التعليق على القواعد المثلى

عبد الرحمن بن ناصر البراك

التعليق على القواعد المثلى تأليف فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك إعداد عبدالله بن محمد المزروع دار التدمرية الطبعة الأولى 1431

التعليق على القواعد المثلى

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد: فقد أذنت للشيخ عبد الله بن محمد المزروع بإعداد وإخراج تعليقاتي على كتاب "القواعد المثلى" لفضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله، والتي ألقيتها في مسجد الخليفي بالرياض، وقد قرأها عليَّ الشيخ عبد الرحمن بن صالح السديس. فجزاهما الله خيرًا، وبارك في جهودهما، ونفع بهما. أملاه عبد الرحمن بن ناصر البراك

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناس بما يشبهون عليهم - فنعوذ بالله من فتن المضلين - (1)، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنَّ ممن سار على منهج أهل السنة والجماعة في هذا العصر، وكانت له جهود في نشر العقيدة السلفية، عن طريق التأليف والتدريس فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -، فقد سارت بكتبه وأشرطته الركبان، وذاع صيته في المشرق والمغرب، وعرفه القاصي والداني. وإنَّ من آثار هذا العَلَم كتابه: (القواعد المثلى، في صفات الله - تعالى - وأسمائه الحسنى)، والذي أخذ مكانه في المكتبة الإسلامية منذ

_ (1) من مقدمة الإمام أحمد لكتابه الرد على الزنادقة والجهمية (ص 170).

تأليف الشيخ له، فتداوله طلاب العلم ولَقِيَ استحسانًا منهم؛ ومما يَدُلُّ على ذلك: تقديم سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - له، وثناؤه عليه بقوله: (فألفيته كتابًا جليلاً)، وتوالي طباعة الكتاب عدة مرات، وتأليف شروحٍ وحواشٍ عليه (1)؛ فضلاً عن تدريسه في حلقات العلم. ومن هذا المنطلق قام فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك - حفظه الله - بالتعليق على الكتاب في مجالس علمية عقدها في مسجده. وكان عملي في إعداد هذه الطبعة بتعليقات الشيخ عبد الرحمن البراك على النحو التالي: 1 - فُرِّغَ شرح الشيخ عبد الرحمن البراك - حفظه الله - من قبل الأخ / زيد العشبان - وفقه الله -، وقام ببعثه لي الأخ / عبد الرحمن السديس - وفقه الله -؛ فجزاهما الله عني خيرَ الجزاء. 2 - مقابلة المتن المقروء على الشارح بالطبعة التي أشرفت عليها مؤسسة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - والذي طُبِعَ في مدار الوطن عام 1429 هـ، وأثبتُّ النصَّ بتعليقات الشيخ - رحمه الله - دون تخريجه للأحاديث. 3 - قمت بتنسيق كلام الشارح، ومحاولة ضبطه بما يتناسب مع الكتاب المقروء، ثم قرأه على الشيخ عبد الرحمن البراك - حفظه الله - الأخ / عبد الرحمن بن صالح السديس - وفقه الله - فحرر الشيخ وأضاف ما رآه مناسبًا.

_ (1) ذكر صاحب كتاب (دليل المكتبة العقدية) (ص 38) أربعةَ شروحٍ مطبوعة، وهي كالتالي: 1 - التعليقات الفضلى من القواعد المثلى، لمحمد الصغير بن قائد المقطري. 2 - شرح القواعد المثلى، لمؤلفها الشيخ محمد بن صالح العثيمين. 3 - فتح العلي الأعلى بشرح القواعد المثلى، لعبيد بن عبد الله الجابري. 4 - المُجَلَّى في شرح القواعد المثلى، لكاملة الكواري.

4 - قمت بتوثيق النقول التي ذكرها الشارح، وإضافة بعض التعليقات التي رأيت أهميتها، واعتنيت في ذلك بكتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم، مع تخريج الأحاديث والآثار الواردة في المتن أو الشرح؛ فإن كان في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت على العزو لهما، وإن كان خارجًا عنهما ذكرت من أخرجه باختصار، ونقلت كلام أهل العلم عليه. 5 - حاولت قدر المستطاع ربط المسائل التي تكلم عنها الشارح والماتن في هذا الكتاب بكتب الشارح الأخرى؛ وأَخُصُّ منها شرحه على التدمرية لتقارب ما في الكتابين في الجملة؛ فما كان من عزوٍ في حواشي هذا الكتاب إلى (التدمرية) فالمقصود: تلك الطبعة التي عليها شرح الشيخ عبد الرحمن البراك - حفظه الله -. 6 - جعلت في خاتمة الكتاب فهرسًا للمراجع التي ذكرتها في الحواشي، وأبقيت الفِهرس الذي خَطَّهُ قَلَمُ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - كما هو، وأضفت عليه الفوائد الواردة في الشرح بعلامة توضحها. 7 - أعرضتُ عن ذكر ترجمة صاحب المتن والشرح لشهرتها وتداولها. واللهَ أسأل أن يغفر للشيخ ابن عثيمين، ويجزي الشيخ عبد الرحمن البراك خيرَ الجزاء على شرحه، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم. وكتب عبد الله بن محمد المزروع 20/ 8 / 1429 هـ [email protected]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسَلَّم تسليمًا (1). وبعد: فإن الإيمان بأسماءِ الله وصفاته أحدُ أركان الإيمان بالله تعالى؛ وهي: الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته. وتوحيد الله به أحد أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات (2). فمنزلته في الدين عالية، وأهميته عظيمة، ولا يمكن أحدًا أَنْ (3) يعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكون على عِلْمٍ بأسماء الله - تعالى - وصفاته، ليعبده على بصيرة، قال الله تعالى: " وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" [الأعراف: 180]. وهذا يشمل دعاء المسألة،

_ (1) انظر تعليق الشارح على خطبة الحاجة وما يتعلق بها من مسائل في: شرح الرسالة التدمرية (13 فما بعدها). (2) شرح العقيدة الطحاوية (26). (3) في المطبوع: ولا يمكن أن أحدًا ... ، والصواب ما أثبت.

ودعاء العبادة (1). فدعاء المسألة: أَنْ تُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَي مطلوبك من أسماء الله - تعالى - ما يكون مناسبًا مثل أن تقول: يا غفور اغفر لي، ويا رحيم ارحمني، ويا حفيظ احفظني، ونحو ذلك. ودعاء العبادة: أن تتعبد لله - تعالى - بمقتضى هذه الأسماء، فتقوم بالتوبة إليه لأنه التواب، وتذكره بلسانك لأنه السميع، وتتعبد له بجوارحك لأنه البصير، وتخشاه في السر لأنه اللطيف الخبير، وهكذا. ومن أجل منزلته هذه، ومن أجل كلام الناس فيه بالحق تارة وبالباطل الناشئ عن الجهل أو التعصب تارة أخرى، أحببت أن أكتب فيه ما تيسر من القواعد، راجيًا من الله - تعالى - أن يجعل عملي خالصًا لوجهه، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده. وسميته: (القواعد المُثْلَى في صفات الله - تعالى - وأسمائِهِ الحسنى). التعليق الإيمان بالله هو الأصل الأول من أصول الإيمان الستة , لكن الإيمان بالله يشمل عدةَ معانٍ , كما سماها الشيخ أركان الإيمان بالله. فبالإيمان بأسماء الله وصفاته , يعرف العبد ربه , ويعرف أنه - تعالى - هو الإله الحق، وأنه رب كل شيء ومليكه؛ بل إن معرفة الله بأسمائه وصفاته بهذا العموم يشمل كل الجوانب الثلاثة (¬2) , لأن ربوبيته وإلهيته ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (10/ 237)، بدائع الفوائد (1/ 288)، الفوائد (36)، شرح الرسالة التدمرية (46 وما بعدها)، شرح العقيدة الطحاوية (26 وما بعدها). (¬2) والتي هي أقسام التوحيد الثلاثة.

هي من جملة صفاته , فهو الله يعني: الإله , وهو رب العالمين , وهو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو الذي له الملك وله الحمد , فمعرفة أسمائه وصفاته في الحقيقة إذا أخذت بالمفهوم العام , تشمل كل معانِ الإيمان بالله؛ لكن أهل العلم درجوا على التقسيم , تقول: توحيد الله يعني: الإيمان بتفرده سبحانه. واعتقاد تفرده ووحدانيته وأنه واحد , هذا له متعلقات , فاعتقاد تفرده بالإلهية هذا هو توحيد الإلهية وهو يقضي إفراده بالعبادة , والإيمان بتفرده بالربوبية , معناه الإيمان أنه الخالق الرازق المالك وحده , فلا رب غيره ولا خالق سواه , وأن له الملك وحده , والثالث من أنواع التوحيد توحيده بأسمائه وصفاته وهو: اعتقاد تفرده بما له من الأسماء والصفات , كاسمه الملك، القدوس، السلام، المؤمن؛ فالإيمان بالله يشمل كل هذه المعاني. وابن القيم يقول: إن العلم الشرعي أقسام ثلاثة: 1 - العلم بالله , بأسمائه وصفاته وأفعاله. 2 - العلم بدينه , أمره ونهيه. 3 - العلم بجزاء العاملين. كما قال (¬1): فالعلم أقسام ثلاث مالها * من رابعٍ والحقُّ ذو تبيان عِلْمٌ بأوصافِ الإله وفعله * وكذلكَ الأسماءُ للرحمن والأمرُ والنهيُّ الذي هو دينه * وجزاؤه يوم المعادِ الثاني فالإيمان بالله يشمل هذه الأمور. ¬

_ (¬1) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص 225 المتن المفرد) الأبيات (4253 - 4255).

والشيخ - رحمه الله - جعل أركان الإيمان بالله أربعة , وجعل أولها الإيمان بوجوده , وهذا لا نحتاج إليه إذا قررنا الثلاثة , لكن لما كان هناك - والعياذ بالله - من يجحد وجود الله ذكر بعضهم أولًا الإيمان بوجود الله، ثم من آمن بوجود الله عليه أن يؤمن بالأركان الثلاثة , لكن من آمن بأسماء الله وصفاته وآمن بربوبيته فهو مؤمن بوجوده , لأن هذه المعاني لا تتحقق إلا لموجود , فالله - تعالى - موجود وهو أكمل الموجودات , لأنه موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ولأنه الخالق وكل ما سواه مخلوق، وهو الملك المتصرف , وهو الإله المستحق للعبادة وحده دون ما سواه. وللناس في الإيمان بالله مذاهب وطرق: 1 - فأجهلهم وأضلهم وأكفرهم: الجاحد لوجود الله؛ وهم قلة في العالم , وحتى من يجحد وجود الله الغالب عليهم أنهم يفعلون ذلك تلبيسًا وتجاهلًا وتضليلًا , كما صنع فرعون حين قال: " وما رب العالمين " [الشعراء: 23]، وقال: " ما علمت لكم من إله غيري " [القصص: 38] وهذا تلبيس " فاستخف قومه فأطاعوه " [الزخرف: 54]، وهو يعرف لكن وَجَدَ أقوامًا يخدعهم ويضللهم , وأخبر الله عن موسى أنه قال لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض " [الإسراء: 102]، وقال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " [النمل: 14]، وقال في الذين جحدوا الرسالة: " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " [الأنعام: 33]. 2 - وهناك من يؤمن بوجود الله لكن لا يؤمن به على الوجه الصحيح الذي دلت عليه العقول والفطر والشرائع؛ فالفلاسفة يثبتون وجود الله ويسمونه العلة الأولى , لكن يقولون فيه أقوالا تناقض العقول والفطر وما جاءت به الرسل.

3 - وآخرون يؤمنون بوجود الله، ويؤمنون بربوبية الله وبصفاته في الجملة , ولكنهم يعبدون معه غيره؛ وهذا هو الغالب على الأمم , فيكون انحرافهم في توحيد العبادة حيث جعلوا مع الله آلهة أخرى. 4 - والرسل وأتباعهم بريئون من كل هذه المذاهب الباطلة، فيؤمنون بالله إيمانًا تامًا، ويوحدونه في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، ويخلصون له العبادة، ويكفرون بكل ما يُعبد من دونه. فبهذا التقسيم يمكن معرفة واقع الأمم وأحوالها , بتحديد ما أقروا به وما أنكروه , وتحديد ما معهم من حق وباطل. وزعم بعض المتعصبين أن تقسيم التوحيد إلى هذا التقسيم بدعة وأن هذا من اختراع ابن تيمية (¬1) , ولكن هذا الزعم من أقوال أهل الأهواء: 1 - لأن هذا التقسيم مستمد من الكتاب والسنة ومن واقع الناس؛ فالنصوص دلت على أنه سبحانه هو الإله الحق وأنه رب كل شيء , وأنه الموصوف بكل صفات الكمال , وأنه لا شبيه ولا شريك له. 2 - ثم إن الفقهاء قسموا أفعال العبادات إلى أركان وواجبات وسنن مع أن هذا غير موجود لا في النصوص ولا في كلام السلف (¬2) , لكنها تقسيمات صحيحة مستمدة من معان النصوص ودلالاتها؛ فالأركان واجبات لكن اصطلح الفقهاء على أن الركن هو واجب لكن يختلف عما سموه واجبًا من جهة الحكم , فأركان العبادة وجوبها آكد مما يقال فيه إنه من قبيل الواجبات، ولهذا قالوا: إن الركن يلزم من تركه بطلان العبادة بخلاف الواجبات فإنها تنجبر؛ فمثلًا: الواجبات في ¬

_ (¬1) رَدَّ على هذه الفرية الشيخ عبد الرزاق البدر - وفقه الله - في كتابه (القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد)؛ وانظر - غير مأمورٍ - كلام الشارح في شرح الرسالة التدمرية (47)، وشرح العقيدة الطحاوية (27). (¬2) جامع المسائل (المجموعة الأولى / 247)، شرح العقيدة الطحاوية (27).

الصلاة تنجبر بسجود السهو، وفي الحج تنجبر بفدية ... إلى آخره. واستدل الشيخ - رحمه الله - على ذكر الأسماء بالآية: " ولله الأسماء الحسنى " [الأعراف: 180] فجميع أسمائه حسنى , بالغة في الحسن غايته , " له الأسماء الحسنى " جاء هذا في مواضع من القرآن (¬1) , وقال - سبحانه وتعالى -: " فادعوه بها " [الأعراف: 180] فنقول: يا الله، يا رحمن " قل ادعوا الله أو أدعو الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى " [الإسراء: 110] يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين. وكلما كان العبد أعلمَ بالله وبأسمائه وصفاته وأكمل استشعارًا واستحضارًا لها = كان أكمل في الأحوال العبادية , خوفًا ورجاءً وتوكلًا (¬2). وكل شيء من أحوال القلوب له مقتضيات من أسماء الله: 1 - فمن أسمائه وصفاته ما يقتضي من العبد الخوف مثل: أنه شديد العقاب. 2 - ومنها ما يقتضي الرجاء، مثل: أنه غفور رحيم. 3 - وربوبيته وكمال ملكه وقدرته تقتضي صدق التوكل عليه. ¬

_ (¬1) الموضع الأول: " ولله الأسماء الحسنى " الأعراف: 180، والموضع الثاني: " فله الأسماء الحسنى " الإسراء: 110، والموضع الثالث والرابع: " له الأسماء الحسنى " طه: 8 وَالحشر: 24. (¬2) شرح الرسالة التدمرية (18).

قواعد في أسماء الله - تعالى -

قواعد في أسماء الله - تعالى -

أسماء الله تعالى كلها حسنى

القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى (1) أي: بالغة في الحُسْنِ غايته، قال الله تعالى: " وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى " [الأعراف: 180]، وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالًا ولا تقديرًا. * مثال ذلك: (الحي) اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسْبَق بعدم، ولا يلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات من: العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، وغيرها. * ومثال آخر: (العليم) اسم من أسماء الله، متضمن للعلم الكامل، الذي لم يُسْبَق بجهل، ولا يلحقه نسيان، قال الله تعالى: " عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى " [طه: 52]. العلم الواسع المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلًا، سواء ما يتعلق بأفعاله، أو أفعال خلقه، قال الله تعالى: " وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " [الأنعام: 59]. " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " [هود: 6]، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 141)، منهاج السنة (5/ 409)، بدائع الفوائد (1/ 287).

" يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " [التغابن: 4]. * ومثال ثالث: (الرحمن) اسم من أسماء الله - تعالى -، متضمن للرحمة الكاملة، التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لله أرحم بعباده من هذه بولدها " (¬1) يعني: أم صبي وجدته في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته، ومتضمن - أيضًا - للرحمة الواسعة التي قال الله عنها: " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " [الأعراف: 156]، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين:" رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً " [غافر: 7]. والحُسْنُ في أسماء الله - تعالى - يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمالٌ فوق كمالٍ. * مثال ذلك: (العزيزُ الحكيم) فإن الله - تعالى - يجمع بينهما في القرآن كثيرًا؛ فيكون كلٌ منهما دالًا على الكمال الخاصِّ الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحُكْمُ والحِكْمَةُ في الحكيم، والجمع بينهما دالٌ على كمالٍ آخر وهو أن عزته - تعالى - مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلمًا وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أَعِزَّاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم، فيظلم ويجور ويسيء التصرف؛ وكذلك حُكْمُهُ - تعالى - وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته، فإنهما يعتريهما الذُّل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

التعليق أخبر الله - تعالى - بأن له الأسماء الحسنى: " ولله الأسماء الحسنى " [الأعراف: 180] في مواضع من القرآن (¬1) , ففي ذلك دلالة على: 1 - أنَّ له أسماء. 2 - وأن هذه الأسماء حسنى. وحسنى أفعل تفضيل , لأن أهل اللغة يقولون: حسنى مؤنث أحسن (¬2) , فأسماؤه حسنى , وهذا أكمل من أن يقال: إن أسماءه حسنة , لأن هذا لا يعطي معنى حسنى , فحسنى تدل على الحسن وكماله , فأسماؤه أحسن الأسماء , فلا بد أن يكون حسنها هو الغاية التي ليس فوقها غاية. وفي هذه الآية رد على: 1 - الجهمية؛ نفاة الأسماء مطلقًا. 2 - وعلى المعتزلة؛ نفاة المعاني الذين ينفون معاني الصفات , لأنها إذا كانت لا تدل على صفات لم تكن حسنى , أفتكون حسنى لألفاظها فقط؟! فعند الجهمية هذه الأسماء التي في القرآن وفي السنة ليست أسماءً لله , وإضافتها إليه مجاز , وهي أسماء لبعض المخلوقات. وعند المعتزلة: هي أسماء لله , لكن لا تدل على معان , فعلى مذهبهم لا فرق بين عزيز وحكيم ورحيم وقدير , فكلها تدل على الذات , ولا تدل على إثبات صفات , ولهذا يقال: إنها على مذهبهم أعلام محضة , بمعنى: خالصة، ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إليها في صفحة (16). (¬2) لسان العرب (13/ 116)، النحو الوافي (3/ 413)، وانظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (311)، وأسماء الله الحسنى للغصن (67).

فإن الاسم: 1 - تارة يكون عَلَمًا محضًا. 2 - وتارة يكون صفةً. 3 - وتارة يكون عَلَمًا وصفةً. فمثال الأول: الإنسان الذي اسمه صالح وليس فيه من الصلاح شيء؛ فصالح بالنسبة له عَلَمٌ محض. ومثال الثاني: الرجل الذي اسمه محمد وهو رجل صالح , نقول: محمدٌ صالح , فصالح صفة وليس بِعَلَم. ومثال الثالث: إذا اجتمع الوصف والعلمية؛ كما في اسم الرسول محمد , فمحمد اسم نبينا - عليه الصلاة والسلام - هو عَلَمٌ وصفة , ليس هو مثل مَنْ يُسمى مِنْ سائر الناس , فمحمد كما يسمى به بعض الناس هذا عَلَمٌ عليه فقط , لكن بالنسبة لنبينا هو علم وصفة , فهو عَلَم دال على شخصه الكريم، ويدل على ما يتصف به من كثرة المحامد , فمحمد اسم مفعول من حُمِّد , فهو كثيرًا ما يحمد لكثرة محامده - عليه الصلاة والسلام - , وضد محمد: مذمم؛ كما يفتري المشركون ويسبون الرسول ويقولون عنه: مذمم، وهو محمد - عليه الصلاة والسلام - (¬1)، وسيأتي توضيحٌ أكثر لهذه المسألة (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه (3533) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريشٍ ولعنهم؟! يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا، وأنا محمد ". وانظر في معنى الحديث: مجموع الفتاوى (16/ 601)، والصارم المسلول (2/ 318)، وشروح الصحيح. (¬2) في صفحة (...).

فأسماء الله - إذن - أعلام وصفات , ومثل هذه يقول أهل العلم: إنها متحدة من وجه ومختلفة من وجه (¬1)، فيصح أن تقول: العزيز هو الحكيم , والحكيم هو الرحيم , ويصح أن تقول: إن العزيز غير الحكيم , والحكيم غير الرحيم؛ فهي متحدة في دلالتها على الذات , فالمسمى واحد والصفات مختلفة. والشيخ أوضح معنى كونها حسنى بما ذكره من الأسماء: كالحي والعليم والرحمن والعزيز والحكيم , فكل اسم متضمن لصفة؛ فمثلًا: الحياة هذه الصفة كاملة في حق الله لكنها في حق المخلوق حياة ناقصة مسبوقة بعدم وملحوقة بالموت , وأما حياة الرب فهي حياة كاملة؛ ولهذا نقول: إنها واجبة له تعالى " وتوكل على الحي الذي لا يموت " [الفرقان: 58] " لا تأخذه سنة ولا نوم " [البقرة: 255]. وهكذا اسمه العليم؛ فهو يدل على العلم المحيط بكل شيء من صغير وكبير مما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون. وهو - سبحانه وتعالى - الرحمن الرحيم؛ وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الوالدة بولدها. ¬

_ (¬1) انظر القاعدة الثانية من قواعد الأسماء وما ذكر هناك من مراجع، ومعتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (333).

أسماء الله - تعالى - أعلام وأوصاف

القاعدة الثانية: أسماء الله - تعالى - أعلام وأوصاف (1) أعلام باعتبار دلالتها على الذات. وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني. وهي بالاعتبار الأول: مترادفة لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله - عز وجل -. وبالاعتبار الثاني: متباينة لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص فـ (الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم)، كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله - سبحانه وتعالى - لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير ... وهكذا. وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف: 1 - لدلالة القرآن عليه؛ كما في قوله تعالى: " وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " [يونس: 107]، وقوله: " وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة " [الكهف: 58]، فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة. 2 - ولإجماع أهل اللغة والعُرْف أنه لا يقال: عليم إلا لمن له ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 206)، شرح العقيدة الأصفهانية (139 وما بعدها)، جواب الاعتراضات المصرية (ص 129)، بدائع الفوائد (1/ 285)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (105)؛ وانظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (331 مهم).

علم، ولا سميع إلا لمن له سمع، ولا بصير إلا لمن له بصر، وهذا أمر أَبْيَنُ من أن يحتاج إلى دليل. وبهذا عُلِمَ ضلالُ من سلبوا أسماء الله - تعالى - معانيها من أهل التعطيل وقالوا: إن الله - تعالى - سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة وهكذا .. وعللوا ذلك: بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء. وهذه العلة عليلة؛ بل ميتة لدلالة السمع (¬1) والعقل على بطلانها. أما السمع: فلأن الله - تعالى - وصف نفسه بأوصاف كثيرة، مع أنه الواحد الأحد، فقال تعالى: " إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ " [البروج]، وقال تعالى: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى* وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى* فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى " [الأعلى]؛ ففي هذه الآيات الكريمة أوصاف كثيرة لموصوف واحد، ولم يلزم من ثبوتها تعدد القدماء. وأما العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف، حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي مِنْ صفات مَن اتصف بها، فهي قائمة به، وكل موجود فلا بُدَّ له من تعدد صفاته، ففيه صفة الوجود، وكونه واجب الوجود، أو ممكن الوجود، وكونه عينًا قائمًا بنفسه أو وصفًا في غيره. وبهذا - أيضًا - عُلِمَ أن: (الدهر) ليس من أسماء الله - تعالى -؛ ¬

_ (¬1) قال المؤلف - رحمه الله -: السمع هو: القرآن والسنة، وسيمر بك هذا التعبير كثيرًا فانتبه له. اهـ قلت: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في جامع المسائل (المجموعة الخامسة / ص 193): وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل = هي طرق العلم.

1 - لأنه اسم جامد لا يتضمن معنى يُلحقه بالأسماء الحسنى. 2 - ولأنه اسم للوقت والزمن، قال الله - تعالى - عن منكري البعث: " وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ " [الجاثية: 24] يريدون مرور الليالي والأيام. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قال الله - عز وجل -: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" (¬1)، فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله - تعالى -؛ وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث، لا يريدون الله - تعالى -، فيكون معنى قوله: " وأنا الدهر " ما فسره بقوله: " بيدي الأمر أقلب الليل والنهار "، فهو - سبحانه - خالق الدهر وما فيه، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار، وهما الدهر، ولا يمكن أن يكون المقلِّب (بكسر اللام) هو المقلَّب (بفتحها)، وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادًا به الله - تعالى -. التعليق تقدمت الإشارة إلى أَنَّ أسماء الله متضمنة لصفات (¬2) , والأدلة على ذلك كثيرة - كما قال الشيخ - , 1 - تقدم منها قوله: (حسنى) فإن وصْفها بأنها حسنى يدل على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4826) وفي مواضع أخر، ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في صفحة (...).

أنها مشتملة على معانٍ عظيمة , ودالة على صفات كمال , إذ لو كانت ألفاظًا مجردة لا تدل على معانٍ لما كانت حسنى. 2 - أن الله - تعالى - يذكر هذه الأسماء متمدحًا بها , والاسم العَلَم الذي لا يدل على معنى لا مدح فيه , إنما المدح بما يتضمنه من المعاني. 3 - ذِكْرهُ - سبحانه - للأسماء تعليلًا لأحكامه الكونية والشرعية والجزائية دليلٌ على تضمنها لمعانٍ تناسب هذه الأحكام وأنها مقتضيةٌ لها , وهذا كثير في القرآن , اقرأ قوله - تعالى -: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " [المائدة: 38] تجده مناسبًا لما قبله من الحكم بقطع يد السارق , وبعدها: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم " [المائدة: 39]، وقبلها: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " [المائدة: 34]. ولو كانت أعلامًا محضة لا تدل على معانِ لَمَا كان لهذه الأسماء مناسبة لِمَا خُتِمَت به , ولما كان هناك فرق بين ما ذُكِرَ في الآية وبين أن تقول: إن الله يتوب على من تاب، لأنه شديد العقاب! أو بدل " والله عزيز حكيم " تقول: " إن الله لطيف خبير " , فالتذييل بهذه الأسماء لِمَا ذكره الله من أحكامه الشرعية أو الكونية أو الجزائية دليل على تضمنها لمعان , وهذا الأمر - كما قال الشيخ - أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى تطويل في البحث عن دليلٍ له. والقاعدة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله - راجعة إلى قضيةِ تَضَمُّنِ الأسماءِ للصفات (¬1) , فهي أعلام وأوصاف. أعلامٌ لدلالتها على ذات الرب , ¬

_ (¬1) شرح الرسالة التدمرية (79 - 80).

وأوصاف لدلالتها على المعاني؛ فليست أعلامًا محضة - كما تقوله المعتزلة -، وليست مجرد صفات؛ بل هي صفات وأعلام. والاسم المشتق في اللغة العربية يدل على صفة وموصوف؛ فإذا قلت: (الكاتب) دلَّ على صفة الكتابة وعلى من اتصف بها، فتدل على المعنى وتدل على من قام به ذلك المعنى؛ لكن قد يكون هذا اللفظ عَلَمًا عليه، وقد تكون مجرد إخبارٍ باتصافه بتلك الصفة. لكن أسماء الله: 1 - أعلام - يعني أسماء له دالة عليه -، 2 - وهي صفات. يقول الشيخ: إنها باعتبار دلالتها على الذات مترادفة , والمترادف هو: ما تعدد لفظه واتحد معناه , كما يذكرون في اللغة أن الأسد له عدد من الأسماء وكلها تدل على هذا الجنس , ولكن في الحقيقة أن الترادف المحض - الترادف الحقيقي - لا يكاد يوجد في اللغة؛ بل الموجود في اللغة هو هذا النوع: أسماء متحدة من وجه مختلفة من وجه؛ فأسماء السيف والأسد وأسماء الخمر عند أهل الجاهلية تدل على صفات ومعان يقصدونها , فأسماء السيف - مثلًا - متحدة من وجه، فيقال للسيف: الصارم، والمهند، والحسام، والفيصل، والبتار وغير ذلك , وكلها باعتبار أشياء تنسب إليها , فمهند نسبة للهند , وحسام باعتبار الحسم؛ وهكذا أسماء الله - تعالى - باعتبار دلالتها على الذات هو مسمى واحد، فتقول: العزيز هو: الرحيم، وهو الحكيم، وهو السميع، وهو البصير. وتقول: إن السميع غير البصير، والحي غير القيوم، واللطيف غير الخبير، والعزيز غير الحكيم باعتبار المعاني , فهي متحدة في الذات مختلفة في الصفات. فلا يقال إن أسماء الله متباينة، ولا يقال إنها مترادفة؛ بل لا بد من

التفصيل، فتقول: هي مترادفة في دلالتها على الذات، متباينة في دلالتها على الصفات؛ وهذا النوع قد يعبر عنه بالأسماء المتكافئة (¬1). وذكر شيخ الإسلام أن أسماء الرسول كذلك , فأسماء الرسول: محمد وأحمد والماحي والحاشر والبشير النذير - صلى الله عليه وسلم - هي أسماء لشخصه الكريم وهي صفات - أيضًا - فأسماء الرسول هي أعلام وصفات (¬2). فمحمد عَلَمٌ، وهو أشهر أسمائه - عليه الصلاة والسلام -، ولكنه علم وصفة , ليس علمًا محضًا كما هي حال من يُسَمَّى بهذا الاسم , لأن أصل محمد هو مَنْ كَثُرَ حَمْدُ الغيرِ له , فمحمد اسم مفعول من حُمِّد , وحُمِّد أبلغ من حُمِدَ , فالرسول - عليه الصلاة والسلام - محمد من حُمِّد يدل على كثرة حامديه وكثرة حمدهم له , لكثرة صفاته ومحامده - عليه الصلاة والسلام - فهو عَلَمٌ وصفة؛ فأسماء الله - كذلك - أعلام وصفات، هذه هي القاعدة والأمر فيها واضح - ولله الحمد والمنة -. ثم ختم الشيخ بالتنبيه على ما قيل من أنَّ (الدهر) اسم من أسماء الله، وهذا غلط؛ والصواب: أن الدهر ليس من أسماء الله (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 59)، الرد على الشاذلي (ص 122)، جامع المسائل (المجموعة الرابعة / ص 414)، شرح الرسالة التدمرية (287، 292). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 59 وَ 7/ 186، 574 وَ 13/ 9، 334، 382)، الرد على الشاذلي (ص 122)، وقال في جواب الاعتراضات المصرية (ص 131): ولهذا كان من أسماء هذا الرسول: محمد، وأحمد، والماحي ... ونحو ذلك من الأسماء التي يختصُّ هو بمعاني بعضها، ويختصُّ بكمال معاني باقيها، فليس في الرسل مَنْ يُسَمَّى بأسمائه مطلقًا، وإنْ كانَ يَشركه في بعض إطلاق بعض أسمائه عليه لمشاركته له في بعض معانيها. وانظر: شرح الرسالة التدمرية (17، 288 - 289)، شرح العقيدة الطحاوية (85). (¬3) أطال ابن تيمية - رحمه الله - الكلام في هذا في مجموع الفتاوى (2/ 491 - 495)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 124). وقد ذهب ابن حزم - رحمه الله - إلى أنَّ (الدهر) اسمٌ من أسماء الله، وجمع الدكتور محمد بن خليفة التميمي - حفظه الله - في كتابه (معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى) (ص 121 - 139) ملخصًا لثمانية عشر جمعًا للأسماء الحسنى، ولم يَنْسِب (الدهر) إلا إلى ابن حزم. وقد عزا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في المجموع (2/ 494) هذا القول إلى: نعيم بن حماد، وطائفة من أهل الحديث، والصوفية؛ وقد بحثت عن إسناد رواية نعيم فلم أعثر عليه.

وقوله في الحديث: " وأنا الدهر " لا يريد أنه نفسه هو الدهر، وأن الدهر اسم من أسمائه؛ بل يفسره قوله: " بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " فالله هو المتصرف في الزمان، هو خالق الليالي والأيام , وهو المتصرف فيها بما شاء، فكذب الذين يقولون: " وما يهلكنا إلا الدهر " [الجاثية: 24]، والله أعلم. وهنا شبهة للمعتزلة نفاة الصفات يقولون: إن إثبات عِلْمٍ قديم، وسمع قديم، وبصر قديم يستلزم تعدد القدماء، وأخص أوصاف الإِله القِدَم فيلزم من ذلك تعدد القدماء. ويقولون: القديم واحد والإله واحد، فلا يوصف بالقدم المطلق إلا واحد، فإذا أثبتنا عددًا من هذه المعاني فقد أثبتنا قدماء، فيلزم من ذلك تعدد الإله - وهذه شبهة شيطانية - (¬1). والجواب عنها - مثل ما قال الشيخ -: إن تعدد الصفات لا يستلزم تعدد الإله، لأن الإله بصفاته واحد. وقولهم هذا باطل في العقل؛ فهل يقال لمن تعددت صفاته من المخلوقات إنه أشياء كثيرة؟! فالإنسان الذي له عدة صفات هل يكون بتلك الصفات أعدادًا كثيرة؟! هو واحد بصفاته وأقل ما يقال من صفات الإنسان: شيء موجود , قائم بنفسه , ممكن , وهو بهذه المعاني شيء واحد؛ فإثبات الصفات وإن كانت قديمة لا يلزم منها تعدد الإله، لأنها تابعة له قائمة به ليست أشياء مستقلة , ولهذا حَرُمَ نداء الصفة , ونص العلماء على أنه لا يجوز أن تقول: يا رحمة الله، يا ¬

_ (¬1) انظر: شرح الرسالة التدمرية (338 وما بعدها).

عزة الله، يا قدرة الله (¬1)؛ لأن هذا يقتضي أن رحمة الله شيء قائم بنفسه يسمع ويخاطَب ويدعا ويرجى؛ بل يقال: يا الله أسألك برحمتك , فيجعل الرحمة وسيلة , ويتوسل إلى الله بصفته - والله أعلم -. ¬

_ (¬1) ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - كما في تلخيص الاستغاثة (ص 80) إلى كفر من دعا صفات الله وكلماته، وذكر أنَّ هذا باتفاق المسلمين. وقد سئل الشارح - حفظه الله - السؤال الآتي: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث". فهل يجوز الاستغاثة بصفات الله، ودعاؤه بصفاته كما ورد في هذا الحديث؟ فأجاب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " برحمتك أستغيث " هذا من قبيل التوسل لا من قبيل دعاء الصفة، مثل: أسألك يا الله برحمتك، وفي دعاء الاستخارة: " أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك " صحيح البخاري (1166)، ومثله الاستعاذة بالصفة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك " صحيح مسلم (486)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ بكلمات الله التامات " صحيح مسلم (2708). كل هذا من نوع التوسل إلى الله بصفاته، وهو من التوسل المشروع، وأما دعاء الصفة فلم يرد في الأدعية المأثورة، ولا يمكن أن يكون مشروعًا؛ لأن دعاء الصفة كقولك: يا رحمة الله، يا عزة الله، يا قوة الله. تقتضي أن الصفة شيء مستقل منفصل عن الله يسمع ويجيب، فمن اعتقد ذلك فهو كافر، بل صفات الله قائمة به، وليس شيء منها إله يدعى، بل الله بصفاته إله واحد، وهو المدعو والمرجو والمعبود وحده لا إله إلا هو؛ والله أعلم. المصدر: http://albarrak.islamlight.net/index.php?option=com_ftawa&task=view&id=30938&catid=&Itemid=35 وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة (...)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/ 164 - 165).

أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعد، تضمنت ثلاثة أمور (1): أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله - عز وجل -. الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله - عز وجل -. الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.

القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعد، تضمنت ثلاثة أمور (1): أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله - عز وجل -. الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله - عز وجل -. الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها. ولهذا استدل أهل العلم على سقوط الحد عن قطاع الطريق بالتوبة، استدلوا على ذلك بقوله تعالى: " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [المائدة: 34]؛ لأن مقتضى هذين الاسمين أن يكون الله - تعالى - قد غفر لهم ذنوبهم، ورحمهم بإسقاط الحدِّ عنهم. * مثال ذلك: (السميع) يتضمن إثبات السميع اسمًا لله - تعالى -، وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه وهو: أنه يسمع السر والنجوى؛ كما قال تعالى: " وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " [المجادلة]. وإن دلت على وصف غير متعد تضمنت أمرين: أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله - عز وجل -. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (36/ 95)، جامع الرسائل (المجموعة الثانية / 22)، بدائع الفوائد (1/ 286).

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله - عز وجل -. * مثال ذلك: (الحي) يتضمن إثبات الحي اسمًا لله - عز وجل -، وإثبات الحياة صفة له. التعليق الفعل والوصف تارة يتعدى إلى معمول، وتارة يكون لازمًا لا يتعدى إلى معمول. قال الشيخ: مثل (الحي)؛ فالحي ليس فيه الحي على كذا أو الحي في كذا , فالحي إنما يدل على الاسم وصفة الحياة فقط , وهكذا العزيز والحكيم ليس فيه تعدٍ , وكذلك القدوس والسلام. والمتعدي هو الذي يكون له معمول سواءً تعدى إليه بنفسه أو بحرفٍ مثل: سميع يدل على مسموع فيدل على: 1 - الاسم. 2 - والصفة. 3 - وثبوت السمع؛ أي: أنه تعالى يسمع الأصوات. وكذلك الغفور يدل على: 1 - الاسم. 2 - والوصف. 3 - ويدل على حصول المغفرة للمذنبين. ومثل هذا: (الخالق أو الخلاق)، (والرازق والرزاق) كلها من الأوصاف المتعدية , بخلاف (القوي) فهو مثل (الحي).

دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام

القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام (1). * مثال ذلك: (الخالق) يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة. ويدل على الذات وحدها، وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن. ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام. ولهذا لما ذكر الله خلق السموات والأرض قال: " لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً " [الطلاق: 12]. ودلالة الالتزام مفيدة جدًا لطالب العلم إذا تَدَبَّرَ المعنى ووَفَّقَهُ الله - تعالى - فهمًا للتلازم، فإنه بذلك يحصل من الدليل الواحد على مسائل كثيرة. واعلم أن اللازم من قول الله - تعالى - وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صَحَّ أن يكون لازمًا فهو حق؛ وذلك: 1 - لأن كلام الله ورسوله حق، ولازم الحق حق. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (7/ 185 وَ 10/ 254 وَ 13/ 333 - 336، 383)، وبدائع الفوائد (1/ 285). وانظر لأقسام الدلالات اللفظية: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (19)، وضوابط المعرفة (27) وغيرها من كتب علم أصول الفقه والمنطق.

2 - ولأن الله - تعالى - عالم بما يكون لازمًا من كلامه وكلام رسوله فيكون مرادًا. وأما اللازم من قول أحدٍ سوى قول الله ورسوله، فله ثلاث حالات: الأولى: أَنْ يُذْكَرَ للقائل ويلتزم به؛ مثل أن يقول مَنْ ينفي الصفات الفعلية لمن يثبتها: يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله - عز وجل - أن يكون من أفعاله ما هو حادث. فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك؛ فإن الله - تعالى - لم يزل ولا يزال فعالًا لما يريد، ولا نفاد لأقواله وأفعاله؛ كما قال تعالى: " قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً " [الكهف: 109]. وقال: " وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [لقمان: 27]. وحدوث آحاد فعله - تعالى - لا يستلزم نقصًا في حقه. الحال الثانية: أَنْ يُذْكَرَ له ويَمْنَع التلازم بينه وبين قوله؛ مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله - تعالى - مشابهًا للخلق في صفاته. فيقول المثبت: لا يلزم ذلك، لأن صفات الخالق مضافة إليه لم تذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك أيها النافي للصفات تثبت لله - تعالى - ذاتًا وتمنع أن يكون مشابهًا للخلق في ذاته، فأي فرق بين الذات والصفات؟!. وحكم اللازم في هاتين الحالتين ظاهر. الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتًا عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع؛ فحكمه في هذه الحال ألا ينسب إلى القائل،

1 - لأنه يَحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم. 2 - ويَحتمل لو ذكر له فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله؛ لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم. ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول. فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازمًا من قوله، لزم أن يكون قولًا له، لأن ذلك هو الأصل، لاسيما مع قرب التلازم. قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر، وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل، أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه، ونحو ذلك (¬1). التعليق هذه القاعدة مبنية على أنواع الدلالة. وهي تارة تكون بالمطابقة وهي: دلالة اللفظ على كل معناه. ودلالة التضمن هي: دلالة اللفظ على بعض معناه. أما دلالته على أمر خارج عنه؛ فهذه دلالة التزام. مثال ذلك: (البيت) يدل على كل تركيباته دلالة مطابقة. ويدل على الأبواب دلالة تضمن، فإذا ذكر البيت نفهم أن فيه أبوابًا، وأن فيه حيطانًا فدلالته على وجود الحيطان والأبواب دلالة تضمن. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (20/ 217 مهم، وَ 35/ 288)، القواعد الكلية (254، 515).

أما دلالته على أمر خارج عنه، فهذه دلالة التزام؛ كدلالته على الباني، لأنَّ هذا البناء لابد له من بانٍ. وهكذا كل فعل فإنه يستلزم فاعلًا , وكذلك المفعول يستلزم فاعلًا. وهكذا أسماء الله تدل على ذات الرب وصفاته بالمطابقة. وعلى أحدهما بالتضمن. وعلى معنى آخر باللزوم. ومَثَّلَ الشيخ لهذا بالخالق. ثم استطرد الشيخ فتكلم عن مسألة اللزوم، ومن القواعد: أن لازم الحق حق، ولازم الباطل باطل؛ فما يلزم من كلام الله وكلام رسوله فهو لازم، وهو مراد لهما؛ لأن الله عالم بما يلزم من كلامه ومن كلام رسوله. أما المخلوق فعلى التفصيل الذي ذكره الشيخ (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح الرسالة التدمرية (378).

أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها

القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها (1): وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ 1 - لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه - تعالى - من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، لقوله تعالى: " وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " [الإسراء: 36]. وقوله: " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ " [الأعراف: 33]. 2 - ولأن تسميته - تعالى - بما لم يُسَمِّ بِهِ نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص. التعليق ذكر الشيخ - رحمه الله - من القواعد: أن أسماء الله توقيفية؛ وأنه يجب الوقوف فيها على ما جاء في الكتاب والسنة فلا يزاد فيها ولا ينقص. وهذا يجب أن يكون في الأسماء والصفات؛ فأسماء الله وصفاته ¬

_ (¬1) نقض الدارمي (1/ 177)، بدائع الفوائد (1/ 285)، شرح الرسالة التدمرية (51 وما بعدها)؛ وانظر: أسماء الله الحسنى للغصن (57).

توقيفية فلا يسمى ولا يوصف إلا بما سمى به نفسه وسماه به رسوله , وبما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ فالباب واحد في الأسماء والصفات (¬1). فمن وصف الله بما لم يصف به نفسه كان ذلك من القول على الله بلا علم , فلا يوصف تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث. ويعبر عن الأسماء بالصفات - أيضًا - لأن كل اسم متضمن لصفة - كما تقدم (¬2) - , فتقول مثلًا: إن الله وصف نفسه بأنه غفور، وأنه كريم، وأنه غني، وأنه فتّاح؛ ويجوز أن تقول: إنه سمى نفسه غفورًا كريمًا غنيًا فتاحًا , لاشتمال اللفظ على الاسم والصفة. والله - تعالى - أخبر بأن له الأسماء الحسنى، وذكر في القرآن كثيرًا من أسمائه، وجاءت السنة بأن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، ولم تُحَدَّد هذه الأسماء في روايات صحيحة (¬3)، ولهذا كثرت مناهج العلماء في تعداد الأسماء وتقصيها. والذي يقتضيه منهج أهل العلم: أن كل اسم أضيف إلى الله فإنه من أسمائه - والاسم: ما يدل على الذات، ولكنه في حق الله يدل على الذات والصفات -؛ فالسميع اسم والسمع صفة، ويصح أن تقول: السميع صفة، كأن تقول: إن الله وصف نفسه بأنه سميع باعتبار ما يتضمنه من الوصف، وهكذا قل في بقية الأسماء الحسنى (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر المصنف - رحمه الله - في قواعد الصفات: القاعدة السابعة: صفات الله - تعالى - توقيفية لا مجال للعقل فيها. (¬2) في صفحة (...). (¬3) سيأتي في صفحة (...) تخريج الحديث، وكلام أهل العلم عن الروايات التي فيها زيادة سرد الأسماء. (¬4) وانظر مناهج العلماء في تعيين الأسماء الحسنى في: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (73 وما بعدها)، وأسماء الله الحسنى للغصن (135).

والله - تعالى - يقول: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " [الأعراف: 180] يعني: سموه بها وادعوه متوسلين بأسمائه مثل: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، فكل لفظ جاء إطلاقه على الله فإنك تدعو به , لكن لكل مقام ما يناسبه فإن نداءه - تعالى - بأسمائه يتضمن التوسل مثل: يا حي يا قيوم، وهذان الاسمان جامعان , وتقول: يا غفور اغفر لي , يا رحمن يا رحيم ارحمني , فهذا فيه نوع توسل , أو تقول: يا الله إنك أنت الرزاق ارزقني كذا وكذا , ومثل: أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك , ومثل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم أخذًا من قوله: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " [فصلت: 36]. وأسماء الله منها مالا يطلق على غيره البتة (¬1) , مثل: الله؛ فهو أعرف المعارف، وأخص أسماء الرب - تعالى - به , وقريب منه: الرحمن؛ ولهذا جاء في الحديث: " أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن " (¬2) فهذان الاسمان هما أخص أسمائه - تعالى - به. ومثل: رب العالمين؛ فلا يطلق هذا الاسم على أحد , ويقال: إنه من أخص أسمائه سبحانه خلافًا للذين قالوا: إن أخص أوصاف الإله: القِدَم. وهكذا الأسماء الأخرى منها مالا يكاد يطلق على غيره , مثل: القدوس، والقيوم. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (1/ 289). (¬2) أخرجه أبو داود (4949)، والترمذي (2833)، وابن ماجه (3728) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. والحديث في مسلم (2132) بلفظ: " إنَّ أحبَّ أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن ".

ومثل الألفاظ التي فيها التفضيل المطلق: كخير الراحمين، والغافرين، والرازقين، والناصرين؛ فكل هذه مختصة بالله , فتقول: يا خير الراحمين، ويا خير الغافرين تارة كذا , وتارة تقول: اللهم أنت خير الراحمين، واللهم أنت خير الغافرين. " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " [الأعراف: 155] (¬1). ومن القواعد: أنه لا يشتق لله من كل صفة أو فعل اسم (¬2) , فلا يقال: إنه الغاضب، أو الغضبان، أو الراضي؛ كما أنه من باب أولى: لا يشتق له من فعل المكر ماكر , لكنه خير الماكرين , وهكذا مُدَمْدِم من " فدمدم عليهم ربهم " [الشمس: 14]، ومدمِّر من " فدمرناها تدميرا " [الإسراء: 16] , فلا يشتق لله - تعالى - من هذه أسماء. لكن بعض الأفعال يمكن أن يكون الأمر فيها أوسع مثل: المنعم؛ فقد يقال: إنه صحيح , لأنه من معنى الرب، فالرب هو المنعم، ومن معانيه المنعم، فيتضمن أنه المنعم مطلقًا بجميع النعم (¬3). ¬

_ (¬1) فائدة: قال ابن القيم في (الفوائد) (26): والأسماء المذكورة في هذه السورة - أي: سورة الفاتحة - هي أصول الأسماء الحسنى، وهي (الله) و (الرب) و (الرحمن)؛ فاسم (الله) متضمن لصفات الألوهية، واسم (الرب) متضمن لصفات الربوبية، واسم (الرحمن) متضمن لصفات الإحسان والجود والبر؛ ومعاني أسمائه تدور على هذا. (¬2) طريق الهجرتين (2/ 719)، بدائع الفوائد (1/ 284 - 286). (¬3) واختار هذا الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - كما في السؤال الثاني من (ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين) للدكتور أحمد القاضي - حفظه الله -. المصدر: http://www.al-aqidah.com/?aid=show&uid=f 20 dmlbz وقد عدَّ (المنعم) من أسماء الله: جعفر الصادق، وابن منده. انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (254).

والمحسن؛ قد ورد في بعض الأحاديث (¬1) , وهو من جنس المنعم , فالمحسن مطلقًا هو الله - تعالى - , فهو المنعم بجميع النعم، وهو المحسن إلى عباده بكل أنواع الإحسان. وبهذا الاعتبار تكون الأسماء كثيرة جدًا فيدخل في ذلك الرفيق " إن الله رفيق " (¬2)، والجميل (¬3)، والمسعر: " إن الله هو المسعر، القابض، ¬

_ (¬1) جاء ذكر المحسن في أربعة أحاديث: الأول: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا؛ فإن الله محسنٌ يحب المحسنين ". أخرجه ابن أبي عاصم في الديات (ص 52)، وابن عدي في الكامل (6/ 133)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 76 وَ 7/ 38). الحديث الثاني: عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتين، قال: " إن الله محسن، يحب الإحسان إلى كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتل ... ". أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8603)، وإسماعيل القاضي في جزء أحاديث أيوب (رقم 36) وقال: إسناده كلهم ثقات ما عدا الحماني. الحديث الثالث: عن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعًا بمثل حديث شداد. أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2689). الحديث الرابع: عن سمرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: " إن الله - عز وجل - محسنٌ؛ فأحسنوا ... ". أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 426). وانظر: العلل لابن أبي حاتم (4/ 518 / مسألة: 1609)، والإرواء (7/ 293)، والصحيحة (470). وقد عدَّ (المحسن) من أسماء الله: القرطبي، وابن القيم، وابن عثيمين - رحمهم الله -. انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (165)، والفوائد العلمية من الدروس البازية (2/ 20). (¬2) أخرجه البخاري (6927) وفي مواضع أُخَر، ومسلم (2593) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر ". قال رجل: إنَّ الرجلَ يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً. قال: " إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ". أخرجه مسلم في صحيحه (91). وانظر لبيان معاني هذا الحديث: الفوائد، لابن قيم الجوزية (264 وما بعدها)، وقال في (271): والمقصود: أنَّ هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين؛ فأوَّلُهُ معرفة، وآخره سلوك؛ فيعرف الله - سبحانه - بالجمال الذي لا يماثله فيه شيءٌ، ويعبد بالجمال الذي يُحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق ...

الباسط، الرازق " (¬1) فهو الرازق وهو الرزّاق، وهو أسرع الحاسبين. وللعلماء كلام كثير في الأسماء ومصنفات وشروح وتوسعات، ومنها هذا الكتاب، فإنه ضمنه سردَ الأسماء الحسنى، وسيأتي ذكرها في المتن - إن شاء الله -. والجهمية والمعطلة: نفوا أسماءه - تعالى -، والمعتزلة: نفوا ما تدل عليه من المعاني؛ وكل ذلك تعطيل، وهو من جملة الأباطيل والقول المبني على الأوهام والظنون الكاذبة. وقول الشيخ: (جناية في حقه تعالى) التعبير بجناية عندي فيه شيء؛ لكن يمكن أن يقال: الممتنع أن يقال: جَنَى على الله؛ فهذا لا يجوز، وهذا مثل أن يقال: هذا ظلم لله وإساءة إلى الله , لكن قوله: (جناية في حقه تعالى) يعني جناية من العبد على نفسه في حق الله , فالعبد العاصي إنما يجني على نفسه " ومن أساء فعليها " [فصلت: 46]. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين

القاعدة السادسة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد مُعَيَّن (¬1): لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ". الحديث رواه أحمد وابن حبان والحاكم (¬2)، وهو صحيح. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (22/ 482)، بدائع الفوائد (1/ 293)؛ بل حكى النووي في شرح مسلم (17/ 5) الاتفاق على أن أسماء الله ليست محصورة؛ وحكاية الإجماع فيها نظر، وقد نقل هذا القول ابن تيمية - كما في المجموع (6/ 381) - وعزاه إلى جماهير أهل العلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في المستدرك على المجموع (1/ 43): ترتيب أسماء الله - سبحانه وتعالى - الظاهرة نحو: مائة وخمسين اسمًا موجودة في كتاب الله: مفردةً، ومقرونة، ومضافة، ومشبهة بالمضافة؛ فأما الموصولة المضمرة فأكثر من أن تحصى! وكذلك ما قد يشتق من الأفعال المذكورة في القرآن. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 246 / ح 3712)، وابن حبان في صحيحه (972)، والحاكم في المستدرك (1877) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سَلِمَ من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، فإنه مختلف في سماعه عن أبيه. اهـ. وقد اختلف في ثبوته؛ فانظر مبحثًا في تضعيفه في تخريج الحديث في المسند، ومبحثًا في ثبوته في تخريج الشيخ ياسر فتحي على كتاب (الذكر والدعاء ...) (ص 364)، والصحيحة (رقم 199). وانظر كلامًا للشارح في بيان معنى الحديث والتعليق عليه في شرح الرسالة التدمرية (283 - 285).

وما استأثر الله - تعالى - به في علم الغيب لا يمكن لأحدٍ حصره، ولا الإحاطة به. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها (¬1) دخل الجنة " (¬2)، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: " إن أسماء الله تسعة وتسعون اسمًا، من أحصاها دخل الجنة " أو نحو ذلك. إذن؛ فمعنى الحديث: أَنَّ هذا العدد من شأنه أَنَّ مَنْ أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله: " من أحصاها دخل الجنة " جملة مُكَمِّلَة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة. ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (6/ 383 من مجموع ابن قاسم (¬3): تعيينها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وقال قبل ذلك (ص 379) (¬4): إن الوليد ذكرها عن بعض ¬

_ (¬1) قال المؤلف: إحصاؤها: حفظها لفظًا، وفهمها معنًى؛ وتمامه: أن يتعبد الله - تعالى - بمقتضاها. (¬2) أخرجه البخاري (2736) وفي مواضع أخر، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وانظر: جزءًا في بيان طرق حديث: " إن لله تسعًا وتسعين اسمًا " لأبي نعيم الأصبهاني، وتعليق الشيخ مشهور آل سلمان عليه، وأسماء الله الحسنى للغصن (149 وما بعدها). (¬3) هذا الكلام يوجد في (6/ 382). (¬4) وقال في هذه الصفحة: وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنَّ هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كلٌّ منهما من كلام بعض السلف ... .

شيوخه الشاميين، كما جاء مفسرًا في بعض طرق حديثه. اهـ. وقال ابن حجر في فتح الباري (11/ 215 ط السلفية): ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم)، تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه واحتمال الإدراج. اهـ. ولَمَّا لم يَصِحَّ تعيينها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلف السلف فيه، وروي عنهم في ذلك أنواع. وقد جمعت تسعة وتسعين اسمًا مما ظهر لي من كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فمن كتاب الله - تعالى -: الله، الأحد، الأعلى، الأكرم، الإله، الأول، والآخر، والظاهر، والباطن (¬1)، البارئ، البر، البصير، التواب، الجبار، الحافظ، الحسيب، الحفيظ، الحفي، الحق، المبين، الحكيم، الحليم، الحميد، الحي، القيوم، الخبير، الخالق، الخلاق، الرءوف، الرحمن، الرحيم، الرزاق، الرقيب، السلام، السميع، الشاكر، الشكور، الشهيد، الصمد، العالم، العزيز، العظيم، العليم، العلي، الغفار، الغفور، الغني، الفتاح، القادر، القاهر، القدوس، القدير، القريب، القوي، القهار، الكبير، الكريم، اللطيف، المؤمن، المتعالي، المتكبر، المتين، المجيب، المجيد، المحيط، المصور، المقتدر، المقيت، الملك، المليك، المولى، المهيمن، النصير، الواحد، الوارث، الواسع، الودود، الوكيل، الولي، الوهاب، العفو (¬2). ¬

_ (¬1) خالف المؤلف في ترتيب الأسماء على الحروف مراعاةً للآية. (¬2) تأخر اسمه - سبحانه - (العفو) إلى آخر الأسماء المستخرجة من القرآن، وكان حَقُّه على ترتيب الشيخ بعد (العظيم)؛ ولعل الشيخ - رحمه الله - أَخَّرَهُ تفاؤلًا برحمة الله للكاتب والقارئ.

ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجميل، الجواد، الحكم، الحيي، الرب، الرفيق، السبوح، السيد، الشافي، الطيب، القابض، الباسط، المقدم، المؤخر، المحسن، المعطي، المنان، الوتر. هذا ما اخترناه بالتتبع؛ واحد وثمانون اسمًا في كتاب الله - تعالى -، وثمانية عشر اسمًا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان عندنا تردد في إدخال (الحفي)؛ لأنه إنما ورد مقيدًا في قوله تعالى عن إبراهيم: " إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً " [مريم: 47]. وما اخترناه فهو حسب علمنا وفهمنا، وفوق كل ذي علم عليم حتى يصل ذلك إلى عالم الغيب والشهادة ومن هو بكل شيء عليم (¬1). التعليق هذه قاعدة يقول فيها الشيخ: إن أسماء الله ليست محصورة بعدد , كأن يقال: إن أسماء الله مائة أو ألف , لا , فأسماء الله كثيرة؛ فمنها ما اختص بعلمه وطوى علمه عن العباد , ومنها ما أنزله في بعض كتبه التي أنزلها على رسله , ومنها ما علمه لبعض عباده من الملائكة والنبيين وغيرهم , وفي كتاب الله من ذلك ما ليس في غيره من كتبه المنزلة. والله يذكِّر بأسمائه في آيات كثيرة , يختم بها الآيات , مثل: " غفور ¬

_ (¬1) قال المؤلف: لم نذكر الأسماء المضافة مثل: رب العالمين، وعالم الغيب والشهادة، وبديع السموات والأرض، وهي كثيرة؛ لأنه لم يتبين لنا أنها مرادة، والعلم عند الله - تعالى -.

رحيم " , " العليم الحكيم " , " العزيز الحكيم " , " العزيز الرحيم " , " اللطيف الخبير " , " الغني الحميد " , ويذكر في بعض المواضع اسمًا واحدًا وفي مواضع يقرن بين اسمين , وفي بعض الآيات سرد لعدد منها كآيات آخر سورة الحشر فقد تضمنت أربعة عشر اسمًا من أسمائه - سبحانه وتعالى - , وليس لها نظير في سائر سور القرآن , والله - تعالى - كثيرًا ما يذكر أسماءه متفرقة في نهاية الآيات (¬1). ثم يذكر الشيخ ما قد يظنه بعض الناس دليلًا على الحصر وهو حديث: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة " (¬2) فقد يظن بعض الناس أنَّ أسماء الله تسعة وتسعون، وليس كذلك , فهذه الصيغة لا تدل على الحصر , لو كان الحديث: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا " وسكت، فربما دل على الحصر , ولكن جاءت هذه الأسماء موصوفة بقوله: " من أحصاها دخل الجنة ". وجملة (من أحصاها دخل الجنة) إما أن تكون: 1 - صفة للأسماء وهو أظهر. 2 - وإما أن تكون خبرًا , بمعنى: إن لله تسعة وتسعين اسمًا من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. ولنضرب على هذا مثلًا - وهو كلام يعقله أهل اللسان -: فإذا قال قائل: عندي مائة فرس أعددتها للجهاد , فلا يدل على أنه ليس عنده سواها , أو عندي مائة درهم جعلتها صدقة لا ينفي أن يكون عنده غيرها. ولم يصح عن النبي - عليه الصلاة والسلام - تعيين هذه الأسماء , وجاء في بعض روايات هذا الحديث: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا ¬

_ (¬1) وذكر في شرح الرسالة التدمرية (ص 285) أنَّ أكثر الأسماء التي عَلَّمَنَا الله - تعالى - هي في القرآن. (¬2) سبق تخريجه قريبًا في صفحة (...).

واحدًا من أحصاها دخل الجنة "، وسَرَد ما في سورة الحشر وأتبعها بأسماء كثيرة حتى بلغت تسعة وتسعين اسمًا , لكن المحققين من أهل الشأن قالوا: إن هذا ليس بصحيح؛ بل هو كلام مدرج , وهي مأخوذة من القرآن , وبعضها من الحديث , وبعضها لا إشكال فيه , وبعضها فيه إشكال في عَدِّه من الأسماء , وبناء على هذا اجتهد جمع من أهل العلم في جمع أسماء الله من القرآن والحديث , وعنوا - أيضًا - بشرح الأسماء , ومن مقاصد الشيخ في هذه الرسالة - أيضًا - جمع ما ظهر له من القرآن والسنة - كما ذكر - , ومع ذلك يبقى الأمر كما هو , ومن جمع شيئًا منها لا يمكن الجزم بأن هذه هي الأسماء التي عناها النبي - صلى الله عليه وسلم - , فهذا لا يجوز. والشيخ - رحمه الله - لم يتوجه له ذكر الأسماء المركبة مثل: أسرع الحاسبين، ورب العالمين، وخير الرازقين، وخير الناصرين، وأرحم الراحمين وما أشبه ذلك , والظاهر: أنها أظهر في الدلالة على الرب - سبحانه وتعالى - من بعض الأسماء المفردة , فتجد كثيرًا من الأسماء المفردة يسمى بها بعض المخلوقات , لكن أرحم الراحمين، ذو الجلال والإكرام، خير الغافرين هذه لا تطلق إلا على الله وحده (¬1). والشيخ رتب ما ذكره من الأسماء على حروف الهجاء فبدأ بالهمزة (الله , الأحد , الأعلى ...)، وهذا المنهج الذي اختاره الشيخ قد يكون غيره أولى منه , فجمْع الأسماء المتناسبة كـ (العلي والأعلى) أولى من تفريقها من وجه. أما اسمه (الله) فهو أخص الأسماء به وأجمع الأسماء , والصحيح: أنه مشتق أي أن له دلالة , فهو اسم وصفة , فهو ذو الألوهية ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (22/ 485).

- كما روي عن ابن عباس (¬1) - , ولهذا يقال: إن أصل (الله) الإله، حذفت الهمزة وأدغمت اللام في اللام مع التفخيم فصارت الله , وهذا الاسم تنبني عليه كل الأسماء ويخبر بها عنه , فتقول: الله الرحمن , الله الرحيم , الله الكريم , وهكذا تأتي الأسماء الأخرى تابعة إما صفة وإما خبرًا. والأحد: لم يرد إلا في سورة الإخلاص: " قل هو الله أحد " [الإخلاص] (¬2). والحفي: توقف فيه المؤلف في آخر كلامه، واسم الحفي ما جاء صفةً لله إلا في كلام إبراهيم: " إنه كان بي حفيا " [مريم: 47]، والصحيح: أنه ليس اسمًا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (1/ 121)، وقال السيوطي في التدريب (1/ 65): وبشر ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس. (¬2) أخرج أبو داود في سننه (985)، والنسائي (1301) وغيرهما عن عبد الوارث، قال: حدثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن حنظلة بن علي: أنَّ محجن بن الأدرع حدثه قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا هو برجلٍ قد قضى صلاته وهو يتشهد، وهو يقول: اللهم إني أسألك يا الله، الأحد أحمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد: أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنتَ الغفور الرحيم. قال: " قد غُفِرَ له، قد غُفِرَ له " ثلاثًا. وقد اختلف فيه على ابن بريدة؛ والصواب: رواية عبد الوارث المذكورة؛ كما قرر ذلك: أبو حاتم في العلل (5/ 416 / ح 2082) حيث قال: حديث عبد الوارث أشبه. انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 49)، شرح العقيدة الطحاوية (140). (¬3) عدَّ (الحفي) من أسماء الله كلٌ من: ابن العربي، والقرطبي، وابن حجر، وابن الوزير، وغيرهم. انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (ص 175) للدكتور: محمد التميمي.

والمبين: ليس واضحًا أنه اسم , فهو صفة تابعة للحق (¬1). والقادر: لم يأتِ في القرآن هكذا، لكن الذي جاء: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم " الآية [الأنعام: 65] فليس واضحًا اعتباره اسمًا (¬2). وأما القابض الباسط: فاعتبارهما اسمين فيه تأمل، فقد تكون هذه من الأسماء المزدوجة مثلما عدوا الخافض الرافع، النافع الضار (¬3). والإحصاء: يكون بإحصاء ألفاظها ومعانيها والعمل بمقتضاها، هذا هو كمال الإحصاء (¬4)؛ فالإحصاء مراتب , إحصاؤها بمعرفة ألفاظها ¬

_ (¬1) عَدَّ (المبين) من أسماء الله كلٌّ من: جعفر الصادق، وابن عيينة، والخطابي، وابن منده، والحَليمي، والبيهقي، وابن حزم، والأصبهاني، وابن العربي، وابن القيم، وابن الوزير، وابن حجر. انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الحسنى (ص 164). (¬2) عَدَّ (القادر) من أسماء الله كلٌّ من: ابن عيينة، والخطابي، وابن منده، والحَليمي، والبيهقي، والأصبهاني، وابن العربي، وابن القيم، وابن الوزير، وابن حجر، وغيرهم. انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى (ص 182). (¬3) انظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الحسنى (ص 143 وَ 160). (¬4) اختلف أهل العلم في معنى (الإحصاء) الوارد في الحديث على أقوال؛ انظر في بيانها ومَنْ قالَ بها: المُجَلَّى في شرح القواعد المثلى (ص 136). قال ابن القيم - رحمه الله - في البدائع (1/ 288) مبيِّنًا مراتب الإحصاء: المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها، وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها. المرتبة الثالثة: دعاؤه بها؛ كما قال تعالى: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " [الأعراف: 180]. وهو مرتبتان: أحدهما: دعاء ثناء وعبادة. والثاني: دعاء طلب ومسألة ...

ومعرفة معانيها , ثم لهذه المعرفة أثر فإذا علم الإنسان أن الله سميع بصير فهذا يقتضي أن يراقب ربه في كلامه وفي حركاته لأنه يعلم أن الله سميع يسمعه وبصير يراه، فليس المقصود مجرد المعرفة، لكن المقصود من العلم العمل , فلا يكفي حفظها فقط، ولكن حفظها حسن فتعرف أنه - تعالى - السميع البصير الملك القدوس، وهو الغفور الرحيم، وهو الغني الحميد، وهو اللطيف الخبير , ولا يشرع حفظها بمعنى اتخاذها ذكرًا - كما يفعله بعض الناس - (¬1). فمعرفة هذه الأسماء هي من أسباب دخول الجنة، وإذا كان كذلك، فهي من جنس أحاديث الوعد من فعل كذا دخل الجنة فهي سبب من الأسباب , لكن لا يعني هذا أنه يكفي ويجزئ الاقتصار على هذا السبب. ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في عدة الصابرين (85): والرب - تعالى - يحبُّ أسماءه وصفاته، ويحب مقتضى صفاته، وظهور آثارها على العبد، فإنه جميل يحب الجمال، عفوٌ يحب أهل العفو، كريمٌ يحب أهل الكرم، عليمٌ يحب أهل العلم، وِتْرٌ يحب الوتر، قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، صبورٌ يحب الصابرين، محسن يحب المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين؛ فإذا كان - سبحانه - يحبُّ المتصفين بآثار صفاته = فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف. وانظر: الرد على الشاذلي (ص 95 وما بعدها)، وكتاب (ولله الأسماء الحسنى) للجليل، وخاصةً ما ورد في الفصل الرابع (ص 793 وما بعدها) فهو مما تميز به الكتاب.

الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها

القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها (1). وهو أنواع: الأول: أن ينكر شيئًا منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام؛ كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وإنما كان ذلك إلحادًا لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها. الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين؛ كما فعل أهل التشبيه، وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص؛ بل هي دالة على بطلانه، فَجَعْلُهَا دالةً عليه ميلٌ بها عما يجب فيها. الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يُسَمِّ به نفسه؛ كتسمية النصارى له: (الأب)، وتسمية الفلاسفة إياه (العلة الفاعلة)، وذلك لأن أسماء الله - تعالى - توقيفية، فتسمية الله - تعالى - بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة ينزه الله - تعالى - عنها. ¬

_ (¬1) جامع الرسائل (1/ 171)، بدائع الفوائد (1/ 297)، شرح الرسالة التدمرية (51، 55 - 61)؛ وانظر: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الحسنى (379)، وأسماء الله الحسنى للغصن (107).

الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام؛ كما فعل المشركون في اشتقاق العُزَّى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله، على أحد القولين، فسموا بها أصنامهم؛ وذلك لأن أسماء الله - تعالى - مختصة به، لقوله تعالى: " وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " [الأعراف: 180]. وقوله: " اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأسماء الْحُسْنَى " [طه: 8]. وقوله: " لَهُ الأسماء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض " [الحشر: 24]. فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحق، وبأنه يُسَبِّحُ له ما في السموات والأرض فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله - عز وجل - ميلٌ بها عما يجب فيها. والإلحاد بجميع أنواعه محرم؛ لأن الله - تعالى - هَدَّدَ الملحدين بقوله: " وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الأعراف: 180]. ومنه ما يكون شركًا أو كفرًا، حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية. التعليق هذه القاعدة في تحريم الإلحاد في أسماء الله؛ فالإلحاد في أسماء الله محرم، وهو يتفاوت - كما أشار الشيخ في آخر كلامه -. وأصل معنى الإلحاد هو: الميل، فمادة (لَ حَ دَ) تدل على الميل , قالوا: ومنه سمي اللحد - وهو: الشق الذي في جانب القبر - لأنه مائل عن سمت الحفرة , ومنه: الملتحد، وهو ما يلجأ إليه الخائف " ولن أجد من دونه ملتحدا " [الجن: 22] (¬1). ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة (5/ 236)، القاموس (404)، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب (737).

وجماع معنى الإلحاد في أسماء الله: الميل بها عن الحق الذي يجب اعتقاده. والإلحاد أنواع؛ وهذا التقسيم الذي ذكره الشيخ - رحمه الله - موجود في كلام ابن القيم في البدائع (¬1) وغيرها. فالنوع الأول من أنواع الإلحاد في أسماء الله - سبحانه وتعالى -: جحدها وإنكارها؛ كإلحاد الجهمية، ثم إنه يتجزأ: 1 - فالجهمية: نفوا جميع أسماء الله - ولاسيما الغلاة -؛ فبلغوا الغاية في الإلحاد فجحدوا معانيها وجعلوها أسماء لبعض مخلوقاته , وقالوا: إن إطلاقها على الله مجاز وهي أسماء لبعض مخلوقاته. 2 - وقد يقع هذا النوع من الإلحاد في بعضها؛ كما قال الله - تعالى - عن المشركين: " وهم يكفرون بالرحمن " [الرعد: 30]. والنوع الثاني من أنواع الإلحاد: نفي معانيها؛ كإلحاد المعتزلة فهم يثبتون الأسماء أعلامًا دالةً على ذات الرب، لكنهم يجحدون معانيها فيجعلونها ألفاظًا مترادفة , فعندهم أن أسماء الله أعلام محضة مترادفة لا تدل على معانٍ. والنوع الثالث من أنواع الإلحاد: إلحادُ المُشَبِّهَةِ؛ حيث أثبتوا أسماء الله، وزعموا أنها تدل على صفاتٍ كصفات المخلوقين , وهذا باطل؛ فأسماء الله تدل على معان مختصة بالرب لا تماثل صفات المخلوقين. والنوع الرابع من أنواع الإلحاد - كما ذكر الشيخ -: تسميته تعالى بما لم يسمِّ به نفسه؛ ومن ذلك: تسمية النصارى له (أبًا) أبوة ولادة , فسموا المسيح (ابنًا) وسموا الرب - تعالى - (أبًا) , وجعلوا الكُلَّ آلهة (الأب) و (الابن) و (روح القدس). ¬

_ (¬1) (1/ 298).

وكذلك الفلاسفة: يسمون الله العلة الأولى؛ يعني التي صدر عنها العالم صدورًا ذاتيًا لا صدور المفعول عن فاعله؛ بل صدور المعلول عن علته التامة , ومن أجل ذلك قالوا بقدم العالم , لأن معلول العلة التامة يكون قديما بقدمها. والنوع الخامس من أنواع الإلحاد في أسمائه: أن يسمى بها بعض المخلوقات , أو يشتق لبعض المخلوقات منها على الوجه المختص بالله. واللفتة الأخيرة في كلام الشيخ جيدة وهي قوله: (فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله - عز وجل - ميل بها عما يجب فيها) وإلا فقد جاء لفظ الاشتقاق في قول حسان (¬1): وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ففيه التقاء في مطلق المعنى , وهكذا ما جاء في الحديث في شأن الرحم أن الله اشتق لها من اسمه الرحمن؛ فهو الرحمن وهي الرحم (¬2) , ومن هذا النوع ما قيل: إن المشركين اشتقوا لآلهتهم أسماء من أسماء الله كالعزى من العزيز , العزة المقتضية للإلهية والعبادة. فتشعبت وتنوعت طرائق الملحدين في أسماء الله , والله تعالى يقول: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا اللذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " [الأعراف 180]، وفي هذا تهديد للملحدين. والتحريف يكون كفرًا، ويكون فسقًا ومعصيةً، ويكون خطًأ؛ فقد يقع بعض الناس في شيء من الإلحاد خطأ، وقد يكون ناتجًا عن شبهة , وإلا فالأصل أَنَّ جحدَ شيءٍ مما أخبر الله به ورسوله كفر. ¬

_ (¬1) ديوان حسان بن ثابت (ص 49)، وَنُسِبَ هذا البيت لغيره. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1649)، والترمذي في سننه (1907) من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: حديث سفيان عن الزهري حديثٌ صحيح.

قواعد في صفات الله تعالى

قواعد في صفات الله تعالى

صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه (1)؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك.

القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه (1)؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا السمع، والعقل، والفطرة. أما السمع: فمنه قوله تعالى: " لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " [النحل: 60]، والمَثَلُ الأعلى هو: الوصف الأعلى. وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة، فلابد أن تكون له صفة؛ إما صفة كمال، وإما صفة نقص. والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة؛ ولهذا أظهر الله - تعالى - بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز. فقال تعالى: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ " [الأحقاف: 5]. وقال تعالى: " وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 274)، الرسالة الصفدية (132)، بدائع الفوائد (1/ 284).

يُخْلَقُونَ* أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ " [النحل: 20، 21]. وقال عن إبراهيم وهو يَحْتَجُّ على أبيه: " يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً " [مريم: 42]، وعلى قومه: " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ " [الأنبياء: 66، 67]. ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة: أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله - تعالى -، فمعطي الكمال أولى به. وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولةٌ مفطورةٌ على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟! وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله - تعالى - كالموت، والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم ونحوها؛ لقوله تعالى: " وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ " [الفرقان: 58]، وقوله عن موسى: " فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى " [طه: 52]، وقوله: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ " [فاطر: 44]، وقوله: " أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ " [الزخرف: 80]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدجال: " إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور " (¬1). وقال: " أيها الناس، اِرْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7131)، ومسلم (2933) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

ولا غائبًا " (¬1). وقد عاقب الله - تعالى - الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ " [المائدة: 64]. وقوله: " لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ " [آل عمران: 181]. ونَزَّهَ نفسه عما يصفونه به من النقائص، فقال سبحانه: " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " [الصافات 180 - 182]، وقال تعالى: " مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ " [المؤمنون: 91]. وإذا كانت الصفة كمالًا في حال، ونقصًا في حال، لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تُثْبَتُ له إثباتًا مطلقًا، ولا تنفى عنه نفيًا مطلقًا؛ بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالًا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا وذلك كالمكر، والكيد، والخداع ونحوها (¬2)؛ فهذه الصفات تكون كمالًا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله - تعالى - من صفاته على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2992)، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 140)، بدائع الفوائد (1/ 284).

سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة مَنْ يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " [الأنفال: 30]، وقوله: " إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً " [الطارق: 15، 16]، وقوله: " وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ " [القلم: 44، 45]، وقوله: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ " [النساء: 142]، وقوله: " قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " [البقرة: 14، 15]. ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال تعالى: " وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " [الأنفال: 71]، فقال: " فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ "، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذَمٍّ مطلقًا. وبذا عُرِفَ أَنَّ قولَ بعض العوام: " خان الله مَنْ يخون " منكرٌ فاحشٌ، يجب النهي عنه. التعليق لما ذكر الشيخ - رحمه الله - القواعد المتعلقة بالأسماء الحسنى، وذكر ما رآه مِنْ عَدِّ الأسماء الحسنى = أتبعَ ذلك بذكر قواعد في الصفات، وبَيْنَ الأسماء والصفات ارتباط ظاهر؛ كما تقدم أَنَّ كل اسم متضمن لصفة من صفات الله، لكن ليس كل صفة مستلزمة لإثبات اسم (¬1) , فلا يشتق لله من كل صفة اسمًا يكون عَلَمًا عليه ويُدْعَا به. والشيخ يذكر هنا: أن جميع صفات الله صفات كمال - وهذا حق -، دل على ذلك: السمع، والعقل، والفطرة. ¬

_ (¬1) في صفحة رقم (... 41 ...).

والكمال: ضده النقص؛ فجميع أسماء الله حسنى، وجميع صفاته صفات كمال؛ فلا يلحقه النقص، كما جاء في دعاء الاستفتاح: " والشر ليس إليك " (¬1) يعني: أن الشر لا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله (¬2). والدليل على أن صفاته - تعالى - صفات كمال: 1 - قوله تعالى: " للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى " [النحل: 60]، والمثل الأعلى أي: الوصف الأطيب والأكمل. 2 - ووَصَفَ أسماءه بأنها حسنى " ولله الأسماء الحسنى " [الأعراف: 180]، ولا تكون كذلك إلا إذا تضمنت صفات كمال , ولو كانت ألفاظًا لا تدل على معان لما كانت حسنى، ولو دلت على صفات نقص لما كانت حسنى، وحسنى أفعل تفضيل , فله - تعالى - الوصف الأكمل، وله من كل صفة غايتها , وهو منزه عن كل نقص. 3 - والله قد أثنى على نفسه بما له من صفات الكمال في آيات كثيرة. ثم إن صفات الكمال معروفة معقولة , فالسمع والبصر والحياة كمال , والصمم والعمى والموت نقص. وإذا كان المخلوق يتصف بالكمال فالخالق أولى (¬3) , لأن صفات الكمال للمخلوق جائزة له فيجوز أن يتصف بها أو بضدها , وأما الخالق فهي واجبة له - سبحانه وتعالى -، فالحياة واجبة بمعنى: أنها لا تنفك عن ذاته , وكذلك كل الصفات الذاتية واجبة , وهي في حق المخلوق جائزة , فالمخلوق يجوز عليه الحياة والموت , وتجوز عليه هذه الصفات ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) بدائع الفوائد (1/ 287 وما بعدها). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 76، 81)، شرح الرسالة التدمرية (165 وما بعدها).

- كالسمع والبصر - وأضدادها , وأما الله - تعالى - فلا تجوز عليه أضدادها , واتصافه - سبحانه وتعالى - بصفات الكمال يقتضي تأليهه وحده لا شريك له , فهو الخالق ولا خالق سواه , وهو المالك لكل شيء , وهو القادر على كل شيء , وهو العالي على كل شيء , وهو السميع الذي سَمْعُهُ وَسِعَ الأصواتَ كلها , وبصره نافذ في جميع المخلوقات , وأما ما سواه فهو مربوب مخلوقٌ مُدَبَّرٌ، عَبْدٌ فقير. والله - تعالى - كما وصف نفسه بصفات الكمال: نَزَّهَ نفسه عن أضدادها , فنزه نفسه عن الموت والسِّنَةِ والنوم لأنها تضاد كمال حياته , ونَزَّه نفسه عن الصاحبة والولد لأن ذلك ينافي كمال غناه وصمديته وأحديته , ونَزَّهَ نفسه عن الضلال والنسيان والغفلة لأن ذلك ينافي كمال علمه , ونزه نفسه عن الظلم لأن ذلك ينافي كمال العدل. وكل نفي في صفات الله فإنه يتضمن كمالًا , وكل إثبات فإنه يتضمن تنزيهًا. والنفي والتنزيه جاء مجملًا ومفصلًا فقوله: " سبحان الله عما يصفون " [المؤمنون: 91] تنزيهٌ لله عن كل ما يصفه به الجاهلون والمفترون. أما صفاته التي تكون نقصًا وتكون كمالًا - كما قال الشيخ - , فله - تعالى - من ذلك الكمال؛ فالمكر والخداع يكون كمالًا ومحمودًا إذا وقع على من يستحقه , يقول تعالى: " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا " [النمل: 50]، وقال تعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله " [الأنفال: 30]، والله - تعالى - يمكر حقيقة ليس كما يقول بعض المفسرين: إن هذا على سبيل المشاكلة اللفظية فقط (¬1) , فالله ¬

_ (¬1) تفسير البيضاوي (2/ 44)، وتفسير أبا السعود (4/ 19)، وفتح القدير (1/ 344) وغيرها.

يمكر بالكافرين والمنافقين في الدنيا والآخرة كما يمكرون , ويستهزئ بهم ويخدعهم " يخادعون الله وهو خادعهم " [النساء: 142] فما يكون من الرب من مكر واستهزاء إنما هو عقوبة , وسنة الله في الجزاء أنه من جنس العمل , فيستهزئ بالمستهزئين، ويسخر بالساخرين برسله وأوليائه , ويمكر بالماكرين بأنبيائه ورسله وأوليائه , وأما المخلوق فيكون منه المكر المحمود والمذموم , فمنه ما يكون عدلًا ومنه ما يكون ظلمًا وعدوانًا، والله أعلم.

باب الصفات أوسع من باب الأسماء

القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء (¬1). وذلك: 1 - لأنَّ كُلَّ اسمٍ متضمن لصفة - كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء -. 2 - ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله - تعالى -، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها، قال الله - تعالى -: " وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [لقمان: 27]. ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله - تعالى -: المجيء، والإتيان، والأخذ، والإمساك، والبطش إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى , كما قال تعالى: " وَجَاءَ رَبُّك " [الفجر: 22]. وقال: " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ " [البقرة: 210]. وقال: " فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ " [آل عمران: 11]. وقال: " وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " [الحج: 65]. وقال: " إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ " [البروج: 12]. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (1/ 286).

وقال: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " [البقرة: 185]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " (¬1). فَنَصِفُ اللهَ - تعالى - بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه: الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإِنْ كُنَّا نخبر بذلك عنه ونصفه به. التعليق من قواعد الصفات: أنها أوسع من الأسماء؛ فكل اسم متضمن لصفة , فتقول: إن الله عليم وسميع وبصير هذه صفات , وهي أسماء. ولا يشتق له - تعالى - من كل صفة اسم , كالغضب والرضى والمجيء والنزول والإستواء , وبعض الأفعال مشتقة من الأسماء مثل: الخلق فهو الخالق والخلاق، ومثل الرَّزق فهو الرازق والرزَّاق وهو خير الرازقين. فباب الصفات أوسع , فكل اسم متضمن لصفة , وليس كل صفة تكون اسمًا لله أو يشتق له - تعالى - منها اسم , تقول: الله مستوٍ على عرشه، لكن لا تقول: يا مستوي , فلا تدعوه بهذا لكن تخبر فتقول: الله مستوٍ على عرشه. والناس عندهم بعض الغلط في هذا: 1 - فبعضهم يقول: الله المُهْدي، ويقولون: عبد المُهْدي. 2 - ويقولون: عبد العاطي؛ لأنه المعطي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7494)، ومسلم (758) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

3 - وكذلك عَدُّ المُعِزِّ والمُذِلِّ من الأسماء , وهي ما ثبتت بهذه الصيغة، وإنما وردت بالفعل: " تعز من تشاء وتذل من تشاء " [آل عمران: 26]. وبعض الأسماء وردت مثل: المحسن (¬1) , والإحسان المطلق لله - تعالى - , وكذلك الإنعام ولهذا اشتهر: عبد المحسن، وعبد المنعم (¬2)؛ فإنه - تعالى - المُنْعِمُ بجميع النعم " وما بكم من نعمة فمن الله " [النحل: 53]. وأفعاله - تعالى - لا حدَّ لها؛ لأنه لم يزل ولا يزال فعالًا لما يريد، وكذلك كلامه لا نهاية له - كما في الآية التي ذكرها الشيخ -. وهناك قاعدة أخرى قريبةٌ من هذه، وهي: أنَّ باب الإخبار عن الله - تعالى - أوسع من باب الأسماء والصفات، مثل: الموجود، القائم بنفسه، وغيرها؛ فهذه يُخْبَرُ عن الله بها، ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العُلَى (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في صفحة (...)؛ وانظر كتاب " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " للشيخ عبد العزيز الجليل (ص 731) وهو كتاب قَيِّمٌ، قرأه مؤلفه على الشارح - حفظه الله -. (¬2) تقدمت الإشارة إليه في صفحة رقم (...). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 142 وَ 9/ 130)، درء التعارض (1/ 173)، الجواب الصحيح (5/ 8)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 22)، بدائع الفوائد (1/ 284)، شرح الرسالة التدمرية (358).

صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية، وسلبية

القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية، وسلبية فالثبوتية: ما أثبته الله - تعالى - لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك. فيجب إثباتها لله - تعالى - حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً " [النساء: 136]. فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته. والإيمان بالكتاب الذي نَزَّلَ على رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله. وكون محمد - صلى الله عليه وسلم - رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مُرْسِلِهِ، وهو الله - عز وجل -. وأما العقل: فلأن الله - تعالى - أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من

غيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادرًا ممن يجوز عليه الجهل، أو الكذب، أو العي بحيث لا يفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله - عز وجل - فوجب قبول خبره على ما أخبر به. وهكذا نقول فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى -؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بربه، وأصدقهم خبرًا، وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بيانًا، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه. والصفات السلبية: ما نفاها الله - سبحانه - عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب؛ فيجب نفيها عن الله تعالى - لما سبق - مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل (¬1)، وذلك: 1 - لأن ما نفاه الله - تعالى - عن نفسه؛ فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده، لا لمجرد نفيه؛ لأن النفي ليس بكمال، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال؛ وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون كمالًا (¬2). 2 - ولأن النفي قد يكون: ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (16/ 99 وَ 17/ 107 - 109، 142 - 145، 325 - 326، 449)، شرح الرسالة التدمرية (ص 51 - 84، 182 - 185، 199)، وتوضيح مقاصد العقيدة الواسطية (ص 42). (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في التدمرية (ص 184): وينبغي أنْ يُعْلَم أنَّ النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأن النفي المحض عدمٌ محض، والعدم المحض ليس بشيء ... .

أ - لعدم قابلية المحل له، فلا يكون كمالًا كما لو قلت: الجدار لا يَظْلِمْ. ب - وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصًا، كما في قول الشاعر: قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة * ولا يظلمون الناس حبة خَرْدَلِ (¬1) وقول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب * ليسوا من الشر في شيء وإن هانا (¬2) * مثال ذلك: قوله تعالى: " وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوت " [الفرقان: 58]. فَنَفْيُ الموت عنه يتضمن كمال حياته. * مثال آخر: قوله تعالى: " وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً " [الكهف: 49] نفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله. * مثال ثالث: قوله تعالى: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ " [فاطر: 44] فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده: " إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً " [فاطر: 44]، لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه؛ فلكمال علم الله - تعالى - وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. ¬

_ (¬1) هذا البيت للشاعر النجاشي قيس بن عمرو بن مالك؛ وانظر تحقيقًا موسعًا في ألفاظه، وسببه، والشاهد منه في: المجلى في شرح القواعد المثلى (ص 191). (¬2) هذا البيت ينسب لقريط بن أنيق؛ وانظر تحقيقًا موسعًا في ترجمة الشاعر، وألفاظ البيت، ومراد الشاعر منه في: المجلى في شرح القواعد المثلى (ص 191).

وبهذا المثال علمنا أَنَّ الصفةَ السلبية قد تتضمن أكثر من كمال. التعليق يقول الشيخ - رحمه الله -: إن صفات الله ثبوتية؛ يعني صفات يجب إثباتها له , وسَلبية وهي سلب النقائص والعيوب , وهذا صحيح. وهذه صاغها شيخ الإسلام بعبارة أخرى بقوله في التدمرية: (القاعدة الأولى: أنَّ الله - تعالى - موصوف بالإثبات والنفي , فالإثبات كإخباره أنه بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك؛ والنفي كقوله: " لا تأخذه سنة ولا نوم " [البقرة: 255]) (¬1). ونجد هذا في الآيات: فقوله تعالى: " قل هو الله أحد * الله الصمد " [الإخلاص] هذا إثبات. وقوله: " لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " [الإخلاص] هذا نفي. والنفي يسمى سلبًا , فالله موصوف بإثبات الكمالات وموصوف بسلب النقائص , فالنوم والسِّنَة والولد والظلم ليست هي الصفات السلبية التي نقول: إن الله موصوف بصفات سلبية؛ بل الصفات السلبية هي نفيها؛ فالله موصوف بسلب هذه النقائص , فالصفة هي النفي , فنفي النقائص مما يوصف الله به. والنفي الذي يوصف الله به هو: النفي المتضمن لإثبات كمال - كما قال الشيخ - , أما النفي المحض الذي لا إثبات فيه فهذا ليس بمدح ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 182).

ولا كمال (¬1). وقد ذكر شيخ الإسلام هذا المعنى في القاعدة الأولى من القواعد التي ذكرها في التدمرية فقال: (وينبغي أن يُعْلَم أنَّ النفي ليس فيه مدحٌ ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدحٌ ولا كمال؛ لأنَّ النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء - هو كما قيل - ليس بشيء؛ فضلًا عن أنْ يكون مدحًا أو كمالًا) (¬2). وقالوا تمثيلًا لهذا: وصف العاجز بأنه لا يظلم , فنفي الظلم عنه لعجزه لا لعدله، ومثل كون الشيء لا يُرى مطلقًا فهذا ليس بمدح , يقول شيخ الإسلام: (لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدح) (¬3). فكل نفي في صفات الله فإنه متضمن لإثبات كمال , فنفي الظلم يتضمن إثبات كمال العدل، ونفي النوم والسنة والموت يتضمن كمال الحياة، ونفي الضلال والنسيان يتضمن كمال العلم إلى آخره. ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 184). (¬2) التدمرية (ص 184). (¬3) التدمرية (ص 188).

الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال؛ فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر

القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال؛ فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر (1). ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية (¬2)، كما هو معلوم. أما الصفات السلبية فلم تذكر غالبًا إلا في الأحوال التالية: الأولى: بيان عموم كماله؛ كما في قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11]، " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ " [الإخلاص]. الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون؛ كما في قوله: " أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً " [مريم: 91، 92]. الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين؛ كما في قوله: " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ " [الأنبياء: 16]. وقوله: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ " [ق: 38]. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 71) واسم هذه الرسالة: الرسالة الأكملية. (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 66 - 68، 515)، الرسالة الصفدية (ص 143)، شرح الرسالة التدمرية (67، 80)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (42، 120).

التعليق تقدم في القاعدة السابقة: أن الله موصوف بالإثبات والنفي , أو أن صفاته نوعان: ثبوتية وسلبية؛ والسلبية نسبة إلى السَّلب , وهو معنى النفي , فسواءً قلنا: إن الله موصوف بالإثبات والنفي، أو موصوف بصفات ثبوتية وسلبية؛ فالمعنى واحد. فهو موصوف بإثبات صفات الكمال، وكل ما وصف الله به نفسه فهو صفة كمال بما في ذلك الصفات السلبية أيضًا , أما الثبوتية فأمرها ظاهر , وأما الصفات السلبية فإنها متضمنة للكمال , لأنها متضمنة لإثبات أضدادها , فكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من النفي فإنه متضمن لإثبات كمال ضد ما نفاه - كما تقدم هذا المعنى -. لكن الإثبات في الغالب يأتي مفصلًا، يعني فيه تعداد وتفصيل في الأسماء الحسنى والصفات لأنه إثبات محامد وكمالات، وأما في النفي فالغالب فيه الإجمال كقوله: " ليس كمثله شيء " [الشورى: 11] , وقد يأتي مفصلًا: 1 - للرد على المفترين - كما قال الشيخ -. 2 - أو يأتي من أجل دفع توهم نقص في مقام من المقامات كقوله: " وما مسنا من لغوب" [ق: 38] لما ذكر خلقه للسماوات والأرض في ستة أيام , ففي ذلك تأكيد لكمال قدرته - سبحانه وتعالى -، وأنه لا يلحقه كلال ولا إعياء مع عظيم فعله , ومثله: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم " [البقرة: 255] فنفي السنة والنوم متضمن لكمال الحياة والقيام.

الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية

القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية (1). فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة؛ ومنها الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعينين. والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا. وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام (¬2)؛ فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله - تعالى - لم يزل ولا يزال متكلمًا، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء كما في قوله تعالى: " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " [يس: 82]. وكل صفة تعلقت بمشيئته - تعالى - فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه - سبحانه - لا يشاء شيئًا إلا وهو موافق للحكمة، كما ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 268 - 272)، جامع الرسائل (2/ 3) وهي بعنوان (رسالة في الصفات الاختيارية)، شرح العقيدة الطحاوية (56). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 219).

يشير إليه قوله تعالى: " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً " [الإنسان: 30]. التعليق أهل العلم يقسمون الصفات إلى: ذاتية وفعلية، وذاتية فعلية , وهذا التقسيم كغيره مما نبه إليه أهل العلم لدعاء الحاجة إلى ذلك , وإلا فالسلف والصحابة يدركون هذه المعاني دون أن يتكلموا بهذه المصطلحات , لكن لما جاءت البدع ووقع الناس في التخبط نبه العلماء إلى المسائل , وقسَّموا وفصَّلوا مثل تقسيم التوحيد، ومثل تقسيم أفعال العبادات إلى أركان وواجبات وسنن. فهنا قالوا: إن الصفات منها صفات ذاتية نسبة إلى ذات الله، وهي الصفات الملازمة لذاته التي لا تنفك عنها ذات الرب. فيمكن أنْ تَضْبِطَ الفرق بين الذاتية والفعلية: إما أن تقول: الصفات الذاتية هي التي لا تنفك عنها ذات الرب. أو تقول: إنَّ الصفات الذاتية هي التي لا تتعلق بها المشيئة، والفعلية هي التي تتعلق بها المشيئة , أو تكون بمشيئته - سبحانه وتعالى - (¬1). والفرق ظاهر: فالحياة صفة ذاتية لا تتعلق بها المشيئة , ولا تنفك عنها ذات الرب , فلا تقول: إنه حي إذا شاء , هذا لا يجوز , أو عليم أو يعلم إذا شاء , أو ذو عزة إذا شاء , فهذا لا يستقيم؛ بل هذه صفات لازمة لذاته لا تتعلق بها المشيئة. أما الصفات الفعلية - وتسمى الصفات الاختيارية، أو الأفعال ¬

_ (¬1) قال الشارح - حفظه الله - في العقيدة الطحاوية (56): فكل ما تستطيع أن نقول فيه: (ما زال كذا) فهي ذاتية؛ وضابط الصفات الذاتية والفعلية: أنَّ الذاتية لا تتعلق بها المشيئة، وأما الفعلية فتتعلق بها المشيئة.

الاختيارية -: فهذه تابعة لمشيئته , مثل: النزول , فتقول: ينزل إذا شاء. ومثل: الاستواء على العرش، والمجيء يوم القيامة، وكذلك الغضب والرضى فهذه الصفات فعلية. يقول الشيخ: ومن الصفات ما يصدق عليها أنها ذاتية فعلية باعتبارين , مثل: الكلام، والخلق، والرَّزق؛ فهذه باعتبار أن الله لم يزل موصوفًا بها، فتقول: الله لم يزل فعالًا لما يريد , ولم يزل خالقًا , ولم يزل غفورًا , ولم يزل رحيمًا , فهذه صفات ذاتية؛ وباعتبار أفراد أو آحاد هذه الأفعال هي تابعة للمشيئة , فهو يرحم من شاء إذا شاء , ويرزق من شاء إذا شاء , ويتكلم إذا شاء , فالكلام قديم النوع حادث الآحاد , فالكلام صفة ذاتية , والخلق صفة ذاتية فعلية , والمغفرة وكونه - تعالى - غفور صفة ذاتية فعلية وما أشبه ذلك. يقول الشيخ: ومن الصفات الذاتية: الصفات الخبرية , والحقيقة أن الصفات الخبرية منها ذاتية ومنها فعلية أيضًا , فالصفات الخبرية تقابل بالصفات العقلية , فالصفات الخبرية هي: التي طريق العلم بها الخبر والنقل , والعقلية هي: التي طريق العلم بها السمع والعقل؛ فالعلم والسمع والبصر والحياة صفات خبرية سمعية عقلية , والوجه واليدين والقدمين والعينين صفات خبرية. والصفات الخبرية منها صفات ذاتية كالوجه واليدين , ومنها صفات فعلية كالضحك والفرح والمجيء فهذه صفات خبرية فعلية. فالصفات الذاتية يقابلها الفعلية، والصفات الخبرية يقابلها العقلية , وكلٌ من الخبرية أو العقلية ينقسم إلى ذاتية وفعلية , والله أعلم. لكن قد يشكل كون الصفات منها صفات عقلية مع أن الصفات

توقيفية؛ والجواب (¬1): أنَّ الصفات العقلية توقيفية , لكن العقل يدركها , فيتظافر ويجتمع فيها دلالتان , مثل: الحياة صفة كمال؛ وطريق العلم بها: السمع والعقل، والعلم كذلك. أفيقول قائل: لو لم يأتِ في النصوص ذكر العلم نقول: لا ندري أيوصف بالعلم أو لا يوصف؟! , ولو لم تأتِ النصوص بذكر الحياة نقول: لا ندري أيوصف الله بالحياة أو لا؟! لأنَّ العقل لا يدل على إثبات شيء من ذلك!؛ بل نقول: هذه الصفات تظافرت عليها الدلالات السمعية والعقلية لأن انتفاءها نقص , ومعلوم بضرورة العقل تنزيه الله عن النقص. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 88 وَ 18/ 220)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تنبيه الرجل العاقل (2/ 620): وأما الأمور الحقيقية مثل: صفات الباري ونحو ذلك؛ فلا يجوز ني شيءٍ منها لعدم ما يدل على ثبوته، لجواز أن يكون ثابتًا من غير دليل يدلنا على ثبوته، ولا يمتنع ذلك إذا لم نكن مكلفين باعتقاد ثبوته أو نفيه، وليس الأصل عدمه حتى يُتَمسك فيه بالأصل النافي، إذ ما وَجَبَ قِدَمُهُ امتنعَ عدمُه، ولأن التمسك بالاستصحاب في الاعتقادات ليس بجائز. اهـ. وانظر: شرح العقيدة السفارينية للشيخ ابن عثيمين (110 وما بعدها، 169، 201)، وما سيأتي في القاعدة السابعة من قواعد الصفات.

يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين: أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف

القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين: أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف (1). فأما التمثيل فهو: اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله - تعالى - مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11]، وقوله: " أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ " [النحل: 17]، وقوله: " هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً " [مريم: 65]، وقوله: " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ " [الإخلاص]. وأما العقل فمن وجوه: الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينًا في الذات؛ وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات؛ لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير - مثلًا - غير قوة الذَّرَّة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 195، 257 وَ 6/ 515 وَ 33/ 177)، الحموية (ص 271)، الرسالة الصفدية (133)، شرح الرسالة التدمرية (ص 53)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (33).

والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى. الثاني: أَنْ يُقَال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى مَنْ يكمله؟! وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟! فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا. الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؛ فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاقُ في الحقيقة. والتشبيه كالتمثيل؛ وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11]. وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله - تعالى - كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل؛ وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى: " وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً " [طه: 110]، وقوله: " وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " [الإسراء: 36]، ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون

تكييفنا قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولًا بما لا يمكننا الإحاطة به. وأما العقل: 1 - فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله - عز وجل - فوجب بطلان تكييفها. 2 - وأيضًا فإننا نقول: أَيُّ كيفيةٍ تقدرها لصفات الله - تعالى -؟ إِنَّ أَيَّ كيفيةٍ تقدرها في ذهنك، فالله أعظم وأجل من ذلك. وأي كيفية تقدرها لصفات الله - تعالى - فإنك ستكون كاذبًا فيها؛ لأنه لا علم لك بذلك. وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديرًا بالجنان، أو تقريرًا باللسان، أو تحريرًا بالبنان. ولهذا لما سئل مالك - رحمه الله تعالى - عن قوله تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " [طه: 5] كيف استوى؟ أطرق - رحمه الله - برأسه حتى علاه الرُحَضاء (العرق) ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) (¬1)، وروي عن شيخه ربيعة أيضًا: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 441) وغيره؛ وانظر: الأثر المشهور عن الإمام مالك - رحمه الله - في الاستواء للشيخ عبد الرزاق العباد. (¬2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 442) وغيره. وانظر لمعنى هذه العبارة المأثورة عن السلف: شرح الرسالة التدمرية (151 - 152)، وتوضيح مقاصد العقيدة الواسطية (125).

وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكف عنه. فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى: " وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [فصلت: 36]. التعليق معلوم أن مذهب أهل السنة وسط بين أهل التشبيه وأهل التعطيل، لأنهم يقولون: الواجب وصفه - تعالى - بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله إثباتًا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل. فالمثبت للصفات يجب عليه الحذر من مذهب أهل التشبيه وأهل التكييف؛ حتى يكون مذهبه بريئًا من التشبيه والتكييف. والتشبيه هو اعتقاد الشيءِ شبيهًا للشيء الآخر , فيقول: هذا مثل هذا , ولأن المشبهة يقولون: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي , وهؤلاء ومن سلك هذا المسلك لم يكن مثبتًا على الحقيقة فإنه لم يثبت لله صفاته التي تليق به , فوقع في الأمرين في التعطيل والتشبيه , فعطل الرب عن صفات كماله التي تليق به , ووصفه بما يجب تنزيهه عنه , ولهذا يقول أهل العلم: إن كل مشبهٍ معطل، وكل معطل مشبه (¬1)؛ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (13/ 164، 36/ 115، 125)، شرح الرسالة التدمرية (60)، الصواعق المرسلة (1/ 244)؛ وانظر: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات (66 وما بعدها)، وما سيأتي في (ص 58 تنبيه).

يعني فيه تلازم بين التشبيه والتعطيل , لكن المشبه أصل مذهبه الإثبات مع التشبيه ولكن لازم قوله التعطيل. والتكييف هو: بيان كيفية الصفة , وفي الحقيقة أن التكييف يستلزم التشبيه، لأن الإنسان لم يكيف شيئًا إلا في حدود معلوم يتخيله على نحو ما يَعرف , المشبه يقول: سمعه كسمعي، وبصره كبصري , لكن المكيف يقول: إنه يسمع هكذا، وينزل هكذا؛ فيصف الهيئة والكيفية , فالتكييف يستلزم التشبيه , ولهذا النصوص الدالة على نفي التشبيه تتضمن نفي التكييف كقوله: " ولم يكن له كفوا أحد" [الإخلاص]، وقوله: " ليس كمثله شيء " [الشورى: 11]. والتشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق؛ والتشبيه المراد هنا هو: تشبيه الخالق بالمخلوق. وكل من التشبيهين باطل؛ فلا يجوز تشبيه الخالق بالمخلوق، وذلك بوصف الخالق بصفات وخصائص المخلوق؛ ولا تشبيه المخلوق بصفات الخالق (¬1). لكن الكلام الذي ذكره الشيخ منصبٌ على تشبيه الخالق بالمخلوق؛ كقول المشبهة: له سمع كسمعي، وبصر كبصري إلى آخره؛ فمن وصف الله بخصائص المخلوق فقد شبه الخالق بالمخلوق. ولكن أكثر ما وقعت فيه البشرية هو: تشبيه المخلوق بالخالق؛ فالمشركون كلهم مشبهون لآلهتهم بالخالق حيث أثبتوا لمعبوداتهم ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في الداء والدواء (ص 313): حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به. هذا هو (التشبيه) في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصفَ الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله - سبحانه -، فَعَكَسَ من نكسَ اللهُ قلبَه، وأعمى عينَ بصيرته، وأرْكَسَهُ بلبسِهِ الأمرَ وجعلِ التوحيد تشبيهًا والتشبيه تعظيمًا وطاعةً.

خصائص الإلهية فجعلوها آلهة مع الله , فالمشرك مشبه لمعبوده برب العالمين , ولهذا وردت النصوص في نفي التشبيه على نفي تشبيه المخلوق بالخالق كقوله " ليس كمثله شيء " [الشورى: 11] أي ليس شيء من الموجودات مِثلًا له , وقوله: " ولم يكن له كفوًا أحد " [الإخلاص] أي: لم يكن أحد كفؤًا له , وقوله: " هل تعلم له سميًا " أي: ليس شيء سميًا له " فلا تضربوا لله الأمثال " [النحل: 74] أي لا تجعلوا له مثلا من خلقه , ولا شك أن إبطال هذا النوع يستلزم إبطال الثاني؛ فمن شبه الله بخلقه فقد لزم منه أن يكون المخلوق كالخالق. والتشبيه والتكييف - كما قال الشيخ - باطل شرعًا وعقلًا؛ أما الشرع: فللآيات والنصوص - التي أوردها الشيخ -، وأما دلالة العقل: فعلى الوجوه التي ذكرها، وهي واضحةٌ بينةٌ، والله أعلم.

صفات الله توقيفية لا مجال للعقل فيها

القاعدة السابعة: صفات الله توقيفية لا مجال للعقل فيها (¬1). فلا نثبت لله - تعالى - من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث). انظر القاعدة الخامسة في الأسماء. ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: الأول: التصريح بالصفة كالعزة، والقوة، والرحمة، والبطش، والوجه، واليدين، ونحوها. الثاني: تضمن الاسم لها مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع، ونحو ذلك. انظر القاعدة الثالثة في الأسماء. الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، الدال عليها - على الترتيب - قوله ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 26)، الرسالة الصفدية (322، 330)، بدائع الفوائد (1/ 285)، نقض الدارمي (1/ 220)، شرح الرسالة التدمرية (51، 395)، شرح العقيدة السفارينية (169، 201 وما بعدها). وهل تثبت الصفات بالإجماع؟ انظر: شرح الرسالة التدمرية (203).

تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " [طه: 5]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " (¬1)، وقول الله - تعالى -: " وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً " [الفجر]، وقوله: " إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ " [السجدة: 22]. التعليق يفهم مقصود هذه القاعدة من القاعدتين السابقتين اللتين أحال الشيخ - رحمه الله - عليهما، وهما القاعدة الثالثة والخامسة، ولا ريب أنَّ المعول في إثبات الأسماء والصفات على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام أحمد: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث) (¬2)، وقوله - رحمه الله -: (لا يتجاوز القرآن والحديث) أي: لا يزاد على ما ورد فيهما؛ أي: لا يوصف بما لم يرد في كتاب ولا سنة؛ وهذا معنى: أنَّ صفاته - تعالى - توقيفية. وهذا لا يمنع من دلالة العقل على بعض الصفات، فإنَّ من الصفات ما تتظافر عليها أنواع الأدلة؛ كالعلو لله - تعالى - فقد دلَّ عليه: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة. ومن الصفات التي دلَّ عليها العقل مع دلالة النقل: العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والمحبة، والرحمة، والحكمة. ومن الصفات ما طريق العلم به هو الخبر: كالوجه، واليدين، والاستواء، والضحك، والفرح. وقول الشيخ - رحمه الله -: (لا مجال للعقل فيها): يريد أنَّ العقل لا يستقل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1317)، ومسلم (3392) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه ابن بطة في الإبانة (3/ 326)، ونقله شيخ الإسلام في الحموية (ص 271) وغيرها.

بإثبات شيءٍ من الصفات بحيث يقال هذه الصفة ثبتت بالعقل، ولم يدلَّ عليها السمع؛ فهذا لا يكون. وبناءً على ما تقدم؛ إذا قيل: إنَّ الصفات قسمان: عقلية وسمعية، أو خبرية؛ فالمراد بالعقلية: ما دلَّ عليه العقل مع دلالة السمع؛ والمراد بالخبرية: ما دلَّ عليه الخبر فقط؛ كما تقدم التمثيل للنوعين (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في صفحة رقم (78).

قواعد في أدلة الأسماء والصفات

قواعد في أدلة الأسماء والصفات

الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي (1): 1 - كتاب الله - تعالى -، 2 - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما.

القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي (1): 1 - كتاب الله - تعالى -، 2 - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما. وعلى هذا فما ورد إثباته لله - تعالى - من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضده، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما: 1 - وجب التوقف في لفظه؛ فلا يُثْبت ولا يُنفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه. 2 - وأما معناه فيفصل فيه؛ فإن أريد به حق يليق بالله - تعالى - فهو مقبول، وإن أريد به معنىً لا يليق بالله - عز وجل - وجب رده. فمما ورد إثباته لله - تعالى -: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله - تعالى - دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام. ومنه: كل صفة دل عليها فعل من أفعاله؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 26 وَ 298)، والحموية (ص 271)، وبدائع الفوائد (1/ 285).

القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها " وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ " [إبراهيم: 27]. ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها. ومنه: الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني والشرعي؛ فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة. ومنه: الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها (¬1). ومما ورد نفيه عن الله - سبحانه - لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسِّنَة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك. ومما لم يرد إثباته ولا نفيه: لفظ (الجهة)؛ فلو سأل سائل: هل نثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: 1 - لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتًا ولا نفيًا، ويغني عنه ما ثبت فيهما مِنْ أَنَّ الله - تعالى - في السماء. 2 - وأما معناه؛ فإما أن يراد به: أ - جهة سفل. ب - أو جهة علو تحيط بالله. ج - أو جهة علو لا تحيط به. ¬

_ (¬1) قال المؤلف: أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد. قلت: انظر توضيح مقاصد العقيدة الواسطية؛ فكثير منها شكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الواسطية.

فالأول باطل؛ لمنافاته لعلو الله - تعالى - الثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، والإجماع. والثاني باطل - أيضًا -؛ لأن الله - تعالى - أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته. والثالث حق؛ لأن الله - تعالى - العلي فوق خلقه، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته. ودليل هذه القاعدة: السمع، والعقل. فأما السمع فمنه: قوله تعالى: " وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " [الأنعام: 155]، وقوله: " فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " [الأعراف: 158]، وقوله: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [الحشر: 7]، وقوله: " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً " [النساء: 80]، وقوله: " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً " [النساء: 59]، وقوله: " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ " [المائدة: 49]. إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة. وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والرد إليه عند التنازع، والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - المأمور به في القرآن؟!

وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يَرُدَّ النزاعَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أمر الله به في القرآن؟! وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟! ولقد قال الله تعالى: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ " [النحل: 89]، ومن المعلوم أن كثيرًا من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن. وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله - تعالى - من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة. التعليق مضمون هذه القاعدة: أن المعوَّل عليه في معرفة الله بأسمائه وصفاته هو الكتاب والسنة. فكل ما أخبر الله به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله وجب الإيمان به , فإن الله - تعالى - أمر بالإيمان به وبرسوله وكتابه " فامنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا " [التغابن: 8]، فهذا يتضمن الإيمان بكل ذلك , وهذا معنى قولنا: أن أسماء الله وصفاته توقيفية , يعني: إنما يعول فيها على توقيف الشرع , ونص الشرع , ودلالة الشرع. وصفاته تعالى إما صفات ثبوتية أو صفات سلبية , لكن الصفات السلبية هي صفات النفي , والنفي - كما تقدم - لا يكون مدحًا إلا إذا تضمن إثباتًا لكمال؛ فالله - تعالى - موصوف بإثبات صفات الكمال؛ كالحياة والسمع والبصر والفعل فهو فعال لما يريد , وموصوف بنفي النقائص.

والنقائص منها ما نُص على نفيه في الكتاب والسنة؛ كالنوم والسنة والموت واللغوب والأَوْدُ (¬1) والغفلة والضلال والنسيان، وكما في السنة: " إنكم لا تدعون أصم " (¬2) فيه تنزيه الله - تعالى - عن الصمم. ومن النقائص ما لم يصرح بنفيه، لكن إثبات أحد الضدين نفي للآخر: فإثبات العلم يتضمن نفي الجهل وكل ما ينافي العلم , وإثبات الحياة فيه نفي للموت وكل ما ينافي كمال الحياة , وإثبات القدرة يتضمن نفي العجز وكل ما ينافي كمال القدرة , وإثبات القوة يتضمن نفي الضعف وكل ما يستلزم الضعف , وإثبات السمع يتضمن نفي الصمم عن الله وكل ما ينافي كمال السمع ... وهكذا. فالنقائص: 1 - منها ما هو منصوص على نفيه. 2 - ومنها ما يعلم نفيه بإثبات ضده. 3 - ومنها ما يعلم نفيه بطريق اللزوم. فكل ما يستلزم النقص فإنه يجب نفيه عن الله , قالوا مثل: الحزن، والبكاء، والأكل، والشرب، وكذلك أدوات الأكل , وكذلك مما نزه الله نفسه عنه: الصاحبة، والولد ... وهكذا كل ما يتصل بهذا فإنه يجب تنزيهه - تعالى - عنه. أما ما لم يدل على نفيه ولا على إثباته دليل بوجه من الوجوه , لا بالنص ولا بطريق التضمن ولا بطريق اللزوم , فإنه يجب التوقف فيه , ¬

_ (¬1) كما في قوله تعالى: " ولا يؤوده حفظهما " [البقرة: 255] ومعناه: لا يشق على الله - تعالى - ولا يعجزه ولا يكرثه ولا يثقله حفظ هذه العوالم العلوية والسفلية؛ انظر: الصفدية (352)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (ص 54). (¬2) تقدم في صفحة رقم (...).

ومن الأمثلة في هذا: (الأُذُن) لله - تعالى - فهذه مما يجب التوقف فيها، فلا تنفى ولا تثبت، لأنه ليس عندنا ما يدل على إثباتها نصًا ولا لزومًا ولا تضمنًا (¬1). وأما ما أحدثه المتكلمون من العبارات المحدثة التي أضافوها لله , فهذه فيها التفصيل الذي ذكر الشيخ , مثل: الجسم، والجهة، والحيز، والمتحيز، والمركب؛ فهذه ألفاظ مبتدعة وجمهورهم يقولون: إن الله ليس بجسم، ولا في جهة، وليس بمركب , فيقال: هذه الألفاظ: أولًا: محدثة لم يأتِ في الكتاب ولا في السنة النص على إثباتها ولا نفيها. وثانيًا: هي ألفاظ مجملة تحتمل حقًا وباطلًا. ولهذا الواجب أن يستفصل ممن تكلم بها ويسأل عن مراده: 1 - فإن أراد حقًا قبل. 2 - وإن أراد باطلًا رد. 3 - وإن أراد حقًا وباطلًا مُيَّز، فقبل الحق ورد الباطل. فالجسم له معان , فله معنًى في اللغة ومعاني اصطلاحية كلامية , فإذا قال قائل: الله - تعالى - ليس بجسم. قلنا: ما تريد بالجسم؟ فإن قال: الجسم هو الذي تقوم به الصفات , لأن ما قامت به الصفات فهو جسم. نقول: هذا باطل؛ فالله - تعالى - تقوم به الصفات , فلا يجوز نفي الجسم بهذا المعنى. ¬

_ (¬1) شرح الرسالة التدمرية (395).

وإذا قال: المراد بالجسم هو: المركب من الجواهر المفردة. قلنا: هذا المعنى في نفسه باطل , ونظرية الجوهر الفرد والجواهر المفردة هي في نفسها باطلة (¬1). فإذا قيل: إنه - تعالى - ليس بجسم، أي: ليس بمركب من الجواهر المفردة؛ فنقول: هذا حق. وإذا قال: الجسم هو الذي يقبل الإشارة , فيقول: الله ليس بجسم أي لا يقبل الإشارة. قلنا: هذا باطل , فالله - تعالى - يقبل أن يشار إليه , فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق به أشار إليه بأصبعه في أعظم جمع وقال: " اللهم اشهد " (¬2) , وتقول: الله فوق وتشير إليه. وإذا قال: الجسم هو القائم بنفسه. قلنا: هذا حق لا يجوز نفيه , فالله قائم بنفسه. فلفظ الجسم منه معان لا يجوز نفيها عن الله , وله معان يجب نفيها , ومنها معان يمكن أن يقال: يتوقف فيها. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (36/ 113)، جامع المسائل (المجموعة الخامسة / 168 وما بعدها)، الرسالة الصفدية (144)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 119، 3/ 355 مهم، 4/ 201 مهم)، منهاج السنة النبوية (2/ 134 وما بعدها)، وقال في المنهاج (2/ 139): فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، قولٌ لا يعرف عن أحدٍ من أئمة المسلمين، لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسانٍ ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين ... وهذا خلاف ما دلَّ عليه السمع والعقل والعيان، ووحود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يُعْلَمُ بطلانه بالعقل والحس ... . وانظر: شرح الرسالة التدمرية (176). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) من حديث جابر - رضي الله عنه -؛ وأصل تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة في حجة الوداع بقوله: " اللهم اشهد " ثابت في الصحيحين.

ومن الألفاظ المجملة ما ذكره الشيخ: لفظ (الجهة) , وقد ذكر شيخ الإسلام هذا المعنى في القاعدة الثانية في التدمرية (¬1) فذكر قاعدة في الألفاظ المحدثة المجملة فذكر لفظ (الجهة) , ولفظ (التحيز) أو (المتحيز). فلفظ (المتحيز) إن أريد به الذي تحيط به الأوعية والأمكنة؛ فالله ليس بمتحيز لأنه لا يحيط به شيء , وإن أريد بالمتحيز المنحاز المتميز عن العالم , فوق جميع العالم؛ فنعم هو - تعالى - متحيز؛ فنفي هذا المعنى باطل ونفي الأول حق. ثم ختم الشيخ هذه القاعدة بذكر الأدلة عليها، وهو كل ما في القرآن من الأمر باتباع القرآن واتباع الرسول , وطاعة الله ورسوله , والإيمان بالله ورسوله , فكلها تتضمن الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ والله أعلم. ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 205).

الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها

القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها (1). ودليل ذلك: السمع، والعقل. أما السمع: فقوله تعالى: " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " [الشعراء: 193 - 195]. وقوله: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " [يوسف: 2]. وقوله: " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " [الزخرف: 3]. وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي. وقد ذم الله - تعالى - اليهود على تحريفهم، وبَيَّنَ أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان، فقال: " أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 82 وَ 4/ 26 وَ 5/ 195، 257 وَ 6/ 515 وَ 33/ 177)، والحموية (ص 271)، شرح الرسالة التدمرية (211 وما بعدها)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (33).

وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [البقرة: 75]، وقال تعالى: " مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا" [النساء: 46] الآية. وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين؛ فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة. التعليق لا شك أن الواجب في كلام الله وكلام رسوله إجراؤه على ظاهره؛ بل هذا هو الأصل في حمل كلام أي مخاطب , ما لم يقم دليل يوجب صرفه عن ظاهره , وإلا لما كان الكلام بيانًا ولا دالًا على مراد المتكلم. فالأصل أن الكلام يبين به المتكلم مراده , ولا يأتي الخلل إلا: 1 - من نقص بيانه وفصاحته؛ فقد يتكلم بكلام لا يدل على مراده بسبب عجزه وضعف بيانه وعدم فصاحته. 2 - أو إرادة التلبيس على المخاطب؛ فيخاطبه بخلاف مراده حتى يفهم من ذلك الكلام خلاف المراد. ولهذا ذكر شيخ الإسلام (¬1) أنه إذا توفرت هذه المقومات وهي: العلم، والبيان، والنصح = لزم من ذلك أن يتحقق البيان , والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق وأفصحهم وأنصحهم فوجب أن يدل كلامه على مراده أتم دلالة وأكمل بيان. وخلاف ذلك حَمْلٌ لكلام المتكلم على معان قد يحتملها لكن بغير حجة وهذا هو التحريف؛ فالتحريف: صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة , ويسميه المتأخرون تأويلًا , فيقولون التأويل: صرف اللفظ عن ¬

_ (¬1) الحموية (280 - 282).

الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل , لكن الشأن في ذلك الدليل. فأهل التأويل من نفاة الصفات ـ لأن نفاة الصفات طائفتان مفوضة ومؤولة كما تقدم (¬1) ـ يفسرون نصوص الصفات بخلاف ما تدل عليه , ثم يضطربون في هذا التأويل , فيصرفون كلام الله وكلام رسوله عن ظاهره بغير حجة؛ بل بشبهات يسمونها عقليات , وهي في الحقيقة جهليات، وقد عمدوا إلى أفضل أنواع النصوص ـ وهي نصوص الأسماء والصفات ـ فصرفوها عن ظواهرها , بناء على ما أصَّلوه بالشبهات الباطلة من أنه - تعالى - لا تقوم به الصفات؛ فالجهمية والمعتزلة لما أصلوا نفي الصفات لابد أن يكون لهم موقف من هذه النصوص , كيف يصنعون بها؟ فلجؤا إلى التأويل، فصارت النصوص عندهم لا تدل على إثبات الصفات. يقول شيخ الإسلام في التدمرية (¬2): (القاعدة الرابعة: وهي أنَّ كثيرًا من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثيرٍ منها، أو أكثرها، أو كلها = أنها تماثل صفات المخلوقين؛ ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير: أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنَّ أنَّ مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: إنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعَطَّله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنِّه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظنَّ أنَّ الذي يُفهم ¬

_ (¬1) تقدم في صفحة (...). (¬2) التدمرية (ص 234).

من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عَطَّلَ ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله - تعالى -. الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علمٍ، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب - تعالى -. الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات، فيكون قد عَطَّلَ صفات الكمال التي يستحقها الرب - تعالى -، ومَثَّلَهُ بالمنقوصات والمعدومات، وعَطَّلَ النصوص عما دلَّت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل؛ فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته). وذكر الشيخ ابن عثيمين هنا: أن التحريف سبيل اليهود , فاليهود نعتهم الله بالتحريف , فهؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن شابههم كل بحسبه , قد شابهوا اليهود في تحريف كلام الله كما قال تعالى: " يحرفون الكلم عن مواضعه " [النساء: 46]، وقال: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " [المائدة: 41]، وهذا سبيل كل مبطل , فكل مبطل تعارض النصوص مذهبه فإنه يقف منها هذا الموقف , يلتمس لها التأويلات ليتخلص منها هذا فيما لم يقدر على رده , أما ما قدر على رده دفعه , وقال: هذا كذب، هذا لم يصحَّ , هذا خبر آحاد وما أشبه ذلك , فإن لم يقدر على الرد بطريق من الطرق ذهب إلى التحريف , وحقيقة التحريف صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بغير حجة توجب ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) يشهد لهذا ما نقله الدارمي في رَدِّهِ على بشرٍ المَرِيْسِي (2/ 868): لا تَرُدُّوهُ فتفتضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل، فتكونوا قد رددتموها بلطف! إذ لم يمكنكم ردُّها بعنف!! وانظر: توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (165، 174).

والشيخ محمد - رحمه الله - استدل على هذه القاعدة بأن الله أخبر أنه خاطب عباده بلسان عربي مبين , فوجب حمل كلام الله على ما يقتضيه اللسان العربي , وإلا لما كان بيانًا ولهذا الذين حرفوا النصوص أو فوضوا فيها لزم من قولهم: أن القرآن ليس هدى ولا بيانا ولا شفاء , فالهدى والبيان والشفاء يكون بالكلام البين الذي يدل على معان بحسب ظاهره , أما إذا قيل: إن هذا الكلام لا يدل على شيء ولا يفهم منه شيء لم يكن هدى ولا بيانا ولا شفاء , أو قيل: إنه يدل على معان هي خلاف الظاهر فكذلك يكون المتكلم ملغز بكلامه لا مبين. وإجراء النصوص على ظاهرها هو موجب الشرع - كما قال الشيخ - للأدلة التي ذكرها , وهو موجب العقل كما قلنا: إن الواجب حمل كلام المتكلم على ظاهره دائمًا , سواء كان كلام الله أو كلام الرسول أو كلام سائر المخاطِبين إلا أن يدل دليل على وجوب حمله على خلافه؛ هذا هو الأصل وهذا هو المعروف في عرف العقلاء؛ والله أعلم.

ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.

القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة. وقد دل على ذلك: السمع، والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى: " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ " [ص: 29]. وقوله تعالى: " ِإنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " [الزخرف: 3]. وقوله - جل ذكره -: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " [النحل: 44]. والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكر الإنسان بما فهمه منه. وكون القرآن عربيًا ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم، وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها. وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه. وأما العقل: فلأن من المحال أَنْ يُنْزِلَ الله - تعالى - كتابًا أو يتكلم

رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكلام يقصد بهذا الكتاب، وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدِّها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يُفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السَّفَهِ الذي تأباه حكمة الله - تعالى -، وقد قال الله - تعالى - عن كتابه: " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ " [هود: 1]. هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات. وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية، فقد سبقت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات (¬1). وبهذا عُلِمَ بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويَدَّعون أن هذا مذهب السلف، والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالًا أحيانًا وتفصيلًا أحيانًا، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله - عز وجل -. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل) (ص 116 / جـ 1) المطبوع على هامش (منهاج السنة): (وأما التفويض: فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحَضَّنَا على عَقْلِهِ وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وَعَقْلِهِ - إلى أن قال (ص 118): وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه؛ بل يقولون كلامًا لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً ¬

_ (¬1) صفحة رقم (...).

وبيانًا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نُزِّلَ إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته لا يعلم أحد معناه فلا يُعْقَل ولا يُتَدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدًا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحًا لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلًا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. اهـ. كلام الشيخ؛ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد - رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم -. التعليق هذه القاعدة هي مضمون القاعدة الخامسة في التدمرية؛ يقول شيخ الإسلام: (القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا به من وجهٍ دون وجه، فإنَّ الله - تعالى - قال: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا " [النساء: 82]، وقال: " أفلم يتدبروا القول " [المؤمنون: 68]، وقال: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب " [ص 29]، وقال: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها " [محمد: 24]

فأمر بتدبر الكتاب كله) (¬1). والوجهان - كما ذكرهما الشيخ محمد رحمه الله - نعلمهما من جهة المعنى , فنعلم معانيها ونفهمها ونتدبرها ونعرف ربنا بها ونعرف مراده من هذه الأخبار , ونعرف مراده من الإخبار عن اليوم الآخر , ولكن لا نعلمها من جهة حقائقها وكيفياتها , فلا يلزم من العلم بمعنى الشيء إجمالا الإحاطة به. وهذا كثير , ولعله يكون حتى في المحسوسات فالشمس نعلمها ونعرفها ويراها الناس , لكن هل يحيط الناس بها؟ وهل يحيط الناس بحقيقتها وما هي عليه كما خلقها الله؟ قد يعرفون أشياء لكن هل يعرفون حقيقة الشمس على ما هي عليه كما خلقها الله - سبحانه وتعالى -؟ والشيخ - رحمه الله - في التدمرية (¬2) ضرب مثلًا للعجز عن معرفة الكيفية بالروح؛ فهذه الروح التي في الناس وبها حياتهم ولها شأن وصفات وهي معروفة , ومع ذلك لا يدرك الناس كنهها أبدًا , والعقول عاجزة عن تكييفها , فإذا كانت العقول عاجزة عن تكييف الروح فهي عن تكييف ذات الرب وصفاته أعجز. وذكر شيخ الإسلام في القاعدة الخامسة الدليل على الوجه الأول , وهو نفس ما ذكره الشيخ محمد فذكر آيات التدبر: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " [محمد: 24]، وقوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا " [النساء: 82]، وقوله تعالى: " أفلم يدبروا القول " [المؤمنون: 68]، وقوله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته " [ص: 29]، ثم قال: (فأمر بتدبر الكتاب كله) (¬3). ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 251). (¬2) التدمرية (ص 169). (¬3) التدمرية (ص 251).

إذن؛ فالقرآن كله يمكن فهمه , وأعظم ذلك وَأَوَّلُهُ وَأَوْلَاه نصوص الصفات , فهي أشرف كلام الله , وأشرف آي القرآن , لأن أشرف العلوم الشرعية هي العلم بالله بأسمائه وصفاته , وأما الوجه الثاني الذي لا نعلمه فاستدل له بقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله " [آل عمران: 7]، والتأويل في هذه الآية ولاسيما على قراءة الجمهور - وهي: الوقف على لفظ الجلالة - هو الحقيقة التي يؤول إليها الشيء , فلا يعلم تأويل ما تشابه من القرآن , يعني لا يعلم حقيقته وما يؤول إليه إلا الله , فلا يعلم كنه ذات الرب وصفاته ولا كنه ما أخبر به عن اليوم الآخر إلا الله , حتى إنه سبحانه في الحديث القدسي قال: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلبِ بشر " (¬1). وفي آيات الأمر بالتدبر وذم المعرضين عن تدبر القرآن: الرد على أهل التفويض، وهذا هو المقصود من تقرير هذه القاعدة , وأهل التفويض هم الذين يقولون: إن نصوص الصفات لا يعلم أحد معناها ولا الرسول - صلى الله عليه وسلم - , فلا يعلم معناها إلا الله؛ ولهذا سماهم الشيخ في الحموية أهل التجهيل (¬2) , لأنهم بزعمهم هذا يجهلون الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بمعان كلام الله؛ بل على قولهم: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بما لا يعلم معناه من حديثه , فأحاديث الصفات - أيضًا - لا يعلم معناها إلا الله , فقولهم يتضمن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بما لا يعلم ويعقل معناه , وكفى بهذا فسادًا , وكفى بهذا طعنا في كلام الله , وفي حكمة الله وفي كلام الرسول وقدره - صلى الله عليه وسلم - , سبحان الله ما أقبح هذا الكلام وهذا المذهب , مع أن كلمة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3244) وفي مواضع أخر، ومسلم (2824) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) الحموية (ص 195 - 207).

التفويض يستروح لها بعض الناس ويظنون أن مذهب التفويض حقٌ , ولا يعلمون أنه يستلزم أمورًا باطلة , منها: أن القرآن ليس هدى ولا شفاء ولا بيانًا ولا فيه تعريف بالله بما يجب له وما يجوز عليه وما يمتنع عليه. فأهل التفويض معطلة نفاة لصفات الله , فالمعطلة لاسيما من الأشاعرة ونحوهم من الماتردية: منهم من ينحو إلى التفويض , ومنهم من ينحو إلى التأويل , أما الجهمية والمعتزلة فالغالب عليهم والأصل فيهم هو التأويل. ولهذا يقول الشيخ - رحمه الله - في التدمرية ينعت هؤلاء الذين يفرقون بين الصفات يقول: (الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل) , يعني بعضهم يقول بالتفويض وبعضهم يقول بالتأويل والكل ينفي؛ فمثلا من الصفات التي ينفيها الأشاعرة الاستواء على العرش , فكلهم يتفقون على نفي حقيقة الاستواء على العرش والعلو والارتفاع على العرش , فينفون العلو , لكن ماذا يعتذرون عن الآية؟ أهل التأويل يقولون: استوى بمعنى استولى هذا نموذج من تأويلاتهم , وأهل التفويض يقولون: الله أعلم بمراده لا ندري ما معنى " الرحمن على العرش استوى " [طه: 5] , فاتفقوا على نفي الاستواء على العرش , واختلفوا في موقفهم من الآية، وقل مثل ذلك في سائر نصوص الصفات التي ينفونها , مثل: النزول، والغضب، والرضا، وغير ذلك. فمثلًا في آيات المحبة والرضا والغضب والسخط , فأهل التأويل منهم من يفسر هذه الصفات بالإرادة إما بإرادة الإنعام أو الانتقام أو ببعض المخلوقات من الثواب والعقاب , وأهل التفويض يقولون: الله أعلم بمراده , لا ندري ما معنى " يحبهم " [المائدة: 54] , ولا ندري ما معنى " يحب الذين يقاتلون " [الصف: 4] , ولا ندري ما معنى " غضب الله عليهم " [الممتحنة: 13] , فكما قال شيخ الإسلام في آخر الكلام الذي

نقله الشيخ محمد: هؤلاء جعلوا أشرف ما في القرآن وهي نصوص الصفات غير معلومة ولا ينتفع بها , ويلزم على قول هؤلاء إن الكتاب والسنة ليسا طريقا لمعرفة الله وإنما يعرف الله بالعقول , وعلى هذا فكل صاحب فكر يدعي أن ما أدركه بعقله هو الواقع وهو الحق , ولهذا نصَّ شيخ الإسلام في الحموية (¬1) على أنه يلزم على قول أهل التفويض وأهل التأويل أن ترك الناس بلا رسالة أهدى لهم , لأن هذه النصوص - على زعمهم - ما دلت على الحق في باب معرفة الله , وما دلت على الحق المطابق للواقع , فأهل التأويل والتفويض كلهم يتفقون على أن هذه النصوص لا تدل على إثبات صفات قائمة بالرب سبحانه , لا صفات ذاتية ولا فعلية - تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا -؛ والله أعلم. ¬

_ (¬1) الحموية (ص 235).

ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام

القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام (1) فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه. فلفظ (القرية) - مثلًا - يراد به: القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى. فمن الأول: قوله تعالى: " وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً " [الإسراء: 58]. ومن الثاني: قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: " إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَة " [العنكبوت: 31]. وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: " لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ " [ص: 75]؛ لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس. ¬

_ (¬1) منهاج السنة (2/ 115 - 116)، شرح الرسالة التدمرية (211 - 214، 234 - 236، 256 - 272).

ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به. إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني. وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام (1): القسم الأول: مَنْ جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقًا يليق بالله - عز وجل - وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم. وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: (أهل السنة مُجْمِعُوْنَ على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة) (¬2) اهـ. وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: (لا يجوز رَدُّ هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخَلْق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة) اهـ. نَقَلَ ذلكَ عنِ ابنِ عبدِ البر والقاضي = شيخُ الإسلامِ ابنُ ¬

_ (¬1) الحموية (ص 539). (¬2) التمهيد (7/ 145).

تيمية في الفتوى الحموية (ص 87 - 89 جـ 5) من مجموع الفتاوى لابن القاسم. وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين: الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته، كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف. الثاني: أَنْ يُقَال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم؛ والثاني باطل، لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحًا أو ظاهرًا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحًا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه؛ وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم. القسم الثاني: مَنْ جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلًا لا يليق بالله، وهو التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه: الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11]؟. الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يُحْكَمُ بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟

الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلًا. فإنْ قالَ المُشَبِّهُ: أنا لا أعقل مِنْ نزولِ اللهِ ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله - تعالى - لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله؛ فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11]، ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أندادًا فقال: " فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ " [النحل: 74]، وقال: " فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " [البقرة: 22]، وكلامه - تعالى - كُلُّهُ حق يُصَدِّقُ بعضه بعضًا، ولا يتناقض. ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتًا لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات؛ فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومَنْ فَرَّقَ بينهما فقد تناقض!. ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى! فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا؛ فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق؟!، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم؛ بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق - كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات - (¬1). ¬

_ (¬1) في صفحة (80).

القسم الثالث: مَنْ جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلًا، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عامًا في الأسماء والصفات، أم خاصًا فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معانٍ عينوها بعقولهم , واضطربوا في تعيينها اضطرابًا كثيرًا، وسموا ذلك تأويلًا، وهو في الحقيقة تحريف. ومذهبهم باطل من وجوه: أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له. الثاني: أنه صرف لكلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهره، والله - تعالى - خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله - عز وجل -. الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا علم وهو محرم؛ لقوله - تعالى -: " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ " [الأعراف: 33]. ولقوله - سبحانه -: " وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " [الإسراء: 36]. فالصارف لكلام الله - تعالى - ورسوله عن ظاهره إلى معنى

يخالفه قد قَفَا ما ليس له به علم، وقال على الله ما لا يعلم من وجهين: الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله - تعالى - ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام. الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام. وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟! مثال ذلك: قوله - تعالى - لإبليس: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي " [ص: 75]، فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل - وأَنَّى له ذلك - وإلا كان قائلًا على الله بلا علم في نفيه وإثباته. الوجه الرابع في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها؛ فيكون باطلًا، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها. الوجه الخامس: أن يقال للمعطل: هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا. ثم يُقَالُ له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟

فسيقول: نعم. ثم يقال له: هل تعلم كلامًا أفصح وأبين من كلام الله - تعالى -؟ فسيقول: لا. ثم يقال له: هل تظن أن الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا. هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن. أما باعتبار ما جاء في السنة؛ فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ فسيقول: لا. ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحق صدق وحق؟ فسيقول: نعم. ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أفصح كلامًا، وأبين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فسيقول: لا. ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله؟ فسيقول: لا. فيقال له: إذا كنت تقر بذلك؛ فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله - تعالى - لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة

في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟ وماذا يضيرك إذا أَثْبَتَّ لله - تعالى - ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذتَ بما جاء في الكتاب والسنة إثباتًا ونفيًا؟ أليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: " مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ " [القصص: 65]. أفليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟! فلعل المراد يكون - على تقدير جواز صرفها - غير ما صرفتها إليه. الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة؛ وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. فمن هذه اللوازم: أولًا: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله - تعالى - بخلقه، وتشبيه الله - تعالى - بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله - تعالى -: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11]. قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري - رحمهما الله -: من شَبَّهَ الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا. اهـ. ومن المعلوم أَنَّ مِنْ أَبْطَلِ الباطلِ أَنْ يُجْعَلَ ظاهرُ كلامِ اللهِ - تعالى - وكلامِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيهًا وكفرًا أو موهمًا لذلك. ثانيًا: أن كتاب الله - تعالى - الذي أنزله تِبْيَانًا لكل شيء، وهدى للناس، وشفاءً لما في الصدور، ونورًا مبينًا، وفرقانًا بين

الحق والباطل لم يبين الله - تعالى - فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكلًا إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون؛ وهذا ظاهر البطلان. ثالثًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله - تعالى - من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز؛ إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله - تعالى - وسموه تأويلًا. وحينئذٍ؛ إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين باطل!! رابعًا: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعًا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلاههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع؛ بل هو زبدة الرسالات، وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة، وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلًا، أو التحريف الذي يسمونه تأويلًا إن لم يتمكنوا من تكذيبه. خامسًا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله - تعالى -: " وَجَاءَ رَبُّكَ " [الفجر: 22] إنه لا يجيء؛ وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا " (¬1) إنه لا ينزل؛ لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في صفحة (...).

ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء - أيضًا -. ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض؛ كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه. فنقول لهم: نَفْيُكُم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي. مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة. أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها. أما السمع: فمنه قوله تعالى: " وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " [البقرة: 253]. وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة. ونفوا الرحمة؛ لأنها تستلزم لِيْنَ الراحمِ وَرِقَّته للمرحوم، وهذا محال في حَقِّ الله - تعالى -. وَأَوَّلُوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام. فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله - تعالى - بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددًا وتنوعًا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " [الفاتحة: 3].

والصفة مثل: " وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ " [الكهف: 58]. والفعل مثل: " وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ " [العنكبوت: 21]. ويمكن إثباتها بالعقل: فإنَّ النِّعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنِّقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله - عز وجل -، ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس. وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرِّقَّة؛ فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها؛ فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة، وهذا يستلزم الحاجة، والله - تعالى - مُنَزَّه عن ذلك. فَإِنْ أُجِيْبَ: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق. وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كانت تعطيلًا عامًا أو خاصًا. وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ طريقَ الأشاعرةِ والماتريديةِ في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية، وذلك من وجهين: أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تُدْفَعُ بالبدعةِ وإنما تدفع بالسنة. الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة؛ فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من

الصفات بما زعمتموه دليلًا عقليًا وَأَوَّلْتُم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلًا عقليًا، ونأوِّل دليله السمعي؟! فلنا عقول كما أن لكم عقولًا، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة؟!، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة؟! وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى. وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله - تعالى - من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - إثباتًا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيهًا لا تعطيل فيه ولا تحريف " وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ " [النور: 40]. تنبيه: عُلِمَ مما سبق؛ أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل. أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيهَ فَمَثَّلَ أولًا، وعَطَّلَ ثانيًا، كما أنه بتعطيله مثله بالناقص (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في الداء والدواء (ص 330): فإنَّ المشركَ المقرَّ بصفاتِ الرب خيرٌ من المعطل الجاحد لصفات كماله؛ كما أنَّ مَنْ أقرَّ لِمَلِكٍ بالمُلْك، ولم يجحد مُلكه، ولا الصفات التي استحقّ بها الملك، لكن جَعَلَ معه شريكًا في بعض الأمور يُقرِّبُهُ إليه = خيرٌ ممن جحد صفات المِلك وما يكون به مَلَكًا. هذا أمرٌ مسقر في سائر الفِطَر والعقول؛ فأين القدح في صفات الكمال والجحدُ لها، من عبادة واسطةٍ بين المعبود الحقّ وبين العابد يتقرَّب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظامًا له وإجلالًا؟ فداء التعطيل هو الداء العضال الذي لا دواء له.

وأما تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه: الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة، حيث جعله دالًا على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه، وإنما يدل على صفة تليق بالله - عز وجل -. الثاني: أَنَّهُ عَطَّلَ كُلَّ نَصٍّ يدل على نفي مماثلة الله لخلقه. الثالث: أنه عَطَّلَ الله - تعالى - عن كماله الواجب حيث مَثَّلَهُ بالمخلوق الناقص. التعليق ما ذكره المؤلف - رحمه الله - في هذه القاعدة هو شرحٌ وتفصيلٌ لما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الثالثة من العقيدة التدمرية، وحاصل القول: إن الناس اختلفوا في ظاهر نصوص الصفات، وهل هو مرادٌ أو ليس بمرادٍ؟ على ثلاث طوائف. وقبل ذكرها ينبغي أنْ يُعرف المراد بظاهر النصوص وظاهر الكلام؛ فإذا قيل: ظاهر الكلام كذا؛ فالمراد منه: ما يتبادر إلى ذهن سليم الفهم بلغة المتكلم وحاله. فإذا قيل ما ظاهر نصوص الصفات؟ فالمراد: المعنى المتبادر منها، وهنا محلُّ النزاع. فمذهب أهل السنة والجماعة: أنَّ ظاهر نصوص الصفات إثبات ما دلت عليه من المعاني صفاتٍ لله على ما يليق به ويختص به لا يشبه في ذلك صفات خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه في شيءٍ من صفاته. فظاهر النصوص عند أهل السنة والجماعة حقٌ يجب الإيمان به، وهو مراد الله من كلامه ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأما المعطلة من الجهمية

والمعتزلة ومن وافقهم فظاهر نصوص الصفات عندهم وَصْفُهُ - تعالى - بما دلت عليه، وهذا عندهم تجسيم وتشبيه وتركيب، فظاهرها عندهم باطل لا يجوز اعتقاده، لأنه غير مرادٍ لله - تعالى - ولا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم منهم مَنْ لا يفسر هذه النصوص؛ بل يمرها ألفاظ من غير فهمٍ لمعناها؛ بل يقول: إنه لا معنى لها، أو لا يعلم معناها إلا الله، وهذه طريقة أهل التفويض من المعطلة. ومنهم من يفسر هذه النصوص بخلاف ظاهرها للشُّبَهِ التي بنوا عليها نفيهم للصفات، فقالوا: يجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها، لأنَّ ظاهرها كفرٌ وباطل، ويسمون صرف النصوص عن ظاهرها تأويلًا، ولذلك سُمُّوا أهل التأويل؛ والحق: أنه تحريف للكلم عن مواضعه. وأما الطائفة الثالثة: وهم المشبهة فيقولون: إنَّ ظاهر نصوص الصفات، وصفه - تعالى - بصفاتٍ مثل صفاتنا، ويجب اعتقاد هذا المعنى، فيقول أحدهم: لله سمعٌ كسمعي، وبصرٌ كبصري، ويدٌ كيدي، وعلمٌ كعلمي، وقدرةٌ كقدرتي، ونحو ذلك. فظاهر النصوص عندهم هو التشبيه وهو مراد، وظاهرها عند المعطلة التشبيه وليس بمراد؛ بناءً على اعتقادهم أنَّ إثبات الصفات لله تشبيه. فمذهب أهل السنة حق محض، وهم وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل؛ وأما مذهب المشبهة والمعطلة، فكل منهما فيه حق وباطل؛ فإثبات المشبهة للصفات حقٌ وتشبيه صفاته - تعالى - بصفات خلقه باطل؛ فلزم من قولهم تعطيل الرب من صفاته اللائقة به. ونفي المعطلة التشبيه عن الله حقٌ ونفيهم للصفات باطل، وهو مستلزم لتشبيهٍ أقبح، فنفروا من تشبيهه - تعالى - بالموجودات فشبهوه بالمعدومات والناقصات والممتنعات؛ فكلٌ من المعطلة والمشبهة جمعوا بين التشبيه والتعطيل.

فالمعطلة شبهوا أولًا، ثم عطلوا ثانيًا، ثمَّ شبهوا ثالثًا؛ والمشبهة شبهوا أولًا، وعطلوا ثانيًا. وقد أوضح المصنف - رحمه الله - هذه المذاهب، وميز الحق منها من الباطل بالأدلة العقلية والنقلية مما فيه إحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فجزاه الله خيرًا، وأثابه على ما بَيَّن. ومما جاء في كلامه - رحمه الله - أنَّ التعطيل: (جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له) يعني: جعلوها دالة على إثبات الصفات وإثبات الصفات تشبيه عندهم , فجعلوها دالة على الكفر لأن تشبيه الله بخلقه كفر , فيقولون: إن ظاهرها معنى باطل، وهو كفر فيجب تأويلها ولا يجوز اعتقاد ظاهرها. ولاشك أن المذاهب الباطلة تستلزم أمورًا باطلة في العقل , فذكر الشيخ قاعدة مهمة وهي: (إن بطلان اللازم يستلزم بطلان الملزوم)، فنفي الصفات عن الله وتحريف النصوص يستلزم هذه اللوازم الباطلة: 1 - يستلزم تجهيل الرسول والصحابة والأئمة , أو كتمانهم للحق. 2 - ويستلزم الطعن في حكمة الله - سبحانه وتعالى - والطعن في كلامه. 3 - ويستلزم أن ترك الناس بلا رسالة أهدى لهم. فكل هذه معان باطلة؛ فإذا بطل اللازم بطل الملزوم. وما ذكره الشيخ من هذه اللوازم ذكرها شيخ الإسلام في العقيدة الحموية (¬1) , فقد ذكر الأدلة العقلية على أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد بيَّن للناس، وبلغ ما يجب عليهم اعتقاده في ربهم , مما يجب له أو يجوز عليه أو يمتنع عليه , وبين ما يستلزمه قول المعطلة النفاة من اللوازم الباطلة. ¬

_ (¬1) الفتوى الحموية (ص 232 وما بعدها).

وما مستند مذاهب المعطلة؟! لا مستند لهم من شرع , إنما يعولون على ما يزعمونه من قولهم: إن إثبات الصفات يستلزم التشبيه ويستلزم التجسيم والتركيب , فكأنهم يعترضون على الله ورسوله؛ فالله يخبر بهذه الصفات ثم يقولون: لا نثبت هذه الصفات. وهذا المذهب كما ذكر شيخ الإسلام في العقيدة الحموية أن أصله مستمد من اليهود والصابئة والمجوس (¬1)؛ فهذا المذهب مستمد من أمم الكفر والإلحاد , وليس لهم أي مستند من الشرع. فما ذكره الشيخ هنا من هذا التفصيل وهذا البيان كثير منه معناه مبين في الفتوى الحموية للإمام ابن تيمية , والشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - قد كان له عناية بالحموية حيث لخصها قديمًا في كتاب أسماه: (فتح رب البرية في تلخيص الحموية) (¬2). ومما تضمنه كلام الشيخ - رحمه الله -: أن المعطلة طوائف وفرق متفاوتون في التعطيل , فبعضهم أشد مبالغة في التعطيل , ففيهم الغلاة، وغلاة الغلاة. فالمعطلة المحضة هم: الذين ينفون الأسماء والصفات مطلقًا؛ وهذا مذهب الجهمية , فالجهمية هم الأصل في هذا الباب , فإنهم ينفون الأسماء والصفات، ويقولون عما جاء في النصوص كلها مجاز , فالأسماء أسماء لبعض مخلوقاته، والصفات يتأولونها بشتى المعان التي تخرجها عن مراد الله ورسوله. ¬

_ (¬1) الفتوى الحموية (ص 243). (¬2) وقد طُبِعَ الكتابُ عدةَ مرات، من آخرها الطبعة التي أشرفت عليها مؤسسة الشيخ ابن عثيمين لدى دار ابن الجوزي عام 1427 هـ.

وشَرٌّ منهم: الجهمية الباطنية فهم غلاة الغلاة؛ فإنهم ينفون النقيضين , ينفون الصفات ونقائضها , يقولون: ليس بسميع ولا أصم , ولا بصير ولا أعمى , ولا موجود ولا معدوم , ذكر هذا شيخ الإسلام في مواضع من التدمرية وغيرها (¬1). ودون هؤلاء وأولئك: المعتزلة؛ فإن المشهور من مذهبهم أنهم يثبتون الأسماء , لكنهم يجعلونها أسماء محضة , لا تدل على معانٍ , إنما هي أعلام محضة (¬2) , وينفون سائر الصفات , ولا يثبتون هم والجهمية إلا ذاتًا مجردة عن جميع الصفات. ودون هؤلاء: الأشاعرة والماتريدية؛ فهم أقرب إلى أهل السنة حيث يثبتون بعض الصفات على ما في إثباتهم من انحراف ومن فساد , كما أنهم يثبتون - مثلا - صفة الكلام، لكنه ليس على الوجه المعقول والمشروع (¬3). فكل من نفى شيئًا يسمي من أثبته مشبهًا , فالغلاة يسمون الجهمية مشبهة , والجهمية يسمون المعتزلة مشبهة لإثباتهم الأسماء , والمعتزلة يجعلون الأشاعرة بناءً على مذهبهم مشبهة لأنهم يثبتون بعض الصفات , والجميع يجعلون أهل السنة مشبهة. وبهذا يتبين أنَّ فِرَقَ التعطيل متناقضون , ومن طريقة شيخ الإسلام - رحمه الله - أن يضرب بعضهم ببعض (¬4) , وهذا هو المعنى الذي نقله الشيخ بعباراته لكن مضمونه قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية , فالأشاعرة قد فرقوا بين المتماثلات , حيث أثبتوا بعض الصفات زاعمين أن العقل يدل عليها , ونفوا بعض الصفات زاعمين أن العقل ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 85). (¬2) التدمرية (ص 92). (¬3) التدمرية (ص 116). (¬4) التدمرية (ص 116).

دل على نفيها أو لم يدل عليها , والحق أنه لا فرق فالقول في بعض الصفات كالقول في بعض , لا فرق بين الصفات (¬1) , فإما إثبات الجميع أو نفي الجميع , وبسبب هذا التناقض كل طائفة ترد على الأخرى. فيمكن الرد على الأشاعرة فيما نفوه بما يردون به هم على المعتزلة فيما أثبتوه , فما يحتجون به على المعتزلة يحتج به أهل السنة عليهم. وكذلك المعتزلة مع الجهمية؛ فما يرد به المعتزلة على الجهمية يرد به الأشاعرة وأهل السنة على المعتزلة. وهذا الأسلوب من الاحتجاج والرد قرره شيخ الإسلام في التدمرية في تقريره الأصل الأول (¬2) , في قوله: (القول في بعض الصفات كالقول في بعض) , وذكر الأشاعرة لا باسمهم لكن بمذهبهم , وأتبعهم بذكر المعتزلة ثم الجهمية , ثم الجهمية مع من بعدهم من الغلاة , وذكر هذا المعنى الذي ذكره الشيخ هنا في الرد على الأشاعرة ونحوهم في التناقض , حيث لا فرق بين ما نفوا وبين ما أثبتوا. فيرد عليهم في الصفات التي أثبتوها زاعمين أن العقل يدل عليها , بأن يقال: يمكن إثبات ما نفيتم بمثل ما أثبتم به تلك الصفات , فشيخ الإسلام ابن تيمية هناك طبقها على الصفات السبع , والشيخ محمد هنا طبقها على واحدة من الصفات السبع وهي الإرادة؛ فمن الصفات التي يثبتونها الإرادة ومن الصفات التي ينفونها الرحمة , فيقال: لا فرق بين إثبات الإرادة والرحمة , فإذا قلتم: إن الإرادة دل العقل عليها , قلنا: يمكن إثبات الرحمة بالعقل؛ فإنعام الله على العباد ونفعهم بالإحسان يدل ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 116). (¬2) التدمرية (ص 116).

على الرحمة , كدلالة التخصيص على الإرادة , فيحسن أن يرجع طالب العلم إلى هذا في التدمرية، فإنه هو الأصل في تقرير هذا الاحتجاج. والشيخ محمد هنا - أخيرًا - نَبَّهَ إلى أن المعطلة مشبهة , والمشبهة معطلة؛ فكل معطل مشبه، وكل مشبه معطل , وقد تقدم بيانه (¬1)؛ والله أعلم. ¬

_ (¬1) في صفحة رقم (83 ...).

فصل

فصلٌ اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهةً في نصوصٍ من الكتاب والسنة في الصفات، اِدَّعَى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها؛ ليُلْزِمَ أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟ ونحن نجيب - بعون الله - عن هذه الشبهة بجوابين: مجمل، ومفصل. أما المجمل؛ فيتلخص في شيئين (¬1): أحدهما: أَنْ لا نُسَلِّمَ أَنَّ تفسيرَ السلفِ لها صرفٌ عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مُرَكَّبٌ من كلمات وجُمَل، يظهر معناها ويتعينُ بِضَمِّ بعضها إلى بعض. ثانيهما: أننا لو سَلَّمْنَا أن تفسيرهم صرف لها عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلًا من الكتاب والسنة، إما متصلًا وإما منفصلًا، وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها ¬

_ (¬1) جامع المسائل (المجموعة الثالثة / 157 وما بعدها)، وهي مسألة في تأويل الآيات وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت.

المثال الأول

إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما المُفَصَّل: فعلى كل نص اُدُّعِيَ أن السلف صرفوه عن ظاهره. ولنمثل بالأمثلة التالية: فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أنه قال: إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض " (¬1)، و " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " (¬2)، و " إني أجد نَفَسَ الرحمن من قبل اليمن " (¬3). نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 398 / جـ 5 من مجموع الفتاوى)؛ وقال: هذه الحكاية كذب على أحمد. المثال الأول: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض " (¬4). والجواب عنه: أنه حديث باطل، لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (¬5): هذا حديث لا يصح. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8919) وغيره، وصحح وقفه: ابن تيمية في شرح العمدة (كتاب الحج) (2/ 435)، وابن حجر في المطالب العالية (2/ 36). (¬2) أخرجه بنحوه مسلم في صحيحه (2654) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (16/ 576 / رقم 10978)، والطبراني في مسند الشاميين (2/ 149) وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال العراقي - كما في كشف الخفاء (1/ 250) -: لم أجد له أصلًا. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 216). (¬4) مجموع الفتاوى (3/ 43 - 44 وَ 6/ 397 - 400، 580 - 581)، ودرء التعارض (5/ 239)، والاستغاثة (ص 387)، ومسألة المعية والنزول (المجموعة العلية الأولى / ص 75) جامع المسائل (المجموعة الثالث / 163)، عدة الصابرين (ص 83)، نقض الدارمي (1/ 282، 2/ 695)، شرح الرسالة التدمرية (217 - 219). (¬5) (2/ 575).

المثال الثاني

وقال ابن العربي: حديث باطل؛ فلا يلتفت إليه (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت اهـ (¬2). وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه. لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمشهور - يعني في هذا الأثر - إنما هو عن ابن عباس قال: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقَبَّلَهُ، فكأنما صافح الله وقَبَّلَ يمينه " (¬3)؛ ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه، فإنه قال: " يمين الله في الأرض " ولم يطلق فيقول: يمين الله، وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق، ثم قال: " فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " وهذا صريح في أَنَّ المُصَافِح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شُبِّه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله - تعالى - كما هو معلوم لكل عاقل. اهـ. (ص 398 / جـ 6) مجموع الفتاوى. المثال الثاني: " قلوب العباد بين أصبعين (¬4) من أصابع الرحمن " (¬5). ¬

_ (¬1) نقله المناوي في فيض القدير (6/ 397). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 397). (¬3) سبق تخريجه في صفحة رقم (...). (¬4) قال المؤلف: أصبع؛ مثلث الهمزة والباء؛ ففيه تسع لغات، والعاشرة (أصبوع)؛ كما قيل: وهمز أنملة ثَلِّث وثالثة * التسع في أصبع واختم بأصبوع أصبوع بضم الهمزة. (¬5) نقض الدارمي (1/ 369)، شرح الرسالة التدمرية (217، 220).

المثال الثالث

والجواب: أن هذا الحديث صحيح؛ رواه مسلم في الباب الثاني من كتاب القدر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " (¬1). وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا: إن لله - تعالى - أصابع حقيقة نثبتها له كما أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين أصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال: إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره. فهذا السحاب مُسَخَّر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض. ويقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما، فقلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن حقيقة، ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول. المثال الثالث: " إني أجد نَفَسَ الرحمن مِنْ قِبَلِ اليمن " (¬2). والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن ". قال في مجمع الزوائد: (رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة). قلت: وكذا قال في التقريب (¬3) عن شبيب ثقة من الثالثة، وقد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2654). (¬2) نقض الدارمي (2/ 686). (¬3) تقريب التهذيب (رقم 2759).

المثال الرابع

روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير (¬1). وهذا الحديث على ظاهره، والنَفَسُ فيه اسم مصدر نَفَّسَ يُنَفِّسُ تَنْفِيسًا، مثل: فَرَّجَ يُفَرِّجُ تَفْرِيجًا وفَرَجًا، هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية والقاموس ومقاييس اللغة (¬2). قال في مقاييس اللغة: النَّفَسُ كل شيء يفرج به عن مكروب. فيكون معنى الحديث: أن تنفيس الله - تعالى - عن المؤمنين يكون من أهل اليمن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نَفَّسَ الرحمنُ عَنِ المؤمنين الكربات). اهـ. (ص 398 / جـ 6 مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن قاسم). المثال الرابع: قوله تعالى: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ " [البقرة: 29] (¬3). والجواب: أن لأهل السنة في تفسيرها قولين: أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رَجَّحَهُ ابن جرير، قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف: (وأولى المعاني بقول الله - جل ثناؤه -: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُن " [البقرة: 29]. علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات) (¬4). اهـ. وذكره البغوي في تفسيره: قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف (¬5). وذلك تمسكاً بظاهر لفظ (اسْتَوَى). وتفويضًا لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله - عز وجل -. القول الثاني: إن الاستواء هنا بمعنى القصد التام؛ وإلى هذا ¬

_ (¬1) التاريخ الكبير (4/ 231). (¬2) النهاية (931)، القاموس (745)، مقاييس اللغة (5/ 460). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 402 وما بعدها). (¬4) تفسير الطبري (1/ 457). (¬5) تفسير البغوي (1/ 59).

المثال الخامس، والسادس

القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة (البقرة)، والبغوي في تفسير سورة (فصلت). قال ابن كثير: (أي: قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضُمِّنَ معنى القصد والإقبال، لأنه عُدِّيَ بإلى) (¬1). وقال البغوي: (أي: عمد إلى خلق السماء) (¬2). وهذا القول ليس صرفًا للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل (اسْتَوَى) اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء، فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به، ألا ترى إلى قوله - تعالى - " عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً " [الإنسان: 6] حيث كان معناها: يُرْوَى بها عباد الله، لأن الفعل " يَشْرَبُ " اقترن بالباء، فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام. المثال الخامس، والسادس: قوله - تعالى - في سورة الحديد: " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم " [الحديد: 4]، وقوله في سورة المجادلة: " وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا " [المجادلة: 7] (¬3). والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حَقٌّ على حقيقته وظاهره، ولكن ما حقيقته وظاهره؟ ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (1/ 332). (¬2) تفسير البغوي (1/ 60). (¬3) مجموع الفتاوى (3/ 140، 5/ 121 - 136، ومختصرةً في 226 - 246، 36/ 98 - 90)، رسالة في النزول والمعية وإثبات الصفات، الحموية (518 وما بعدها)، جامع المسائل (المجموعة الثالثة / 158 - 209)، الرد على الزنادقة والجهمية (296)، نقض الدارمي (1/ 442 وما بعدها)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (136، 190 - 196).

هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن لله – تعالى – مع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطًا بهم، أو حالًا في أمكنتهم؟ أو يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله – تعالى – مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم: علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا، وتدبيرًا، وسلطانًا، وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه؟ ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله – عز وجل – وهو أعظم وأَجَلُّ مِنْ أَنْ يحيط به شيء من مخلوقاته! ولأن المعية في اللغة العربية – التي نزل بها القرآن – لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق مصاحبة، ثم تفسر في كل موضعٍ بحسبه. وتفسير معية الله – تعالى – لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه: الأول: أنه مخالف لإجماع السلف، فما فسرها أحد منهم بذلك؛ بل كانوا مجمعين على إنكاره. الثاني: أنه منافٍ لعلو الله – تعالى – الثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف، وما كان منافيًا لما ثبت بدليل كان باطلًا بما ثبت به ذلك المنافي، وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاختلاط باطلًا بالكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف. الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله – سبحانه وتعالى –. ولا يمكن لمن عَرَفَ اللهَ – تعالى – وقَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وعرف

مدلول المعية في اللغة العربية – التي نزل بها القرآن – أَنْ يقول: إن حقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطًا بهم أو حالًا في أمكنتهم، فضلًا عن أن تستلزم ذلك، ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة، جاهل بعظمة الرب – جل وعلا –. فإذا تَبين بطلان هذا القول تَعين أن يكون الحق هو القول الثاني، وهو أن لله – تعالى – مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم، علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا، وتدبيرًا وسلطانًا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه. وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب، لأنهما حَقٌّ، ولا يكون ظاهر الحق إلا حقًا، ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبدًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية (ص 103 / جـ 5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم): (ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: " يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا " إلى قوله: " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ " [الحديد: 4] دَلَّ ظاهر الخطاب على أَنَّ حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مُطَّلِعٌ عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، هذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه (¬1)، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، وكذلك في قوله: " مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ " إلى قوله: " هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا " [المجادلة: 7] الآية. ولما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لصاحبه في الغار: " لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ ¬

_ (¬1) قال المؤلف: كان هذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه؛ لأنه إذا كان معلومًا أنَّ الله – تعالى – معنا مع علوِّهِ لم يبقَ إلا أن يكون مقتضى هذه المعية أنه – تعالى – عالم بنا مطلع شهيد مهيمن لا أنه معنا بذاته في الأرض.

مَعَنَا" [التوبة: 40] كان هذا – أيضًا – حقًا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا: معية الاطلاع والنصر والتأييد. ثم قال: فلفظ المعية قد اسْتُعْمِلَ في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر. فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية، فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب – عز وجل – مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها. اهـ. ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب – عز وجل – مختلطة بالخلق أن الله – تعالى – ذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [المجادلة: 7]. فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، لا أنه – سبحانه – مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض. أما في آية الحديد: فقد ذكرها الله – تعالى – مسبوقة بذكر استوائه على عرشه، وعموم علمه، متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد فقال: " هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " [الحديد: 4]. فيكون ظاهر الآية: أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده، وبصره

بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه؛ لا أنه – سبحانه – مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض، وإلا لكان آخر الآية مناقضًا لأولها الدالِّ على علوه واستوائه على عرشه. فإذا تبين ذلك؛ علمنا أن مقتضى كونه – تعالى – مع عباده أنه يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، وَيُدَبِّرُ شئونهم، فيحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه لا يحجبه عن خلقه شيء، ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة، ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص 142 / جـ 3 من مجموع الفتاوى لابن قاسم) في فصل الكلام على المعية قال: (وكل هذا الكلام الذي ذكره الله – سبحانه – من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة). اهـ. وقال في الفتوى الحموية (ص 102، 103 / جـ 5 من المجموع المذكور): (وَجِمَاعُ الأمرِ في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته. ولا يحسب الحاسب أن شيئًا من ذلك يناقض بعضه بعضًا ألبتة مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش ¬

_ (¬1) قال المؤلف: وقد يبقى أن المعية في اللغة العربية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان.

يخالفه الظاهر من قوله: " وَهُوَ مَعَكُمْ " [الحديد: 4]، وقوله – صلى الله عليه وسلم –: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قِبَلَ وجهه " (¬1)، ونحو ذلك فإن هذا غلط. وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله – سبحانه وتعالى –: " هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " [الحديد: 4]. فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث الأوعال: " والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه ". اهـ. واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله – تعالى – لا يناقض ما ثبت من علو الله – تعالى – بذاته على عرشه، وذلك من وجوه ثلاثة: الأول: أن الله – تعالى – جَمَعَ بينهما لنفسه في كتابه المبين المُنَزَّهِ عن التناقض، وما جَمَعَ الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما. وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فَتَدَبَّرْهُ حتى يتبين لك، لقوله تعالى: " أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" [النساء: 82]، فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون: " آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (753)، ومسلم (547) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما –.

عِنْدِ رَبِّنَا " [آل عمران: 7]، وَكِلِ الأمرَ إلى مُنْزِلِهِ الذي يعلمه، واعلم أن القصور في علمك أو في فهمك، وأن القرآن لا تناقض فيه (¬1). وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق: (كما جمع الله بينهما). وكذلك ابن القيم كما في مختصر الصواعق لابن الموصلي (ص 410 ط الإمام) في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل: إنه مجاز، قال: (وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستويًا على عرشه، وَقَرَنَ بين الأمرين كما قال تعالى - وذكر آية سورة الحديد - ثم قال: فأخبر أنه خلق السموات والأرض، وأنه استوى على عرشه، وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه؛ كما في حديث الأوعال: " والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه " فَعُلُوُّهُ لا يُنَاقِضُ معيتَهُ، ومعيتُهُ لا تبطل علوه؛ بل كلاهما حق). اهـ. الوجه الثاني: أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو، فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق فإنه يقال: (مازلنا نسير والقمر معنا)، ولا يعد ذلك تناقضًا، ولا يفهم منه أحد أن القمر نَزَلَ في الأرض، فإذا كان هذا ممكنًا في حق المخلوق، ففي حق ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 334): وهكذا الواقع في الحقيقة: أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه؛ فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل. وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك، وينبو فهمك عنه؛ فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأن تحته كنزًا من كنوز العلم ولم تؤت مفتاحه بعد - هذا في حق نفسك -. وأما بالنسبة إلى غيرك: فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي، وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص؛ فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو .. ولو ..

الخالق المحيط بكل شيء مع علوه – سبحانه – من باب أولى، وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان. وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية (ص 103 المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم) حيث قال: (وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دَلَّت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: (مازلنا نسير والقمر معنا، أو والنجم معنا)، ويقال: (هذا المتاع معي) لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة). اهـ. وصدق – رحمه الله تعالى – فإنَّ من كان عالمًا بك مطلعًا عليك، مهيمنًا عليك، يَسمع ما تقول، ويرى ما تفعل، ويدبر جميع أمورك، فهو معك حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة؛ لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان. الوجه الثالث: أنه لو فرض امتناع اجتماع المعية والعلو في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعًا في حق الخالق الذي جمع لنفسه بينهما؛ لأن الله – تعالى – لا يماثله شي من مخلوقاته، كما قال تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " [الشورى: 11]. وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص 143 / جـ 3 من مجموع الفتاوى) حيث قال: (وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه – سبحانه – ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عَليٌّ في دنوه، قريبٌ في عُلوه). اهـ.

التعليق هذا الفصل يقصد به الشيخ – رحمه الله – دفع شبهةٍ يوردها بعض أهل الأهواء على أهل السنة في نصوص الصفات؛ فإنَّ مذهب أهل السنة هو إمرار نصوص الصفات بلا كيف، وذلك بإجرائها على ظاهرها، والإيمان بما دلت عليه من صفاته – سبحانه وتعالى –. قال المعارضون: إنَّ أهل السنة قد خالفوا ذلك في بعض الآيات والأحاديث فصرفوها عن ظاهرها وهذا تأويل؛ فلماذا ينكر علينا التأويل؟! وقد أجاب أهل السنة عمَّا أوردوه من ذلك، وقد ذكر الشيخ في هذا الفصل الجواب مجملًا ومفصلًا؛ فأما المجمل فمن وجهين: أحدهما: الجواب بالمنع؛ فيقال: لا نُسَلِّم أنَّ هذا تأويل؛ بل الكلام على ظاهره حسب دلالة اللغة ودلالة السياق. الثاني: لو سلمنا جدلًا أنَّ ما قاله أهل السنة تأويل، فإنهم إنما صاروا إليه لدليل يوجب ذلك. وأما الجواب المفصَّل: فببيان دلالة كل مثال على حدته، وقد أوضح الشيخ ذلك في ستة أمثلة، فلا نطيل بذكر الجواب عنها؛ فكلام الشيخ واضح. فمن ذلك ما جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما –: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض ... " زعم المعترض: أنَّ ظاهره أن الحجر صفةٌ لله، وأنَّ من استلمه فقد صافح الله؛ فَأَوَّلَهُ أهل السنة وصرفوه عن ظاهره. والجواب: أولًا: أن الحديث جاء مرفوعًا وموقوفًا، ولم يثبت المرفوع؛ وكأن ابن تيمية يصحح الموقوف , وعلى كل حال الأمر سهل , فإن صح موقوفًا

عن ابن عباس، فيمكن أن يقال: إن له حكم الرفع لهذا الكلام " الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه "، وشيخ الإسلام ذكر هذا في التدمرية وقال عنه: (وفي الأثر الآخر) وذكره ووجهه، ثم قال: (مع أنَّ هذا الحديث إنما يُعرف عن ابن عباس) (¬1). ثانيًا: أجاب عن زعم المعترض بجوابين مضمونهما: أولًا: أنه على فرض صحته؛ قال: " يمين الله في الأرض " فلم يقل الحجر الأسود يمين الله؛ بل قال: " في الأرض ". ثانيًا: أنه قال: " من استلمه وقبله فكأنما " والمشبه غير المشبه به , لم يقل من استلمه وقبله فقد صافح الله وقبله , إنما قال: " فكأنما " والمشبه غير المشبه به؛ فعلم أن مستلم الحجر ليس مصافحًا لله، ولا مُقَبِّلًا ليمينه. ومن ذلك: قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " الآية [البقرة: 29]، فقيل: استوى: ارتفع، وقيل: قصد؛ والثاني هو الذي ذكره ابن كثير وهو أولى، وليس ذلك من التأويل؛ بل اقتضاه تعدية الفعل بِـ (إلى) فتكون الآية دالة على المعنيين حيث ضمن لفظ (استوى) معنى: قصد؛ وبذا يظهر الفرق بين: " استوى إلى السماء " [البقرة: 29] و " استوى على العرش " [يونس: 3]. وعلى كل حال هذا الكلام الذي ذكره الشيخ فيه الكفاية، والمنازعون والمخالفون وأهل الأهواء والمتعصبون يتتبعون المتشابه من كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء , كثير من الكلام تجد لهم فيه شبهة ويمكن أن يكون مؤيدًا , وهم ينسبون للإمام أحمد وغيره أنه تأول بعض النصوص وهو إذا تأول بعض النصوص جاز لنا أن نتأول ما سواها , والشيخ أجاب بما أجاب به ابن تيمية – رحمه الله – , فهذا الجواب مستمد من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله –. ¬

_ (¬1) التدمرية (216 – 218).

فما ادعوه على الإمام أحمد: فمنه ما لم يصح، ومنه ما لا يصح أن يسمى تأويلًا , لأن التأويل الصحيح هو: صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بدليل , فإذا كان التأويل مبنيًا على حجة لم يكن مذمومًا ولا ممنوعًا , كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد. وقد يكون الدليل - كما قال الشيخ - متصلًا في نفس الكلام؛ مثل ما أوضح في الأثر: " الحجر الأسود يمين الله " (¬1) , وذكر ابن تيمية حديثًا آخر في التدمرية (¬2) وهو قوله في الحديث الصحيح: " إن الله يقول يوم القيامة: عبدي مرضت فلم تعدني , عبدي جعت فلم تطعمني " (¬3) يقول بعض الغالطين: إن هذا الحديث يجب تأويله! لأن الله يمتنع أن يحتاج إلى الإطعام ويمتنع أن يمرض؛ فالحديث لابد من تأويله، فظاهر الحديث معنى باطل , فأجاب شيخ الإسلام عن هذا بأنه غير صحيح , لأن الحديث ليس هكذا مبتورًا؛ بل الحديث مفسر واضح ما فيه أيُّ إشكال , فإن الحديث فيه: " يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنَّ عبدي فلانًا مرض فلم تعده؛ أمَا علمتَ أنك لو عدته لوجدتني عنده " فجعل مرض العبد مرضًا لله , تعظيمًا لشأن ذلك العبد وتأكيدًا لحقه وعيادته , وهكذا الثاني " عبدي جعت فلم تطعمني. فيقول: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: بل جاع عبدي فلان فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي " الحديث، يقول الشيخ: فلم يبق في الحديث ما يحتاج إلى تأويل , بل الحديث مفسر واضح، ومن زعم أن ظاهر الحديث: أن الله يجوع ويمرض فهو مبطل , كمن قال: إن ظاهر قوله تعالى: " فويل للمصلين " [الماعون] ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في صفحة رقم (...). (¬2) التدمرية (218 وما بعدها)، وسيأتي الحديث عنه في المثال الخامس عشر. (¬3) أخرجه مسلم (2569) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

تهديد ووعيد للمصلين , والآية ليست هكذا , الآية موصولة: " الذين هم عن صلاتهم ساهون " [الماعون] فَصِلِ الآيةَ ترتفعُ الشبهةُ ويزولُ الإشكال. ومما ادعى فيه المعترض على أهل السنة: أنهم أولوا نصوص المعية، وهذا مبنيٌ على أنَّ حقيقة المعية تقتضي الاتصال والمخالطة وهذا ممنوع؛ بل يختلف مدلولها باختلاف ما تضاف إليه (مع)؛ فلهذا كان الأئمة يكتفون بقولهم: إنَّ الله معهم بعلمه , أخذًا من الآية (¬1) , فإن الآية بدأت بالعلم وختمت بالعلم , وهذا لا ينافي أن نقول: إنه معهم بعلمه وبسمعه، لأنه يسمع أصواتهم " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم " [المجادلة: 7] فهو معهم بعلمه، يسمعهم ويعلم حالهم وما يسرون ما يعلنون , ويرى مكانهم ويسمع كلامهم , هو معهم وهو فوق سماواته محيط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا – كما قال الشيخ – , لكن الأئمة تجد المأثور عنهم الاقتصار على العلم , ولا يريدون أن هذا المعنى مقصور على العلم , فالله مع عباده يراهم وهو فوق سماواته , ولهذا جاء في الحديث: " لا يخفى عليه شيء من أعمالكم " (¬2) يراهم، يسمعهم، يعلمهم، ومشيئته نافذة فيهم، وقدرته شاملة لهم. والحمد لله أنَّ الحق واضحٌ سهلٌ ميسرٌ , ولكن الذي صَعَّبَهُ هو بدع ¬

_ (¬1) المراد بالآية قوله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [المجادلة: 7]. (¬2) لم أجده مرفوعًا؛ وإنما وجدته موقوفًا على ابن مسعود – رضي الله عنه –: أخرجه ابن بطة في الإبانة (3/ 171)، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 139) وغيرهما.

المبتدعين، وفهم الجاهلين، وتحريف المبطلين , وإلا – ولله الحمد – من تكون عنده الفطرة السليمة لا يشكل عليه , فمن حيث العقل ومن حيث اللغة لا تنافي بين العلو والمعية , ولكن إنما أُتِيَ المعطلة من تأصيلهم الباطل , لما أَصَّلُوا نفي العلو استدلوا بنصوص المعية لتصحيح مذهبهم , لأن المذهب الذي توصلوا إليه بشبهاتهم هو نفي العلو، وأنه تعالى في كل مكان , فراحوا يصححون ما قالوه محتجين بنصوص المعية , فنصوص المعية ليست هي الدليل عندهم , لكن أهل الزيغ وأهل الأهواء يتبعون المتشابه , ويأخذون من الأدلة ما يوافق أهواءهم وأصولهم ومذاهبهم , وإلا فلماذا تتأولون نصوص العلو وتتعلقون بنصوص المعية زاعمين أنها تدل على الحلول وأنه تعالى في كل مكان؟ لماذا لم يكن التأويل لنصوص المعية؟ لماذا لم تقولوا إن نصوص العلو على ظاهرها وأنه تعالى في العلو ونصوص المعية لا تدل على الحلول؟ وهذا الإشكال والاشتباه ما جاء للمسلمين إلا لما أحدث المبتدعون مذهب التعطيل , نفي صفات الرب ونفي علو الرب – تعالى –، وقالوا بالحلول , فهنالك جاء الاضطراب والتحريف لكلام الله وكلام رسوله – عليه الصلاة والسلام – , وإلا فكلٌ من العلو والمعية – كما قال أهل العلم – حق على حقيقته , فالله فوق عرشه عال على خلقه , حق , وهو مع عباده , حق , كل منهما حق على حقيقته , لا تناقض , وكما ذكر الشيخ – رحمه الله – في هذه الوجوه أنه لا تناقض بين العلو والمعية في حق المخلوقين , فالمخلوق يكون عاليًا على غيره , ويقال إنه مع غيره , كما ضُرِبَ المثل بالقمر , فالقمر في مداره وفي مساره ومع ذلك يقول القائل: سرنا والقمر معنا , بل مثَّل العلماء بقول الرجل لولده وهو يَطَّلِعُ عليه من علو ويقول: لا تخف أنا معك , وهو بعيد عنه , ويقول الأمير للجيش: سيروا وأنا معكم , أسير معكم , بإحاطته بمتابعة وتدبير أمورهم , فالحق – ولله الحمد – مشرق وسهل وواضح ما فيه هذا التعقيد.

والمعية في اللغة العربية لا تستلزم مماسة فضلًا أن تستلزم اختلاطًا , فهي في كل مقام بحسبه , إذا قيل: الرجل معه امرأته , أحيانًا سافر بها معه في صحبته , وأحيانًا معه يعني أنه لم يطلقها , معية الاقتران الحكمي , أنها زوجته , يقال: فلان زوجته معه أو طلقها؟ فيقال: زوجته معه , وإن كان هو في المشرق وهي في المغرب , هي معه , وتقول: سافرت مع فلان، فقد تكون أنت في سيارة وهو في سيارة لكن يجمعكما السفر والاتفاق على أنكما مسافران معًا , ولا يلزم من ذلك أن تكونوا في سيارة واحدة وما إلى ذلك , فتقول: سافرنا مع فلان، وإن كان كل واحد في سيارة , لكن معية الاقتران في هذا الوجه وفي هذا السفر , ففيه اتفاق على الصحبة في السفر , فهذه معية خاصة بين المتصاحبين , لكن إذا ذهب كل واحد في طريقه ليس بينهما علاقة لا تقول: (أنا سافرت مع فلان). والحمد لله رب العالمين ما ذكره الشيخ ونقله فيه الوفاء والغناء، وفيه ما يبرهن على الحق وبطلان ما يزعمه الجهمية ومن سلك سبيلهم , فإن القول بالحلول هذا قول الجهمية خصوصًا قدماءهم - لأنه هو المشهور في أيام الإمام أحمد- والمعتزلة , وبه يقول الأشاعرة , لأن الأشاعرة هم ممن يقول بنفي العلو , والذين ينفون العلو فريق منهم يقول إنه تعالى حالٌّ في كل مكان , سبحانك هذا بهتان عظيم , ومنهم من يقول: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجه , وهذا أبعد في الفطر والعقول , ما الشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه إلا المعدوم , فإذا زعموا أن الله موجود وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، فقد جمعوا بين النقيضين , فكأنهم قالوا: إنه تعالى موجود معدوم، والحمد لله الذي عافانا من هذه الفهوم الفاسدة والعقول المظلمة.

تتمة

تتمة انقسم الناس في معية الله - تعالى - لخلقه ثلاثة أقسام: القسم الأول: يقولون: إن معية الله - تعالى - لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة، ومع النصر والتأييد في المعية الخاصة، مع ثبوت علوه بذاته واستوائه على عرشه؛ وهؤلاء هم السلف، ومذهبهم هو الحق - كما سبق تقريره -. القسم الثاني: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع نفي علوه واستوائه على عرشه؛ وهؤلاء هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، ومذهبهم باطل مُنْكَر، أجمع السلف على بطلانه وإنكاره - كما سبق -. القسم الثالث: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت عُلُوَّهِ فوق عرشه؛ ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 229 / جـ 5 من مجموع الفتاوى). وقد زعم هؤلاء: أنهم أخذوا بظاهر النصوص في المعية والعلو، وكذبوا في ذلك فضلوا، فإن نصوص المعية لا تقتضي ما ادعوه من الحلول؛ لأنه باطل، ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله باطلًا.

التعليق هذا حاصل ما استنتجه الشيخ مما تقدم من المذاهب في العلو والمعية، فذكر أنَّ المذاهب ثلاثة: 1 - مذهب أهل السنة والجماعة أنه تعالى معهم، وهو عالٍ على خلقه مستو على عرشه - كما تقدم - , وأن معيته لا تنافي علوه، فهو معهم بعلمه وسمعه وبصره. 2 - قول الجهمية وهو: أنه معهم بذاته حال في المخلوقات، وقال به بعض من ينفي العلو من الأشاعرة. 3 - أنَّ معيةَ الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت علوه فوق عرشه، وهذا قولٌ لم يُسَمِّ قائله. 4 - وهناك قول رابع وهو قول مشهور قال به متأخروا الجهمية وبعض متأخري الأشاعرة، وهو: نفي العلو ونفي الحلول؛ فيقولون - تعالى الله عن قولهم -: إنه - تعالى - لا داخل العالم ولا خارجه، مع قولهم: إنه موجود؛ وهذا يتضمن وصفُهُ بسلب النقيضين؛ بل وبجمع النقيضين.

تنبيه

تنبيه اعلم أن تفسير السلف لمعية الله - تعالى - لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار على العلم؛ بل المعية تقتضي - أيضًا - إحاطته بهم سمعًا وبصرًا وقدرة وتدبيرًا ونحو ذلك من معاني ربوبيته. تنبيه آخر: أشرت - فيما سبق - إلى أن علو الله - تعالى - ثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، والإجماع. أما الكتاب؛ فقد تنوعت دلالته على ذلك: فتارة بلفظ العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وكونه في السماء؛ كقوله تعالى: " وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " [البقرة: 255] " وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ " [الأنعام: 18] " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " [طه: 5] " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْض " [الملك: 16]. وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه؛ كقوله: " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب " [فاطر: 10] " تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ " [المعارج: 4] " إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ " [آل عمران: 55]. وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك؛ كقوله تعالى: " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك " [النحل: 102] " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض " [السجدة: 5]. وأما السنة؛ فقد دلت عليه بأنواعها القولية، والفعلية،

والإقرارية، في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - في سجوده: " سبحان ربي الأعلى " (¬1)، وقوله: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي " (¬2)، وقوله: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء " (¬3)، وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: " اللهم أغثنا " (¬4)، وأنه رفع يده على السماء وهو يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: " اللهم اشهد " (¬5)، وأنه قال للجارية: " أين الله؟ " قالت: في السماء. فأقرها وقال لسيدها: " أعتقها فإنها مؤمنة " (¬6). وأما العقل: فقد دل على وجوب صفة الكمال لله - تعالى - وتنزيهه عن النقص. والعلو صفة كمال والسفل نقص، فوجب لله - تعالى - صفة العلو وتنزيهه عن ضده. وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله - تعالى - دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه - تعالى - إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة. واسأل المصلين، يقول الواحد منهم في سجوده: " سبحان ربي الأعلى " أين تتجه قلوبهم حينذاك؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (772) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (7422)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬5) أخرجه مسلم (221) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وأصله في الصحيحين. (¬6) أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -.

وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله - تعالى - فوق سمواته مستوٍ على عرشه؛ وكلامهم مشهور في ذلك نصًا وظاهرًا. قال الأوزاعي: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات) (¬1). وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، ومُحَالٌ أَنْ يقع في مثل ذلك خلاف، وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر طُمِسَ على قلبه واجتالته الشياطين عن فطرته؛ نسأل الله - تعالى - السلامة والعافية. فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلًا وأحق الأشياء وأثبتها واقعًا. التعليق نسأل الله العافية؛ هذا فكر دخل على الناس وسرى في الأمة، ودخل على كثير من أهل العلم والخير والصلاح - سبحان الله -، لأن المدرسة والنشأة والمجتمع له تأثير عظيم على نفسية الإنسان وعلى توجهه؛ فمن نعمة الله على العبد أن ينشأ في أرض سُنَّةٍ وفي أرضِ عِلْم , ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات - كما نقل ذلك غير واحد - من طريق الحاكم، وصحح هذا الأثر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مواضع من كتبه كالحموية (299)، ودرء تعارض العقل والنقل (6/ 262)، وبيان تلبيس الجهمية (2/ 37)؛ وكذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (69)؛ وقال ابن حجر في الفتح (13/ 406): وأخرج البيهقي بسند جيد؛ وأَعَلَّ هذا الأثر ابن جماعة في إيضاح الدليل (81).

فهذا الكلام الذي يقوله الشيخ وينكره - وهو جديرٌ بالإنكار - , هذا كل الأشاعرة في الجملة - كما تقدم - ينفون حقيقة العلو عن الله والاستواء على العرش , والمتأخرون منهم خاصة مذهبهم في الاستواء والعلو هو مذهب الجهمية , يقولون بالحلول , أو يقولون مثل ما يقول الرازي: إنه لا داخل العالم ولا خارجه , ويتأولون النصوص , يتأولون نصوص الاستواء أو يفوضونها إذا عجزوا , يتحاشون التأويل لأنَّ فيه شناعة وبشاعة وتحريفًا، فيقولون هذه النصوص نمرها كما جاءت , يعني لا ندري معناها , وليس مقصودهم: نمرها على طريقة السلف؛ بمعنى: نجريها على ظاهرها ونؤمن بها ونثبت ما دلت عليه ولا نصرفها عن ظاهرها؛ بل هم يقولون نجريها على ظاهرها ألفاظًا ولا نتعرض لها ولا نفهمها.

تنبيه ثالث

تنبيهٌ ثالث اعلم أيها القارئ الكريم، أنه صدر مني كتابة لبعض الطلبة تتضمن ما قتله في بعض المجالس في معية الله - تعالى - لخلقه ذكرت فيها: أن عقيدتنا أن لله - تعالى - معية حقيقة ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا، وسلطانًا وتدبيرًا، وأنه سبحانه مُنَزَّهٌ أن يكون مختلطًا بالخلق أو حالًا في أمكنتهم؛ بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه مستوٍ على عرشه - كما يليق بجلاله -، وأن ذلك لا ينافي معيته؛ لأنه تعالى " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " [الشورى: 11]. وأردت بقولي: (ذاتية) توكيد حقيقة معيته - تبارك وتعالى -. وما أردت أنه مع خلقه سبحانه في الأرض، كيف وقد قلت في نفس هذه الكتابة كما ترى: إنه سبحانه مُنَزَّهٌ أن يكون مختلطًا بالخلق أو حالًا في أمكنتهم، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وقلت فيها أيضًا ما نصه بالحرف الواحد: (ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إِنْ نَسَبَهُ إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها). اهـ. ولا يمكن لعاقل عَرَفَ الله وقدره حق قدره أن يقول: إن الله مع خلقه في الأرض، وما زلت ولا أزال أنكر هذا القول في كل

مجلس من مجالسي جرى فيه ذكره؛ وأسأل الله - تعالى - أن يثبتني وإخواني المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. هذا وقد كتبت بعد ذلك مقالًا نشر في مجلة (الدعوة) (¬1) التي تصدر في الرياض، نُشِرَ يومَ الاثنين الرابع من شهر محرم سنة 1404 هـ أربع وأربعمائة وألف برقم (911) قررت فيه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - من أن معية الله - تعالى - لخلقه حق على حقيقتها، وأن ذلك لا يقتضي الحلول والاختلاط بالخلق فضلًا عن أن يستلزمه، ورأيت من الواجب استبعاد كلمة (ذاتية)، وبينت أوجه الجمع بين علو الله تعالى وحقيقة المعية. واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله - تعالى - في الأرض أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي علوه، أو نفي استوائه على عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى فإنها كلمة باطلة، يجب إنكارها على قائلها كائنًا من كان وبأي لفظ كانت. وكل كلام يوهم - ولو عند بعض الناس - ما لا يليق بالله - تعالى - فإن الواجب تجنبه؛ لئلا يظن بالله - تعالى - ظن السوء، لكن ما أثبته الله - تعالى - لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالواجب إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه ما لا يليق بالله - عز وجل -. التعليق وأصل ما ذكره الشيخ - رحمه الله - أنه في بعضِ كلامٍ لهُ أطلقَ أنَّ الله معَ العباد بذاته، أو أنَّ معيةَ الله ذاتيةٌ فتلقفها بعض الناس ولعله بحسن نية , ¬

_ (¬1) ألحق هذا المقال في طبعة مدار الوطن للقواعد المثلى صفحة (119).

فَحَمَلَ على الشيخ وَبَدَّعَهُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ وَكَتَبَ بَعْضَ الرد عليه , والكلمة التي تكون مشتبهة أو متشابهة ترد إلى بقية كلام العالم , أما أن تقطع الكلمة عما قبلها!! فهذا لا يصلح، وهذا يجري في كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء , فلا بُدَّ من رَدِّ الكلام بعضه إلى بعض ورد المتشابه إلى المحكم الواضح البين؛ فالشيخ ابتلي وأوذي بالتشنيع عليه وأنه يقول بقول الجهمية ونحوهم , لكن كلامه واضح , فمن يعرف الشيخ لا يرتاب ولا يكون عنده مشكلة أبدًا.

المثال السابع والثامن

المثال السابع والثامن قوله تعالى: " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " [ق: 16]، وقوله: " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ " [الواقعة: 85] حيث فُسِّرَ القُرْبُ فيهما بقرب الملائكة. والجواب: أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفًا للكلام عن ظاهره لمن تدبره (¬1). أما الآية الأولى: فإنَّ القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك، حيث قال: " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " [ق: 16 - 18] ففي قوله: " إِذْ يَتَلَقَّى " دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقيين. وأما الآية الثانية: فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى: " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ " [الأنعام: 61] ثم إن في قوله: " وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ " [الواقعة: 85] دليلًا بينًا على أنهم الملائكة، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يُعَيِّنُ أن يكون المراد قرب الملائكة، لاستحالة ذلك في حق الله - تعالى -. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (4/ 250، 253)، شرح حديث النزول (365)، الروح (65)؛ مدارج السالكين (2/ 290).

بقي أن يقال: فلماذا أضاف الله القرب إليه؟ وهل جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة؟ فالجواب: أضاف الله - تعالى - قرب الملائكة إليه؛ لأن قربهم بأمره، وهم جنوده ورسله. وقد جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة، كقوله تعالى: " فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ " [القيامة: 18] فإن المراد به: قراءة جبريل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أن الله - تعالى - أضاف القراءة إليه؛ لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله - تعالى - صحت إضافة القراءة إليه تعالى. وكذلك جاء في قوله تعالى: " فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ " [هود: 74]. وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى. التعليق هذان المثالان واضحان بينان - ولله الحمد - , فهاتان الآيتان مما زعم الغالطون والمغالطون أن تفسير القرب: (بقرب الملائكة) تأويل لها؛ فهذا من الشبهات التي يحتج بها بعض المعطلة على أهل السنة , وأنكم بهذا قد صرفتم هذه الآيات عن ظاهرها. والجواب كما ذكر الشيخ: أن سياق الآيتين يدل على ذلك , علمًا أن هناك من أجراهما على ظاهرهما في الجملة وأثبت القرب العام (¬1)؛ ولكن التحقيق أن القرب إنما جاء خاصًا ولم يأتِ عامًا , وأما الآيتان فالمراد بالقرب فيهما: قربُ الملائكة , لِما ذُكِرَ , وكثيرًا ما يذكر الله ما ¬

_ (¬1) درء التعارض (1/ 252)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 398، 425).

يفعله بملائكته يضيفه إلى نفسه بصيغة الجمع , مثل الآيتين التي ذكر الشيخ " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " [القيامة: 18] فالمراد: قراءة جبريل القرآن على النبي - عليه الصلاة والسلام - وقوله: " يجادلنا في قوم لوط " [هود: 74] فالملائكة رسل الله والمجادِل للرسول مجادِل لمن أرسله , فالله - تعالى - يضيف إلى نفسه ما يفعله بملائكته , وشواهد هذا في القرآن كثيرة , وهو أمر معروف في خطاب الناس بعضهم لبعض , المرسَل يقوم مقام من أرسله , ولهذا يقول - مثلا - قلنا لك وفعلنا لك، وإنما قالَ أو فعلَ بواسطة الرسول , يقول القائل: كتبت , كتبنا , كتبت إلى فلان كتابًا , وقد لا يكون خطه بيده , وإنما كتبه الكاتب , بخلاف ما لو قال: كتبت بيدي؛ فإذا قال: كتبت بيدي، تَعَيَّنَّ أنه كتبه بيده؛ لكن مجرد أن يقول: كتبت أو كتبنا؛ فقد يكون بواسطة كاتب وقد يكون بيده.

المثال التاسع والعاشر

المثال التاسع والعاشر قوله تعالى عن سفينة نوح: " تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا " [القمر: 14]، وقوله لموسى: " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي " [طه: 39]. والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته، لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟ (¬1) هل يقال: إِنَّ ظاهره وحقيقته أَنَّ السفينة تجري في عين الله؛ أو أن موسى - عليه الصلاة والسلام - يربى فوق عين الله - تعالى -؟!! أو يقال: إن ظاهره أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله - تعالى - يرعاه ويكلؤه بها. ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين: الأول: أنه لا يقتضيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، قال الله - تعالى -: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " [يوسف: 2]، وقال تعالى: " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " [الشعراء: 193 - 195]، ولا أحد يفهم من قول القائل: (فلان يسير بعيني) أَنَّ المعنى: أنه يسير داخل عينه، ولا من قول القائل: (فلان تخرج على عيني)، أَنَّ تخرجه كان وهو راكب على عينه، ولو اِدَّعَى مُدَّعٍ ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (2/ 399 - 400)، وتوضيح مقاصد العقيدة الواسطية (93 - 103).

أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلًا عن العقلاء. الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، ولا يمكن لمن عرف الله وَقَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ أن يفهمه في حق الله - تعالى -؛ لأن الله - تعالى - مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا يحل فيه شيء من مخلوقاته، ولا هو حَالٌّ في شيء من مخلوقاته، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تَعَيَّنَ أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها. وهذا معنى قول بعض السلف بمرأى مني، فإن الله - تعالى - إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه، ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام. التعليق هذه الآية وهي قوله تعالى: " تجري بأعيننا " أوضح في الدلالة على المراد؛ فالمعنى المراد منها ظاهر فلا تحتاج إلى تأويل، وهي أظهر في معناها من سائر الأمثلة المتقدمة، فاحتجاج الخصم بها على أهل السنة مغالطةٌ ظاهرة، أو جهل فاضح. ولولا تلبيس المبطلين وتشويش أصحاب الأهواء ما كان هناك موجب للاحتراز، وأن هذه الآية لا تحتمل أبدًا هذا المعنى المنتفي بالضرورة، فلا يخطر ببال عاقلٍ كما قال الشيخ " تجري بأعيننا " [القمر: 14] لا يفهم عاقل أبدًا أن المعنى أنها تجري في عينه - سبحانه وتعالى عما يظن ويقول الجاهلون علوًا كبيرًا -، فقوله تعالى: " تجري بأعيننا " [القمر: 14] يعني:

تجري بمرأى منا وبكلأتنا وحفظنا يراها - سبحانه وتعالى - , ففيها إثبات الرؤية، ولكن - أيضًا - فيها إثبات العينين لله , فإذا قال المفسرون من أهل السنة تجري بأعيننا يعني بمرأى منا , تجري والله يراها = لم يكن هذا تأويلًا , مثل: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " [الطور: 48] يعني: وأنت بمرأى منا , كقوله: " وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " [الشعراء: 217 - 219] , فالآية لا تحتمل إلا هذا. أما المعنى الآخر فليس محتملًا أبدًا؛ فلا يصح أن يقال: إِنَّ ظاهرها هو المعنى الفاسد , وإن تفسيرها بالمعنى الذي قاله أهل السنة تأويل وإخراج للفظ عن ظاهره , كلا أبدًا , اللفظ لا يحتمل إلا هذا , ولكن كما قلت: إن فيها هذا المعنى وفيها إثبات العين , وإذا قال مفسروا أهل السنة " تجري بأعيننا " يعني بكلأتنا وبمرأى منا فليس هذا تفسير للعين , هذا تفسير للجملة وبيان لمضمون الكلام , ففيها إثبات العينين لله وإثبات الرؤية , والباء في قوله: " تجري بأعيننا " للمصاحبة أي بمرأى منا؛ فالباء هنا ليست سببية , وإنما للمصاحبة يعني: تجري والله يراها.

المثال الحادي عشر

المثال الحادي عشر قوله تعالى في الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " (¬1). والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق. وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته. ولكن ما ظاهر هذا الحديث؟ هل يقال: إن ظاهره أن الله - تعالى - يكون سَمْعَ الولي وبصره ويده ورجله؟ أو يقال: إن ظاهره أن الله - تعالى - يسدد الولي في سمعهِ وبصرهِ ويدهِ ورجلِهِ بحيث يكون إدراكه وعمله لله، وبالله، وفي الله؟ (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) الجواب الصحيح (3/ 334 وما بعدها)، الروح (238)، الداء والدواء (430 وما بعدها)، طريق الهجرتين (1/ 453، 2/ 664 - 665)، مدارج السالكين (2/ 413)، روضة المحبين (410)، عدة الصابرين (82 وما بعدها).

ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام؛ بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث، فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين: الوجه الأول: أن الله - تعالى - قال: " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه "، وقال: " ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ". فأثبت عبدًا ومعبودًا، ومتقربًا ومتقربًا إليه، ومحبًا ومحبوبًا، وسائلًا ومسئولًا، ومعطيًا ومعطى، ومستعيذًا ومستعاذًا به، ومعيذًا ومعاذًا؛ فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر، وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفًا في الآخر أو جزءًا من أجزائه. الوجه الثاني: أن سمع الولي وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق حادث بعد أن لم يكن، ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعًا وبصرًا ويدًا ورجلًا لمخلوق؛ بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره، ويحسر اللسان أن ينطق به ولو على سبيل الفرض والتقدير، فكيف يسوغ أن يقال: إنه ظاهر الحديث القدسي؟! وأنه قد صرف عن هذا الظاهر، سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه = تعينَ القول الثاني، وهو أن الله - تعالى - يسدد هذا الولي في سمعه وبصره وعمله؛ بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره، وعمله بيده ورجله كله لله - تعالى - إخلاصًا، وبالله - تعالى - استعانةً، وفي الله - تعالى - شرعًا واتباعًا، فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة، وهذا غاية التوفيق؛ وهذا ما فسره به السلف، وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره؛ ولله الحمد والمنة.

المثال الثاني عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله - تعالى - أنه قال: " من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت من باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " (¬1). وهذا الحديث صحيح؛ رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، وروى نحوه من حديث أبي هريرة - أيضًا -، وكذلك روى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر. وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله - تعالى -، وأنه - سبحانه - فَعَّالٌ لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " [البقرة: 186]، وقوله: " وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً " [الفجر: 22]، وقوله: " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ " [الأنعام: 158]، وقوله: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " [طه:5]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر " (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه " (¬3) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى. فقوله في هذا الحديث: " تقربت منه " " وأتيته هرولة " من هذا الباب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (2687) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) سبق تخريجه في صفحة (...). (¬3) أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والسلف - أهل السنة والجماعة - يجرون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله - عز وجل - من غير تكييف ولا تمثيل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص 466 / جـ 5 من مجموع الفتاوى): (وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته مَنْ يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر). اهـ. فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟ وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟ وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالًا لما يريد على الوجه الذي يليق به؟ وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: " أتيته هرولة " يراد به: سرعة قبول الله - تعالى - وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوارحه، وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل. وعلل ما ذهب إليه بأن الله - تعالى - قال في الحديث: " ومن أتاني يمشي " ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله - عز وجل - الطالب للوصول إليه لا يتقرب ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط؛ بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها، وتارة بالركوع والسجود ونحوهما،

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " (¬1)، بل قد يكون التقرب إلى الله - تعالى - وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه كما قال الله - تعالى -: " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ " [آل عمران: 191]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: " صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب " (¬2). قال: فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله - تعالى - العبد على عمله، وَأَنَّ مَنْ صَدَقَ في الإقبال على ربه وإن كان بطيئًا جازاه الله - تعالى - بأكمل من عمله وأفضل، وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه. وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية، لم يكن تفسيره به خروجًا به عن ظاهره ولا تأويلًا كتأويل أهل التعطيل، فلا يكون حجة لهم على أهل السنة؛ ولله الحمد. وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر؛ لكنَّ القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف. ويُجاب عما جعله قرينة من كون التقرب إلى الله - تعالى - وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي: بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر فيكون المعنى: مَنْ أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة، أو من ماهيتها كالطواف والسعي؛ والله - تعالى - أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (1117).

التعليق الرسول - عليه الصلاة والسلام - حَدَّثَ أصحابه بهذين الحديثين، ولم يكن - ولله الحمد - عندهم فيهما إشكال , لأنهم يفهمون عن الله وعن رسوله مراده , ويفهمون دلالات الكلام , إنما جاء الاضطراب لَمَّا ظهرت البدع وغلب على أصحابها هذه البدع والأهواء، فصاروا يتبعون المتشابه؛ كما قال الله: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " [آل عمران: 7] فهذه الأحاديث إنما يُشكل فهمها أو يفهمها على غير وجهها إما جاهل لا يفهم دلالات السياق أصلا لقصور فهمه , أو أنه يكون صاحب بدعة يحمله ما يذهب إليه إلى أَنْ يُحَمِّلَ النصوصَ ما لا تحتمل، وَيَدَّعِيْ فيها ما ليس هي دالةٌ عليه؛ والحمد لله رب العالمين. وما يتعلق بالمثال الحادي عشر - وهو حديث الولي - في قوله في الحديث القدسي: " كنت سمعه. . . بصره " كما قال الشيخ ليس ظاهره أن الله يصير عينًا للإنسان أو يدًا أو رجلًا أو أذنًا، أو أن يصير متحدًا بالمخلوق أو حالًّا فيه , هذا معنى باطل لا يسبق إلى أذهان ذوي الفطر السليمة , " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره " يعني أصبح لا ينظر إلا بالله , لا ينظر إلا ما يحب الله منه النظر إليه , إلا ما أمره الله بالنظر إليه , ولا يسمع إلا ما أمر الله باستماعه، ولا يبطش ولا يأخذ إلا ما أمر الله به؛ فهو مطيع لربه بجوارحه كلها، وجوارحه خاضعة لله لا يتصرف فيها إلا بأمر الله استعانة وعبادة , مستعينًا بالله عابدًا لله بسمعه وبصره ويده ورجله. وهكذا الحديث الثاني: " مَنْ تقرب إليَّ شبرًا " تقرب إليَّ بالعبادة , فالعبد يتقرب إلى ربه , ويَقْرُب من ربه , لكن ليس هو القرب المحسوس " من تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا " فالله يَقْرُب من عبده كيف شاء، والعبد يقرب من ربه قربًا معنويًا وروحيًا، هو في مضجعه في منامه في مكانه لكن روحه عند ربه , بتوجهه

إلى ربه؛ كما قال سبحانه: " واسجد واقترب " [العلق: 7] , " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " (¬1) والله يقرب من عباده كيف شاء , ولهذا التحقيق: أنَّ القرب من الله قربٌ خاص , يعني ليس هناك قرب عام , فلا نقول: إن الله قريب من جميع العباد؛ كما نقول: إنه مع جميع العباد , الأظهر: أن القرب لم يأت إلا خاصًا كما في هذا الحديث وفي قوله: " إني قريب أجيب " الآية [البقرة: 186] فهو قريب من الداعين ومن العابدين , وأما قوله: " هرولة " جاءت في مقابل " أتاني يمشي " فقوله: " أتاني يمشي " لا تعني العبادة التي فيها المشي , هذه جاءت زيادة " تقرب إليَّ شبرًا " " تقرب إليَّ ذراعًا " " ومن أتاني يمشي " يعني معناه: أنه تقرب إلى الله أكثر وأكثر؛ وعندي أنه لا يختص بالعبادات التي تقتضي مشيًا؛ بل يعم , فالعبرة بسير القلوب. " أتيته هرولة " يعني مِثْلا بمثل , كما أنه ازداد تقربه إلى ربه فالله - تعالى - يزيده يعني أن يَقْرُب منه , ولابد من مراعاة السياق , فلا يقال: إن معنى أنه هرولة إن الله يركض , لا , هذا جاء في سياق معين يدل على أنه تعالى يقرب منه أكثر وأكثر. " من تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " أقول: إن السلف من الصحابة والتابعين ما كان يشكل عليهم شيء من ذلك - ولله الحمد - , يعرفون دلالات الكلام ودلالات السياق ولا يتوهمون بهذه النصوص ما لا يليق به سبحانه , مثل " عبدي مرضت. . . عبدي جعت " (¬2) جاء الحديث مفسرًا " قال كيف أعودك وأنت رب العلمين؟! قال: مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده " فجعل مرض عبده مرضه , أضاف المرض إلى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (483) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة (...).

نفسه , وفي هذا دلالة على عنايته - تعالى - بعبده الصالح وعلى فضيلته , فجعل مرضه مرضه وجعل جوعه جوعه , مفسرًا ذلك بأنك لو عدته لوجدتني عنده ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي (¬1) , والله أعلم. والأفعال الاختيارية هي التي تكون بمشيئته؛ كل فعل تقول: (إن الله يقول أو يفعل كذا إذا شاء) فهو فعل اختياري , وهي الصفات الفعلية , فالعلم لا يصح فيه أن تقول إن الله يعلم إذا شاء , أو إنه يكون حيًا إذا شاء , أو إن له يدًا إذا شاء , لكن تقول: إنه ينزل إذا شاء، واستوى على العرش حين شاء، ويتكلم إذا شاء إلى آخره. وحديث: " عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا " (¬2) ليس هو الملل الذي هو السآمة , لكن نعلم أن الملل يدل على الكراهة , فالله - تعالى - يحب من عباده العمل الصالح إلا أن يشقوا على أنفسهم , فإذا شقوا على أنفسهم وكلَّفوا أنفسهم مالا يطيقون فإن الله يكره منهم ذلك , يكره العمل , فالملل من الشيء يتضمن كراهته , فالله - تعالى - يحب العمل الصالح من عباده ما لم يشقوا على أنفسهم , فإذا شقوا على أنفسهم وتسببوا في الملل من العمل , فإن الله يمل ولا يحب منهم ذلك العمل؛ بل يكره منهم ذلك العمل " اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا "، فإذا مَلَّ العبد فالله - تعالى - لا يحب عمله الذي يجهد به نفسه، ويشق به على نفسه، ويتجاوز فيه الحدود الشرعية , كإنسانٍ يقوم ويضع له حبلًا يتعلق فيه من أجل القيام؛ كما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتين، فقال: " ما هذا الحبل؟! " قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا، حُلُّوه؛ لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فَتَرَ فليقعد " (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: التدمرية (216 - 219)، والدرء (5/ 233 - 336)، وسيأتي الكلام عليه في صفحة (...). (¬2) أخرجه البخاري (43) في مواضع، ومسلم (782) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

المثال الثالث عشر

المثال الثالث عشر قوله تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً " [يس: 71]. والجواب: أن يقال: ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال إنها صرفت عنه؟ هل يقال: إن ظاهرها أن الله - تعالى - خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده؟ أو يقال: إن ظاهرها أن الله - تعالى - خلق الأنعام كما خلق غيرها، لم يخلقها بيده، لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروفٌ في اللغةِ العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآن الكريم. أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين: أحدهما: أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل به القرآن، ألا ترى إلى قوله تعالى: " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ " [الشورى: 30]، وقوله: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " [الروم: 41]، وقوله: " ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم " [آل عمران: 182]، فإن المراد: ما كسبه الإنسان نفسه وما قَدَّمَهُ وإنْ عَمِلَهُ بغير يَدِهِ، بخلاف ما إذا قال: عَمِلْتُهُ بيدي؛ كما في قوله تعالى: " فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " [البقرة: 79]، فإنه يدل على مباشرة الشيء باليد.

الثاني: أنه لو كان المراد أن الله - تعالى - خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية: خلقنا لهم بأيدينا أنعامًا؛ كما قال الله - تعالى - في آدم: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ " [ص: 75]؛ لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية؛ لقوله تعالى: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء " [النحل: 89]. وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني؛ وهو: أن ظاهر اللفظ أن الله - تعالى - خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده، لكن إضافة العمل إلى اليد كإضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية، بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وَعُدِّيَ بالباء إلى اليد، فتنبه للفرق؛ فإن التنبه للفروق بين المتشابهات من أجود أنواع العلم، وبه يزول كثيرٌ من الإشكالات. التعليق هذه المسألة ذكرها ابن تيمية في التدمرية في القاعدة الثالثة من القواعد النافعة (¬1) , ذكر أن من أغلاط بعض الناس جعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قالوا في قوله تعالى: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75] إنها نظير لقوله تعالى: " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا " [يس: 71]، فجعل الآيتين كلاهما من قبيل واحد , ومن يقول ذلك يريد أن يتوصل إلى أن قوله تعالى: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75] مثل: " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا " [يس: 71] لا تدل على المباشرة باليدين أو وقوع الفعل باليدين , وإنما تدل على أنه خلق ¬

_ (¬1) التدمرية (ص 221)، وانظر شرحها في: شرح الرسالة التدمرية (222 - 226).

آدم بقدرته كما خلق الأنعام بقدرته , فجعل آية (ص) كآية (ياسين). وقد فنَّد شيخ الإسلام - رحمه الله - هذا القول ببيان الفرق بين الآيتين في الأسلوب , فقال: إنه في آية (ياسين) أضاف الفعل إلى الأيدي، وقال: " مما عملت أيدينا " [يس: 71] , كما قال في الآية الأخرى: " فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30]؛ وأما في آية (ص) فأضاف الفعل إلى نفسه وعداه إلى اليد بالباء فقال: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75]. وأيضًا؛ فإنه ذكر الأيدي في آية (ياسين) بلفظ الجمع، وفي آية (ص) بلفظ التثنية؛ وأيضًا فإنه ذكر نفسه هو - سبحانه وتعالى - بصيغة الجمع في آية (ياسين) , وذكر نفسه في آية (ص) بلفظ المفرد , ثم نظَّر لهذه الآيات، فقال: إن آية (ياسين) من حيث إسناد الفعل إلى الأيدي كآية الشورى " فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30] , وآية ياسين من حيث ذكر المثنى بصيغة الجمع كقوله: " تجري بأعيننا " [القمر: 14] فذكر المثنى بصيغة الجمع , وقوله تعالى: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75] نظير لقوله: " بل يداه مبسوطتان " [المائدة: 64] من حيث ذكر اليدين بلفظ التثنية , فبان من ذلك بطلان من يجعل آية (ص) كآية (ياسين)؛ بل بينهما فروق. إذن؛ فآية (ياسين) لا تدل على حصول الخلق باليدين , فلا تدل على أن الله خلق الأنعام بيديه بينما آية (ص) تدل على أن الله خلق آدم بيديه , والقول بأن آية (ياسين) تدل على خلق الأنعام باليدين يؤدي إلى أن آدم ليس له فضيلة وليس له خصوصية , وكذلك إذا قيل: إن آية (ص) كآية (ياسين) لا تدل على الخلق باليدين، فإن ذلك يقتضي نفي اختصاص آدم بهذا الشرف وهذه الفضيلة. والحاصل: أنه يفرق في اللغة العربية بين إسناد الفعل إلى الأيدي وإسناد الفعل إلى الفاعل وتعديته إلى اليد أو اليدين بالباء , ففرق بين قول

القائل: (هذا ما فعلت يداك) , هذا لا يدل على أنه قد جناه بيده , فتقول لإنسان تكلمَ بكلامٍ أَضَرَّ بِهِ وَسَبَّبَ له ضررًا: (هذا ما فعلت يداك) , وهو إنما جنى بلسانه أو برجله , ولكن إذا قلت: (هذا ما فعلت بيديك) فإن هذا يدل على أن الجناية حصلت باليد , بقتلٍ أو ضربٍ أو ما أشبه ذلك , كما ذكر الشيخ من الفروق " ذلك بما قدمت أيديكم " [آل عمران: 182]، وقوله: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " [البقرة: 79]، فإذا أسند الفعل إلى الفاعل وعُدِّيَ بالباء دل على أن الفعل حصل ووقع باليد , وإذا أسند الفعل إلى الأيدي " فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30] " بما قدمت أيديكم " [آل عمران: 182] " بما قدمت يداك " [الحج: 10]، فإنه - حينئذٍ - لا يدل على خصوص ما جناه المكلف بيده؛ بل ذلك عام , فقوله " فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30] يساوي (بما كسبتم)؛ والله أعلم.

المثال الرابع عشر

المثال الرابع عشر قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ " [الفتح: 10] (¬1). والجواب: أن يقال: هذه الآية تضمنت جملتين: الجملة الأولى: قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ " [الفتح: 10]، وقد أخذ السلف - أهل السنة - بظاهرها وحقيقتها، وهي صريحة في أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه كما في قوله تعالى: " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ " [الفتح: 18]. ولا يمكن لأحد أن يفهم من قوله تعالى: " إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ " [الفتح: 10] أنهم يبايعون الله نفسه، ولا أَنْ يَدَّعِيَ أن ذلك ظاهر اللفظ لمنافاته لأول الآية والواقع، واستحالته في حق الله - تعالى -. وإنما جعل الله - تعالى - مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبايعةً له؛ لأنه رسوله وقد بايع الصحابة على الجهاد في سبيل الله - تعالى -، ومبايعة الرسول على الجهاد في سبيل مَنْ أرسله مبايعةٌ لمن أرسله؛ لأنه رسوله المبلغ عنه، كما أن طاعة الرسول طاعة لمن أرسله لقوله ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 334)، الرد على البكري (159، 187 وما بعدها ط. القديمة) وَ (131، 167 وما بعدها تحقيق: عبد الله السهلي)، نقض الدارمي (2/ 695).

تعالى: " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ " [النساء: 80]. وفي إضافة مبايعتهم الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - إلى اللهِ - تعالى - مِنْ تشريفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأييده وتوكيد هذه المبايعة وعظمها ورفع شأن المبايعين ما هو ظاهر لا يخفى على أحد. الجملة الثانية: قوله تعالى: " يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم " [الفتح: 10] وهذه - أيضًا - على ظاهرها وحقيقتها، فإن يد الله - تعالى - فوق أيدي المبايعين؛ لأن يده من صفاته، وهو سبحانه فوقهم على عرشه، فكانت يده فوق أيديهم. وهذا ظاهر اللفظ وحقيقته وهو لتوكيد كون مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مبايعة لله - عز وجل -، ولا يلزم منها أن تكون يد الله - جل وعلا - مباشِرَة لأيديهم، ألا ترى أنه يُقَال: (السماء فوقنا) مع أنها مباينة لنا بعيدة عنا؟! فيد الله - عز وجل - فوق أيدي المبايعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مع مباينته - تعالى - لخلقه وعلوه عليهم. ولا يمكن لأحد أن يفهم أن المراد بقوله: " يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم " [الفتح: 10] يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ؛ لأن الله - تعالى - أضاف اليد إلى نفسه، ووصفها بأنها فوق أيديهم، ويد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مبايعة الصحابة لم تكن فوق أيديهم؛ بل كان يبسطها إليهم، فيمسك بأيديهم كالمصافح لهم، فيده مع أيديهم لا فوق أيديهم. التعليق هذه الآية مما يشبه به خصوم أهل السنة، ويدعون عليهم بأنهم يأولونها بخلاف ظاهرها، فإنهم يزعمون أنَّ ظاهرها أن يد الله فوق أيدي المبايعين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن أيديهم مباشرة ليده - سبحانه -، وهذا زعم باطل.

فأول الآية وآخرها يرده. وأيضًا؛ فإنَّ من المعلوم أنه يستحيل أن يبايعوه نفسه بأن يضعوا أيديهم في يده - سبحانه وتعالى - , لكنهم بمبايعتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بايعوا الله - سبحانه وتعالى - , مثل: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " [التوبة: 111] , هذه الآية تشبه " من يطع الرسول فقد أطاع الله " [النساء: 80]. أما قوله تعالى: " يد الله فوق أيديهم " فهذه المسألة فيها بحث , والحقيقة أن هذا التوجيه الذي ذكره الشيخ - رحمه الله - ليس بظاهر، إذ ليس لهم فيه خصوصية , فيد الله فوق أيديهم وأيدي الناس كلهم، فلا يفيد معنى يشعر بعظمة هذه البيعة. قال ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد (¬1): (ثم ذكر سبحانه بيعتهم لرسوله، وأكدها بكونها لله سبحانه " من يطع الرسول فقد أطاع الله " [النساء: 80] , من بايع الرسول فقد بايع الله، وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم إذ كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك وهو رسوله ونبيه، فالعقد معه عقد مع مرسله، وبيعته بيعته؛ فمن بايعه فكأنما بايع الله، ويد الله فوق يده). وكأنه يريد أن يجعل هذا من جنس ما جاء في الأثر: " فمن استلمه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه " (¬2)، فقوله: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " [الفتح: 10] يعني: كأن يد الرسول الذي ¬

_ (¬1) زاد المعاد (3/ 275). (¬2) سبق تخريجه في صفحة رقم (...).

هو مُبَلِّغٌ عن الله شرعَه ودينَه بايعهم , فَيَدُهُ فوق أيديهم وهو رسول الله، وبيعتهم له بيعة لله؛ فكأن يد الله - سبحانه وتعالى - فوق أيديهم، وإذا كان الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وَقَبَّلَهُ فكأنما صافح الله وَقَبَّلَ يمينه، فَيَدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بهذا من الحجر الأسود. قال ابن جرير - رحمه الله تعالى -: (وفي قوله: " يد الله فوق أيديهم " [الفتح: 10] وجهان من التأويل: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه - صلى الله عليه وسلم -. والآخر: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم إنما بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصرته على العدو) (¬1). والمعنى الأول الذي ذكره الطبري قريب من كلام ابن القيم، والكلام الذي قاله ابن القيم في الآية هو أقرب ما يكون. فقوله: " يد الله فوق أيديهم " [الفتح: 10] ترشيح لقوله: " إنما يبايعون الله " [الفتح: 10] يعني: تأكيد، فلما قال: " إنما يبايعون الله " أكد ذلك بقوله: " يد الله فوق أيديهم " فمن بايع الرسول فكأنما بايع الله يعني: بيده. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (21/ 254).

المثال الخامس عشر

المثال الخامس عشر قوله تعالى في الحديث القدسي: " يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني ... " الحديث (¬1). وهذا الحديث رواه مسلم في (باب فضل عيادة المريض) من (كتاب البر والصلة والآداب) (رقم 43 / ص 1990 ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي)، رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله - تعالى - يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أَمَا علمتَ أنك لو عُدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي " (¬2). والجواب: أن السلف أخذوا بهذا الحديث ولم يصرفوه عن ¬

_ (¬1) درء التعارض (1/ 85، 3/ 13، 19)، جامع الرسائل (المجموعة الأولى / 121)، مدارج السالكين (1/ 298، 3/ 411)، شرح الرسالة التدمرية (216 - 219). (¬2) أخرجه مسلم (2569).

ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم، وإنما فسروه بما فَسَّرَهُ به المتكلم به، فقوله تعالى في الحديث القدسي: " مرضت " " واستطعمتك " " واستسقيتك " بَيَّنَهُ الله - تعالى - بنفسه حيث قال: " أما علمت أن عبدي فلانًا مرض " " وأنه استطعمك عبدي فلان " " واستسقاك عبدي فلان " وهذا صريح في أن المراد به: مَرَضُ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، واستطعام عبد من عباد الله، واستسقاء عبد من عباد الله، والذي فسره بذلك هو الله المتكلم به وهو أعلم بمراده، فإذا فسرنا المرض المضاف إلى الله والاستطعام المضاف إليه والاستسقاء المضاف إليه، بمرض العبد واستطعامه واستسقائه = لم يكن في ذلك صرفٌ للكلام عن ظاهره؛ لأن ذلك تفسير المتكلم به فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداءً، وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولًا للترغيب والحث؛ كقوله تعالى: " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ " [البقرة: 245]. وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين يحرفون نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله - تعالى - ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يحرفونها بِشُبَهٍ باطلةٍ هم فيها متناقضون مضطربون. إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها - كما يقولون - لبيَّنَه الله - تعالى - ورسوله، ولو كان ظاهرها ممتنعًا على الله - كما زعموا - لبينه الله ورسوله كما في هذا الحديث. ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعًا على الله لكان في الكتاب والسنة من وصف الله - تعالى - بما يمتنع عليه ما لا يُحصى إلا بكلفة، وهذا من أكبر المحال. وَلْنَكْتَفِ بهذا القدر من الأمثلة لتكون نبراسًا لغيرها، وإلا

فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة معروفة، وهي إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. وقد تقدم الكلام على هذا مستوفًى في قواعدِ نصوص الصفات؛ والحمد لله رب العالمين. التعليق هذا الحديث الأخير ذكره شيخ الإسلام في التدمرية وفي مواضع أخرى (¬1) , وبَيَّنَ أن بعض الناس يقول: إن ظاهر هذا الحديث معنى فاسد , وأنه لا بد من تأويله , وَيَرُدُّ الشيخ بقوله: إن الحديث ليس ظاهره المعنى الفاسد , الحديث مُفَسَّر وإذا كان مُفَسَّرًا لم يجز أن يقال: إن ظاهره معنى فاسد. نعم لو جاء الحديث: "عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي استطعمتك فلم تطعمني " وفي لفظ: " عبدي جعت فلم تطعمني " " عبدي استسقيتك فلم تسقني " لقلنا: يصح أنْ يُقال: إن ظاهره معنى فاسد , لكن الحديث ما جاء هكذا (¬2) , وأنا أقول للتقريب: لو قال قائل: إن ظاهر الآية " فويل للمصلين " [الماعون] تهديد ووعيد للمصلين , لكان مبطلًا , فليس هذا هو ظاهر الآية , لأن الآية موصولة " الذين هم عن صلاتهم ساهون " [الماعون] فهذا فيه تهديد ووعيد للساهين عن صلاتهم، لا تهديد ووعيد للمصلين. إذن؛ الآية ليس ظاهرها ذلك المعنى الفاسد؛ فكذلك الحديث , ¬

_ (¬1) التدمرية (216 - 219)، وتقدمت الإشارة إلى بعض هذه المواضع. (¬2) أي: أنَّ الحديث لم يأتِ هكذا فقط دون زيادة؛ فتكملة الحديث أوضحت المعنى، والله أعلم.

فالذي قال: " عبدي مرضت " , " عبدي استطعمتك " , " عبدي استسقيتك " , هو الذي فَسَّرَ ذلك بقوله: " مرض عبدي فلان " " استطعمك عبدي فلان " " استسقاك عبدي فلان " فالحديث واضح، ولا يصح أنْ يقال فيه: إِنَّ ظاهره معنى فاسد فيحتاج إلى تأويل؛ فرحم الله الشيخ وأثابه على ما وضَّح وبيَّن.

الخاتمة

الخاتمة إذا قال قائل: قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات، ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل؛ فكيف يكون مذهبهم باطلًا، وقد قيل: إنهم يمثلون اليوم خمسةً وتسعين بالمائة من المسلمين؟! وكيف يكون باطلًا وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟ وكيف يكون باطلًا وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم؟ قلنا: الجواب عن السؤال الأول: إننا لا نُسَلِّم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين، فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق. ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ؛ لأن العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر. ثم نقول: إن إجماع المسلمين قديمًا ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة - وهم الصحابة - الذين هم خير القرون، والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له

رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات، وإجراءُ النصوص على ظاهرها اللائق بالله - تعالى - من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وهم خير القرون بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإجماعُهُم حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ؛ لأنه مقتضى الكتاب والسنة، وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات. التعليق ذكر الشيخ في خاتمة الكتاب بعض الأسئلة التي قد تَرِدُ في ذهن بعض الناس ثم أجاب عنها. يقول الشيخ - رحمه الله - في معرض رَدِّه على اعتراض المعترض القائل: (ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل): والصحيح أنهم ليسوا كلهم من أهل التأويل لكن يحتمل كونه غالبًا عليهم، وإلا فهم صنفان - كما يقول الشيخ - الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل , فهم فريقان منهم من ينتحل تأويل نصوص ما نفوه , ومنهم من يذهب إلى التفويض. وهنا - أيضًا - يجب أنْ يُفْهَم أَنَّ قول من يقول: إنَّ الأشاعرةَ يمثلون خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين , هذا باعتبار العلماء أو باعتبار العامة؟ إنْ كانَ باعتبارِ العامةِ فهذا كَذِبٌ وليس بصحيح , عوام المسلمين على الفطرة يؤمنون بأن الله فوق؛ إلا من درس وَتَلَقَّنَ هذا المذهب؛ فالمذهب الأشعري إنما هو لنفس العلماء والدارسين , كما يقال: (للمُنَظِّرِينَ فقط)، والمنظرون قلة؟! فكيف يقال إنَّ خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين يعتقدون

المذهب الأشعري في العلو والكلام وغير ذلك مما يختص به العلماء والدارسون لهذا المذهب؟! ولهذا العوام يتوجهون إلى الله بالدعاء رافعين أيديهم، ويرفعون نظرهم إلى السماء، ويسألون الله النظر إلى وجهه الكريم إذا دَعَوا، ولا يستحضرون هذه الاعتقادات الكلامية المحدثة، ولا تخطر ببالهم ولا تقبلها فطرهم.

والجواب عن السؤال الثاني أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يَدَّعُونَ لأنفسهم العصمةَ من الخطأ؛ بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم وَنَزَّلُوهَا منزلتها، وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة، قال الله تعالى: " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ " [السجدة: 24]، وقال عن إبراهيم: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [النحل: 120 - 121]. ثم إنَّ هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الاقتداءَ الذي ينبغي أن يكونوا عليه؛ وذلك أَنَّ أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة: المرحلة الأولى: مرحلة الاعتزال: اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عامًا يقرره ويناظر عليه، ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم (¬1). المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسُّنَّةِ المحضةِ سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب (¬2). ¬

_ (¬1) قال المؤلف: مجموع الفتاوى (4/ 72). (¬2) قال المؤلف: مجموع الفتاوى (5/ 556).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 471 / من المجلد السادس عشر من مجموع الفتاوى لابن قاسم): (والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية؛ أخذوا من هؤلاء كلامًا صحيحًا ومن هؤلاء أصولًا عقليةً ظنوها صحيحة وهي فاسدة). اهـ. المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث الذين إمامهم الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - كما قرره في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) وهو من آخر كتبه أو آخرها. قال في مقدمته: (جاءنا - يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ عزيزٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفِهِ، تنزيل من حكيم حميد، جَمَعَ فيه عِلْمَ الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، وهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، مَنْ تَمَسَّكَ به نَجَا، ومن خالفه ضَلَّ وغوى وفي الجهل تَرَدَّى، وَحَثَّ اللهُ في كتابه على التمسك بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عز وجل: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [الحشر: 7]. إلى أن قال: فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته، ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما أمرهم بالعمل بكتابه، فنبذ كثير ممن غلبت شقوته، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم، وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراءً منهم على الله " قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ " [الأنعام: 140]. ثم ذكر - رحمه الله - أصولًا من أصول المبتدعة، وأشار إلى بطلانها ثم قال: (فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟

قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نَضَّرَ الله وجهه ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل) ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذكر ثبوت الصفات، ومسائل في القدر، والشفاعة، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية. والمتأخرون الذين ينتسبون إليه أخذوا بالمرحلة الثانية من مراحل عقيدته، والتزموا طريق التأويل في عامة الصفات، ولم يثبتوا إلا الصفات السبع المذكورة في هذا البيت: حي، عليم، قدير، والكلام له ... إرادة، وكذاك السمع، والبصر على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها. ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما قيل في شأن الأشعرية (ص 359 / من المجلد السادس من مجموع الفتاوى لابن قاسم) قال: (ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما مَنْ قَالَ منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يُظْهِر مقالةً تُنَاقِضُ ذلك؛ فهذا يعد من أهل السنة). وقال قبل ذلك في (ص 310): (وأما الأشعرية فعكس هؤلاء، وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي وآية الدين، والتوراة والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة). اهـ.

وقال تلميذه ابن القيم في النونية (ص 312 من شرح الهراس ط الإمام): واعلم بأن طريقهم عكس الـ ... طريق المستقيم لمن له عينان إلى أن قال: فاعجب لعميان البصائر أبصروا كون المقلد صاحب البرهان ورأوه بالتقليد أولى من سوا ... هـ بغير ما بَصَرٍ ولا برهان وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا معناهما عجبًا لذي الحرمان وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان (ص 319 / جـ 2) على تفسير آية استواء الله - تعالى - على عرشه التي في سورة الأعراف: (اعلم أنه غَلِطَ في هذا خلقٌ لا يُحصى كثرةً من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد - مثلًا - في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعًا). قال: (ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله - تعالى - والقول فيه بما لا يليق به - جل وعلا -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قيل له: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " [النحل: 44] لم يبين حرفًا واحدًا من ذلك مع إجماع مَنْ يُعْتَدُّ به من العلماء على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد لا سِيَّمَا ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين , حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفرٌ وضلال يجب صرف

اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال، ومن أعظم الافتراء على الله - جل وعلا - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ وَصَفَ الله به نفسه، أو وَصَفَهُ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم مَنْ في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث). قال: (وهل ينكر عاقل أَنَّ السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته؟ لا والله، لا ينكر ذلك إلا مكابر. والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله؛ لأنه كفر وتشبيه، إنما جَرَّ إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فَأَدَّاهُ شُؤْمُ التشبيهِ إلى نفي صفات الله - جل وعلا - وعدم الإيمان بها مع أنه - جل وعلا - هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهًا أولًا، ومعطلًا ثانيًا، فارتكب ما لا يليق بالله ابتداءً وانتهاءً، ولو كان قلبه عارفًا بالله كما ينبغي، معظمًا لله كما ينبغي، طاهرًا من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله - تعالى - بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدًا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " [الشورى: 11]. اهـ. كلامه - رحمه الله -.

والأشعري أبو الحسن - رحمه الله - كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. ومذهب الإنسان ما قاله أخيرًا إذا صَرَّحَ بِحَصْرِ قولِهِ فيه كما هي الحال في أبي الحسن كما يُعْلَمُ مِنْ كلامِهِ في (الإبانة)، وعلى هذا فتمام تقليده اتباع ما كان عليه أخيرًا؛ وهو التزام مذهبِ أهل الحديثِ والسنةِ؛ لأنه المذهب الصحيح الواجب الاتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه. التعليق هذا الكلام الذي نقله الشيخ محمد عن الشيخ الشنقيطي - رحمهما الله - كلام جيد وعظيم , وهذا هو الذي يقرره شيخ الإسلام ويبدي فيه ويعيد, يعني أن هذا الزعم (¬1) يتضمن الطعن في كلام الله وحكمة الله، والطعن في كلام الرسول والطعن في علم الرسول وفي نصح الرسول فيلزم على قول النفاة أنه لم يبين الحق الذي يجب اعتقاده في الله، إما لعدم علمه أو لعدم نصحه أو لعدم قدرته على البيان؛ وهو - عليه الصلاة والسلام - أعلمُ الناس وأفصحُهم وأنصحُهم , فإذا كَمُلَت هذه المعاني فيه , وَجَبَ أن يكون قد بَيَّنَ البيانَ الشافي , وأوضحَ الطريقَ وأوضحَ للأمَّةِ ما يجب عليهم اعتقاده في ربهم وقد قرر ذلك الاستدلال في مقدمة الحموية (¬2)؛ فهذا الكلام الذي ذكره الشيخ الشنقيطي من فساد مذهب المعطلة ومناقضته للعقل السليم والفطرة السليمة هو الحقيقة، ¬

_ (¬1) وهو أن الظاهر المتبادر من النصوص يقتضي مشابهة الخالق بالمخلوق. (¬2) الحموية (280 وما بعدها).

وكلام الشيخ واضح بَيِّن , فإذا صُوِّرَ الشيءُ على حقيقَتِهِ اتضحَ فسادُهُ , ولهذا يقال: إن هذا المعنى تصوره كافٍ في بطلانه , لا يحتاج إلى أن تدلل على بطلانه. أما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن أبي الحسن فكأنه يختلف من مسألة إلى أخرى , فكثيرًا من الأحيان يضيف إليه بإطلاق قولَهُ في الإيمانِ هو التصديق , ويقول: إنه بقيت معه بعض أصول المعتزلة , وعندما يذكر بعض هذه الأمور لا يقول: وذلك قبل أن يكون كذا وكذا؛ بل يضيف إليه بعض هذه الأمور , مثل: نفي قيام الأفعال الاختيارية به - تعالى -، ومع هذا يُثْبِتُ - مثلًا - الاستواءَ على العرش , لكن يقول: إنه ليس فعلًا قام بالرب؛ بل حقيقته فعل فعله بالعرش لا أنه فِعْلٌ قامَ به , فهو ليس كالمعتزلة (¬1) , أما أتباع الأشعري المتأخرين فينفون حقيقة الاستواء , ويقولون: حالٌّ في كل مكان، أو يقول بعضهم: إنه لا داخل العالم ولا خارجه فهذا ليس من مذهب أبي الحسن - رحمه الله -؛ وانتماء العالم للسنة وتعظيمه لها لا يلزم منه أن يكون موافقًا لأهل السنة والجماعة في كل المسائل؛ بل قد يكون عنده أشياء، ولكن يصير الحكمُ عليه في الجملة , والله أعلم.

والجواب عن السؤال الثالث من وجهين

والجواب عن السؤال الثالث من وجهين الأول: أن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، هذا هو الميزان الصحيح وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق، لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال، فإن الإنسان بَشَرٌ يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته، فقد يكون الرجل دَيِّنًا وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم، فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف، أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك. الثاني: أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة، فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة. وإذا ارتقيت إلى مَنْ فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة. وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله - تعالى - وصفاته وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف. ونحن لا ننكر أَنَّ لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري قَدَمَ

صِدْقٍ في الإسلام، والذَّبِّ عنه، والعنايةِ بكتاب الله - تعالى - وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - روايةً ودرايةً، والحرصِ على نفع المسلمين وهدايتهم، ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطأوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم وَرَدِّهِ لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق، ولا ننكر - أيضًا - أن لبعضهم قصدًا حسنًا فيما ذهب إليه وَخَفِيَ عليه الحق فيه، ولكن لا يكفي لقبول القول حُسْنُ قَصْدِ قَائِلِهِ؛ بل لابد أن يكون موافقًا لشريعة الله - عز وجل - فإن كان مخالفًا لها وَجَبَ رَدُّهُ على قائله كائنًا من كان؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (¬1). ثم إن كان قائله معروفًا بالنصيحةِ والصدقِ في طلبِ الحقِّ اِعْتُذِرَ عنه في هذه المخالفة، وإلا عُومِلَ بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته. فإن قال قائل: هل تكفرون أهل التأويل أو تُفَسِّقُوْنهم؟ (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وبلفظ آخر أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718). (¬2) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في القول المفيد (2/ 183) - وبأوسع منه في الشرح الممتع 14/ 412 - في كلامه عن أقسام من جحدَ أو أنكرَ شيئًا من الأسماء والصفات: والإنكار نوعان: الأول: إنكار تكذيب؛ وهذا كفرٌ بلا شك، فلو أنَّ أحدًا أنكر اسمًا من أسماء الله، أو صفةً من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة ... فهو كافرٌ بإجماع المسلمين؛ لأنَّ تكذيب خبر الله ورسوله كفرٌ مخرجٌ عن الملة بالإجماع. الثاني: إنكار تأويل؛ وهو أنْ لا يُنكرها ولكن يتأولها إلى معنًى يخالف ظاهرها؛ وهذا نوعان: 1 - أنْ يكونَ للتأويل مُسَوِّغٌ في اللغة العربية؛ فهذا لا يوجب الكفر. 2 - أنْ لا يكونَ له مُسّوِّغٌ في اللغة العربية؛ فهذا حكمه الكفر، لأنه إذا لم يكن له مسوِّغ صار في الحقيقة تكذيبًا.

قلنا: الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا؛ بل هو إلى الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو من الأحكام الشرعية التي مَرَدُّهَا إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، فلا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق إلا من دَلَّ الكتاب والسنة على كفره أو فسقه. والأصل في المسلم الظاهر العدالة - بقاءُ إسلامِهِ، وبقاءُ عدالتِهِ - حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي. ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين: أحدهما: افتراء الكذب على الله - تعالى - في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به. الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالمًا منه. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا كَفَّرَ الرجلُ أخاه فقد باء بها أحدهما "، وفي رواية: " إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه " (¬1)، وفيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه " (¬2). وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين (¬3): ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (60). (¬2) أخرجه مسلم (61). (¬3) للحكم بالتكفير شروط وضوابط عند أهل السنة والجماعة؛ فانظر شيئًا منها في: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة للدكتور: عبد الله القرني، وضوابط التكفير عند شيخي الإسلام لأبي العلا الراشد، وعارض الجهل له - أيضًا -، ومنهج ابن تيمية في التكفير للدكتور عبد المجيد الشعيبي، وغيرها.

أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع. ومن أهم الشروط: أن يكون عالمًا بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرًا أو فاسقًا؛ لقوله تعالى: " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً " [النساء: 115]، وقوله: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ " [التوبة: 115 - 116]. ولهذا قال أهل العلم: لا يُكَفَّر جاحدُ الفرائض إذا كان حديثَ عهد بإسلام حتى يبين له. ومن الموانع: أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه، ولذلك صور: منها: أَنْ يُكْرَهَ على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئنانًا به، فلا يكفر حينئذ؛ لقوله تعالى: " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [النحل: 106]. ومنها: أَنْ يُغْلَقَ عليه فِكْرُهُ، فلا يدري ما يقول لشدة فَرَحٍ أو حزن أو خوف أو نحو ذلك. ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من

أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح " (¬1). التعليق ما قاله الشيخ في الجواب الثاني على السؤال الثالث هو الجواب السديد؛ فخطأ العالم إذا قام الدليل على خطئه لا يتابع عليه لأنه مخالف , كل يؤخذ من قوله ويرد؛ فالعصمة للرسول - عليه الصلاة والسلام - , ولكنه لا يقدح في منزلته إذا عُرِفَ منه صِدْقُ الولاءِ للإسلامِ والكتابِ والسنةِ , فلا يُصَوَّبُ الخطأُ من أجل أنه بمنزلة عالية من الدين والتقوى والعلم , فالميزان هو: الكتاب والسنة , فما وافقهما فهو الحق وما خالفهما فهو الباطل , والخطأ مردود على صاحبه , فلا يقال: إن هذا حق لأنه قول فلان، وهذا باطل لأنه قول فلان؛ إنما الحكم لله ورسوله " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " [النساء: 59]، ولكن - كما قال الشيخ - لا شك أنه يُستدل بفهم أهل العلم ويُستأنس به إذا كان الرجل معروفًا بالعلمِ والتحقيقِ والعنايةِ بالدليلِ , فإنه يستأنس باختياره وما ذهب إليه , ولا يكون مذهبه هو الدليل؛ بل الدليل الشرعي محصورٌ في الكتاب والسنة , وهؤلاء العلماء بالمذهب والمعروفون بالدينِ والصلاحِ وتعظيمِ الكتابِ والسنةِ وتعظيم الصحابةِ مجتهدون , وما وقعوا فيه من المذاهب البدعية مثل: نفي الصفات له أسباب من أعظمها التأثر بالشيوخ والمدرسة التي نشئوا فيها , وهذا تأثيره معروف , فيتأثر الإنسان في المذهب الذي نشأ فيه , وهم نشئوا في أرض يكاد لا يعرف فيها إلا مذهب الأشعري، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2747).

فنشئوا عليه وصاروا يدللون عليه ويقررونه ويرون أنه هو الحق، فهم مجتهدون مخطئون. يقول الشيخ هل تكفرون المتأولين؟ الحقيقة أن هذا السؤال (هل تكفرون؟) يعني: هل تحكمون بحسب علمكم بكفرهم؟ فقول القائل: ليس التكفير إلينا ليس هذا محل السؤال , يعني مثل قول هل تحرمون؟ أي: هل تقولون بتحريم كذا بحسب ما علمتموه من الكتاب والسنة , أو تقولون بِحِلِّهِ. ومثله: هل تقولون بكفر من قال كذا وكذا؟ فالسؤال عن حكم الكفر بحسب ما تعلمونه , وليس السؤال عن تكفيركم له بمجرد رأيكم؟ فيقال: المتأول تختلف حاله فقد تكون المقالة كفرية , أي أنها في ذاتها كفر؛ لكن هو لا يكون كافرًا , إما لانتفاء شرط أو لوجود مانع. وذكر الشيخ بعض الموانع كالجهل والتأويل , والتأويل حقيقةً أنه يظن أن هذا هو المعنى , وأنَّ هذا هو موجَب الأدلة بحسب نظره , فهذا متأول , والتأويل من قبيل الخطأ في الفهم , فيرجع المتأول في الحقيقة إلى الجهل أيضًا؛ فالجهل: إما جهل بأصل الدليل، أو جهل بمعنى الدليل؛ وهكذا المُفَوِّض من جنس المتأول، لأن المفوض في باب الصفات والمؤول مذهبهما واحد , إلا أن هذا يفسر النصوص بما بدا له باجتهاد منه , وقد يكون اجتهاده قاصرًا وناقصًا , والمفوض رأى الإعراض عن البحث عن معاني تلك النصوص لمَّا اعتقد أَنَّ ظاهرها غير مراد؛ والله أعلم. وهل التفسيق يأخذ التفصيل نفسه , كما في التأويل؟ يحتمل ذلك؛ فإذا قُدِّرَ أَنَّ شخصًا فعلَ معصيةً وصار فيه احتمال أنه لا يَعرف الحكم , يصير معذورًا ولا يصير بها فاسقًا , لأنه فَعَلَ هذا

الفعلَ وهو لا يدري أنه حرام , لكن هناك معاصي لا يصح فيها دعوى الجهل؛ كدعوى الجهل بالمعاملات الربوية ربًا صريحًا، والله المستعان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (ص 180 / جـ 12 مجموع الفتاوى لابن قاسم): (وأما التكفير؛ فالصواب أَنَّ من اجتهد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقَصَدَ الحَقَّ فأخطأ لم يكفر؛ بل يغفر له خطؤه، ومَنْ تَبَيَّنَ له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقَصَّرَ في طلب الحق وتَكَلَّمَ بلا علم فهو عاصٍ مذنب، ثم قد يكون فاسقًا، وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته). اهـ. وقال في (ص 229 / جـ 3 من المجموع المذكور) في كلام له: (هذا مع أني دائمًا - ومن جالسني يعلم ذلك مني - أني من أعظم الناس نهيًا عَنْ أَنْ يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِمَ أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَنْ خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية وذكر أمثلة - ثم قال - وكنت أُبَيِّنُ أَنَّ ما نُقِلَ عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين - إلى أن قال - والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن قد يكون الرجل حديث عهد

بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئًا. وكنت دائمًا أَذْكُرُ الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: " إذا أنا مِتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوْنِي في اليَمِّ، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين! ففعلوا به ذلك فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك! فغفر له " (¬1). فهذا رجل شَكَّ في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّيَ؛ بل اعتقد أنه لا يُعَاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أَنْ يعاقبه فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمغفرة من مثل هذا). اهـ. وبهذا عُلِمَ الفرقُ بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل؛ فليس كل قولٍ أو فعلٍ يكون فسقًا أو كفرًا يحكم على قائله أو فاعله بذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (ص 165 / جـ 35 من مجموع الفتاوى): (وأصل ذلك: أَنَّ المقالةَ التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال هي كفر قولًا يطلق كما دلت على ذلك الدلائل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3478)، ومسلم (2756، 2757) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (2747) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل مَنْ قالَ: إِنَّ الخمرَ أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم ولا أنه من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما كان بعض السلف يُنكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها - إلى أن قال - فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله - تعالى -: " لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ " [النساء: 165] وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. اهـ كلامه. وبهذا عُلِمَ أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرًا أو فسقًا، ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافرًا أو فاسقًا؛ إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه، لكن من انتسب إلى غير الإسلام أعطي أحكام الكفار في الدنيا، ومن تبين له الحق فَأَصَرَّ على مخالفته تبعًا لاعتقادٍ كان يعتقده، أو متبوع كان يعظمه، أو دنيًا كان يؤثرها؛ فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق. فعلى المؤمن أَنْ يبني معتقده وعمله على كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيجعلهما إمامًا له يستضيء بنورهما، ويسير على منهاجهما؛ فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأنعام: 153]. وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين، فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه

حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسَّفة، فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين، وما سواهما إمامًا لا تابعًا! وهذه طريقٌ من طرق أصحاب الهوى؛ لا أتباع الهدى، وقد ذم الله هذه الطريق في قوله: " وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ " [المؤمنون: 71]. والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب، ويعرف شدة افتقاره إلى اللجوء إلى ربه في سؤاله الهداية والثبات على الحق والاستعاذة من الضلال والانحراف، وَمَنْ سَأَلَ اللهَ - تعالى - بصدق وافتقار إليه عالمًا بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه فهو حري أن يستجيب الله - تعالى - له سؤله، يقول الله - تعالى -: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " [البقرة: 186]. فنسأل الله - تعالى - أن يجعلنا ممن رأى الحَقَّ حقًا واتبعه، ورأى الباطل باطلًا واجتنبه، وأَنْ يجعلنا هداة مهتدين، وَصُلَحَاءَ مصلحين، وأَنْ لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1404 هـ بقلم مؤلفه الفقير إلى الله: محمد الصالح العثيمين.

التعليق قوله: (من انتسب إلى الكفار أعطي ...): يعني: كاليهود والنصارى، فهو كافر لأنه ينتسب لغير ملة الإسلام، فلا يقال: يتوقف في كفره؛ بل هو كافر، لأن موجب الكفر قائم به وأما مصيره فهو عند الله. وما نقله المؤلف - رحمه الله - عن شيخ الإسلام معروف عنه أنه يؤكد على هذه القضية؛ قضية الفرق بين الحكم على المقالة والحكم على القائل، ثم يأتي الغلط في تطبيق القاعدة على القول والقائل المعين، فقد يحصل الغلط في الحكم على القول , فقد يزعم بعض الناس أَنَّ هذا كفر وليس بكفر؛ كما ضلت الخوارج حيث اعتقدوا ما ليس بكفر كفرًا فضلوا في ذلك؛ وقد يشابههم بعض الناس وإن لم يكن عن تأصيل؛ فالخوارج عندهم تأصيل أن مرتكب الكبيرة كافر لكن بعض الناس يعتقد أن ما ليس بكفر كفرًا وإن لم يكن هذا أصلًا عنده , فيعتقد أن هذا العمل مما يعد كفرًا في الشرع، مثل: ترك الصلاة، هذه فيها خلاف بين أهل العلم. فإذا قال قائل: إن ترك الصلاة كفر، لا يكون من الخوارج، لأن هذا ليس أصلًا عنده، فهو رأى أن ترك الصلاة كفر للأدلة الواردة في ذلك , وكذلك من قال: إن ترك الصلاة ليس بكفر لا يكون مرجئًا. هكذا - أيضًا - في تطبيق بعض الأمور , فقد يظن بعض الناس أنَّ هذا القول أو العمل كفر بناء على ما تقرر عنده من الدلائل وقد يكون ما ذهب إليه مرجوحًا , ويكون الصواب مع من قال إن هذا ليس بكفر. والأمر المعلوم أنه كفر يأتي فيه الكلام الذي يقول فيه الشيخ , إننا نطلق (من قال القرآن مخلوق فهو كافر) , هذا على الإطلاق , لكن إنْ جئنا للمعين , فلا يمكن أن نقول: إنه كافر حتى نعلم أنه مشاقٌّ لله ومعاند , فإذا قال ما قال نتيجة لشبهات عرضت له وتأويل تأوله فيندفع الحكم عليه بالكفر , فقد يكون جاهلًا , كما مثلوا بشرب الخمر , فشرب

الخمر لا شك أنه معصية ومن موجبات الفسق , لكن من شربه وهو لا يدري أنه حرام , فهذا قام به مانع وهو الجهل , أو إنسان تأول فشرب النبيذ وقال الخمر هو عصير العنب , وهذا مذهب الأحناف في النبيذ ولو أسكر كثيره فهو جائز عندهم إلا القدر المسكر , وهو عند الآخرين حرام , فإذا شربه من تقرر عنده تحريم النبيذ الذي يسكر كثيره فإنه يكون حينئذ فاسقا , لكن الحنفي إذا شرب هذا متأولًا متمذهبًا لا متعصبًا متبعًا للهوى فإنه لا يكون فاسقًا بل يكون معذورًا بناءً على الشبهة , وهكذا في مسائل الخلاف , فهذا يقول هذا ربا والآخر يقول هذا ليس ربا , مثل ما كان بعض الصحابة لا يرون تحريم ربا الفضل لحديث: " إنما الربا في النسيئة " (¬1) فلا يكون الواحد منهم فاعلًا لحرام ولا تعامله بهذه المعاملة يكون بها فاسقًا ولا عاصيًا , لأنه ما تعمد مخالفة الشرع , ومثله الآن من يشرب الخمر وتحريمه ظاهر ومعروف فهذا يصدق عليه أنه فاسق , لكن إنسان أخذ شرابًا لا يدري وشربه فإذا هو خمر هل يفسق بهذا؟ هو يعرف حكم الخمر لكن ما درى أن هذا الشراب بعينه الذي قُدِّمَ له خمر فشرب. وشيخ الإسلام يصنف هؤلاء الذين خالفوا ما جاء في النصوص ثلاثة أصناف (¬2): 1 - كافر؛ وهو المعاند المتعمد لمخالفة شرع الله، وهذا لا يكاد يظهر. 2 - عنده هوى وعنده شيء من التعصب وهو مقصر في معرفة الحق وعنده هوى لهذا الرأي لأجل أنه ينتسب إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1596) من حديث ابن عباس، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهم -.

3 - والثالث: مجتهد يعتقد أن هذا هو الحق , وهذا هو الذي أداه إليه اجتهاده. فالأول كافر، والثاني عاصي، والثالث مخطئ مغفور له. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى له وصحبه أجمعين.

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق 1 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لأبي عبد الله ابن بطة العكبري، ت. عثمان الأثيوبي، دار الراية، الطبعة الثانية، عام 1418 هـ. 2 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، عام 1404 هـ. 3 - أخبار أصبهان، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. 4 - آداب البحث والمناظرة، تأليف: محمد الأمين الشنقيطي، ت. الدكتور سعود العريفي، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1426 هـ. 5 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود محمد العمادي، دار إحياء التراث العربي. 6 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، عام 1405 هـ. 7 - الاستغاثة في الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، دراسة وتحقيق: عبد الله السهلي، مكتبة دار المنهاج، الطبعة الأولى، عام 1426 هـ. 8 - أسماء الله الحسنى، تأليف: عبد الله الغصن، دار الوطن، الطبعة الثانية، عام 1425 هـ. 9 - إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، لمحمد بن إبراهيم بن جماعة، ت. وهبي سليمان غاوجي الألباني، دار السلام، الطبعة الأولى، عام 1990 م. 10 - بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، ت. علي العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1425 هـ.

11 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد بن قاسم، دار القاسم، عام 1421 هـ. 12 - التاريخ الكبير، لأبي عبد الله البخاري، ت. السيد هاشم الندوي، دار الفكر. 13 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، ت. طارق عوض الله، دار العاصمة، الطبعة الأولى، عام 1424 هـ. 14 - تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير، ت. مصطفى السيد محمد وآخرون، مكتبة أولاد الشيخ للتراث ومؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى، عام 1421 هـ. 15 - تقريب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت. صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، الطبعة الأولى، عام 1416 هـ. 16 - تلخيص الاستغاثة المعروف بالرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصوير دار أطلس للنشر والتوزيع، 1417 هـ. 17 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر ابن عبد البر، ت. مصطفى بن أحمد العلوي وآخر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، عام 1387 هـ. 18 - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد عزير شمس وعلي العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1425 هـ. 19 - توضيح مقاصد العقيدة الواسطية، شرح الشيخ عبد الرحمن البراك، إعداد: عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، الطبعة الأولى، عام 1427 هـ. 20 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري، لأبي جعفر الطبري، ت. عبد الله التركي، دار هجر، الطبعة الأولى، عام 1422 هـ.

21 - جامع الرسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وتحقيق: محمد رشاد سالم، دار العطاء، الطبعة 1422 هـ. 22 - جامع المسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، المجموعة الأولى والثالثة والرابعة عام 1422 هـ، والمجموعة الخامسة عام 1424 هـ. 23 - جزء فيه طرق حديث: " إن لله تسعًا وتسعين اسمًا "، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، دار الخراز ودار ابن حزم، المجموعة الثانية، الطبعة الأولى، عام 1422 هـ. 24 - جزء فيه من أحاديث الإمام أيوب السختياني، ت. سليمان العريني، شركة الرياض، الطبعة الأولى، عام 1418 هـ. 25 - جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 26 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية، عام 1419 هـ. 27 - الداء والدواء، لابن قيم الجوزية، ت. محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 28 - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد رشاد سالم. 29 - دليل المكتبة العقدية، إعداد: محمد بن عبد العزيز الشايع، دار زدني، الطبعة الأولى، عام 1428 هـ. 30 - الديات، لأحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، عام 1407 هـ. 31 - ديوان حسان بن ثابت، شرحه وضبط نصوصه وقدم له: د. عمر فاروق الطباع، دار الأرقم.

32 - الذكر والدعاء والعلاج بالرقى من الكتاب والسنة، تأليف سعيد بن علي القحطاني، خرج أحاديثه ياسر فتحي المصري، توزيع مؤسسة الجريسي، الطبعة الثالثة، عام 1422 هـ. 33 - الرد على الزنادقة والجهمية، للإمام أبي عبد الله أحمد ابن حنبل، ت. دغش بن شبيب العجمي، دار الإمام البخاري، عام 1429 هـ. 34 - الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. علي العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 35 - الرسالة الصفدية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. سيد عباس الجليمي ورفيقه، أضواء السلف، الطبعة الأولى، عام 1423 هـ. 36 - رسالة في النزول والمعية وإثبات الصفات، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق وتعليق: علي الشبل، دار علوم السنة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عام 1421 هـ. 37 - الروح، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، عام 1395 هـ. 38 - روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، عام 1412 هـ. 39 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، ت. شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة عشر، عام 1407 هـ. 40 - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، عام 1415 هـ. 41 - سنن ابن ماجه، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، عناية: مشهور آل سلمان، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى. 42 - سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، عناية: مشهور آل سلمان، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى. 43 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، عناية: مشهور آل سلمان، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى.

44 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للحافظ أبي القاسم اللالكائي، ت. أحمد بن سعد الغامدي، دار طيبة، الطبعة الخامسة، عام 1418 هـ. 45 - شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، الشارح الشيخ عبد الرحمن البراك، إعداد: سليمان الغصن، كنوز أشبيليا، الطبعة الأولى، عام 1425 هـ. 46 - شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. سعيد بن نصر محمد، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، عام 1422 هـ. 47 - شرح العقيدة السفارينية، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، مدار الوطن، الطبعة الأولى، عام 1426 هـ. 48 - شرح العقيدة الطحاوية، للشيخ عبد الرحمن البراك، إعداد: عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 49 - الشرح الممتع على زاد المستقنع، شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، عام 1428 هـ. 50 - شرح حديث النزول، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد الخميس، دار العاصمة، الطبعة الأولى، عام 1414 هـ. 51 - شرح عمدة الفقه (كتاب المناسك)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. صالح بن محمد الحسن، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى. عام 1413 هـ. 52 - الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد الحلواني، ومحمد كبير شوردي، دار رمادي للنشر، الطبعة الأولى، عام 1417 هـ. 53 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ت. شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1414 هـ. 54 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، عام 1419 هـ.

55 - صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار السلام للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، عام 1421 هـ. 56 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، ت. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الطبعة الثالثة، عام 1418 هـ. 57 - ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، تأليف: عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم بدشق، الطبعة الخامسة، عام 1419 هـ. 58 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن قيم الجوزية، ت. محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 59 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن قيم الجوزية، تحقيق: إسماعيل مرحبا، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 60 - العلل، لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، ت. فريق من الباحثين، الطبعة الأولى، عام 1427 هـ. 61 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لعبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، ت. خليل الميس، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، عام 1403 هـ. 62 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ت. محب الدين الخطيب، دار المعرفة - بيروت. 63 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، دار الفكر - بيروت. 64 - الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. حمد التويجري، دار الصميعي، الطبعة الأولى، عام 1419 هـ. 65 - الفوائد، لابن قيم الجوزية، ت. محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ. 66 - الفوائد العلمية من الدروس البازية، دروس علمية شرحها الشيخ ابن باز، اعتنى به: عبد السلام السليمان، الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، عام 1430 هـ.

67 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الأولى. 68 - القاموس المحيط، لمجد الدين الفيروزآبادي، ت. مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة ودار الريان للتراث، الطبعة الثانية، عام 1407 هـ. 69 - القواعد الكلية المعروف بِـ (القواعد النورانية)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محيسن المحيسن، مكتبة التوبة، الطبعة الأولى، عام 1423 هـ. 70 - القول السديد على من أنكر تقسيم التوحيد، تأليف: عبد الرزاق البدر، دار الغرباء الأثرية، عام 1414 هـ. 71 - القول المفيد على كتاب التوحيد، شرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية، عام 1424 هـ. 72 - الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، المشهورة بالنونية، لابن قيم الجوزية، إشراف: بكر أبو زيد، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1428 هـ. 73 - الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد عبد الله ابن عدي، ت. يحيى غزاوي، دار الفكر، الطبعة الثالثة، عام 1409 هـ. 74 - كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ت: عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد، الطبعة السادسة، عام 1418 هـ. 75 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل بن محمد العجلوني، ت. أحمد القلاش، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة، عام 1405 هـ. 76 - لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور، دار صادر ببيروت، الطبعة الأولى. 77 - المجلَّى في شرح القواعد المثلى، تأليف: كاملة الكواري، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، عام 1422 هـ.

78 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، عام 1416 هـ. 79 - مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: فهد السليمان، دار الثريا، الطبعة الثانية، عام 1423 هـ. 80 - المجموعة العلية من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ت. الدكتور هشام الصيني، دار ابن الجوزي، (المجموعة الأولى) الطبعة الأولى، عام 1422 هـ. 81 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، ت. محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، عام 1393 هـ. 82 - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم، ت. مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، عام 1411 هـ. 83 - المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع محمد بن عبد الرحمن ابن قاسم، الطبعة الأولى، عام 1418 هـ. 84 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت. جماعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1420 هـ. 85 - مسند الشاميين، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ت. حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، عام 1405 هـ. 86 - المصنف، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت. حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، عام 1403 هـ. 87 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني، تحقيق مجموعة من الباحثين تنسيق الدكتور: سعد بن ناصر الشثري، دار العاصمة، الطبعة الأولى، عام 1419 هـ. 88 - معالم التنزيل المشهور بِـ (تفسير البغوي)، لأبي الحسين البغوي، ت. خالد بن عبد الرحمن العك وآخر، دار المعرفة - بيروت، الطبعة الثانية، عام 1407 هـ.

89 - معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى، تأليف: محمد بن خليفة التميمي، أضواء السلف، الطبعة الأولى، عام 1419 هـ. 90 - مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ت. صفوان داوودي، دار القلم بدمشق، الطبعة الثانية، عام 1418 هـ. 91 - مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت. عبد السلام هارون، دار الجيل، الطبعة الأولى، عام 1411 هـ. 92 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت. محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية، عام 1411 هـ. 93 - المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ليحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية. 94 - النحو الوافي، مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة، تأليف: عباس حسن، دار المعارف بمصر. 95 - نقض الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على المريسي الجهمي العنيد، لأبي سعيد الدارمي، ت. رشيد الألمعي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، عام 1418 هـ. 96 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين ابن الأثير، قدم له: علي الحلبي، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، عام 1421 هـ. 97 - ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، تأليف: عبد العزيز الجليل، دار طيبة، الطبعة الأولى، عام 1429 هـ.

§1/1