليل، لكن إذا لم يكن هذا ديدن ويكون هو المتسبب للفوات بسهرٍ وتفريط وإلا فصلاة الليل لا يعدلها شيء. أما إذا فاتت على الإنسان مع بذل الأسباب وانتفاء الموانع فإنه إذا صلاها بين ارتفاع الشمس إلى زوالها فكأنما فعلها بالليل، وهذا محل الوتر لمن فاته يقضيه شفعاً، وأما من قال بأنه يقضيه بعد طلوع الفجر إلى الصلاة فهذا قول ضعيف؛ لأن وتر النبي -عليه الصلاة والسلام- انتهى إلى السحر، فإذا خشي أحدكم الصبح، إذا طلع الصبح فلا صلاة، لا وتر ولا غيره، إلا ركعتي الفجر كما جاء الاستثناء. طالب:. . . . . . . . . لا، خلاص انتهى، فات محلها. طالب: بالنسبة لسنة الضحى يقدمها على صلاة الليل؟ نعم، صلاة الضحى إذا رمضت الفصال، يعني اشتد حرّ الشمس، ووقتها من ارتفاع الشمس إلى زوالها، لكن يقدم صلاة الليل –القضاء- ووقت صلاة الضحى باقي.

طالب: إذا أذن والإنسان في صلاة الوتر؟ إن كان في آخر ركعة يكملها خفيفاً، وإلا فيصلي واحدة توتر له ما قد صلى، إذا خشي أحدكم الصبح فليصل واحدة توتر له ما قد صلى. طالب:. . . . . . . . . إذا أذن يقتصر على الأقل، على أقل الوتر. طالب: إذا صلى بعد طلوع الشمس تحسب له الضحى؟ إذا صلى ركعتين بعد ارتفاع الشمس هي الضحى. الثانية: قال ابن العربي: سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حياً عالماً، وبذلك كماله وسلط عليه آفة النوم، وضرورة الحدث، ونقصان الخلقة، إذا الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل، ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة، ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغواً، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه، ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية، عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم.

عديم فعيل بمعنى فاعل، عادم، هذا إذا كان ما يذهب عليه إلا هذا القدر المذكور، بمعنى أنه ينام بالليل والنهار نصف الوقت، وقد ينام منه ما ينام، وقد ينشغل بأعمال دنياه بقدر ما يحتاج إليه فلا يبقى له إلا النزر اليسير، لكن إذا كان ممن ابتلي بالسهر، والليل يذهب جله في القيل والقال ثم ينام النهار ماذا بقي له؟ لا يبقى شيء؟! وإن كان ممن ابتلي بالوظائف من غير نيةٍ صالحة فذهب عمره سدىً، ثلث المدة في الوظيفة فإن خليت عن نيةٍ صالحة، وعملٍ متقن تبرأ به الذمة وإلا فقد خاب وخسر؛ لأنه ما يبقى له شيء، يذهب عمره سدى، وذكر عن سلف هذه الأمة أنهم يستغلون الأنفاس، منهم من يستغل الوقت بالصلاة فيصلي ثلاثمائة ركعة متواصلة، عرف عن الإمام أحمد –رحمه الله- أنه يصلي باليوم والليل ثلاثمائة ركعة، الحافظ عبد الغني بين طلوع الشمس وارتفاعها إلى الزوال ثلاثمائة ركعة، الحافظ شرف الدين الطيبي يجلس من صلاة الصبح إلى أذان الظهر في التفسير، يفسر القرآن للطلاب، وبعد صلاة الظهر إلى العصر في صحيح البخاري، وبعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب في كتابٍ ثالث، هذا ديدنه، جل عمره على هذا، في يومٍ من الأيام أنهى التفسير وجلس ينتظر صلاة الظهر ففاضت روحه وهو ينتظر الصلاة. الآن الضياع بالجملة، يعني قد يمر على طالب العلم اليوم واليومين ما فتح المصحف، هذه كارثة، فضلاً عن كونه لا يفتح كتب العلم والنظر في سير أهل العلم وعلى رأسهم المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام، لا شك أن تضييع الأوقات هو تضييع النفس يعني قتل النفس، وهذه الأنفاس هي عمر الإنسان فإذا ذهبت سدى فلا خير فيه ولا قيمة له. الثالثة: الأشياء لا تتفاضل بأنفسها فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات، وقد اختلف أي الوقتين أفضل؟ الليل أو النهار، وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم، قاله ابن العربي. غنية في الدلالة هي تفضيل النهار، ولكن للنهار وظائفه ولليل وظائف، فهناك عبادات فعلها في الليل أفضل كالصلاة، وعبادات في النهار أفضل كالصوم وغيره من العبادات النهارية، لا شك أن لكل وقتٍ وظائفه.

قلت: والليل عظيم قدره، أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- بقيامه فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [(79) سورة الإسراء] وقال: {قُمِ اللَّيْلَ} [(2) سورة المزمل] على ما يأتي بيانه، ومدح المؤمنين على قيامه فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [(16) سورة السجدة] وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل)) وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء، وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى، حسبما يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-. الرابعة: قرأ حمزة وحده: (يذكر) بسكون الذال وضم الكاف وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي وفي مصحف أبي: (يتذكر) بزيادة تاء، وقرأ الباقون: {يذكر} بتشديد الكاف ويذكر ويذَّكر بمعنى واحد، وقيل: معنا {يذكر} بالتخفيف: أي يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها. {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} يقال: شكر يشكر شكراً وشكوراً مثل كفر يكفر كفراً وكفوراً، وهذا الشكور على أنهما جعلهما قواماً لمعاشهم وكأنهم لمَّا قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} قالوا: هو الذي يقدر على هذه الأشياء. قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [(63) سورة الفرقان] لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضاً، وذكر صفاتهم وأضافهم إلى عبوديته تشريفاً لهم، كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(1) سورة الإسراء] وقد تقدم.

فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [(179) سورة الأعراف] يعني في عدم الاعتبار كما تقدم في الأعراف، وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض فحذف هم كقولك: زيد الأمير: أي زيد هو الأمير، فـ {الذين} خبر مبتدأ محذوف قاله الأخفش، وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [(75) سورة الفرقان] وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها قاله الزجاج، قال: ويجوز أن يكون الخبر {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} [(63) سورة الفرقان]. و {يَمْشُونَ} عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض، وهو معاشرة الناس وخلطتهم. المراد بالمشي إذا أطلق يراد به وقع الأقدام على الأرض، هذا المشي، {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} بمعنى أنهم لا يضربون الأرض بأرجلهم بحيث يسمع لهم ضجيج وأصوات ولا يسرعون في المشي وإنما يمشون هوناً، هذه صفة عباد الرحمن وجاء في الخبر أن سرعة المشي تذهب بهاء الوجه، ولا شك أن هذا من الخفة سرعة المشي، خفة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول لعلي وقد بعثه للقتال: ((أنفذ على رسلك)) لا شك أن الهون والرفق في كل شيء زين له، لكن قد يكون هناك حاجة تدعو إلى الإسراع في ظرفٍ من الظروف لأمرٍ يفوت، أو لأمرٍ يلحقه ويخشى ضرره لا بأس، فالأمور تقدر بقدرها، والضرورات لها أحكامها، والحاجات لا شك أنها غالبة، ويبقى أن الأصل الهون في كل شيء والرفق واللين. طالب: كيف يجمع بين هذه الآية وصفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: كأنه ينحط من صبب.

كأنه ينحط من صبب، لا تعارض بين هذا وهذا، مع الهون، يعني يقارب بين الخطى ويمشي هوناً، ومع ذلك يطوي المسافات، بمعنى أنه لا يتماوت في مشيه بحيث ينتهي وقته ولم يدرك شيء، ولا يعني أنه يسرع سرعة ينتقد فيها، ولا شك أن السرعة محل انتقاد، وهي مظنة سفه، مظنة أفعال غير الرجال الكمّل، وأما هو -عليه الصلاة والسلام- فمشيه متوسط، فإنه لا يتماوت كما يفعله بعض من ينتسب إلى النسك، التنسك، وليس أيضاً بعض ممن يمشي مشية السفهاء من العجلة وإحداث الأصوات من قرع الأقدام وما أشبه ذلك. قوله تعالى: {هَوْنًا} الهون مصدر الهين، وهو من السكينة والوقار، وفي التفسير: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع)). وروي في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا زال زال تقلعاً، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هواناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، التقلع: رفع الرجل بقوة، والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده، والهون: الرفق والوقار، والذريع: الواسع الخطى: أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال، ويقصد سمته. سمته: يعني جهته التي يريدها، لا يحيد عن طريقه يميناً ولا شمالاً. وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال: كأنما ينحط من صبب، قاله القاضي عياض، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسرع جبلةً لا تكلفاً، قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه، قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث؛ لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط، وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [(63) سورة الفرقان] فما وجدت في ذلك شفاءً فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. قال القشيري: وقيل لا يمشون لإفسادٍ ومعصية بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [(18) سورة لقمان].

والمعنى الأخير يؤخذ من مفهوم الآية، الذي يمشي هوناً لا يظن به سوء، ولا يريد سوءاً ولا اعتداءً على أحد؛ لأن من عادة الذي يريد الاعتداء على أحد أو يريد الإفساد والمعصية أنه يسرع في مشيه ليفرغ منها قبل أن يطلع عليه. طالب: أخذ الأحكام والتفسير من المنامات؟ لا شك أنه لا يعول عليها ولا يعتمد عليها لكن إن أبدت معنىً صحيح وروجعت لها المراجع ووجد هذا القول من ضمن أقوال أهل العلم، أو مما تحتمله الآية فيكون قول من الأقوال يعني ليس بملزم. وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع، وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا، وقيل: لا يتكبرون على الناس، قلت: وهذه كلها معانٍ متقاربة ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه، جعلنا الله منهم بفضله ومنِّه. وذهبت فرقة إلى أن {هَوْنًا} مرتبط بقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} [(63) سورة الفرقان] أن المشي: هو هون، قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبةً لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بينَّاه، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل؛ لأنه رب ماشٍ هوناً رويداً وهو ذئب أطلس، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب، وهو -عليه الصلاة والسلام- الصدر في هذه الأمة. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من مشى منكم في طمع فليمش رويداً)) إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذماً لهم: كلهم يمشي رويد ... كلهم يطلب صيد نعم، هذا الذي يطلب صيد لا بد أن يمشي رويداً لئلا يتنبه له هذا الصيد فيفر ويتركه، معروف هذا، والصيد مثلما يكون من الطيور والوحوش يكون من غيرها، الذي يتحيّن غرّات الناس –نسأل الله العافية- يمشي رويداً. قلت: وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه: تواضعت في العلياء والأصل كابر ... وحزت قصاب السبق بالهون في الأمرِ سكون فلا خبث السريرة أصله ... وجل سكون الناس من عظم الكبرِ

قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [(63) سورة الفرقان] قال النحاس: ليس {سَلَامًا} من التسليم إنما هو من التسليم تقول العرب: سلاماً: أي تسلماً منك: أي براءة منك منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبا بـ {قَالُوا} ويجوز أن يكون مصدراً، وهذا قول سيبويه، قال ابن عطية: والذي أقوله: أن {قَالُوا} هو العامل في {سَلَامًا} لأن المعنى: قالوا هذا اللفظ، وقال مجاهد: معنى {سَلَامًا} سداداً أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفق ولين، فـ {قَالُوا} على هذا التأويل عامل في قوله: {سَلَامًا} على طريقة النحويين، وذلك أنه بمعنى قولاً، وقالت فرقة: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاماً بهذا اللفظ: أي سلمنا سلاماً أو تسليماً ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلاً من لفظه على طريقة النحويين. مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف نسخ منها .. {سَلَامًا} يعني مصدر مؤكد للفعل نفسه سلمنا سلاماً أو سلّمنا سلاماً، أو لمعناه قلنا: سلاماً أو قالوا: سلاماً، يعني قولاً سلاماً، وهذا نظير قول الصائم لمن سابّه وشاتمه فليقل: إني صائم، والمسلم إذا قيل له من قبل السفهاء ما يقال له، قال: سلاماً؛ لأني لا أقول إلا ما يرضي الله -جل وعلا- وأسلم به، كما أن الصائم ليس بمستعدٍ لمكافأة السفهاء على ما يقولون، وكذلك المسلم في أحواله كلها، يعني إذا جاء النص خاص بالصيام فمثل النص الذي معنا عام في جميع أحوال المسلم، عباد الرحمن هؤلاء هذه صفاتهم.

مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف نسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم فيه على نسخٍ سواه، رجح به أن المراد السلامة لا التسليم؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة، والآية مكية فنسختها آية السيف، قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله: تسلمنا منكم ولا خير ولا شر بيننا وبينكم، قال المبرد: كان ينبغي أن يقال: لم يؤمر المسلمين يومئذٍ بحربهم ثم أمروا بحربهم، وقال محمد بن يزيد: المبرد –المبرد معروف-. أخطأ سيبويه في هذا، وأساء العبارة، قال ابن العربي: لم يؤمر المسلمين يومئذٍ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. لعلها يداريهم، المداراة مطلوبة، لكن المداهنة محرمة، المداراة التي تقتضي لين الكلام مطلوبة، لكن المداهنة في التنازل عن شيءٍ من الحق أو ارتكاب شيءٍ من الباطل {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [(9) سورة القلم] أما المداراة فلا بأس بها عند الحاجة إليها، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال عن الرجل: ((بئس أخو العشيرة)) ولما استأذن ودخل ألان له الكلام. طالب: إذا أحسن الكافر إليك تدعو له أو .... ؟ يدعى له بالهداية. وقد اتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له: سلام عليك، قلت: هذا القول أشبه بدلائل السنة، وقد بينا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ، والله أعلم. وقد ذكر النضر بن شميل قال: حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح فلما سلمنا رد علينا السلام، وقال لنا: استووا .. استووا يعني اصعدوا، اصعدوا إلى السطح، فمن معاني الاستواء الصعود، استوى: صعد وعلا.

وبقينا متحيرين ولم ندرِ ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله -عز وجل-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [(11) سورة فصلت] فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبرٍ فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، قال: فقال الأعرابي: إنه سألكم مشاركةً لا خير فيها ولا شر، فقال الخليل: هو من قوله -عز وجل-: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [(63) سورة الفرقان]. قال ابن عطية: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي -وكان من المائلين على علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- قال يوماً بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علي ابن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول: علي بن أبي طالب فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، قال المأمون: وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي: سلاماً، قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمون على الآية من حضره، وقال: هو -والله- يا عمّ علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا، وكانت رؤيا لا محالة صحيحة. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [(64) سورة الفرقان] قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل نام أو لم ينم.

قوله في الرؤيا –يعني قوله في الرؤيا: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة، ونحن أحق به منك، قول إبراهيم لعلي بن أبي طالب في النوم: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، يعني أنه يدلي بهذا الحق أن له حق في هذا الأمر بسبب امرأته؛ لأنها بنت النبي -عليه الصلاة والسلام- لا لهذا، وإنما دلت النصوص على فضله وأنه أفضل ممن بعده، بعد الثلاثة هو أفضل الأمة وخيرها، بعد أبي بكرٍ وعمر وعثمان، وعلى هذا سلف هذه الأمة وأئمتها، وهو يدعي بما بويع به من قبل أهل الحلّ والعقد، لا أنه يدعي بامرأة، نعم المرأة خير نساء العالمين، وسيدة نساء الجنة وبنت النبي -عليه الصلاة والسلام- والانتساب إليها شرف، لكن يبقى أنه ليس لهذا فقط. طالب: قصة أبي ربيعة الأعرابي غير واضحة؟ ما هي؟ طالب: قصة أبي ربيعة الأعرابي السابقة؟ أتيت النظر بن شميل؟ قال: حدثني الخليل؟ طالب: الذي في آخر شيء فقال له: سلاماً، لماذا؟ هو على سطح، فلما سلمنا ردّ علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين لم ندرِ ما قال، يعني ما عرفوا معنى الاستواء، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا – يعني تصعدوا إليه- قال الخليل: هو من قوله -عز وجل-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [(11) سورة فصلت] إيش فيها؟ طالب: لا لا، بعدين .. آخر القصة. فصدعنا إليه، فقال: هل لكم في خبرٍ فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً فلم ندر ما قال، يعني الساعة فارقنا يعني أكلنا منذ وقتٍ قريب، فقال: سلاماً، فلم ندرِ ما قال، فقال: فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركةً لا خير فيها ولا شر، يعني خلاص انصرفوا، انصرفوا بسلام، لا تؤذونني ولا أؤذيكم، ما دام ما لكم رغبةً في الأكل، فما لكم رغبةً في أي شيء. طالب: إيش وجه جهالتهم؟ جهالتهم، ما عرفوا معنى استوى، وهو لفظ موجود في القرآن. طالب: لا لا، لما قال لهم: يشاركوه في الأكل قالوا: فارقناه الساعة.

يعني أنتم قوم جهال ما عرفتم معنى الاستواء، إما تأكلون أو تنصرفون واضح؟ وصف الجهل ظاهر فيهم، حيث خفي عليهم لفظ ورد في القرآن، وهو معروف من لغة العرب معنى الصعود والارتفاع وهم ما عرفوه فحكم عليهم بالجهل، وهؤلاء لا يرضيهم إلا الأكل، لا نظر لهم بعلم، لكن إذا عرض لهم الأكل كلوا، هذا الموجود، الخير موجود، قالوا: فارقناه من قريب، فقال: سلاماً، يعني ما عاد بقي شيء. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [(64) سورة الفرقان] قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل نام أو لم ينم. قال زهير: فبتنا قياماً عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله ومن ذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ولا يتصور النوم لمن يحرس في سبيل الله. وأنشدوا في صفة الأولياء: امنع جفونك أن تذوق مناما ... واذْرِ الدموع على الخدود سجاما واعلم بأنك ميت ومحاسب ... يا من على سخط الجليل أقاما لله قوم أخلصوا في حبه ... فرضي بهم واختصَّهم خدَّاما قوم إذا جن الظلام عليهم ... باتوا هنالك سجداً وقياما خمص البطون من التعفف ضمراً ... لا يعرفون سوى الحلال طعاما وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجداً وقائماً، وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء فقد بات ساجداً وقائماً، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [(66) سورة الفرقان] أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون، وجلون من عذاب الله، قال ابن عباس: يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي لازماً دائماً غير مفارق، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا: أي لازم له مولع به، وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، وقال الأعشى: إن يعاقب يكن غراماً وإن يعط ... جزيلاً فإنه لا يبالي

وقال الحسن: قد علموا أن كل غريمٍ يفرق غريمه إلا غريم جهنم، وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب، وقال ابن زيد: الغرام الشر، وقال أبو عبيدة: الهلاك، والمعنى واحد، وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [(66) سورة الفرقان] أي بئس المستقر وبئس المقام، أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون فيكون ذلك أقرب إلى النُجْح. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [(67) سورة الفرقان] اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية، فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله -عز وجل- فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله تعالى فهو القوام. وقال ابن عباس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر، وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما، وقال عون بن عبد الله: الإسراف أن تنفق مال غيرك، قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال: إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا، وألا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال وخير الأمور أوساطها.

يعني هذا في النفقات في سبيل الله، بعض الناس ينفق الأموال الطائلة في وجوه الخير، ومع ذلك يترك أولاده يتكففون الناس، أو يشق على نفسه بالمسألة فعلى قدر صبره وجلده وتحمله للعمل، ولا يعرض نفسه للإهانة وسؤال الناس ولا يضيع من يمون، فإذا اجتمعت له هذه الأمور فلينفق ما شاء، أما إذا امتهن نفسه، بذل نفسه، وأذلها بسؤال الناس أو ترك من خلفه أو من كلفه الله القيام بأعبائهم وحقوقهم مثل هذا عليه أن يسدد ويقارب، ولا ينفق شيئاً يضرّ به وبهم. ولهذا ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى، ولا ينفق نفقة يقول الناس: قد أسرف، وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال ولا يأكلون الطعام للذة، وقال يزيد أيضاً في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثياباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنِّهم من الحر والبرد. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية، وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت)). مخرج؟ طالب: قال: ضعيف جداً أخرجه ابن ماجة والديلمي وابن الجوزي في الموضوعات من حديث أنس ومداره على نوح بن ذكوان، وهو ضعيف، وبه أعله البصيري في زوائد ابن ماجة وحكم بضعفه، وابن الجوزي حكم بضعفه، وقال الألباني -رحمه الله-: موضوع. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا علي المعروف ولم يبخلوا، كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [(29) سورة الإسراء] وقال الشاعر: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ وقال آخر:

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطلِ وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجلِ وقال عمر لابنه عاصم: يا بني كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوباً حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم، ولحاتم طي: إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا {وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما {يقتروا} بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة، من قتر يقتر، وهذا القياس في اللازم مثل: قعد يقعد، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامرٍ وأبو بكر عن عاصمٍ بضم الياء وكسر التاء، قال الثعلبي: كلها لغات صحيحة، وقال النحاس: وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وإنما يقال: أقتر يقتر إذا افتقر، كما قال -عز وجل-: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [(236) سورة البقرة] وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعاً، وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمرو الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق: قتر يقتر ويقتِّر وأقتر يقتر، فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء وأصح وأقرب متناولاً وأشهر وأعرف، وقرأ أبو عمرو والناس {قَوَامًا} بفتح القاف يعني عدلاً، وقرأ حسان بن عبد الرحمن: {قِوَامًا} بكسر القاف: أي مبلغاً وسداداً وملاك حال، والقوام بكسر القاف: ما يدوم عليه الأمر ويستقر، وقيل: هما لغتان بمعنى، و {قَوَامًا} خبر كان واسمها مقدر فيها: أي كان الإنفاقُ بين الإسراف والقتر قواماً، قاله الفراء، وله قول آخر يجعل {بين} اسم كان وينصبها؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع، قال النحاس: ما أدري ما وجه هذا؛ لأن بينا إذا كانت في موضع رفع رفعت كما يقال: بين عينيه أحمر.

بين هذا الأصل فيه أنه ظرف مكان، بين زيد وعمر يعني المكان الذي بينهما، وبين المشرق والمغرب الأصل فيه أنه منصوب على الظرفية، لكن الطرف مثل (اليوم) ظرف الزمان قد يقع فاعل، وقد يقع مبتدأ على حسب ما يسند إليه، فعلى هذا تؤثر فيه العوامل، وإلا فالأصل فيه النصب على الظرفية. طالب: أحتاج للتفسير في معيار الإسراف، هل هو العرف؟ أو النسبة إلى ما. . . . . . . . . فأحياناً تجد شخص مثلاً يشتري غرفة نوم بـ100 ألف ريال، لكنها لا تشكل بنسبة ما يملكه 1 أو 2 في المائة، فهل يقال هذا إسراف، أو يقال: أن هذا شيء بسيط مما أملك، نفس الشيء في السيارات الآن، منهم من يشتري سيارة بنصف مليون، ومنهم من يشتري سيارة بـ30 ألف، ما هو المعيار؟ على كل حال، العرف له مدخل في مثل هذا، ويسر الإنسان وعسره أيضاً له نظر، وله محل في هذا الأمر فينظر فيه إلى عسر الإنسان ويسره، ومع ذلك إذا تعارف الناس على شيء فالعادة محكّمة، وينبغي أن تصرف هذه الأمور فيما ينفع الإنسان في آخرته؛ لأنه من أجلها خلق لا للدنيا، والله أعلم. اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد.

سورة الشعراء من آية 141 إلى آخر السورة

تفسير القرطبي تفسير (سورة الشعراء) من آية (141 - 227 إلى آخر السورة) الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: (141 - 158)].

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [(141) سورة الشعراء] ذكر قصة صالح وقومه وهم ثمود، وكانوا يسكنون الحجر كما تقدم في (الحجر)، وهي: ذوات نخل وزروعٍ ومياه، {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [(146) سورة الشعراء] يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب، قال ابن عباس: كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، ودل على هذا قوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [(61) سورة هود] فقرَّعهم صالح ووبخهم، وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت، {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [(147 - 148) سورة الشعراء] قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال: {وَنَخْلٍ} بعد قوله: و {جَنَّاتٍ} والجنات تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل، قال زهير: كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا يعني نخلاً، التنصيص على النخل بعد ما ذكر في الجنة من الجنات والعيون والزروع، هذا من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بشأنه والعناية به، وهذا أسلوب مألوف في النصوص وفي لغة العرب، معروف. يعني النخل، والنخلة السحوق: البعيدة الطول، قلت: فيه وجهان أحدهما: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على انفراده عنها بفضله عنها، والثاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر؛ لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل والطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، والقنو: اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه، و {هَضِيمٌ} قال ابن عباس: لطيف ما دام في كفرَّاه، والهضيم: اللطيف الدقيق، ومنه قول امرئ القيس: عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل. قال الجوهري: ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج من كفرَّاه؛ لدخول بعضه في بعض، والهضيم من النساء: اللطيفة الكشحين ونحوه حكى الهروي قال: هو المنضم. العامة يسمون الطلع في ظرفه يسمونه (كافور)؛ لأنه يكفره أي: يستره، ثم بعد ذلك يتشقق هذا الطلع.

ونحوه حكى الهروي قال: هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر، ومنه رجل هضيم الجنبين أي: منضمهما هذا قول أهل اللغة، وحكى الماوردي وغيره في ذلك اثني عشر قولاً: أحدهما: أنه الرطب اللين قاله عكرمة. يعني سهل الهضم، فعيل: هضيم، بمعنى مهضوم، أي سهل الهضم. الثاني: هو المذهب من الرطب. وهو الذي بدأ صلاحه في أسفله. قاله سعيد بن جبير، قال النحاس: وروى أبو إسحاق عن يزيد -هو أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي- {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [(148) سورة الشعراء] قال: منه ما قد أرطب ومنه مذنب، الثالث: أنه الذي ليس فيه نوى قاله الحسن، الرابع: أنه المتهشم المتفتت إذا مُس تفتت قاله مجاهد، وقال أبو العالية: يتهشم في الفم، الخامس: هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضاً قاله الضحاك ومقاتل، السادس: أنه المتلاصق بعضه ببعض قاله أبو صخر، السابع: أنه الطلع حين يتفرق ويخضر قاله الضحاك أيضاً، الثامن: أنه اليانع النضيج قاله ابن عباس، التاسع: أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه القشر حكاه ابن شجرة، قال: كأن حمولة تجلى عليه ... هضيم ما يحس له شقوقُ العاشر: أنه الرَّخو، قاله الحسن. الرِّخو مثلث الراء، لكن الأشهر الكسر. الحادي عشر: أنه الرَّخِص اللطيف أول ما يخرج، وهو الطلع النضيد قاله الهروي، الثاني عشر: أنه البرني قاله ابن الأعرابي، فعيل بمعنى فاعل: أي هنيء مريء من انهضام الطعام، والطلع: اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور، ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات. إذا كان المراد بالطلع هو أوله في كافرّاء –على ما قالوا- كفرّاه أو كافوره فلا شك أن الصيغة صيغة مدح، والسياق سياق مدح، والذي يظهر أنه بعد أن ينضج، والهضيم مثلما ذكرنا أنه اسم مفعول يعني مهضوم سهل الهضم، نافع للبدن، من غير تعبٍ ولا عناء، لا يحتاج إلى لوك، ولا يحتاج إلى إساغة بماء ونحوه، والمقصود أنها صفة مدح لهذا التمر؛ لأن الله -جل وعلا- يمتنّ على عباده بالأفضل، فلا شك أن الأقوال المذكورة لها حظ من النظر، لكن أولاها وأقواها أنه مدح للتمر نفسه بعد أن يتم نضجه ويكون هضيماً بمعنى مهضوماً سهل الهضم والتمر من أسهل الأطعمة هضماً.

قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [(149) سورة الشعراء] النحت النجر والبري، نحته ينحته (بالكسر) نحتاً: إذا براه، والنحاتة البراية، والمنحت: ما ينحت به وفي (الصافات) قال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [(95) سورة الصافات] وكانوا ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (فرهين) بغير ألف، والباقون: {فَارِهِينَ} [(149) سورة الشعراء] بألف، وهما بمعنىً واحد في قول أبي عبيدة وغيره، مثل: {عِظَامًا نَّخِرَةً} [(11) سورة النازعات] و (ناخرة) وحكاه قطرب. إلا أن فره أبلغ؛ لأنها من صيغ المبالغة، وأما فاره فهو اسم الفاعل لا يتضمن المبالغة، وعلى كل حال كما تقدم في كلامهم، في كلام ابن عباس وغيره وهو أن البيوت لا تقف أمامهم، يعني لا تنتظر حتى يموتوا، كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، يعني مع كونها منحوتة من جبال تتهدم قبل أن يموتوا لطول أعمارهم، ويعتبر بذلك من يبني القصور الشاهقة ويعنى ببنايتها ويحتاط لها، ويضع لها الأسس القوية يعتبر بذلك أن العمر وأن الأمر أقرب من ذلك، وكم من شخصٍ عمر ولم يسكن، وكم من شخصٍ أثث ولم يسكن، والله المستعان. وحكى فَرُهَ يفرُه فهو فاره، وفرِه يفرَه فهو فره وفاره: إذا كان نشيطاً، وهو نصب على الحال، وفرق بينهما قوم فقالوا: {فَارِهِينَ} حاذقين بنحتها قاله أبو عبيدة، وروي عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما وقال عبد الله بن شداد: {فَارِهِينَ} متجبرين، وروي عن ابن عباس أيضاً أن معنى: (فرهين) بغير ألف أشرين بطرين وقاله مجاهد، وروي عنه (شرهين)، قال الضحاك: كيسين، وقال قتادة: معجبين قاله الكلبي، وعنه: ناعمين، وعنه أيضاً: آمنين، وهو قول الحسن، وقيل: متخيرين، قاله الكلبي والسدي، ومنه قول الشاعر: إلى فرهٍ يماجد كل أمر ... قصدت له لأختبر الطباعا

وقيل: متعجبين، قاله خصيف، وقال ابن زيد: أقوياء، وقيل: فرهين: فرحين قاله الأخفش، والعرب تعاقب بين الهاء والحاء، تقول: مدهته ومدحته، فالفره الأشر: الفرح، ثم الفرح بمعنى: المرح مذموم، قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [(18) سورة لقمان] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [(76) سورة القصص]. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [(150 - 151) سورة الشعراء] قيل: المراد ... نقول: فارهين المرجح فيها أنهم إما أن يكونوا أقوياء نشطين، ويترتب على ذلك النتيجة أنهم أشرين وبطرين، فرحين بقدرتهم على نحت الجبال، وإن كان غيرهم لا يستطيع ذلك فهم يختالون على غيرهم ويتكبرون عليهم ويتجبرون، فهذا يجمع كل الأقوال.

قيل: المراد الذين عقروا الناقة وقيل: التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقعتك فقال لهم ذلك فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال لهم صالح: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك، وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتاً سريعاً، وكان إذا مر بالتسعة فرأوه، قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، وغضب التسعة على صالح؛ لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا: نخرج إلى سفر فترى الناس سفرنا فنكون في غار حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه، ثم قلنا: ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، فيصدقوننا، ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام معهم في القرية، وكان يأوي إلى مسجده فإذا أصبح أتاهم فوعظهم، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم، فرأى ذلك ناس ممن كان قد اطلع على ذلك فصاحوا في القرية: يا عباد الله أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم، فأجمع أهل القرية على قتل الناقة، وقال ابن إسحاق: إنما اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في سورة (النمل) إن شاء الله تعالى. {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [(153) سورة الشعراء] هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما قال المهدوي: أي أصبت بالسحر فبطل عقلك؛ لأنك بشر مثلنا، فلم تدَّع الرسالة دوننا، وقيل: من المعللين بالطعام والشراب قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضاً فيما ذكر الثعلبي وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة: أي بشرٌ لك سحر: أي رئة، تأكل وتشرب مثلنا، كما قال لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحرِ وقال امرؤ القيس: ونسحر بالطعام وبالشراب. {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [(154) سورة الشعراء] في قولك ..

كأن أخذ الكلمة من السحر أظهر، أظهر من كونه له سحر، يأكل ويشرب ورئة فهو مثلهم، لكن هذا ليس فيه نقيصة، التنقص بالسحر، كما تنقّص غيره من الأنبياء بذلك. {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [(155) سورة الشعراء] قال ابن عباس: قالوا: إن كنت صادقاً فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء، فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبناً، فدعا الله وفعل الله ذلك، فـ {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} أي حظ من الماء: أي لكم شرب يوم، ولها شرب يوم، فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار، وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم وأرضهم، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئاً، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئاً، قال الفراء: الشرب الحظ من الماء، قال النحاس: فأما المصدر فيقال فيه شرب شَرباً وشُربا وشِربا وأكثرها المضمومة؛ لأن المكسورة والمفتوحة يشتركان مع شيء آخر فيكون الشِّرب: الحظ من الماء، ويكون الشَّرب: جمع شارب، كما قال: فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا. إلا أن أبا عمرو بن العلاء والكسائي يختاران: (الشَّرب) بالفتح في المصدر، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنها أيام أكل وشَرْب)). {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [(156) سورة الشعراء] لا يجوز إظهار التضعيف هاهنا؛ لأنهما حرفان متحركان من جنس واحد. الشرب بالفتح: جمع شارب، كالصحب جمع صاحب، والسفر وغيرهما، وبالفتح جمع كما أن الشِّرب الحظ والنصيب، والشُّرب هو المصدر، بهذا تتميز الألفاظ الثلاثة، كل ما أمكن التمييز بين الألفاظ كل لفظٍ بما يخصه من معنى فهو أولى من الاشتراك. {فَيَأْخُذَكُمْ} [(156) سورة الشعراء] جواب النهي، ولا يجوز حذف الفاء منه، والجزم كما جاء في الأمر إلا شيئاً روي عن الكسائي أنه يجيزه.

أما جواب النهي هو منصوب، فيأخذَكم، وجواب النهي: مجزوم، وهو هنا منصوب بـ (أن) المصدرية المقدرة بعد الفاء الواقعة بعد النهي، وإذا قلنا: أن الجواب نهي قلنا يُجزم (فيأخذْكم) وهو في الحقيقة منصوب بـ (أن) المضمرة بعد الفاء الواقعة بعد النهي. قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [(157) سورة الشعراء] أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً فظهرت عليهم العلامة في كل يوم وندموا ولم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب، وقيل: لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا، بل طلبوا صالحاً -عليه السلام- ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب، وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد إذا لم يقتلوه معها وهو بعيد. جاء في الخبر أن ((الندم توبة)) فإما أن يكون ندمهم بعد رؤية العذاب والتوبة بعد الرؤية لا تنفع، أو يكون هذا في شريعتهم أن الندم ليس بتوبة، يعني كما جاء في قصة ابن آدم حينما قتل أخاه فأصبح من النادمين، لا شك أن الندم توبة، لكنه محمول عند جمع من أهل العلم على ندمه على حمل أخيه، يعني لو تركه أو دفنه ولم يحمله؛ لأنه حمله مدة طويلة من مكان إلى مكان، فندم على ذلك، أو يكون في شرع من قبلنا أن الندم لا يكفي، وفي شرعنا أن الندم توبة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [(158) سورة الشعراء] إلى أخره ما تقدم، ويقال: إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة، وقيل: كانوا أربعة آلاف، وقال كعب: كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل، كل قبيل نحو اثني عشر ألفاً من سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. طالب:. . . . . . . . . هؤلاء؛ لأنهم عاينوا العذاب، عاينوه، والتوبة بعد معاينة العذاب ما تنفع، لا تنفع إلا قوم يونس، ما استثني إلا قوم يونس.

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [(160) سورة الشعراء] مضى معناه وقصته في (الأعراف) و (هود) مستوفى، والحمد لله، قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [(165) سورة الشعراء] كانوا ينكحونهم في أدبارهم، وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم في (الأعراف)، {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم} [(166) سورة الشعراء] يعني فروج النساء، فإن الله خلقها للنكاح، قال إبراهيم بن مهاجر: قال لي مجاهد: كيف يقرأ عبد الله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم} قلت: (وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم) قال: الفرْج، كما قال: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [(222) سورة البقرة]. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [(166) سورة الشعراء] أي متجاوزون لحدود الله، {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ} [(167) سورة الشعراء] عن قولك هذا {قلَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [(167) سورة الشعراء] أي من بلدنا وقريتنا، {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم} [(168) سورة الشعراء] يعني اللواط، {مِّنَ الْقَالِينَ} أي المبغضين، والقلى: البغض، قليته: أقليه قلىً وقلاء، قال: فلستُ بمقلي الخلال ولا قالي. وقال آخر: عليك السلام لا مللت قريبة ... وما لك عندي إن نأيت قلاءُ يعني مثلما جاء في سورة الضحى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [(3) سورة الضحى] يعني ما أبغضك. {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [(169) سورة الشعراء] أي من عذاب عملهم، دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم، قال تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [(170) سورة الشعراء] ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في (هود)، {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [(171) سورة الشعراء] روى سعيد عن قتادة قال: غبرت في عذاب الله -عز وجل-: أي بقيت، وأبو بعيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم: أي بقيت حتى هرمت، قال النحاس: يقال للذاهب غابر، والباقي غابر، كما قال: لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتجُ

فيكون من الأضداد، غبر يعني بمعنى: بقي، ويكون بمعنى: مضى، غبر: يكون بمعنى الباقي، وبمعنى: الماضي، فيكون حينئذٍ من الأضداد، ولذا لما طبع العبر للذهبي -رحمه الله- في خبر من غبر، اُستدرك العنوان وكتب عليه: أن من غبر: يعني بقي، والأصل (في خبر من عبر) يعني مضى، لكن إذا تقرر أن غبر بمعنى: مضى، وبمعنى: بقي، وهي من الأضداد إذاً لا استدراك، والأكثر على أنها بمعنى الباقي، الغابرين: الباقين. وكما قال: فما ونى محمد منذ إن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر أي: ما بقي، والأغبار: بقيات الألبان، {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} [(172) سورة الشعراء] أي أهلكناهم بالخسف والحصب، قال مقاتل: خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجاً من القرية، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} [(173) سورة الشعراء] يعني الحجارة، {فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [(173) سورة الشعراء] وقيل: إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها ثم أتبعها الله بالحجارة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [(174) سورة الشعراء] لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه. طالب: قال المؤلف .... يعني اللواط. . . . . . . . .، سمى الفاحشة لواطاً هذا المعروف عند أهل العلم يسمونه لواط، وليس معناه النسبة إلى لوط، وإنما النسبة إلى قومه، النسبة إلى المضاف إليه، قوم لوط، وليست نسبةً إلى. . . . . . . . . النسبة إلى المضاف: الذين هم القوم، وليست النسبة إلى لوط -عليه السلام-، يجوز، يسوغ هذا. طالب:. . . . . . . . . هي فاحشة لكنها لواط، مثل الفاحشة وهو زنا، ما في إشكال. طالب: الأغبار بقيات الألبان؟ والأغبار بقيات الألبان؟ إيش فيها؟ يعني ما يبقى في الإناء.

قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [(176) سورة الشعراء] الأيك الشجر الملتف الكثير، الواحدة: أيكة، ومن قرأ: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} [(176) سورة الشعراء] فهي الغيضة، ومن قرأ: (ليكة) فهو اسم القرية، ويقال: هما مثل بكة ومكة قاله الجوهري، وقال النحاس: وقرأ أبو جعفر ونافع: (كذب أصحاب ليكة المرسلين) وكذا قرأ: في (ص) وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة (الحجر) والتي في سورة (ق) فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحداً، وأما ما حكاه أبو عبيد من أن (ليكة) هي اسم القرية التي كانوا فيها، وأن (الأيكة) اسم البلد، فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عُرف من قاله لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعاً من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه، وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب -عليه السلام- إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، قال: والأيكة: غيظة من شجرٍ ملتف، وروى سعيد عن قتادة قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر، وكانت عامة شجرهم الدوم، وهو شجر المُقْل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال: خرج أصحاب الأيكة -يعني حين أصابهم الحر- فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا، ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال: و (الأيكة) الشجر، ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافاً أن الأيكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد (ليكة) فلا حجة له، والقول فيه: إن أصله (الأيكة) ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إلا الخفض كما تقول بالأحمر تُحقق الهمزة ثم تخففها بلحمر، فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولاً، وإن شئت كتبته بالحذف ولم يجز إلا الخفض، قال سيبويه: واعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف انصرف، ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا. الممنوع من الصرف يصرف إذا أضيف، أو اقترن بـ (أل) يقول:

وجرّ بالفتحة ما لا ينصرف ... ما لم يضف أو يك بعد أل ردف يعني بعد (أل) يقترن بـ (أل) أو يكون مضافاً. وقال الخليل: (الأيكة) غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر، {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [(177) سورة الشعراء] ولم يقل: أخوهم شعيب؛ لأنه لم يكن أخاً لأصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [(85) سورة الأعراف] لأنه كان منهم، وقد مضى في (الأعراف) القول في نسبه، قال ابن زيد: أرسل الله شعيباً رسولاً إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة، وقاله قتادة وقد ذكرناه، {أَلَا تَتَّقُونَ} [(177) سورة الشعراء] تخافون الله، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [(179) سورة الشعراء] الآية .. ، وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحداً على صيغة واحدة؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة.

{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [(181) سورة الشعراء] الناقصين للكيل والوزن، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [(182) سورة الشعراء] أي أعطوا الحق، وقد مضى في (سبحان) وغيرها، {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [(183) سورة الشعراء] تقدم في (هود) وغيرها، {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [(184) سورة الشعراء] قال مجاهد: الجبلة هي الخليقة، وجُبل فلان على كذا أي: خلق، فالخُلق جِبلّة وجُبلّة وجِبلَة وجُبلَة وجَبلَة ذكره النحاس في معاني القرآن، و {الْجِبِلَّةَ} عطف على الكاف والميم، قال الهروي: الجِبِلّة والجُبلَة والجِبِلّ والجُبُلُ والجَبلُ لغات، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس، ومنه قوله تعالى: {جِبِلًّا كَثِيرًا} [(62) سورة يس]، قال النحاس في كتاب (إعراب القرآن) له ويقال: جُبُلةٌ، والجمع فيهما: جَبَّال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام، فيقال: جُبلَةٌ وجُبَل، ويقال: جِبلَةٌ وجِبَال، وتحذف الهاء من هذا كله، وقرأ الحسن باختلاف عنه (والجُبُلة الأولين) بضم الجيم والباء، وروي عن شيبة والأعرج والباقون بالكسر، قال: والموت أعظم حادث ... فيما يمر على الجِبِلّة نعم، الجِبلّة: الخلقة، وجُبل فلان على كذا يعني خلق عليه من نشأته، من بداية خلقه، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله)) ثم قال: "الحمد لله الذي على جبلني على ما يحبه الله ورسوله". {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [(185) سورة الشعراء] الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم، قوله تعالى: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [(186) سورة الشعراء] أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء} [(187) سورة الشعراء] أي جانباً من السماء وقطعةً منه فننظر إليه، كما قال: {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [(44) سورة الطور].

يعني لو قدر أنهم أجيبوا وسقط عليهم كسف من السماء، يعني قطعة منه، قالوا: سحابة، هذا سحاب مركوم، وليس من السماء هذا. كما قال: {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [(44) سورة الطور]، وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب، وهو مبالغة في التكذيب، قال أبو عبيدة: الكسف: جمع كسفة، مثل: سدر وسدرة، وقرأ السلمي وحفص: كسفاً: جمع كسفة أيضاً: وهي القطعة والجانب، تقديره كسرة وكسر، قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفةً من ثوبك والجمع: كِسَف وكِسْف، ويقال: الكسف والكسفة واحد، وقال الأخفش: من قرأ: (كِسْفاً) جعله واحداً، ومن قرأ: {كِسَفاً} جعله جمعاً، وقد مضى هذا في سورة (سبحان)، وقال الهروي: ومن قرأ: (كِسْفاً) على التوحيد فجمعه: أكساف وكسوف، كأنه قال: أو تسقطه علينا طبقاً واحداً، وهو من كسفت الشيء كَسْفاً إذا غطيتَه.

{إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [(187 - 188) سورة الشعراء] تهديد، أي: إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم إلي وهو يجازيكم، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [(189) سورة الشعراء] قال ابن عباس: أصابهم حر شديد فأرسل الله سبحانه سحابة، فهربوا إليها ليستظلوا بها فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا، وقيل: أقامها الله فوق رؤوسهم وألهبها حراً حتى ماتوا من الرمد، وكان من أعظم يومٍ في الدنيا عذاباً، وقيل: بعث الله عليهم سموماً فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم ناراً فاحترقوا، وعن ابن عباس أيضاً وغيرِه: إن الله تعالى فتح عليهم باباً من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدةً وحراً شديداً فأخذ بأنفاسهم فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء، فأنضجهم الحر فخرجوا هرباً إلى البرية، فبعث الله -عز وجل- سحابة فأظلتهم فوجدوا لها برداً وروحاً وريحاً طيبة، فنادى بعضهم بعضاً فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم ناراً، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد في المِقلى فصاروا رماداً فذلك قوله: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} [(95) سورة هود]. وقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [(189) سورة الشعراء] وقيل: إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظل ولا ماء، فكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها، فيجدوها أشد حراً من الظاهر، فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها برداً ونسيماً فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا.

وقال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحرَّ سبعة أيام ولياليهن، ثم رفع لهم جبل من بعيد، فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة، وقال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة، فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [(190) سورة الشعراء] قيل: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر. إذا قضى الله شيئاً لا رادّ لقضائه، فكثير من الناس إذا أوى إلى الأماكن الباردة ظن أن الحر انتهى، ويقول: البيت مكيف والسيارة مكيفة والمسجد مكيف والعمل مكيف انتهى الحر، لكن إذا أراد الله شيئاً يسّر أسبابه، وقد تكون هذه المكيفات عذاباً على أهلها، ينقطع منها سبب التكييف ثم تنقلب إلى وبال –نسأل الله العافية- وعلى كل حال على الناس أن يراجعوا دينهم، وإلا فكثير من المسلمين قد انصرف وصدّ عن دينه، ويخشى من قارعة تحل بهم، كما حلت بمن حولهم من البلدان والأقطار، كما نزل في الأمم السابقة من ألوان العذاب وصنوفه، والسنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل، إذا فعلنا مثلما فعلوا عوقبنا بمثل ما عوقبوا، وليس بيننا وبين الله نسب، وما أهون الخلق على الله. فعلى المسلمين أن يراجعوا أنفسهم، وأن يرجعوا إلى دينهم، ويتركوا ما هم عليه من فسوق وفجور –نسأل الله السلامة والعافية- بل محادةّ ومحاربة لله ورسوله. طالب: قيل من قول قتادة -رحمه الله-: بعث الله شعبياً إلى أمتين؟ إيه؛ لأنه جاء، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [(84) سورة هود] والذي معنا {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} [(176) سورة الشعراء] بعثه إلى أمتين، أما صاحب مدين الذي هو صاحب موسى فالخلاف بين أهل العلم هل هو هذا شعيب، أو شخص آخر؟ وهل اسمه شعيب أو ليس اسمه شعيب؟ مسألة خلافية بين أهل العلم، والذين يستبعدون أن يكون شعيب هو صاحب موسى، وإن كان شعيب أرسل إلى مدين، وموسى ورد ماء مدين، فالبلد واحد، والمرسل إليهم مختلف؛ لأن بين شعيب وموسى مفاوز؛ لأن شعيب يقول: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [(89) سورة هود]

طالب: أو أن موسى قبله وهو جاء. . . . . . . . . ولو كان، بينهما مفاوز. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(192) سورة الشعراء] عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [(193 - 194) سورة الشعراء] {نَزَلَ} مخففاً، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون: {نزل} مشدداً، {بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [(193) سورة الشعراء] نصباً وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ} [(192) سورة الشعراء] وهو مصدر نزَّل. نعم، مصدر المضعّف، نزّل تنزيلاً، مثل: كلم تكليماً، ونزل نزولاً. والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول: ليس هذا بمقدر؛ لأن المعنى (وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك) كما قال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [(97) سورة البقرة] أي يتلوه عليك فيعيه قلبك، وقيل: ليثبَّت قلبَك، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [(194 - 195) سورة الشعراء] أي لئلا يقولوا: لسنا نفهم ما تقول.

{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [(196) سورة الشعراء] أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني: الأنبياء، وقيل: أي إن ذكر محمد -عليه السلام- في كتب الأولين، كما قال تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [(157) سورة الأعراف] والزبر: الكتب، الواحد: زبور، كرسول ورسل وقد وتقدم، قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} [(197) سورة الشعراء] قال مجاهد: يعني عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم، وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد -عليه السلام- فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته، فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذا القول، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجةً على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم، وقرأ ابن عامر (أولم تكن لهم آيةٌ) والباقون {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً} [(197) سورة الشعراء] بالنصب على الخبر، واسم يكن {أَن يَعْلَمَهُ} [(197) سورة الشعراء]، والتقدير: أولم لكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة. يعني (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر.

وعلى القراءة الأولى اسم كان {آيَةً} والخبر: {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} [(197) سورة الشعراء]، وقرأ عاصم الجحدري: (أن تعلمه علماء بني إسرائيل)، {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} [(198) سورة الشعراء] أي على رجل ليس بعربي اللسان، {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} [(199) سورة الشعراء] بغير لغة العرب لما آمنوا ولقالوا: لا نفقه، نظيره: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [(44) سورة فصلت]، وقيل: معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفةً وكبراً، يقال: رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربياً، ورجل عجمي وإن كان فصيحاً ينسب إلى أصله، إلا أن الفراء أجاز أن يقال: رجل عجمي بمعنى: أعجمي، وقرأ الحسن: {على بعض الأعجميين} مشددة بياءين جعله نسبة، ومن قرأ: {الْأَعْجَمِينَ} فقيل: إنه جمع: أعجم، وفيه بعد لأن ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون، ولا بالألف والتاء، لا يقال: أحمرون ولا حمراوات، وقيل: إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدري، ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلاً عليها قاله أبو الفتح عثمان بن جني وهو مذهب سيبويه. ذكر المؤلف الفرق بين عجمي وأعجمي، فالعجمي نسبة إلى العجم الذين هم غير العرب، والأعجمي الذي لا يتكلم العربية وإن كان عربياً. طالب:. . . . . . . . . قيل: إن أصله الأعجمين يقول: يقال: رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربياً. طالب: وقيل آخر شيء: وقيل إن أصله الأعجمين. . . . . . . . . ورجل عجمي وإن كان فصيحاً ينسب إلى أصله إلى العجم، أنت تبي الأخير؟ طالب: الأخير، مذهب سيبويه. وقيل إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدري، ثم حذفت ياء النسب (الأعجميين)، الأصل الأعجمي فإذا جمع قيل: الأعجميين، فحذفت ياء النسب فصار (الأعجمين) واضح إيش فيه؟ طالب: أن أصله الأعجميين. هذا الأصل مثل قراءة الجحدري، هذا الأصل ثم حذفت ياء النسب.

قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} [(200) سورة الشعراء] يعني القرآن: أي الكفر به، {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [(200 - 201) سورة الشعراء] وقيل: سلكنا التكذيب في قلوبهم، فذلك الذي منعهم من الإيمان قاله يحيى بن سلام، وقال عكرمة: القسوة، والمعنى متقارب، وقد مضى في (الحجر)، وأجاز الفراء الجزم في {لَا يُؤْمِنُونَ} لأن فيه معنى الشرط والمجازاة، وزعم أن من شأن العرب، إذا وضعت (لا) موضع (كي) (لا) في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت، فتقول: (ربطت الفرس لا ينفلت) بالرفع والجزم؛ لأن معناه: إن لم أربطه ينفلت، والرفع بمعنى: كيلا ينفلت، وأنشد لبعض بني عقيل: وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنةً لا يقرف الشر قارفُ بالرفع لما حذف (كي)، ومن الجزم قول الآخر: لطالما حلاتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد قال النحاس: وهذا كله في {يُؤْمِنُونَ} خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم، ولا يكون شيء يعمل عملاً، فإذا حذف عمل عملاً أقوى من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بيِّن. فيكون الجزم في البيت من أجل الوزن. {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} [(201 - 202) سورة الشعراء] أي العذاب، وقرأ الحسن: فتأتيهم بالتاء والمعنى: فتأتيهم الساعة بغتة، فأضمرت؛ لدلالة العذاب الواقع فيها، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها، وقال رجل للحسن وقد قرأ: (فتأتيهم): يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة، فانتهره وقال: إنما هي الساعة تأتيهم بغتة: أي فجأة، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [(202) سورة الشعراء] بإتيانها، {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [(203) سورة الشعراء] أي مؤخرون وممهلون، يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها، قال القشيري وقوله: {فَيَأْتِيَهُم} ليس عطفاً على قوله: {حَتَّى يَرَوُا} بل هو جواب قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} فلما كان جواباً للنفي انتصب، وكذلك قوله: {فَيَقُولُوا}. يعني مثلما تقدم، منصوب بـ (أن) المضمرة بعد الفاء في جواب النفي.

قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [(204) سورة الشعراء] قال مقاتل: قال المشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به؟ فنزلت: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [(204 - 205) سورة الشعراء] يعني في الدنيا، والمراد: أهل مكة في قول الضحاك وغيره {ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ} [(206) سورة الشعراء] من العذاب والهلاك، {مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [(207) سورة الشعراء] (ما) الأولى استفهام معناه: التقرير، وهو في موضع نصب بـ (أغنى)، و (ما) الثانية في موضع رفع، ويجوز أن تكون الثانية نفياً لا موضع لها، وقيل: (ما) الأولى حرف نفي، و (ما) الثانية في موضع رفع بـ (أغنى) والهاء العائدة محذوفة، والتقدير: (ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه)، وعن الزهري: إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [(205 - 207) سورة الشعراء] ثم يبكي ويقول: يعني هذا عمر بن عبد العزيز عمره يوم وفاته كم؟ أربعين سنة عمره، ولد سنة 61 ومات سنة 101 يعني عمره أربعون سنة، يعني فما أحرى من تعدى هذه السن أن يقول مثل هذا: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [(205) سورة الشعراء] أربعين سنة، عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، لكنه القلب الحي، وإلا قد يمتع الإنسان مائة سنة أو أكثر ولا يستحضر مثل هذا الكلام. ثم يبكي ويقول: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نومٌ والردى لك لازمُ فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناجٍ فسالمُ تسرُّ بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سُرَّ باللذات في النوم حالمُ وتسعى إلى ما سوف تكره غبَّه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} [(208) سورة الشعراء] (مِن): صلة، المعنى: وما أهلكنا قرية، {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} أي رسل.

وكون الكلام يستقيم بدونها لا يعني أنها لا فائدة لها، وإنما فائدتها: تأكيد النفي. {ذِكْرَى} [(209) سورة الشعراء] قال الكسائي: {ذِكْرَى} في موضع نصب على الحال، قال النحاس وهذا لا يحصل، والقول فيه قول الفراء وأبي إسحاق أنها في موضع نصب على المصدر، قال الفراء: أي يذكرون ذكرى، وهذا قول صحيح؛ لأن معنى {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} إلا لها مذكرون، و {ذِكْرَى} لا يتبين فيه الإعراب؛ لأن فيها ألفاً مقصورة. يتعذر ظهور حركة الإعراب، يعني يمتنع. ويجوز {ذكرى} بالتنوين، ويجوز أن يكون {ذِكْرَى} في موضع رفع على إضمار مبتدأ، قال أبو إسحاق: أي إنذارنا ذكرى، وقال الفراء: أي ذلك ذكرى وتلك ذكرى، وقال ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: ليس في (الشعراء) وقف تام إلا قوله: {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} وهذا عندنا وقف حسن، ثم يبتدئ {ذِكْرَى} على معنى: هي ذكرى: أي يذكرهم ذكرى، والوقف على {ذِكْرَى} أجود، {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم. قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [(210) سورة الشعراء] يعني القرآن، بل ينزل به الروح الأمين، {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [(211 - 212) سورة الشعراء] أي برمي الشهب كما مضى في سورة (الحجر) بيانه، وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع: (وما تنزلت به الشياطون)، قال المهدوي: وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط، وقال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين، وسمعت علي ين سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا غلط عند العلماء، إنما يكون بدخول شبهة، لما رأى الحسن في آخره ياءً ونوناً وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط. يعني كأنه عامله معاملة الجمع المذكر السالم، وجمع شيطان جمع تكسير، فيلازم الياء.

وفي الحديث: ((احذروا زلة العالم))، وقد قرأ هو مع الناس: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [(14) سورة البقرة] ولو كان هذا بالواو في موضع رفع؛ لوجب حذف النون للإضافة، وقال الثعلبي: قال الفراء: غلط الشيخ -يعني الحسن- فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال: إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئاً، وقال المؤرج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. شاط يشيط إذا احترق، وإن كان من شطن أي: بعد، فليس لقراءتهم وجه؛ لأن النون أصلية، وإن كان من شاط كان له وجه؛ لأن النون مع الياء أو الواو مزيدة. وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابياً يقول: دخلنا بساتين من ورائها بساتون، فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن، قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [(213) سورة الشعراء] قيل: المعنى: قل لمن كفر هذا، وقيل: هو مخاطبة له -عليه السلام-، وإن كان لا يفعل هذا؛ لأنه معصوم مختار، ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره، ودل على هذا قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [(214) سورة الشعراء] أي: لا يتّكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم. يعني مثل ما جاء في قول الله -جل وعلا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [(65) سورة الزمر] وهو معصوم مما دون الشرك فكيف بالشرك؟ لكن المراد غيره. قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [(214) سورة الشعراء] فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} خص عشيرته الأقربين بالإنذار؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته، وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك، وعشيرته الأقربون: قريش، وقيل: بنو عبد مناف، ووقع في صحيح مسلم: (وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين) وظاهر هذا أنه كان قرآناً يتلى وأنه نسخ، إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر، ويلزم على ثبوته إشكال، وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته، فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام، وفي حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا المشركون؛ لأنهم ليسوا على شيء من ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا عشيرته كلهم، مؤمنهم وكافرهم، وأنذر جميعهم ومن معهم، ومن يأتي بعدهم -صلى الله عليه وسلم- فلم يثبت ذلك نقلاً ولا معنى. ما دام هو في صحيح مسلم فلا كلام، ويكون المعنى: أنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين يعني تابع إنذارهم وتابع تخويفهم لئلا يرتدوا وتعاهدهم بذلك فهم أولى الناس بذلك، وإن كانوا مسلمين، فالمسلم إذا دخل في الإسلام لا تؤمن عليه الفتنة وأن يرجع، هو بحاجة إلى أن يتعهّد، كما أمر المؤمن أن يؤمن، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [(136) سورة النساء] يعني أثبتوا ودوموا على إيمانكم فالمعنى صحيح، والنقل صحيح أيضاً. طالب: ما يخالف المعنى الأول؟ عبادك منهم المخلصين. . . . . . . . . إيش المانع؟ طالب:. . . . . . . . . كلامهم وجيه لكن من جهة أن المؤمن أنه لا ينذر إلا المؤمن؟ لا، ينذر المؤمن ويهتم به ويعتنى به، وليس معنى هذا أنه لا ينذر غيره.

وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشاً فاجتمعوا فعمّ وخصّ فقال: ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبُلها ببلالها)). يعني أصلها. الثانية: في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته؛ لقوله: ((إن لكم رحماً سأبلها ببلالها)) وقوله -عز وجل-: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [(8) سورة الممتحنة] الآية على ما يأتي بيانه هناك -إن شاء الله-، قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(215) سورة الشعراء] تقدم في سورة (الحجر) و (سبحان) يقال: خفض جناحه إذا لان، {فَإِنْ عَصَوْكَ} [(216) سورة الشعراء] أي خالفوا أمرك، {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي بريء من معصيتكم إياي؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله -عز وجل-؛ لأنه -عليه السلام- لا يأمر إلا بما يرضاه، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه، قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [(217) سورة الشعراء] أي: فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه، وقراءة العامة: {وَتَوَكَّلْ} بالواو وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ نافع وابن عامر: (فتوكل) بالفاء، وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام، {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [(218) سورة الشعراء] أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين -ابن عباس وغيره-، وقال مجاهد: يعني حين تقوم حيثما كنت.

{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [(219) سورة الشعراء] قال مجاهد وقتادة: في المصلين، وقال ابن عباس: أي في أصلاب الآباء آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبياً، وقال عكرمة: يراك قائماً وراكعاً وساجداً وقاله ابن عباس أيضاً، وقيل المعنى: إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك. نعم هذا ثبت في الحديث الصحيح أنه كان يرى من ورائه كما يرى من أمامه -عليه الصلاة والسلام-، وهل هو في الصلاة خاصة أو في جميع أحواله؟ مسألة خلافية، لكن المعنى الظاهر من قوله -جل وعلا-: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [(219) سورة الشعراء] أي معهم ومنهم. وروي عن مجاهد ذكره الماوردي والثعلبي، وكان -عليه السلام- يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وذلك ثابت في الصحيح، وفي تأويل الآية بعيد، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [(220) سورة الشعراء] تقدم. قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [(221 - 222) سورة الشعراء] إنما قال: {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر مما تكون في الهواء وأنها تمر في الريح، {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [(223) سورة الشعراء] تقدم في (الحجر) فـ {يُلْقُونَ السَّمْعَ} [(223) سورة الشعراء] صفة الشياطين، و {أَكْثَرُهُمْ} يرجع إلى الكهنة وقيل إلى الشياطين. {أَفَّاكٍ} يعني كذاب -صيغة مبالغة-، فالشياطين إنما تألف من كان مثلهم في التزوير والكذب وما أشبه ذلك، نكمل الشعراء وإلا نقف؟ طالب: نعم نكمل. مستعد. طالب: يعين الله. طيب سم. قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [(224) سورة الشعراء] فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء} جمع: شاعر، مثل جاهل وجهلاء. وعالم وعلماء، وفاضل وفضلاء.

ق ال ابن عباس: هم الكفار، {يَتَّبِعُهُمُ} ضلال الجن والإنس، وقيل: {الْغَاوُونَ} الزائلون عن الحق، ودل بهذا أن الشعراء أيضاً غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك، وقد قدمنا في سورة (النور) أن من الشعر ما يجوز إنشاده ويكره ويحرم، روى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء)) قلت: نعم قال: ((هيه)) فأنشدته بيتاً فقال: ((هيه)) ثم أنشدته بيتاً فقال: ((هيه)) حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته، وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه -وهو وهم-؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واسم أبي الشريد سويد، وفي هذا دليل على حفظ الأشعار. كيف جاء الوهم؟ صوابه: روى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه، ووقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه؟ في إشكال؟ في وهم؟ طالب: لا. نعم ما في وهم إلا إن الذي في مسلم غير هذا، إن كان عن عمرو بن الشريد عن الشريد عن أبيه؟ نعم يكون وهم. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعاً وطبعاً، وإنما أستكثر النبي -صلى الله عليه وسلم- من شعر أمية؛ لأنه كان حكيماً، ألا ترى قوله -عليه السلام-: ((وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)) فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه كقول القائل: وجاء فيه أنه آمن شعره ولم يؤمن قلبه –نسأل الله السلامة والعافية-. الحمد لله العلي المنان ... صار الثريد في رؤوس العيدان أو ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو مدحه كقول العباس: من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورقُ ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علقُ بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسراً وأهله الغرقُ تنقل من صالب إلى رحم إذا ... مضى عالَم بدا طبقُ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يفضض الله فاك))، أو الذب عنه كقول حسان: هجوت محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذالك الجزاءُ

وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه، وهي في السير أتم، أو الصلاة عليه كما روى زيد بن أسلم خرج عمر ليلة يحرس، فرأى مصباحاً في بيت وإذا عجوز تنفش صوفاً وتقول: على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار قد كنت قواماً بُكاً بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار هل يجمعني وحبيبي الدار يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- فجلس عمر يبكي، وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم -رضي الله عنهم-. ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال: إني رضيت علياً للهدى علماً ... كما رضيت عتيقاً صاحب الغارِ وقد رضيت أبا حفصٍ وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدارِ كل الصحابة عندي قدوة علم ... فهل عليَّ بهذا القول من عارِ إن كنت تعلم أني لا أحبهم ... إلا من أجلك فاعتقني من النارِ وقال آخر فأحسن: حب النبي رسول الله مفترض ... وحب أصحابة نور ببرهانِ من كان يعلم أن الله خالقه ... لا يرمين أبا بكرٍ ببهتانِ ولا أبا حفصٍ الفاروق صاحبه ... ولا الخليفة عثمان بن عفانِ أما علي فمشهور فضائله ... والبيت لا يستوي إلا بأركانِ الأركان الأربعة يعني، يعني حب الأربعة مجتمعين هذه عقيدة المسلمين، ولا يستقيم الدين إلا بهذا؛ لأنهم هم حملة الدين، وهم الذين بواسطتهم بلغنا هذا الدين، فإذا قدحنا فيهم فإننا نقدح بالدين الذي وصلنا من طريقهم، وكون المدح لهؤلاء مطلوب الثناء عليهم، لا سيما النبي -عليه الصلاة والسلام- قربة إلى الله -جل وعلا- لكن لا يكون هذا مع مجاوزة في الحد، وغلو فيه -عليه الصلاة والسلام- كما فعله كثير من الشعراء، إذا صرفوا له شيئاً من حقوق الرب -جل وعلا-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)) ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) والشاعر منهم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرّتها ... ومن علومك علم اللوحِ والقلمِ ويقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العممِ فما ترك شيء لله -جل وعلا-، فهذا الغلو محرم بل شرك، يصرف للنبي -عليه الصلاة والسلام- شيء من حقوق الله التي لا تصرف إلا له، هذا هو عين الشرك. طالب: هل من علامات .... في السنة، تترضى على الأئمة الأربعة والدعاء لولي الأمر؟

إذا وجد من يخالف ينوّه بهذا، إذا وجد من يخالف أو ينازع أو يشكك ينوّه بهذا؛ لأن الخطبة إنما هي لبيان ما يحتاجه المسلمون، فإذا وجد أمر يحتاج إلى تنبيه ينبّه عليه. قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد، فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل، وقد أنشد كعب بن زهير النبي -صلى الله عليه وسلم-: بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ ... متيم إثرها لم يفد مكبولُ وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحولُ تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلولُ فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع ولا ينكر في تشبيه ريقها بالراح، وأنشد أبو بكر -رضي الله عنه-: فقدنا الوحي إذ ولَّيت عنا ... وودَّعَنا من الله الكلامُ سوى ما قد تركت لنا رهيناً ... توارثه القراطيس الكرامُ فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية والسلامُ فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمعه وأبو بكر ينشده فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا؟ قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمةً أو مباحاً، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء، لا يحل سماعه ولا قوله. يذكر عن الشعبي أنه كره الشعر كراهيةً شديدة، وقال: لا تكتب عليه البسملة، لكن عامة أهل العلم على أنه كلام، مباحه مباح، ومحظوره ممنوع ومحرم، وإذا كان لفظه مباح ولم تصحبه آلة وأدي بلحون العرب، فقد أنشد بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو جائز بلا إشكال، أما إذا كان لفظه غير مباح منع من أجل هذا، وإذا صحبته الآلة حرم من أجلها، وإذا أدي بلحون الأعاجم وأهل الفسق منع من أجل ذلك وإلا فالأصل الإباحة. طالب: قصيدة كعب بن زهير، مطلعها فيه غزل؟ عادة العرب جرى على هذا. طالب:. . . . . . . . . إذا طلعت شمس النهار فسلموا ... فإنها أمارة تسليمي عليكم فسلموا

أيضاً النونية مطلعها غزل، كل العلماء جروا على هذا. طالب: طيب والقائمين على الإعلام الإسلامي، كون الشعر في ذاك الوقت كان هو الإعلام، وهنا ينشد الشعر وفيه غزل ومع ذلك يسمعه النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يمنعه، يقولون لا بد من التنازل خلال الإعلام؟ التنازل ببيت أو بيتين أو ما أشبه ذلك، مطلع للقصيدة لا بأس، لكن يكون هو الصبغة الغالبة. طالب: يعني يجرون ذلك. . . . . . . . . مثلاً إلى الكذب في بعض الأشياء. . . . . . . . . لا، لا الكذب ما يجوز، أهل العلم استثنوا مسائل على خلافٍ فيها، منهم من يدخل المبالغة في الكذب، والمبالغة جاءت في الحديث: ((كان لا يضع العصا عن عاتقه)) ومنهم من يدخل المناظرة في الكذب، ويدخل أيضاً المقامات في الكذب، ومن أهل العلم من يجيز ذلك؛ لأن المصلحة راجحة، والمسألة معروفة بحكمها. طالب: هلا مستمسك بهذا الجانب من التنازلات. . . . . . . . . على كل حال، بحث هذه المسألة له وقته -إن شاء الله تعالى-. وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: ((أصدق كلمة -أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)) أخرجه مسلم وزاد: ((وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم))، وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعراً فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر؟ فقال: ويلك يا لكع، وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، قال: وقد كانوا يتذاكرون الشعر، قال: وسمعت ابن عمر ينشد: يحب الخمر من مال الندامى ... ويكره أن يفارقه الغلوسُ وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعراً مجيداً مقدماً فيه. معروف أن الفقهاء سبعة –فقهاء المدينة- سبعة. وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب، وكانت له زوجةً حسنة تسمى: عثمة، فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها، وله فيها أشعار كثيرة منها قوله: تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسيرُ تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرورُ أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لو أن إنسانا يطيرُ

وقال ابن شهاب: قلت له: تقول الشعر في نسكك وفضلك؟! يعني مع عبادتك وعلمك تقول الشعر؟ فقال: إن المصدور إذا نفث برأ. نعم، إذا نفّس عن نفسه خفّ عليه ما يجد. الثانية: وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء، ويفسقوا التقي، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبةً في تسلية النفس وتحسين القول، كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله: فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختامِ فقال: قد وجب عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [(226) سورة الشعراء]، وروي أن النعمان بن عدي بن نظلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتمِ إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تحذو على كل منسمِ فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدمِ فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه وقال: إي والله إني ليسوءني ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً مما قلت، وإنما كانت فضلةً من القول، وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [(224 - 226) سورة الشعراء] فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلت ما قلت، وذكر الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له همّ إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما واحملهما إليّ، فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر فقال: هيه: فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى

أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون؟! ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين أو خير من ذلك؟ فقال: ما هو؟ قال: أعاهد الله إني لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبداً، وأجدد توبة فقال: أو تفعل؟ قال: نعم، فعاهد على توبته وخلاه، ثم دعا بالأحوص فقال: هيه: الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتبعُ بل الله بين قيمها وبينك، ثم أمر بنفيه، فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى وقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان فإنه فاسق مجاهر، فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه، وروى إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام)) رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي، وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الشعر بمنزلة الكلام حسنة كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام)). تخريجه؟ طالب: قال: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والدارقطني والطبراني في الأوسط،. . . . . . . . . من حديث ابن عمرٍ وإسناده ضعيف. . . . . . . . . عبد الرحمن بن زياد الإفريقي. . . . . . . . . ومع ذلك حسنه الهيثمي. . . . . . . . . وله شواهد. . . . . . . . . والذي قبله؟ طالب: قال: أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة وله شواهد تقدم.

الثالثة: روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا))، وفي الصحيح أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خذوا الشيطان -أو أمسكوا الشيطان- لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً))، قال علماؤنا: وإنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقاً للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم، ولا خلاف في أن من كل على مثل هذه الحالة، فكل ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، فإن لم يمكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعاً تعيَّن عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل له أن يعطى شيئاً ابتداء؛ لأن ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة، قلت قوله: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه)) القيح: المدة يخالطها دم، يقال منه: قاح الجرح يقيح وتقيَّح وقيَّح، و (يريه) قال الأصمعي: هو من الوري على مثال الرمي: وهو أن يدوي جوفه، يقال منه: رجل موري مشدد غير مهموز، وفي الصحاح: ورى القيح جوفه يريه وريا: إذا أكله، وأنشد اليزيدي: قالت له ورياً إذا تنحنحا

وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر؛ لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية؛ لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوَّب على هذا الحديث (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر)، وقد قيل في تأويله: إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو غيره، وليس هذا بشيء؛ لأن القليل من هجو النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبي -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين محرم قليله وكثيره، وحينئذٍ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى. معنى الحديث واضح، يعني قوله: ((لأن يمتلئ)) فإذا امتلئ الجوف من الشعر ما كان فيه محل لغيره، لا من القرآن ولا من السنة ولا من ما يحتاج إليه من العلم، إذا امتلأ ما استوعب غيره، فالاستغناء بالشعر عن الكتاب والسنة لا شك أنه ذم، يذم ذم شديد، وكونه يمتلئ قيح خير له من أن يمتلئ شعر، شعر يستوعب قلبه بحيث لا يكون للكتاب والسنة فيه مجال، أما من في جوفه الكتاب والسنة وفيه أيضاً شيء من الشعر، وفيه العلوم وما يحتاج إليه من صنوف العلم فهذا لا يذم، بل يمدح؛ لأن من الشعر حكمة، وكثير من العلوم نظمت فصارت شعراً، ونظم العلوم حقيقةً سنةً عند أهل العلم يسهلون بها حفظ العلم وثباته بالشعر؛ لأن الشعر أثبت من النظم، فلا شك أن مثل هذا النوع محمود، فنظم في جميع العلوم حتى في مفردات القرآن وغريبه وغريب الحديث، وفي التفسير أيضاً، وفي شروح الحديث، ونظمت المتون العلمية، كل هذا شيء جديد. لكن بعضهم نظم الحديث فبلوغ المرام نظمه الصنعاني، ونظمه غيره، وعندي أن مثل هذا لا يليق، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- نفى عنه الرب -جل وعلا- الشعر {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [(69) سورة يس] تحول كلامه من نثر إلى شعر؟ يعني تحوله إلى ما نفاه الله -جل وعلا- عنه لا شك أن هذا أقل أحواله الكراهة الشديدة.

الرابعة: قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع، قال الأول منهم: وجرح اللسان كجرح اليد. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: ((إنه لأسرع فيهم من رشق النبل)) أخرجه مسلم، وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل)). الخامسة: قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [(224) سورة الشعراء] لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَرَاء} فيما علمت، ويحوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيس بن عمر، قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب، قرأ: {والسارقَ والسارقَة} [المائدة: 38] و {حمالةَ الحطب} [المسد: 4] و {سورةً أنزلناها} [النور: 1]، وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي: (يَتْبَعُهُم) مخففاً، والباقون {يَتَّبِعُهُمُ}. وقال الضحاك: تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت، وقاله ابن عباس، وعنه: هم الرواة للشعراء، وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس، وقد ذكرناه، وروى غضيف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث هجاءً في الإسلام فاقطعوا لسانه)). مخرج؟ طالب: قال: أخرجه الطبراني كما في المجمع من حديث غضيف بن أبي غضيف، ... من حديث أبي أمامة ومداره في الطريقين على إسحاق بن أبي فروة، وهو متروك قاله الهيثمي ونقله. . . . . . . . . على عبد الله بن أحمد قوله: معناه. . . . . . . . . عدا الإسلام، وأخرجه البزار من حديث بريدة في معناه، ورجاه ثقاة وفي بعضهم شك.

على كل حال ضعيف ما دام مداره على متروك ما يستفيد. وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما افتتح مكة رنّ إبليس رنّه وجمع إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيهما -يعني مكة والمدينة- الشعر. مخرج؟ خرجه؟ السادسة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [(225) سورة الشعراء] يقول: في كل لغو يخوضون ولا يتبعون سنن الحق؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت ولم يكن هائماً يذهب على وجهه لا يبالي ما قال، نزلت في عبد الله بن الزبعرى، ومسافع بن عبد مناف، وأميةَ بن أبي الصلت، {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [(226) سورة الشعراء] يقول: أكثرهم يكذبون: أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه، وقيل: إنها نزلت في أبي عزة الجمحي حيث قال: ألا أبلغا عني النبي محمداً ... بأنك حق والمليك حميدُ ولكن إذا ذكرتُ بدراً وأهله ... تأوه مني أعظمٌ وجلودُ ثم أستثنى شعر المؤمنين: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير، ومن كان على طريقهم من القول الحق فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [(227) سورة الشعراء] في كلامهم، {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [(227) سورة الشعراء] وإنما يكون الانتصار بالحق، وبما حده الله -عز وجل-، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل، وقال أبو الحسن المبرد لما نزلت: (والشعراء) جاء حسان وكعب بن مالك. طالب:. . . . . . . . . مصحح في الحاشية. . . . . . . . . وقع. . . . . . . . . أبو الحسن؟ تُراجع ترجمته.

لما نزلت: (والشعراء) جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء؟ فقال: ((اقرؤوا ما بعدها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .. الآية ((أنتم)) {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} ((أنتم)) -أي بالرد على المشركين- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً، ولا تذكروا الآباء والأمهات)) فقال حسان لأبي سفيان: هجوتَ محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاءُ وإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاءُ أتشتمه وليست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداءُ لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاءُ وقال كعب: يا رسول الله إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل)). طالب: قال هذا مرسل، أبو الحسن البراق هو مولى تميم الداري التابعي. . . . . . . . . موجودة ترجمته في الميزان، وقال ابن كثير في تفسيره: هذه السورة مكية وبقيتها تكون سبب نزولها شعراء الأنصار، ولم يرد في سبب نزولها. . . . . . . . . لا يعتمد عليها، والله أعلم. انتهى كلامه، والقدر المرفوع من الحديث وهو: ((إن المؤمن يجاهد بنفسه)) أخرجه عبد الرزاق وأحمد وصححه ابن حبان من حديث كعب بن مالك وإسناده على شرطهما، قاله. . . . . . . . . وصححه الألباني، وقال: صحيح على شرط مسلم. جاء بالأمر ((جاهدوا الكفار بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم)). وقال كعب: جاءت سخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا))، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [(224) سورة الشعراء] منسوخ بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [(227) سورة الشعراء]، قال المهدوي: وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [(227) سورة الشعراء] في هذا تهديد لمن انتصر بظلم. قال شريح: سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله -عز وجل-، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة، وقرأ بان عباس: (أي منفلت ينفلتون) بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي، ومعنى: {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} أي: مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون؛ لأن مصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع، والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب: الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع: العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلباً. لأن المنقلب مأخوذ من الانقلاب، وهو –نسأل الله العافية- التحول إلى شر مما كان عليه، وأما المرجع فهو رجوع إلى ما كان عليه سابقاً. فصار كل مرجع منقلباً وليس كل منقلب مرجعاً، والله أعلم، ذكره الماوردي، و (أي) منصوب بـ {يَنقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوباً بـ {سَيَعْلَمُ} لأن أياً وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنىً آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه. طالب: مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- لكعب. . . . . . . . . هل يؤجر عليه؟ إيش المانع؟ إيه، يمدح الحق، الذي يمدح الحق يرغّب الناس فيه يؤجر.

سورة النمل - إدعاء علم الغيب، وسماع الموتى في قبورهم

تفسير القرطبي سورة النمل إدعاء علم الغيب، وسماع الموتى في قبورهم الشيخ/ عبد الكريم الخضير قوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [(65 - 66) سورة النملِ]. قوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [(65) سورة النمل]، وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق، ولم يطلع عليه أحد؛ لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-: لأن العبد إذا اطلع على الغيب وعرف ما في المستقبل، وما يعرض له، وما يحصل له فإنه يأمن من هذا، يحترز مما يعتريه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [(188) سورة الأعراف]، ومع الأسف أنه شاع بين الناس في السنوات الأخيرة لما انتشرت تجارة الأسهم، ادعاء الغيب من كثير ممن يزاول هذه المهنة، ومع الأسف من بعض من ينتسب إلى طلب العلم الشرعي، تجد الواحد منهم يتصل على الآخر فيقول: اشتري في الشركة الفلانية فإنها خلال أسبوع سوف تتضاعف أسهمها، تتضاعف أقيامها، وستذكر ما أقول لك، واشتري في كذا وبع في كذا؛ لأنها تخسر وتنزل، هذا ادعاء علم الغيب، الإخبار عما في الغد من علم الغيب. ويؤكدون ذلك وأحياناً بالأيمان، وكل هذا داخلٌ في هذه الآية دخولاً أولياً، وانتشر هذا حتى حصل ما حصل من الكارثة التي صارت في سوق الأسهم، صاروا يعضون أنامل الندم حيث لا ينفعهم الندم، وتبرءوا ممن اغتروا بهم، وقال قائلهم: ليتني لم أتخذ فلاناً مستشاراً، كما يقول القائل: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [(28) سورة الفرقان]، إذا بانت سوء العاقبة هذه النتيجة، وكل هذا من شؤم ادعاء علم الغيب مع ما يحتف بهذه الأسهم من شبهات، بل محرمات أحياناً.

فعلى الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن ينتبه لهذا الأمر؛ لأن الذي يزعم أنه يعلم ما في الغيب هذا كافر نسأل الله العافية، مخالف للنصوص القطعية، مصادم للنصوص القطعية، النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وهؤلاء يذكرون ما في الغد، بل ما في بعد أسبوع أو بعد أشهر، ويحلفون على ذلك، ويؤكدون، ثم بعد ذلك تظهر النتائج عكسية. وقد يستدرج الإنسان، يقع ما توقعه، ثم يستبصر في ذلك، ولا يشعر ولا يدري أنه منكرٌ به، ويستدرج، نسأل الله السلامة والعافية. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قيام الساعة، و "من" في موضع رفع. يوم القيامة لا يعلم متى تقوم إلا الله -جل وعلا-، ولا تأتي إلا بغتة، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، وجاء في حديث جبريل عليه السلام حينما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الساعة، قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) فهما مستويان في الجهل بها؛ لأنه لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، ومع الأسف أن من من بحث في أشراط الساعة زعم أن الساعة تقوم سنة 1407هـ، وهذا الكلام قيل: قبل أربعمائة سنة، يقول تقوم الساعة سنة 1407هـ بناءً على حساب الجُمَل؛ لأن بغتة حسبت بحساب الجمل فيظهر الناتج 1407هـ، مع أن النصوص القطعية من الكتاب والسنة تدل على أنه لا يعلمها أحد إلا الله -جل وعلا-. وأما قول الله -جل وعلا-: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [(15) سورة طه]، يعني على ضوء قواعد العربية: كاد إذا كانت مثبتة تختلف عما إذا كانت منفية، فمفهوم قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أنه أظهرها، لكن على إظهار قريب من الخفاء، وليس هذا المراد قطعاً؛ لأن مثل هذا النص يرد إلى النصوص المفسرة. فقال من قال من المفسرين -ولو وجه ظاهر-: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} حتى عن نفسي، هذا مبالغة في إخفائها، فالنصوص القطعية تدل على أنه لا يعلمها أحد كائناً من كان.

هناك الأمور الخمسة التي استأثر الله بعلمها في آخر سورة لقمان، ومنها: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [(34) سورة لقمان]، وهذه الآية أشكلت على كثير من الناس، نعم لا يعلم ما في الأرحام إلا الله -جل وعلا-؛ لأنها من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وجاء النص الصحيح المفسر لهذه الآية؛ لأنه قد يقول قائل: {يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} لا ينفي أن يكون غيره يعلم، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث الصحيح: ((في خمسٍ لا يعلمها إلا الله)) فالحصر دل على أن ما في الأرحام لا يعلمه إلا الله -جل وعلا-. وقد يقول قال: أن الأطباء الآن بأجهزتهم يخبرون النساء الحوامل عما في بطونهن، هل هو ذكر أو أنثى، ولكن لا شك أن الحمل إذا خرج عن دائرة الغيب وعرفه الملك أمكن معرفته، وقبل ذلك لا يمكن بحال؛ لأنه من الخمس المغيبات التي لا يعلمها إلا الله. والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فإنه بدل مِن "مَن" قاله الزجاج. وقال الفراء: وإنما رفع ما بعد "إلا" لأن ما قبلها جحد. يعني ليس استثناء تام موجب، إنما هو سالب؛ لأن ما قبلها جحد، يعني من في من، تقدمت عليه {قُل لَّا يَعْلَمُ} إذا كان الاستثناء منفي يرفع، وإذا كان الاستثناء تام موجب فإنه ينصب. كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك، والمعنى واحد، قال الزجاج: ومن نصبَ نصب على الاستثناء، يعني في الكلام، قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجماً، وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية. نعم، من يزعم أنه يدعي علم الغيب، ولم تكن لديه شبهة يتشبث بها لا شك أنه كافر، الذي يدعي علم ما نفاه الله -جل وعلا- لا شك في كفره، إلا إذا كانت لديه شبهة عنده لديه شبهة، فتزال هذه الشبهة قبل الحكم عليه. قلت: وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى، وقالت عائشة: من زعم أن محمداً يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية ... غلاة الصوفية جعلوا له من العلوم جميع ما يعلمه الله -جل وعلا-، غلاتهم يزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب، بل جعلوا له كل ما يخص به الرب -جل وعلا-، نسأل الله السلامة والعافية.

والله تعالى يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [(65) سورة النمل]، خرجه مسلم، وروي أنه دخل على الحجاج منجمٌ فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصا؟ فحسب المنجم، ثم قال: كذا، فأصاب. لأن عدد الحصا ليس من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنما يعلمه الحجاج؛ لأنه عدها، فخرج عن دائرة الغيب، ومع ذلكم هو غيب، لا يعلمه هذا المنجم، فإن زعم أنه يعلم ما في يد الحجاج من الحصى ولو عدها الحجاج هي غيب، ما وراء هذا الجدار لا يمكن أن يعرفه من دونه؛ لأنه غيب، إلا بإعانة الشياطين، فتعود المسألة من كونها غيب إلى كونها استعانة بالشياطين، ومعروفٌ أن الشياطين لا يعينون إلا من استعان بهم، وقدم لهم، نسأل الله السلامة والعافية؛ لأنه لم يعرف هذا العدد بمفرده بمجرده إلا بإعانة من يستطيع الوقوف على هذا العدد؛ لأنه خرج عن دائرة الغيب. ثم أعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب فأخطأ؟ ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها، قال: لا، قال: فإني لا أصيب، قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب. و {لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقد مضى هذا في "آل عمران" الحمد لله. وقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [(66) سورة النمل]، هذه قراءة أكثر الناس، منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: {بل أَدْرَك} من الإدراك، وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان ين يسار والأعمش: {بل ادَّرَك} غير مهموز مشدداً، وقرأ ابن محيصن ... ذكر الأعمش في القراءة الأولى والثالثة، ولكن أكثر كتب التفسير لا تذكر الأعمش في القراءة الثالثة، إنما المعروف عنه القراءة الأولى {بل ادارك}.

وقرأ ابن محيصن: {بل آدرك} على الاستفهام، وقرأ ابن عباس: {بلى} بإثبات الياء، و {أدارك} بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها، قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس، وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي {بل تدارك علمهم} وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبي {أم تدارك}، والعرب تضع بل موضع "أم" و "أم" موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام كقول الشاعر: فوالله لا دري أسلمى تقولت ... أم القول أم كل إلي حبيب أي بل كل. قال النحاس: القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد؛ لأن أصل {أدارك} تدارك، أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل، وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى. لأنه إذا أدغم الحرفان فصارا حرفاً واحد مشدد، حرفٌ مشدد عبارة عن حرفين أولهما ساكن، ولا يمكن الابتداء بالساكن، فيتوصل إلى الابتداء به بمتحرك، فتتحد القراءتان. وفي معناه قولان، أحدهما أن المعنى: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما يوعدوا به معاينة فتكامل علمهم به، والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة، فقالوا: تكون، وقالوا: لا تكون، والقراءة الثانية فيها أيضاً قولان: التدارك من الإدراك، ومعناه على التتابع واحد؛ لأن من يتبع غيره قد يدركه، فتدارك أو ادارك علمهم في الآخرة يعني تتدارك وتتابع علمهم في الآخرة، فعاينوا ما كانوا يشكون فيه، فبعد أن كان خبراً قابلاً للشك على حد زعمهم، لعدم إيمانهم، صار يقيناً، وصار عين اليقين، وحينئذ يتتابع علمهم عليه، ويتواطئون عليه، ولا يمكن أحدٌ منهم أن ينكره.

القراءة الثانية فيها أيضاً قولان: أحدهما: أن معناه: كُمل في الآخرة وهو مثل الأول، قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين، والقول الآخر: أنه على معنى الإنكار وهو مذهب أبي إسحاق، واستدل على صحة هذا القول بأن بعده {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [(66) سورة النمل]، أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة، فليس لهم فيها علم، والقراءة الثالثة: {بل ادَّرك} فهي بمعنى {بل ادارك} وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى. ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا. يأتي المفاعلة التي هي في الأصل بين طرفين، بمعنى الفعل الذي هو لطرفٍ واحد، يأتي كالمسافرة مثلاً، قلت: سافر زيد، لا يعني أن هذه المفاعلة المسافرة وقعت بين طرفين، تقول: طَارَقَ زيدٌ النعل، المطارقة هذه لا تعني أنها بين اثنين، وإن كان بابها والأصل فيها أنها تكون بين اثنين كالمضاربة والمكاتبة وما أشبه ذلك. والقراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار، كما تقول: أأنا قاتلتك؟ فيكون المعنى لم يدرك، وعليه ترجع قراءة ابن عباس، قال ابن عباس: {بلى آدارك علمهم في الآخرة} أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه. قوله: أأنا قاتلتك؟ هذا الاستفهام إنكاري، يراد به إنكار المقاتلة. وهو قولٌ حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف، فأنت تروي ما لا أروي، وأنت تكذبه، وقراءة سابعة: {بلَ أدرك} بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها، وقد حُكى نحو ذلك عن قطرب في "قمَ الليل" فإنه عدل إلى الفتح. فتح اللام اللي في "بل" {بلَ أدرك}. وقراءة سابعة: {بلَ أدرك} بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها، وقد حُكى نحو ذلك عن قطرب في "قمَ الليل" فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك و"بعَ الثوب" ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ {بل أأدرك} بهمزتين {بل أأدرك} ..

الفتح، فتح اللام التي هي في الأصل مكسورة، وعدل عنها إلى الفتح للتخفيف، لا شك أن الأصل هو الكسر؛ لأنه إذا توالى ساكنان، حُرك الأول منهما بالكسر، {يَرْفَعِ اللَّهُ} [(11) سورة المجادلة]، قد يقول قائل: الفعل لا يجر، نقول: نعم، حرك بالكسر لئلا يجتمع ساكنان، طيب لماذا لم يحرك بالفتح أو لم يحرك بالرفع؟ هو محله الجزم، فإذا حرك بالرفع والمضارع يرفع إذا تجرد عن العوامل الناصبة والجازمة؟ قلنا: أنه مرفوعٌ أصلاً، وأن محله الرفع، وكذلك إذا حرك بالنصب ظن أنه منصوب؛ لدخول العامل الناصب عليه؛ لأن من شأن الناصب أن ينصب، والتجرد يرفع، والمضارع إنما يرفع إذا تجرد عن العوامل وينصب إذا دخل عليه ناصب، ويجزم إذا دخل عليه جازم، وحينئذٍ يلجأ إلى حركةٍ لا توجد في الحالات الثلاث، ليعرف أن هذا ليست حركة إعراب، الحركة التي عليه ليست حركة إعراب، وإنما هي حركة تخلص، فيلجأ إلى الكسر لهذا، وإلا فالأصل أن الفعل لا يجر. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ {بل أأدرك} بهمزتين {آأدرك} بألف بينهما {بلى أأدرك} {أم تدارك} {أم أدرك} فهذه ثنتا عشرة قراءة. ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة {بل أأدرك} على الاستفهام؟ قلتُ: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: {أم أدرك} و {أم تدارك} لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ: {بلى أأدرك} على الاستفهام، فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن {فِي الْآخِرَةِ} في شأن الآخرة، ومعناها {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أي في الدنيا {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [(66) سورة النمل]، أي بقلوبهم، واحدهم عمو، وقيل: عَمٍ، وأصله عميون، حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها. عمون: جمع مذكر سالم، جمعٌ عمٍ، واحدهم عمٍ، وأصله ناقص، مختوم بالياء، والناقص في حالة الرفع تحذف ياءه إذا لم يقترن بأل، جاء قاضٍ، فهو في محل الرفع محذوف الياء، ويجمع على قاضون، مثل عمون.

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [(67) سورة النمل]، يعني مشركي مكة، {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} هكذا يقرأ نافع هنا، وفي سورة: "العنكبوت". المؤلف والمفسر على قراءة نافع، لذا تجدون مثل ما كررنا مراراً أنه يفسر الآيات على قراءته، ويشير إلى القراءات الأخرى. وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة، وقرأ عاصم وحمزة أيضاً باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعاً واحد، وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب: {أئذا} بهمزتين {إننا} بنونين على الخبر في هذه السورة وفي سورة: "العنكبوت" باستفهامين. قال أبو جعفر النحاس: القراءة {إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون} موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال: ومر بنا مراراً أن المراد بأبي حاتم هو السجستاني. وهذا معنى كلامه: {إذا} ليس باستفهام و {آينا} استفهام، وفيه {إن} فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله؟ وكيف يجوز أن يعمل ما بعد {إن} فيما قبلها؟ وكيف يجوز غداً إن زيداً خارج؟ فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلاً لما ذكره، وقال أبو جعفر: يعني ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله. وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة المشكلة، وهي قوله اله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [(7) سورة سبأ]، فقال إن عمل في {إذا} {ينبئكم} كان محالاً؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد {إنَّ} كان المعنى صحيحاً، وكان خطأً في العربية أن يعمل ما قبل {إنَّ} فيما بعدها، وهذا سؤال بَيِّن رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها، فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: يعني جوابه في الجزء الرابع عشر صفحة "262"، جواب هذا الإشكال. واستدل بقوله تعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [(144) سورة آل عمران].

سبأ، سبأ الجزء الرابع عشر، صفحة "262". . . . . . . . . يقول: ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إن؛ لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولها، وأجاز الزجَّاج أن يكون العامل فيها محذوفاً. التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم -هذا الجواب الذي أحال عليه هنا- المهدوي: ولا يعمل فيه مزقتم؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. لماذا؟ الآن المضاف إليه مجرور، مجرور بالمضاف، فالمضاف هو العامل في المضاف إليهم، وهنا يقول: المضاف إليه لا يعمل في المضاف – هذا طبيعي، هذا أنه إذا كان العامل هو المضاف في المضاف إليه لا ينعكس- وأجازه بعضهم على أن يجعل "إذا" للمجازاة. لكن هل يجوز أن يكون المضاف إليه عاملاً بمعنى أنه يأتي منه الحال؟ ولا تجز حالاً من المضاف له ... إلا إذا اقتض المضاف عمله {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [(4) سورة يونس]، جميعاً حال من الكاف المضاف إليه، ولذا المضاف إليه معمول وليس بعامل: إلا إذا اقتض المضاف عمله كما في هذا. أو كان جزء ما له أضيف ... أو مثل جزءه فلا تحريف المقصود أنه المضاف إليه الأصل فيه أنه معمول وليس بعامل. فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [(144) سورة آل عمران]، وبقوله تعالى: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [(34) سورة الأنبياء]، وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئاً. والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد، ومعنى: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [(34) سورة الأنبياء]، أفإن مت خلدوا، ونظير هذا: أزيدٌ منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد، وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام. لأن منطلق كلمة، أزيدٌ منطلق، منطلق: خبر زيد، لا يقوم بنفسه، أما جملة {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} جملة كاملة من مبتدأ وخبر، يختلف الحكم في هذا عن هذا.

والأول كلام يصلح فيه الاستفهام، فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ: {أئذا كنا تراباً وآباؤنا إننا} فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلاً عليه بمعنى الإنكار. قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [(68) سورة النمل]، تقدم في سورة "المؤمنون"، وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت فقريب. يقربون أمر الساعة التي هي مقدمة البعث، ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ومع ذلك مضى أكثر من (1400) سنة ما قامت الساعة، كل ما آتٍ قريب. ويقربونها كي يستعد لها الناس. قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [(69) سورة النمل]، أي {قُلْ} لهؤلاء الكفار {سِيرُوا} في بلاد الشام والحجاز واليمن {فَانظُرُوا} أي بقلوبكم وبصائركم {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} المكذبين لرسلهم. {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} الأرض جنس، يشمل ما ذكر في بلاد الشام والحجاز واليمن، ويشمل غيرها من بلاد المشرق والمغرب، كلها فيها عبر وآيات، فهل من مدكر. سينظرون في الآفاق، وينظرون في الأرض على اختلاف ألوانها وأشكالها، ومناخها، وتضاريسها، ومع ذلك لا اعتبار ولا ادكار، وكثيرٌ من الناس يذهب إلى السياحة والفرجة والمتعة، ويرى من آيات الله ما يخلع القلوب، ومع ذلك كأن شيئاً لم يكن، ويزاول في سياحته هذه التي الأصل أن يستفيد منها ويعتبر، يزاول فيها ما حرمك الله -جل وعلا-. فالله المستعان. {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [(70) سورة النمل]، أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا، {وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ} في حرج، {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة، وقد تقدم ذكرهم، وقرئ: {في ضِيق} بالكسر، وقد مضى في آخر "النحل". {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [(71) سورة النمل]، أيَّ وقتٍ يجيئنا العذاب بتكذيبنا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

استبعاد لعذاب الله، وما أشبه الليلة بالبارحة، يوجد الآن على وجه الأرض من يستبعد وينكر العذاب، وحال كثيرٍ من المسلمين، وإن لم يقولوا بلسان المقال، بل ما اشتمل عليهم حالهم كأنها حال مكذب، والله المستعان. قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [(72) سورة النمل]، أي اقترب لكم ودنا منكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي: من العذاب ... لأن الرديف قريبٌ من مرادفه، الرديف قريب من مرادفه، لصيق له، مجاورٌ له، فإذا ردفَ لهم بعض الذي يستعجلون قرب منهم، كان رديفاً لهم كان قريباً منهم. أي من العذاب، قاله ابن عباس، وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره، وتكون اللام أدخلت؛ لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم، أو تكون متعلقة بالمصدر، وقيل: معناه معكم، وقال ابن شجرة: تبعكم، ومنه ردفُ المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب: عاد السواد بياضاً في مفارقه ... لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردفا أوضح منه: الرديف على الدابة، الدابة يركب عليها الاثنان والثلاثة إذا كانت تطيق ذلك يجوز، وجاء في أحاديث عن أكثر من ثلاثين صحابياً، كل منهم يقول: "كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم-" وألف ابن منده في ذلك جزءاً فيمن ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- فصاروا أكثر من ثلاثين، هذا أوضح من ردف المرأة؛ لأن الردف ملاصق، ويأتي مع لا يأتي بعد، أما الرديف الذي يركب خلف الراكب فهذا ليس بملاصق له. قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى، قال خزيمة بن مالك بن نهد: إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظيَن. القارظين، القارظ بن عنزة، ذهب ولم يعد: إذا ما القارظ العنزي آبا معلقٌ عليه الأمور المستحيلة، ذهب لحاجات من الحاجات فلم يرجع. وقال الفراء: {رَدِفَ لَكُم} دنا لكم، ولهذا قال: {لكم}. وقيل: ردفه وردف له بمعنى، فتزاد اللام للتوكيد، عن الفراء أيضاً: يعني الأصل أنه متعدٍ بنفسه. كما تقول: نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته وكلت له ووزنت له، ونحو ذلك. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [(72) سورة النمل]، من العذاب فكان ذلك يوم بدر، وقيل: عذاب القبر.

من أسباب الاختلاف:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [(73) سورة النمل]، في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} فضله ونعمه. قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [(74) سورة النمل]، أي تخفي صدورهم، {وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون من الأمور، وقرأ ابن محيصن وحميد: {ما تَكنُّ} من كننت الشيء إذا سترته هنا، وفي "القصص" تقديره: ما تَكن صدورهم عليه ... أي ما تنطوي عليه وما تخفيه. وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر، ومن قرأ: {تُكنُّ} فهو المعروف، يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك. قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [(75) سورة النمل]، قال الحسن: الغائبة هنا القيامة، وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض، حكاه النقاش، وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيَّبه عنهم، وهذا عام، وإنما دخلت الهاء في "غائبة" إشارة إلى الجمع، أي: ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه، وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب. العموم في الغائبة؛ لأنها نكرة في سياق النفي، وأكد هذا العموم بمن. وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له، فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب، لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه، والكتاب اللوح المحفوظ، أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته. من أسباب الاختلاف: قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [(76) سورة النمل]، وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضاً فنزلت. والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.

سبب اختلافهم الكثير فيما بينهم، وإن كان لديهم كتاب منزل، لكنهم استحفظوا عليه فلم يحفظوه، استئمنوا واستحفظوا فلم يحفظوا، فغيروا وبدلوا، وكل واحد منهم يرجع إلى ما بيده من التوراة التي حرفها أو حُرفت له، فلا يرجعون إلى أصلٍ واحد، ولذا حصل الاختلاف الكبير بينهم؛ لأن كل واحد يحرف نسخته على ما يشاء على ما يريد، أو تحرف له، أو يتبع غيره ممن يحرف، المقصود أن كل واحد بيده غير ما بيد الآخر، فلذا كلٌ يرجع إلى نسخته فيحصل الاختلاف. ولذا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن عشرة من النصارى اجتمعوا لبحث مسألة فصدروا عن أحدى عشر قولاً، لماذا؟ لأنهم لا يرجعون إلى أصل يمكن أن يحتكموا إليه، والذين بحثوا في الروح التي حجب الله عن الخلق معرفة ماهيتها وكنهها، اختلفوا على أكثر من مائة قول، والسبب في ذلك أنه لا يوجد أصل يرجعون إليه، لا يوجد أصل، الله -جل وعلا- قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [(85) سورة الإسراء]، وهم يخوضون في تعريفها، ولما لم يوجد الأصل الذي يمكن أن يعتمد عليه ويرجع إليه حصل مثل هذا الاختلاف، وهذا التباين الكبير في أقوالهم في حدها وماهيتها وكيفيتها. {وَإِنَّهُ} يعني القرآن، {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [(77) سورة النمل]، خص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} .. نعم، لأنه كتاب محفوظ، تكفل الله بحفظه، قال: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]، والكتب الأخرى استحفظوا عليها، لكنهم لم يحفظوها، فكتابنا -ولله الحمد- محفوظ، ومن يرجع إليه ويتحاكم إليه لا بد أن يصل إلى الحق، القول الراجح المعتمد على النص الصحيح، قد يكون النص في دلالته شيء من الإجمال، ثم يختلف أهل العلم بسبب ذلك، وفي النهاية يعرف الراجح والمرجوح بالمرجحات المعتبرة عند أهل العلم. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} [(78) سورة النمل]، أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع الغالب الذي لا يرد أمره، {الْعَلِيمُ} الذي لا يخفى عليه شيء.

الاختلاف في سماع الموتى:

قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [(79) سورة النمل]، أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه فإنه ناصرك {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي الظاهر، وقيل المظهر لمن تدبر وجه الصواب. المبين: البين الواضح الظاهر، الذي لا خفاء فيه، وهو أيضاً مُبين لغيره، الحق المبين لما يختلف فيه. الاختلاف في سماع الموتى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [(80) سورة النمل]، يعني الكفار لتركهم التدبر، فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل، وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء} يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون، نظيره: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [(18) سورة البقرة]، كما تقدم. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو: {ولا يَسمَع} بفتح الياء والميم {الصمُّ} رفعاً على الفاعل، والباقون {تُسمعُ} مضارع أسمعت {الصُمَّ} نصباً. مسألة: وقد احتجت عائشة -رضي الله عنها- في إنكارها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسمع موتى بدر بهذه الآية، فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما أنتم بأسمع منهم)). لما خاطب أهل القليب، قليب بدر، فقيل له: كيف تخاطب أناس قد ماتوا، قال: ((ما أنتم بأسمع منهم لما أقول)) ولا شك أن هذا السمع خاص، ولا يعني أن جميع الأموات يسمعون أو يسمع منهم، لكن الأصل أنك لا تسمع الموتى، وخص منهم من خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر أنهم سمعوا، فلا يضرب العام بالخاص. قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرقُ عادةٍ لمحمد -صلى الله عليه وسلم- في أن رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين. ابن القيم -رحمه الله- بحث هذه المسألة، وأطال البحث في كتاب الروح، فيرجع إليه من أراد المزيد.

قلت: روى البخاري -رضي الله عنه-: حدثني عبد الله بن محمد سمع رَوح بن عبادة قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواءِ بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا: ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، قال فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً، خرجه مسلم أيضاً. قال البخاري: حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن أبن عمر قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على قليب بدر فقال: ((هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)) ثم قال: ((إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)) ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية. طالب:. . . . . . . . . ((إنهم الآن ليعلمون)) فرق بين يسمعون ويعلمون، رواية ليعلمون تستدل بها عائشة على أنهم لا يسمعون، عملاً بعموم الآية: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} كونهم يعلمون، نعم يعلم، خلاص حق اليقين. وهذا سقط لا بد منه؛ لأن السياق الذي ساقه المؤلف فيه خفاء، أقول فيه خفاء تبينه الرواية الصحيحة، ((هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)) ثم قال: ((إنهم الآن يسمعون ما أقول)). . . . . . . . . ((إنهم الآن ليعلمون)). طالب:. . . . . . . . . سقط سطر الظاهر وجائنا في موضع يسقط سطر كامل، مرَّ علينا سقوط سطر كامل في أكثر من موضع. فالسقط بين قوله: (ثم قال) في آخر السطر الثاني، وبين قوله: (إنهم الآن) في أول السطر الثالث، يعني سطر كامل سقط، وإلا فالكلام فيه إيهام.

ثم قال: ((إنهم الآن ليسمعون ما أقول)) فذكر ذلك لعائشة فقالت: إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)) ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية. وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر، وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه إلى غير ذلك، فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه، وهذا واضح وقد بيناه في كتاب التذكرة. إذاً كيف يحمل قول الله -جل وعلا-: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} هل المراد به إسماع تترتب عليه فائدته من الإجابة، يعني ولو ذكرت لهم ما ذكرت وسمعوا منك ما ذكرت ما استفادوا؛ لأن الإجابة مستحيلة، بعد الموت، بعد المعاينة، وبعد الغرغرة لا تنفع التوبة، فأنت لا تسمعهم سماعاً ينفع، لا تسمعهم سماعاً ينتفعون به، لقد نفي السمع من الكفار، لا يسمعون به، هم يسمعون سماع أصوات، لكن لا يسمعون سماع ينفع، سماع إجابة، لا، فإذا حُمل النفي هنا على السماع النافع المجدي ثبت السماع في الجملة الذي لا ينفع؛ لأنه بعد المعاينة لا ينفع، فيستقيم الكلام في نفسه. ومن يقول: أن الأصل أنهم لا يسمعون، أن الموتى لا يسمعون، يستثنى من ذلك ما جاء استثنائه في مثل أهل القليب على العموم قد يسمعون لحكمة يراها الله -جل وعلا-. وكونهم يُسمعون هذا أيضاً محل نظر، محل خلاف بين أهل العلم، الأصل أنهم لا يُسمعون، قد يحصل لهم ما يحصل من عذاب، لكن هذا العذاب لا يُسمع هذا هو الأصل، والنبي عليه الصلاة والسلام قرر أنهم يعذبون في قبورهم، وأنه يسمعهم يسمع الضرب بالمرزبة، يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ولو سمعها الإنسان لصعق ... فجاء في الحديث الصحيح: ((لولا أن تدافن)) وفي رواية: ((لولا أن لا تدافنوا لأسمعتكم)) فدل على أن السماع الخاص لا يعني السماع العام، لا منهم ولا إليهم.

فالأصل أنهم لا يَسمعون ولا يُسمعون، ولكن جاء في النصوص ما يدل على شيء يسير من ذلك مستثنى من هذا العام، كما في قصة القليب وأنهم سمعوا، وأن الميت لا يسمع قرب نعالهم، وما أشبه ذلك، لكن لا يعني أن كل من ذهب إلى صاحب قبر أنه يسمع كلامه، يا فلان يا فلان، يسمع كلامه، لا يسمع، وقل في مثل هذا العكس. أما بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فترد روحه، وأما بالنسبة لغيره فيحصل الأجر بالسلام، وكونه يجيب أو لا يجيب هذه مسألة الله أعلم بها، كونها ترد الروح هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام. طالب:. . . . . . . . . معروف، هذا الشريط الذي سمع من روسيا، وأنهم سجلوا أصوات، وزعموا أنها أصوات أموات يعذبون، وأنهم نفوا ذلك فيما بعد، نفوه نفياً قاطعاً، وحجبوا الشريط ومنعوا تداوله، على كل حال كل هذا من شطط الكفار الذين يريدون تشكيكنا في ديننا، وما جاءنا عن نبينا عليه الصلاة والسلام ((لولا أن لا تدافنوا -يعني من كثرة الأموات-لأسمعتكم)) فدل على أن هذا ليس بالإمكان سماعه إلا على طريقة خرق العادة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون هناك موعظة لشخصٍ بعينه يتعظ بها فيخرق الله له هذه العادة فيسمع شيئاً من هذا، أما الأصل أنه لا يسمع ولا يُسمع. طالب:. . . . . . . . . كل هذا إما أن يكون رؤى أو منامات كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في أهوال القبور، أو يكون من باب الاعتبار والاتعاظ لشخصٍ بعينه، أراد الله له هذه الموعظة ليعتبر ويدكر، كما حصل لبعض من دفن ميته ثم عاد إليه؛ لأنه وقع بقبره شيء، فوجده يعذب، يعني هذه خوارق نادرة لا يعمم الحكم بها. قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} [(81) سورة النمل]، أي كفرهم، أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وقرأ حمزة: {وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم} ... {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} هذه هداية التوفيق والقبول التي لا يملكها إلا الله -جل وعلا-، وأما هداية الدلالة والإرشاد فهي له عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(52) سورة الشورى]، له ولأتباعه من دعاة الحق.

وقرأ حمزة: {وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم}، كقوله {أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} [(43) سورة يونس]، الباقون: {بهادي العمي} وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي "الروم" مثله. وكلهم وقف على {بهادي} بالياء في هذه السورة، وبغير ياء في "الروم" إتباعاً للمصحف. وقوفاً مع الرسم، لا يُتعدى. إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعاً بالياء، وأجاز الفراء وأبو حاتم: {وما أنت بهادٍ العمي} وهي الأصل، وفي حرف عبد الله {وما أن تهدي العمي} {إن تسمع} أي ما تسمع {إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد. القراءة التي أجازها أو الوجه الذي أجازه الفراء وأبو حاتم بالقطع عن الإضافة {ما أنت بهادٍ العمي} ويجوز الإضافة هنا، ويجوز القطع يجوز الوجهان {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [(45) سورة النازعات]، يجوز أيضاً: {منذرٌ من يخشاها}، إلا أنه من حيث المعنى هناك فرق لطيف يلحظ في ترجيح أحد الوجهين. إذا قلت، أو إذا قال: زيد من الناس أنا قاتلٌ عمرواً أو قال: أنا قاتلُ عمروٍ، الفرق بينهما أنه إذا قال: أنا قاتلٌ عمرواً، يهدد، يهدده بالقتل. أما إذا قال: أنا قاتلُ عمروٍ، فإنه يقرُّ بذلك عن نفسه، وأن القتل قد حصل في المضي، وأما بالنسبة للتهديد فسوف يحصل بالمستقبل. والكلام على الدابة طويل جداً. نقف على هذا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا يسأل عن بعض التفاسير، وبعض الكلام لبعض المخالفين وهنا يقول: كأنه سؤال موجه إلى من تقدم لعالم .... يقول: ماذا يقول شيخنا الإمام ... في مسلمٍ ذنوبه ضخام ضاقت عليه نفسه فقررَ ... عذلاً لها بهمةٍ عن الورى مع ما يرى في أمة الإسلام ... من ضعفها وكثرة الأسقام هذا يسأل عن العزلة، متى تترجح؟ والخلطة متى تكون راجحة؟ أو متى تتعين العزلة، أو متى تتعين الخلطة؟ على كل حال إذا كان الإنسان بمنزلة بحيث يؤثر ولا يتأثر فهذا يتعين عليه الخلطة، ولا تجوز له العزلة، وإذا كان بالعكس يتأثر بأعمال الناس وأفعالهم وشرورهم ومنكراتهم ولا يستطيع التأثير فيهم، فإن مثل هذا تتعين عليه العزلة، وإذا كان الأمر سجالاً يؤثر ويتأثر فينظر إلى الغالب، ينظر إلى الغالب فيحكم به. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سورة النمل - تفسير الآيات من (82 - 93)

التعليق على تفسير القرطبي سورة النمل تفسير الآيات من (82 - 93) الشيخ/ عبد الكريم الخضير السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [(82) سورة النمل]. اختلف في معنى: وقع القول، وفي الدابة، فقيل: معنى {وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} وجب الغضب عليهم، قاله قتادة، وقال مجاهد: حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون. وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري -رضي الله عنهما-: إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم، وقال عبد الله بن مسعود: ووقع القول يكون بموت العلماء وذهاب العلم، ورفع القرآن. قال عبد الله: أكثروا تلاوة القرآن، قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: يسرى عليه ليلاً فيصبحون منه قفراً، وينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع القول عليهم، قلت: أسنده أبو بكرٍ البزار، قال حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي، قال حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابنه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن أبيه أنه قال: "أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع، وينسى الناس مكانه، وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع" قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: فيصبحون فيقولون: كنا نتكلم بكلامٍ، ونقول قولاً فيرجعون إلى شعر الجاهلية، وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم. ضعفه ظاهر بجاهلة من عبد الله بن مسعود وأيضاً موسى بن عبيدة الربذي ضعيف. طالب:. . . . . . . . . هو قال. . . . . . . . . أما رفع القرآن ومحوه من الصدور فهذا معروف.

وقيل: القول هو قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [(13) سورة السجدة]. فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء، فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم، ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذٍ تقوم القيامة، ذكره القشيري .. الحد الذي لا تقبل معه التوبة خروج أحد العلامات الثلاث: المسيح الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وبالنسبة لكل شخصٍ بعينه، في الغرغرة إذا عاين انتهى أمر التوبة. وقول سادس: قالت حفصة بنت سيرين: سألت أبا العالية عن قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [(82) سورة النمل]. فقال: أوحى الله إلى نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وكأنما كان على وجهه غطاء فكشف، قال النحاس: وهذا من حسن الجواب؛ لأن الناس ممتحنون ومؤخرون؛ لأن فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله -عز وجل- أنه سيؤمن ويتوب، فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية، فإذا زال هذا وجب القول عليهم، فصاروا كقوم نوحٍ حين قال الله تعالى: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [(36) سورة هود]. علم الله -جل وعلا- أنه ليس ممن ينتسب لهذا الدين من يتوب ويرجع إلى الله -جل وعلا- ومن غيرهم ممن يحق له البقاء بدفع الجزية لا تؤخذ منه الجزية فأبطلت الأحكام. قلت: وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنىً واحد، والدليل عليه آخر الآية: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [(82) سورة النمل]. وقُرئ أن بفتح الهمزة وسيأتي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)) وقد مضى، واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها. ما الفائدة من ذكر العلامة الثانية والثالثة إذا كانت واحدة منها إذا خرجت وظهرت لا ينفع نفساً إيمانها؟ فيعلق بالأولى منها، فما الفائدة من ذكر الثانية والثالثة؟

الاختلاف في تعيين الدابة:

يعني إذا كانت الأولى منها طلوع الشمس من مغربها، انتهت، لا ينفع نفساً إيمانها، فلا داعي لذكر الدجال والدابة، وقل مثل هذا في الدجال والدابة. طالب:. . . . . . . . . هو إذا كان الله -جل وعلا- أعمى ترتيبها وأخفاه على الخلق بحيث لا يعلم الأول منها، فيصح مثل هذا الأسلوب على هذه الكيفية، وإذا عرفت مرتبة وكل واحدٍ منها إذا خرج لا ينفع نفساً إيمانها، لا شك أن الأمر يتعلق بأولها، والواو التي عُطفت بها العلامات الثلاث لا تقتضي الترتيب، يحتمل أن يكون الدجال هو الأول، أو الدابة هي الأولى، أو طلوع الشمس من مغربها، على كل حال الحديث في صحيح مسلم، وهو مشكل من هذه الحيثية، من حيث أن واحدة من هذه العلامات كافية بعدم قبول التوبة. طالب:. . . . . . . . . لا علامات بلوغ الصبي الصغير، قد يسبق بعضها على بعض، في بعض الناس قد يبلغ الخامسة عشرة، وهو لم ينزل قد ينزل ولم ينبت، أو العكس، لكن هذه للناس كلهم. طالب:. . . . . . . . . لكن هل هذا مقرون بإدراك الناس أو هذا حكم شرعي ثابت؟! من يقول قد .... طلوع الشمس من مغربها، يخفى على بعض الناس. الاختلاف في تعيين الدابة: واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها، ومن أين تخرج اختلافاً كثيراً، قد ذكرناه في كتاب التذكرة، ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى، فأول الأقوال: أنه فصيل ناقة صالح، وهو أصحها، والله أعلم، لما ذكره أبو داوود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدابة فقال: ((لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية، ولا يدخل ذكرها القرية، -يعني مكة-، ثم تكمل)). ثم تكمل -يعني تختفي-.

((ثم تكمل زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجةً أخرى دون ذلك، فيفشوا ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية)) -يعني مكة- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة، خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرؤهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب، فانفض الناس منها شتىً ومعاً، وتثبت عصابة من المؤمنين، وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان: آلآن تصلي، فتقبل عليه فتسمه في وجهه، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال، ويصطلحون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول: يا كافر اقض حقي))، وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل: قوله: ((وهي ترغو)) والرغاء إنما هو للإبل، وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب، فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم انطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله -عز وجل-. الخبر مخرج. طالب: قال أخرجه نعيم بن حماد في. . . . . . . . . والحاكم. . . . . . . . . وفيه طلحة بن عمرو الحضرمي ضعيف، صححه الحاكم. . . . . . . . . الذهبي فقال: طلحة. . . . . . . . . وله شواهد كثيرة. . . . . . . . . فيه تخريج غيره؟! ما في تخريج ثاني. طالب:. . . . . . . . . وأخرجه عبد الرزاق والطبري. . . . . . . . . عن عيينة،. . . . . . . . . والحاكم. . . . . . . . . وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. صحت الطريق الثاني، على كلٍ طريق فيه مجهول، وطريق فيه ضعيف واهي جداً، المجهول ينجبر إذا وجد معه طريق ضعيف، لكن الطريق الثاني ضعفه شديد لا يمكن الانجبار فما في شك من كونه ينجبر؛ لأن الطريق الثاني ضعفه شديد -الذي فيه طلحة-. طالب:. . . . . . . . . . . . . . . . . . ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدابة. طالب:. . . . . . . . . الرغاء .... لا أعرف طالب:. . . . . . . . . وأثبته ولا خطأ. يعني أثبته قال في رواية كذا، على كل حال يراجع. سم.

وروي أنها دابة مزغبة شعراً، ذات قوائم، طولها ستون ذراعاً ويقال: إنها الجساسة، وهو قول عبد الله بن عمر، وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين، وهي في السحاب، وقوائمها في الأرض، وروي أنها جُمعت من خلق كل حيوان، وذكر الماوردي والثعلبي، رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيِّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً، قال الزمخشري: بذراع آدم عليه السلام، ويكون معها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتةً بيضاء فيبيض وجهه، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه، قاله ابن الزبير -رضي الله عنهما-. وفي كتاب النقاش عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه سئل عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب، وإن لها للحية. قال الماوردي: وفي هذا القول منه إشارة على أنها من الإنس، وإن لم يصرح به .. لم يأتِ في وصفها أو جنسها نص ملزم، الله -جل وعلا- ذكرها، وذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر من أوصافها ولا من جنسها، وعادة المفسرين وبعض شراح الحديث -وهم في التفاسير أكثر-، تتبع مثل هذه الأمور، ونقلها وجمعها واستقصاؤها مما لا يثبت به خبر، فالوقوف عن ما جاء عن الله وعن رسوله هو الأحرى، فالمسلم لا سيما طالب العلم يحقق ما وجد مثل هذه الأوصاف، رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل .. الخ.

فالذي يظهر أنها أكرم على الله من أن تكون بهذه المثابة، وقد انتدبها الله –جل وعلا- للتمييز بين خلقه، بين المؤمن وبين الكافر فضلاً عن أن تكون إنسان، والله -جل وعلا- ورسوله سماها دابة، فالإنسان أشرف من أن يقال له دابة، وإن كان ممن يدب على الأرض، لكن الإنسان إنسان، حتى قال بعض أهل العلم: إنه إنسان وتمييزه بين المسلم والكافر ببيان الحق وتزييف الباطل، ونصر المحقين رد على المبطلين، قال بعض أهل العلم: أن هذه هي الدابة، لكن هذا ليس بصحيح. قلت: ولهذا -والله أعلم-، قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنساناً متكلماً، يناظر أهل البدع والكفر، ويجادلهم؛ لينقطعوا فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينه، قال شيخنا الإمام أبو العباس: أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له، وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى: {تُكَلِّمُهُمْ} [(82) سورة النمل]، وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آيةً خاصة، خارقة للعادة. وهذا الإنسان الذي يناظر أهل البدع ويرد عليهم موجود في كل عصر، في كل مصر، يعني لو بهذا الوصف مثلاً يقال: شيخ الإسلام ابن تيمية هو الدابة، يصح هذا الكلام، هل يقول مثل هذا عاقل مثلاً؟ أو شخص مثله يأتي في آخر الزمان؟ هذا لا يمكن أن يقبله عاقل. ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصةً بها، فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتفع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر. ثم بوجود هذا الإنسان يغلق باب التوبة، على حد زعم هؤلاء، يمكن أن يغلق باب التوبة بوجود إنسان ليس بنبي ولا .. إنما هو شخص عالم يناظر أهل البدع ويرد عليهم تنقطع به التوبة، ويغلق باب التوبة، لا يمكن هذا أبداً.

فلا آية خاصةً بها، فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتفع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان، أو بالعالم أو بالإمام، إلى أن يسمى بدابة، وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء، فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور. يعني يرجح المؤلف -رحمه الله- أنه الفصيل، فصيل الناقة -ناقة صالح- وذكر ما ذكر من الخبر. قلت: قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه، واختلف من أي موضعٍ تخرج، فقال: عبد الله بن عمر تخرج من جبل الصفا بمكة، يتصدع فتخرج منه، قال عبد الله بن عمرو نحوه، وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت، وروي في خبر ٍعن النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت، ومعه المسلمون من ناحية المسعى، وأنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمةً كأنها كوكب دري، وتسم بين عيني الكافر نكتةً سوداء كافر، وذكر في الخبر أنها ذات وبرٍ وريش، ذكره المهدوي. وعن ابن عباس أنها تخرج من شعبٍ فتمسّ رأسها السحاب، ورجلاها في الأرض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام، وعن حذيفة تخرج ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي ثم تكمل، وتخرج في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها. قال الزمخشري: تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون، وقوم يقفون نظارة. -نظارة يعني يتفرجون عليها- وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة.

وش هي قبل خمس سنوات لما صدع حصل بالمسعى اشتهر بين الناس وشاع ومشى على كثيرٍ من الناس وصاروا يتحدثون به، والإشاعات لا شك أن القلوب تشرئب إليها، والمجالس تُعمر بها، ومع ذلك هذا أمر محسوس ويمشي على كثيرٍ من الناس ما يدل على أن الإشاعة تؤثر في الناس، وكما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: الإشاعات وإن كثر ناقلوها فإنها لا تحيط العلم ما لم تستمد إلى الحس، فهؤلاء أشاعوا أن هناك صدع في المسعى، وأنه تخرج منه الدابة، وقَبِلَه الناس وتداولوه وبعضهم تحرك قلبه، وبعضهم أزمع على التوبة، ثم لما كذبت هذه الإشاعة وما صار شيء رجعوا وكأن شيئاً لم يكن، والله المستعان. وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة، من حيث فارق النور نوحٍ عليه السلام، وقيل: من أرض الطائف، قال أبو قبيل: ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله، وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس، وقيل: من بعض أودية تهامة، قاله ابن عباس، وقيل: من صخرةٍ من شعب أجياد قاله عبد الله بن عمرو، وقيل: من بحر سدوم قاله وهب بن منبه، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه. وكل هذه الأقوال لا تستند إلى دليل ولا حاجة إلى المسلم بها.

وذكر البغوي -أبو القاسم- عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجعد، عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر، وسئل عنه يحيى بن معينٍ فقال: ثقة، عن عطية العوفي عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من صدعٍ في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها، قلت: فهذه أقوال الصحابة والتابعين في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين: إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر، وقد روى أبو أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم)) ذكره الماوردي، تكلمهم بضم التاء وشد اللام المكسورة، من الكلام قراءة العامة يدل عليه قراءة أُبي: تنبئهم، وقال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام، وقيل: تكلمهم بما يسوؤهم، وقيل: تكلمهم بلسانٍ ذلق، فتقول: بصوت يسمعه من قرب وبعد: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} أي بخروجي؛ لأني خروجها من الآيات، وتقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [(18) سورة هود]، وقرأ أبو زرعة وابن عباسٍ والحسن وأبو رجاء: تَكلمهم، بفتح التاء من الكْلم، وهو الجرح، قال عكرمة: أي تسمهم وقال أبو جوزاء: سألت ابن عباسٍ عن هذه الآية: تكلمهم أو تكْلمهم؟ فقال: هي والله تكلمهم وتكْلمهم، تكلم المؤمن وتكْلم الكافر والفاجر أي تجرحه. يعني كأنها تكتب على جبينه بشيء محدد بإبرةٍ ونحوها، فينجرح جلده، فيكون من الكْلم وهو الجرح، لكن الظاهر أنه من الكلام، بدليل: تكلمهم أن الناس، هذا هو كلامه. وقال أبو حاتم: تكلمهم كما تقول: تجرحهم، يذهب إلى أنه تكثير من تكلمهم، {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وقرأ الكوفيون وابن أبي اسحاق ويحيى (أن) بالفتح، وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة (إن) بكسر الهمزة، قال النحاس: في المفتوحة قولان: وكذا المكسورة، قال الأخفش: المعنى بأنَّ وكذا قرأ ابن مسعود (بأنَّ) ... تعليل ... وقال أبو عبيدة: موضعها.

-يعني تعليل خروجها وصنيعها أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. هذه العلة، على قراءة فتح الهمزة - وقال أبو عبيدة: موضعها نصب بوقوف الفعل عليها أي تخبرهم أن الناس وقرأ الكسائي والفراء (إن). فالمخبر به (إن الناس) يكون الموضعين موضع المفعول. وقرأ الكسائي والفراء: (إن الناس) بالكسر على الاستئناف، وقال الأخفش هي بمعنى تقول: (إن الناس) يعني. ومقول القول تكسر فيه همزة (إن). هي بمعنى تقول (إن الناس) يعني الكفار بآياتنا لا يوقنون، يعني بالقرآن وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وذلك حين لا يقبل الله من كافرٍ إيماناً، ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها، والله أعلم. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} [(83) سورة النمل]. أي زمرة وجماعة، يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق، فهم يوزعون: أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب، قال الشمّاخ: وكم وزعنا من خميسٍ جحفل ... وكم حبونا من رئيس مسحل الوزع: هو الدفع، ((إن الله ليوزع بالسلطان)) يعني يدفع به من الشرور ويدفع به من الشرور والآفات والفتن ما لا يدفع ولا يزع بالقرآن، فالوزع معناه هنا الدفع. وقال قتادة: يوزعون أي يرد أولهم على آخرهم، حتى إذا جاؤوا قال: -أي قال الله-: أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالةً على توحيدي، ولم تحيطوا بها علما: أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين. يعني من غير نظر ولا تأمل، أنكروها وردوها قبل أن ينظروا فيها. أمّا كنتم تعملون، تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها. ووقع القول عليهم بما ظلموا: أي وجب العذاب عليهم بظلمهم، أي بشركهم، فهم لا ينطقون: أي ليس لهم عذر ولا حجة، وقيل: يختم على أفواههم فلا ينطقون، قاله أكثر المفسرين. المنة في خلق الليل والنهار:

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [(86) سورة النمل]. أي يستقرون فينامون، {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [(67) سورة يونس]: أي يبصر فيه لسعي الرزق. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله: ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته: أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا؟. ومن أعظم نعم الله -جل وعلا- على الناس، وعلى المخلوقات أن قسم الوقت إلى قسمين: قسم ينامون فيه ويستريحون ويسكنون فيه. وقسم: يبحثون فيه عن أرزاقهم وما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، فلو تصور أن الوقت كله ليل، سرمد، ظلام دامس، كيف يتصرف الناس في معاشهم، قد يقول قائل: الكهرباء يحل هذه المشكلة، نقول: لا يحل هذه المشكلة، الأمم عاشت قرون متطاولة بدون كهرب، ما يكون واقعهم لو كان الوقت كله ليل، والعكس لو كان كله نهار، فالنهار ليس بصالحٍ للنوم، النهار ليس بصالحٍ للنوم، وإنما النوم فائدته إنما تكون في الظلام، حتى قال بعضهم: إن من كان نومه بالنهار فقط، لا شك أن هذا يتضرر عاجلاً أو آجلاً، وإذا ابتلي بذلك وصار وظيفته بالليل كالعسس ونحوهم، وكثير من المسلمين صار هذا واقع أن كلهم عسس، المقصود أنهم إذا ابتلوا بهذا يعمدوا في النهار إلى مكانٍ مظلم، شديد الظلمة، فينامون فيه؛ لأن هذا أنفع لهم، وبعض الناس أصلاً لا يأتيه النوم ولا يستطيع أن ينام في الضوء ضوء النهار، المقصود أن هذه من أعظم نعم الله -جل وعلا- على الناس، إذ لو كانت الدنيا كلها نهار؛ لأضر بهم ذلك، والنوم مصلحته ظاهرة، ولا يمكن أن يعيش الإنسان بدونه، لو كانت الدنيا كلها نهار لأدى ذلك ببعض الناس أن تكون معيشته في كل الوقت، من شدة حرصهم على الدنيا ونهمهم بها، وتركوا النوم الذي تقوم به حياتهم ويستعينون به على قضاء حوائجهم، وقل العكس: لو كان الوقت كله ظلام دامس؛ لأخلد كثير من الناس إلى الراحة وناموا جميع الوقت، وهذه من نعم الله -جل وعلا- أن جعل الوقت مقسوم بين ليلٍ أو نهار، ويولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، يعني يدخل النهار على الليل فيطول النهار، ويدخل الليل على النهار فيطول الليل، وهذا واضح في الشتاء والصيف.

النفخ في الصور والاختلاف في عدد النفخات: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [(87) سورة النمل]، أي واذكر يوماً أو ذكِّرهم يوم ينفخ في الصور، ومذهب الفراء أن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور، وأجاز فيه الحذف، والصحيح في الصور أنه قرن من نور. مذهب الفراء، أن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور، لو كان المراد هذا لكانت يومُ ينفخ في الصور، ما صارت يومَ؛ لأن الظرف (يوم) أضيف إلى جملةٍ صدرها معرب فيعرب، لو كانت (يوم نفخ في الصور) صاغ كلامه، صحّ تقدير ذلكم يوم ينفخ في الصور؛ لأن يوم أضيف إلى جملة صدرها مبني فيبني عليها. قال الله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ} [(119) سورة المائدة] وفي الحديث البناء: كيومَ ولدته أمه؛ لأنه أضيف إلى جملة صدرها مبني فبني. وهنا يوم ينفخ في الصور مضاف إلى جملةٍ صدرها معرب فيعرب، والتقدير اذكر من أجل أن يستقيم الفتح الذي في الآية، وهو يوم ينفخ فلا بد أن تقدر ما يقتضي الفتح. والصحيح في الصور أنه قرن من نورٍ ينفخ فيه إسرافيل، قال مجاهد: كهيئة البوق، وقيل: هو البوق بلغة أهل اليمن، وقد مضى في الأنعام بيانه وما للعلماء في ذلك، {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} [(87) سورة النمل]: قال أبو هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لما فرغ من خلق السماوات، خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر بالنفخة، قلت: يا رسول الله ما الصور؟ قال: قرن والله عظيم، والذي بعثني بالحق إن عظم دارةٍ فيه ... - عظم دارةٍ فيه -يعني فمه .. دارةِ فيه، هذا يظهر. والذي بعثني بالحق: إن عظم دارةِ فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات، النفخة الأولى: نفخة الفزع والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة البعث والقيام لرب العالمين. وذكر الحديث: ذكره علي.

النفخات الثلاث كلها مذكورة في القرآن، لكن الخلاف بين أهل العلم في عدد النفخات هل هي ثلاث، أو اثنتان؟ معروف بين أهل العلم فيجعلون نفخة الفزع مقدمة، يعني نفخة الصعق يفزعون أولاً ثم يصعقون، فتكون واحدة، ومن أثبت الثالثة قال: ينفخ فيه ثم يفزعون، ثم ينفخ ثانية فيصعقون، ثم ينفخ ثالثة فيبعثون. الحديث من خرجه؟ تخريج الحديث. أيش يقول؟ طالب:. . . . . . . . . ويشكل عليه ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً. . . . . . . . . حديث البخاري يدل على أنهما نفختان فقط، لكن ما يمنع أن يكون بين النفختين الأولى والثانية أربعون عاماً، وبين الثانية والثالثة أربعون عاماً. في ما يمنع؟! يعني بين كل نفختين يمكن نوجه هذا، لا سيما وأن الثلاث جاءت بألفاظها من القرآن، وأما من يقول أنهما اثنتان فيجعل الفزع مقدمة للصعق، في عندك تخريج ثاني؟؟ ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم، وصححه ابن العربي، وقد ذكرته في كتاب التذكرة، وتكلمنا عليه هنالك، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعةً إلى نفخة الصعق؛ لأن الأمرين لازمان لهما، أي فزعوا فزعاً ماتوا منه، أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره، فإنه قال في كلامه على هذه الآية والمراد النفخة الثانية: أي يحيون فزعين يقولون: من بعثنا من مرقدنا. ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم، وهذا النفخ كصوت البوق، لتجتمع الخلق في أرض الجزاء، قاله قتادة، وقال الماوردي: ويوم ينفخ في الصور هو يوم النشور من القبور، قال وفي هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه الإسراع والإجابة إلى النداء، من قولهم: فزعت عليك في كذا، إذا أسرعتُ إلى ندائك في معونتك. والقول الثاني: إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن؛ لأنهم أزعجوا من قبورهم، ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين. قلتُ: والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمر ويدل على قارئ المتن: عمرو ولا عمر؟ الشيخ: عمر. الواو استئنافية. من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمر ويدل على أنهما نفختان لا ثلاث.

الشيخ: والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمر يدل، والأصل أن يقول: تدل على أنهما نفختان لا ثلاث؛ لأنه لو أراد الاستئناف لقال: ويدل على أنهما نفختان لا ثلاث، ما خرجه مسلم. طالب:. . . . . . . . . لا، لو كانت الواو استئنافية ويدل على أنهما نفختان لا ثلاث، ما خرجه مسلم، يدل ما خرجه، لكن هو راجع على السنة السابقة. قارئ المتن: إذن ابن عمرو؟ الشيخ: إيه ابن عمرو. والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث. خرجهما مسلم، وقد ذكرناهما في كتاب التذكرة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان: قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} [(68) سورة الزمر]. فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع، فدل على أنهما واحدة، وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى: يحي الله بها كل ميت)) فإن قيل فإنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [(6 - 7) سورة النازعات]،. إلى أن قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [(13) سورة النازعات]. وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث، قيل له: ليس كذلك، وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية، التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم، كذلك قال ابن عباسٍ ومجاهد وعطاءٍ وابن زيدٍ وغيرهم. قال مجاهد: هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيءٍ بإذن الله، وأما الأخرى فتحيي كل شيءٍ بإذن الله، وقال عطاء: الراجفة القيامة، والرادفة: البعث، وقال ابن زيد: الراجفة: الموت، والرادفة: الساعة، والله أعلم.

{إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ}، ثم اختلف في هذا المستثنى منهم، ففي حديث أبي هريرة: أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون، إنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهو قول: سعيد بن جبير: أنهم الشهداء متقلدوا السيوف حول العرش، وقال القشيري: الأنبياء داخلون في جملتهم؛ لأن لهم الشهادة مع النبوة، وقيل الملائكة: قال الحسن: استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين، قال مقاتل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل الحور العين، وقيل هم المؤمنون؛ لأن الله تعالى قال عُقيب هذا: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [(89) سورة النمل]. وقال بعضهم علمائنا: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. وهذا هو الصواب أنه لم يرد تعيينهم، كما في نفخة الصعق، جاء الاستثناء وخفي أمر المستثنى على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أول من تنشق عنه الأرض، يقول: فإذا موسى -فإذا قام- آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي، بصعقة الطور، يعني لم يصعق. طالب:. . . . . . . . . . . . . . . . . . المقصود أن هذا الاستثناء لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور فيكون ممن استثنى الله)) وفي رواية: ((أو ممن استثنى الله)). طالب: بالنسبة. . . . . . . . . يمكن رجوعها إلا اثنتين على سبيل الاختصار. طالب:. . . . . . . . . إيش لونه. طالب:. . . . . . . . . لا أصل الثالثة التي هي نفخة البعث الناس أموات كيف يفزعون؟ يحتاجون إلى مقدمة، لكن يحتاجون إلى بعده، يفزعون بعدها ما يفزعون قبلها. قلتُ: خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي، فليعول عليه؛ لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد والله أعلم. وقيل غير هذا على ما يأتي في الزمر.

وقوله: ففزع من في السماوات، ماضٍ وينفخ مستقبل، فيقال: كيف عطف ماضٍ على مستقبل، فزعم الفراء أن هذا محمول المعنى، لأن المعنى إذا نفخ في الصور ففزع إلا من شاء الله، نصبٌ على الاستثناء، وكلُ أتوه داخرين: قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وابن عامرٍ وابن كثير، {آتوه}: جعلوه فعلاً مستقبلا، وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم: {وكل أتوه} مقصوراً على الفعل الماضي، وكذلك قرأه ابن مسعود. وعن قتادة: {وكل أتاه داخرين}، قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات، من قرأ: وكل {أتوه}، وحّده على لفظ: كل، ومن قرأ: {آتوه}: جمع على معناها، وهذا القول غلط قبيح؛ لأنه إذا قال: وكل أتوه، فلم يوحّد وإنما جمع، ولو وحّد لقال: أتاه، ولكن من قال: أتوه، جمع على المعنى وجاء به ماضيا؛ لأنه رده إلى {ففزع} ومن قرأ: وكل أتوه، حمله على المعنى أيضاً، وقال: {آتوه}: لأنها جملة منقطعة من الأول. آتوه: يعني جائين إليهم، كل الناس، وكل من يبعث آتٍ إلى الله جل وعلا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا. قال ابن نصر: قد حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله، ونص أبي إسحاق: {وكل أتوه داخرين}، ويقرأ آتوه، فمن وحّد فلفظ (كل) ومن جمع فلمعناها، يريد ما أتى في القرآن. أبو إسحاق، الزجاج، علق عليه، لعل أبي إسحاق الزجاج في معاني القرآن، لكن قال في كتابي القراءات. طالب: مكتوب في ... مكتوب في الأول في الصفحة التي قبلها في القرآت، على كل حال الذي يغلب على الظن أنه الزجاج. يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر (كل) فعلى اللفظ أو جمعٍ فعلى المعنى فلم يأخذ أبو جعفر ٍ هذا المعنى. قال المهدوي: ومن قرأ: {وكل أتوه داخرين}، فهو فعل من الإتيان، وحمل على معنى (كل) دون لفظها، ومن قرأ: {كلٌُ آتوه داخرين}. فهو اسم الفاعل من أتى يدلك على ذلك قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [(95) سورة مريم]. ومن قرأ: {وكل آتاه}، حمله على لفظ (كل) دون معناها، وحمل (داخرين) على المعنى ومعناه: صاغرين، عن ابن عباسٍ وقتادة وقد مضى في النحل. الجبال ومرورها:

قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [(88) سورة النمل]. قال ابن عباس: أي قائمة وهي تسير سيراً خفيفاً، قال القتبي: وذلك أن الجبال تُجمع وتُسير، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير، وكذلك كل شيء عظيم، وجمعٍ كثير يقصر عنه النظر لكثرته وبُعد ما بين أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير، قال النابغة في وصف جيش: بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تملج قال القشيري: وهذا يوم القيامة. هذا لا شك أنه يوم القيامة هو الذي تسير فيه الجبال، تسير، وأما في الدنيا فلا؛ لأنها ثابتة، وثبتت بها الأرض وأرسيت بها، وهذا أمر مشاهد محسوس، وبعضهم، بعض الناس يقول: مو في الدنيا، والجبال تدور، ويستدل بهذا على دوران الأرض، يستدلون بهذا على دوران الأرض، لكن إذا كانت الأرض تدور، هل تدور الجبال بمفردها أو تدور معها؟ إذا دارت معها هل هي ثابتة وإلا تدور، تسير بنفسها؟ عابرة على أي حال، سواء دارت الأرض أم لم تدر الجبال ثابتة وراسية {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [(32) سورة النازعات]، يقول: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [(88) سورة النمل]، نعم إذا أتيت إلى هذا الجبل في هذا اليوم ثم جئت بعد شهر لم تجده في مكانه؟ قل: نعم، تمر مر السحاب، لكن يبقى أنك تجده في مكانه من أول يوم، من خلق الله الأرض إلى يومنا هذا، منذ أن أرساها بالجبال إلى يومنا هذا وهو مكانه.

فليس فيه دليل البتة؛ بعني استدل بعضهم على دوران الأرض، لكن إذا دارت الأرض على فرض أنها تدور الأرض، هل نقول أن الجبال تمر مر السحاب؟ يعني هل الذي على وجه الأرض وهي تدور بهم مع غيره من المخلوقات وهذا على سبيل التنزل، يرى الجبال تمر مر السحاب؟ نعم أبداً، ليس في هذا ما يدل على ما ذهبوا إليه، أحياناً عند الجيولوجيين أشياء قد تكون بعضها مضحك، قد يقولون: أنكم لا تدركون مثل هذه الأمور، أحياناً يقول هذا جبل قديم جداً، جبل قديم، فيه جبال جديدة؟ قد يكون من الحجارة ما يتحجر، يطرأ عليه تحجر، أما جبل قديم أرسيت به الأرض يكون قديم أو حديث؟ فعلى كل حال يأتون بأحجار ويحددون أعمارها، هذا له خمسة ملايين سنة، والثاني مئة مليون سنة، وهذا له عشرة ملايين سنة، وإذا نظرت ما تجد الأعمار من ضمنها هذه الأحجار التي توجد في الأرض، والتحديد بهذه المدد المتطاولة لا شك أنه ... ، هم يستدلون عندهم مقدمات يقولون عليها نتائج قد لا نعرفها، لكن يبقى أن هذه الأمور لو كانت مما تنفع المسلم ويستفيد منها في دينه ودنياه لبينها الله -جل وعلا-. طالب:. . . . . . . . . الجبال أرساها، الأرض راسية، والشمس تجري، الأرض راسية راسية والشمس تجري، هذا ما عندنا مما في النصوص، وما عدا ذلك لا نتكلف به. قال القشيري: وهذا يوم القيامة، أي هي لكثرتها كأنها جامدة، أي واقفة في مرأى العين، وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب، والسحاب المتراكم يُظن أنها واقفة وهي تسير، أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء، فقال الله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [(20) سورة النبأ]، ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفاتٍ مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه، فأول الصفات. يعني امتضت الحكمة من وجودها، إذا امتضت الحكمة من وجودها وإرساء الأرض وتثبيتها مرت بهذه المراحل.

فأول الصفات الاندكاك، وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش، وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع الله بينهما فقال: يوم تكون السماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن، والحالة الثالثة أن تصير كالهباء، وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز، فإذا نسفت ففي إرسال الرياح عليها، والحالة الخامسة ... يعني إذا كانت كالصوف المندوف المنفوش وجاءتها الرياح أزالتها عن أماكنها. والحالة الخامسة: أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعاً في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساداً جامدة، وهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكَّة متفتتة. والحالة السادسة: أن تكون سراباً فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئاً منها كالسراب، قال مقاتل: تقع على الأرض فتسوى بها، ثم قيل: هذا مَثَل، قال الماوردي: وفيما ضرب له ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى. نحن .... قولهم أنه مثل أنه لا حقيقة له، أن هذه الأمور لن تكون، إنما هي أمثال ضربت للناس، والأصل حمل كلام الله -جل وعلا- على حقيقته، وأن القدرة الإلهية صالحة لمثل هذا فالذي أوجدها قادر على أن يجعلها كالصوف، والذي ثبتها وأرسى بها الأرض قادر على تسييرها، كل هذه حقائق وليست أمثال. أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا، يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله. الثاني: أنه مثل ضربه الله لإيمان، تحسبه ثابتاً في القلب وعمله صاعد إلى السماء. الثالث: أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح، والروح تسير إلى العرش.

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [(88) سورة النمل]: أي هذا من فعل الله، وما هو فعل منه فهو متقن، وترى: من رؤية العين، ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين، والأصل ترأى فألغيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كانت قبلها ساكن، إلا إن التخفيف لازم لترى، وأهل الكوفة يقرؤون تحسبها بفتح السين وهو القياس؛ لأنه من حسِب يحسَب، إلا أنه قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل. يعني في المضارع: يحسِب. نعم. فتكون على فعِل يفعِل مثل: نعِم ينعِم، وبئِس يبئِس، وحُكي: يئس ييئس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [(88) سورة النمل]، تقديره: مراً مثل مر السحاب، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، والمضاف مقام المضاف إليه، فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض، وتجمع وتسير كما تسير السحاب، ثم تُكسر فتعود إلى الأرض كما قال: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [(5) سورة الواقعة]، صنع الله: عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر؛ لأنه لم قال -عز وجل-: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} دل على أنه قد صنع ذلك صنعاً، ويجوز النصب على الإغراء: أي انظروا صنع الله فيوقف على هذا على السحاب، ولا يوقف عليه على التقدير الأول، ويجوز رفعه على تقدير: ذلك صنعُ الله الذي أتقن كل شيء أي أحكمة، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((رحم الله من عمل عملاً فأتقنه)). وقال قتادة: معناه: أحسن كل شيء. مخرج الحديث. مخرج؟! طالب: أخرجه .... والطبراني من حديث. . . . . . . . . ورواه ابن حبان. . . . . . . . . أخرجه الطبراني من حديث. . . . . . . . . ضعيف. . . . . . . . . ضعيف جداً، والحديث حسن. . . . . . . . . يعني بطرقه، يعني بطرقه، حسن لغيره. والإتقان: الإحكام، يقال: رجل تقٍ أي حاذق بالأشياء، وقال الزهري: أصله من ابن تقن، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل يقال له: أرمى من ابن تقن، ثم يقال لكل حاذقٍ بالأشياء تقن. {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [(88) سورة النمل].

والباقون: تفعلون بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو وهشام بالياء. الزيادة. . . . . . . . . نسخة ويستقيم الكلام بدونها، والباقون تفعلون -ما لها داعي- بالتاء على استطاب قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء. انتهى، لا داعي لما زاده من النسخة. طالب:. . . . . . . . . على قراءة النصب، إما أن يكون مصدر. طالب:. . . . . . . . . صنع الله ... إيه، يعني هل هذا خبر أو تسلية أو وصف؟ فيوصف بأنه صانع، أو أن هذا خبر، إنما ذكر في هذا: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) فدائرة الإخبار أوسع، يعني لا يوصف ولا يسمى إذا كان مجرد خبر، وإذا قلنا: إنه وصف قلنا: إن الله يوصف بأنه يصنع صانع وإذا قيل: إن صنع الله من أسمائه، على كل حال: إذا ثبت وصف لله -جل وعلا- أنه يصنع فلا يشتق منه اسم؛ لأن الأسماء دائرتها أضيق من الأوصاف والأخبار، وقل مثل هذا إذا قلنا أنه على سبيل الإخبار لا يوصف به، وعلى كل حال أقرب ما يكون الوصف. طالب:. . . . . . . . . لأن المقرر عند أهل العلم ليس هو الأصل، الاسم هو الأصل فلا يؤخذ منه فرع، والعكس صحيح. طالب: ... صنع الله. هو يخبر عن هذا الشخص بأنه صنع الله، ما فيه إشكال. طالب:. . . . . . . . . ما فيه إشكال؛ لأنه ما هو يسمي الله -جل وعلا- بهذا الاسم، إنما يسمي هذا الشخص بما ثبت عن الله -جل وعلا- ما فيه إشكال. طالب:. . . . . . . . . لا ما يصح هذا، لا .. قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [(89) سورة النمل]، قال ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما-: الحسنة: لا إله إلا الله، وقال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثنى، أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله. الطبري معروف من أهل القراءات، وله عناية بالقرآن أبو معشر الطبري. وقال علي بن الحسين بن علي -رضي الله عنهم-: غزا رجل فكان إذا خلا بمكانٍ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فبينما هو في أرض الروم في أرضٍ جلفاء وبردى.

-في أرض الشام- رفع صوته فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فخرج عليه رجل على فرسٍ عليه ثيابٍ بيض، فقال: والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} وروى أبو ذرٍ قال: قلت يا رسول الله أوصني؟ قال: ((اتق الله، وإذا عملت سيئةً فأتبعها حسنةً تمحها)) قال: قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: ((من أفضل الحسنات)) وفي رواية قال: نعم هي أحسن الحسنات. ذكره البيهقي. وقال قتادة: من جاء بالحسنة، بالإخلاص والتوحيد، وقيل: أداء الفرائض كلها. حديث أبي ذر من خرجه؟! طالب:. . . . . . . . . ما يلزم أن يكون معنى الآية، لكن ذكر الآية مع بيان كون لا إله إلا الله، هو من أحسن من الحسنات مناسب جداً، من جاء بالحسنة من أعظمها: لا إله إلا الله، تصلح أن تكون فرداً من أفراد الحسنات. قلتُ: إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها، وما يجب لها على ما تقدم بيانه في سورة إبراهيم، فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض فله خير منها، قال ابن عباس: أي وصل إليه الخير منها وقال: ليس معناه له أفضل منها، إذ لا أفضل منها، لكن معناه أنه وصل إليه الخير بسببها، منها، من هذا الصفة. وقاله مجاهد، وقيل: فله جزاء الجميل وهو الجنة، وليس خير للتفضيل، قال عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خير منها يعني: من الإيمان فلا، فإنه ليس شيء خيراً ممن قال: لا إله إلا الله، ولكن لو منها خير وقيل: فله خير منها، للتفضيل، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد، قاله ابن عباس. وقيل: يرجع هذا إلى الإضعاف، فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشراً، وبالإيمان في مدةٍ يسيرة الثواب الأبدي، قاله محمد بن كعب، وعبد الرحمن بن زيد. {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [(89) سورة النمل]، قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {فزعٍ يومِئذ} بالإضافة، قال أبو عبيد: وهذا أعجب إليّ؛ لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال: {من فزعٍ يومئذٍ} فارق أنه فزع دون فزع ..

إذا قال فزعِ يومِئذ: يعني من جميعه، من جميع أنواع الفزع، وإذا قال من فزعٍ يومئذ، صار من فزعٍ واحد دون ما سواه. قال القشيري: وقرئ: {من فزعٍ} بالتنوين، ثم قيل: يعني به فزعاً واحدا، كما قال: {لا يحزنهم الفزع الأكبر}، وقيل عن الكثرة؛ لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة، قلتُ: فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. قال المهدوي: ومن قرأ {من فزعٍ يومَئذ}، بالتنوين انتصب يومئذٍ بالمصدر الذي هو فَزع، ويجوز أن يكون صفةً لفزَع ويكون متعلقاً بمحذوف؛ لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها ويجوز أن يتعلق. ولا يخبر بأسماء الزمان عن الأسماء، أسماء الأعلام، لا يخبر بأسماء الزمان على الأعلام، أبداً، ولا يكون اسم الزمان خبراً. طالب:. . . . . . . . . جواب، عن جثةٍ، يقول ابن مالك: وإن يفد فأخبر، لكن الأصل أنه لا يكون. ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو آمنون، والإضافة على الاتساع في الظروف، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه؛ لأنه ظرف زمان، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا، فلما أضيفت إلى غير متمكنٍ ولا معربٍ بُني، وأنشد سيبويه: المتمكن، ينقسم إلى قسمين: إلى متمكّن أمكن، ومتمكن غير أمكن، المتمكن الأمكن: هذا المعرب المصروف، والمتمكن غير الأمكن: المعرب غير المصروف، والغير متمكن هو المبني. وأنشد سيبويه: على حين أنهى الناس جل أمورهم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب قوله تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ} [(90) سورة النمل]. أي بالشرك، قال ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد، وقيس بن سعدٍ والحسن وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة: لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [(90) سورة النمل]، قال ابن عباس: ألقيت، وقال الضحاك: طرحت، يقال: كببت الإناء أي قلبته على وجهه، واللازم من منه، وقلما يأتي هذا في كلام العرب. كلام العرب العكس، كلام العرب العكس، اللازم الثلاثي يعدى بالهمزة، وهنا لزم بالهمزة. هل تجزون: أي يقال لهم هل تجزون، ثم يجوز أن يكون من قول الله: ويجوز أن يكون من قول الملائكة، {إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(90) سورة النمل]: إلا جزاء أعمالكم.

قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [(91) سورة النمل]، يعني: مكة التي عظم الله حرمتها، أي جعلها حرماً آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر، على ما تقدم بيانه في غير موضع، وقرأ ابن عباس: {التي حرمها} نعتاً للبلدة، وقراءة الجماعة: الذي، وهي في موضعٍ نصبٍ نعت لـ (رب) ولو كان بالألف واللام لقلت: المحرمها. يعني بدل الذي (أل) و (أل) تأتي موصولة، فإذا جَعلت مكان (الذي) (أل) قلت: المحرمات، إذا كانت نعت، وإذا كانت للبلدة قلت: المحرمها هو. فإن كانت نعتاً للبلدة قلت: المحرمها هو، لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام؛ لأن الفعل جرى على غير من هو له، فإن قلت: الذي حرمها لم تحتج أن تقول: هو وله. ولا يكون حينئذ نعت سببي، حيئنذٍ يكون نعت سببي.

{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} خلقاً وملكاً، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [(91) سورة النمل]: أي من المنقادين لأمره الموحدين له، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [(92) سورة النمل] أي وأمرت أن أتلو القرآن أي أقرؤه، فمن اهتدى فله ثواب هدايته، ومن ضل فليس عليّ إلا البلاغ، نسختها آية القتال، قال النحاس: وأن أتلوا نصب بـ (أن) قال الفراء: وفي إحدى القراءتين: {وأن اتلوا}، وزعم أنه في موضع جزمٍ بالأمر، فلذلك حذف منه الواو، قال النحاس: ولا نعرف أحداً قرأه هذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف، قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [(93) سورة النمل]، أي على نعمه وعلى ما هدانا {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [(93) سورة النمل]، أي: في أنفسكم وفي غيركم، كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [(53) سورة فصلت]، {فَتَعْرِفُونَهَا} أي: دلائل قدرته ووحدانيته، في أنفسكم وفي السماوات وفي الأرض، نظيره قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [(20 - 21) سورة الذاريات]، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وروى أهل المدينة وأهل الشام، وحفص عن عاصم: بالتاء على الخطاب، لقوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [(93) سورة النمل]. السياق سياق خطاب، الكاف هذه سيريكم خطاب، فتعرفونها: خطاب. لقوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} فيكون الكلام على نسقٍ واحد، والباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله، فمن اهتدى فأخبر عن تلك الآية، كملت السورة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد.

سورة القصص - قصة خروج موسى من مدين حتى تكليفه بدعوة فرعون

التعليق على تفسير القرطبي سورة القصص قصة خروج موسى من مدين حتى تكليفه بدعوة فرعون الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [(29) سورة القصص]، فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} قال سعيد بن جبير: سألني رجل من النصارى، أي الأجلين قضى موسى، فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله يعني ابن عباس، فقدمت عليه فسألته فقال: قضى أكملهما وأوفاهما، فأعلنت النصرانية، فقال: صدق والله هذا العالم، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل في ذلك جبريل، فأخبره أنه قضى عشر سنين، وحكى الطبري عن مجاهد ... . . . . . . . . . الموقوف معروف. طالب:. . . . . . . . . على كل حال الموقوف صحيح ما فيه إشكال والمرفوع اللي فيه الكلام ... وحكى الطبري عن مجاهد، أنه قضى عشراً وعشراً بعدها، رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، قال ابن عطية: وهذا ضعيف. الثانية: قوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قيل: فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء مما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمراً، فالمؤمنون عند شروطهم ... يعني إذا اشترطت عليه ألا يسافر بها ليس له أن يسافر وفاءً بهذا الشرط، وكذلك إذا أرادها أن تسافر معه إلى سفر محرم، فهو مستثنى شرعاً. وأحق الشروط أن يوفَّى به، ما استحللتم به الفروج.

وهذه المسألة مسألة السفر بالمرأة مسألة مشكلة يعني يعاني منها العالم الإسلامي حيث يذهب كثير من المنتسبين للإسلام لا سيما من الشباب إلى ما يسمى بالدراسة في بلاد الكفر، ويلزم زوجته على أن تسافر معه، على أن هذا السفر مستثنى شرعاً، لا يجوز له أن يسافر هو، فضلاً على أن يسافر بأهله، وعلى كل حال إذا اشترطت عليه ألا يسافر بها، فليس له أن يسافر بها، ولو إلى بلاد الإسلام، ولو إلى ما هو أفضل من بلدها، لا يجوز له إلزامها، لكن إذا لم تشترط فله أن يسافر بها، والآية {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} يعني سافر بهم، له أن يسافر بها ما لا تشترط إلا سفراً مستثنى شرعاً. الثالثة: قوله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} الآية .. فقدم القول في ذلك في طه، والجذوة: بكسر الجيم قراءة العامة، وضمها حمزة ويحيى، وفتحها عاصم والسلمي. لكن لو افترض أن شخصاً أراد أن يسافر إلى بلد لا يجوز السفر إليه، ولا يجوز البقاء فيه وألزم زوجته على السفر ورفضت، ففي هذه الحالة ليست بناشز، ولو حصل الفراق بينهما، فإنه لا يستحق من مهره شيئاً. لا يستحق؛ لأن الفراق ليس بسببها إنما بسببه هو، فإذا لم تكن الفرقة بسببها فإنه لا يستحق من مهرها شيئاً، لكن لو أرادها على سفر مباح، ولم تشترط عليه، ثم رفضت له أن يسافر بها ويرغمها على ذلك؛ لأن له القوامة، فإذا رفضت عليها أن تخالع. والجذوة: بكسر الجيم قراءة العامة، وضمها حمزة ويحيى، وفتحها عاصم والسلمي وزر بن حبيش. والفتح هو قراءة الأكثر، الجذوة، هو نسب الجذوة بكسر الجيم إلى قراءة العامة، مع أن الموجود في كثير من كتب القراءات أن الجذوة هي قراؤتنا، فيه تعليق عندكم؟ تعليق عندكم على القراءة؟ طالب:. . . . . . . . . هي كلها متواترة لكن الكلام على قراءة الأكثر، هو نسب الكسر إلى العوام، يعني الأكثر، ما فيه غير هذا. طالب:. . . . . . . . . نعم، قراءة العامة الفتح ..

شروط عقد النكاح:

قال الجوهري: الجِذوة والجُذوة والجَذوة: الجمرة الملتهبة والجمع جِذاً وجُذاً وجَذاً، قال مجاهد في قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}: أي قطعة من الجمر، وهي بلغة جميع العرب، وقال أبو عبيدة: والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن، قال ابن مقبل: باتت حواطب ليلى يلتمس لها ... جذل الجذا غير خوار ولا دعر كون الخشبة تسمى جذوة وليس فيها نار هذا بعيد، ودلالة البيت على ما أراد أنه باعتبار ما سيكون؛ لأنه إنما يجمع الحطب ليوقد به، فيكون جذوة. وقال: وألقى على قيس من النار جِذوة ... شديداً عليها حميها ولهيبها شروط عقد النكاح: طالب:. . . . . . . . . إذا اشترط. . . . . . . . . ثم. . . . . . . . . وأسقطه بنفسه طالب:. . . . . . . . . طيب طالب:. . . . . . . . . المسلمون على شروطهم؛ لأنها وإن كان القسم لها من مصلحتها كما هو الأصل إلا أنه قد يكون من مصلحتها عدم القسم، وفي وقت يكون القسم لها من مصلحة الزوج، وقد يكون من غير مصلحته، إذا كانت الضرة الثانية دونها في المستوى والرغبة، ثم أراد أن يقسم لها فراراً من الأولى أو التي كانت عنده في الأصل ثم رفضت واتفقوا على ذلك من قبل واشترطوه في العقد فلا بد من الوفاء بالعقود، لكن الإشكال في الشروط في النكاح، نعم، قد يتفقون على شيء أو على عدد من الشروط في العقد، ثم بعد ذلك يقدم الزوج عند العقد على هذه الشروط، فإذا دخل بها وجدها أقل من المستوى الذي يطلبه، نعم، وقد دخل بها وبنى بها، ثم سقطت بعد ذلك أسهمها على ما يقولون، ثم أراد أن يتنصل عن هذه الشروط، لا بد أن تقبل وهي مكرهة غير مختارة، فهل يجوز له مثل ذلك؟ إذا اشترطت عليه أن تكمل الدراسة مثلاً، أو تعمل بعد تخرجها، ثم بعد ذلك رأى أنه ما يقدر يوفي لها بهذا الشرط، قال أنا أريدك أن تتنازلي عن هذا الشرط ولا ما صار شيء، أكرهها على التنازل، فتنازلت، هل نقول إنه ما دام يملك المخير الثاني أو الخيار الثاني يملك الخيار الأول أو، لا؟

يعني إذا افترضنا أنها اشترطت أن تكمل الدراسة، وقد جاء راغباً والتزم بهذا الشرط، لما دخل بها وجد أنها أقل من أن تشترط عليه، فقال: إما أن يلغى هذا الشرط ولا ما صار شيء، هو يطلقها، فقبلت مكرهة، وتنازلت عن هذا الشرط، أحق الشروط أن يوفى به ما استحلت به الفروج، لكن هل نقول: ما دام يملك الخيار الثاني الذي هو الطلاق فيملك ما يقابله وهو الخيار الأول؟ هو يملك الخيار الثاني بلا شك الذي هو الطلاق، فإذا كان يخيرها بين أن تتنازل عن هذا الشرط أو يطلقها، له ذلك أولا ليس له ذلك؟ نعم. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [(128) سورة النساء]، يعني: إذا تنازلت لأن المسألة في مثل هذه الأمور مسألة عرض وطلب، أحياناً تكون المرأة فوق ما يتوقعه الرجل، وحينئذ هي تحاول أن تلغي بعض شروطه، فيرضخ ويلتزم؛ لأن النساء ليس بأقل من الرجال في هذا الباب؛ لأن الرجل لو طرأ له ما طرأ مما يضعفه عندها، ينزل قيمته عندها حاولت جاهدة بأن تضغط عليه، وكذلك الرجل، فهل نقول: هذه المسألة ما دام يملك الخيار الثاني له الخيار الأول، كما لو قال لها: إن رضيت البقاء بدون قسم وإلا فالحقي بأهلك، له ذلك أو ليس له ذلك؟ يعني عملاً بالآية، وإن امرأة خافت، نعم له ذلك لكنه ليس من المروءة، ليس من المروءة أن يعاشرها في أول عمرها وفي زهرة شبابها ثم لما عرف أنها ترضى بأي شرط يمليه عليها ألزمها بهذا، هذا ليس من المروءة، لكن لو شرعاً ما دام يملك الخيار الثاني فله الخيار الأول. طالب:. . . . . . . . .

هو أقدم عليها لأنها مدحت له مدحاً أكثر من واقعها، ثم لما رآها صورت له على ذلك المدح، الإنسان إذا أخذ نفسية معينة صار ينظر إلى المرأة من زاوية معينة أعجبته ثم لما تكشفت الأمور وبنى بها وجدها أقل بكثير ما يوجد هذا!، وقد تمدح المرأة ثم إذا دخل بها وبنى بها وجدها أقل، وقد يراها على وضع معين أو في ظرف معين بإضاءة معينة فيقبلها، ثم إذا تكشفت الأمور على طبيعتها وجدها أقل مما رأى، وقد تستعمل من الأصباغ ومن الأمور التي تظهرها أحسن من واقعها أشياء، ثم بعد ذلك، أو العكس تتبين أنها أشد ثم يحبها حباً شديداً، ثم تفرض عليه ما تشاء؛ لأن أمور الدنيا كلها مسألة عرض وطلب، عرض وطلب، يعني إذا كثر العرض قل الطلب، وتنازل عن الشروط، إذا قل العرض كثر الطلب ويشترط منها شروط، ولذلك بعض السلع تنفق في وقت دون وقت، وهي نفسها. طالب:. . . . . . . . . له أن يخيرها، يقول والله أنا تعبت من الدراسة، أنا إذا جيت الأكل غير جاهز، المرأة غير جاهزة في الوقت الذي يريدها فيه، يعني لا شك أن الخلل موجود في الدراسة وفي العمل موجود في حق الزوج، لكن الناس يقبلون، باعتبار إنه شيء -يعني- يمشي شيء، أمور الدنيا كلها ما تجي على المطلوب من كل وجه، كل شيء له ضريبة، يعني إذا درست يستفيد من دراستها، إذا توظفت يستفيد من وظيفتها، مع أنه يتضرر من جهة أخرى، فإن كانت المسألة متقاربة متوازنة ولا كل واحد يضغط على الثاني بما يرجحه، هذه الحياة مبنية على هذا، مبنية على موازنات. رد على القائلين بخلق القرآن:

قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [(30) سورة القصص]، يعني الشجرة، قدم ضميرها عليها، {نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي} من الأولى والثانية لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطيء الوادي من قبل الشجرة، ومن الشجرة بدل من قوله: {مِن شَاطِئِ الْوَادِي} بدل الاشتمال؛ لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطيء، وشاطيء الوادي وشطه جانبه، والجمع شُطان، وشواطيء ذكره القشيري، وقال الجوهري: ويقال: شاطيء الأودية، ولا يجمع، وشاطئت الرجل، إذا مشيت على شاطئ، ومشى هو على شاطيء آخر {الْأَيْمَنِ} أي عن يمين موسى، وقيل: عن يمين الجبل {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}. المنادي هو الله -جل وعلا-، ناداه حرف وصوت يُسمع، خلافاً لمن يزعم أن الله -جل وعلا- خلق الكلام في الشجرة فنادته، كما هو قول من يقول بخلق القرآن، -نسأل الله العافية-، يقول: خلق الكلام في الشجرة ونادت، وأن الكلام صدر من الشجرة، في البقعة المباركة من الشجرة، يعني الكلام صدر من الشجرة، وأهل السنة لا يختلفون في هذا، وأن المنادي هو الله -جل وعلا-، وأن موسى كلم كفاحاً، وناداه الله -جل وعلا-، بكلامٍ على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف له، لكنه كما يقرر سلف هذه الأمة وأئمتها بصوت وحرف يسمع، ولو كان على ما قاله المعتزلة لكانت الشجرة هي التي قالت: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [(12) سورة طه] {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [(30) سورة القصص]، وحينئذ لا فرق بين قولها وقول فرعون. وقرأ الأشهر العقيلي {فِي الْبُقْعَةِ} بفتح الباء، وقولهم بقاع يدل على بقعة، كما يقال: جفنة، وجفان، ومن قال: بُقعة، قال: بُقع، مثل غرفة وغرف {مِنَ الشَّجَرَةِ} أي من ناحية الشجرة، قيل: كانت شجرة العليق، وقيل: سمرة، وقيل: عوسج، ومنها كانت عصاه، ذكره الزمخشري، وقيل: عُناب، والعوسج إذا عظم يقال له: الغرقد، وفي الحديث: ((إنه من شجر اليهود)) فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجرة اليهود، فلا ينطق، خرجه مسلم.

قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء. من الشجرة، يقصد من ناحيتها ومن جهتها، سمع الكلام جاء من جهة الشجرة، لا أنه انبعث من الشجرة، كما يوحي به كلام المؤلف، وكما يقوله المعتزلة، يقولون: إن الله خلق الكلام في الشجرة، فالله -جل وعلا- كلمه وهو مستو على عرشه، بائن من خلقه، والكلام جاء من تلك الجهة. ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال والزوال، وشبه ذلك من صفات المخلوقين. على كل حال الله -جل وعلا- عال على خلقه بائن منهم، مستو على عرشه ومع ذلك ينزل ويوصف بالقرب، وهو مع خلقه أينما كانوا، وهذا لا يناقض هذا ولا ينافيه. قال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق يقولون: من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنظمات وضروب اللغات. الذي يسمع كلامه ليس القديم، إنما الذي يسمع الحادث المتجدد؛ لأن الله -جل وعلا- كلامه قديم النوع بلا شك، لكنه متجدد الآحاد، فهو سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، كيفما شاء، يسمع بصوت وحرف، وهو ليس في ذلك بما يشبه المخلوقين، إنما هو على ما يليق بجلاله وعظمته. كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات، وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزهاً عن مماثلة الأجسام، وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه. قال الأستاذ أبو إسحاق، اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه، كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه، واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ..

قوله: اتفقوا، يريد بذلك أهل الحق، على أن الله تعالى خلق في موسى معنى من المعاني أدرك به كلامه إنما سمع كلام الله -جل وعلا-، بأذنه كما يسمع كلام غيره إلا أن البون بين الخالق والمخلوق هو معروف، أن الخالق لا يشابه الخالق في شيء من الأشياء، لكن الله -جل وعلا- يتكلم كما أثبت ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، وأنه بصوت وحرف يُسمع، والسمع إنما يكون من الأذن، أما خلق القدرة على السماع مع حدوث الكلام أو خلق القدرة على الإبصار مع وجود المبصر، فإن هذا لا شك أنه عند المعتزلة معتمد كما هو عند الأشاعرة، عند الأشاعرة أن هذه الأسباب التي هي السمع والبصر وغيره، المدركات للمسموعات والمبصرات لا تسمع بذاتها، ولا تفيد بذاتها، فإن السمع وجوده مثل عدمه، لكن الله -جل وعلا- يخلق عند وجود المسموع قوة مدركة تدرك هذا المسموع، وخذ مثل هذا في البصر، فالإنسان يبصر عند البصر لا به، ويسمع عند السمع لا به، ويشبع عند الأكل لا به، ويروى عند الري لا به، فعندهم الأسباب معطلة لا قيمة لها، وكلامهم واضح؛ لأنه تقدم مراراً القول بأن الأشعرية يقررون بأنه يجوز أن يرى الأعمى في الصين بقة الأندلس، الأعمى الذي لا يدرك الجمل الذي بين يديه، يجوز أن يرى بقة الأندلس، صغار البعوض، وهو في أقصى المشرق، وهي في أقصى المغرب، لماذا؟ لأن السبب لا قيمة له، وجوده مثل عدمه، الأعمى والمبصر سواء، القريب والبعيد سواء، إلا أن الله -جل وعلا- يخلق عند هذا البصر ذلك الإبصار، وهذا كلام -من تصور حقيقته وجده- أشبه بالهذيان لا قيمة له، فيبالغ الأشعرية في انتفاء الأثر المرتب على الأسباب، كما أن المعتزلة ضدهم، يبالغون في إثبات الأثر، ويرون أن الأسباب فاعلة في نفسها، وأهل السنة يرون أن الأسباب لها أثر، لكن المؤثر والمسبب هو الله -جل وعلا-. واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله؟ وهل سمع جبريل كلامه؟ على قولين: وطريق أحدهما النقل المقطوع به، وذلك مفقود. واتفقوا على أن سماع ...

يقول: طريق أحدهما. يعني الإثبات أو النفي النقل المقطوع به؛ لأن المسألة مسألة عقيدة، والعقيدة لا تثبت عندهم إلا بالأدلة القطيعة لا تترك لأخبار الآحاد كما هو معروف لكن الصحيح المعتمد عند أهل السنة والجماعة هو قول: جميع من اعتدوا بقوله من أهل الحق أن العقائد تثبت بأخبار الآحاد إذا صحت، كما تثبت الأحكام وغيرها من فروع الدين. واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه.

هذا قول الأشاعرة، وهو أن الكلام، القرآن عبارة عن كلام الله -جل وعلا- وليس هو كلام الله حقيقة، وإنما الكلام الحقيقي هو كلام نفسي، ويعبر عنه بأي لغة من اللغات، إن عبر عنه بالعربية صار قرآن، إن عبر عنه بالعبرانية صار توراة، بالسريانية يصير إنجيل، هو كلام واحد ما يتغير، فعلى كلامهم صورة الفاتحة وسورة الإخلاص وغيرهما من السور نزلت على جميع الأنبياء، لكن إن عبر عنها بالعربية صارت قرآن، إن عبر عنها بالعبرانية صارت توراة، وكلامه لا يتغير واحد، تكلم بالأزل ولا يتكلم غيره، ما في كلام حادث متجدد، تكلم بكلام نفسي المعروف عندهم، يعبر عنه بهذه اللغات فيصير على حسب ما أنزل على الأنبياء بلغاتهم، هذا كلام باطل وفي حديث بدء الوحي، في حديث بدء الوحي، ورقة بن نوفل قرأ الكتاب العبراني، وقرأ الكتب السابقة وكان يترجم هذه الكتب إلى العربية، فلو كانت سورة اقرأ موجودة عندهم وقد ترجمها بالعربية من يترجم تلك الكتب لقال: ما هذا؟ ما هو بغريب، هذه السورة قبلك على موسى وعلى عيسى وعلى غيرهما من الأنبياء، كلام الله واحد، لكنه نزل بلغتك، ولقال: هذا القرآن أو هذا الكتاب الذي أنزل على موسى، ما قال: هذا الناموس يقصد بذلك الملك ولا يقصد القرآن الذي أنزل على موسى، يقصد بذلك الملك، ولا يقصد بذلك القرآن، فعندهم أن الكلام واحد لا يتجدد وليست له آحاد إنما تكلم دفعة واحدة، بكلام نفسي يعبر عنه الملك بأي لغة يريد النزول بها، على حسب لغة من أنزلت عليه، وعلى هذا لو ترجمنا القرآن إلى السريانية هل يطابق مع عند النصارى من الأناجيل؟ لا، ولو ترجمناه إلى العبرانية هل يطابق مع اليهود من التوارة؟ تكون المطابقة موجودة؟ يعني عندهم سورة الفاتحة والبقرة على نفس الترتيب إلا أن اللغات تختلف، يعني القرآن لما ترجمت معانيه إلى اللغات وقرأه النصارى بلغتهم هل يقولون: أن هذا هو الكتاب الذي أنزل على عيسى؟ ما يقوله أحد، ولا قاله أحد، بل لا شك أن مثل هذا القول باطل، فالأشعرية يقولون عبارة، والماتريدية يقولون حكاية عن كلام الله، وكثيراً ما نسمع على ألسنة أهل التحقيق من أهل العلم أنهم يقولون: يقول الله -جل وعلا- حكاية عن موسى، أو حكاية عن

فرعون، هل هذا فيه مشابهة لمذهب الماتريدية؟ فيه مشابهة، أو ما فيه؟ طالب:. . . . . . . . . الآن الماتريدية يقولون هذا الكتاب الذي معنا القرآن حكاية عن كلام الله، حكاية عن كلام الله، والمتحدث بما قلنا آنفاً يقول: الله -جل وعلا- يقول، يقول: يتكلم بكلام مسموع بحرف وصوت حكاية عن موسى أو عن فرعون أو عن غيرهما، في مشابهة أو ما فيه مشابهة، هو ما فيه مشابهة، لكن مثل هذه الكلمة التي استعملها أهل البدع، لو أبدلت بغيرها، من أجل أن نبتعد عن مشابهتهم ولو باللفظ، وإلا المقصود والغرض مختلف تماماً، يعني الذي يقول إن الله -جل وعلا- يقول يتكلم، يقول يعني يتكلم بحرف وصوت هذا مذهب أهل السنة، حكاية يعني يحكي أو يقول: الله -جل وعلا- قول فرعون، يعني لما يقول فرعون: أنا ربكم الأعلى، هل نقول: أن هذا كلام الله -جل وعلا-، أو نقول هو كلام فرعون؟ في الأصل؟ فرعون، هذا كلام فرعون، لكن الله -جل وعلا- حكاه لنا، على لسان فرعون، فالعبارة ما يظهر فيها إشكال إلا من حيث المشابهة في اللفظ. طالب:. . . . . . . . . نعم، حكاية عن ملكة سباء، لا، {كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [(34) سورة النمل]، هذا تقرير من الله -جل وعلا-، هذا تقرير من الله -جل وعلا- ليس من تمام الكلام. طالب:. . . . . . . . . . . . . . . . . . لا ما يلزم أنه أن يكون بحرفين، ليس بعربي، ليس بعربي لا يلزم يكون بحرفين. وقال عبد الله بن سعد بن كلاب. بن كلاَّب المعروف، صاحب المذهب؟، بن سعيد أو ابن سعيد، هاه، ابن سعيد، هذا اسمه بن سعيد بن كلاَّب، حتى عندي أنا ابن سعيد واضح. وقال عبد الله بن سعيد بن كلاَّب: إن موسى عليه السلام فهم كلام القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام، قال أبو المعالي: وهذا مردود، بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقاً للعادة.

خرقاً للعادة، وإلا فالأصل عندهم عند الأشعرية والماتريدية والكلابية أن كلام الله لا يسمع، كلام الله لا يسمع، يعني قول جل وعلا: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} [(6) سورة التوبة]، يقولون ما يسمع، ولا شك أن هذه مصادمة للنص، ولولا ما عندهم من تأويل وشبهات لما تُردد في كفرهم؛ لأنهم صادموا النصوص، حتى يسمع كلام الله، يقولون: ما يسمع ما فيه صوت ولا حرف يسمع، إنما هو كلام نفسي، وهل الكلام النفسي يترتب عليه أحكام؟ يترتب عليه أحكام، ولا يطلع على هذا الكلام النفسي إلا من يعلم الغيب، فكيف يقال: أن الملك اطلع على هذا الكلام النفسي، وعبر عنه باللغة التي يريد النزول بها، وهنا يقول: بل يجب، قال أبو المعالي: وهذا مردود من الأشعرية، وهذا مردود، بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقاً للعادة، أما غيره ما يدرك كلام الله؛ لأنه لا يسمع كلام مزور في النفس فقط، ولم ينطق به بحرف وصوت. والله المستعان. طالب: الجويني؟. إيه والله. ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه، والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز وخلق له علماً ضرورياً حتى علم أن ما سمعه كلام الله، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين، وقد ودر في الأقاصيص أن موسى عليه السلام قال: سمعت كلام ربي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي، وقد مضى هذا المعنى في البقرة مستوفى. على كل حال آلة السمع هي الأذن، كما هو معروف. طالب:. . . . . . . . . يقول: بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقاً للعادة، يعني ما فيه أحد سمع كلام الله -جل وعلا-، إلا موسى، حتى ولا جبريل، خرقاً للعادة، العادة أن كلام الله لا يسمع عندهم، لأنه كلام نفسي، والكلام النفسي ليس فيه حرف ولا صوت يسمع، إنما الخرق للعادة السماع، يعني كمن يطلع على ما في الصدر خرقاً للعادة، هذا كلام باطل. طالب:. . . . . . . . .

إيه لأنه قال: كلام الله القديم من أصوات وهو ما يرون الصوت، شوفوا كل كلامهم مخالف، نعم، كلام الكلابي يقول: فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام، ولتكن الشجرة، كما يقول المعتزلة، من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام، ويريد أن نطبقه عليه، يقول: كيف يقول أصوات وهو ما فيه أصوات بإدراك، خلق الله -جل وعلا- إدراك ما هو بسمع، إدراك خلقه الله تعالى خرقاً للعادة، وإلا فالأصل في الكلام ما يسمع. أي يا موسى، أي في موضع نصب بحذف حرف الجر، أي بأن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، نفي لربوبية غيره سبحانه، وصار في هذا الكلام من أصفياء الله -عز وجل-، لا من رسله؛ لأنه لا يصير رسولاً إلا بعد أمره بالرسالة، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام. قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [(31) سورة القصص]، عطف على {أَن يَا مُوسَى} وتقدم الكلام في هذا في النمل وطه {مُدْبِرًا} نصب على الحال، وكذلك موضع قوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} نصب على الحال {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} [(31) سورة القصص]، قال وهب: قيل له: ارجع إلى حيث كنت، فرجع فلف دراعته على يده فقال له المَلك: أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر، أينفعك لفتك يدك قال: لا، ولكني ضعيف، خلقت من ضعف، وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا، {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} أي مما تحاذر. قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [(32) سورة القصص]. قد تقدم الكلام في العصا، مستوفى لكثير من منافعه في سورة طه، تقدم ذَكر المفسر هناك منافع وفوائد كثيرة للعصا، بالنسبة لسائر الناس، فضلاً عن موسى عليه السلام التي كانت فيها آية من آياته ومعجزة من معجزاته، فالعصا لها فوائد كثيرة، من أرادها يراجع التفسير في ما مضى في سورة طه، في الجزء الحادي عشر صفحة (185) تقدم هذا. طالب:. . . . . . . . .

على كل حال، هي زينة، وهي فوائدها تقدمت، وإلى وقت قريب عِليَة القوم لا يمشون إلا بعصا، لا سيما العلماء والأمراء، لا يمشون إلا بعصا، وكأنها علامة على العمل الرسمي يعني في الماضي القريب، صارت علامة على العمل الرسمي، بحيث إذا أعفي الإنسان من منصبه سلم العصا، وانتهى الإشكال، هذا قرار الفصل، وهذا قرار الاستقالة، خذ وظيفتك يعني خذ عصاك، إلى وقت قريب، ثم بعد ذلك تساووا الناس كلهم، صاروا يمشون بدون عصا، ثم بعد ذلك. الله المستعان. ومما ذكر من سنن الخطبة أنه تعتمد على سيف أو قوس أو عصا، يقول الفقهاء: السيف: للإشعار بأن هذا الدين انتشر بالسيف، وهذه الكلمة كانت متداولة بين الفقهاء، ثم بعد ذلك صارت لا تعجب كثير من الناس، وأن الإسلام دين قهر، وأن الناس دخلوا فيه بالغلبة، نعم، هو دين الموافق للفطرة، فالناس الذي لم تجتالهم الشياطين يدخلون في هذا الدين من غير دعوة، لكن من اجتالتهم الشياطين منهم من يدعى ومنهم من يلزم، وأكثر البلدان إنما فتحت بالسيف. طالب: سنة مطلقاً. والله على حسب الحاجة ويمكن بعد أيضاً للأعراف مدخل، بحيث إذا عرف الإنسان بهذه العصا وصحب ما صحبها من ازدراء الناس به أو ترفعه عليهم، الأمور تختلف باختلاف المقاصد.

قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [(32) سورة القصص] .. الآية، تقدم القول فيه {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [(32) سورة القصص]، من: متعلقة بولى، أي ولى مدبراً من الرهب، وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق {مِنَ الرَّهْبِ}: بفتح الراء وإسكان الهاء، وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفص بضم الراء وجزم الهاء والباقون بفتح الراء والهاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [(90) سورة الأنبياء]، وكلها لغات وهو بمعنى الخوف، والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت، وقيل: أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه خوف الحية، عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس، قال: فقال ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. لكن الآية في الجيب، وليست في الصدر، وقد يكون الجيب في الصدر، الجيب في الصدر، سواء كان بارزاً مثل هذا، وقد يكون خفياً مثل الجيوب التي كانت موجودة ثم عطلت، يعني كثير من الناس كانت جيوبهم من الداخل هكذا، يحفظون بها ما يشاؤون مما خف هنا، الجيب هنا، فإذا أدخل يده في جيبه من لازم ذلك أن يضمها إلى صدره. ويحكى عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، أن كاتباً كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر فقام وبرز بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. وقيل: المعنى ..

إيش معنى يفرخ، وليفرخ كذا، بالخاء، في جميع النسخ كذا، وليفرخ، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي، يستدل بعض العلماء على أن قوم لوط بلغوا الغاية في نزع الحياء، أنهم يأتون في ناديهم المنكر، يعني في أماكن اجتماعاتهم، وهذه الأمور التي يستحيا منها يستعملها الإنسان خفية، وأنه كلما نزع الإنسان طبقة من طبقات جلباب الحياء هو في طريقه إلى أن يأتي المنكر في ناديه، فتجد الإنسان فيه المكان الذي يختص به، بحيث لا يرى، وهو مستكن فيه سواء كان في محل قضاء حاجة، أو في غرفته الخاصة به تجده يتصرف كيف ما شاء من عري ومن أصوات وما أشبه ذلك؟ ثم بعد ذلك إذا خرج خطوة تحفظ عن كثير من الأمور، وما زالت بقية الأمور على السعة، تجده يطلع من غرفة النوم والتي كان فيها شبه عاري، إلى المكان القريب منها يتستر، ومع ذلك لا يحتشم الحشمة التي يحتشم فيها بالمجلس مثلاً، وفي مجلسه لا يحتشم مثلما يحتشم عند بابه، يعني بين الباب والسيارة إذا أراد أن يأخذ شيء، يأخذ شيء من السيارة بسرعة يخرج بمظهر لا يخرج فيه إلى المسجد مثلاً، فالإنسان له خصوصياته فتجده في أخص الخصوصيات يصنع ما شاء، ثم إذا تقدم خطوة زاد الاحتشام وهكذا إلى أن يصل المجلس، اللي هو نادي القوم، إذا كان لا يحتشم في هذا النادي فقل عليه السلام، إذا كان لا يستحيي، تجد بعض الناس يأتي إلى المسجد في اللباس، الذي لباس البذلة، الذي يستعمل فيه مهنته مع أهله أو مع أولاده في بيته، هذا لا شك أنه خلل، ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز: هذا الصوت سمعته أكثر ما سمعته من نفسي، صحيح أكثر ما سمعه من نفسي لكن بين الناس لا، ما يمكن، بعض الناس لا يرسل هذا الصوت ولا عند زوجته ولا شك أن هذا كمال، ثم بعد ذلك الأقرب فالأقرب، وعلى كل حال على الإنسان أن يحتاط في مثل هذه الأمور ويتحشم منها أما من انفلت منها من غير قصد فهذا أمر لا يملكه، وماذا عن إرساله في المسجد؟ إذا منع من الثوم والبصل فلأن يمنع من مثل هذا، من باب أولى، لكن إذا احتاج إلى ذلك ولم يستطع الصبر عليه، يقول ابن عربي: وله إرساله في المسجد عند الحاجة، إرسال الصوت. طالب:. . . . . . . . .

هو ما فيه نهي كامل إلا أنه خلاف المروءة، خلاف المروءة الإنسان يضحك ويسخر من شيء يزاوله لا سيما إذا عرف أن الإنسان مغلوب، أما إذا كان مستهتر والله محل سخرية. طالب:. . . . . . . . . لا، لا هؤلاء على خلاف الفطرة. طالب: هل ينكر عليه؟. . . . . . . . . ينكر، ينكر نعم، الفطرة السليمة تأباه، طالب: الجشا. الجشا جاء الأمر بالتفسير ((كف عنا جشاءك))، لكن ما هو مثل هذا أبداً. طالب:. . . . . . . . . أشد أشد معروف لكن هذا عكس الفطرة. طالب:. . . . . . . . . كيف؟ يعني يحتاج إلى دليل إلى أن يكف ضراطه أمام الناس، لا لا، هذا ما يحتاج، هذا ما يحتاج، هل النهار يحتاج إلى دليل، فمثل هذا لا يحتاج إلى دليل، أولاً: هو حدث على كل حال، حدث ولا مو حدث، مكروه الصوت مكروه الرائحة مكروه من أي شخص فطرته سليمة لا يقبل. وقيل: المعنى واضمم يدك إلى صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف، وكان موسى يرتعد خوفاً إما من آل فرعون، وإما من الثعبان، وضم الجناح هو السكون، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [(24) سورة الإسراء]، يريد الرفق، وكذلك قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(215) سورة الشعراء]، أي أرفق بهم، وقال الفراء: أراد بالجناح عصاه، وقال بعض أهل المعاني: الرهب: الكم بلغة حمير، وبني حنيفة، قال مقاتل: سألتني أعرابية شيئاً وأنا آكل فملئت الكف وأومأت إليها فقالت: ها هنا في رهبي، تريد في كمي، وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول لآخر أعطني رهبك فسألته عن الرهب فقال: الكم، فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك، وأخرجها من الكم؛ لأنه تناول العصا ويده في كمه وقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [(32) سورة القصص]، يدل على أنها اليد اليمنى؛ لأن الجيب على اليسار، ذكره القشيري. الجيب التي في الصدر، في الجهة اليسار، وما زال الاستعمال جارياً على هذا هي في جهة اليسار، المسألة مسألة عرفية، لكن لعل هذا هو المطابق لحال موسى عليه السلام. طالب:. . . . . . . . . لا، بالتجربة، بالتجربة والاستنباط.

قلت: وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر، وقد مضى في سورة النور بيانه، قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير، وأنهم يقولون: أعطني مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة، وهل سمع من الأسلاف الثقات الذين تترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى صلوات الله عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها. قال القشيري: وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [(32) سورة القصص]. هو يطالب ما يثبت أن الرهب الكم، ويأتي بلباس يدعيه على موسى في تلك الليلة، لكن عليه أن يثبت أيضاً، عليه أن يثبت بما يثبت به مثل هذا. قال القشيري: طالب:. . . . . . . . . لا، هو الإشكال الذي أوقعهم أنهم، إشكال المبتدعة، أنهم ابتدعوا قبل أن يعرفوا النصوص، ثم لما وردت عليهم النصوص أولولها وحرفوها على مقتضى بدعهم، فبدعهم هي التي سيرت النصوص لا العكس، يعني لو تعلموا القرآن قبل معرفة هذه البدع وقبل الوقوع فيها، ما وقعوا فيها. قال القشيري: وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [(32) سورة القصص]، يريد اليدين، إن قلنا أراد الأمن من فزع الثعبان، وقيل: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة، قلت: فعلى هذا قيل: {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} أي من المرسلين، لقوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [(10) سورة النمل]، قال ابن بحر، فصار على هذا التأويل رسولاً بهذا القول، وقيل إنما صار رسولاً بقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ} [(32) سورة القصص]. من ابن بحر؟ هاه. من هو؟ معروف ابن بحر. وقيل إنما صار رسولاً بقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [(32) سورة القصص]، والبرهان اليد والعصا. وقرأ ابن كثير بتشديد النون وخففها الباقون.

وروى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير (فذآنيك) بالتشديد والياء، وعن أبي عمرو قال: لغة هذيل: (فذانيك) بالتخفيف والياء، ولغة قريش (فذانِك)، كما قرأ أبو عمرو وابن كثير، وفي تعليله خمسة أقوال: قيل: شدد النون عوضاً من الألف الساقطة في (ذانك)، الذي هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع بالابتداء، وألف (ذا) محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتف إلى التقاء الساكنين؛ لأن أصله (فذانك) فحذف الألف الأولى عوضاً من النون الشديدة، وقيل: التشديد للتأكيد، كما أدخلوا اللام في ذلك. قال مكي: وقيل: إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذانك، فلما غنى أثبت اللام بعد نون التثنية، ثم أدغم في النون على حكم إدغام الثاني في الأول، والأصل أن يدغم الأول أبداً في الثاني إلا أن يمنع من ذلك علة، فيدغم الثاني في الأول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لامٌ مشددة فيتغير لفظ التثنية، فأدغم الثاني في الأول لذلك، فصار نوناً مشددة، وقد قيل: إنه لمَّا تنافى ذلك أثبت اللام قبل النون.

إذا وجد حرفان متماثلان وحذف أحدهما لتوالي الأمثال فالخلاف معروف، هل يحذف الأول، أو الثاني، أو يحذف الفرع، ويبقى الأصل، أو يحذف الأصل ويبقى الفرع، فمثلاً إقامة، وإجازة، وإمامة، قالوا: فصلها إقوامة وإجوازة، تحركت الواو وتوهم انفتاح ما قبلها فقلبت ألفاً، فتوالى المثلان فحذف الأول عند سيبويه، والثاني عند الكسائي ما يتفقون على أن المحذوف الأول أو الثاني كما يقول هنا، والأصل: أن يدغم الأول في الثاني أبداً، أو يحذف أحدهما، على الكلام السابق، مثل هذا لا يتفق عليه المهم أنهما حرفان متماثلان أدغم أحدهما في الثاني، فما أدري كيف يدغم الأول في الثاني؟ الأصل أن يدغم الأول أبداً في الثاني، هما حرفان متماثلان، والحرف المشدد عبارة عن حرفين أحدهما ساكن، أولهما ساكن والثاني متحرك، فكيف نقول أدغم الأول في الثاني، وما المانع أن يكون الثاني هو المدغم في الأول، إذا اجتمع عندنا حرفان متماثلان وأردنا إدغام أحدهما في الثاني، يرتدد، يرتد، أردنا أن نقول: بدلاً من يرتدد يرتد، أيهما ندغم في الثاني، يقول: الأصل أن يدغم الأول أبداً في الثاني، يعني: هل يختلف الوضع فيما لو أدغم الثاني في الأول؟ فما فيه فرق، هل فيه حقيقة، فائدة عملية من هذا؟ نقول: إلا أن يمنع من ذلك علة، فيدغم الثاني في الأول والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني، إذا كان حرفين مثلين مثل: يرتدد ويرتد، هذا ما فيه أدنى إشكال، ولن يمنع منه علة، لكن إذا أدغم حرف ليس مثيلاً للثاني الذي يليه إنما هو متقاربان، مثل تاء الافتعال، تاء الافتعال إذا أدغمت في التي يليها، هل ينطق بالتاء أو بالذي يليها، اضطراد مثلاً، اضطراب، افتعال، اضطراد مثلاً، الطاء الأولى أصلها تاء، فأدغمت في الثاني على شان أيش؟ على شان ينطق بالطاء لا ينطق بالتاء، لأنه لو أدغما الثاني في الأول لأنطقها تاء ما أنطقها طاء مشددة، ففي مثل هذا إذا كان غير مثلين إنما هما متقاربان مما يدغم أحدهما في الآخر نعم، يأتي كلامه، وإلا إذا كانا مثلين فلا إشكال في أن ندغم الأول وندغم الثاني.

وقد قيل: إنه لما تنافى ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام فصار نوناً مشددة، وقيل: شُددت فرقاً بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه؛ لأن ذان لا يضاف، وقيل: للفرق بين الاسم المتمكن وبينها، وكذلك العلة في تشديد النون ... المتمكن المعرب، وغير المتمكن المبني. والمتمكن الأمكن كما يقولون المصروف، والمتمكن غير الأمكن هو الممنوع من الصرف. وكذلك العلة في تشديد النون في اللذان وهذان. قال أبو عمرو: إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه؛ لقلة حروفه فقرأه بالتثقيل، ومن قرأ. أبو عمرو القائل، هو أبو عمرو المختص، أبو عمرو القائل، هو أبو عمرو المختص، أو غيره، من الأول ومن الثاني، ولا يمكن أن يكون الأول هو الثاني؟ على سبيل التجريد، الأصل أنه غير لكن إذا لم نجد قائل غير أبي عمرو المختص فيجوز، على سبيل التجريد، بأن يجرد المتكلم من نفسه شخصاً يتحدث عنه. في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى رهطاً وسعد جالس" سعد هو الأول؟ هو الأول، لكن هذا تجريد يجرد من نفسه شخصاً يتحدث عنه، ولا مانع من أن يكون أبو عمرو هو الثاني، لكن إن وقفنا على غيره فهو الثاني. طالب: ما يكون أبو عمرو بن العلاء؟ هو القارئ الثاني بلا شك هو المختص، هو المختص لكن القائل. طالب: الأول القارئ،؟ أبو عمرو القارئ، نعم، ومرت قراءته، كما قرأ أبو عمرو وابن كثير، لكن من أبو عمرو القائل؟ ومن قرأ (فذانيك) بياء مع تخفيف النون فالأصل عنده (فذانيك) بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف، كما قالوا: لا أملاه: في لا أمله، فأبدلوا اللام الثانية ألفاً، ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء. قوله تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} [(34) سورة القصص]، يعني: معيناً، مشتقاً من أردأته، أي أعنته، والردء: العون، قال الشاعر: ألم تر أن أصرم كان رديء ... وخير الناس في قل ومال قال النحاس: وقد أردأه ورداه، أي أعانه وترك همزه تخفيفاً وبه قرأ نافع. أردأه ورداه، غير أرداه، يعني يختلف المعنى إذا كان أرداه، أرداه صريعاً قتيلاً.

وبه قرأ نافع وهو بمعنى المهموز. قال المهدوي: ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم: أردى على المائة أي زاد عليها. أردى وأربى بمعنى واحد يعني زاد. وكأن المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي، قاله مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر: وأسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعاً على العشر كذا أنشد الماوردي هذا البيت قد أردى، وأنشده الغزنوي والجوهري في الصحاح قد أرنى، والقسب الصلب، والقسب: تمر يابس يتفتت في الفم صلب النواه، قال: يصف رمحاً، وأسمر البيت ... قال الجوهري: ردء الشيء يردء ردءة فهو رديء أي فاسد، وأردأته أفسدته. وأسمر، إعراب أسمر. نعم مجرور برب المحذوفة وعلامة جره الفتح. مجرور بالفتحة؛ لأنه ممنوع من الصرف. وأردأته أيضاً بمعنى أعنته تقول: أردأته بنفسي أي كنت له ردءاً وهو العون، قال الله تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [(34) سورة القصص]، قال النحاس: وقد حكى ردأته ردءاً وجمع ردء أرداء، وقرأ عاصم وحمزة {يُصَدِّقُنِي} بالرفع وجزم الباقون، وهو اختيار أبي حاتم على جواب الدعاء. أي جواب الطلب، أرسله يصدقني، جواب الطلب مجزوم، أو يجزم بشرط مقدر: إن ترسله يصدقني، هذا الأصل، ومن قرأه بالرفع، مثل: يرثني، الذي تقدم. واختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في أرسله، أي أرسله ردءاً مصدقاً حالة التصديق، كقوله: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ} [(114) سورة المائدة]، أي كائنة. {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي} [(5 - 6) سورة مريم]، ما قال: يرثْني. حال صرف إلى الاستقبال، ويجوز أن يكون صفة لقوله: {رِدْءًا} {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [(34) سورة القصص]، إذا لم يكن لي وزير ولا معين لأنهم لا يكادون يفقهون عني، فقال الله -عز وجل- له: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [(35) سورة القصص]، أي نقويك به، وهذا تمثيل؛ لأن قوة اليد بالعضد، قال طرفة: بني لبينى لستم بيد ... إلا يداً ليست لها عضد

ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك، وفي ضده فك الله في عضدك، {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [(35) سورة القصص]، أي حجة وبرهاناً، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [(35) سورة القصص]، بالأذى، {بِآيَاتِنَا} أي تمتنعان منهم بآياتنا، فيجوز أن يوقف على إليكما، ويكون في الكلام تقديم وتأخير، وقيل: التقدير: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} بآياتنا، قاله الأخفش والطبري. قال المهدوي: وفي هذا تقديم الصلة على الموصول، إلا أن يقدر: أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون، وعنى في الآيات سائر معجزاته. اللهم صلى على محمد طالب:. . . . . . . . .

§1/1