التعليق على الدرة المضيئة في السيرة النبوية للمقدسي

صالح المغامسي

[التعريف بصاحب التصنيف، وبدء الشرح من أول المتن]

سلسلة السيرة النبوية [التعريف بصاحب التصنيف، وبدء الشرح من أول المتن] أعطى الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من العطايا والمزايا والخصائص ما لم يعط أحداً من خلقه، وأثنى عليه بما لم يثن على أحد من أنبيائه، فهو سيد المرسلين، وإمام المتقين، وأفضل خلق الله أجمعين. فحق على كل مسلم أن يعرف سيرته المباركة، وأن يعرف نسبه ونشأته، ويعرف ألطاف الله به، فإن هذا مما يزيد الإيمان به، والتمسك بسنته.

التعريف بالمؤلف والكتاب وبيان أهمية السيرة النبوية

التعريف بالمؤلف والكتاب وبيان أهمية السيرة النبوية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا بحمد الله وتوفيقه وعونه أول دروسنا العلمية في التعليق على الدرة المضيئة في السيرة النبوية للعلامة: عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله تعالى، وإن من التأدب مع أهل التصنيف أن يُذكر ما لهم من فضل، وما قدموه لدين الله جلّ وعلا من عملٍ نافع، وصاحب هذا التصنيف الذي بين أيديكم أحد أئمة المسلمين الذي عاشوا في القرن السادس الهجري، وكان ذا ورعٍ وعبادة، ممن اشتغل بطلب العلم وتعليمه، وممن عُرف عنهم كثرة التعبد والتماس الأثر، وكان فقيهاً حنبلياً رحمه الله تعالى. ومما يُذكر عنه في ذكر وفاته -والخواتيم تدل على أيام الإنسان ومراحله التي مضت- أنه رحمه الله أصابه المرض حتى لم يقدر على الذهاب إلى المسجد، فلما اشتد عليه المرض دخل عليه أحد أبنائه فقال له: يا أبتاه ما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، ثم إنه صلى الفجر، ثم قال له ابنه: يا أبتاه هاهنا دواء، قال: يا بني لم يبق إلا الموت! شعر بدنو الأجل، ثم إنه قال له ابنه مُكرراً له Q ماذا تشتهي؟ قال: أشتهي أن أنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، فدخل عليه جماعة من أصحابه يعودونه فلما سلّموا عليه رد عليهم بصوتٍ ضعيف، ثم أخذوا يتحادثون فيما بينهم، فكان العجب أنه وهو المريض الذي يُعاد يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله، اذكروا الله، فيم أنتم تخوضون؟! فلما قاموا عنه أخذ يُردد لا إله إلا الله ويحرك بها شفتيه حتى فاضت روحه وانتقل إلى جوار ربه. وهذا يدلك على ما كان عليه بعض علماء السلف من البركة، وما أفاءه الله جلّ وعلا عليهم من الفضل. وهذا المتن الذي بين يديك خاصٌّ بالسيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وتعريفاً بجملة من أصحابه، وهم العشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم. قبل أن نشرع في شرح المتن يجب أن ننبه إلى أمور: الإنسان لا يمكن أن يُهيأ له مقام بعد أن يُدرس كتاب الله جلّ وعلا أعظم من أن يدرس سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن نبينا عليه الصلاة والسلام ختم الله به الرسالات، وأتم الله جلّ وعلا به النبوات، وبعثه بين يدي الساعة هادياً مُبشراً ونذيراً، وأمر العباد بمحبته وطاعته والتماس هديه واقتفاء أثره صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا فإنه ينبغي أن يُقرر شرعاً قبل أن نشرع -مُتكلماً وسامعين- في شرح هذه الدرة المضيئة أن نقول: يجب علينا أن نتعلم سيرته صلى الله عليه وسلم لا لئن نبز أقراننا ونفوق إخواننا ونترفع على من بين أيدينا، وإنما حتى نتأسّى به صلوات الله وسلامه عليه، ونجعله بيننا وبين ربنا فنقتفي أثره، ونلتمس سنته، ونتبع هديه، ذلكم الذي أمرنا الله جلّ وعلا به في المقام الأول، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]. وقد فطر الله جلّ وعلا كثيراً من خلقه على محبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد صعد أحد فرجف الجبل فرحاً بصعوده، فقال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أُحد فإنما عليك نبيٌ وصديقٌ وشهيدان)، ولما ترك الجذع الذي كان يخطب عليه لما صُنع له المنبر حنّ الجذع إليه، فنزل عليه الصلاة والسلام والتمس الجذع وضمه إليه، كان الحسن البصري رحمه الله كان إذا حدث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بال قلوبكم لا تحن إليه. وقد أعطاه الله من المزايا والعطايا ما لم يُعط أحدٌ من العالمين، أشار إلى القمر وأومأ إليه فانفلق بإذن الله تأييداً لرسالته، وأشار إلى السحاب فتفرق إكراماً لإشارته، إلى غير ذلك مما سيأتي في المتن من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله يدفع المؤمن وطالب العلم في المقام الأول إلى أن يكون عالماً فقيهاً مُطلعاً على سيرته صلى الله عليه وسلم؛ حتى يدعو الناس إلى هديه عليه الصلاة والسلام فإن الله سد كل بابٍ موصلٍ إليه إلا ما كان عن طريقه صلوات الله وسلامه عليه. والرسالة والنبوة لا تنال بالسعي ولا بالكد ولا بالعمل ولا بطلب العلم وإنما هي هبةٌ من الله، يقول الله جل شأنه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فالله تبارك وتعالى اصطفى هؤلاء الرسل من بين خلقه أجمعين ومنحهم النبوة وأعطاهم الرسالة فكانوا أئمة هدًى ومصابيح دُجى، نشر الله بهم دينه على مر العصور وكر الدهور حجةً من الله تبارك وتعالى على خلقه كما قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165]. والمقصود من هذا كله: إخلاص النية والسعي قدر الإمكان في فهم سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه قبل أن نشرع تفصيلاً في ذكرها. وصاحب هذا المتن قال في أوله: إنه موجز وإنه مُختصر، وإن المراد به الإلمام الشامل بسيرته عليه الصلاة والسلام، وسنحاول أن نعرج قدر الإمكان على ما أطلق منها؛ لأن بعض النصوص في المتن كما هو معلومٌ لا يكاد يجهلها أحد، وإنما سنقف على ما يغلب على الظن أنه يحتاج إلى أن يقف الإنسان معه وأن يبينه لغيره، والله تعالى هو المستعان وعليه التكلان. ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم صلاح النية وإخلاص القصد، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه يُبتغى بها رضاه ويُتقى بها سخطه إنه سميعٌ مجيب. وطريقة التدريس أنه سيقرأ المتن أخوكم صفحة صفحة ونعلق على كل صفحة لوحدها.

نسبه صلى الله عليه وسلم

نسبه صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله خالق الأرض والسماء، وجاعل النور والظلماء، وجامع الخلق لفصل القضاء، لفوز المحسنين وشقوة أهل الشقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة يسعد بها قائلها يوم الجزاء، وصلى الله على سيد المرسلين والأنبياء، محمد وآله وصحبه النجباء. أما بعد: فهذه جملة مختصرة من أحوال سيدنا ونبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، لا يستغني عنها أحد من المسلمين، نفعنا الله بها، ومن قرأها، وسمعها. نسبه صلى الله عليه وسلم: فنبدأ بنسبه: فهو أبو القاسم، مُحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هَاشِمِ بن عبد مَنَاف بن قُصَيِّ ابن كِلابِ بن مُرَّةَ بن كَعْبِ بن لُؤَيِّ بن غَالِبِ بن فِهْرِ بن مَالِكِ بن النَّضْرِ بن كِنَانَة بن خُزَيْمَةَ ابن مُدْرِكَةَ بن إِلْيَاسَ بن مُضَرَ بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدْنَانَ بن أُدَد ابن الْمُقَوَّم بن نَاحُورَ بن تَيْرَحَ بن يَعْرُبَ بن يَشْجُبَ بن نَابِت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تَارح وهو: آزر بن نَاحُورَ بن سَارُوعَ بن رَاعُو بن فَالِخ ابن عَيْبَر بن شَالِخ بن أَرْفَخَشْد بن سَام بن نُوح بن لَمْكِ بن مُتُوشَلْخ بن أَخْنُوخ -وهو إدريس النبي فيما يزعمون، وهو أول بني آدم أعطي النبوة وخط بالقلم- ابن يَرْدَ بن مَهْلِيلَ بن قَيْنَن بن يَانِش بن شِيث بن آدم صلى الله عليه وسلم. هذا النسب ذكره محمد بن إسحاق بن يسار المدني في إحدى الروايات عنه. وإلى عدنان متفق على صحته من غير اختلاف فيه، وما بعده مختلف فيه. وقريش ابن فهر بن مالك، وقيل: النضر بن كنانة]. بدأ المصنف رحمه الله كتابه بذكر كنية نبينا صلى الله عليه وسلم وهي: أبو القاسم، والكنية: ما صُدِّر بأبٍ أو أم أو ابن، كما يقال: ابن أم مكتوم، أو ابن أم عبد، أو أبو القاسم، أو أبو حفص، هذه كلها تُسمى كُنى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له من خديجة رضي الله تعالى عنها أولاد ذكوراً وإناثاً، كان له القاسم والطيب المُسمى: عبد الله، وكان له أربع بنات، فكان بديهياً أن الأصل أن الإنسان يُكنى بأكبر بنيه، فكُني صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم، وقد وردت هذه الكنية في كثير من الأحاديث، فد كان اليهود ينادونه بها كما في حديث ثوبان في صحيح مسلم وغيره قال اليهودي: (يا أبا القاسم! ما أول أشراط الساعة؟) إلى آخر ذلك مما ورد في الصحيحين وفي غيرهما من مناداة اليهود أو بعض كفار قريش له بأبي القاسم، فهذه كنيته صلوات الله وسلامه عليه. أما نسبه صلى الله عليه وسلم فيُمكن تصنيف النسب الشريف إلى ثلاثة أقسام: نسبه صلى الله عليه وسلم منه إلى جده عدنان، وهذا أمرٌ مُتفقٌ عليه، ومن عدنان إلى إسماعيل فيه مُختلفٌ فيه، ومن إسماعيل وإبراهيم إلى آدم عليه السلام كثيرٌ منه غير صحيح، ويمكن أن يُقال علمياً: إنه يصعب إثباته وذكره. فعلى هذا يتحرر أن النسب الشريف المذكور ثلاثة أقسام، قسمٌ ثبتت صحته، وقسمٌ مُختلفٌ فيه لكن الصحيح منه أكثر، وقسمٌ مُختلفٌ فيه وأكثره غير صحيح؛ لصعوبة الإثبات.

حفظ الله لنبيه في أصلاب الرجال

حفظ الله لنبيه في أصلاب الرجال قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكان حقاً على الله -ولا ممتن على الله- أن يحفظه صلى الله عليه وسلم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فكان صلى الله عليه وسلم يولد من نكاحٍ إلى نكاح محفوظاً في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء حتى وضعته أمه آمنة بنت وهب من أبيه عبد الله بن عبد المطلب]. وهذا النسب الشريف الطاهر جاء عن بعض العلماء أنه المقصود بقول الله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217 - 219]، وهذا وهم ممن ظنه؛ لأن معناه أن جميع آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده كانوا مؤمنين، وهذا لا يدل الواقع التاريخي عليه، فنبينا صلى الله عليه وسلم من آباءٍ وأجدادٍ من أهل الفترة، والله أعلم بهم، ولاشك أن من إبراهيم إلى آدم من كان على غير ملة الإسلام. والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظاً برعاية ربه تبارك وتعالى.

ذكر عدنان ومضر وهاشم

ذكر عدنان ومضر وهاشم عندما نقول: النبي العدناني فإننا ننسبه إلى جده عدنان الذي هو قطعاً من ذرية إسماعيل، وعندما نقول النبي المضري ننسبه إلى مضر الذي هو أخو ربيعة، فإن مضر له أخٌ يُقال له: ربيعة، افترقت العرب منهما فرقتين: المضريون، وكانوا يسكنون مكة وهم عرب الحجاز، وربيعة وكانوا يسكنون جهة البادية في بادية نجد والعراق، ولما ظهر مسيلمة -وكان من ربيعة- كان أتباع مسيلمة يقولون: كاذب ربيعة -يقصدون مسيلمة - ولا صادق مُضر! يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم، أخذتهم الحمية. ولا يتعلق بهذين الاسمين أي حكمٍ شرعي. النبي صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وعندما يصل الأمر إلى جده هاشم يتعلق به أمرٌ شرعي وهو أنه إذا قيل: آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المقصود بهم بنو هاشم، والحكم الشرعي الذي يتعلق بهذا أن الزكاة لا تُعطى إليهم كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه. وهاشم هو: ابن عبد مناف، وعبد مناف ترك أربعة من الولد: نوفل وعبد شمس والمطلب وهاشم، وهذه يجب تحريرها؛ لأنه يتعلق بها مسائل شرعية، فقد خلف عبد مناف أربعة من الولد ذكوراً هم: هاشم، والمطلب بدون عبد، ونوفل، وعبد شمس، فهؤلاء الأربعة إخوة من أبيهم عبد مناف. قال عليه الصلاة والسلام: (عندما ننسب ننسب إلى بني هاشم)، هاشم هذا له إخوة ثلاثة وهم الذين ذكرناهم: نوفل وعبد شمس والمطلب، ولما حصل ما حصل في شعب بني هاشم وحاصرت قريشٌ النبي عليه الصلاة والسلام في الشعب انضم إليه أبناء المطلب، انضموا إلى بني هاشم في الشعب كافرهم ومؤمنهم، وبقي بنو عبد شمس وبنو نوفل مع قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم. هذه الخصيصة لبني المطلب حفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فلما كانت غزوة خيبر وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم، جاءه وفدٌ من بني عبد شمس وبني نوفل، جاءه جبير بن مطعم وهو من بني نوفل وجاءه عثمان رضي الله عنه وهو من بني عبد شمس فقالا: يا نبي الله! إنك أعطيت إخواننا من بني هاشم وهذه لا تثريب عليك فيها؛ لأن الله شرفهم بك، ولكنك أعطيت إخواننا من بني المطلب ونحن وإياهم شيءٌ واحد؛ لأن المطلب أخٌ لـ نوفل وأخ لـ عبد شمس، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام، وشبك بين أصبعه)، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن بني المطلب يدخلون في آل البيت بمقتضى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه أهم فوائد ذكر النسب الشريف. وهاشم هذا اسمه عمرو، وإنما سُمي هاشماً؛ لأنه كان يكسر الخبز ويضعه مع المرق، ويُسمى هذا عند العرب الثريد، ويطعم به الحجاج، وهو الذي سن رحلتي الشتاء والصيف لقريش، وقد قيل فيه: عمرو الذي هشم الثريد لقومه قوم بمكة مسنتين عجاف سنت إليه الرحلتان كلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف وهذا هو الذي يُنسب إليه صلى الله عليه وسلم في المقام الأول، يُقال: النبي الهاشمي، وعندما يقال: النبي المضري يخرج بنو ربيعة، وعندما يُقال: العدناني المقصود نسبته إلى إسماعيل وسيأتي بيان هذا.

ذكر عبد المطلب

ذكر عبد المطلب عبد المطلب ليس هو المطلب، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد الذين كفلوه كما سيأتي تحريره في موضعه، واسمه شيبة، وقيل: شيبة الحمد، وإنما سُمي عبد المطلب؛ لأن المطلب الذي ذكرناه في الأول أخو هاشم لما جاء المدينة كان هذا شيبة صغيراً، وهو ابن أخيه هاشم، فلما مات هاشم أخذ المطلب شيبة وأردفه وراءه ودخل به مكة، فلما دخل به مكة ظن الناس من قريش أنه عبد للمطلب، فأخذوا يقولون: عبد المطلب عبد المطلب عبد المطلب حتى غلبت عليه، وإلا اسمه شيبة. وتظهر فائدة ثانية قلما ينتبه إليها إلا القليل وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مُفتخراً: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، والشُرَّاح عندما يأتون إلى ذكر أنه لا يُذكر الإنسان أنه عبدٌ لغير الله يقولون: يجوز من باب النسب، ويأتون بهذا الدليل، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وهذا وهمٌ ممن قاله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: (أنا ابن عبد المطلب)، العبودية هنا لم يقصد بها القرشيون عبودية الذل وعبودية التعبد، وإنما قصدوا بها عبودية الرق، كما يقال: زيد مثلاً عبدٌ لبني فلان، عبدٌ بمعنى: رقيق ليس أنه يعبدهم. فلم يُغير عليه الصلاة والسلام اسم جده، ولم يقل: إن عبد المطلب لم يكن عبداً؛ لأنه فهم الوضع الذي ذُكر منه الاسم، وهو أن شيبة ظنته قريشٌ عبداً للمطلب أي: أنه غلام له وعبد بمعنى عبودية رق. والعبودية ثلاثة أقسام: عبودية رق وضدها الحرية، وهذه تُسمى عبودية شرعية قال الله: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178]. وعبودية ذل وقهر وهذه يشترك فيها كل الخلق، الملائكة والجن والإنس كلهم عبيدٌ لله تبارك وتعالى من هذا الباب، عبودية ذل وقهر من جانب الرب تبارك وتعالى، ودليلها من القرآن: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93]. العبودية الثالثة: عبودية الطاعة، وتنقسم إلى قسمين: عبودية طاعةٍ لله، وعبودية طاعة لغير الله تبارك وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة) إلى آخر الحديث. إذاً: عبودية الطاعة تنقسم إلى قسمين: طاعة للرب جل وعلا، وطاعة لغير الله، فالطاعة لله هي التي يتنافس فيها المتنافسون، ويشمر فيها العاملون، وهي التي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الذروة منها فكان كما قال الله جلّ وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، قصد الله بها هنا: عبودية الطاعة. هذا عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم الأول، ومن هذا نفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه وأمه عربيٌ من العرب المستعربة.

أقسام العرب

أقسام العرب العرب أمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. أما العرب البائدة فهم ثمود وعاد، فهذه أمم عربية كانت موجودة ثم بادت، ولم يبق منها على الأرض نسل. وعربٌ عاربة أي: عرب أقحاحٌ جداً، وهم ذرية يعرب بن قحطان، والمصنف هنا رحمه الله تعالى لم يذكر أن يعرب ابن لـ قحطان، فهذا هو جد العرب، ويُسمى هؤلاء العرب بالقحطانيين نسبةً إلى يعرب بن قحطان، وهؤلاء هم العرب العاربة. القسم الثالث: العرب المستعربة، والألف والسين والتاء في اللغة غالباً تعني الاكتساب، تعني الطلب، فمعنى عرب مستعربة أي: ليسوا عرباً في أصلهم وإنما اكتسبوا العروبة، فإسماعيل عليه الصلاة والسلام ابن إبراهيم، وإبراهيم لم يكن عربياً وإن كان من ذرية سام، ولذلك تقرأ في القرآن: {إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:125] بالفتح، ويقول النحاة: ممنوع من الصرف للعلمية وللعُجمة أي: أنه اسم غير عربي، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ليس عربياً، وبالتالي إسماعيل ابنه ليس عربياً، لكن إسماعيل اكتسب العربية من جهة زوجته، لأنه تزوج من جُرهم، وجُرهم قبيلة عربية قحطانية، فمن تولد من ذرية إسماعيل وزوجته التي من جُرهم يُسمون: عرباً مُستعربة، ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم. فالعرب قحطانيون وعدنانيون هذا تقسيم، ويُسمون عرب الشمال وعرب الجنوب هذا تقسيم، ويقال: عرب الحجاز، وهم العرب المستعربة في الغالب، وليس لهذا التقسيم قسيم، يعني: إذا قلنا عرب الحجاز لا يوجد له قسيمٌ آخر نحيل عليه. على هذا يُفهم أن العرب أمةٌ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، عرب بائدة، وعربٌ عاربة، وعرب مستعربة، وأنه صلى الله عليه وسلم من العرب المستعربة الذين اكتسبوا العربية من جرهم القبيلة القحطانية التي نزلت مكة وتزوج منهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، هذا كله في ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أهم ما فيه.

ذكر إدريس

ذكر إدريس ذكر المصنف أن إدريس أول من نُبئ وأول من خط بالقلم، وهذا ذكره أبو هلال العسكري في الأوائل ولا دليل عليه، وإذا أطلقنا النبوة فمن الخطأ أن يُقال: إن إدريس عليه السلام أول من نُبئ؛ لأن هذا قد يُفهم منه بادي الرأي أن آدم عليه الصلاة السلام ليس بنبي، والمعلوم شرعاً والمقرر في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل عن آدم أنبيٌ هو؟ قال: (نعم، نبيٌ مُكلم)، فآدم نبي، فالقول أن إدريس أول من نُبئ غير صحيح، إلا أن يكون المقصود أول من نُبئ بعد آدم عليه السلام، أما أن يُقال: إنه أول من خط بالقلم فلا سبيل إلى إثباته.

ذكر قريش

ذكر قريش ذكر المصنف أن قريشاً هو ابن فهر، والصواب: أنه هو فهر نفسه، وقريش لقبٌ لـ فهر، واختلفوا لماذا سُمي قريشاً؟ والأظهر أنه كان قادراً على أن يجمع الناس، كان ذا سلطان على هذا فسُمي قريشاً، فـ قريش لقبٌ لـ فهر وليس هو ابن فهر على الصحيح من أقوال العلماء، هذا ما يتعلق بالنسب الشريف.

أمه صلى الله عليه وسلم وولادته

أمه صلى الله عليه وسلم وولادته قال المصنف رحمه الله تعالى: [أمه صلى الله عليه وسلم وولادته. أمه صلى الله عليه وسلم: وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. ولادته صلى الله عليه وسلم: وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفيل في شهر ربيع الأول لليلتين خلتا منه، يوم الإثنين، وقال بعضهم: بعد الفيل بثلاثين عاماً، وقال بعضهم: بأربعين عاماً، والصحيح: أنه ولد عام الفيل]. ذكر المصنف هنا أن أم النبي صلى الله عليه وسلم هي آمنة، ولم يقل: أبوه هو فلان؛ لأنه ورد ذكره في النسب الأول، وأفرد الأم لأنه لم يرد ذكرها في النسب الأول. أمه هي: آمنة بنت وهب أم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي من بني زهرة، وبنو زهرة بطنٌ من بطون قريش، فتجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده كلاب، وهذه آمنة تزوجها أبو النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله، فلما تزوجها حملت منه بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم. ولحكمة أرادها الله مات الأبوان قبل أن ينشأ صلى الله عليه وسلم النشأة التي يمكن أن نقول: إنه بلغ سن التمييز، فأظهر أقوال العلماء: أن أباه مات وهو حملٌ عليه الصلاة والسلام، كان له أخوالٌ من بني النجار في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الله لتجارة فمات في المدينة، ودُفن في دار النابغة الجعدي، وهو أحد شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم وحسن إسلامه. وقد ذكر المصنف الاختلاف في زمان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن تعلم أن المُتفق عليه: أنه ولد يوم الإثنين في شهر ربيعٍ الأول، ودائماً الإنسان في طلب العلم يأخذ ما اتفق عليه أولاً، وما اختلف عليه يبدأ به بعد ذلك، فلا بد في المسيرة العلمية من شيءٍ قوي تركن إليه، ثم تُخرج الأضعف فالأضعف، فالثابت أنه صلى الله عليه وسلم ولد في يوم الإثنين فإنه كان يصومه وسئل عن ذلك فقال: (هو يومٌ وُلدت فيه)، فقطعاً أنه ولد يوم الإثنين، ولا أعلم أن هناك خلافاً في أنه وُلد في يوم الإثنين. الأمر الثاني المُتفق عليه: أنه وُلد في شهر ربيعٍ الأول، والخلاف هو في أي يومٍ من شهر ربيعٍ الأول ولد، والذي عليه عامّة الناس في عصرنا أنه يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو ما ذكره المصنف، والأظهر -والله أعلم- ما دلت عليه الدراسات المعاصرة، وهو أنه ولد يوم الإثنين التاسع من شهر ربيعٍ الأول، لأن الفلكيين كالعلامة محمود باشا والمنصور فوري وغيرهما ذكروا أنه لا يمكن فلكياً أن يكون يوم الإثنين في العام الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الثاني عشر، وإنما هو يوم الإثنين التاسع من شهر ربيعٍ الأول الموافق في السنة الميلادية الثاني والعشرين من شهر إبريل لعام خمسائة وواحد وسبعين من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام. لكننا كطلبة علم لا يعنينا هذا، ودائماً الإنسان لا يتعلق كثيراً بما لا طائل من ورائه، إنما الذي يعنينا أنه وُلد يوم الإثنين لأنه صامه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا من الناحية التاريخية، ولو فرضنا أن القول الذي رجحناه أنه ولد في اليوم التاسع خطأ فهذا لا يُغير من الموضوع شيء، قد يكون ولد يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول كما قال الفلكيون وهو الذي نعتمده وهو الأظهر، وقد يكون قبله أو بعده، لكنه قطعاً يوم الإثنين من شهر ربيعٍ الأول. وُلد في عام الفيل، وقد جرت العادة عند العرب قديماً وعند الأمم كلها أنهم يؤرخون بالحدث العظيم، فالنصارى كانوا يؤرخون بميلاد المسيح، فلما كانت العرب أمة لا احتكاك لها مع الأمم الأخرى أرخوا بحادثة الفيل، والفيل قصته شهيرة وهي أن أبرهة نائب النجاشي على اليمن قدم إلى مكة يريد هدم البيت في القصة المعروفة، حتى وصل إلى وادي محسر ما بين مزدلفة ومنى، وهناك أناخ الفيل وبرك ورفض التوجه إلى الكعبة كما هو معلومٌ، وحيثما وُجِّه توجه إلا إذا ذُهِبَ به إلى مكة، فأرسل جلّ وعلا عليهم طيراً أبابيل، ففي هذا العام لعظيم الحادثة التي وقعت فيه أرخ العرب آنذاك بعام الفيل؛ لأنه أصبح أمراً مُميزاً، ولعل هذا وقع لحدوث شيءٍ عظيم وهو مولده صلوات الله وسلامه عليه. والمقصود أنه وُلد عليه الصلاة والسلام في عام الفيل، أما القول: أنه بعد الفيل بثلاثين عاماً أو أربعين عاماً فهذا خلاف الصحيح، وهي أقوالٌ -وإن كانت موجودة- مردودة، تردها أكثر الروايات التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم وُلد في عام الفيل.

وفاة أبوي الرسول وجده

وفاة أبوي الرسول وجده الملقي: [وفاة والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه، وجده: ومات أبوه عبد الله بن عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى له ثمانية وعشرون شهراً. وقال بعضهم: مات أبوه وهو ابن سبعة أشهر. وقال بعضهم: مات أبوه في دار النابغة وهو حمل. وقيل: مات بالأبواء بين مكة والمدينة. وقال أبو عبد الله الزبير بن بكار الزبيري: توفي عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين. وماتت أمه وهو ابن أربع سنين. ومات جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين. وقيل: ماتت أمه وهو ابن ست سنين. الشيخ: هنا ذكر المصنف يُتمه صلى الله عليه وسلم مع الخلاف في زمن اليتم، فقيل: إنه وهو حمل، وقيل غير ذلك كما هو مذكور عندك، والأظهر أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الروايات على أنه مات أبوه وهو حملٌ في بطن أمه، وقد يكون مات أبوه بعد ولادته، هذه الروايات كلها موجودة والأظهر كما قلت الرواية الأولى: أنه وهو حملٌ صلوات الله وسلامه عليه، وقلنا أن أباه عبد الله مات في المدينة. أما القول: بأنه مات في الأبواء بين مكة والمدينة كما هو مكتوب فهذا خلاف الصحيح، والصحيح: أن أمه ماتت بالأبواء وقبرها موجود هناك، أن أمه ماتت بالأبواء بعد أن مرضت بالمدينة ماتت بالأبواء صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد دفنه كفلته أمه مدة أربع سنوات وماتت بعد ذلك، ثم كفله جده عبد المطلب إلى ست أو ثمان، ثم كفله عمه أبو طالب. الذي يعنينا في هذا المقام في فقه السيرة أن يُفهم أن الله جلّ وعلا لحكمةٍ أرادها أن يعيش نبيه صلى الله عليه وسلم يتيماً حتى تكتمل عليه منة الله، والله إذا أراد أن يمن على عبدٍ من عباده بشيء جنبه الناس، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قدم جسده قبرناً قدم ولده للقربان، وقدم جسده للنيران، وقدم قلبه للرحمن، فلما هم قومه بأن يلقوه في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعبد أهل زمانه، بل أعبد الناس على الإطلاق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان ملك القطر يعلم أن الله لن يُخزي إبراهيم فيحرقه بالنار، وأن الله سينصر إبراهيم لا محالة، ولكن يعلم أن النار لا يطفئها إلا الماء فغلب على ظنه أن الله جلّ وعلا سيأمره أن ينزل الماء القطر على النار حتى يطفئها فيسلم إبراهيم، فجعل ميكال يطأطأ رأسه ينتظر متى يؤمر أن ينزل القطر، ولكن الله جلّ وعلا إكراماً لإبراهيم خاطب النار بذاته العلية بقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فخرج منها صلوات الله وسلامه عليه بعد أن جعلها الله برداً وسلاماً خرج منها معافاً يمشي على قدميه والناس ينظرون. ما لا يفقهه الناس هو أنه خرج وليس لأحدٍ من أهل الأرض عليه منة صلوات الله وسلامه عليه إلا منة الله، وهذه منزلة لا ينالها الإنسان إلا إذا بلغ درجة عظيمة في العبودية، فإن الإنسان إذا تحرر قلبه من غير الله كان أقرب إلى الله، وكلما تعلق قلبه بأحدٍ غير الله كان أبعد من الله جلّ وعلا، ومن أراد الله يرزقه الفلاح الحق الكامل لم يجعل في قلبه أحد غير ربه تبارك وتعالى، يحب بحبه، ويُبغض ببغضه، ويوالي بموالاته، فإذا بقي هذا القلب لا يعرف إلا الله جلّ وعلا في سرائه وضرائه وليله ونهاره وإقامته وسفره كانت رعاية الله جلّ وعلا به أعظم وعنايته به أكمل تبارك وتعالى، وهذا هو المقصود الأسمى من كونه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيماً لم يرعاه أب حتى إذا بلغ النبوة نسب الناس نبوته إلى أبيه، ولم ترعاه أمه حتى إذا بلغ المجد نسب الناس رعايته وتربيته إلى أمه، قال الله جلّ وعلا مُمتناً عليه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]. ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خُيِّرتَ في الأرزاق والقسم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخِيرةُ الله في لا منك أو نعم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جددٌ يزينهن جلال العتق والقدم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم صلوات الله وسلامه عليه. الملقي: رضاعه صلى الله عليه وسلم: وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة جارية أبي لهب، وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، أرضعتهم بلبن ابنها مسروح. وأرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية. الشيخ: بعد أن ذكر: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيماً وبينا الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيماً ذكر المصنف رحمه الله من نلنا شرف رضاعته صلوات الله وسلامه عليه، ممن أرضعنه بلا شك أمه آمنة، وممن أرضعنه ثويبة جارية كانت لعمه أبي لهب، ولم يكن بالطبع أبو لهب يعلم أن هذا سيكون نبياً رسولا وأنه سيعاديه، ولكن جاريته ثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وممن أرضعنه وهي أكثر من أرضعته حليمة السعدية المشهورة، خرجت به إلى بادية بني سعد في قصة نُقلت عنها، أنها جاءت إلى مكة وأخذته صلوات الله وسلامه عليه إلى بادية بني سعد، فتغير حالها وحال قومها مما هو مذكورٌ مشهور في كتب السيرة، أنا قلت: أنه في منهجنا في التدريس أن ما كان مشهوراً لا نُعرج عليه، وإنما نُعرج على ما كان مخفياً يحتاج الناس إلى بيانه، هؤلاء الثلاثة هن اللاتي أرضعنه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من لطف ربه به عليه الصلاة والسلام.

[أعمامه وعماته وأزواجه صلى الله عليه وسلم]

سلسلة السيرة النبوية [أعمامه وعماته وأزواجه صلى الله عليه وسلم] ذكر علماء السيرة أعمام النبي عليه الصلاة والسلام وعماته، وذكروا من أدركه الإسلام منهم ومن مات قبل بعثته، وذكروا من أسلم منهم ومن كفر. وذكر العلماء أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، ووقت زواجه بهن، وذكروا أخبارهن، وأرخوا تاريخ وفاتهن، وكل هذا ما تناقله العلماء خلفاً عن سلف، وهذا دليل على كمال محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكروا كل ما يتعلق به من صغير وكبير، ومن قليل وكثير.

أعمامه صلى الله عليه وسلم

أعمامه صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. اليوم إن شاء الله تعالى سنشرع في التعليق على ما جاء في ذكر أعمامه وعماته وأزواجه صلوات الله وسلامه عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في أعمامه وعماته. وكان له صلى الله عليه وسلم من العمومة أحد عشر؛ منهم: الحارث: وهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، ومن ولده وولد ولده جماعة لهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم. وقثم: هلك صغيرًا، وهو أخو الحارث لأمه. والزبير بن عبد المطلب: وكان من أشراف قريش، وابنه عبد الله بن الزبير شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا، وثبت يومئذ، واستُشهد بأجنادين، ورُوي أنه وجد إلى جنب سبعة قد قتلهم وقتلوه، وضباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأم الحكم بنت الزبير، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحمزة بن عبد المطلب: أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، أسلم قديمًا وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وقُتل يوم أحد شهيدًا، ولم يكن له إلا ابنة. وأبو الفضل العباس بن عبد المطلب: أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وكان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له عشرة من الذكور: الفضل، وعبد الله، وقثم له صحبة، ومات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان بالمدينة. ولم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا العباس وحمزة. وأبو طالب بن عبد المطلب: واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه، وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وله من الولد طالب مات كافرًا وعقيل، وجعفر، وعلي، وأم هانئ لهم صحبة، واسم أم هانئ فاختة وقيل: هند؛ وجمانة ذكرت في أولاده أيضًا. وأبو لهب بن عبد المطلب: واسمه عبد العزى، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن ولده عتبة ومعتب، ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ودرة لهم صحبة، وعتيبة قتلة الأسد بالزرقاء من أرض الشام على كفره بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. وعبد الكعبة، وحجْلٌ واسمه المغيرة، وضرار أخو العباس لأمه، والغيداق، وإنما سمي الغيداق لأنه أجود قريش، وأكثرهم طعامًا]. الشيخ: العم أصل وارث، وعبد المطلب هو جد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له في أول الأمر إلا ابن واحد، ثم إنه اشتد عليه بعض الخلاف مع زعماء قريش، فنذر إن رزقه الله أولاداً يمنعونه أن يذبح أحدهم، فرزقه الله عشرة بنين، فأراد أن يذبح ابنه عبد الله، ثم فدى عبد الله بمائة من الإبل، وهؤلاء المذكورون كلهم إخوة لـ عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أعمام النبي عليه الصلاة والسلام. ويحسن بطالب العلم أن يربط بين حياة الأنبياء ويفقه السنن التي يبعث الله جل وعلا من أجلها الرسل، فلوط عليه الصلاة والسلام كان ابن أخ لإبراهيم عليه السلام، فلما هاجر لوط ونزل أرض سدوم في جهة البحر الميت اليوم، وجاءته الملائكة بصورة وجوه حسان تامي الخلقة، فتن بهم قوم لوط ودخلوا عليه وراودوه عن ضيفه كما قال الله: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فكان يتمنى أن يكون له قوم ينصرونه على هؤلاء؛ لأنه لو كان منيعاً لما تجرأ هؤلاء عليه، قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره: (فما بعث الله بعده من نبي إلا في منعة من قومه) فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعمام، وبنو هاشم كان لهم صيت عند القرشيين، وهذا كله من أجل حفظ نبينا صلى الله عليه وسلم، والمسلم قد يستفيد حتى من الكافر، فبنو هاشم مؤمنهم وكافرهم كانوا عصبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكلهم جميعاً دخلوا معه الشعب المؤمن منهم والكافر، وقبلوا الحصار لأنهم يشعرون بالأنفة والحمية لمن يحمونه ولو كانوا يخالفونه. والشاهد من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له أعمام كثيرون، وطالب العلم ليس ملزماً بحفظهم، لكن أنت ملزم بالتصور الكامل للمتن، أن تعلم أن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من لم يدرك نبوته صلى الله عليه وسلم ومبعثه، فيكون مات على دين آبائه فهو من أهل الفترة، يجري عليه ما يجري على أهل الفترة؛ لأنه ما أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا القسم الأول. القسم الثاني: من أدرك مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن، وهذا القسم يضم اثنين شهيرين هما: أبو طالب وأبو لهب، فكلاهما أدرك البعثة النبوية ولم يؤمن، إلا أن هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين: قسم لم يؤمن وناصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو طالب، وقسم لم يؤمن وعادى النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينصره وهو أبو لهب. وسمي أبو لهب بهذا لجمال خديه ونورهما، وإلا فاسمه الحقيقي عبد العزى، وأبو لهب كنيته، وفيه نزل قول الله جل وعلا: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2] وهذه الآية من أعظم الأدلة على أنه لا يمكن لأحد أن يخرج عن مشيئة الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: هذا القرآن من عند الله، وقريش ومن ضمنها أبو لهب يقولون: هذا القرآن ليس من عند الله، فلما قال أبو لهب لنبينا عليه الصلاة والسلام: تباً لك سائر هذا اليوم! ألهذا جمعتنا؟! أنزل الله على نبينا هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3]، ومعلوم أن النار لا يصلاها المؤمن، بل يصلاها الكافر، فهو يقول للناس وأبو لهب يسمع: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] وكان بإمكان أبي لهب أن يقول للناس: محمد يقول: إنني في النار، وأنا الآن مؤمن بمحمد! وهو يقول لكم: إن المؤمن لا يدخل النار، فأنا أريد أن أبطل قرآن محمد فأقول لكم الآن: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فكيف أدخل النار؟! إذاً محمد كذاب! مع سهولة هذه الحيلة لم يستطع أن يقولها، لكن الله جل وعلا يعلم يقيناً أنه لن يقولها، ولذلك قال الله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، وأنا لا أريد أن أخرج من السيرة إلى التفسير، ولكن من أراد أن يخشع في القرآن فليتدبر القرآن، ففي القرآن كنوز ليس هذا وقت إخراجها، ومن رزق قدرة على التفسير سيرى شيئاً عجباً من دلائل قدرة الله، والمقصود أن أبا لهب لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاداه. القسم الثالث: من أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآمن، وهذا يشمل اثنين فقط رضي الله عنهما وأرضاهما وهما العباس وحمزة ابنا عبد المطلب عما الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حمزة تقدم إسلامه، والعباس تأخر إسلامه، وحمزة لم يترك إلا ابنة، وهو أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الشهداء كما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل قتالاً عظيماً يوم بدر ويوم أحد، فأراد أحد المشركين ممن وتر في بدر أن يقتله فقال لـ وحشي ووهو عبد ليس له ناقة ولا جمل في دين قريش: تشتري حريتك بأن تقتل حمزة؛ فأعد حربة ومكث في يوم أحد لا يريد أن تنتصر قريش ولا أن ينتصر محمد صلى الله عليه وسلم، المهم عنده أن يفوز بحريته، فاتخذ الحربة وتربص لـ حمزة ثم رماه بها فقتله، ثم جاءت هند قبل إسلامها فقطعت بعضاً من جسده رضي الله عنه وأرضاه، وأخذت كبده ولاكتها في فمها، وحصل ما حصل له من التمثيل رضي الله عنه وأرضاه. فـ وحشي اشترى حريته بقتل حمزة، ثم مضت الأيام ومرت السنون وكل بشيء بقدر (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فأسلم وحشي، فلما أسلم وحشي قص على النبي عليه الصلاة والسلام كيف قتل حمزة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (غرب وجهك عني) أي لا أستطيع أن أراك، ولم يرد إسلامه؛ لأن هذا دين، وليس للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتحكم فيه، لكن العاطفة مع العم هذا أمر متروك له فهو شيء بشري، فلم يستطع عليه الصلاة وا

عماته صلى الله عليه وسلم

عماته صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعماتُه صلى الله عليه وسلم ست: صفية بنت عبد المطلب: أسلمت وهاجرت، وهي أم الزبير بن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أخت حمزة لأمه. وعاتكة بنت عبد المطلب: قيل: إنها أسلمت، وهي صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة، وزهيرًا، وقريبة الكبرى. وأروى بنت عبد المطلب: كانت عند عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي، فولدت له طليب بن عُمير، وكان من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وقُتِل بأجنادين شهيدًا، ليس له عقب. وأميمة بنت عبد المطلب: كانت عند جحش بن رئاب، ولدت له عبد الله المقتول بأحد شهيدًا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد، وزينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وحبيبة، وحمنة، كلهم لهم صحبة، وعبيد الله بن جحش أسلم ثم تنصر، ومات بالحبشة كافرًا. وبرة بنت عبد المطلب: كانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة، واسمه عبد الله، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس فولدت له أبا عبرة بن أبي رهم. وأم حكيم: وهي البيضاء بنت عبد المطلب، كانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فولدت له أروى بنت كريز، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه]. بعد أن ذكر المصنف أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رحمه الله عمّات النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قلنا في الأعمام نقول في العمّات، فالذي يلزم طالب العلم المعرفة الإجمالية، ولم يثبت من الست أنها أسلمت إلا صفية، وهي أم الزبير بن العوام والأخت الشقيقة لـ حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ وأما عاتكة وأروى فاختلف في إسلامهما، وأروى بعض العلماء يُصحح إسلامها، أما عاتكة فقليلٌ من قال بإسلامها، وقد قال المصنف: إن عاتكة هي صاحبة رؤيا بدر، والمقصود برؤيا بدر أن عاتكة قبل موقعة بدر رأت في منامها رجلاً يأتي على مكة ويقول: يا آل بدر هلم إلى مصرعكم، ثم إن صخرةً جاءت فانفلقت فخرجت منها شظايا فلم تترك بيتًا في مكة إلا أصابته، فلمّا شاع الخبر في قريش جاء أبو جهل إلى العباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: يا بني عبد المطلب! أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟! لقول عاتكة أنها رأت كذا وكذا، ثم تحققت هذه الرؤيا، وصدّق الله رؤياها، ووقع ما وقع في بدرٍ، ولم تترك غزوة بدر أحدًا من قريش إلا قليلاً إلا أصابته بسوء، وناله من كربها.

أزواجه عليه الصلاة والسلام

أزواجه عليه الصلاة والسلام

أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر أزواجه عليه وعليهن الصلاة والسلام. وأول من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه حتى بعثه الله عز وجل، فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أصح الأقوال، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين]. هذه أولى أمهات المؤمنين، وهي خديجة بنت خُويلد، ولها مزايا، منها أن الله جلّ وعلا أبلغها السلام عن طريق جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج امرأة عليها في حياتها، وأنها رضي الله تعالى عنها وأرضاها رزق الله نبينا منها الولد، ورزق الله جلّ وعلا نبينا حبها، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها حبًّا جمًّا، تقول عائشة: (ما غرت من أحد من النساء ما غرت على خديجة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة ثم يبعث بها إلى صديقات خديجة) من كانت لها علاقة أو قرابة أو معرفة بـ خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد ورد أن عائشة قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: وهل كانت إلا عجوزًا في غابر الأزمان أبدلك الله خيرًا منها (تقصد نفسها)، فقال: (والله ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي إذ كفر بيَ الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، ورزقني الله منها الولد)، وهي إحدى سيدات نساء العالمين كما صحّت بذلك الأخبار وجاءت بذلك الآثار، وهي كما يظهر أعظم أمهات المؤمنين قدرًا، رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها

أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم تزوج سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد وُدِّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي بعد خديجة بمكة قبل الهجرة، وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لـ عائشة فأمسكها]. ثاني أمهات المؤمنين سودة بنت زمعة، وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها بدينة ثقيلة الحركة، ولذلك رخّص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنزل في يوم مزدلفة قبل الناس، وكذلك من كان في وضعها، أذن لها أن تخرج من مُزدلفة بعد مُنتصف الليل كما هو معروف في كتب الفقهاء، وأذن لها أن تأتي منًى قبله، لأنها كانت امرأة ثبطة، ثم إنها في آخر أيامها خشيت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم وأرادت أن تكون زوجته في الجنة فاتفقت معه أن تمنح ليلتها لـ عائشة رضي الله وأرضاها، فاجتمع عند النبي عليه الصلاة والسلام تسع من النساء، وكان يقسم لثمان؛ لأن سودة تنازلت عن ليلتها لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع سنين، والأول أصح، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة وهي بنت تسع سنين على رأس سبعة أشهر، وقيل: على رأس ثمانية عشر شهرًا. ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، أوصت بذلك سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة سبعٍ وخمسين، والأول أصح، وصلى عليها أبو هريرة، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، وكُنيتها أم عبد الله، وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولم يثبت]. هذه هي الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، ولها خصائص منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها، وأن الوحي لم ينزل عليه عليه الصلاة والسلام في لحاف امرأة غير عائشة. وقد شاع عنها حديث الإفك المعروف، وأصله أن النبي عليه الصلاة والسلام انصرف من بني المصطلق، ولما أناخ الجيش مطاياه، خرجت تلتمس عقدًا لها فقدته كانت أمها أم رومان قد أهدته لها، فلما ذهبت تلتمسه مضى الجيش، فجاء الموكلون بحمل هودجها وكانت امرأة آنذاك سنها تقريبًا في الرابعة عشر؛ لأن غزوة بني المصطلق كانت في نحو السنة الخامسة، والنبي صلى الله عليه وسلم تُوفي في الحادية عشرة ولها ثمانية عشر عامًا، فينجم عن هذا أن عمرها في حادثة الإفك في الرابعة عشر تقريبًا، فكانت امرأة خفيفة البدن غير مكتنزة اللحم، بل إنها كانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم نحيلةً جدًا، فأشار النبي عليه الصلاة والسلام على أبويها أبي بكر وأم رومان أن يُطعماها القثاء بالرطب حتى يمتلئ بدنها يسيرًا، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في شهر شوال. والمقصود أن الذين يحملون الهودج حملوه ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أم المؤمنين ليست موجودةً فيه، فحملوا الهودج وذهبوا، فلما ذهبوا جاءت رضي الله عنها فأرضاها ولم يكن في ظنها أن تحدث أمور عظام على تأخرها هذا، وظنت أن الجيش سيفقدها على بعد قليل ثم يعودوا إليها، فأناخت تحت شجرة وتقنعت رضي الله عنها وأرضاها، وكان قد تأخر عن الجيش صفوان بن مُعطل السُلمي، فلما جاء صفوان ورآها عرفها، فلما عرفها رزقه الله وألهمه أن يقول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، والإنسان إذا ابتلي عليه أن يوطن نفسه على كثرة قول هذه الكلمة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، فـ صفوان كأنه علم أن هذا الأمر لن يتم بسهولة ولن يتركه المنافقون يمضي فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، ثم أناخ بعيره عندها وتنحى فركبت على البعير رضي الله عنها وأرضاها، وقاد صفوان الرجل الطاهر البعير دون أن يكلمها بكلمةٍ واحدة، فلما أشرف على الجيش رآه المنافقون، فقام عبد الله بن أبي فقال للناس: امرأة نبيكم مع رجل غيره، والله ما سلمت منه ولا سلم منها! (عياذًا بالله)، فألاك الناس الخبر وهي لا تدري، والله يقول: {الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور:23]، يعني لا يعلمن ما يُدار ويُحاك حولهن، فلما رجعت إلى بيتها رضي الله عنها وأرضاها وجدت تغيُّرًا من النبي صلى الله عليه وسلم رغم وجعها، لكنه لم يخطر ببالها أن يكون هذا الأمر، حتى إن أمها أم رومان لم تكن تعلم؛ ثم إنها خرجت مع أم مسطح لتقضي حاجتها، ولم يكن الناس قد اتخذوا الكُنُف آنذاك، فعثُرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح! فسكتت عائشة، ثم عثرت مرة ثانية فقالت: تعس مسطح! تسب ابنها، فتعجبت عائشة، هي تريد أن تفتح الموضوع معها، فقالت لها: عجباً لك! رجلاً شهد بدرًا تسبينه؟! فذكرت لها القصة، فتعجبت وقالت: أو خاض الناس في هذا؟! ورجعت إلى البيت تبكي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تُمرض عند أمها أم رومان فوافق عليه الصلاة والسلام. فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلس على سقف البيت وهو الصديق الأكبر وأول الناس إسلاماً وخير العباد بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه، لكن المؤمن مُبتلى، يجلس على سطح البيت يقرأ القرآن، وهو يسمع بكاء ابنته تحته، فلا يملك إلا أن يذرف دمعه ويقول: والله إنه لأمر ما فعلناه لا في جاهلية ولا في إسلام، يعني الزنا والخوض في الفواحش أمر لا نعرفه لا في جاهلية ولا في الإسلام، ثم لا يلبث أن يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، ويستحيي أن يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع، ويصبر على ما يجد. وحدثت أمور بعد ذلك منها اختصام الأوس والخزرج لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ثم بعد شهر تقريباً والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيه وحي حتى يعلم الناس أن النبي لا يأتي بقرآن من عنده، ولو كان القرآن من عنده لكان قاله سريعاً حتى يُبرئ زوجته، لكنه سكت لأن الله سكت، ومضى شهراً عليه الصلاة والسلام والناس يخوضون في عرض أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ثم بعد شهر دخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي في بيت أبويها وأم رومان وأبو بكر عندها وهي تبكي، فقال لها: (يا عائشة! إن كنت قد فعلتِ فاستغفري الله)، وأخذ يعرض عليها الأمر، فقالت رضي الله عنها وأرضاها: والله إن قلت أنني بريئة لن تصدقوني، ولكني أقول كما قال العبد الصالح -نسيت اسم يعقوب على شهرته-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي تصبب منه العرق ولو كان في يوم شات، فنزل عليه الوحي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] إلى آخر الآيات في سورة النور فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! أبشري فقد برأك الله)، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاحمديه، فرفضت أن تقوم تدللاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهارًا لمكانتها، وقالت: لا أحمد إلا الله، فنجاها الله جلّ وعلا من حادثة الإفك، وبرأها الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، وبرأ صفوان بن المعطل، وقال جلّ وعلا فيما قاله: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26]، ولم يقل جلّ وعلا -وهو أعلم-: أولئك مبرءون مما قالوا، بل قالها بصيغة المضارع ولم يقلها بصيغة الماضي مما يدل على أنه سيبقى من الناس من يخوض في عرض هذه الطاهرة التي برأها الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات، وهو ما هو حاصلٌ من بعض الفرق. الذي يعنينا براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسنِدٌ رأسه الشريف إلى صدرها ونحرها رضي الله عنها وأرضاها، وجمع الله بين ريقه وريقها حيث أعطته المسواك قبل أن يموت صلوات الله وسلامه عليه، ومات في بيتها ودُفن في حجرتها رضي الله عنها وأرضاها وعن جميع أمهات المؤمنين.

أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها

أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكانت قبله عند خُنَيس بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة، وقد شهد بدرًا. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وروى عقبة بن عامر الجهني قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بـ عمر وابنته بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تراجع حفصة رحمة ل عمر، توفيت سنة سبع وعشرين، وقيل: سنة ثمان وعشرين عام أفريقية]. يعني عام فتح أفريقية، وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما أن عائشة بنت الصديق، فـ عائشة وحفصة يتفقان في أنهما ابنتا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفصة رضي الله عنها وأرضاها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها، وكان أبوها عمر قد عرضها على عثمان فأخبره أنه لا حاجة له في النساء، ثم عرضها على أبي بكر فسكت، فوجد عمر في نفسه شيئاً على أبي بكر، فلما خطب النبي عليه الصلاة والسلام حفصة أفصح أبو بكر عن السبب الذي جعله يمتنع أن يقبل حفصة عندما عرضها عليه عمر وقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها.

أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها

أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها: رَمْلَةُ بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي بأربعمائة دينار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة، وولي نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاصي، توفيت سنة أربع وأربعين]. هذه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكما كانت عائشة وحفصة بنت وزيريه فإن أم حبيبة تزوجها رسول الله وهي بنت عدوه أبي سفيان قبل أن يسلم أبو سفيان. وكان عبيد الله بن جحش خرج من مكة مُسلمًا إلى الحبشة فاراً بدينه، وهناك في الحبشة تنصر ومات على الكفر! فالقلوب بيد الرحمن جلّ وعلا، ومن أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، أعظم أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، كان أحد الصالحين محبوباً من طلابه، وهذه القصة ذكرها الذهبي في الأعلام، وذكرها ابن خلكان، فكان رجل يحسده على هذه المنزلة من طلابه، فكان إذا جاء الشيخ يحدِّث يقوم هذا ويُشغِّب عليه في الحلقة، مع أنه حافظٌ للقرآن حسن الصوت به، فمرة أغضب الشيخ فقال الشيخ: اجلس فوالله إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام, ثم قدِّر لهذا الرجل الذي شغَّب على الشيخ أنه زار بغداد رجلٌ من سفراء النصارى من القسطنطينية، فلما أراد الرجوع أحب هذا الذي يحفظ القرآن الندي الصوت به أن يرى بلاد الروم، فذهب معه إلى القسطنطينية، فلما ذهب معه إلى القسطنطينية أعجبه عالمهم وترك الإسلام وبقي على النصرانية، ثم إن أحد تجار المسلمين دخل القسطنطينية فرآه وعرفه، وكان يعرف جمال صوته بالقرآن، فرآه وهو على باب إحدى الكنائس يهش الذباب عن نفسه، فقال له: يا هذا ما فعل الله بك؟! قال: أنا كما ترى، قال: إنني كنت أراك حافظاً للقرآن فما بقي في صدرك منه؟ فقال: لم يبق منه ولا شيء إلا آية واحدة، ثم مات والعياذ بالله على الكفر، فصدقت عليه مقولة الشيخ لما كان يراه يُشغب عليه في الحلقة فقال له: إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام! والإنسان إذا سلم قلبه من الحقد على الناس وسلم لسانه من الخوض في أعراضهم كان أدعى إلى أن يُوفق إلى حسن الخاتمة، وقد كان عندنا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يمني، ليس له علاقة بالناس، يدخل المسجد وقت الصلوات ويخرج، وليس له أي ارتباط بالناس، وكان لا يقرأ ولا يكتب، فكان إذا دخل المسجد يأتي لأي إنسان يعني خال فيأخذ مصحفاً ويُعطيه للرجل الخالي ويقول: اقرأ عليَّ من كلام ربي، والناس يعرفونه خاصةً من يُكثر الصلاة في الحرم , فبقي على هذه الطريقة سنين، حتى كان عام 1418هـ دخل الحرم فرأى رجلاً خالياً فأخذ مصحفاً كالعادة وأعطاه للرجل، وقال له: اقرأ عليَّ من كلام الله، فقرأ عليه ومرَّ بآية سجدة، فسجد الاثنان القارئ والأخ اليمني، فانتهى القارئ من التسبيح ورفع رأسه وبقي الأخ اليمني ساجداً وقبضه الله جلّ وعلا وهو ساجد، مات في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيأة ليس بعدها ولا أشرف منها هيأة وهي هيأة السجود لرب العالمين، نحن نتكلم عن الظاهر، أما سريرته فأمرها إلى الله، ولا نحكم لأحد بجنة ولا نار. وهذا عبيد الله بن جحش يأخذ زوجته ويفر بدينه من مكة إلى الحبشة ثم يتنصر! ثق تماماً أنه لا يهلك على الله إلا هالك، دواخل القلوب هي من أعظم أسباب سوء الخاتمة، لكن الله جلّ وعلا أكرم وأرحم أن يكون أحد صادقاً معه ثم إن الله جل وعلا يخذله ويُميته ميتة السوء، فمن صدقت سريرته حسنت خاتمته، ومن صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، من صدق إلى الله في فراره، وكان صادقاً في أوبته إلى الله، صدق مع الله قراره، يبقى مع ربه جلّ وعلا في إيمانه. فلما تنصر زوج أم حبيبة ثم مات أكرمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلبها وخطبها وتزوجها عليه الصلاة والسلام، وسيقت له من الحبشة.

أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها

أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع بالمدينة، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاة، وقيل: إن ميمونة آخرهن]. أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها لما مات زوجها استرجعت، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وعوضني خيراً منها، فكانت تقول في نفسها: من يخلفني في أبي سلمة؟ فلما مات خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بثلاث حجج: اعتذرت بأنها مُصبِية أي لديها صبيان كثيرون، وأنها شديدة الغيرة، وأنها ليس لها عائل أي وال يزوجها؛ فأما التزويج فاختلف فيمن زوجها، وقيل: إنه عمر بن الخطاب، وأما كونها مُصبية فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يكفيها ذاك، وأما أنها غيرة فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أسأل الله أن يذهب غيرتك)، فتزوجها عليه الصلاة والسلام, وابنها هو عمرو بن سلمة الذي طاشت يده في الصفحة وقال له عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) وعمرو هذا هو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَد بن عدنان، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها، فزوجها الله إياه من السماء، ولم يعقد عليها، وصح أنها كانت تقول لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات، توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع]. هذه زينب بنت جحش التي قالت مُفتخرة: زوجكن أهاليكن وزوجني الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات، والنبي عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة تبنّى زيد بن حارثة، فكان يُسمّى عند الناس زيد بن محمد فلما قال الله جلّ وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، وقال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] أصبح يُدعى زيد بن حارثة باسمه الحقيقي، وزيد هذا تزوج زينب بنت جحش ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تزوجها كانت ترى في نفسها أنها أعلى منه؛ لأنه مولى وهي قرشية، فأخبر الله نبيه أن زينب هذه التي هي الآن تحت زيد ستصبح زوجة لك. فجاء زيد يشتكي زوجته زينب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: (اتق الله وأمسك عليك زوجك)، فقال الله جلّ وعلا في كتابه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:36 - 37] فالقائل هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أنعم الله عليه وأنعم عليه الرسول هو زيد، قال الله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} [الأحزاب:37] الذي أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم هو أنها ستكون زوجته {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] الذي سيظهره الله وسيقع وسيكون هو زواجه من زينب {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب:37] تخشى الناس أن يقولوا: تزوج محمد ابنة ابنه على ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية. قال الله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} [الأحزاب:37] ليس في القرآن ذكرٌ لأحد من الصحابة إلا زيد، وليس للقضية فضل في ذاته، وإنما القضية قضية حادثة عين، فلابد أن يُذكر باسمه حتى ينجلي ما في القلوب، وإلا فـ أبو بكر وعمر وغيرهما أفضل من زيد ولم يُذكر اسمهم صراحة في القرآن، لم يُذكر في القرآن إلا النبيون وثلاثة أو أربعة اختلف فيهم كـ لقمان وعزير، والنساء لم يُذكر منهن في القرآن إلا مريم ابنة عمران لشرفها وفضلها.

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وكانت تسمى أم المساكين؛ لكثرة إطعامها المساكين، وكانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: عبد الطفيل بن الحارث، والأول أصح. وتزوجها سنة ثلاث من الهجرة، ولم تلبث عنده إلا يسيرًا شهرين أو ثلاثة]. لم تلبث عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرين، وورد في بعض الروايات أنها لبثت عنده ثمانية أشهر، وبسبب كونهالم تلبث مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذه المدة اليسيرة فإن المصادر التاريخية شحيحة بالكثير من أخبارها، لكن أنت كطالب علم تضمها مع خديجة؛ لأنها هي وخديجة فقط اللتان ماتتا في حياته صلى الله عليه وسلم، أما باقي أمهات المؤمنين فكلهن متن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن المصطلق الخزاعية، سُبِيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في سنة ست من الهجرة، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين]. هذه جويرية بنت الحارث، خزاعية سُبيت في بني المصطلق، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان أبوها زعيماً- تريد أن تدفع ثمناً لتخرج من الأسر، جمعت مالاً يسيراً وبقي عليها، فدخلت عليه عليه الصلاة والسلام تطلب منه زيادة مال، فلما رآها قدر الله جلّ وعلا أن يطلبها على أنه يساعدها فيتزوجها، فوافقت رضي الله عنها وأرضاها، فتزوجها، فلما علم الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها تركوا من بأيديهم من الأسرى من بني المصطلق، فكانت امرأة عظيمة البركة على قومها، ثم جاء أبوها الحارث إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلبها فخيرها النبي عليه الصلاة والسلام بين البقاء معه أو أن تذهب مع أبيها فاختارت البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم الحارث بعد ذلك، وجعله النبي عليه الصلاة والسلام على صدقات قومه.

[تابع ذكر أزواجه، خدمه، أفراسه صلى الله عليه وسلم]

سلسلة السيرة النبوية [تابع ذكر أزواجه، خدمه، أفراسه صلى الله عليه وسلم] اهتم أهل العلم بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، فذكروا أزواجه، والحكمة من إكثاره من الزواج، وذكروا خدمه ومواليه، بل حتى ذكروا أفراسه صلى الله عليه وسلم، وما تركوا شاذة ولا فاذة من حياة خير البشر إلا نقلوها، والعلم بذلك يزيد الإنسان إيماناً بالنبي عليه الصلاة والسلام.

أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها

أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو الدرس الخامس من تعليقنا على الدرة المضيئة في السيرة النبوية للإمام المقدسي رحمه الله تعالى، وكنا قد انتهينا بالأمس في ذكر أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، وتكلمنا عن أكثرهن، ولم يبق لنا إلا الحديث عن زوجتين من أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، وكما جرت العادة -استدراكاً لما كان بالأمس- نراجع بعضاً مما ذكرناه، فمما ذكرناه بالأمس أن الله أبطل عادة منع الزواج بالتبني بزواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وقلنا: إن زيداً رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان زوجاً لها، وأنها كانت تفخر عليه بأنها من قريش، ثم إنه جاء إلى النبي عليه الصلاة السلام يشتكي إليه زينب؛ فأنزل الله جل وعلا قوله في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:36 - 37]، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، والذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم وسيبديه الله هو زواجه من زينب، أي: أن الله أوحى إلى نبيه أن زينب ستكون زوجة له. {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] الذي خشيه صلى الله عليه وسلم من الناس أن يقول الناس: تزوج محمد صلى الله عليه وسلم زوجة ابنه بالتبني. كما ذكرنا أن من أزوجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، وأنها كانت قبله تحت تحت عبيد الله بن جحش، وقلنا أنه فر بها من مكة إلى الحبشة فراراً بدينه، لكن وقع أنه تنصر، فعلى الإنسان أن يحرص على الأعمال التي تجعل الإنسان يظفر بحسن الخاتمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب بن أبي يحيى بن كعب بن الخزرج النضرية، من ولد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران عليهما السلام، سبيت في خبير سنة سبع من الهجرة، وكانت قبله تحت كنانة ابن أبي الحقيق، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، وتوفيت سنة ثلاثين وقيل: سنة خمسين]. صفية بنت حيي بن أخطب زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين، وحيي بن أخطب أحد زعماء يهود، فلما قدم النبي عليه الصلاة السلام المدينة رآه حيي فعرفه عرف أنه نبي، واليهود كانت تعرف صفات الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأت عنه في التوراة، وقد حدثت صفية بعد ذلك أن أباها وعمها التقيا بعد أن رأيا النبي عليه الصلاة السلام، فقال عمها لأبيها: أهو هو؟ قال: نعم، أعرفه بنعته، قال: فما في صدرك له؟ قال: عداوته ما بقيت! وهذا مصداق قول الله جل وعلا: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146]، أي النبي صلى الله عليه وسلم: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، أي أن أهل الكتاب يعرفون النبي عليه الصلاة السلام ولا يخطئون في وصفه كما يعرف الرجل منهم ابنه، والرجل عادة لا يخطأ في معرفة ابنه. وحيي ذهب إلى خيبر في الجلاء الأول، وهو من بني النضير، ثم وقعت معركة خيبر وكانت تحت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق فقتل، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد أن أصبحت أمة له -جارية- فأعتقها وجعل عتقها صداقاً لها. واختلف العلماء رحمهم الله هل يكون العتق صداقاً أو لا؟ فمنهم من قال: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال غير ذلك، والذي يعنينا في شرح السيرة هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها، سواء كان هذا خاصاً به، أو كان شاملاً لأمته. وقد كانت جميلة رضي الله عنها وأرضاها، وهي من ولد هارون بن عمران أخي موسى على موسى وعلى هارون السلام، وقد أغضبتها بعض أمهات المؤمنين، فجاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تبكي، فقال لها عليه الصلاة السلام: (بما تفخر عليك؟! فإنك ابنة نبي، وعمك نبي -يقصد موسى- وإنك لتحت نبي) يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم. ولما تزوجها عليه الصلاة السلام في انصرافه من خيبر أراد أن يدخل بها على مقربة من خيبر فامتنعت وأبت، ثم لما تقدم قليلاً نحو المدينة قبلت ودخل بها صلى الله عليه وسلم، فسألها عن سبب امتناعها أولاً: فقالت: خشيت عليك من اليهود، وهذا يدل على أنه وقر في قلبها محبة الدين ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خشي أبو أيوب الأنصاري على نبينا عليه الصلاة السلام يوم أن دخل عليها، فبات يحرسه، خوفاً أن يكون بها شيء من غدر يهود، فهو لا يعرفها، ثم تبين مدى حبها لنبينا صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامها، فبقيت كذلك حتى توفاها الله جل وعلا، فهي زوجة نبينا في الدنيا والآخرة رضي الله عنها وأرضاها.

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزم بن بجيل بن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصة بن معاوية، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرف وبنا بها فيه، وماتت به، وهو ماء على تسعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، توفيت سنة ثلاث وستين. فهذه جملة من دخل بهن من النساء، وهن إحدى عشر، وعقد على سبع ولم يدخل بهن]. هذه ميمونة بنت الحارث الهلالية أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، فـ العباس رضي الله عنه وأرضاه عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منها الصلاة والصيام والقيام، فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، وهي أخت زوجته أم الفضل، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من عمرة القضاء، في واد يقال له سرف على وزن ثقف، وهو واد في طريق المدينة اليوم الخارج من مكة إلى المدينة، بعد النوارية بقليل، وهو الآن معمور، فيه بقالات ومحطات، على يمينك وشمالك، هذا الوادي هو وادي سرف الذي تزوج فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. وكان من فائدة زواجه بها بالنسبة لأمته أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يبيت عندها، فهي خالته، فيرى قيام النبي صلى الله عليه وسلم، فنقل عبد الله بن عباس كثيراً من أخبار النبي عليه الصلاة السلام؛ لأنه كان يستطيع أن يدخل على خالته ميمونة بنت الحارث رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد ذكر المصنف أنها آخر أمهات المؤمنين موتاً، وهذا على قول، والقول الثاني أن آخر أمهات المؤمنين موتاً هي أم سلمة. إذاً هناك خلاف في آخر أمهات المؤمنين موتاً هل هي ميمونة أو أم سلمة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن؟ وهذا علم تاريخي، لا يتعلق به حكم. وقد اتفقوا على أن زينب بنت جحش هي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم موتاً بعده، ماتت بعد عشرين سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم، فهي أول نسائه لحوقاً به عليه الصلاة السلام. وقد ذكر المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على سبع ولم يدخل بهن، وهذا بعيد بعض الشيء، والأشهر أنه عقد على خمس أو أربع، ولم يدخل بهن، منهن من استعاذت به، ومنهن من وجد في كشحها بياض، وأخريات لم تثبتهن كتب المصادر إثباتاً جيداً، لكن الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع من النساء، وكان يقسم لثمان؛ لأن سودة وهبت ليلتها لـ عائشة رضي الله عنهن جميعاً وأرضاهن.

الحكمة من تزوج النبي بكثير من النساء

الحكمة من تزوج النبي بكثير من النساء في عصرنا الحديث ما أشرأب المستشرقون والطاعنون في السنة في شيء كما اشرأبوا في قضية كيف يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام هذا العدد من النساء؟ وهذا مما يطول شرحه ولكن نقول على وجه الإجمال: لو كان النبي عليه الصلاة السلام يريد ما يفهمه الناس من الزواج من النساء إلى الأبكار أقرب منه إلى الثيبات ومع ذلك لم يتزوج بكراً إلا عائشة، ولم يتزوج الثانية إلا وقد جاوز الخمسين صلوات الله وسلامه عليه، وعاش قرابة ثلاثين عاماً مع زوجته خديجة وهي أكبر منه سناً، ولم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه، وإنما تزوج لأمور متعددة وأغراض منها ما يكون إبطالاً لحكم جاهلي كزواجه من زينب، ومنها ما يكون نصرة للدين، فإن العرب في عادتها وأعرافها السابقة كانت ترى أن الصهر يقرب بين بطون القبائل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة كان له خصوم وأعداء في القبائل، فكان يتزوج منهم حتى يكسر ثورة غضب واجتماع القبائل عليه، حتى يكون له عندهم رحم وصهر، ويكون هناك نوع من الحمية بالنسبة لهم، حيث إن بناتهم تحت نبينا صلوات الله وسلامه عليه. إن هؤلاء الأمهات رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن صبرن على شظف العيش، فليس في الزواج منه صلى الله عليه وسلم متاع دنيوي ظاهر، وإنما المكسب العظيم لهن أنهن زوجاته في الآخرة، ولذلك كان بيت النبي عليه الصلاة السلام لو رفعت يدك للمست سقفه، ولو اتكأت على أحد حيطانه ومددت قدميك للمست الحائط الآخر، وذلك من ضيق حجرات أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]. فالنبي عليه الصلاة السلام خير نساءه ما بين البقاء معه والصبر على شظف العيش في الدنيا؛ لأن الله خيره هو نفسه، بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً، فاختار العبودية، ولم يختر الملك كما اختاره داود وسليمان عليهما السلام، وبقي صلى الله عليه وسلم عبداً يشبع ويجوع ويمرض ويصح، وتجري عليه أيام شديدة عليه الصلاة والسلام، حتى إنه كان يظهر الهلال ثلاث مرات في الشهرين الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وهو أكرم الخلق على الله، فلما سئلت عائشة عن طعامهم قالت: (الأسودان التمر والماء). فلم يكن مما قاله المستشرقون شيء، وإنما صبرن أولئك الأمهات، وقدمن نماذج إنسانية فريدة، فمنهن من اشتهرت بالصلاة والصيام، ومنهن من اشتهرت بحب المساكين، ومنهن من اشتهرت بالعلم، تنوعت تنوع عطاؤهن حتى يستفيد المجتمع من قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنزل الوحي، ولذلك قال حسان يذكر حجرات أمهات المؤمنين، ونزول الوحي عليها: بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقدُ فخرجن أمهات المؤمنين يحدثن بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن.

ذكر خدمه صلى الله عليه وسلم

ذكر خدمه صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر خدمه صلى الله عليه وسلم. أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، وهند وأسماء ابنا حارثة الأسلميان، وربيعة بن كعب الأسلمي، وكان عبد الله بن مسعود صاحب نعليه، كان إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم، وكان عقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقودها في الأسفار، وبلال بن رباح المؤذن، وسعد مولى أبي بكر الصديق، وذو مخمر بن أخي النجاشي ويقال: ابن اخته، ويقال: ذو مخبر بالباء، وبكير بن شداخ الليثي، ويقال: بكراً وأبو ذر الغفاري]. هؤلاء خدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنه قد أصابهم من الشرف مالا يعلم قدره إلا الله، فإن الله سخرهم رضي الله عنهم بأنهم ليكونوا خدماً لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أي شرف يكتسبوه، فلذلك كانوا يفتخرون رضي الله عنهم بأنهم كانوا يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم، فخدمته عليه الصلاة السلام شرف عظيم، وتتفاوت المهام التي أوكلها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والعاقل إذا تبوء مكانة يختلف اصطفاؤه للرجال من واحد إلى آخر، فليس كل الناس يصلح لمهمة واحد، فقد يحسن الرجل مهمة ولا يحسن أخرى، ولذلك تفاوتت مهام خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أنس فهو الذي جاءت به أمه وهو صغير، ووهبته للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون خادماً له، وقد دعا له النبي عليه الصلاة السلام بكثرة المال والولد، فتحققت دعوته عليه الصلاة السلام في أنس. ولما جاءت خلافة عبد الملك بن مروان، وسلط الحجاج بن يوسف على مكة والمدينة، آذى الحجاج بن يوسف أنساً، فكتب أنس رضي الله عنه إلى عبد الملك وكان يومئذ أميراً للمؤمنين، يشكو تسلط الحجاج بن يوسف عليه، وكان فيما كتبه أنس أن قال: لو أن رجلاً من بني إسرائيل خدم موسى يوماً لعظمته بني إسرائيل، فكيف وقد خدمت نبينا صلى الله عليه وسلم عشر سنين؟! فبعث عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يكف يده عن أنس. وقد كان من مهام أنس أن يذهب في الحوائج اليومية، يغدو ويروح في الحوائج اليسيرة، وقد نقل لنا أنس ما كان عليه الصلاة والسلام من خلق عظيم، فقال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فلم يقل لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ ولا لشيء فعلته لم فعلته) وهذا من جميل خلقه وكريم أدبه وحسن معاملته صلى الله عليه وسلم لمن حوله، من الأهل والخدم والموالي وسائر الناس. وممن خدمه عليه الصلاة والسلام عقبة بن عامر، كان يقود له البغلة، وهو الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره لما هبت ريح أن يتعوذ بالمعوذتين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وقال: (ما تعوذ متعوذ بمثلهما). ومنهم بلال وهو مؤذنه وهو مشهور. ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي، وكان من مهامه أن يضع الوضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل هذا تطوعاً، فأحب النبي عليه الصلاة السلام أن يكافئه فقال: (يا ربيعة سلني! حاجتك، قال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة)، فقد وجد ربيعة من الشرف والحظوة عند رسول الله والفخر بخدمته له في الدنيا ما جعله يتطلع لأن يكون رفيقه في الجنة: (فقال له صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فدله على أن كثرة الصلوات تجعل العبد قريباً من جوار نبينا عليه الصلاة السلام. ومن خدمه عليه الصلاة والسلام بكير بن شداخ الليثي وكان صغيراً، وقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عنه قصة مفادها أن بكيراً هذا كان يبعثه النبي عليه الصلاة السلام إلى بيوت أمهات المؤمنين، فلما بلغ واحتلم جاء إلى النبي عليه الصلاة السلام وقال: يا رسول الله! إنني بلغت مبلغ الرجال، فلا تبعث بي إلى نسائك، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من صدقة وقال له: (اللهم صدق قوله وبلغه الظفر)، فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم متحققة فيه، فلما كانت ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرج المجاهدون في أصقاع الأرض يحملون لواء الدين، كان ممن خرج أحد الأنصار وترك زوجته، وأوصى بكيراً بأهل بيته، فكان هناك يهودي يأتي إلى تلك المرأة ويراودها عن نفسها، فقام بكير فقتله، فوجد هذا اليهودي في أحد أحياء المدينة، مضرجاً في دمائه، فقام عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين على المنبر، فخطب خطبة ثم قال: أنشد الله كل رجل يعرف عن هذا القتيل شيئاً إلا أخبرني، فقام بكير والناس يسمعون وقال: أنا قتله يا أمير المؤمنين، فتعجب عمر من صراحته وجرأته، قال: ما دفعك إلى هذا؟ فأخبره القصة، فتذكر عمر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتركه، ولم يصنع به شيئاً إكراماً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل دم اليهودي في هذه الحالة مهدراً. والذي يعنينا أن بكيراً هذا خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فهؤلاء جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم شرفوا بخدمة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم

ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم. زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وابنه أسامة بن زيد، وكان يقال لـ أسامة بن زيد: الحب بن الحب. وثوبان بن بجدد؛ وكان له نسب في اليمن. وأبو كبشة من مولدي مكة، يقال: اسمه سليم، شهد بدرًا، ويقال: كان من مولدي أرض دوس. وأنسة من مولدي السراة. وصالح، شقران، ورباح أسود، ويسار نوبي. وأبو رافع واسمه أسلم، وقيل: إبراهيم، وكان عبدًا للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه. وأبو مويهبة من مولدي مزينة، وفضالة نزل بالشام. ورافع كان لـ سعيد بن العاص فورثه ولده، فأعتقه بعضهم، وتمسك بعضهم، فجاء رافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه، فوهب له، وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومدعم أسود، وهبه له رفاعة بن زيد الجذامي، وكان من مولدي حسما، قتل بوادي القرى. وكركرة كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم. وزيد جد هلال بن يسار بن زيد وعبيد، وطهمان أو كيسان أو مهران أو ذكوان أو مروان. ومأبور القبطي أهداه المقوقس. وواقد، وأبو واقد، وهشام، وأبو ضميرة، وحنين، وأبو عسيب واسمه أحمر، وأبو عبيد. وسفينة كان عبدًا لـ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته، وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم حياته، فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. هؤلاء المشهورون، وقيل: إنهم أربعون. ومن الإماء: سلمى أم رافع، وبركة أم أيمن، ورثها من أبيه، وهي أم أسامة بن زيد وميمونة بنت سعد، وخضرة، ورضوى]. ذكر المصنف هنا موالي النبي صلى الله عليه وسلم، والمولى في اللغة يطلق على أربعة: تطلق على السيد، فتقول للغلام: أين مولاك؟ وتطلق على العبد بالعكس، تطلق على العبد إذا أعتق، وولاؤه لسيده، فيقال له: مولى، وبهذا المعنى ذكره المصنف، يقال: مولى بني فلان، أي أن ولاءه لهم، كان عبداً عندهم ثم أعتق، هذه اثنتان، والثانية هي التي أرادها المصنف عندما قال: موالى النبي صلى الله عليه وسلم. وتطلق على النصير والظهير، ودليلها من القرآن: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. أي أن الله نصير وظهير للمؤمنين، والكافرون ليس لهم ظهير ولا نصير. هذه ثلاث. وتطلق على الرب جل جلاله، ودليلها من القرآن: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] فمولاهم هنا بمعنى ربهم، وليس المعنى نصيرهم؛ لأن الله ليس نصيراً ولا ظهيراً للكفار، ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)) أي إلى ربهم جل وعلا. هذه فائدة لغوية، أما المقصود به هنا فهو من كان عبداً ثم أعتق. وقد بدأ المصنف بـ زيد بن حارثة وابنه أسامة، وهما حبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أسامة حباً جماً، وأسامة هو الذي طلبت منه قريش أن يتشفع عند النبي عليه الصلاة السلام، فقال له: (أتشفع يا أسامة في حد من حدود الله؟!)؛ وذلك لعلم المخزوميين من قريش بمكانة أسامة عند النبي عليه الصلاة السلام. وقد كان زيد أبوه أبيض، وكان أسامة أسمر اللون، فكان هذا يثير التساؤلات عند الناس، وكان هذا يحدث أسىً في قلبه صلى الله عليه وسلم، بسبب التساؤلات التي يثيرها الناس من كون أسامة يختلف لونه عن لون أبيه، وذات يوم ناما بجوار بعضهما، وظهرت أقدامهما دون أن تظهر وجوههما، فجاء رجل من بني مدلج، له علم بالقيافة والأنساب والأثر، فلما نظر إلى قدمي أسامة وقدمي زيد وهو لا يعرف أن هذا أسامة وهذا زيد ابنه، وإنما نظر إلى الأقدام وبعضها سمراء وبعضها بيضاء قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فتهلل وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وظهر الفرح عليه، ودخل على عائشة تبرق أسارير وجهه، وقال لها: (أما علمت أن فلاناً المدلجي نظر آنفاً إلى أسامة وزيد ثم قال كذا وكذا؟)، فالإنسان إذا أحب شيئاً أحب ما يتعلق به، وأحب ما يفرحه، وإذا أبغض شيئاً أبغض ما يتعلق به. فكان صلى الله عليه وسلم محباً لـ زيد ومحباً لـ أسامة، فكان يحب أي شيء يدخل الفرح أو يظهر الكرامة أو الفضل لـ أسامة وزيد رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما، فهما موالي النبي عليه الصلاة السلام، فإن زيداً كان عبداً للنبي عليه الصلاة السلام، أهدته إياه زوجته خديجة ثم أعتقه صلوات الله وسلامه عليه. وممن ذكر المصنف رحمة الله تعالى عليها من الموالي سفينة، واسمه على الأشهر مهران، وأما سفينة فلقب أطلقه النبي عليه الصلاة السلام عليه كما رواه الإمام أحمد بسند حسن، كان يحمل المتاع، فألقى الصحابة رضي الله تعالى عنهم متاعهم في ردائه، فكأن الرداء حمل أكثر من المعهود، فقال النبي عليه الصلاة السلام: (بل أنت سفينة) كناية على أنه يحمل شيئاً غزيراً فقال سفينة: فلو أنني حمل بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة، لحملتها، من قول النبي صلى الله عليه وسلم! وسفينة هذا أدرك زمن عثمان وركب البحر، وكان متكئاً على لوح قارب في البحر، فضربتهم الأمواج فرماه البحر إلى أجمة يعني غابة، وأضل الطريق فرأى الأسد، والعرب تسمي الأسد أبا الحارث، فلما رآه سفينة أخذ ينظر إلى الأسد ويقول: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ الأسد رأسه وأقبل على سفينة وحمله على عاتقه وخرج به من الغابة حتى دله على الطريق، ثم رجع قليلاً ثم أقع على ذنبه، ثم أخذ يهمهم كأنه يودعه! قال العلماء: هذا وحش كاسر، وسبع مفترس، لما علم أن الذي بين يديه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تغير طبعه، وتغير حاله، فالمؤمنون أولى أن يكونوا أرق قلوباً وعاطفة مع بعضهم البعض في المقام الأول؛ لأنه يجمعني ويجمعك محبة شهادة التوحيد، ومحبتنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وموالي النبي صلى الله عليه وسلم كثر، وقد ذكر المصنف بعضاً منهم، وهؤلاء أشهر موالي النبي عليه الصلاة السلام. وذكر من النساء أم أيمن واسمها بركة، وهي إحدى حواضن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها، وهي زوجة زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

ذكر أفراس رسول الله عليه الصلاة والسلام

ذكر أفراس رسول الله عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم. أول فرس ملكه: السكب، اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه السكب، وكان أغر محجلًا طلق اليمين، وهو أول فرس غزا عليه. وكان له سبحة، وهو الذي سابق عليه، فسبق، ففرح به. والمرتجز: وهو الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له خزيمة بن ثابت، والأعرابي من بني مرة. وقال سهل بن سعد الساعدي: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ثلاثة أفراس: لزاز، والظرب، واللحيف. فأما لزاز: فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف: فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظرب: فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي. وكان له فرس يقال له: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر، فحمل عليه، فوجده يباع. وكانت بغلته الدلدل يركبها في الأسفار، وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أسنانها، وكان يجش لها الشعير، وماتت بينبع، وحماره عفير مات في حجة الوداع. وكان له عشرون لقحة بالغابة، يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان فيها لقاح غزار: الحناء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والريا. وكانت له لقحة تدعى بردة، أهداها له الضحاك بن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان. وكانت له مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل. والشقراء، وكانت له العضباء، ابتاعها أبو بكر من نعم بني الحريش، وأخرى بثمانمائة درهم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة درهم، وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم المدينة رباعية، وهي القصواء والجدعاء، وقد سُبقت، فشق على المسلمين. وكان له منائح سبع من الغنم: عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف. وكان له مائة من الغنم]. هذه الأخبار جملة بعضها قد لا يكاد يثبت، لكن الذي يعنينا حرص سلف الأمة رضي الله عنهم ورحمهم الله على كل ما يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم دونوا ما كان يركبه صلى الله عليه وسلم، وما كان يملكه من الدواب، وهذا أمر محمود لهم، وقد كان السلف يعتنون بكل ما يتعلق به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل، أن من أحب شيئاً أحب ما يتعلق به. أما ما ذكره المصنف فلا يلزم طالب العلم حفظ هذا كله، لكن المقصود أن تربط الأحاديث الفقهية أو غير الفقهية بما سمعت الآن في السيرة. فمثلاً حديث خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اشترى فرساً من رجل من بني مرة)، ولم يكن هناك شاهد، فطلب الأعرابي شاهداً يشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه هذا الفرس؛ لأن النبي عليه الصلاة السلام اتفق معه على سعر، ثم إن الأعرابي طمع في الزيادة فقال: أنا ما بعتك بهذا السعر، أريد سعراً أرفع، فقال النبي عليه الصلاة السلام: (إنك بعتني إياه) فلم يجد شاهداً، فجاء خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: أنا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه منك بكذا وكذا، فلما شهد قال عليه الصلاة السلام: (كيف تشهد ولم تحضر؟! فقال: يا رسول الله! إنني أصدقك بخبر السماء، أفلا أصدقك أنك اشتريت فرساً من أعرابي بكذا وكذا؟!) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. وهذا يسمى -إن صح التعبير- بعلم الاجتماع، وهو أن الإنسان يرزقه الله موهبة في انتهاز الفرص الحسنة، وذكرنا أمثلة على هذا من السيرة، فـ أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، عندما دخل النبي عليه الصلاة السلام المدينة، كان فيها حيان عظيمان الأوس والخزرج، فكان راكباً على الناقة، فيقول له الخزرج: هلم إلى هاهنا يا رسول الله، فيقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فيقول الأوس مثل ذلك، فيقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وتركها النبي صلى الله عليه وسلم حتى بركت، ولم ينزل ثم قامت وجالت جولة ثم رجعت وبركت في موطنها الأول. ولم ينزل عليه الصلاة والسلام حتى لا يقولن قائل من الخزرج: لو نزل عند الأوس: مالأ علينا من أول يوم، ولو نزل عند الخزرج لقالت الأوس: مثل ذلك، وبقي على الناقة، فجاء أبو أيوب الأنصاري فعمد إلى متاع النبي عليه الصلاة السلام وأدخله بيته، فلما أدخله بيته حسم الأمر، فلما جاء الناس والمجاورون للأرض التي أصبحت بعد ذلك مسجداً يقولون: يا رسول الله! هاهنا، قال عليه الصلاة السلام: (المرء مع رحله) فظفر أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه بسكنى النبي عليه الصلاة السلام عنده دون غيره من الأنصار، وذلك بتفكيره وانتهازه للفرصة الحسنة هذه. كذلك خزيمة بن ثابت كل الصحابة يصدقون النبي عليه الصلاة السلام بخبر السماء، لكن خزيمة استغل الأمر أكثر من غيره، وقال: أنا أشهد لك. فلما قال هذا فالنبي عليه الصلاة السلام لم يرد شهادته، فظفر بأن شهادته صارت بشهادة رجلين رضي الله عنه وأرضاه. وانتهاز الفرص من المناقب المحمودة في الرجال: إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكونا وإن درت نياقك فاحتلبها فلا تدري الفصيل لمن يكون وهذه أسباب يضعها الله تبارك وتعالى في الناس، هذا يصيب بها وهذا يخطئ، وسنن الله في الخلق أنه إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه. ذكر المؤلف عند العضباء، وهي القصواء، وهي الناقة الرئيسة التي كانت تحمل النبي عليه الصلاة السلام، والتي حملته في الهجرة، وحملته في الحج. وهذه الناقة كانت لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي بقعود، فسابق هذه الناقة وسبقها، فلما سبقها شق ذلك على الصحابة، ولماذا شق ذلك على الصحابة؟ من أحب شيئاً أحب ما يتعلق به. الصحابة لا يعنيهم أن قعوداً يسبق ناقة، لكن شق عليهم وتغير حالهم لأن هذه الناقة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا جاء التأديب النبوي للأمة، وهذا من أعظم وسائل تربية الناس على التوحيد، أن يربوا عملياً، فإن متون التوحيد على جلالة قدرها أمرهاً عظيم، بلا خلاف، لكنه لا يدرس التوحيد بشيء أكثر من تدريسه عملياً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة التوحيد، فلما سبقت الناقة وتغيرت وجوه الصحابة، قال صلى الله عليه وسلم للصحابة (إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه). هذا هو التوحيد، فالشمس والقمر فتنة لناس، ولذلك كتب الله على الشمس والقمر الكسوف والخسوف، حتى يعلم أنها مهما بلغتا قابلتان للنقصان، وليس هناك وجه أشد نوراً من وجهه عليه الصلاة السلام، ومع ذلك يشج، وتكسر رباعيته، وينزل الدم منه؛ لأنه مهما بلغ فهو وجه مخلوق، كل من حولك من العظماء يريك الله جل وعلا فيهم آية تدل على أنهم بشر، وتجري عليهم أحكام البشر. انظر إلى جمع من الممثلين والممثلات، ممن يوسمون بالجمال، غالبهم يموت بمرض يشوه جماله، وقد كان بعضهم فتنة في زمانه لكثير من النساء، فلما قربت وفاته أصابته أمراض حتى تغير وجهه، حتى إن أهله كانوا يخفون وجهه عن الناس، ولما مات جعلوا جنازته مستورة، حتى لا يرى الناس وجهه، بعد أن كان فتنة في شبابه. فسنة الله في خلقه أن كل شيء مهما عظم يعتريه النقص، قال الله جل وعلا: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. وقال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فكل عظيم مهما ارتقى ينزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما ساد الجزيرة ودخل مكة فاتحاً، وخطب الناس في خطبة الوداع، وبلغ الأمر منتهاه؛ مرض وأصابته الحمى، وأصبح وهو سيد الخلق الذي جاهد في أرجاء الجزيرة كلها يعجز أن يصل إلى المسجد. وهو عليه الصلاة والسلام أفصح من نطق الضاد، أفصح الفصحاء وسيد البلغاء، فأصبح يعجز أن يتكلم، ودعا لـ أسامة بصوت ضعيف، بل يرى السواك ولا يستطيع أن يقول: أعطوني السواك. فسبحان ربنا الذي لا شيء مثله، ولا نظير له، ولا ند له، والذي يرينا عظمته وجلاله وكماله وقدرته، وأنه تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يرينا هذه الآية في كل غدوة وروحة، لكن المتعظين بتلك الآيات قليل، جعلني الله وإياكم من أولئك القليل.

الزهد في الدنيا الفانية

الزهد في الدنيا الفانية مما يتعلق بذكر أفراسه ودوابه عليه الصلاة السلام أنه عليه الصلاة والسلام بشر من الناس، يعيش كما يعيش الناس، يركب كما يركبون، ويمشي كما يمشون، ويفرح كما يفرحون. فلما سبق فرسه فرح، ولما رأى فرساً أعجبه اشتراه، وقل ما نقل عنه البيع، أما الشراء فهو كثير، فكان يشتري ما يعجبه. وكان يأخذ ويعطي، ويفاوض ويساوم، وكان سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى. فهذا كله يدل على أنه بشر، وقد كان القرشيون يتعجبون ويقولون: كيف يكون هذا نبياً؟ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، فأخبره الله جل وعلا، في آيات عديدة أن الدنيا ليست مكافئة لأحد، ولو كانت مكافئة في ذاتها لمنعها الله جل وعلا أهل الكفر، وقد عاش نبيه صلى الله عليه وسلم بشراً كما يعيش الناس، ونعم بعض أهل الكفر، وبعضهم لم ينعم، تجري على الجميع أحكام الله جل وعلا القدرية، ولا علاقة لها بالإيمان، ولا بغيره. لكن الآخرة هي دار الجزاء، فالله يقول في الزخرف: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. فجعل الله جل وعلا الآخرة هي دار الجزاء، ولما كان يحمل اللبِن ويحمل أصحابه اللبِن، كان عمار يحمل لبنتين لبنتين، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل لبنتين لبنتين، فقال: (ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية، ثم قال: اهتدوا بهدي عمار)، ولما أراد أن يبث فيهم العلاقة الأخروية قال عليه الصلاة السلام يدعو: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة). فالمؤمن وطالب العلم في المقام الأول لا يجعل من العلم حظاً لكسب دنيوي، وإنما يجعل العلم الذي علم به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وفقهه وما إلى ذلك طريقاً إلى الآخرة، وكل ما كان للإنسان حظ من الدنيا بعلمه، قل حظه في الآخرة، وقل قبول علمه عند الناس في الغالب. العلامة الألباني رحمه الله تعالى وغفر له لما بشر بأنه فاز بجائزة الملك فيصل العالمية، حاول الصحفيون أن يجعلوا من فوزه بها مادة ثرية في الصحافة، فاتصل به أحد الصحفيين يهنئه ويسأله عن مشاعره، فقال الشيخ رحمه الله: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]، ثم أقفل الهاتف، وأنهى المكالمة، فالعالم الرباني بحق هو من ينشد ما عند الله، وأجر الآخرة، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه العلماء وطلبة العلم في المقام الأول. فبادره وخذ بالجد فيه فإن آتاكه الله انتفعتا فإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رؤستا فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا وإنما العلم العمل، فالله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28].

[فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم]

سلسلة السيرة النبوية [فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم] للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة، وهي تدل على معان عظيمة وصفات شريفة ومناقب حميدة، فمن أسمائه أحمد والماحي الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر والعاقب الذي ليس بعده نبي ووصف بأنه نبي التوبة ونبي الرحمة، وسماه الله في كتابه بشيراً ونذيراً ورءوفاً ورحيماً ورحمة للعالمين.

أسماؤه صلى الله عليه وسلم

أسماؤه صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي حشر الناس، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي) صحيح متفق عليه]. هذا فصل في ذكر أسمائه صلوات الله وسلامه عليه. وتحرير المسألة أن يقال: إن من أسمائه صلى الله عليه وسلم ما يشاركه فيه الناس مثل محمد وأحمد، فالناس يسمون بمحمد وأحمد، ولهذا لم يقل صلى الله عليه وسلم في تفسيرهما شيئاً، قال: أنا محمد ولم يبين، وقال: أنا أحمد ولم يفصل؛ لأنهما من الأسماء المشتركة التي يجوز أن يتسمى بها كل أحد، لكن عندما قال: (أنا الماحي، أنا العاقب) فصل صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الماحي والعاقب تتعلق بكونه نبياً ورسولاً، ولا تتعلق بكونه رجلاً ينادى بين الناس. ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام ماحياً أي: يمحو الله به الكفر، والعاقب أي: جاء عقب النبيين عليه الصلاة والسلام، هذا يتعلق برسالته، فلهذا بين ما معنى الماحي، وبين ما معنى العاقب، وهو الحاشر الذي يحشر الناس على يديه، بمعنى: أن من أشراط الساعة خروجه صلى الله عليه وسلم، لكنه عندما قال: أنا محمد وأنا أحمد فهذا من أسمائه التي يشترك فيها صلى الله عليه وسلم في أصل التسمية مع الناس. وأحمد هو الاسم المسمى به في الإنجيل، ومحمد هو الاسم المسمى به في التوراة، في التوراة جاء أن اسمه محمد، وفي الإنجيل جاء أن اسمه أحمد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى أبو موسى عبد الله بن قيس قال: (سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال: أنا محمد وأنا أحمد والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة). وفي رواية: (ونبي الملحمة) وهي المقتلة. صحيح رواه مسلم]. أبو موسى هو أبو موسى الأشعري الصحابي الجليل المعروف، أحد الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن. والحديث كما بين المصنف أخرجه الإمام مسلم في الصحيح، وقد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أسماء خاصة به هي محمد وأحمد بالنسبة للنبيين، فلا يوجد نبي من الأنبياء اسمه محمد أو أحمد، لكن نبي التوبة تطلق عليه وعلى غيره من الأنبياء، ونبي الرحمة تطلق عليه وعلى غيره من الأنبياء؛ لأن كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا رحمة وتوبة للناس، لكن الفرق بينه وبينهم أن له منها صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر والنصيب الأكمل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أحمد وأنا محمد وأنا الحاشر، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، فإذا كان يوم القيامة لواء الحمد معي، وكنت إمام المرسلين، وصاحب شفاعتهم). وسماه الله عز وجل في كتابه العزيز: بشيراً ونذيراً ورءوفاً ورحيماً ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم]. الأسماء الأولى التي ذكرها صلى الله عليه وسلم ونقلها المصنف تدل على رفيع مقامه عليه الصلاة والسلام عند ربه، وعلو منزلته. وله عليه الصلاة والسلام خصائص في الدنيا وخصائص في الآخرة، والمقام المحمود خصيصة في الآخرة وهي أعظم خصائصه صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد وأرجو أن أكون أنا هو) صلوات الله وسلامه عليه، ونحن نقول كما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام: (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته). والله جل وعلا قال له في الإسراء: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] فالمقام المحمود له صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ولواء الحمد يومئذ بيدي) كل الناس آدم فمن سواه تحت هذا اللواء الذي يحمله صلوات الله وسلامه عليه. والمقصود: رفيع مقامه وجليل مكانته، ولا نريد أن نفصل فيها أكثر لأنها سيأتي بيانها في فصول قادمة، لكن معلومٌ من الدين بالضرورة مقامه الرفيع صلوات الله وسلامه عليه بين خلق الله أجمعين ورفيع منزلته وعلو درجته عليه الصلاة والسلام عند ربه. ثم قال المصنف: وسماه الله بشيراً ونذيراً ورءوفاً ورحيماً ورحمة للعالمين، هذه صفات له عليه الصلاة والسلام أكثر من كونها أسماء، لأن جميع الرسل كانوا مبشرين وكانوا منذرين، وكانوا رءوفين بأممهم، وكانوا راحمين للعالم أجمع، لكن الفرق بينه وبينهم صلوات الله وسلامه عليه أن له المقام الأعلى وأنه أوفر حظاً وأكمل نصيباً عليه الصلاة والسلام.

نشأته عليه الصلاة والسلام

نشأته عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيماً يكفله جده عبد المطلب، وبعده عمه أبو طالب بن عبد المطلب. وطهره الله عز وجل من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلق جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين لما شاهدوا من أمانته وصدق حديثه وطهارته]. لا ريب أن الله أعد نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر العظيم منذ الأزل، فكان منطقياً أن يتعهده ربه جل وعلا من صغره، والله جل وعلا قال لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فإذا كان في حق موسى فكيف بحق محمد صلى الله عليه وسلم؟! والمصنف هنا ذكر ما أفاءه الله جل وعلا عليه من إيواء جده عبد المطلب أول الأمر، ثم عمه أبي طالب، وكلا الرجلين بذلا جهداً عظيماً في كفالة نبينا صلى الله عليه وسلم. أما عبد المطلب فقد كان يقربه منه، وكان يُفرش له فراش عند الكعبة فيجلس صلى الله عليه وسلم بجوار جده ولا يُعاتبه أحد رغم أن عبد المطلب كان وجيهاً سيداً مُطاعاً مهاباً، لكن كانت الحَظْوَة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صبي عند جده عظيمة. فلما مات كفله عمه أبو طالب، وأبو طالب اسمه عبد مناف - على الأظهر -، وهذا العم مات على غير إسلام، مع أنه كان من أعظم النصراء لنبينا صلى الله عليه وسلم. ومما يذكر عنه من تعهده لنبينا عليه الصلاة والسلام صغيراً وكبيراً أن قريشاً طلبت من أبي طالب أن يستسقي لهم حين أجدبت الديار - كما نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق- فجاء أبو طالب وحمل النبي صلى الله عليه وسلم - وكان صغيراً أبيض - فألصقه بجدار الكعبة، فلما ألصقه بجدار الكعبة أشار صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى السماء وهو صبي، فجاء السحاب من كل مكان فسقوا حتى سال الوادي، فقال أبو طالب في لاميته بعد ذلك: وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهذا من حظوة النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب، فلما كبر بقيت هذه الحَظْوَة كما هي، وكان صلى الله عليه وسلم قد رباه الله وتعهده أنه يفقه ماذا يفعل وماذا يصنع من دون أن يعلم أنه سيكون نبياً، فكان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة من أجل أن يسد العوز والفقر والمسكنة المالية التي أصابت أبا طالب حتى لا يكون عبئاً عليه، فلما حوصرت بنو هاشم في الشعب كان أبو طالب - رغم كفره - أحد الذين حوصروا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الشعب. وبلغ من محبته - رغم الكفر- للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جاء الليل يحمل النبي عليه الصلاة والسلام من مكانه ويضعه في مكاناً آخر، ثم يأتي بأحد أبنائه ويضعه مكان النبي عليه الصلاة والسلام حتى إذا أراد أحد قد بيت النية أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام وهو نائم يغتال ابنه لصلبه ولا يغتال النبي عليه الصلاة والسلام، كان يفعل هذا وهو مشرك! يقول الله في الأنعام: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ينهون عن قتل النبي صلى الله عليه وسلم، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] أي: لا يقبل أن يدخل في الدين، حتى نعلم أن الهداية مردها إلى الرب تبارك وتعالى.

قبول النبي نصرة عمه أبي طالب له رغم كفره

قبول النبي نصرة عمه أبي طالب له رغم كفره يجب على العاقل المسلم أن يستفيد من الأوضاع التاريخية التي يعاصرها، فـ أبو طالب كان كافراً، فاستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من جاه عمه ومن نصرته، ولم يقل: إنه كافر ولا أستعين به ولا ألجأ إليه، فإن الأوضاع تختلف من زمن إلى زمن ومن مرحلة إلى مرحلة، والمقصود هو نصرة الدين، فحيثما كان الطريق يؤدي إلى نصرة الدين فاعمل به ولا تبال؛ لأنه لا يخلو الأمر من مصالح ومفاسد، لكن إذا كان الإنسان يقدم أعظم المصلحتين ويدرأ أعظم المفسدتين فإن المقصود الأعظم نصرة الدين، وقد قبل صلى الله عليه وسلم أن يكون مع عمه وهو كافر يسجد لغير الله في شعب واحد استفادة من جاه عمه ونصرته، وكان عليه الصلاة والسلام يُثني على عمه، وتشفع له عند ربه أن يكون أهون أهل النار عذاباً، هذه الفائدة الأولى، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من نصرة عمه أبي طالب. الفائدة الثانية أن الهداية بيد الله، وأن الإنسان قلبه كقلب غيره بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنت لا تفرح بشيء أعظم من نعمة الهداية، فإن نعمة الهداية التي رزقك الله إياها أو رزقكِ الله إياها يا أختاه حُرمها أبو طالب الذي نصر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تعلم فضل الرب تبارك وتعالى عليك، ولا ييئس أحد من أحد وهو يدعوه، ولا يجزم أحد في أحد وهو يراه، بمعنى: مهما رأيت على رجل من الصلاح لا تقطع له بجنة ولا بنار، ومهما رأيت على أحد من سوء وفساد لا تقطع له بجنة ولا نار، إنما الأعمال بالخواتيم. كان عبد الله بن أبي السرح أحد الصحابة، أسلم قديماً ثم هاجر إلى المدينة وكان يجيد الكتابة، فكان يكتب الوحي لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فلما نزلت سورة المؤمنون كان جبريل يمليها على النبي عليه الصلاة والسلام وعبد الله بن أبي السرح يسمعها منه، (فقرأ جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] فكان يقرؤها النبي عليه الصلاة والسلام فيكتبها عبد الله، ثم قرأ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] فكتبها، ثم أتم الآية، حتى قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون:14] فكتبها عبد الله، فقال عبد الله قبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] فقال صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت علي أو هكذا أملاني إياها جبريل، فطبق الورقة التي كان يكتبها وقال: إن كان محمد كاذباً فأنا أكذب كما يكذب محمد، وإن كان محمد صادقاً فأنا يوحى إلي كما يوحى إلى محمد، وترك الإسلام وخرج من الدين ورجع إلى الكفر، وأصبح كافراً حتى كان عام الفتح). وعبد الله هذا أخ لـ عثمان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما كان عام الفتح دخل عثمان به على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمه، فطلب له العهد أي: طلب منه أن يصون دمه، فسكت صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ من أصحابه، فجعل يحدق النظر فيه مدة طويلة، فلما ألح عثمان على رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: (نعم) أي: أجرناه، فخرج عثمان بأخيه عبد الله خارج معسكر المسلمين، فلما خرجوا قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أما قام منكم أحد حين رآني قد أبطأت عنه فيضرب عنقه؟ قالوا: يا رسول الله! لم نكن ندري ما مرادك، لو أشرت إلينا بعينيك، قال: ما كان ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). موضع الشاهد: أن هذا الرجل الذي ارتد أصابه الندم على ما كان عليه من الردة، فلما أسلم أخذ يكثر من الصالحات تعويضاً عما فات، فلما كانت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ترك الفتنة واعتزلها وسكن في عكا في أرض فلسطين، ومكث حريصاً على الصلوات خوفاً من أن يختم له بسوء، وذات ليلة دعا ربه: اللهم أمتني وأنا أصلي الفجر، فلما كانت صلاة الفجر صلى بالناس إماماً، وقرأ في الأولى والعاديات ضبحاً - ولم ينقل الرواة ماذا قرأ في الركعة الثانية - ثم سلم التسليمة الأولى وقبل أن يسلم التسليمة الثانية فاضت روحه إلى ربه جل وعلا، ومات في صلاة الفجر كما دعا. فانظر كيف تقلب ثم استقر على خير حال، فالقلوب بين يدي الرحمن. وهذا أبو طالب كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب والسلم والسراء والضراء، وأقول: الحرب تجوزاً وإلا فلم يكن في مكة حرب، ومع ذلك لم يرزق الهداية، وقد يرزقها رجل في أقاصي الأرض كما قال الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] نسأل الله لنا ولكم الثبات على هذا الدين.

خبر بحيرا الراهب

خبر بحيرا الراهب قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما بلغ اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، حتى بلغ بصرى فرآه بحيرا الراهب فعرفه بصفته، فجاء وأخذ بيده وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ قال: إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب فرده خوفاً عليه من اليهود]. هذه رحلة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى إلى الشام، وفيها خبر بحيرا الراهب وقوله: لم يبق حجر ولا شجر إلا سجد له، غير ثابتة، وإن ثبتت فيكون تخريجها على أن المقصود بالسجود هنا سجود تحية لا سجود عبادة؛ لأن الله لا يأذن لأحد شرعاً أن يسجد لغيره تبارك وتعالى، فسجود الملائكة لآدم وسجود أخوة يوسف ليوسف كله كان سجود تحية ولم يكن سجود عبادة. والمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم كان معروفاً في التوراة، وهذا الراهب اطلع على ما في التوراة، فعرف فيه من الدلائل ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم سيكون خاتم الأنبياء.

خروجه عليه الصلاة والسلام إلى الشام في تجارة لخديجة ثم زواجه بها

خروجه عليه الصلاة والسلام إلى الشام في تجارة لخديجة ثم زواجه بها قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم خرج ثانياً إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها في تجارة لها قبل أن يتزوجها، حتى بلغ إلى سوق بصرى، فباع تجارته، فلما بلغ خمساً وعشرين سنة تزوج خديجة عليها السلام]. هذه هي الرحلة الثانية إلى الشام، وكانت كما ذكر المصنف مع ميسرة غلام خديجة، وهذه أحد الأسباب التي أرادها الله أن تقع حتى يتزوج صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد. وخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها لها خصائص لا يشاركها فيها أحد من أمهات المؤمنين، ولها خصيصة واحدة لا يشاركها فيها أحد من نساء العالمين. من الخصائص التي لم يشاركها فيها أحد من أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها وهي حية، فلم يجمع بينها وبين أحد من النساء. والثانية: أن الله رزقه منها الولد ولم يرزقه الولد من غيرها إلا ما كان من جاريته مارية أم إبراهيم، هذه الخصائص التي تفردت بها خديجة رضي الله تعالى عنها عن أمهات المؤمنين. أما الخصيصة التي تفردت بها عن نساء العالمين أجمعين: أن الله جل وعلا بلغها سلامه مع جبريل عليه السلام، وهذه خصيصة لا يعلم أن أحداً من نساء العالمين نالها رضي الله تعالى عنها وأرضاها. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: (إني رزقت حبها) أي: حب خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

بدء الوحي

بدء الوحي قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما بلغ أربعين سنة اختصه الله بكرامته وابتعثه برسالته، أتاه جبريل عليه السلام وهو بغار حراء -جبل بمكة- فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشراً، والصحيح الأول]. هذا ذكر ما كان له صلى الله عليه وسلم عند تمام الأربعين، ولما قارب الأربعين بدأ ما يدل على أن الله جل وعلا سيختصه بأمر عظيم، فكان لا يمشي في طرقات مكة إلا ناداه الحجر والشجر: السلام عليك يا نبي الله، فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً فيتعجب ويمضي، وكان يرى الرؤيا فتقع كفلق الصبح، فحبب إليه الخلاء، فكان يأخذ معه سويقاً وماءً وكان يتحنث الليالي ذوات عدد في غار حراء يتأمل في ملكوت الله، وكل هذا يمضي بقدر الله حتى أتم عليه الصلاة والسلام رأس الأربعين. فلما أتمها جاءه جبريل بالوحي من الله ليعطيه أعظم شرف على الإطلاق وهو أنه خاتم النبيين، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد رأى الملك من قبل لا في صورته الحقيقية ولا في غيرها، كان رجلاً من عامة الناس. وما بين هذه اللحظة وهذه اللحظة أصبح خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، جاءه الملك وقال: اقرأ، فقال: (ما أنا بقارئ) أي: لا أجيد القراءة. فالملك يردد الطلب، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد الإجابة، ثم قال له الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] الخمس الآيات الأول من سورة العلق. فنزل صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده وتتسابق خطواته، يشكل عليه أمران، لذة المناجاة، والخوف والفزع الذي أصابه مما رآه لأول وهلة، فلما وصل إلى خديجة رضي الله عنه وأرضاها أخبرها بما رأى فصدقته، فأصبحت خديجة أول هذه الأمة إيماناً برسولنا صلى الله عليه وسلم، فضمته وهو يقول: (دثروني دثروني، زملوني زملوني). ولما أخبرها الخبر كانت تعلم أن باطنه وظاهره سواء، فقالت: والله لا يخزيك الله أبداً، ثم هذا اليمين استدلت عليه بدلائل، قالت: إنك لتعين على نوائب الحق، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وأخذت تعدد ما تراه وما تشاهده من زوجها صلوات الله وسلامه عليه، وأنه أهل للنبوة عليه الصلاة والسلام، فلم تفاجأ أنه سينبأ لما علمت رضي الله عنها وأرضاها وهي تعاشره وتخالطه ويأوي إليها من عظيم صفاته وجليل مناقبه التي فطره الله جل وعلا عليها قبل أن ينبأ. والإنسان إذا خاف يحتاج إلى شيء ثقيل يمسك جوارحه حتى تقل وحشته، فكانت بديهياً أن يقول: (زملوني زملوني دثروني دثروني) لأن الخوف بلغ به مبلغاً عظيماً، فدثرته خديجة فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه. ثم انقطع الوحي فترة لحكمة إلهية، ولما انقطع الوحي لفترة ذهب الخوف وبقيت لذة المناجاة، فأصبح صلى الله عليه وسلم في أعظم الشوق للمناجاة، فلما جاءه الوحي مرة أخرى بالقرآن كان صلى الله عليه وسلم في أكمل حال يبلغ رسالة ربه على أكمل وجه. ثم ذكر المصنف أنه عاش بمكة ثلاث عشرة سنة، وهذا هو الصحيح، وغيره شاذ لا يعول عليه، وفي المدينة عشر سنين بعد أن هاجر إليها صلوات الله وسلامه عليه.

فرض الصلوات

فرض الصلوات الصلاة أعظم فرائض الدين، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن تفرض عليه الصلوات الخمس -على الأظهر- ركعتين قبل الغروب وركعتين قبل طلوع الشمس، وكان يصلي بين الركنين اليمانيين. فالإنسان إذا وقف بين الركنين اليمانيين واستقبل القبلة يصبح بيت المقدس أمامه، فيكون صلى الله عليه وسلم في آن واحد قد جمع بين استقبال بيت المقدس لأنه شمال مكة، وما بين استقبال الكعبة، يعني: لم يجعل الكعبة وراء ظهره، فكان يصلي على هذه الحال. ثم فرضت عليه الصلوات الخمس في رحلة الإسراء والمعراج، ثم هاجر إلى المدينة فمكث فيها ستة عشر شهراً، ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]. فولى النبي صلى الله عليه وسلم وجهه شطر المسجد الحرام، وعلى هذا يفهم أن ما ينقل من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني المسجد جاءه جبريل فمحى ما بينه وبين مكة حتى رأى الكعبة فجعل القبلة عليها هذا غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى المسجد كانت قبلته جهة الشمال، ولم تكن جهة مكة جهة الجنوب، وإنما بدل هذا بعد ستة عشر شهراً، لكن إن قيل: إن هذا حصل بعد التبديل ربما يكون له وجه من النظر.

هجرته صلى الله عليه وسلم

هجرته صلى الله عليه وسلم ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، وهو كافر ولم يعرف له إسلام، وأقام بالمدينة عشر سنين]. ذكر المصنف هنا هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما اشتد عليه أذى الكفار رأى رؤيا أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل، فظن أنها أرض هجر - الأحساء -، ثم استبان له عليه الصلاة والسلام أنها المدينة، وهي ذات نخل بين حرتين، فهاجر إليها عليه الصلاة والسلام. والهجرة قصتها معروفة، لكن الذي يعنينا في الهجرة كدرس أن يعلم أن هناك أموراً تتعلق بكونه صلى الله عليه وسلم يقتدى به، وأموراً تتعلق بكونه نبياً له مقام عظيم عند الله. فما كان يتعلق بكونه نبياً له مقام عند الله لا علاقة لنا به من حيث الاقتداء، وما يتعلق بكونه نبياً يقتدى به هذا الذي لنا علاقة به. وحتى تتضح الصورة فإن الله جلّ وعلا أسرى به في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به في نفس الليلة إلى السماوات السبع، وعاد به ليلتها، ولأنها رحلة لا يتعلق بها اقتداء جعلها الله جل وعلا رحلة خارجة عن نطاق البشر، وهي تتعلق برفيع مقامه، ولا نؤمر نحن بالعروج. أما الهجرة فتتعلق بكونه نبياً يقتدى به، فلما كان النظر إليه صلى الله عليه وسلم هنا على أنه يقتدى به في هذا الأمر كانت الرحلة أمراً بشرياً بحتاً أخذ له صلى الله عليه وسلم الأسباب التي يأخذها البشر عادة، فتخفى ووارى وخرج إلى الجهة التي لا يعتقد أنه سيخرج إليها، وجعل علياً مكانه على الفراش، واختفى في الغار ثلاثة أيام، وأمر من يمسح آثاره بعد صعوده إلى الجبل، ووضع له الطعام يذهب به إليه حتى لا يموت من الجوع، زاد مادي، وزاد معنوي مع الله، وجلس في الغار ثلاثة أيام، ثم مكث تقريباً أحد عشر يوماً في الطريق معه دليل كافر يدله على الطريق، ومعه مولى لـ أبي بكر يعينه في الطعام والشراب، ومعه صاحبه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهذه كلها أسباب مادية، ولو استغنى عن الأسباب أحد لاستغنى عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم. والناس في هذا الباب على ثلاث فرق: فرقة تترك الأخذ بالأسباب كلية وتقول: جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غياهبه الجنين وهذا باطل لا تدل السنة عليه. وفرقة لا تعرف الله أبداً، وإنما تنظر إلى الماديات، وهو ما تمليه العلمانية المعاصرة. وفرقة هداها الله للإيمان وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فتأخذ بالأسباب وتعتمد على الملك الغلاب جل شأنه، وهذا هو هديه صلوات الله وسلامه عليه حتى يقتدي الناس به عليه الصلاة والسلام. هذه هي القضية الأولى. القضية الثانية بالهجرة: أن الولاة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كانوا يكتبون لـ عمر فيرد عليهم حصل هذا في شعبان، حصل هذا في رمضان، حصل هذا في شوال، فكتبوا إليه إننا لا نفهم منك أي شوال تقصد، وأي شعبان تقصد، فلو جعلت شيئاً نؤرخ به. فاجتمع رضي الله عنه مع الصحابة وتشاوروا في أن يختاروا حدثاً يؤرخون به، فنظروا إلى ثلاثة أمور، مولد النبي عليه الصلاة والسلام وهجرته ووفاته، فأعرضوا عن المولد وأعرضوا عن الوفاة، واختاروا الهجرة، ورأوها أنها يوم فرق الله به بين الحق والباطل، وقامت بعدها دولة الإسلام، وكان هذا مشورة من علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأقره عمر، ثم أجمع المسلمون عليه. وهذا من أعظم الدلائل على عظيم حدث الهجرة في التاريخ الإسلامي. واستعانة النبي صلى الله عليه وسلم بـ عبد الله بن أريقط - بالطاء على رواية وعبد الله بن أريقد بالدال على رواية - فيه دلالة على أن المؤمن يستعين بما يمكن الاستعانة به إذا احتاج إليه إذا كان المقصود نصرة دين الرب تبارك وتعالى].

وفاته صلى الله عليه وسلم

وفاته صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. وقيل: خمس وستين. وقيل: ستين، والأول أصح. وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين حين اشتد الضحى لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لاستهلال شهر ربيع الأول. ودفن ليلة الأربعاء، وقيل: ليلة الثلاثاء]. السن التي مات فيها صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثاً وستين، هذه هي الرواية الصحيحة، وتوجد روايات في الصحيح أنه كان ابن خمس وستين، لكن الصواب أن هذه رواية شاذة في متنها وإن كانت في أحد الصحيحين، قال هذا بعض العلماء. وقال بعضهم: إنه يمكن الجمع بأن العرب تتجاوز عن الكسر، لكن هذا القول يمكن قوله في رواية أنه مات ابن ستين سنة، يمكن أن نقول: من قال: إنه مات وهو ابن ستين لم يعد الكسر، أما على القول بأنه مات صلوات الله وسلامه عليه وهو ابن خمس وستين صلوات الله وسلامه عليه فلا يمكن تخريجها إلا أن ترد الرواية، لأنه لا يمكن الجمع بين القول بأنه مات وهو ابن ثلاث وستين وبأنه مات وهو ابن خمس وستين. وأكثر الروايات الصحيحة والتي دلت عليها الروايات المتعددة وقرائن كثر على أنه مات صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكانت مدة علته اثني عشر يوماً، وقيل: أربعة عشر يوماً. وغسله علي بن أبي طالب وعمه العباس والفضل بن العباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولياه، وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري]. هذا ما يتعلق بوفاته صلى الله عليه وسلم، واعلم أن الأمة لم تصب بشيء أعظم من وفاته عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال: (تعزوا عن مصائبكم بمصيبتي). والحديث عن وفاته صلى الله عليه وسلم يحرك القلوب ويثير الشجون، ولكنني ملزم بالحديث عنه وفق المتن، ثم أتكلم عن الحديث عنه إجمالاً ذكر المصنف رحمه الله تعالى الاختلاف في مدة مرضه عليه الصلاة والسلام، وذكر منها ثلاثة عشر يوماً أو أربعة عشر يوماً أو اثني عشر يوماً. والحق أن مدة مرض الوفاة عشرة أيام، وإن كان الأمر في هذا واسع بغير التحديد في بداية المرض، والمحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما اشتكى وهو راجع من جنازة من البقيع، شعر بصداع في الرأس وحمى أصابته معها، (ثم لما دخل بيته وجد عائشة قد عصبت رأسها تقول: وارأساه، قال: بل أنا وارأساه) هذا أول ما اشتكى المرض صلوات الله وسلامه عليه، وهذا في آخر صفر وأول ربيع الأول.

تغسيله عليه الصلاة والسلام بعد موته

تغسيله عليه الصلاة والسلام بعد موته ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى أن الذين تولوا غسله عليه الصلاة والسلام علي والعباس وقثم والفضل وشقران وأسامة بن زيد وحضره أوس بن خولي، هذا فيه تفصيل: الميت أولى الناس به أهل بيته، والنبي صلى الله عليه وسلم تولى أهل بيته وعصبته من بني هاشم أمر غسله، والذي باشر الغسل مباشرة علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أسند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت إلى صدره. والذي كان يقلب النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي ثلاثة: عمه العباس وابنا العباس قثم والفضل. والذي كان يصب الماء أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه وشقران - واسمه صالح -، وسيتكرر شقران هذا مرة باسمه ومرة بلقبه، اسمه صالح ولقبه شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم. وقبل أن يشرع علي رضي الله عنه في غسل نبينا صلى الله عليه وسلم ناداه أوس بن خولي من بني عمرو بن عوف من الخزرج من خلف الدار: يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أدخلتني أشهد غسله، فوافق علي رضي الله عنه لأن زمام الأمر بيده وبيد بني هاشم؛ لأن القضية الآن قضية عصبة وليست قضية صحبة، ولذلك لم يتول غسله أبو بكر ولا عمر. فأذن علي لـ أوس أن يدخل ويجلس دون أن يباشر غسل النبي عليه الصلاة والسلام، فـ أوس شهد الغسل لكنه لم يشارك فيه، شهده رغبة منه رضي الله عنه وأرضاه أن يحظى بأن يكون ممن يشهد غسل نبي الأمة صلى الله عليه وسلم. وإن الذي باشر الغسل علي فقط، وقثم والفضل وأبوهم العباس يقلبون النبي عليه الصلاة والسلام، وشقران وأسامة يصبان الماء، وعلي مسند رسول الله إلى صدره من غير تجريد من ثيابه، وبيده خرقة يغسل بها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: ما أطيبك يا رسول الله حيّاً وميتاً. هذا ما ذكره المصنف في غسل نبينا صلى الله عليه وسلم.

تكفينه والصلاة عليه

تكفينه والصلاة عليه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من ثياب سحول -بلدة باليمن- ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه المسلمون أفذاذاً، لم يؤمهم عليه أحد]. ذكر المصنف أنه لما فرغوا من غسله كفنوه، وكفن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب سحولية -وهي بلدةٌ في اليمن-، والثياب كانت من قطن، ولذلك جاءت في بعض الروايات أنها من كرسف، والكرسف هو القطن. فكفن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب، أدرج فيها إدراجاً دون أن يخلعوا ما كان عليه من ثياب، ثم شرع المسلمون يصلون عليه، والناس الآن يصلون على الميت جماعة خلف إمام كما صلى النبي عليه الصلاة والسلام على أموات المسلمين في حياته، صفهم لما صلى على النجاشي، وصفهم لما صلى على غيره، لكن الصحابة رضي الله عنهم لم يصلوا على النبي عليه الصلاة والسلام خلف إمام، وإنما صلوا عليه أفذاذاً بمعنى أفراداً، كل شخص يصلي عليه لوحده من غير إمام. والروايات جملة تدل على أن أول من صلى عليه عمه العباس لكونه كبير بين هاشم وعم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذوا يصلون عليه عشرة عشرة، فصلى عليه أول الأمر بنو هاشم آله عليه الصلاة والسلام، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه باقي الناس، ثم صلى عليه النساء ثم الصبيان، وقيل: الصبيان ثم النساء. والمقصود أنهم لم يصلوا عليه خلف إمام، وإنما صلوا عليه أفذاذاً أفراداً، وهذا أمر متفق عليه. واختلف العلماء في العلة التي من أجلها صلى الصحابة على نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة، وقد قيل: إن هذا من باب التعبد الذي لا يعقل معناه، وأجمل الأجوبة التي قيلت ما قاله الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله: إن الصحابة صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أفذاذاً لعظيم قدره؛ ولأنه لا يمكن أن يأمهم عليه أحد لتنافسهم على ذلك. يعني: استعظموا أن يأمهم أحد على صلاتهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم لعظيم قدره. هذا تعليل الشافعي رحمه الله، وقال غيره - ولا تعارض بين تعليل الشافعي وتعليل غيره -: حتى تكثر الصلاة عليه لكثرة من يصلي عليه أفراداً، فتكثر الصلاة عليه جماعة بعد جماعة، عشرةً بعد عشرةً، كلهم يصلي عليه فرداً فرداً. هذا من إكثار الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام. وقيل: حتى تكون الصلاة فردية من المصلي عليه صلوات الله وسلامه عليه.

[فصل في غزواته صلى الله عليه وسلم]

سلسلة السيرة النبوية [فصل في غزواته صلى الله عليه وسلم] غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه خمساً وعشرين غزوة، وأعظم غزوة بدر الكبرى، حيث فرق الله بها بين الحق والباطل، وقد انهزم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد، وذلك بسبب معصية بعضهم، وقد عفا الله عنهم، ومن الغزوات العظيمة غزوة خيبر والأحزاب وفتح مكة، وفي دراسة غزوات النبي دروس كثيرة وعبر عظيمة وفوائد جمَّة.

فوائد مختصرة

فوائد مختصرة الحمد لله خالق الكون بما فيه، وجامع الناس في يوم لا ريب فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأولهم وأرفعهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا ثالث الدروس العلمية التي نتفيأ من خلالها السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم عبر متن علمي هو الدرة المضيئة للإمام المقدسي رحمه الله تعالى. وقد سبق أن تحدثنا عن وفاته وأولاده صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام توفي عن ثلاثة وستين عاماً، قضى منها بعد بعثته ثلاثة وعشرين عاماً، ثلاثة عشر منها في مكة وعشر سنين في مدينته صلوات الله وسلامه عليه. ومن المسائل التي طرحناها أنه نقل نقلاً صحيحاً أنه وضع تحت جسده في قبرة قطيفة حمراء، وضعها شقران واسمه صالح مولاه صلوات الله وسلامه عليه، وقلنا: إن من العلماء من قال بكراهة هذا الأمر، فإن قيل: إن هذا اختاره الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، والله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، ف A أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه. كما ذكرنا من المسائل: أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليه صلوات الله وسلامه عليه صلاة الميت أفذاذاً بمعنى: أفراداً ولم يؤمهم أحد، وقلنا: إن لأهل العلم أجوبة عن سبب هذا من أظهرها: ما أجاب به الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمة الله عليه، وهو أنه لعظيم قدره صلى الله عليه وسلم وتنافسهم على الصلاة عليه. وقيل: إنه من باب التعبد الذي لا يعلل، وهذا أبعد الأجوبة. وقيل: لكثرة الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، حيث إنهم إذا لم يصلوا عليه مرة واحدة فإن هذا يكثر الصلاة عليه. وذكرنا أولاده من البنين والبنات، وذكرنا أن كلمة الولد تطلق في اللغة على الذكر والأنثى، كما في قوله جل وعلا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] فجمع الأولاد ثم فصل جل وعلا فأدخل الذكر والأنثى في مسمى الأولاد. وقد بينا أنه صلى الله عليه وسلم له من البنين ثلاثة، ومن البنات أربع، وأن جميع أولاده توفوا قبله إلا فاطمة توفيت بعده بستة أشهر رضي الله عنها وأرضاها، وقد كان أخبرها يوم وفاته أنها أول أهله لحوقاً به. وذكرنا أن دفنه صلى الله عليه وسلم في الموضع الذي مات فيه أحد خصائص الأنبياء، ومن باب الفوائد ذكرنا ستة أشياء من خصائص الأنبياء، منها أنهم يدفنون حيث يموتون، وتنزل الوحي عليهم وهو أعظم خصائصهم، وأنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، وأنهم يخيرون عند الموت، ورعي الغنم، وأن الأرض لا تأكل أجسادهم.

غزوات النبي عليه الصلاة والسلام

غزوات النبي عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في غزواته: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه خمساً وعشرين غزوة، هذا هو المشهور، قاله محمد بن إسحاق وأبو معشر وموسى بن عقبة وغيرهم، وقيل: غزا سبعاً وعشرين، والبعوث والسرايا خمسون أو نحوها، ولم يقاتل إلا في تسع: بدر وأحد والخندق وبني قريظة والمصطلق وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، وقد قيل: إنه قاتل بوادي القرى وفي الغابة وبنو النضير]. ذكر المصنف رحمه الله تعالى غزواته صلى الله عليه وسلم، والفرق بين الغزوة والسرية: أن الغزوة يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، أما السرية أو البعث فهو ما يبعثه النبي عليه الصلاة والسلام ويجعل عليه قائداً من الصحابة دون أن يكون معهم. فالمعركة التي يحضرها صلوات الله وسلامه عليه هذه غزوة، والتي لا يحضرها وإنما يبعث بعثاً تسمى سرية أو بعثاً وكلاهما بمعنى متقارب، ولا يكون صلى الله عليه وسلم مشاركاً فيها. ومعلوم أن المصنف يذكر هذه الأمور وهي واضحة، فلا ينبغي لمن يتولى الشرح أن يكرر ما يقوله صاحب المتن؛ لأن هذا لا يسمى شرحاً، وإنما نذكر ما وراء هذا المتن فنقول: هذه الغزوات من أعظم الدلائل على جهاده بالسنان كما جاهد باللسان صلوات الله وسلامه عليه، فقد قاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، والعدد الذي ذكره المصنف عدد تقريبي قد يزيد قليلاً وقد ينقص قليلاً، وهي في جملتها تدل على ما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه من جهاد في سبيل إعلاء دين ربه تبارك وتعالى. والنبيون الذين قبله عليه الصلاة والسلام لم يكن الجهاد مشروعاً لديهم، وإنما شرع الجهاد، من موسى فما بعد، أما قبل موسى فلم يكن الجهاد مشروعاً، وإنما كان النبي يدعو قومه فيختلفون فيه إلى فريقين، ويكون أكثرهم غير متبعين، وقليل منهم متبع للنبي، ثم إن الله يهلك من لم يتبع ذلك النبي فينتهون، كما أهلك الله ثمود، وأهلك الله عاداً، وأهلك الله قوم نوح، وأهلك كثيراً من الأمم دون أن يكون هناك جهاد بين النبي وأتباعه من المؤمنين مع أولئك الكفار، وإنما شرع الجهاد في شريعة موسى كما قال الله جل وعلا: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]. وشرع الجهاد في عهد الأنبياء من بني إسرائيل وعيسى بن مريم، ثم جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فشرع الجهاد بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.

أعظم الغزوات

أعظم الغزوات رءوس الغزوات وأعظمهن وأصولهن سبع، وهن على الترتيب: بدر وأحد والأحزاب وتسمى بالخندق، وخيبر وفتح مكة وحنين وتبوك، وهذا على ترتيب وقوعها التاريخي. وهذه الغزوات ورد ذكرها في القرآن، ذكر الله بدراً في الأنفال، وذكر أحداً في آل عمران، وذكر حنيناً في التوبة، وذكر فتح خيبر في الحشر، فكل هذه السبع نص القرآن عليها أو أشار إليها.

غزوة بدر الكبرى

غزوة بدر الكبرى من الفوائد العلمية: أن غزوة بدر إذا أطلقت يراد بها: بدر الكبرى، وإلا فبدر على التحقيق ثلاث: بدر الصغرى وبدر الكبرى وبدر الموعد. فأما بدر الصغرى فقد كانت على رأس ثلاثة عشر شهراً من الهجرة، جاء رجل يقال له: كرز بن جابر الفهري فأغار على سرح المدينة فتبعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى واد يقال له: وادي سفوان، وهو قريب من بدر. فهذه عند بعض أهل السير تسمى بدر الصغرى. أما بدر الكبرى فغنية عن التعريف، وهي الموقعة المشهورة التي وقعت عند ماء بدر في شهر رمضان، والتي أسماها الله جل وعلا بيوم الفرقان. أما بدر الموعد وهي غير المشهورة، فهذه ذكرها ابن إسحاق فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم واعده أبو سفيان يوم أحد بحرب في العام القادم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر في العام القابل إتماماً للموعد، ولكن أبا سفيان خرج وفي بعض الطريق رجع محتجاً بأن ذلك العام عام جدب، فلم يقع فيها قتال، لكن نحن نذكرها من باب السرد التاريخي، فيتحرر من هذا: أن بدراً تطلق على ثلاث غزوات: بدر الصغرى وبدر الكبرى وبدر الموعد.

هدي النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته

هدي النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته هذه الغزوات كل منها كان يحمل حدثاً بعينه ينبئ عن عظيم قدره وعظيم جهاده وما الذي يقتدى به صلى الله عليه وسلم. فمثلاً: في يوم بدر قال عليه الصلاة والسلام: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين)، وكان يقصد بإحدى الطائفتين إما العير التي كانت مع أبي سفيان، وإما النصر على قريش إذا حاربها، قال الله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، فقد كان مطمع المسلمين في العير، ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قام ليلة بدر في العريش يدعو ويرفع يديه ويذكر الله ويثني عليه ويلح عليه في الدعاء حتى أشفق عليه أبو بكر مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه سينتصر، فإنه قال لأصحابه وهو الصادق المصدوق: (إن الله وعدني إحدى الطائفتين) وقلنا: إن إحدى الطائفتين إما العير وإما النصر، والعير فلتت ومضت، خرج بها أبو سفيان ونجت، فأصبح لا محالة أنه سينتصر، ومع أنه يعلم يقيناً أنه سينتصر إلا أنه وقف صلى الله عليه وسلم يدعو، فلماذا وقف يدعو؟! هذا أعظم ما دلت عليه غزوة بدر من فوائد، فقد وقف يدعو حتى يحقق كمال التوحيد لربه جل وعلا، ويظهر من نفسه كمال العبودية لربه جل وعلا، فأظهر صلى الله عليه وسلم في يوم بدر كمال العبودية لله والتضرع وسؤال الله، وهو يعلم عليه الصلاة والسلام يقيناً أنه منتصر؛ لأنه قال لأصحابه قبل أن يصل إلى العريش: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين). فهو متحقق من وعد الله له لكنه فعلها ليظهر عبوديته لربه جل وعلا، وهذا أحد أعظم أسباب علو شأنه على جميع الخلق صلوات الله وسلامه عليه. وفي يوم أحد شج رأسه وكسرت رباعيته فقال: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!) فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وكان الأمر كما أراد الله، فبعض من شهد أحداً مع أهل الإشراك أسلم بعد ذلك وكان مدافعاً عن الدين، فالقلوب بيد الله والإنسان لا ييأس من أحد وهو يدعوه، بل يدعو من حوله إلى دين الرب تبارك وتعالى. ومن الفوائد: تواضعه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة، فقد دخلها مطأطئاً رأسه وعلى رأسه المغفر تواضعاً لربه جل وعلا، والعظماء إذا سادوا وحققوا مرادهم يظهرون لله جل وعلا تواضعهم حتى يعلم من حولهم بلسان الحال فضلاً عن لسان المقال أنهم نالوا ما نالوا بما أعطاهم الله تبارك وتعالى إياه.

غزوة وادي القرى والغابة وبني النضير

غزوة وادي القرى والغابة وبني النضير ذكر المصنف في آخر هذا الفصل أنه قيل: إنه عليه الصلاة والسلام قاتل في غزوة وادي القرى والغابة وبني النضير. وادي القرى واد بين تيماء وخيبر، وخيبر أقرب إلى المدينة من تيماء، وهو ما بين خيبر وتيماء، وسمي بوادي القرى لكثرة القرى التي فيه، وهي معركة حصلت بعد غزوة خيبر، هذا ما يتعلق بوادي القرى. أما الغابة فهو مكان غير بعيد عن المدينة، جاء في سيرة ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إليها. أما بنو النضير فإنهم إحدى قبائل اليهود التي كانت تسكن المدينة، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة.

كتابه ورسله عليه الصلاة والسلام

كتّابه ورسله عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في كتابه ورسله. كتب له صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك، وأخصهم به]. بعد أن ذكر المصنف رحمه الله بعضاً مما يشير إلى غزواته صلوات الله وسلامه عليه، أشار إلى من كان يكتب له عليه الصلاة والسلام، وهذا يسوقنا إلى مسألة مهمة وهي: أن الله جل وعلا بعث نبيه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب أربعين عاماً قبل النبوة، وهذا لحكمة أرادها الله حتى لا يأتي أحد ويقول: إن هذا النبي حصل على ما حصل عليه من قرآن لمعرفته بأخبار الأمم السابقة، وهذا أكد القرآن عليه كثيراً، قال الله جل وعلا: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]. وقال الله جل وعلا: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. وقال الله جل وعلا: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]. فالنبي عليه الصلاة والسلام حفظه الله من أن يقرأ ويكتب قبل النبوة حتى لا يتسلط أحد عليه ويكون عذراً لأحد ممن يعترض على دينه بحجة أنه عليه الصلاة والسلام كان يجيد القراءة، قال الله عن أهل قريش في سورة الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] أي: طلب من غيره أن يكتبها له، {اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5] أي: طلب من غيره أن يكتبها له، فرد الله جل وعلا عليهم ذلك كله كما هو ظاهر في القرآن. فلما كان الله قد حفظ نبيه من هذا جعل له كتبة، والشيء الذي لا يحسنه الإنسان يكله إلى غيره، وليس هذا بنقص فيه، بل هذا من مقومات كمال الأمر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو رأس الملة وإمام الأمة وهو يقود الناس، وقد شرع الله جل وعلا، واتخذ كتبة يعينونه على أمره عليه الصلاة والسلام فيكتبون الوحي الذي ينزل من السماء، ويكتبون كتبه التي يبعثها إلى غيرهم، ويكتبون بعض الأحكام كما في كتاب عمرو بن حزم. والكتابة قام بها ثلة من الصحابة؛ لأن العرب كانت في الغالب أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فالذين كانوا يكتبون من الصحابة قليلاً، منهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم كانوا كتبة، وكان هناك بعض الصحابة جمع المزيتين: كان خطيباً للنبي عليه الصلاة والسلام وكان كاتباً كما هو شأن ثابت بن قيس. وكان من هؤلاء الكتبة من هو متميز كما يوجد في الطلاب أو في الوزراء أو في المساندين لأي حاكم قوم مميزون، فكان زيد بن ثابت رضي الله عنه أميز الصحابة في الكتابة، وتعلم لغة اليهود، وهو الذي طلب منه الصديق رضي الله تعالى عنه والفاروق بعد ذلك أن يجمع القرآن. فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثلة من الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن العاقل يتخذ من أسباب العصر الذي يعيش فيه ما ينفعه في أموره، خاصة تلك التي تتعلق بشئون الدعوة.

مراسلة النجاشي ملك الحبشة

مراسلة النجاشي ملك الحبشة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رسولًا إلى النجاشي واسمه أصحمة، ومعناه عطية، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، وأسلم وحسن إسلامه، إلا أن إسلامه كان عند حضور جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه يوم مات، وروي: أنه كان لا يزال يرى النور على قبره]. هذه المرحلة تسمى طوراً جديداً في الدعوة إلى الله جل وعلا، وهذا الطور وقع بعد صلح الحديبية، كان القرشيون يمثلون الوثنية في جزيرة العرب، وكان اليهود يمثلون بطبيعة الحال اليهودية، وكانت القوى الثلاثة التي تحارب الإسلام ثلاثة: اليهود وقريش وغطفان. فلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في صلح الحديبية انكسرت شوكة الوثنيين فتفرغ صلى الله عليه وسلم للدعوة عموماً، والله يقول عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال: {كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، يقول صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) فكان هذا كله يتطلب طوراً جديداً ومرحلة دعوية، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يبدأ بهذا الطور قديماً مع الحاجة إليه، لكن المسلم العاقل لا يقيم الإسلام في غيره حتى يقيمه في نفسه. فلما شكل صلى الله عليه وسلم وأقام دولة الإسلام وتخلص من خصومه القريبين تفرغ للدعوة إلى الله جل وعلا، والعاقل لا يستعدي الناس عليه في يوم واحد، ولا يكون جبهات متعددة تحاربه لأن هذا أدعى لأن يخسر ويفشل، لكن العاقل يؤمن بالمرحلية في حياته، ويؤمن بالواقع الذي يعيشه، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخاطب كسرى ولا قيصر ولا تبابعة اليمن ولا غيرهم حتى كسر شوكة قريش، كسر شوكتها بصلح الحديبية على أن يستمر الناس عشر سنين ليس بينهم حرب، فلما توقفت الحرب كان هذا هو الفتح العظيم الذي بشر الله به نبيه يوم انصرف من الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فكان ذلك سبباً في أن يتهيأ صلى الله عليه وسلم ليخاطب الآخرين غير جماعته وعشيرته الأقربين الذين أمر أن يبدأ بهم أولاً وهم قريش الذي هو منهم صلوات الله وسلامه عليه. وهو عليه الصلاة والسلام كما دعا إلى الله بالسنان كما مر معنا في غزواته دعا باللسان، واتخذ الأسباب المشروعة في الدعوة التي توافق عصره آنذاك، فلما أخبره الصحابة أن الملوك والسلاطين والأمراء لا يقبلون إلا كتاباً مختوماً لم يعاند وإنما اتخذ عليه الصلاة والسلام خاتماً من فضة، وجعل نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله كما في البخاري وغيره.

أدب الرسول مع ربه

أدب الرسول مع ربه جعل النبي نقش خاتمه كلمة محمد أسفل وكلمة رسول في الوسط، وكلمة الله التي هي لفظ الجلالة في الأعلى، فأصبح يقرأ من الأدنى: محمد رسول الله، فحتى في نقش خاتمه تأدب عليه الصلاة والسلام مع ربه جل وعلا، ولا يوجد أحد تأدب مع ربه تبارك وتعالى كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام متأدباً مع ربه، وهذا من أسباب كثيرة أفاءها الله عليه جعلته أعظم النبيين وأكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه. ولما عرج به إلى سدرة المنتهى لم يلتفت يميناً ولا شمالاً ولم ينظر في أي شيء إلا وفق ما يريه الله، فما أراه الله رآه ولما لم يره الله لم تتحرك منه جارحة واحدة من غير أن يؤذن له، ولذلك زكى الله بصره في القرآن فقال الله في سورة النجم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أي: لم يتجاوز حدوده. وكان عليه الصلاة والسلام في كل حاله وآنه متأدباً مع ربه جل وعلا، وأنت إذا تريد الرفعة فالرفعة لها أسباب من أعظمها: الأدب مع الله جل وعلا، وما أورث أنبياء الله ورسله الناس شيئاً أعظم من أدبهم مع الله. قال الله عن خليله إبراهيم وهو يعرف ربه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:75 - 80]، فلما ذكر المرض نسبه إلى نفسه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ولم يقل: وإذا أمرضني تأدباً مع ربه تبارك وتعالى، ثم قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] وكل ذلك من كمال أدبهم مع ربهم جل وعلا. ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يخطب في صلاة الجمعة فدخل رجل يشتكي جدب الديار وقلة الأمطار وقال: يا رسول الله! استسق الله لنا، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) فتكونت سحابة بأمر الله وأمطر الناس أسبوعاً، ثم في يوم الجمعة المقبلة دخل رجل هو أو غيره من نفس الباب فقال: يا رسول الله! وشكا كثرة السيول وأنها قطعت السبل، وفرقت الناس، وأضرت بالطرق، وقال: فادع الله أن يمسكها عنا، فلكمال أدبه قال في المرة الأولى: (اللهم أغثنا). وفي المرة الثانية لم يقل صلى الله عليه وسلم لربه: أمسك عنا رحمتك؛ لأنه يعلم أنها رحمة، بل قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر وجعل يشير بيديه، قال أنس: فو الله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها) صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الأدب يغفل عنه كثير من الناس، وهو التأدب مع الله، وكما حظي به النبيون حظي به الأتقياء عبر التاريخ كله، قال الله عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، ولما ذكروا الشر نسبوه إلى ما لم يسم فاعله كما يقول النحويون، قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] ولم ينسبوه إلى الله، مع أن الله خالق الخير وخالق الشر. وكذلك الخضر عليه السلام لما ذكر السفينة وعيبها قال كما أخبر الله عنه: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] أسند العيب إلى نفسه، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:79 - 81]. فلما ذكر الزكاة والرحمة نسبها إلى الرب، قال: فأراد ربك، ولم يقل: فأردت، ولما ذكر العيب نسبه إلى نفسه: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، وهذا كله مندرج ضمن أدب رسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه، وهو أعظم ما ينقل عنه ويتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.

هدي الرسول في اختيار الرسل

هدي الرسول في اختيار الرسل نعود إلى فقه الواقع الذي كان عليه صلوات الله وسلامه عليه، كتب الكتب وبعث بها إلى الملوك والزعماء يدعوهم إلى الله ويبلغ رسالة ربه، وهو في كل رسالة يبعثها يختار من يحملها، والعاقل يدل على عقله ثلاثة أشياء: هديته وكتابه ورسوله، بمعنى: أنه لو أتاك خطاب من أحد أو مرسول من أحد أو هدية من أحد فإن الكتاب والهدية والمرسول تدلك على عقل من بعثها، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يختار قوماً معينين من أصحابه ليبعثهم إلى الملوك والرؤساء بما يوافق حال هؤلاء الملوك، لأنه ليس المقصود التجبر والتكبر وإنما المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً. وممن بعث إليه النجاشي، والنجاشي لقب يطلق على من ملك الحبشة، واختلف في النجاشي الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه عمرو بن أمية إليه، هل هو النجاشي الذي هاجر إليه المهاجرون الأوائل، أم هو غيره؟ وقال بكل قوم من العلماء، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه غير النجاشي الأول كما يدل عليه حديث أنس، والله تعالى أعلم.

أسماء رسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأمراء

أسماء رسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأمراء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم واسمه هرقل، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنده صحة نبوته فهم بالإسلام، فلم توافقه الروم، وخافهم على ملكه فأمسك. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملك) فمزق الله ملكه وملك قومه. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر، فقال خيرًا وقارب الأمر ولم يسلم، فأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية وأختها سيرين، فوهبها لـ حسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملكي عمان جيفر وعبد ابني الجلندي، وهما من الأزد، والملك جيفر فأسلما وصدقا، وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل عندهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري إلى اليمامة إلى هوذة بن علي الحنفي فأكرمه وأنزله، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم، ومات زمن الفتح. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من أرض الشام، قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق، فقرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم رمى به، وقال: إني سائر إليه وعزم على ذلك، فمنعه قيصر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث الحميري أحد مقاولة اليمن. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وكتب إليه كتابًا يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وصدق. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنهما إلى جملة اليمن داعيين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن وملوكهم طوعاً من غير قتال]. ذكر المصنف رحمه الله جملة ممن بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء ذلك العصر، وهذا فيه دلائل من أهمها ما قدمناه مما بذله صلى الله عليه وسلم لتبيين الدعوة إلى الله. وفيه فضيلة أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وأنهم حملوا تلك الكتب والرسائل وأوصلوها إلى أولئك الملوك غير مبالين من أن يقتلوا، قاطعين الفيافي والصحراء والجبال ليشاركوا في تبليغ دعوة الرب تبارك وتعالى.

أهمية الدعوة إلى الله بالحكمة

أهمية الدعوة إلى الله بالحكمة الأمر المهم في القضية كلها: حاول أن تربط بين هذا الذي سمعته وبين واقع المسلمين اليوم، والأحداث هي الأحداث، وإنما يختلف الناس فقط. أولئك الزعماء تعاملوا مع الخطاب النبوي تعاملاً متبايناً متفاوتاً، فلم يتعاملوا جميعاً تعاملاً واحداً، منهم من قبله وجعله بين عينيه وأسلم، ومنهم من أسلم من غير تقبيل، ومنهم جبار عنيد مزقه، ومنهم من حاول أن يسوس الناس الذين عنده ليعلم هل يوافقونه أو لا يوافقونه، فلما غلب على ظنه أنهم لا يوافقونه خاف على ملكه، ومنهم من لم يقبل الإسلام لكنه تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعث له بهدية، ومنهم أقوام ليست لهم قوة آنذاك كجملة اليمن فبعث إليهم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ في اليمن، فـ معاذ لم يشهد وفاة النبي صلى لله عليه وسلم في المدينة. والآن العالم الإسلامي الذي نعيشه نظرة غير المسلمين من حكومات وشعوب إلى المسلمين هي نفسها تماماً نظرة الأوائل في ذلك الزمان، فلا يعقل أن يكون جميع زعماء العالم وشعوب العالم نظرتها إلى الإسلام اليوم نظرة واحدة، فهناك من يحارب، وهناك من يستحيي، وهناك من يود أن يدخل فيه لكنه غير قادر، وهناك من يدخل في الدين، فيتفاوت الناس. فالمسلم العاقل لا يستعدي عليه الناس، ويتعامل مع من حوله بذكاء حتى يحقق مصالحه، لا يهدم الأمر على قومه وعلى نفسه وعلى عشيرته فيضيع الأمر كله أو يتخبط الناس فيه. كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهز فرصة من حوله فيبعث ذلك الخطاب الذي يسترق به الناس، والله جل وعلا بعث موسى وهارون إلى أعظم الجبابرة في عصره وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. فالمسلمون أعظم ما يقتبسونه من السنة أن يعقلوا كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يدعو الناس. النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الأنبياء، ثم قال: (وإني لأرجو الله أن أكون أكثرهم تابعاً) فأعظم رغبة له عليه الصلاة والسلام أن يكون أكثر الأنبياء استجابة، يعني: أكثر الأنبياء استجابة. وهذا لا يتحقق إلا بالدعوة. فالعاقل الذي يريد أن يحقق الرغبة النبوية يسهم في الدعوة إلى الله بالحكمة لا بالتنفير من الدين، وقد قلنا: إن النبي أخر مسألة دعوة الملوك حتى يقيم الإسلام في المسلمين، وأنت لن تقيم الإسلام في غيرك حتى تقيمه في نفسك. أما قضية التعامل بالمثل فهذه قضية خاطئة، أنت قدم الإسلام كما هو الإسلام ولا تقدم الإسلام كما يريد الأعداء أن يروه، قدم الإسلام كما قدمه الله جل وعلا لنا، مثلاً: عندنا في المدينة للأسف تسكن طائفة معينة من غير أهل السنة، وكنت قديماً أعمل في الإشراف التربوي، مشرفاً على المدارس، فيأتيك معلم يسبهم ليل نهار ويفعل أموراً لا تليق، يقول: والله يا فلان -يخاطبني- ما استجابوا، ما آمنوا، ما تركوا البدعة. من الذي تقابله ويمد يده ليسلم عليك فتسحب يده وتبصق في وجهه وترميه، ولا تهنئه بشيء ولا تعزيه إذا مات أحد ثم تريده أن يدخل في هذا المبدأ الذي تدعو إليه؟! لا يوجد عاقل يتبعك وأنت على هذه الحال، لكن قدم الإسلام كما جاء به الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيدخل الناس في دين الله أفواجاً. أما أنا أمد يدي لأصافحك وأنت تسحبها، وتقابلني بالشتم، وأرزق المولود ولا تهنئني، ويموت لي ميت ولا تعزيني ثم تقول لي: ادخل في السنة التي أنا أتبعها، أنت لن تقدم السنة كما قدمها نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا مرض في القلب. النبي عليه الصلاة والسلام بعث علياً في حربه مع اليهود، واليهود في حصونهم يحاربونه وغدروا به وأعطوه شاة مسمومة، والله لعنهم في القرآن، ومع هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (فادعهم إلى لا إله إلا الله، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ولم يقل له: لو قتلت يهودياً تدخل الجنة، قال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى مقدمة على كل شيء، والإنسان الذي يتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم أول أمر ينزع الهوى الذي في قلبه والرغبات الشخصية ويرميها وراء ظهره، ثم يجعل نهج محمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، هذا هو المحك الحقيقي في اتباع السنة، أما أن تأتي الإنسان وتسأله: أنت مسلم أو كافر؟ فإن قال: أنا كافر، تقتله وتمضي! هذا لا يمكن أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، قال الله عنه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. انصرف صلى الله عليه وسلم من بدر وهو منتصر فقال بعض الصحابة من الأنصار: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، يقصد كفار قريش. فقال صلى الله عليه وسلم: (على رسلك يا ابن أخي! أولئك الملأ لو أمروك لأجبتهم) أي: أنهم أشراف الناس، فلم ينقص قدرهم صلى الله عليه وسلم، فكان يدعو إلى دين الله جل وعلا. حارب النبي عليه الصلاة والسلام من حال بينه وبين أن يدعو إلى الله، وهذا هدي الأنبياء من قبل، موسى يقول: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21] أي: لا تمنعوني أن أدعو الله، فما أحوج المسلمين اليوم إلى من يفقه الدعوة النبوية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه. فهؤلاء الرسل يقطعون الفيافي يبلغون رسالات الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا لا يعني أن يترك الجهاد، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن كما قلت: حارب الرسول من وقف بينه وبين أن يدعو إلى الله جل وعلا، هؤلاء هم القوم الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان الصحابة كـ أبي بكر وغيره يتركون الرهبان الذين في الكنائس وفي الدير، ويمنع الناس أن يتعرضوا لهم، يقول: لا تتعرض لهم؛ لأن هؤلاء مشغولون بما هم فيه، لا يمنعونك من أن تدعو، ادع إلى الله كما شئت فهم لا يمنعونك، يتركونك تدعو، فلم يتعرض لهم المسلمون. والمقصود من هذا كله: أن الوضع المعاصر يفرض على من يعقل من علماء المسلمين أن يقول الحق، ولا يلتمس في كلامه رغبة الناس، وهذا من أعظم أخطائنا في الصحوة، إذا جئت تتكلم لا ينبغي أن تقول ما يريده الناس، ينبغي أن تقول ما هو مراد الله؛ لأن العلماء هم الذين يقودون العامة، وليس العامة هم الذين يسيرون أقوال العلماء، هذه الكلمة يقولها النقاد السينمائيون: ما يريده الجمهور، هذا عند شباك السينما، أما هنا في شرع الله جل وعلا فليس الأمر متروكاً لي ولا لك، هذا نور أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه فنبلغه كما بلغه نبينا صلى الله عليه وسلم، بلغه بالسنان، بالقتل لمن حرمه أن يبلغ دين ربه، وبلغه باللسان والحكمة والموعظة الحسنة مع من لم يتعرض لدعوته لربه جل وعلا، حتى قال العلماء: إن النبي عليه الصلاة والسلام أقر من أسلم من الملوك على ملكهم، ولم يبعث الصحابة ليقولوا الملك حتى لا يفتنوا، ترك الملوك والرؤساء الذين أسلموا على ملكهم؛ لأن المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وليس المقصود أن يأتي أحد الصحابة فيرث تلك الأرض ويصبح زعيماً على تلك الطائفة، المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأنت ستكون عظيماً إذا كنت سبباً في دخول الناس إلى دين ربك جل وعلا.

موقف كسرى من كتاب النبي عليه الصلاة والسلام

موقف كسرى من كتاب النبي عليه الصلاة والسلام كسرى مزق الكتاب فقال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه). وقيصر ما قبل الإسلام لكن ما دعا صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، والآن انظر إلى الواقع، لا يوجد ملك كسروي كافر، ويوجد ملك للروم كافر، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه) فانتهى ملك الفرس، وبقي ملك الروم كما هو. ولماذا لم يدعو عليهم؟ حتى يبقى قدر الله، فما أراده الله قدراً لا يجريه على لسان نبيه شرعاً، وهذا من دقائق العلم، فقد قال الله جل وعلا في سورة الأنعام: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:65] فلما قرأ جبريل: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] استجار النبي صلى الله عليه وسلم بربه، فهذه الأمة لا يمكن أن تعذب بالحجارة، لا يمكن أن تعذب عذاباً مهلكاً لها بحجارة السماء، ولما قرأ: (أو من تحتكم) استجار بربه، فلا يمكن أن هذه الأمة يخسف بها وتنتهي، ثم تلا جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فما قال صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك كما قال في الأولين؛ لأن الله قد كتب في الأزل أنها ستقع، فلم يجرها على لسان نبيه شرعاً، بل قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون وأيسر). وأنت ترى الأمة يذيق بعضها بأس بعض، منذ مقتل عثمان إلى اليوم. فما أراده الله أن يقع قدراً لا يجريه على لسان نبيه شرعاً، وما أراد الله منعه قدراً يجريه على لسان نبيه شرعاً، فقال في كسرى وهو كافر قال: (مزق الله ملكه) فانتهى ملك الأكاسرة، ولكنه لم يقل في هرقل: مزق الله ملكه، فإلى اليوم أوروبا -وهي الروم- ملكها باق إلى اليوم، ولن تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس.

[مجموعة فوائد - فصل في أولاده]

سلسلة السيرة النبوية [مجموعة فوائد - فصل في أولاده] الحديث عن موت النبي عليه الصلاة والسلام ذو شجون، فهو أعظم وأفضل خلق الله أجمعين، وبه أخرج الله الناس من الظلمات إلى النور، وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة. وقد رزقه الله بأربع من البنات وثلاثة من البنين، وقد ذكر العلماء أخبار أولاده، كما ذكروا حجه وعمراته.

فوائد من السيرة

فوائد من السيرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: بالأمس قد ذكرنا شيئاً من نسبه عليه الصلاة والسلام ومولده وهجرته، ثم انتهينا إلى وفاته صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا جملة من الفوائد لعله قد يكون من المناسب استحضار بعضها. فإننا ذكرنا زواجه عليه الصلاة والسلام من خديجة بنت خويلد، وقلنا: إن هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين خصها الله جل وعلا ببعض من الخصائص، منها: ما انفردت به عن أمهات المؤمنين ومنها ما انفردت به عن نساء العالمين أجمعين، فالذي انفردت به عن أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها أحداً في حياتها، وأن الله جل وعلا رزقه منها الولد، هذا ما انفردت به عن أمهات المؤمنين. وذكرنا أن لها خصيصة ليست لأحد من نساء العالمين، وهي أن الله أمر جبريل أن يبلغها السلام، وهذه الخصيصة لأحد من نساء العالمين فيما نعلم. ثم ذكرنا أن الهجرة حدث يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم كقدوة، وذكرنا أن ما لا يتعلق به كقدوة فهذا يعلم، لمعرفة شرفه وفضله عليه الصلاة والسلام لكن الأمة غير ملزمة بالاقتداء به فيه، وذلك مثل حادثة الإسراء والمعراج. وتكلمنا عن أبي طالب، وقلنا: إنه ناصر النبي عليه الصلاة والسلام وعضده وكان معه في شعب بني هاشم عندما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم. وذكرنا أنه يتعلق بنصرة أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام فوائد، ذكرنا منها فائدتين: الأولى: أن الإنسان يستخدم الوسائل التاريخية المتاحة إذا كان في ذلك نصرة للإسلام. الثانية: الهداية، وقلنا: إن كون أبي طالب رغم نصرته للنبي عليه الصلاة والسلام لم يرزق الهداية يدل على أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، ونسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم على هدايته.

دفنه عليه الصلاة والسلام

دفنه عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها]. الأصل أن الميت لا يطرح له شيء في قبره، فقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من أصحابه ماتوا في حياته ولم ينقل أنه أدخل معهم في قبورهم أي شيء، ولكن هذه القطيفة كان عليه الصلاة والسلام يفرشها ويجلس عليها ويلبسها أحياناً، فأنزلها مولاه شقران الذي هو صالح في القبر، ثم فرشها وجعل النبي عليه الصلاة والسلام عليها، وهذا في صحيح مسلم من حديث ابن عباس. مسألة: هل يجوز أن يفرش تحت الميت قطيفة أو لا؟ حكى النووي عن الجمهور أنه يكره فعله، وأن شقران فعلها دون علم الصحابة؛ لأنه كره أن يلبس القطيفة أحد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا التعليل الذي ذكره النووي رحمه الله ضعيف؛ لأننا نقول: إن الله جل وعلا لا يختار لنبيه إلا الأفضل، فما كان الله ليسمح قدراً لـ شقران أن يضع هذه القطيفة تحت النبي صلى الله عليه وسلم والله يكره ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يكفله ربه ويرعاه ويحفظه ويحيطه بعنايته حياً وميتاً، فينجم عن هذا تخريج المسألة فنقول: إنه يكره أن يوضع تحت أي ميت قطيفة من أي نوع، وما فعله شقران خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: ما وجه الخصوصية هنا؟ قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأرض حرم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، فلأن الأرض لا تأكل جسده أذن الله قدراً لـ شقران أن يضع هذه القطيفة تحت نبينا صلى الله عليه وسلم، وبهذا يمكن تخريج المسألة بأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وأن هذا من خصائصه. وممن نص من العلماء على أن هذه خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم وكيع بن الجراح رحمه الله المحدث المشهور شيخ كثير من السلف وشيخ الإمام أحمد وغيره، فقد نص وكيع على أنها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا ينجلي الإشكال في المسألة، والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران، وأطبق عليه تسع لبنات، ودفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة، ثم دفن معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما]. ذكر المصنف رحمه الله أنه نزل القبر خمسة: العباس وقثم والفضل وعلي وصالح مولاه الذي هو شقران. وهذه رواية ضعيفة، والصحيح أن الذين نزلوا القبر أربعة فقط ليس منهم العباس، وقد ذكر المقدسي رحمه الله العباس كما ذكره النووي، لكن الصحيح أن الذي نزل القبر أربعة هم: قثم والفضل بن العباس بن عبد المطلب وعلي ومولاه شقران، هؤلاء الأربعة هم الذين أنزلوه صلى الله عليه وسلم إلى قبره. ثم وضعت عليه تسع لبنات، وكانوا قد اختلفوا هل يلحدون له لحداً كما هو صنيع أهل المدينة أو يجعلون القبر شقاً كما هو صنيع أهل مكة، فبعثوا إلى اثنين ممن يحضرون القبور وقالوا: اللهم خر لنبيك، أي: اختر لنبيك. فالذي كان يشق لم يأت، والآخر جاء وهو أبو طلحة، وكان يلحد لأهل المدينة، فحفر القبر للنبي عليه الصلاة والسلام. وقبل أن يحفروا القبر اختلفوا أين يدفن؟ وهذا أحد أسباب تأخير دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أقول: أحد الأسباب يدل على أن هناك أسباباً أخر، هذا أحد الأسباب التي دعت الصحابة إلى أن يتأخروا في دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض).

خصائص الأنبياء

خصائص الأنبياء الله جل وعلا جعل للأنبياء خصائص أذكر منها إجمالاً: الأول: الوحي، وهو أعظم خصائص الأنبياء. الثاني: أنهم يخيرون عند الموت. الثالث: أنهم يدفنون حيث يموتون. الرابع: أن الأرض لا تأكل أجسادهم. الخامس: أنهم جميعاً رعوا الغنم. السادس: أنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. هذه ستة من خصائص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، ومنها أنهم جميعاً رعوا الغنم، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر: عندما جنى النبي عليه الصلاة والسلام معهم ثمر الأراك فقال: (عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه، قالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى الغنم؟ قال: وما من نبي إلا رعاها، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). فهذه بعض خصائص الأنبياء ذكرناها استطراداً، وذكرنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في الموقع الذي مات فيه، أي: في حجرة عائشة، وهذا مما تواتر بين المسلمين وتقرر لديهم أنه في المكان المقبور فيه.

دفن أبي بكر وعمر بجوار النبي عليه الصلاة والسلام

دفن أبي بكر وعمر بجوار النبي عليه الصلاة والسلام ذكر المصنف أنه دفن معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فـ أبو بكر وعمر دفنا في نفس حجرة عائشة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها رأت قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرها، فذهبت إلى أبيها أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقصت عليه الرؤيا، وكان أبو بكر ممن يعبرون، فسكت عنها ولم يجبها أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما مات عليه الصلاة والسلام ودفن في حجرة عائشة جاء أبو بكر إلى عائشة وقال لها: هذا أول أقماركِ يا عائشة. ثم دفن أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت عائشة تريد أن تدخر ما بقي من الحجرة لها، فلما طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل ابنه عبد الله يستأذن عائشة في أن يدفن مع صاحبيه، وقال: قل لها: عمر بن الخطاب ولا تقل: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فدخل عليها عبد الله وقال لها: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لأوثرنه اليوم على نفسي، ولقد كنت أدخره - أي الموضع - لنفسي، فوافقت، فلما رجع عبد الله إلى أبيه كان عمر ما زال حياً طريح الفراش من طعنة أبي لؤلؤة المجوسي، فلما دخل قال: ما وراءك؟ فقال ابنه عبد الله: أبشر بالذي يسرك يا أمير المؤمنين، فإنها قد وافقت، فقال عمر رضي الله عنه: والله ما من شيء كان أهم علي من هذا الأمر أن أدفن مع صاحباي. ثم ظهرت عدالة عمر فقال: إذا أنا مت فغسلوني وكفنوني ثم استأذنوا لي من عائشة مرة أخرى، فإنني أخاف أنها وافقت استحياءً مني وأنا حي! فلما مات عمر وغسل وكفن وصلي عليه، حمل وقيل لها وهو محمول على أعناق الرجال: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه مرة أخرى، فوافقت رضي الله عنها فدفن عمر مع النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه. وقال بعض المؤرخين: بقي موضع للدفن، فقد جاءت جملة من الروايات تدل على أنه سيدفن معهم عيسى بن مريم، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم.

ذكر خبر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام

ذكر خبر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام لن يفقد الناس أحداً أعظم من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقد شعر صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل في حجة الوداع، لما أنزل الله جل وعلا عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] عرف صلى الله عليه وسلم أن الأمر الذي بعث من أجله قد تم فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) كان يخطب ثم يقطع ويقول: (أيها الناس! لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟ فيجيبون: نشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فيرفع يده إصبعه إلى السماء ثم ينكتها إلى الأرض ويقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد). ثم رجع إلى المدينة، ثم في آخر شهر صفر أو أول ربيع حضر جنازة، فلما رجع شعر بصداع في رأسه وحمى تصيبه فدخل على عائشة فقالت له: وارأساه فقال: (بل أنا وارأساه). فلما شعر بدنو الأجل خرج إلى شهداء أحد فاستغفر لهم ودعا لهم كالمودع، ثم خرج في ليلة مع غلام له يقال له: أبو مويهبة فأتى أهل البقيع فدعا لهم واستغفر لهم وقال: (ليهنئكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى)، ثم قال: (يا أبا مويهبة! إن الله خيرني ما بين خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة وما بين لقاء ربي ثم الجنة فاخترت لقاء الله ثم الجنة، فقال له: أبو مويهبة: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي اختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال: يا أبا مويهبة! إنني اخترت لقاء الله ثم الجنة). ثم خرج يوماً عاصباً رأسه فخطب على المنبر وقال: (إن رجلاً خيره الله بين الدنيا ثم الجنة وبين لقاء الله ثم الجنة، فقال أبو بكر: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وجعل يبكي فتعجب الناس من بكاء أبي بكر، ثم قال عليه الصلاة والسلام: على رسلك يا أبا بكر)، ومدحه وأثنى عليه رضي الله تعالى عنه كأنه يشير إليه في الخلافة من بعده. ثم قبل وفاته بيوم تصدق بدنانير تسعة أو سبعة كانت عنده، ثم أعتق غلمانه وتحرر من قيود الدنيا، ولم يبق من ماله إلا بغلته وسيفه وشيئاً يتجمل به الأئمة والملوك بعده. ثم إنه عليه الصلاة والسلام في يوم الإثنين الذي مات فيه كشف ستار حجرة عائشة وأبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس فأطل عليه الصلاة والسلام عليهم وهو - كما يقول أنس - يتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وقرت عينه أن الأمة اجتمعت بعده على إمام واحد في صلاتهم، فاضطرب الناس وكادوا أن يفتنوا، ثم أعيد الستار كما كان ورجع صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، وخرج أبو بكر فرحاً إلى بيت له بالسنح بعوالي المدينة وتفرق الناس على الخير. (ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ابنته فاطمة فأسرها أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم قالت: واكرب أبتاه، قال: ليس على أبيكِ كرب بعد اليوم). ثم إنه عليه الصلاة والسلام دخل عليه أسامة وجعل يسأله الدعاء، فدعا له دون أن يرفع صوته وهو نبي الأمة ورأس الملة وسيد الفصحاء وإمام البلغاء. ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يد عبد الرحمن سواك، فجعل يحرك النظر فيه دون أن يستطيع أن يطلبه من عبد الرحمن ففهمت عائشة مراده، فأخذته من أخيها وقضمته وطيبته وأعطته نبينا عليه الصلاة والسلام فاستاك. وكان يضع يده في ركوة فيها ماء ويمسح بها وجهه الطاهر الشريف ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات فأعني على سكرات الموت). ثم جاءه الملك يخيره الملك وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، والملك يخيره وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في الملكوت الأعلى والمحل الأسنى صلوات الله وسلامه عليه. قال حسان: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً بها واراه في الترب ملحد وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد

أبناؤه صلى الله عليه وسلم

أبناؤه صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في أولاده. وله صلى الله عليه وسلم من البنين ثلاثة: القاسم: وبه كان يكنى، ولد بمكة قبل النبوة، ومات بها وهو ابن سنتين، وقال قتادة: عاش حتى مشى. وعبد الله: ويسمى الطيب والطاهر، لأنه ولد في الإسلام. وقيل: إن الطاهر والطيب غيره، والصحيح الأول. وإبراهيم: ولد بالمدينة، ومات بها سنة عشر، وهو ابن سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر. وقيل: كان له ابن يقال له: عبد العزى، وقد طهره الله عز وجل من ذلك وأعاذه منه]. بعد أن ذكر المصنف رحمه الله مولد النبي صلى الله عليه وسلم وحياته ووفاته ذكر جملة مما يتعلق بأولاده عليه الصلاة والسلام. والولد في اللغة إذا أطلق يراد به الذكر والأنثى سوياً، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فتعبير العامة أن فلاناً رزق ولد على أنه ابن غير صحيح من حيث اللغة، وعلى العموم فإنه عليه الصلاة والسلام رزق من الأولاد ذكوراً وإناثاً. بدأ المصنف رحمه الله بذكر الذكور الذين رزقهم عليه الصلاة والسلام وهم: القاسم، وهذا أكبر أبنائه، وأول من رزق على الأظهر، لكنه رزقه قبل أن يبعث، ومات وهو صغير، قيل: كان ابن سنتين. وقيل غير ذلك. وأياً كان؛ فإنه لم يدرك النبي عليه الصلاة والسلام وقد نبئ، وكان يكنى عليه الصلاة والسلام - كما مر معنا - بأبي القاسم. ورزق عبد الله بعد النبوة، ولذلك لقب عبد الله بالطيب والطاهر، لكن عبد الله هذا مات كذلك وهو صغير. ثم رزق إبراهيم من سريته مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس حاكم مصر، فتسراها عليه الصلاة والسلام فأنجب منها إبراهيم، وإبراهيم هذا عاش ثمانية عشر شهراً، ومات في شوال في السنة العاشرة قبل حجة الوداع، وهو الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون). وكانت له مرضعة اسمها فاطمة ترضعه في عوال المدينة، قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسولنا صلى الله عليه وسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى عوال المدينة فيحمل ابنه إبراهيم ويشمه ويضمه ويقبله، ثم فجع عليه الصلاة والسلام بوفاة ابنه إبراهيم فحزن قلبه ودمعت عيناه وقال: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون). وهذا من الدلائل على أن الإنسان مهما عظم شرفه وعظم قدره فإنه عرضة للبلاء، والصالحون أعظم عرضة، ونبينا عليه الصلاة والسلام إمام الصالحين وإمام الخلق أجمعين، فلم يكتب له أن يعيش له ولد كبير يعضده، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى. وإبراهيم عليه السلام مات وعمره ثمانية عشر شهراً، والله يقول في كتابه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وكذلك الناس يعطون ويمنعون ويحرمون ويأخذون، والداعية وطالب العلم والموفق المسدد لسبيل الله يعلم أن الدنيا أخذ وعطاء، وصبر وابتلاء، وقد جعل الله جل وعلا الدنيا سجناً للمؤمن وجنة للكافر. والمؤمن يأخذ من هذه العبر في وفاته عليه الصلاة والسلام ووفاة ابنه، وأنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، ولو لم يظفر طالب العلم بكلمة أعظم من هذه لكفى، لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، فأي عناء وأي مشقة تعتريك في طريقك إلى الله فتذكر جيداً أنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، لن ترتاح حتى تلقى الله تبارك وتعالى على الإيمان، أما دون ذلك فلا يمكن أن يصفو لك أمر لا القبر ولا القيام بين يدي رب العالمين، النبي عليه الصلاة والسلام دفن سعد بن معاذ، وذكر أنه شيعه سبعون ألف ملك من السماء ثم قال: (لقد ضم عليه القبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، فالمؤمن لا راحة له حتى يلقى الرب تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه.

بناته صلى الله عليه وسلم

بناته صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [البنات: زينب: تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها، وأمه هالة بنت خويلد، ولدت له علياً مات صغيراً، وأمامة التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وبلغت حتى تزوجها علي بعد موت فاطمة. وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين، ومحسناً - مات صغيراً - وأم كلثوم تزوجها عمر بن الخطاب، وزينب تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب]. بناته عليه الصلاة والسلام أربع: رقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة. ذكر المصنف أولهن زينب والأظهر أنها الكبرى، وهذه زينب رضي الله عنها وأرضاها تزوجها أبو العاص بن الربيع وكان مشركاً في أول الأمر ثم أسلم، وهي التي أهدتها أمها خديجة بنت خويلد قلادة يوم أن دخلت على زوجها، ثم لما كانت معركة بدر كان زوجها ضمن الأسرى الذين أسرهم المسلمون، فلما شرع الفداء ليفدوا سراهم أخرجت زينب بنت رسول الله هذه القلادة التي أعطتها إياها أمها خديجة لتفدي بها زوجها الكافر العاص بن الربيع. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة التي أهدتها زوجته خديجة أم زينب لـ زينب يوم زواجها دمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه وتحرك قلبه؛ لأنه تذكر أيام خديجة، والإنسان جبلة إذا رأى شيئاً يذكره بشيء قديم يحزن إذا كان أمراً محزناً ويفرح إذا كان أمراً مفرحاً. فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فهذا كله قبر مالك وزينب ولدت من العاص أمامة، وهي التي كان يحملها النبي صلى الله عليه وسلم. أما رقية فقد تزوجها عثمان رضي الله عنه وأرضاه. وأما فاطمة رضي الله تعالى عنها فقد تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي أصغر بناته على قول، وقول آخر أن أصغرهن أم كلثوم. وذكر المصنف رحمه الله أنها ولدت لـ علي الحسن والحسين ومحسن. ولما ولدت فاطمة ابنها الأول دخل النبي عليه الصلاة والسلام على علي وفاطمة، وقال: (أين ابني؟ ما سميتموه؟ قالوا: سميناه حرباً، قال: بل هو حسن). فلما حملت بـ الحسين وولدت قال: (أين ابني؟ ما سميتموه؟ قالوا: سميناه حرباً، قال: بل هو الحسين). فلما ولدت الثالث قال: (ما سميتموه؟ قالوا: حرباً) وكأن اسم حرب كان علي وفاطمة يحبان أن يسميا به ولداً لهما. (قالوا: سميناه حرباً، قال: لا، بل هو م حسن، ثم قال: سميتهم بولد نبي الله هارون: بشار وبشير ومبشر). هذا م حسن مات وهو صغير، وبقي الحسن والحسين ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا. ثم قال المصنف: وأم كلثوم تزوجها عمر بن الخطاب، وليست هذه أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أم كلثوم بنت علي أخت الحسن وأخت الحسين، وهي بنت علي بن أبي طالب من فاطمة، ولدت في السنة السادسة من الهجرة، أي: أنه مات النبي صلى الله عليه وسلم وعمرها أربع سنوات، وتزوجها عمر رضي الله عنه وأصدقها أربعين ألفاً، وكان يريد أن يحظى بقرابة من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عثمان بن عفان فماتت عنده، ثم تزوج أم كلثوم فماتت عنده، وولدت رقية ابناً فسماه عبد الله، وبه كان يكنى. فالبنات أربع بلا خلاف، والصحيح من البنين أنهم ثلاثة، وأول من ولد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم في الإسلام عبد الله، ثم إبراهيم بالمدينة. وأولاده كلهم من خديجة إلا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية، وكلهم ماتوا قبله إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر]. ذكر المصنف ما تبقى من البنات وهن رقية وأم كلثوم، تزوج رقية عثمان، فماتت عنده، أي: تحته. ماتت في أيام غزوة بدر؛ ولذلك لم يشهد عثمان رضي الله عنه غزوة بدر لأنه يمرض زوجته رقية، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم وجدها قد ماتت، ثم زوجه النبي عليه الصلاة والسلام أختها أم كلثوم، ثم ماتت عنده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لقب عثمان بذي النورين؛ لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال المؤرخين: إنه لا يوجد أحد من أهل الأرض جمع الله له ابنتي نبي تحت سقف واحد إلا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه. ثم ذكر فاطمة رضي الله عنها وهي أحب بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه، والإمام الذهبي لما ترجم لها في الأعلام قال: هي البضعة النبوية والجهة المصطفوية. وكانت أشبه الناس مشية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويجلها ويعظمها، وإذا دخلت قام لها ويقبلها ويضمها ويقول: (فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها ويضيرني ما أضرها) أو كلمة نحوها. وأنجب منها علي الحسن والحسين، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب الحسن والحسين حباً جماً، وكان يضعهما على كتفيه ويقبل هذا مرة وهذا مرة ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما). وقال: (هما ريحانتاي من الدنيا). وقطع خطبته وهو على المنبر لما دخلا المسجد ورآهما يمشيان فيعثران، فقطع الخطبة ونزل وحملها ووضعهما بين يديه، ثم جلس إلى الناس وقال: (صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، لقد نظرت إلى ابني هذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما). ومن الناس خطأ أو جهلاً يتباعد عن أن يسمي أولاده بـ الحسن والحسين، ويقول: إن هذا تقرب من الشيعة، والحق لا يترك إذا تلبس به أهل الباطل، فتسمية الحسن والحسين تسمية نبوية لا يمكن أن تترك لأن أحداً مبغوضاً فعلها. وكذلك ترك الناس التسمية بأسماء بعض آل البيت كقاسم والعباس وفضل، قلما يوجد هذا بين الناس رغم أنها أسماء لآل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على حب آل بيته وعلى نصرتهم وعلى موالاتهم في أحاديث، منها أنه قال: (تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي فإنهما لم يختلفا حتى يردا علي الحوض). لكن حب آل البيت يكون مميزاً بالضوابط الشرعية، ويكون المؤمن فيهم لا مجاف ولا مغال كما هو ديدن المسلم في سائر أمره، والله أعلم.

حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

حجه وعمَره صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في حجه وعمره. روى همام بن يحيى عن قتادة قال: قلت لـ أنس: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم من حجة؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: عمرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته. صحيح متفق عليه. هذا بعد قدومه المدينة، وأما ما حج بمكة واعتمر فلم يحفظ، والذي حج حجة الوداع ودع الناس فيها، وقال: (عسى ألا تروني بعد عامي هذا)]. بعد أن ذكر المصنف أولاده عليه الصلاة والسلام ذكر حجه وعمرته. ذكر الحج والعمرة لأنها لا تفعل -عادة- بكثرة، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم ويصلي بين الناس بشكل يرونه يومياً، ثم بين ماذا كان من حجه وعمرته عليه الصلاة والسلام كما سمعتم. والنبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، العمرة التي كانت في عام الحديبية سنة ست، أحرم من ذي الحليفة من المدينة، وانطلق إلى مكة، فلما وصل إلى الحديبية بركت الناقة، فقال الصحابة: خلأت القصواء! فقال: (والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، والذي نفسي بيده! لا يسألونني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها). فبين عليه الصلاة والسلام عظمة حرمة البيت، وكانت إشارة من الله أنه لم يدخل البيت، وقول الصحابة: خلأت القصواء بمعنى: بركت من غير علة ظاهرة. وقال عليه الصلاة والسلام: (حبسها حابس الفيل) أي: أن بيت الله عظيم. فطلبت منه قريش ألا يدخل مكة في صلح الحديبية المشهور، فقبل عليه الصلاة والسلام ورضي، وهذا يجب أن يفقهه كل من يدعو إلى الله، فلا ينتصر لنفسه، فليس شيئاً تلذذت به لا بد أن تمضيه، بل انظر أين مصلحة الإسلام، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يحرم من ذي الحليفة ويقطع كل هذه المسافات حتى يصل إلى مكة، ثم يقبل أن يحل إحرامه ويرجع كما جاء من غير أن يدخل مكة؛ لأنه رأى أن الصلح فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، وكأن صلح الحديبية فتحاً عظيماً، فقد دخل كثير من الناس في دين الله أفواجاً، فأنزل الله عليه وهو راجع إلى المدينة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]. ولما أمر الصحابة أن يحلوا إحرامهم لم يستجيبوا، ولا يعني هذا أنهم كانوا يعاندون النبي عليه الصلاة والسلام، حاشاهم، وإنما قد لا يطيعك من يحبك ويتغلب عليه حال السفيه، فلما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلوا إحرامهم لم يفعل أحد، فدخل على أم سلمة فأخبرها بما لقي من الناس، فـ أم سلمة تعلم محبة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام فأشارت عليه أن يحلق رأسه وينحر الهدي، فحلق رأسه ونحر الهدي، فاستجاب الصحابة؛ لأنهم رأوا أنه أمر واقع، فحلقوا رءوسهم ونحروا هديهم حتى أصابهم الغم وكاد يقتل بعضهم بعضاً. وهذه العمرة لم تتم، لكن المصنف ذكرها كما ذكرها أهل السير من قبل؛ لأنه أحرم بها صلى الله عليه وسلم. وكان من شروط صلح الحديبية أن يعود صلى الله عليه وسلم ثم يعتمر من العام القابل، فلذلك دخل مكة في العام التالي في السنة السابعة، أحرم من ذي الحليفة ودخل مكة وأقام فيها ثلاثة أيام، فهذه أول عمرة أداها النبي صلى الله عليه وسلم كاملة في الإسلام. والعمرة الثالثة كانت بعد غزوة حنين، حيث نزل عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة وهي حل خارج مكة ودخل مكة ليلاً، ثم اعتمر ورجع في نفس الليلة أو في صباحها إلى الجعرانة وأكمل مسيره بعد ذلك إلى المدينة، وإحرامه من الجعرانة دليل على أن الجعرانة حل؛ لأنها لو كانت حرماً لما جاز أن يحرم منها. وابن القيم رحمه الله تعالى أغلظ كثيراً في زاد المعاد على ما كان يصنعه أهل مكة في أيامه من أنهم كانوا يحرمون من الجعرانة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها لأنها وافقت محله. وبعض المالكية يقول: إن الجعرانة هي أفضل حل على وجه الأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يحرم عليه الصلاة والسلام من حل إلا الجعرانة، ولما أحرم من المدينة فالمدينة حرم، وأحرم بالحج من مكة ومكة حرم، ولم يحرم من حل إلا من الجعرانة، هذه الفضائل قد يصيب أصحابها وقد لا يصيبون. العمرة الرابعة كانت مع حجته؛ لأنه حج قارناً عليه الصلاة والسلام. من هذا يتحرر أن العمر الثلاث كلهن كن في شهر ذي القعدة، حتى عمرة الحج أحرم بها في شهر ذي القعدة لكنه لم يؤديها إلا في شهر ذي الحجة، لأنه ما وصل مكة إلا قد ودخل هلال شهر ذي الحجة. هذه الأربع العمر التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، أما الحج فلم يحج في الإسلام إلا حجة واحدة سميت بحجة الوداع؛ لأنه ودع الناس فيها، وهي حجة عظيمة علم عليه الصلاة والسلام أنه لن يحج غيرها فأعلن للناس أنه سيحج، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم بحجته عليه الصلاة والسلام، وفيها كثير من الفوائد، فقد ذكر في خطبته فيها كثيراً من قواعد الدين، وأوصى بالنساء خيراً، وجعل ربا الجاهلية تحت قدميه، وأقام كثير من قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأعراض والأموال، وهي حجته صلوات الله وسلامه عليه، والله أعلم إن كان قد حج عليه الصلاة والسلام أو اعتمر قبل الإسلام وهو في مكة، وما ينقل من ذلك هو بطرائق غير صحيحة أو غير مكتملة السند فلا نستطيع أن نحكم عليه بالصحة.

[ذكر سلاحه صلى الله عليه وسلم والانتهاء من شرح المتن]

سلسلة السيرة النبوية [ذكر سلاحه صلى الله عليه وسلم والانتهاء من شرح المتن] وصَف الصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام كأنك تراه، فذكروا صفة وجهه وعينيه ولونه ولحيته وجسمه وشعره، حتى ذكر صفة عرقه ومشيته وكلامه وغير ذلك من صفاته الخلقية، وكذلك ذكروا صفاته الخُلقية التي تدل على حسن أخلاقه وكريم طباعه. وقد أيد الله رسوله بكثير من المعجزات ودلائل النبوة التي تدل بما لا يدع مجالاً للشك على صدق نبوته.

سلاح النبي عليه الصلاة والسلام

سلاح النبي عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي لا رب غيره، ولا إله سواه، والصلاة والسلام على عبده ونبيه ومصطفاه. أما بعد: فهذا بعون الله تعالى خاتمة دروس التعليقات على متن الدرة المضيئة في السيرة النبوية للحافظ المقدسي رحمه الله تعالى. وسنشرع اليوم إن شاء الله تعالى في ختم الكتاب وإتمامه، وقد يقول قائل: كيف يُدرَّس في يوم واحد ما درِّس قرابته في أسبوع كامل؟ فحتى يزل اللبس نقول: إن المتبقي من الكتاب أكثره يتعلق بالعشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وأما ما يتعلق بصفته صلى الله عليه وسلم فهذا سنقف عنده كثيراً، على أننا اليوم إن شاء الله سنغير في الطريقة، ونعتذر للأخ الذي يقرأ، فسأقرأ أنا حتى لا يذهب الوقت، سأقرأ بنفسي ثم نعلق تعليقات ذات فائدة، ونطالب بتدوينها. فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى: وصلنا إلى ذكر سلاحه صلى الله عليه وسلم، قال المصنف رحمه الله: [وكانت له ثلاثة رماح أصابها من سلاح بني قيقناع، وثلاثة قسي؛ قوس اسمها الروحاء، وقوس شوحط، وقوس وصفراء تدعى الصفراء، وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش فكره مكانه فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل، وكان سيفه ذو الفقار تنفله يوم بدر، وهو الذي رأى فيه رؤيا يوم أحد، وكان لـ منبه بن الحجاج السهي. وأصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيف قلعي، وسيف يدعى بتاراً، وسيف يدعى الحتف. وكان عنده بعد ذلك المخذم ورسوب أصابها من الغلس، وهو صنم بطيء. وقال أنس بن مالك: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وقبيعته فضة، وما بين ذلك حلق فضة. وأصاب من سلاح بني قينقاع درعين، درع يقال لها: السعدية، ودرع يقال لها: فضة. وروي عن محمد بن سلمة قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين: درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسعدية]. النبي عليه الصلاة والسلام كان إمام المجاهدين, ولا يمكن أن يكون إمام المجاهدين حتى يكون لديه سلاح، وهذه الأسلحة التي ذكرت ونقلت عنه صلى الله عليه وسلم نقلت بأسانيد، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو دون ذلك، لكنها جملة قبلت عند العلماء وتناقلوها، هذا الفكرة الأولى في الموضوع. وسيفه ذو الفقار كان لا يكاد يفارقه صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه كان يحمله كثيراً، ولذلك قال المصنف: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، أي: قبل معركة أحد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السيف ثلمة يعني: شبه كسرة. وسيف الإنسان هو الذي يدفع به عن نفسه، فأول بأنه قتل أحد عصبته، وكان ذلك مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه شهيداً. وقد بقراً تنحر، وأول هذا بموت في أصحابه. وقد كان له صلى الله عليه وسلم يقال له: مأثور ورثه عن أبيه، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث هذا عن أبيه عبد الله، أي: أن مأثور في الأصل كان لـ عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أهم الفوائد: أنه مر معنا ذكر السلاح، وذكر الدواب والإماء والموالي والعبيد، فأين ذهبت هذه الإماء والعبيد والسلاح والدواب التي ذكرناها جميعاً؟ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه مات ولم يترك ديناراً ولا درهماً، وأن درعه كانت مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، وأن جميع ما ذكر من العبيد والإماء والدواب والسلاح قد أنجز التصدق به صلى الله عليه وسلم قبل موته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).

صفاته الخلقية عليه الصلاة والسلام

صفاته الخَلقية عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في صفته صلى الله عليه وسلم. روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينشد قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان حيث يقول: لو كنت من شيء سوى بشر كنت المضيء ليلة البدر ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كذلك غيره]. ما ذكره المصنف هنا فيه نظر؛ لأن أبا بكر لا يعرف عنه الشعر، لكن المعنى صحيح، وقد لا يصح نسبة هذا إلى أبي بكر لكن المعنى صحيح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربًا بحمرة)]. الأبيض إما أن يكون أبيض أمهق فيكون بياضه غير ممدوح، ولكن بياضه صلى الله عليه وسلم كان كما قال علي: (مشرب بحمرة) أي: مخلوطاً بحمرة. قال: (أدعج العينين) بمعنى: شديد سواد العينين. (سبط الشعر) أي: أن شعره ليس مسترسلاً، واليوم العامية يقولون: ناعم، أي: أن شعره صلى الله عليه وسلم ليس مسترسلاً تماماً ولا ملتوياً. (كث اللحية اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة) بالسين وليست بالشين، والمقصود الشعر الممتد من أعلى الصدر إلى أدنى السرة. (ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره) وهذا واضح. (شثن الكفين والقدمين) أي: غليظ أصابع الكفين وغليظ أصابع القدمين. (إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعاً) هذه واضحة، والصبب المكان العالي. (كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالفاجر ولا اللئيم) هذه واضحة جداً. (لم أر قبله ولا بعده مثله) القائل هو علي بن أبي طالب. وفي لفظ لـ علي قال: (بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، وأجود الناس كفاً). خاتم النبوة شعيرات كانت بين الكتفين من الخلف، وهي إلى جهة الشمال أقرب. وأجود الناس كفاً كناية عن الكرم. (وأوسع الناس صدراً) هذه ظاهرة، (وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة) عِشرة بالكسر وليس بالضم. (من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم). وقال البراء بن عازب وهو صحابي معروف: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً) أي: لا بالطويل ولا بالقصير. (بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه). مربوعاً أي: ما بين الطول والقصر. (بعيد ما بين المنكبين) المقصود أن صدره وظهره ممتد. (له شعر يبلغ شحمة الأذن). (رأيته في حلة حمراء) الحلة: الثوب المكون من قطعتين الإزار والرداء. (لم أر شيئاً قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم) لم أداة جزم ونفي، وجاء بقط لأنه نفى شيئاً ماضياً، ولو أراد أن ينفي شيئاً في المستقبل يأتي بأبداً. [وقالت أم معبد الخزاعية في صفته صلى الله عليه وسلم]. أم معبد رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، في طريقه من مكة إلى المدينة مر على أم معبد، وأم معبد امرأة من خزاعة، كان لها خيمتان تكرم وتقرئ الأضياف، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ضيفاً عندها، وقصة شاتها معروفة. جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به وأفلح من أمسى رفيق محمد وأم معبد كانت خزاعية فصيحة، فلما جاء زوجها سألها فأجابته بقولها: (رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة). الثجلة: الضخامة في البدن. والصعلة: صغر الرأس. فهو عليه الصلاة والسلام ضخم إلى حد لا يعاب، ولم يكن صغير الرأس إلى حد يعاب. (قسيمًا، في عينيه دعج -أي: سواد- وفي أشفاره غطف -الأشفار: شعر الجفن-). (وفي صوته صحل) أي: في صوته بحة. (وفي عنقه سطع) أي: نور، يقصد أن عنقه منير. (وفي لحيته كثاثة) هذه واضحة أي: كثرة. (أزج أقرن) معنى أزج: أن خيط الجفن دقيق قليلاً، أما قولها: (أقرن) فهذا لا يقبل، فإما أن يكون خطأ منها، وإما أن يكون خطأً من الرواة الذين نقلوا؛ لأن معنى أقرن: أن يكون الحاجبان ملتصقين بعضهما ببعض، وهذا عيب مذموم عند العرب قديماً، ولا يعاب الرجل إذا وجد فيه هذا؛ لأن هذا خلق الله، لكن الله جل وعلا لا يجعل نبيه بهذا الأمر. وقد ورد في وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه كان أزج في غير قرن، هذا محفوظ وما أدري إن كان المصنف ذكره أو لا. (إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء) هذه ظاهرة. (أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تحدرت، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصناً بين غصنين) تعني بالغصنين أبا بكر وعامر بن فهيرة. (وهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود) المحفود من يعظمه أصحابه من حوله، ويسارعون في طاعته. ومحشود أي: يجتمع إليه الناس. (لا عابس ولا مفند) التفنيد: الصد الرد التهجين، ومعنى: (لا عابس ولا مفند) أي: جميل المعاشرة لا يهجن أحداً ولا يحتقره عليه الصلاة والسلام. أي: جميل المعاشرة لا يهجن أحداً ولا يحتقره. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان ربعة من القوم) ربعة خبر كان منصوب. (كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم) الآدم: من يميل إلى السمرة، أي: أن بياضه صلى الله عليه وسلم كان مشرباً بحمرة، والأبيض الأمهق: الكريه البياض. فائدة: مَن مِن الأنبياء كان يميل إلى السمرة؟ موسى، لذلك جعل الله من معجزاته أن يده تكن بيضاء من غير سوء. (وليس بجعد، ولا قطط، ولا سبط، رجل الشعر) أي: ليس مسترسلاً. وقال هند بن أبي هالة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماًَ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب) المشذب يعني: الطويل. (عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون) أي: بياضه معقول. (واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين) العرنين الذي ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه. (كث اللحية، أدعج العينين، سهل الخدين، ضليع الفم) أي: واسع الفم، وكان هذا عنواناً عند العرب على الفصاحة والبلاغة. (أشنب، مفلج الأسنان) أشنب يعني: جميل الفم، مفلج الأسنان أي: الثنايا كان بينهما فلجة، ولم تكن متلاصقة. (دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً متماسكاً، سواء البطن والصدر) كل إنسان له بطن، لكن ليس كل إنسان يوصف بأن له كرشاً، فإذا برزت البطن تسمى كرشاً، أما إذ لم تبرز فهي بطن. (سواء البطن والصدر، مسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس) الكراديس: رءوس العظام، فعظم الركب مثلاً تسمى كراديس (أنور المتجرد). أي: المواطن التي لا شعر فيها من جسمه تظهر كأن لها نوراً. (موصول ما بين اللبة والسرة) هي الفتحة التي في أسفل الرقبة، أي: من لبته إلى سرته صلى الله عليه وسلم شعر يجري كالخط، وباقي صدره ليس فيه شعر ولذلك قال: (عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك) مما سوى ذلك أي: من الشعر. (أشعر الذراعين والمنكبين) في الذراع والمنكب كان صلى الله عليه وسلم أشعر. (عريض الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين) مرت. (والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين) الأخمص من القدم في باطنها، وهو ما لا يصيب الأرض، هذا طبيعة الإنسان، لكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان غير أخمص أي: أن قدمه كانت سواء. (مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعاً، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذريع المشية) ذريع المشية أي: أن مشيته متباعدة. (إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف) أي: النظر. (نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء) وهذا كناية عن التواضع. (جل نظره الملاحظة) ما يدقق. (يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام) صلوات الله وسلامه عليه.

صفات الخلقية عليه الصلاة والسلام

صفات الخُلقية عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في أخلاقه صلى الله عليه وسلم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان أسخى الناس، ما سئل شيئًا قط، فقال: لا. وكان أحلم الناس] إلا أن أوج سخائه كان يظهر في رمضان إذا لقيه جبريل. [وكان أحلم الناس، وكان أشد حياءً من العذراء في خدرها، لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم. وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، والقريب والبعيد والقوي والضعيف عنده في الحق واحد]. وهذا أمر لا خلاف فيه، فالله جل وعلا زكى بصره وزكى قلبه وزكى لسانه وزكى خلقه، زكى الله لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله قلبه فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكى الله بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكى الله خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وهذه مجملة، وجاء تفصيلها في آيات أخر. [ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه، ولا يأكل على خوان] الخوان المائدة التي يوضع عليها الطعام، ويعبر عنها أحياناً بالطاولة. قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح: (ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط). [ولا يمتنع من مباح، إن وجد تمراً أكله، وإن وجد خبزاً أكله، وإن وجد شواءً أكله]. وهذا يدل على عدم التكلف، فقد كان لا يرد موجوداً، ولا يطلب مفقوداً. [إن وجد خبز بر أو شعير أكله، وإن وجد لبن اكتفى به، أكل البطيخ بالرطب] المقصود بالبطيخ هنا الخربز، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل البطيخ بالخربز، وقالت عائشة: أكل البطيخ الأصفر بالخربز، وجاءت رواية ثالثة: أكل الخربز بالرطب، وهذا حديث أنس: (أكل الخربز بالرطب)، لماذا جمع بين الخربز والرطب؟ لأن الرطب حار، والبطيخ بارد، وقال صلى الله عليه وسلم: (نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا). [(وكان يحب الحلواء والعسل)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير)، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء. يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة]. هو وآل بيته لا يأكلون الصدقة، وكان إذا أخذ هدية يكافئ عليها، وأغلب أحواله أن يرد الهدية بأكثر منها. [يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، ويكافئ على الهدية، ولا يتأنق في مأكل ولا ملبس، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد. وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويعود المرضى، وكان أشد الناس تواضعًا، يجيب من دعاه من غني أو فقير أو دنيء أو شريف] لا يفرق. [وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحتقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، وكان يركب الفرس والبعير والحمار والبغلة] هذا كله دليل على عدم التكلف. [ويردف خلفه عبده أو غيره، لا يدع أحداً يمشي خلفه، ويقول (خلوا ظهري للملائكة)، ويلبس الصوف وينتعل المخصوف، وكان أحب اللباس إليه الحبرة] الحبرة الثياب المعلمة ذات الخطوط وهي من برود اليمن فيها حمرة وبياض. [خاتمه فضة، فصه منه، يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها. وكان يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، أكثر الناس تبسمًا، وأحسنهم بشراً، مع أنه كان متواصل الأحزان دائم الفكر، وكان يحب الطيب، ويكره الريح الكريهة، يستألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه. يرى اللعب المباح فلا ينكره، يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويقبل معذرة المعتذر إليه. له عبيد وإماء، لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، ولا يمضي له وقت في غير عمل لله أو فيما لابد له ولأهله منه، رعى الغنم، وقال: (ما من نبي إلا وقد رعاه). (وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلقه القرآن). يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه. وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط كانت أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف قط، ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا؟). قد جمع الله له كمال الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله علم الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلم له من البشر، نشأ في بلاد الجهل والصحاري، آتاه الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، فصلوات الله عليه دائمة إلى يوم الدين]. هذا كله ظاهر.

معجزاته عليه الصلاة والسلام

معجزاته عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم. فمن أعظم معجزاته وأوضح دلالاته القرآن العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي أعجز الفصحاء، وحير البلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سورة مثله، أو بسورة أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون والملحدون]. القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو معجز في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم [وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فرقتين؛ وهو المراد بقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منه) وصدق الله قوله بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال]. هذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديداً، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان. [وكان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حن الجذع حنين العشار، حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّت، ثم سكن. ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة]. هذه اختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين: القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلاً من بين أصابعه، أي: خرج من بين أصابعه. القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام، ولما وضع أصابعه تكاثر الماء، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لما وضع أصابعه في الماء تكاثر الماء لبركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبع حقيقي من أصابعه. والقول الأول هو الأظهر، وعليه الأكثرون من العلماء، ولا مانع يمنعه. [وسبح الحصى في كفه، ثم وضعه في كف أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فسبح، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل. وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث. وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو بعده أربع سنين]. الذي مات معه هو بشر بن البراء رضي الله عنه. [وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها، وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد فخدشه خدشاً يسيراً فمات. وقال سعد بن معاذ لأخيه لـ أبي بن خلف: سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك، فقتل يوم بدر كافراً. وأخبر يوم بدر بمصارع المشركين فقال: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فلم يعدو واحد منهم مصرعه الذي سماه. وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال. وقال لـ عثمان: إنه سيصيبه بلوى؛ فقتل عثمان. وقال للحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين) فكان كذلك. وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن. وبمثل ذلك في قتل كسرى. وأخبر عن الشيماء بنت بقيلة الأزدية أنها رفعت له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت في زمن أبي بكر الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة. وقال لـ ثابت بن قيس بن شماس: (تعيش حميداً وتقتل شهيداً) فعاش حميداً، وقتل يوم اليمامة شهيدًا. وقال لرجل ممن يدعي الإسلام وهو معه في القتال: (إنه من أهل النار) فصدق الله قوله بأنه نحر نفسه]. الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: غيب يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله: قصة يوسف وإخوته، أصحاب الكهف، قوم نوح، قوم عاد، هذا كله إخبار عن غيب سبق. الثاني: إخباره عن غيب وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، وإخباره بـ الأسود العنسي، ومقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي، هذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم. الثالث: إخباره بغيب وقع بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، مثل قوله: (إن ابني هذا سيد)، وإخباره سراقة بن مالك أنه يلبس سواري كسرى، وأشراط الساعة ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. [ودعا لـ عمر بن الخطاب فأصبح عمر فأسلم. ودعا لـ علي بن أبي طالب أن يذهب الله عنه الحر والبرد فكان لا يجد حراً ولا برداً. ودعا لـ عبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فكان يُسمى الحبر والبحر لكثرة علمه. ودعا لـ أنس بن مالك بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكراً لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها. وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام. وشكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر، فدعا الله عز وجل وما في السماء قزعة فثار سحاب أمثال الجبال، فمطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكي إليه كثرة المطر فدعا الله عز وجل فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس. وأطعم أهل الخندق - وهم ألف - من صاع شعير أو دونه وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان. وأطعم أهل الخندق أيضاً من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة. وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من تمر كالفصيل الرابض، فزودهم وبقي كأنه لم ينقص تمرة واحدة. وشهد الذئب بنبوته]. شهادة الذئب بنبوته رواها الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [ومر في سفره ببعير يستقي عليه فلما رآه جرجر ووضع جرانه فقال: (إنه شكا كثرة العمل وقلة العلف). ودخل حائطًا فيه بعير] الحائط أي: البستان. [فلما رآه حنه وذرفت عيناه، فقال لصاحبه: (إنه شكا إلي أنك تجيعه وتؤدبه). ودخل حائطًا آخر فيه فحلان من الإبل وقد عجز صاحبهما عن أخذهما، فلما رآه أحدهما جاءه حتى برك بين يديه فخطمه ودفعه إلى صاحبه، فلما رآه الآخر فعل مثل ذلك]. هذه كلها أخبار تدل على ما سخره الله جل وعلا له صلوات الله وسلامه عليه. [وخرج على مائة من قريش وهم ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ومضى ولم يروه. وتبعه سراقة بن مالك بن جعشم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه، فساخت يدا فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له فدعا له فنجاه الله. وله صلى الله عليه وسلم معجزات باهرة، ودلالات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، واختصرنا منها على هذا تحقيقاً]. وفي ختام هذا اللقاء أشهد الله على حبكم، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، وسلامة الصدر لجميع المؤمنين، والسعي بالعمل بما نعلم عل الله جل وعلا أن يبلغنا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

§1/1