التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة ت الفريح

أبو يعلى ابن الفراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّعْلِيقُ الكَبِيرُ فِي المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الأَئِمَةِ [1]

دَارُ النَّوادِر المؤسس والمالك نُورُ الدِّين طَالِبُ مؤسسة ثقافية علمية تُعنى بالتراث العربي والإسلامي والدراسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة بالعلوم الشرعية واللغوية والإنسانية تأسست في دمشق سنة 1422 هـ - 2002 م، وأُشهرت سنة 1426 هـ - 2006 م. سوريا - دمشق - الحلبوني: ص. ب: 34306 00963112227001 00963112227011 00963933093783 00963933093784 00963933093785 Skype: dar.alnawader Twitter: daralnawader.com Facebook: daralnawader.com YouTube: daralnawader.com Instagram: daralnawader.com LinkedIn: daralnawader.com E-mail: [email protected] website: www.daralnawader.com جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة يُمنع طبع هذا الكتاب أو أي جزء منه بكافة طرق الطبع والتصوير والنقل والترجمة والتسجيل المرئي أو المسموع أو استخدامه حاسوبيًا بكافة أنواع الاستخدام وغير ذلك من الحقوق الفكرية والمادية إلا بإذن خطي من المؤسسة. الطَّبْعَةُ الأُولَى 1435 هـ - 2014 م شركات شقيقة دار النوادر اللبنانية - لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 4462 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) دار النوادر الكويتية - الكويت - ص. ب: 1008 - هاتف: 22453232 - فاكس: 22453323 (00965) دار النوادر التونسية - تونس - ص. ب: 106 (أربانة) - هاتف: 70725547 - فاكس: 70725547 (00216)

مقدمة التحقيق

شكر وتقدير إن مما لا شك فيه أن صاحب الفضل لا بد أن يُجازى على فضله، وصاحب الإحسان لزامًا أن يُذكر إحسانُه. فأول الشكر وآخره، وظاهرُه وباطنُه لله وحده لا شريك له، فله الحمد كله. ثم للأبوين الكريمين اللذين ربياني صغيرًا، وبذلا لي النصح كبيرًا، فما البحثُ وصاحبه إلا ثمرة من ثمارهما، فأسأل اللهَ أن يعظم أجرهما، ويرفع ذكرهما، ويحسن عاقبتهما، ويرزقني رضاهما، والقيام بحقهما. ثم أشكر هذا البلدَ الكريم (المملكةَ العربيةَ السعودية) بلدَ التوحيد والسنة التي نشرت العلم، ودعت إليه، ودفعت الأموال التي لا تكاد تحصى في إقامةِ حصونِ العلم وقلاعه، ولو لم يأت من حسنات هذا البلد إلا إقامةُ التوحيد، وقمعُ الشرك، لكانت حسنة، لا تساويها حسنة حتى قال الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: (العداءُ لهذه الدولة عداء للتوحيد، عداء للحق؛ أي: دولة تقوم بالتوحيد)، وقال علامة العراق الشيخ محمد بهجة الأثري - رحمه الله -: (أنشأ الله الدولة العربية الإسلامية

التوحيدية في جزيرة العرب بعد غيابٍ عنها دام أكثرَ من ألف عامٍ، وذلك لتعودَ جزيرةُ العرب كما بدأت مركزَ إشعاع على العالم). ا. هـ (¬1). وممن لا يُنسى فضلُه، ولا يُنكر معروفه، معالي الشيخِ الأستاذِ الدكتورِ/ سليمانَ بنِ عبدِ الله أبا الخيلِ، الذي قامَ بالإشراف على هذه الرسالة فغفر الله له ولوالديه، وسدد خطاه، وأعانه وأمده بالتوفيق. والشكرُ موصول لكل من أعانني في هذه الرسالة، وأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء. وأخيرًا ... لا يسعني إلا أن أشكر جامعتَنا الوثابةَ جامعةَ الإمامِ محمد بن سعود الإسلامية على ما تبذله من خدمات مشكورة، كما أشكر القائمين على المعهد العالي للقضاء ممثلًا في عميده الوقور، ووكيليه المفضالين، ورئيسِ قسم الفقه، وبقيةِ أعضاءِ القسم من المشايخ الكرام على تواضعهم، وحسنِ تعاملهم، وكريمِ خلقهم. وأقول كما قال ياقوت الحموي: (ومن ذا الذي أُعطي العصمة، وأحاط علمًا بكل كلمة، ومن طلب عيبًا وجده، فإنني أهل لأن أَزِلّ، وعن درك الصواب بعد الاجتهاد أَضِلّ، فمن أراد منا العصمة، فليطلبها لنفسه أولًا، فإن أخطأته، فقد أقام عذره وأصاب، وإن زعم أنه أدركها، فليس من أهل الخطاب) (¬2). ¬

_ (¬1) محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث ص 28. ت/ أحمد التويجري. (¬2) معجم البلدان (1/ 13).

وختامًا ... هذا ما تيسر القيام به في هذه الرسالة، وحسبي أني بذلت فيها طاقتي، مع قلةِ خبرتي، وقصر نظري، وأحمد الله على ما فيها من جودة عمل، وأستغفره على ما جاء فيها من زلل، معتذرًا لقارئها عما يراه فيها من عيب أو خلل، وعذري أني من جملة البشر أخطئ وأصيب، فما كان من خطأ، فمني ومن الشيطان، وما كان من صواب، فمن الله وحده سبحانه. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. * * *

القسمُ الأَوَّل القِسْمُ الدِّرَاسِي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقَدِمَة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن من أعظم نعم الله - جل وعلا - على عبده أن يوفقه للفقه في دينه، ولا يتأتى ذلك إلا بطلبه، والاجتهاد في تحصيله بالطرق السليمة، والسبل المستقيمة؛ بأخذه عن أهله، إما مباشرة، أو من خلال كتبهم ومؤلفاتهم الموروثة عنهم، فقد منَّ الله على المسلمين بعلماء أفنوا أعمارهم في نشر الدين وبيانه باللسان والبنان - فضلًا عن السنان -، فكتبوا في علوم الدين وفنونه المختصرات والمطولات، والشروح والتعليقات، وأثْرَوا المكتبة الإسلامية بصنوف من المصنفات النافعة، نسأل الله أن يثيبهم عليها، وينفعنا بها. وإن من تلك المصنفات النافعة التي قلَّ نظيرها كتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة"، وهو كتاب فقهي، سطره شيخ الحنابلة في زمانه القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء - رحمه الله -

أهمية الموضوع

المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربع مئة من الهجرة النبوية، والذي كان يُظَن أنه من المفقودات، حتى اكتُشفتْ منه أجزاء متفرقة، حُقِّق بعضها، وبقي هذا الجزء لم يُهتد إليه، ولم يُدر عنه أنه موجود، بل كان يظن أنه من أجزاء الكتاب المفقودة، حتى من كتَبَ عن المذهب الحنبلي ومخطوطاته، ذكر الأجزاء التي حققت فيما بعد، ولم يتعرض لهذا الجزء بذكر، ظنًا منه أنه من المفقودات (¬1)، وذلك ما دفعني لأتقدم لتحقيق هذا الجزء في رسالة الدكتوراه؛ ليرى النور، ويستفيد منه أهل العلم. * * * * أهمية الموضوع: تبرز أهمية موضوع الدراسة والتحقيق من عدة جهات: الأولى: أنه جزء من سِفْرٍ عظيم، تصدى فيه مؤلفه لذكر الخلاف في المسائل التي يعرضها بين أئمة المذاهب الأربعة، وغيرهم، فجمع فيه من المسائل الشيء العظيم. الثانية: أن مؤلفه متقدم في زمانه، وله المكانة العلمية التي لا تخفى، حيث انتهت إليه رئاسة المذهب الحنبلي في وقته، فكان لترجيحاته، وآرائه، ونقولاته شأن كبير. الثالثة: أهمية هذا الكتاب، وذلك من وجوه: ¬

_ (¬1) ينظر على سبيل المثال: المدخل المفصل (2/ 709)، والمذهب الحنبلي (2/ 80)، وكتب الفقه الحنبلي وأصوله المخطوطة ص 38.

1 - حِرْصُ العلماء من قديم الزمان على اقتناء هذا الكتاب، والثناء عليه - كما سيأتي -. 2 - استفادة أهل العلم منه، والإحالة عليه، فقلَّ أن تجد كتابًا من كتب الحنابلة ممن عُنيت بالخلاف إلا وفي مقدمة الكتب التي نَقَل عنها العلم كتاب "التعليق الكبير". 3 - توصية أهل العلم به، والإرشاد إليه؛ فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) عن معرفة المذهب في مسائلَ، الخلافُ فيها مطلق في "الكافي" و"المحرر" و"المقنع" و"الرعاية"، وغيرها، فقال: (طالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أُخَر، مثل كتاب "التعليق" للقاضي، و"الانتصار" لأبي الخطاب ... وغير ذلك من الكتب الكبار التي يُذكر فيها مسائل الخلاف، ويُذكر فيها الراجح) (¬2). ¬

_ (¬1) هو: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، قال ابن رجب: (الإمام، الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد ... شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره)، اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، كان من أئمة السنة الذابين عنها، سجن بسبب ذلك مرات عدة، من مؤلفاته: منهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، والاستقامة، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 728 هـ. ينظر: الذيل على الطبقات (4/ 491). (¬2) ينظر: الإنصاف (1/ 26)، بل قال ابن بدران - رحمه الله -: (وأجمع ما رأيته =

4 - اعتناء العلماء بتلخيص الكتاب، وهذا دليل على أهميته (¬1). 5 - اعتناء أهل العلم بتخريج أحاديثه، والحكم عليها؛ فقد اعتنى بتخريج أحاديثه، وبيان حكمها: ابن الجوزي (¬2) - رحمه الله - في كتابه: "التحقيق في أحاديث التعليق". الرابعة: كونه في بعض أحكام الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد؛ فإن الجزء الذي سأتناوله بالتحقيق والدراسة يبدأ من أول مسألة الترتيب بين الصلوات مع سعة وقت الحاضرة، وحتى نهاية مسائل الجمعة. * * * ¬

_ = لأصحابنا في هذا النوع - أي: كتب الخلاف - "الخلاف الكبير" للقاضي أبي يعلى). ينظر: المدخل ص 452. (¬1) ذكر ابن رجب في ترجمة يعقوب بن إبراهيم العكبري أن له: (التعليقة في الفقه)، وقال: (وهي ملخصة من تعليقة شيخه). ينظر: الذيل على الطبقات (1/ 168)، والمتأمل لكتاب الانتصار لأبي الخطاب يجده - في الجملة - مأخوذًا من "التعليق الكبير". (¬2) هو: عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، أبو الفرج، قال عنه الذهبي: (الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ الإسلام، مفخر العراق)، له مصنفات كثيرة منها: زاد المسير، والتحقيق، والموضوعات، ومناقب الإمام أحمد، وغيرها، توفي سنة 597 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 365)، والذيل على الطبقات (2/ 458).

أسباب اختيار الموضوع

* أسباب اختيار الموضوع: إن من أهم ما دعاني لاختيار هذا الموضوع ما يلي: 1 - أهمية الموضوع التي سبق بيانها. 2 - تقدم زمان مؤلفه، وكونه كتابًا يعتني بذكر الخلاف بين أئمة المذاهب، وكونه مصدرًا أصيلًا لمعرفة الاختلاف الفقهي. 3 - المشاركة في استخراج كنوز علمائنا الأوائل، ممن منحهم الله العلم الراسخ، وهداهم إلى التأليف؛ لينتفع الناس بهم، إلا أنه لم يتيسر لهم مثل ما تفضل الله به علينا في هذه الأزمنة من سهولة الطباعة وإبراز المؤلفات، فلعلنا نؤدي شكر هذه النعمة، وننتفع بما ورثناه عنهم. * * * * أهداف الموضوع: 1 - الإسهام في النفع العلمي بإخراج كتاب من كتب التراث الإسلامي في مجال الفقه. 2 - المساعدة في الوصول إلى القول الراجح، وذلك بالنظر إلى ما كتبه العالم المجتهد، كما هو متمثل في كتاب التعليق لأبي يعلى. 3 - إكمال تحقيق كتاب أبي يعلى؛ حيث حققت منه أجزاء، وبقي هذا الجزء لم يحقق بعد.

الدراسات السابقة

* الدراسات السابقة: بعد البحث لم يتبين أن هذا الجزء من المخطوط قد حُقِّق، أو سُجِّلَ للتحقيق، وذلك بعد التأكد من كلية الشريعة بالرياض، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية، وسؤال قسم الرسائل العلمية بمكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. علمًا أن أجزاء الكتاب التي تم تحقيقها هي: 1 - كتاب الحج والعتق، حققه: د/ عواض بن هلال العمري، لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة الإسلامية، عام 1410 هـ. 2 - كتاب الاعتكاف، طبع بتحقيق: د/ عواض بن هلال العمري، في عام 1416 هـ. 3 - جزء من كتاب البيوع، حققه: د/ عبد الله بن علي الدخيل، لنيل درجة الدكتوراه من قسم الفقه في المعهد العالي للقضاء، عام 1415 هـ. * * * * خطة البحث: وتشتمل على قسمين: القسم الأول، وهو القسم الدراسي، ويتضمن: المقدمة، والتمهيد، وبيان المنهج المتبع في التحقيق. أولًا: المقدمة: وقد اشتملت على أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وأهدافه، والدراسات السابقة، وخطة البحث. ثانيًا: التمهيد: وقد جعلته في فصلين:

الفصل الأول: التعريف بالمؤلف، وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده، وكنيته، ولقبه. المبحث الثاني: نشأته، وطلبه للعلم. المبحث الثالث: شيوخه، وتلاميذه، وأولاده. المبحث الرابع: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه. المبحث الخامس: عقيدته. المبحث السادس: زهده، وأخلاقه، وعبادته. المبحث السابع: آثاره العلمية ومصنفاته. المبحث الثامن: وفاته - رحمه الله -. الفصل الثاني: التعريف بالكتاب، وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: التعريف بكتاب التعليق الكبير، وتوثيق نسبته إلى المؤلف. المبحث الثاني: إثبات أن هذا الكتاب هو التعليق الكبير. المبحث الثالث: وصف النسخة المخطوطة للكتاب. المبحث الرابع: بيان منهج المؤلف في هذا الكتاب. المبحث الخامس: مصادر الكتاب. المبحث السادس: ذكر محاسن الكتاب. المبحث السابع: التنبيه على بعض الملحوظات على الكتاب.

ثالثًا - منهج التحقيق، وهو على النحو التالي: أولًا: إخراج نص الكتاب على أقرب صورة وضعها عليه المؤلف، وذلك باتباع ما يلي: 1 - المحافظة على نص هذه النسخة، ما لم يتبين أن هناك خطأ واضحًا لا تستقيم العبارة معه، فاجتهد في تصويبها بالرجوع إلى كتب المذهب، وأشير إلى ذلك في الحاشية، وأثبت ما ورد في النسخة في الحاشية، وما لم يتضح لي فأشير في الهامش بعبارة: (كذا في الأصل). 2 - أُثبتُ ما قد يسقط من الحروف أو الكلمات من الأصل في الصلب بين حاصرتين هكذا []، وأوجه ذلك في الهامش، وأشير إلى ما يعزز ذلك من المصادر والمراجع. 3 - رسمتُ الكتاب بالرسم الإملائي الحديث. 4 - أعجمتُ ما أهمله المؤلف من الكلمات، دون الإشارة إلى ذلك. 5 - ضبطت بالشكل ما يحتاج إلى ضبط من الألفاظ. ثانيًا: حاولت ربط الكتاب بمصادره التي استفاد منها استفادة مباشرة. ثالثًا: وثّقت الآراء التي ذكرها المؤلف من مصادرها، وأشرت لما أغفله المؤلف منها. رابعًا: عزوت الروايات التي ينقلها المؤلف عن أئمة المذاهب إلى مصادرها المعتبرة، ووثّقتُ روايات المذهب بقدر الاستطاعة من مسائل أصحابها، فإن لم أجدها، فمن كتب الأصحاب - رحمهم الله -، فإن لم

أجدها، أشرت إلى ذلك في الحاشية، وذكرت بعض الكتب التي بحثت أصل المسألة. خامسًا: أنبه على الأخطاء العقدية إذا وردت في الكتاب. سادسًا: عزوت الآيات إلى سورها، وأشير إلى المعنى عند الحاجة إليه. سابعًا: خرّجت الأحاديث الواردة في الكتاب، وبنقل حكم أهل الفن عليها - ما لم تكن في "الصحيحين" أو أحدهما -، فإن كانت في "الصحيحين" أو أحدهما، اكتفيت حينئذ بالعزو إليهما، أو لأحدهما، ولا اكتفي بما قاله ابن الجوزي في تحقيقه على الأحاديث، بل أنظر في كلام أهل العلم، وأثبت ما يظهر لي. ثامنًا: خرّجت الآثار الواردة في الكتاب. تاسعًا: عزوت الأبيات الشعرية إلى قائليها. عاشرًا: شرحت المفردات اللغوية الغريبة. الحادي عشر: شرحت المفردات الفقهية، والأصولية، والحديثية الغريبة، التي وردت. الثاني عشر: ترجمت للأعلام عدا الصحابة - رضي الله عنهم - والأئمة الأربعة - رحمهم الله -، وذلك بإيراد ترجمة قصيرة، تتضمن اسم العلم، وكنيته، ومذهبه، وبعض كتبه، ووفاته. الثالث عشر: أُعرِّف بالطوائف، والفرق، والمذاهب، إذا وردت.

الرابع عشر: عرّفت بالمدن، والمواضع، والبلدان الوارد ذكرها في الكتاب. الخامس عشر: نبهت على الأخطاء اللغوية، والنحوية. السادس عشر: وضعت الفهارس العامة، وأهمها: 1 - فهرس الآيات القرآنية. 2 - فهرس الأحاديث. 3 - فهرس الآثار. 4 - فهرس الأشعار. 5 - فهرس الأمثال. 6 - فهرس الأعلام المترجم لهم. 7 - فهرس الكلمات الغريبة. 8 - فهرس المسائل الفقهية. 9 - فهرس الأماكن والبلدان. 10 - فهرس الكتب الواردة في النص. 11 - فهرس المصادر والمراجع. 12 - فهرس الموضوعات. القسم الثاني: النص المحقق. وليعلم القارئ الكريم أن هذا التحقيق قد أخذ من الجهد الذهني

والبدني الشيء الكثير، (ولا تظن أنه مجردُ نقلٍ من ورقٍ بالٍ عتيق إلى ورقٍ أبيضَ صقيل)، وقد كنت أظن - وبعض الظن ليس بإثم - أن الأمر أسهل من ذلك حتى دخلتُ في البحر، فعلمتُ صدقَ مقولةِ الجاحظ: (أن إنشاء عشرِ ورقاتٍ من حر اللفظ، وشريفِ المعاني، أيسر من إتمام النقص حتى يردَّه إلى موضعه من اتصال الكلام) (¬1). فليست قراءةُ المخطوط بالأمر الهين، حتى من كانت له دُرْبَة، تُعْجِزه بعضُ الكلمات، فتمضي عليه الساعات في طلب صحة لفظها، واستقامة حرفها حتى ينبلجَ الفجر، فيهتديَ لقراءتها، فيصيرَ قرير العين، أو يرجعَ بخفي حنين. ولا أكتم سرًا، وأذيع خبرًا أني قد وقعت على كنز ثمين، وصيد سمين، لو لم يأت من هذا المؤلَّف إلا تخريج أحاديثِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وآثارِ الصحابة - رضي الله عنهم -؛ حيث تجاوزَ عددُها أكثرَ من سبع مئة من بين حديث وأثر. وكذا كتابةُ ما يقارب من خمس مئة ترجمة لأعلام من القرون المفضلة، ثم الذين يلونهم إلى عهد المؤلف - رحمه الله -، فضلًا عن المسائل الفقهية التي هي أصل البحث. * * * ¬

_ (¬1) الحيوان (1/ 79).

التمهيد

التمهيد وفيه فصلان: * الفصل الأول: التعريف بالمؤلف. * الفصل الثاني: التعريف بالكتاب.

الفصل الأول التعريف بالمؤلف

الفَصْلُ الأَوَّلُ التَعْرِيفُ بِالمُؤَلِفِ

المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده، وكنيته، ولقبه

الفَصْلُ الأَوَّلُ: التَعْرِيفُ بِالمُؤَلِفِ المبحث الأَوَّل: اِسْمَهُ، وَنَسَبَهُ، وَمَوْلِدَهُ، وَكُنْيَتَهُ، وَلَقَبَهُ (¬1) اسمه: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفَرَّاء البغدادي. نسبه: الفَرَّاء: وهي نسبة إلى خياطة الفرو، وبيعه (¬2). مولده: ولد لسبع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاث مئة من الهجرة النبوية (¬3). كنيته: أبو يعلى، ولا يعرف له ولد بهذا الاسم. ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ بغداد (2/ 256)، وطبقات الحنابلة (3/ 361)، ومناقب الإمام أحمد ص 693، وسير أعلام النبلاء (18/ 89)، والبداية والنهاية (12/ 94)، والمقصد الأرشد (2/ 395). (¬2) ينظر: الأنساب (4/ 351). (¬3) تاريخ بغداد (2/ 256)، وطبقات الحنابلة (3/ 361)، وسير أعلام النبلاء (18/ 89).

لقبه: القاضي؛ لتوليه القضاء (¬1). * * * ¬

_ (¬1) طبقات الحنابلة (3/ 372).

المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم

المبحث الثَّاني: نَشأتهُ وَطَلبهُ لِلعِلْمِ نشأ القاضي أبو يعلى في بغداد عاصمة الخلافة العباسية آن ذاك، تلك المدينة التي تزاحمت فيها حِلق العلماء، حتى أُطلق عليها: أم الدنيا، وسيدة البلاد (¬1)، ففيها تربَّى، وتعلَّم - رحمه الله -. وقبل هذا، البيتُ الذي وُلِد فيه ونشأ فيه بيتُ علم ودين؛ فقد كان أبوه: أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الفراء رجلًا صالحًا فقيهًا، درس على مذهب أبي حنيفة - رحمهما الله - وأسند الحديث، توفي سنة 390 هـ (¬2). وكان جدّه لأمه: عبيد الله بن عثمان بن يحيى، أبو القاسم الدّقاق، المعروف بـ (ابن جَليقا) (¬3)، توفي - رحمه الله - سنة 390 هـ، ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ بغداد (1/ 456). (¬2) ينظر: تاريخ بغداد (8/ 102)، وطبقات الحنابلة (3/ 363). (¬3) ضبطها غير واحد بـ (جنيقا)؛ كالخطيب في تاريخه (10/ 377)، وجاء في المنتظم (15/ 20): (قال أبو علي البرداني: قال لنا القاضي أبو يعلى: الناس يقولون: جنيقا - بالنون - وهو غلط، إنما هو: جليقا - باللام -).

وهو: محدث ثقة (¬1). سمع القاضي أبو يعلى - رحمه الله - الحديثَ، وهو في الخامسة من عمره سنة 385 هـ (¬2). توفي والده وهو في العاشرة من عمره، وكان وصيه رجلًا يعرف بـ (الحربي) يسكن بدار القز (¬3)، فنقل القاضي أبا يعلى إلى دار القز حيث يسكن، وفي دار القز مسجد يصلي فيه شيخ صالح، يعرف بـ (ابن مقدحة) المقرئ (¬4)، يقرئ القرآن، ويلقِّن من يقرأ عليه العبارات من "مختصر الخرقي (¬5) "، فلقّن القاضي أبا يعلى ما جرت عادته بتلقينه من العبارات، فاستزاده القاضي، فقال له: هذا القدر الذي أُحْسنه، فإن أردت زيادةً عليه، ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ بغداد (10/ 377)، وطبقات الحنابلة (3/ 366). (¬2) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 366)، ولم يكن - رحمه الله - متخصصًا فيه، قال الذهبي: (لم يكن للقاضي أبي يعلى خبرة بعلل الحديث، ولا برجاله، فاحتج بأحاديث كثيرة واهية في الأصول والفروع؛ لعدم بصره بالأسانيد، والرجال). ينظر: تأريخ الإسلام (30/ 462). (¬3) قال ياقوت الحموي: (دار القز: محلة كبيرة ببغداد في طرف الصحراء، بين البلد وبينها اليوم نحو فرسخ). ينظر: معجم البلدان (2/ 422). والحربي: لم أقف على ترجمته. (¬4) لعله: علي بن مقدحة، أبو الحسن المقرئ، من أهل دار القز، كان زاهدًا، وله غنيمات يقتات منها. ولم أجد مزيدًا على هذا. ينظر: ذيل تاريخ بغداد لابن النجار (4/ 120). (¬5) ستأتي ترجمته في (1/ 142).

فعليك بالشيخ أبي عبد الله بن حامد؛ فإنه شيخ هذه الطائفة، ومسجده بباب الشعير (¬1)، فمضى القاضي أبو يعلى إليه، وصحبه، وتتلمذ عليه إلى أن توفي ابن حامد - رحمه الله - في سنة 403 هـ. وجلس القاضي أبو يعلى للتدريس مكان ابن حامد بأمره حينما ذهب إلى الحج سنة 402 هـ، واستمر بعد وفاة ابن حامد، قال أبو بكر بن الخياط (¬2): سألت أبا عبد الله بن حامد، إمامَ الحنبلية في وقته عند خروجه إلى الحج في سنة 402 هـ، فقلت: على من ندرس؟ وإلى من نجلس؟ فقال: على هذا الفتى، وأشار إلى القاضي أبي يعلى (¬3). ولأجل العلم رحل القاضي في تحصيله وطلبه، فمن رحلاته - رحمه الله - في طلب العلم: أنه رحل إلى مكة، ودمشق، وحلب، وسمع الحديث من بعض المحدثين؛ كالحافظ عبد الرحمن بن أبي نصر - رحمه الله - (¬4) في دمشق، وأبي نصر عبيد الله بن سعيد السجزي - رحمه ¬

_ (¬1) محلة ببغداد فوق مدينة المنصور، ترفأ إليها سفن الموصل والبصرة. ينظر: معجم البلدان (1/ 308). (¬2) هو: محمد بن علي بن محمد بن موسى الخياط المقرئ، البغدادي، قال ابن أبي يعلى عنه: (الشيخ الصالح، أحد الحنابلة الأخيار، ... يُقْرأُ عليه القرآن والحديث في كل يوم في بيته)، توفي سنة 467 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 430)، والذيل على طبقات الحنابلة (1/ 16). (¬3) ينظر: الطبقات (3/ 364 و 365). (¬4) هو: أبو محمد، عبد الرحمن بن أبي نصر: عثمان بن القاسم بن معروف بن =

الله - (¬1) في مكة، وتبادل الرسائل معه (¬2). وممن سمع منه القاضي الحديث: أبو عبد الله الحاكم، صاحب "المستدرك" (¬3). والسبب الذي لأجله لم يكثر القاضي من الرحلات في طلب العلم وتحصيله؛ أن بغداد في ذلك الوقت عامرة بالعلماء في شتى العلوم، والمكتبات مليئة بصنوف المؤلفات. * * * ¬

_ = حبيب، التميمي الدمشقي، الملقب بـ (الشيخ العفيف)، قال الذهبي عنه: (الشيخ الإمام ... مسند الشام)، توفي سنة 420 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 366). (¬1) البكري السجستاني، قال الذهبي عنه: (الإمام العالم الحافظ المجود شيخ السنة)، له: الإبانة الكبرى في أن القرآن غير مخلوق، توفي سنة 444 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 654). (¬2) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 367)، وسير أعلام النبلاء (18/ 90)، والمنهج الأحمد (2/ 111). (¬3) ستأتي ترجمته في شيوخ أبي يعلى (1/ 34).

المبحث الثالث: شيوخه، وتلاميذه، وأولاده

المبحث الثَّالث: شُيُوخهُ، وَتَلَامِيذهُ، وَأَولَادهُ * المطلب الأول - شيوخه: تلقى القاضي العلم في فنون متعددة، وعلى أيدي علماء زمانه، من أبرزهم: 1 - عبيد الله بن عثمان بن يحيى، المعروف بـ (ابن جليقا) (¬1). 2 - الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله البغدادي، إمام الحنابلة في زمانه، له مصنفات في علوم مختلفة، منها: كتاب الجامع في اختلاف العلماء في أربع مئة جزء، وشرح أصول الدين، وأصول الفقه، وتهذيب الأجوبة، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 403 هـ (¬2). ¬

_ (¬1) مضت ترجمته في (1/ 29)، وقد قال عنه الخطيب: (كان صحيح الكتاب، كثير السماع، ثبت الرواية). تاريخ بغداد (10/ 377). (¬2) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 309)، والمقصد الأرشد (1/ 319)، قال الخطيب البغدادي: (قال لي أبو يعلى بن الفراء: كان - أي: ابن حامد - مُدرّس أصحاب أحمد، وفقيههم في زمانه، وكان له المصنفات العظيمة؛ منها: كتاب الجامع أربع مئة جزء تشتمل على اختلاف الفقهاء، وله مصنفات في أصول =

3 - الحسين بن أحمد بن جعفر، أبو عبد الله المعروف بـ (ابن البغدادي)، سمع منه القاضي، وخرَّج عنه في مصنفاته، وكان صدوقًا، دينًا، عابدًا، زاهدًا، ورعًا، توفي - رحمه الله - سنة 404 هـ (¬1). 4 - محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم النيسابوري، أبو عبد الله الحاكم، يعرف بـ (ابن البَيعِّ) (¬2)، صاحب "المستدرك"، طلب العلم، ورحل في تحصيله، من أهل الفضل، والعلم، والمعرفة، والحفظ، وله مصنفات عدة، منها: معرفة علوم الحديث، وتأريخ النيسابوريين، والمدخل إلى علم الصحيح، والإكليل، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 405 هـ (¬3). 5 - محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن سهل، أبو الفتح بن أبي الفوارس، المحقق الحافظ، توفي - رحمه الله - سنة 412 هـ (¬4). 6 - علي بن أحمد بن عمر بن حفص الحمامي، البغدادي، أبو ¬

_ = السنة، وأصول الفقه، وكان معظَّمًا في النفوس، مقدمًا عند السلطان والعامة). ينظر: تاريخ بغداد (7/ 303). (¬1) ينظر: تاريخ بغداد (8/ 15)، وطبقات الحنابلة (3/ 321)، والمقصد الأرشد (1/ 341). (¬2) قال السمعاني: (هذه اللفظة لمن يتولى البياعة والتوسط في الخانات بين البائع والمشتري). الأنساب (1/ 432). (¬3) ينظر: تاريخ بغداد (5/ 473)، وسير أعلام النبلاء (17/ 162). (¬4) ينظر: تاريخ بغداد (1/ 352)، وطبقات الحنابلة (3/ 367)، وسير أعلام النبلاء (17/ 223).

المطلب الثاني - تلاميذه

الحسن المقرئ، كان صادقًا، دينًا، فاضلًا، تفرد بأسانيد القراءات وعلوها في وقته، توفي - رحمه الله - سنة 417 هـ (¬1). 7 - علي بن معروف بن محمد، أبو الحسن البزاز، ثقة في حديثه (¬2). وغيرهم ممن تلقى عنهم القاضي أبو يعلى - رحمهم الله جميعًا (¬3). * * * * المطلب الثاني - تلاميذه: قال أبو الحسين (¬4) بن أبي يعلى - رحمه الله -: (الذين سمعوا منه الحديث: فالعدد الكثير، والجم الغفير) (¬5)، ولا غرابة أن يتوافد طلاب العلم بكثرة على عالم مجتهد بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، كما ذكره تلميذه أبو الوفاء بن عقيل (¬6)، ولعل من أبرز تلاميذ القاضي: ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ بغداد (11/ 329)، وسير أعلام النبلاء (17/ 402). (¬2) ينظر: تاريخ بغداد (12/ 113)، وطبقات الحنابلة (3/ 366). (¬3) ومن أراد التوسع في معرفة شيوخ القاضي أبي يعلى، فلينظر في: طبقات الحنابلة (3/ 366 و 367)، وكتاب القاضي أبي يعلى وكتابه الأحكام السلطانية من ص 93 إلى ص 105. (¬4) ستأتي ترجمته عند ذكر أولاد القاضي (1/ 39). (¬5) ينظر: الطبقات (3/ 381). (¬6) ينظر: طبقات الشافعية الكبرى (5/ 123)، وبنحوه ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 126).

1 - الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت البغدادي، المعروف بـ (الخطيب)، صاحب "تاريخ بغداد"، له مصنفات كثيرة، منها: شرف أهل الحديث، والمتفق والمفترق، والتبيين لأسماء المدلسين، وغيرها، قال الخطيب: (كتبنا عنه - يعني: القاضي -، وكان ثقة) (¬1)، توفي - رحمه الله - سنة 463 هـ (¬2). 2 - الشريف عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى، أبو جعفر الهاشمي، من أكبر تلامذة القاضي أبي يعلى، وقد درَّس وأفتى في حياة القاضي أبي يعلى، حتى أُطْلِق عليه في عصره: إمام الحنابلة، كان أمَّارًا بالمعروف، رادًا على أهل البدع، له مصنفات منها: رؤوس المسائل، وفضائل أحمد وترجيح مذهبه، وجزء في أدب الفقه، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 470 هـ (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ بغداد (2/ 256). (¬2) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 381)، وسير أعلام النبلاء (18/ 89)، وينظر في ترجمة الخطيب البغدادي: سير أعلام النبلاء (18/ 270)، وقد يقال: إن الخطيب ليس من طبقة التلاميذ لأبي يعلى؛ لأن كلًا منهما يروي عن الآخر، لكن رواية الخطيب عن القاضي - لا شك - أنها أكثر، ولذلك سماه الذهبي في أول الذين سمعوا من القاضي. وينظر: ص 753، ففيها رواية القاضي عن الخطيب. (¬3) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 439)، وسير أعلام النبلاء (18/ 546)، والذيل على الطبقات (1/ 29).

3 - الحسن بن أحمد بن عبد الله، المعروف بـ (ابن البناء)، أبو علي المقرئ، تفقه على القاضي أبي يعلى، وهو من قدماء أصحابه وتلاميذه، كان متفننًا في العلوم، له مصنفات كثيرة جدًا، منها: شرح الخرقي، والكامل في الفقه، ومناقب الإمام أحمد، وأخبار القاضي أبي يعلى، وفضائل الشافعي، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 471 هـ (¬1). 4 - أبو علي يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن سُطُور العكبري البرزبيني، تفقه على أبي يعلى حتى برع في الفقه، زكّاه القاضي أبو يعلى، وتولى القضاء في حياة شيخه، قال ابن عقيل: (كان أعرف قضاة الوقت بأحكام القضاء والشروط)، له مصنفات في الأصول والفروع، منها: التعليقة في الفقه، وهي ملخصة من تعليقة شيخه القاضي، توفي - رحمه الله - سنة 486 هـ (¬2). 5 - علي بن محمد بن علي بن أحمد بن إسماعيل الأنباري، أبو منصور القاضي، الفقيه، الواعظ، سمع من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه حتى برع في الفقه، وولي القضاء، توفي - رحمه الله - سنة 507 هـ (¬3). 6 - أبو الخطاب الكَلْوَذاني (¬4) محفوظ بن أحمد بن الحسن بن ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 449)، والذيل على الطبقات (1/ 67). (¬2) ينظر: الطبقات (3/ 453)، والذيل على الطبقات (1/ 164). (¬3) ينظر: الطبقات (3/ 478)، والذيل في الطبقات (1/ 257). (¬4) نسبة إلى كلوذان، قرية من قرى بغداد. ينظر: الأنساب (5/ 89).

أحمد، أحد أئمة الحنابلة، وأعيانهم، درس على القاضي أبي يعلى، ولزمه حتى برع في علوم شتى، له مصنفات كثيرة، منها: الهداية، والانتصار في المسائل الكبار، والتمهيد في أصول الفقه، والتهذيب في الفرائض، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 510 هـ (¬1). 7 - علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد، أبو الوفاء البغدادي المقرئ الفقيه، الأصولي، أحد الأعلام، وشيخ الحنابلة، كان له منزلة عند القاضي أبي يعلى على صغر سنه في ذلك الوقت، له المصنفات المشهورة، منها: الفنون، والفصول، والواضح في أصول الفقه، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 513 هـ (¬2). 8 - رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث، أبو محمد التميمي، البغدادي المقرئ، المحدث، الفقيه، الواعظ، شيخ أهل العراق في زمانه، كان صاحب جاه عند السلطان، له مصنفات، منها: شرح الإرشاد، والخصال والأقسام، توفي - رحمه الله - سنة 488 هـ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 479)، والبداية والنهاية (12/ 180)، وسير أعلام النبلاء (19/ 348)، والذيل على الطبقات (1/ 270). (¬2) ينظر: الطبقات (3/ 482)، والبداية والنهاية (12/ 184)، وسير أعلام النبلاء (19/ 443)، والذيل على الطبقات (1/ 316). (¬3) ينظر: الطبقات (3/ 464)، والبداية والنهاية (12/ 150)، والذيل على الطبقات (1/ 172).

المطلب الثالث - أولاده

* المطلب الثالث - أولاده: للقاضي أبي يعلى - رحمه الله - ثلاثة أبناء (¬1) هم: 1 - أبو القاسم عبيد الله بنُ القاضي الأكبرُ، توفي - رحمه الله - سنة 469 هـ، وعمره ست وعشرون سنة (¬2). 2 - أبو الحسين محمد، صاحب "طبقات الحنابلة"، توفي والده وهو صغير، له مصنفات عديدة، منها: التمام، والمجموع في الفروع، ورؤوس المسائل، وغيرها، قتله اللصوص في بيته - رحمه الله - سنة 526 هـ (¬3). 3 - أبو حازم محمد، توفي والده وهو في الرضاع، له مصنفات عدة، منها: شرح مختصر الخرقي، والتبصرة، ورؤوس المسائل، وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 527 هـ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) ينظر: البداية والنهاية (12/ 95). (¬2) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 435)، والذيل على الطبقات (1/ 23). (¬3) ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 601)، والبداية والنهاية (12/ 204)، والذيل على الطبقات (1/ 391). (¬4) ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 604)، والذيل على الطبقات (1/ 410).

المبحث الرابع: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه

المبحث الرابع: مَكَانَتَهُ العِلْمِيَّةِ، وَثَنَاء العُلَمَاء عَلَيْهِ إن الثروة العلمية الضخمة التي تركها القاضي أبو يعلى - رحمه الله - دليل على كثرة علمه، وسعة اطلاعه، ودقة استنباطه، حتى شهد له القريب والبعيد بذلك. بل لقد أصاب النظرَ فيه شيخُه الحسن بن حامد - رحمه الله -، - شيخ الحنابلة في زمانه - حين أهَّله للتدريس مكانه حين ذهب للحج، وبعد موت شيخه ابن حامد تأهَّل هذا التلميذ النجيب - وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره - للتدريس مكان شيخه. وترقّى أبو يعلى في العلم حتى بلغ رتبة الاجتهاد، وكتب عنه العلماء، وتزاحم عليه الطلاب، قال تلميذه أبو الوفاء بن عقيل - رحمه الله -: (لم أُدْرك - فيما رأيتُ من العلماء على اختلاف مذاهبهم - مَنْ كمُلت له شرائطُ الاجتهاد المطلق إلا ثلاثةً) (¬1)، وذكر أولهم القاضي أبا يعلى، وقال: (القاضي أبو يعلى المملوء عقلًا وزهدًا وورعًا) (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: طبقات الشافعية الكبرى (5/ 123). (¬2) ينظر: الذيل على الطبقات (1/ 319).

وقال ابنه أبو الحسين - رحمه الله -: (كان عالم زمانه ... وكان له في الفروع والأصول القدم العالي ... وأصحاب الإمام أحمد - رحمه الله - له يتبعون، ولتصانيفه يَدرُسُون ويُدرِّسون ... والفقهاء - على اختلاف مذاهبهم وأصولهم - كانوا عنده يجتمعون ... وقد شوهد له من الحال ما يغني عن المقال، لا سيما مذهب إمامنا أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، واختلاف الروايات عنه، ومما صح لديه منه ... ) (¬1). وقال: (معلوم ما خصَّ الله سبحانه هذا الوالد السعيد من النعم الدينية ... وكونه إمام وقته، وفريد دهره، وقريع عصره، لا يعرف في شرق الأرض وغربها شخص يتقدم في علم مذهبه عليه، أو يُضاف في ذلك إليه) (¬2). وقال: (معلوم ما كان عليه شيوخ عصره، وعلماء وقته - من بين موافق ومخالف - من توقيرهم له في حداثة سنَّه، وسالف دهره، وأنه كان - إذ ذاك - معدودًا من الأماثل والأعيان، وشيوخ العلماء) (¬3). وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: (انتهى إليه علم المذهب، وكانت له التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع) (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 362). (¬2) ينظر: الطبقات (3/ 375). (¬3) ينظر: الطبقات (3/ 378). (¬4) ينظر: مناقب الإمام أحمد ص 693.

وقال الذهبي - رحمه الله - (¬1): (شيخ الحنابلة، القاضي الحبر ... صاحب التصانيف، وفقيه العصر، كان إمامًا لا يدرك قراره، ولا يشق غباره ... وجميع الطائفة معترفون بفضله، ومغترفون من بحره) (¬2). وقال: (الإمام العلامة، شيخ الحنابلة ... أفتى ودرّس، وتخرج به الأصحاب، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالم العراق في زمانه) (¬3). بل قال: (في الفقه ومعرفة مذاهب الناس، ومعرفة نصوص أحمد - رحمه الله - واختلافها، فإمامٌ لا يدرَك قرارُه - رحمه الله تعالى -) (¬4). وقال ابن كثير (¬5) - رحمه الله -: (شيخ الحنابلة، وممهد ¬

_ (¬1) هو: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، قال عنه ابن كثير: (الشيخ الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين)، له مصنفات كثيرة، منها: تاريخ الإسلام، والميزان في الضعفاء، وطبقات القراء، وغيرها، توفي سنة 748 هـ. ينظر: البداية والنهاية (14/ 225)، والأعلام (5/ 326). (¬2) ينظر: العبر في خبر من غبر (3/ 245 و 246). (¬3) ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 89 و 90). (¬4) ينظر: تاريخ الإسلام (30/ 463). (¬5) هو: أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، الحافظ، المؤرخ، المفسر، له مصنفات عديدة، من أهمها: تفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، توفي سنة 774 هـ. ينظر: الدرر الكامنة (1/ 445)، والأعلام (1/ 320).

مذهبهم في الفروع) (¬1). ومصنفات القاضي في الفقه والأصول، واختياراته وترجيحاته التي ينقلها العلماء في كتبهم، دليلٌ كافٍ على نبوغه وتبحُّره في علوم المذهب، فقلَّ أن تجد مسألة من المسائل الفقهية أو الأصولية إلا وله فيها أثر. ولما كان القاضي بهذه المنزلة، فلا شك أنه من أولى من يتولى منصب القضاء؛ فقد ذكر ابنه أبو الحسين: أنه عُرِضَ القضاء على أبي يعلى فامتنع، فلما لم يجد بُدًّا من القبول، اشترط لتوليه بعض الشروط، منها: 1 - أن لا يحضر أيام المواكب. 2 - أن لا يخرج في الاستقبالات. 3 - أن لا يَقْصِد دار السلطان. فأُجِيب إلى ذلك. قال ابنه أبو الحسين - رحمه الله -: (فأحيا الله بالوالد السعيد من صناعة القضاء ما أُمِيت من رسومها، ونَشَرَ ما طُوي من أعلامها، فعاد الحكم بموضعه جديدًا، والقضاء بتدبيره رشيدًا) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ينظر: البداية والنهاية (12/ 94). (¬2) ينظر: الطبقات (3/ 372 و 373)، وسير أعلام النبلاء (18/ 90).

المبحث الخامس: عقيدته

المبحث الخامس: عَقِيدَتَهُ حيث إن الكتاب المراد تحقيقه في الفقه، وليس من كتب المعتقد؛ لذا سأشير إلى أهم أمر غُمِزَ فيه القاضي - رحمه الله - من جهة المعتقد، ويمكن حصر ذلك فيما يتعلق بصفات الله - سبحانه وتعالى -، وقد تُكلِّم في القاضي - رحمه الله - من جهتين: الجهة الأولى: التفويض لمعاني الصفات، وهذا أمر قد ثبت عن القاضي - رحمه الله -، قال ابن تيمية - رحمه الله -: ( ... ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار، وعظَّموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض ... هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل ... وتارة يفوِّضون معانيها، ويقولون: تُجرى على ظواهرها؛ كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك) (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 34 و 35)، ولتفصيل ذلك، وذكر بعض =

الجهة الثانية: رميه بالتجسيم، والتشبيه، حتى نُقِل عنه: أنه قال: (ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه، إلا اللحية والعورة) (¬1)، وقد كذَّب هذا النقل شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وبيّن بطلان نسبته إلى أبي يعلى - رحمه الله - (¬2). وقد تكلّم غير واحد في كتاب أبي يعلى "إبطال التأويلات"، وأنه أتى فيه بالتجسيم المحض (¬3)، وهذا خطأ على أبي يعلى - رحمه الله -؛ فإنه قد ألَّف كتابًا في الرد على المجسِّمة، بل بالغ حتى قال: بنفي الجسم (¬4)، ومعلوم أن هذه اللفظة لا يصرَّح بإثباتها ولا نفيها (¬5)؛ لعدم ورود نفيها لا في الكتاب ولا في السنة، ولا في قول أئمة الإسلام، بل إن كتابه: "إبطال التأويلات"، ردٌّ على كتاب ألَّفه أحد علماء الأشاعرة (¬6)، ¬

_ = الأمثلة على هذا ينظر: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 186، ومذهب أهل التفويض في نصوص الصفات ص 209، ولتفصيل عقيدة أبي يعلى من كتبه ينظر: القاضي أبو يعلى وكتابه مسائل الإيمان ص 66 وما بعدها. (¬1) ذكر ذلك عن أبي يعلى أبو بكر بن العربي في: العواصم ص 181. (¬2) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 238). (¬3) حتى قال ابن الأثير - رحمه الله -: (أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض - تعالى الله عن ذلك -). الكامل (8/ 378). (¬4) ينظر: الطبقات (3/ 392)، ودرء التعارض (4/ 209، 10/ 258). (¬5) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (10/ 259). (¬6) وهو: كتاب ابن فورك المعروف بـ "مشكل الحديث وبيانه"، وبـ "تأويل الأخبار".

وقد أثنى على الكتاب ابنُ تيمية - رحمه الله - في الجملة؛ حيث قال: (وأكثرُ الحق فيها كان مع الفرائية مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوعٌ من الحق مع كثير من الباطل) (¬1). هذه إشارة موجزة لِما وُجِّه لأبي يعلى - رحمه الله - من انتقاد حول معتقده، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 54).

المبحث السادس: زهده وأخلاقه وعبادته

المبحث السادس: زُهْدَهُ وَأَخْلَاقَهُ وَعِبَادَتهِ كان القاضي - رحمه الله - ديِّنًا، عابدًا، زاهدًا، ورعًا، متعففًا، وصفه ابنه بأنه صاحب زهد وورع، وعفة وقناعة، وانقطاع عن الدنيا وأهلها، واشتغال بسطر العلم وبثِّه، وإذاعته ونشره (¬1)، وقال في وصفه أيضًا: (من بحث عن أخلاقه وطرائقه وأخباره، لم يخفَ عليه موضعُه ومحلُّه، ولو بالغنا في وصفه، لكنَّا إلى التقصير فيما نذكره من ذلك أقربَ؛ إذ انتشر على لسان الخطير والحقير ذكرُ فضله، سوى ما يُضاف إلى ذلك من الجلالة، والصبر على المكاره، واحتماله لكل جريرة إن لحقته من عدو، وزلل إن جرى من صديق، وتَعَطُّفِه بالإحسان على الكبير والصغير، واصطناع المعروف إلى الداني والقاصي، ومداراته للنظير والتابع ... متميزًا بالزهادة على كافة أهل العلم ... ومعلوم ما خصه الله تعالى به - مع موهبة العلم والديانة - من عزّ التعفف والصيانة، والمروءة الظاهرة، والمحاسن الكثيرة الوافرة، مع هجرانه أبواب السلاطين، وامتناعه - على ممر السنين - أن يقبل لأحد منهم صلة وعطيَّة، ولم تزل ديانتُهُ ومروءتُهُ ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 362).

لِمَا هذا سبيله أبيَّةً، وكان يقسم ليله كلَّه أقسامًا، فقسم للمنام، وقسم للقيام، وقسم لتصنيف الحلال والحرام. ولقد نزل به ما نزل بغيره من النكبات التي استكان لها كثير من ذوي المروءات، وخروج عن مألوفات العادات، فلم يُحْفظ عليه أنه خرج عن جميل عادته، ولا طرح المألوف من مروءته) (¬1). قال ابن الجوزي: (كان فقيهًا نَزِهًا متعففًا) (¬2)، وقال: (جمع الإمامةَ والفقه والصدق، وحسن الخلق، والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن السّمت، والصمت عما لا يعني) (¬3). وقال الذهبي: (كان ذا عبادة وتهجد، وملازمة للتصنيف، مع الجلالة والمهابة ... وكان متعففًا، نزه النفس، كبير القدر، ثخين الورع) (¬4). وكان ينهى عن مخالطة أهل الدنيا، والنظر إليهم، والاجتماع بهم، ويأمر بالاشتغال بالعلم، ومخالطة الصالحين (¬5). وقال أبو الحسين - رحمه الله -: إنه (في سنة إحدى وخمسين ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 367 و 378 و 380). (¬2) ينظر: مناقب الإمام أحمد ص 693. (¬3) ينظر: المنتظم (16/ 99). (¬4) ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 90 و 91). (¬5) ينظر: المنهج الأحمد (2/ 373).

وأربع مئة، لما وقع النهب ببغداد ... انتقل الوالد السعيد ... إلى البصرة وكان في داره ... خبز يابس، فنقله معه، وترك نقل رحله؛ لتعذر من يحمله، واختار حمل الخبز اليابس على الرَّحل النفيس، وكان يقتات منه ويبُلُّه بالماء، وقال: هذه الأطعمة اليوم نُهُوب وغُصُوب، ولا أطعم من ذلك شيئًا، فبقي ما شاء الله يتقوَّت من ذلك الخبز اليابس المبلول، ويتقلَّل من طَعْمِه إلى أن نفد، ولحق الوالدَ السعيدَ من ذلك الخبز ... مرضٌ) (¬1). وكان من تمام ورعه أن أوصى أن لا يُكفَّن ولا يُدفن معه في قبره إلا ما غزله لنفسه من الأكفان (¬2)، فرحمه الله رحمة واسعة. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 413). (¬2) ينظر: المنتظم (16/ 99).

المبحث السابع: آثاره العلمية ومصنفاته

المبحث السابع: آثَارَهُ العِلْمِيَّةِ وَمُصَنَّفَاتهِ يعدُّ القاضي أبو يعلى - رحمه الله - من العلماء المكثرين للتأليف والتصنيف، ولم يطبع من كتبه إلا القليل، وقد قسمت الكلام على مؤلفاته ثلاثة أقسام: * القسم الأول - مؤلفاته المطبوعة، وهي: 1 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات (¬1). 2 - الأحكام السلطانية (¬2). 3 - الأمالي في الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) حقق الجزء الأول والثاني: محمد الحمود النجدي - وفقه الله -، وطبع الجزء الأول في مكتبة دار الإمام الذهبي للنشر والتوزيع عام 1410 هـ، ثم طبع الجزء الثاني في دار إيلاف الدولية للنشر والتوزيع عام 1416 هـ، وبقي الجزء الثالث لم يطبع، ونسخة الكتاب كاملة موجودة في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري - رحمه الله - بالمدينة النبوية. (¬2) حققه محمد حامد الفقي - رحمه الله -، وطبع عدة طبعات، منها: دار الكتب العلمية، عام 1421 هـ. (¬3) حققه محمد العجمي - وفقه الله -، وطبع بدار البشائر الإسلامية، ط 1، 1425 هـ.

4 - إيجاب الصيام ليلة الإغمام (¬1). 5 - الجامع الصغير (¬2). 6 - الروايتين والوجهين (¬3). 7 - العدة في أصول الفقه (¬4). 8 - مسائل الإيمان (¬5). 9 - المعتمد في أصول الدين (¬6). ¬

_ (¬1) هذه الرسالة مطبوع أكثرها - إن لم يكن كلها - ضمن كتاب "المجموع" للنووي؛ حيث صنف القاضي أبو يعلى رسالته هذه، وقام الخطيب البغدادي بتأليف رد على هذه الرسالة، وقد أوردهما النووي - رحمه الله - في كتابه "المجموع" (6/ 296 - 309). (¬2) حققه الدكتور ناصر السلامة - وفقه الله -، وطبع بدار أطلس للنشر والتوزيع، ط 1، عام 1421 هـ. (¬3) حققه الدكتور عبد الكريم اللاحم - وفقه الله -، وطبع بمكتبة دار المعارف بالرياض، ط 1، عام 1405 هـ، وما يتعلق بمسائل العقيدة حققه الدكتور سعود الخلف - وفقه الله -. (¬4) حققه معالي الدكتور أحمد المباركي - وفقه الله -، ط 3، عام 1414 هـ. (¬5) حققه سعود الخلف - وفقه الله -، وطبع بدار العاصمة بالرياض، ط 1، عام 1410 هـ. (¬6) حققه الدكتور وديع زيدان حداد - وفقه الله -، وطبع بدار المشرق، بيروت، ط 1، عام 1394 هـ، وهو مختصر لكتاب بنفس العنوان، كما ذكره المحقق في مقدمة الكتاب.

القسم الثاني - مؤلفاته المخطوطة

10 - كتاب الاعتكاف من "التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة" (¬1). * القسم الثاني - مؤلفاته المخطوطة: 1 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬2). 2 - تبرئة معاوية - رضي الله عنه - (¬3). 3 - التحذير من الغيبة (¬4). 4 - التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة (¬5)، ويسمى: الخلاف الكبير. ¬

_ (¬1) حققه الدكتور عواض العمري - وفقه الله -، ط 1، عام 1416 هـ. (¬2) يوجد في المكتبة الظاهرية ضمن مجموع برقم (42)، في 30 لوحة، ينظر: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية للألباني ص 295، ومعجم مصنفات الحنابلة (2/ 40). (¬3) يوجد نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإِسلامية بالمدينة النبوية برقم (1694)، ويتكون من سبع ورقات. ينظر: مقدمة كتاب الاعتكاف من التعليق الكبير ص 6، للدكتور عواض العمري. (¬4) ذكره الدكتور عبد الله الدخيل - وفقه الله - في مقدمة رسالة الدكتوراه التي كانت في تحقيق جزء من كتاب التعليق الكبير لأبي يعلى ص 42، وأشار بأنه يوجد له نسخة بمكتبة شستربتي - دبلن - رقم (3373)، ويوجد لها نسخة مصورة في مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت، ويقع في تسع ورقات (81 - 89). ينظر: فهرس المخطوطات والتراث (11، 15، 16). (¬5) سيأتي الحديث عنه - بإذن الله تعالى - في الفصل الثاني.

5 - التوكل (¬1). 6 - شرح الخرقي (¬2). 7 - رؤوس المسائل (¬3). 8 - العدة في أصول الفقه (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر صاحب "معجم مصنفات الحنابلة" (2/ 43): أن له نسخة في دار الكتب الظاهرية ضمن مجموع برقم (3249)، في ثماني ورقات، منسوخ في القرن السادس الهجري. (¬2) لم يُعثر عليه كاملًا، وقد حقق ما وجد من الكتاب، الدكتور سعود الروقي، والدكتور عبد العزيز الجوعي - وفقهما الله - في جامعة أم القرى، والموجود منه: من كتاب النكاح إلى نهاية كتاب عتق أمهات الأولاد. (¬3) يوجد له نسخة في المتحف البريطاني برقم (8250)، ومنه مصورة في مركز الملك فيصل بالرياض، ورقم تسلسله (114121)، وعدد لوحاته (221) لوحة، وتاريخ نسخه 726 هـ، وقد أُضيف إليه في آخره أوراق ليست منه، وقد أغفل ذكره أكثر من ذكر مصنفات القاضي. ينظر في نسبة هذا الكتاب للقاضي: التمام (1/ 275)، والإنصاف (1/ 26). (¬4) ذكره معالي الشيخ أحمد المباركي - وفقه الله - في مقدمة تحقيقه لكتاب العدة لأبي يعلى (1/ 10)، وقال: (كتاب العدة في أصول الفقه ... بعد ... الاطلاع عليه ثبت أنه للقاضي أبي يعلى)، وذكر الدكتور عبد الله الدخيل في مقدمة رسالة الدكتوراه سالفة الذكر ص 43: أنه يوجد منه نسخة بمكتبة الأوقاف ببغداد، برقم (7406)، وهي مخرومة من أولها، ولم يكتب عليها اسم المؤلف، وتقع في 33 ورقة.

القسم الثالث - مؤلفاته التي ذكر أنها لم توجد

9 - الفوائد الصحاح العوالي والأفراد والحكايات (¬1). 10 - مختصر إبطال التأويلات (¬2). * القسم الثالث - مؤلفاته التي ذُكِر أنها لم توجد: 1 - إبطال الحيل. 2 - إثبات إمامة الخلفاء الأربعة. 3 - أحكام القرآن. 4 - الاختلاف في الذبيح. 5 - أربع مقدمات في أصول الديانات. 6 - الانتصار لشيخنا أبي بكر. 7 - إيضاح البيان في مسائل القرآن. 8 - تكذيب الخيابرة فيما يدعونه من إسقاط الجزية. 9 - تفضيل الفقر على الغنى. 10 - الجامع الكبير، (قطعة منه فيه الطهارة، وبعض الصلاة، والنكاح، والصداق، والخلع، والوليمة، والطلاق). ¬

_ (¬1) يوجد منها نسخة في المكتبة الظاهرية، مجموع 116 (ق 35 - 49). ينظر: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية للألباني - رحمه الله - ص 295. (¬2) ذكر الدكتور عواض العمري - وفقه الله - في مقدمة تحقيقه لكتاب الاعتكاف من التعليق الكبير ص 8: أنه توجد نسخة في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري بالمدينة النبوية، وتقع في 62 صفحة.

11 - جوابات مسائل وردت من بعض البلدان؛ كأصفهان، وتنِّيس (¬1)، وغيرهما. 12 - الخصال والأقسام. 13 - ذم الغناء. 14 - الرد على الأشعرية. 15 - الرد على الباطنية. 16 - الرد على الكرامية. 17 - الرد على ابن اللبان. 18 - الرد على المجسِّمة. 19 - الرسالة إلى إمام الوقت. 20 - الروح. 21 - شرح المذهب. 22 - شروط أهل الذمة. 23 - الطب. 24 - عيون المسائل. 25 - القطع على خلود الكفار في النار. 26 - الفرق بين الآل والأهل. ¬

_ (¬1) جزيرة في البحر قريبة من البر من جهة مصر، ما بين الفرما ودمياط. ينظر: معجم البلدان (2/ 51).

27 - فضائل أحمد. 28 - فضل ليلة الجمعة على ليلة القدر. 29 - الكفاية في أصول الفقه. 30 - مختصر الكفاية. 31 - الكلام في الاستواء. 32 - الكلام في حروف المعجم. 33 - اللباس. 34 - المجرد في المذهب. 35 - مختصر الصيام. 36 - مختصر العدة. 37 - المقتبس. 38 - مختصر المقتبس. 39 - المعتمد. 40 - مقدمة في الأدب. 41 - نقل القرآن (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ينظر في مؤلفات القاضي - رحمه الله -: طبقات الحنابلة (3/ 383 - 385)، والمنهج الأحمد (2/ 365 - 368)، والقاضي أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية من ص 181 إلى 253، ومعجم مصنفات الحنابلة (2/ 38 - 55).

المبحث الثامن: وفاته - رحمه الله -

المبحث الثامن: وَفَاتهُ - رَحِمَهُ الله - في ليلة الاثنين، وبين العشاءين، في التاسع عشر من رمضان سنة ثمان وخمسين وأربع مئة للهجرة توفي القاضي شيخ الحنابلة - رحمه الله -، وصلى عليه ابنه أبو القاسم بجامع المنصور ببغداد، ودفن بالمقبرة التي دفن بها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وتزاحم الناس على جنازته، وبكوا على وفاته، وتسابق الشعراء لرثائه، فرحمه الله رحمة واسعة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الطبقات (3/ 400)، والبداية والنهاية (12/ 95)، والمنهج الأحمد (2/ 368).

الفصل الثاني التعريف بالكتاب

الفَصْلُ الثَّاني التَّعرِيفُ بِالكِتَابِ

المبحث الأول: التعريف بكتاب التعليق الكبير، وتوثيق نسبته إلى المؤلف

الفَصْلُ الثَّاني: التَّعرِيفُ بِالكِتَابِ المبحث الأَوَّل: التَّعرِيفُ بِكِتَابِ التَّعلِيقِ الكَبِيرِ، وَتَوثِيق نِسْبَتهِ إِلَى المُؤَلِفِ يعدُّ هذا الكتاب من أشهر كتب القاضي أبي يعلى - رحمه الله -، فكل من ذكر كتبه في ثنايا ترجمته من العلماء ينص على هذا الكتاب، ويشير إليه (¬1)، وقلَّ أن يوجد كتاب يعتني بذكر الروايات والخلاف من كتب الحنابلة إلا ومن مصادره الأساسية "التعليق الكبير"، والذي يسميه بعضهم بـ: "التعليقة الكبرى"، أو بـ: "الخلاف"، وقد حرص العلماء بعده على اقتنائه، والرجوع إليه، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو في مصر يكتب رسالة جاء فيها: (وترسلون - أيضًا - من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن أمكن الجميع، ¬

_ (¬1) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 385)، وسير أعلام النبلاء (18/ 89)، والاستخراج لأحكام الخراج ص 282، و 333، و 390، و 460، والإنصاف (1/ 26)، والمنهج الأحمد (2/ 368).

وهو أحد عشر مجلدًا، وإلا، فمن أوله مجلدًا، أو مجلدين، أو ثلاثة) (¬1). فهو من أجمع كتب الحنابلة للروايات والأقوال والأدلة (¬2)، ولذا اعتنى أهل العلم باختصاره (¬3)، وتخريج أحاديثه. وسيأتي في المبحث الآتي ما يؤكد هذا كله. * * * ¬

_ (¬1) العقود الدرية من مناقب شيخ الإِسلام ابن تيمية ص 258. (¬2) قال ابن بدران: (وأجمع ما رأيته لأصحابنا في هذا النوع: "الخلاف الكبير" للقاضي أبي يعلى، وهو في مجلدات). المدخل ص 452. (¬3) قال المرداوي: (وقد اختصرت هذه الكتب - ومن ضمنها التعليقة - في كتب مختصرة؛ مثل: رؤوس المسائل للقاضي أبي يعلى ... ). الإنصاف (1/ 26).

المبحث الثاني: إثبات أن هذا الكتاب هو التعليق الكبير

المبحث الثَّاني: إِثْبَاتُ أَنَّ هَذَا الكِتَابُ هُوَ التَّعْلِيقُ الكَبِيْر الأدلة على ذلك كثيرة، أقتصر على بعضها: 1) - المقارنة بين ما حُقِّق من المخطوط في الرسالتين السابقتين للدكتور العمري، والدكتور الدخيل، وبين هذا المخطوط يتبين أن أسلوبهما واحد لا يختلف، من حيث عرض المسألة، والمناقشة للأدلة، بل مما يزيد الأمر وضوحًا: ترتيب الأجزاء في المخطوط الذي قمتُ بتحقيقه مع المخطوط الذي تم تحقيقه من قبل؛ حيث إن هذا المخطوط يتخلله بعض الأجزاء؛ كالجزء الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، وهكذا من الأجزاء التي وضعها المؤلف إلى الجزء الحادي والعشرين، ثم بعده كتاب الزكاة، والصوم، وهما ضمن المفقودات، ثم بعدهما الحج، ويتضمن - كما في المخطوط - الجزء الثاني والثلاثين وما بعده، وفي مخطوط البيوع يأتي الجزء التاسع والثلاثون، ثم الجزء الأربعون، وهكذا، فهذا الترتيب في الأجزاء يفيد أن هذا المخطوط واحد، وأنه التعليق الكبير. 2) - الأحاديث التي أوردها المؤلف في الجزء المخطوط هي التي

بحثها ابن الجوزي في كتابه "التحقيق"؛ مما يدل على أن المخطوط جزء من كتاب التعليق لأبي يعلى، بل إن ابن الجوزي - رحمه الله - قبل بحثه للأحاديث يذكر أول المسألة، والتي هي رأس المسألة في المخطوط، مثال ذلك: 1 - مسألة: الركبة ليست بعورة، هي في لوح 9 من المخطوط، ذكرها ابن الجوزي، وخرج أحاديثها في كتابه "التحقيق" (2/ 346). 2 - مسألة: في سورة الحج سجدتان، ذكر ابن الجوزي أول المسألة، ثم أتبع ذلك بتخريج أحاديثها كما في كتابه "التحقيق" (3/ 218)، وهي موجودة بنصها في "التعليق" في لوح 33. 3 - مسألة: إذا صلى الكافر، حُكم بإسلامه، ذكر ابن الجوزي رأس الخلاف في المسألة الموجود في المخطوط لوح 133، وخرج الأحاديث الواردة في كتابه (4/ 61). 3) - أن كثيرًا من أقوال القاضي - التي أودعها في التعليق - ينقلها علماء الحنابلة في كتبهم، ويشيرون إلى نقلها عن القاضي، وكتابه "التعليق"، من أمثلة ذلك: * ابن قدامة - رحمه الله - (¬1) في كتابه "المغني" تجده ينقل عن أبي ¬

_ (¬1) هو: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي، كان من أئمة الحنابلة، وشيوخ المذهب، ألف الكثير من الكتب، منها: المغني، والكافي، وروضة الناظر، وغيرها، توفي =

يعلى، ويشير إلى ذلك، مثال ذلك: 1 - مسألة: ستر المنكبين في الصلاة؛ فقد نقل ابن قدامة بالنص (2/ 290) ما نقله القاضي عن الإمام أحمد في رواية مثنى بن جامع الأنباري، وما فهمه القاضي منها، علمًا أنه موجود بحروفه في لوح 13 من المخطوط. 2 - مسألة: الرش على بول الغلام؛ فقد ذكر ابن قدامة (2/ 495) كلام القاضي حول هذه المسألة، الذي هو موجود في المخطوط لوح 78. 3 - مسألة: الأنين في الصلاة؛ فقد نقل ابن قدامة (2/ 453) كلام القاضي حولها؛ كما هو موجود بنصه في المخطوط لوح 151. * ابن مفلح - رحمه الله - (¬1) في بعض كتبه ينقل عن القاضي ما كتبه في التعليق، مثال ذلك: 1 - نقل نص القاضي كما هو موجود في المخطوط لوح 18؛ حيث قال: (وقيل للقاضي: لو صلى في بَراح لرجل ليس عليه ستر، فقال: ¬

_ = - رحمه الله - سنة 620 هـ. المقصد الأرشد (2/ 15)، وسير أعلام النبلاء (22/ 165). (¬1) هو: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد بن مُفرِّج المقدسي، شيخ الحنابلة في وقته، كان بارعًا في الفروع، عارفًا للخلاف، من مؤلفاته: الفروع، والآداب الشرعية، توفي - رحمه الله - سنة 763 هـ. ينظر: المقصد الأرشد (2/ 517)، والسحب الوابلة (3/ 1089).

لا رواية فيه، ويحتمل أن نسلّمه؛ لأن الظاهر أن مالكه لا يمنع). "الفروع" (2/ 49). 2 - نقل كلام القاضي في مسألة الجمع بين الصلاتين لأجل الوَحَل، فقال: (وقاسه القاضي وغيره على الجمع لهما للوحل، مع أنه قال بعد هذا: الوحل عذر في الجمع، وذكر رواية أبي طالب المذكورة، قال: فقد جعله عذرًا في إسقاط الجمعة، واحتج بخبر ابن عمر ... قال: فإذا جاز ترك الجماعة لأجل البرد، كان فيه تنبيه على الوحل؛ لأنه ليس مشقة البرد بأعظم من الوحل). "الفروع" (3/ 105 و 106)، وهذا بنصه موجود في المخطوط لوح 172. 3 - نقل كلام القاضي في مسألة: إقامة الجمعة في أكثر من موضع، فقال: (قال القاضي في الخلاف: إن من قال: لا تجوز في موضعين للحاجة، احتج بأنه لا تجوز في موضعين، قياسًا على الثلاثة. قال: والجواب: أن الخرقي أجاز ذلك من غير أن يختص ذلك بموضعين، ولم يمتنع أن تجوز في موضعين، ولا تجوز في ثلاثة مواضع؛ كصلاة العيد. وقد قيل: إن القياس يقتضي أن لا يجوز إلا في موضع واحد؛ لأنه لو جاز في موضعين، لجاز في سائر المساجد؛ كسائر الصلوات، ولجاز في سائر المواطن من السفر، والحضر؛ كسائر الصلوات، إلا أنا تركنا القياس في موضعين؛ لما ذكرنا من حديث علي - رضي الله عنه -، وأنه أقام العيد في موضعين، وحكمها حكمُ الجمعة من الوجه الذي بيّنا). "النكت على المحرر" (1/ 230)، وهو نص الكلام الموجود في التعليق لوح 207.

* ابن رجب - رحمه الله - (¬1) نقل كلام القاضي في مسألة الجمع بين الصلاتين للمرض، فقال: (وقد روى المروذي: أن أحمد احتجم بالعسكر، فما فرغ إلا والنجوم قد بدت، فبدأ بالعَشاء قبل الصلاة، فما فرغ حتى دخل وقت العِشاء، فتوضأ، وصلى المغرب والعشاء. قال القاضي في خلافه: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مسافرًا ... والثاني: أنه خاف على نفسه من تأخير العَشاء المرضَ). "فتح الباري" (4/ 109 و 110)، وهذا موجود في لوح 173. 4) - العبارات الواردة في المخطوط التي تدل - بلا شك - على أنه التعليق الكبير، من ذلك: 1 - قوله (في لوح 54): [وروى شيخنا أبو عبد الله في كتابه، فقال: حدثنا ابن سلم ... ]، (وفي لوح 63): [ذكره شيخنا ... ]، (وفي لوح 75): [ما روى شيخنا ... ]، ومعروف أن أبا يعلى إذا أطلق لفظ: (شيخنا)، فمراده: الحسن بن حامد؛ وهذا مصطلحه الذي ظهر في كتبه؛ "كالروايتين والوجهين" (¬2). ¬

_ (¬1) هو: أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسين البغدادي ثمَّ الدمشقي، صاحب التصانيف المفيدة، من أئمة الحنابلة البارزين، من مؤلفاته: جامع العلوم والحكم، والقواعد الفقهية، وفتح الباري ولم يكمله، توفي - رحمه الله - سنة 795 هـ. ينظر: المقصد الأرشد (2/ 81)، والسحب الوابلة (2/ 474). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 95، 115، 226، 232، 2/ 21، 81، =

وكذلك مخطوط التعليق الكبير الذي حُقِّق - من قِبل الدكتورين: العمري، والدخيل - فإنه يورد هذه العبارات، ويريد بشيخنا: الحسن بن حامد. ومما يؤكد ذلك: أن أحمد بن سَلْم - الوارد في السند الماضي - أحد شيوخ ابن حامد الذين يروي عنهم. 2 - عبارة: [ونقلت من خط أبي إسحاق البرمكي عن شيخنا أبي عبد الله قال: وجدت في مسائل يعقوب بن بختان ... ] المخطوط لوح 64، وأبو إسحاق البرمكي ممن صحب الحسن بن حامد، وعلَّق عنه (¬1)، وهذا يفيد أن الناقل هو أبو يعلى. هذه بعض الأمور التي تثبت أن الكتاب المحقق هو التعليق الكبير، ومن قرأ فيه، لم يخالجه الشك في صحة هذا الكلام، والله أعلم. * * * ¬

_ = 83، 126، 3/ 8، 16، 37، 60). (¬1) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 353).

المبحث الثالث: وصف النسخة المخطوطة للكتاب

المبحث الثَّالث: وَصْفُ النسْخَةِ المَخْطُوطَةِ لِلّكِتَابِ حصلت على نسخة واحدة لهذا الكتاب؛ إذ لم أجد غيرها، وقد بذلت جهدًا للحصول على نسخة أخرى، وإلى الآن لم يتيسر ذلك، وهذه النسخة التي وُجِدت تغني عما سواها؛ وذلك لوضوحها، وقلة أخطائها في الجملة، ولتحقق المراد منها، ووجودُها بعد اعتبارها في عالم المفقودات - لا شك - أنه فضل من الله - عز وجل -. وهذه النسخة الفريدة كانت في إحدى المكتبات الخاصة، التي آلت إلى دارة الملك عبد العزيز - رحمه الله - أخيرًا، وهي محفوظة في الدارة ضمن مجموعة المرشد رقم (85)، وتقع في أربع وتسعين ومئتي لوحة، في كل لوحة صفحتان، تحوي كل صفحة خمسة وعشرين سطرًا في الغالب، والسطر يحوي نحوًا من ثلاث عشرة كلمة إلى خمس عشرة كلمة. وقد كتبت بخط النسخ، وهي معجمة، مشكلة، معتنى بها، وقد قرأها عدد من أهل العلم، وعلقوا عليها، كما في لوحة 85، و 108، و 109، و 112، و 113، و 116، و 135، و 234، وقد سقط آخر

المجلدة، والذي فيه اسم الناسخ، وتاريخ النسخ، وقد عرضتُها على المحقق الكبير فضيلة الدكتور العلامة/ عبد الرحمن بن سليمان العثيمين - غفر الله له، وأجزل ثوابه -، فقدَّر تاريخ نسخها في القرن السابع، وقد أصاب آخرَها بعضُ الرطوبة. وهي نسخة منطبق عليها شروط التحقيق؛ حيث إن الكتاب من الكتب المعتمدة المتقدمة، وأهميته سبق إيضاحها، كما أنها سالمة من الخروم، والأسقاط، والطمس، وهي نسخة مقابلة على نسخة المؤلف، مأخوذة من أصله؛ كما في لوح 153، ولوح 242، ولوح 274. ومادة المخطوطة موجودة في كتب تالية للمؤلف ناقلة عنه، وعامة كتب فقه الحنابلة لم تخل من نقل عن هذا الكتاب المهم. * * *

المبحث الرابع: بيان منهج المؤلف في هذا الكتاب

المبحث الرابع: بَيَان مَنْهَج المؤلِّف في هَذَا الكِتَابِ قد سار المؤلِّف - رحمه الله - على منهج واضح في تقرير مسائل هذا الكتاب، فهو يبدأ بذكر رأي الحنابلة، والروايات الواردة عن الإمام أحمد - رحمه الله - في المسألة، ثم يُتْبع ذلك بأقوال أئمة المذاهب الأخرى، بذكر الموافق، ثم المخالف في المسألة، وقد يَذكرُ قول أئمة المذهب الحنبلي، بل قد يذكر أحيانًا أقوال التابعين، ومن بعدهم، ويحرر المذهب من الروايات، ثم بعد ذكره للأقوال، يبدأ بسرد الأدلة من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والقياس، ثم يورد الاعتراضات عليها، ويجيب عنها، ثم يورد أدلة المخالفين، ويجيب عنها، وينصُرُ مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - بما ظهر من الأدلة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) قال ابن بدران - رحمه الله -: (وأجمع ما رأيته لأصحابنا في هذا النوع: "الخلاف الكبير" للقاضي أبي يعلى، وهو في مجلدات، ولم أطلع منه إلا على المجلد الثالث، وهو ضخم، أوله: كتاب الحج، وآخره: باب السلم، وقد سلك فيه مسلكًا واسعًا، وتفنَّن في هدم كلام الخصم تفننًا لم أره في غيره، واستدل بأحاديث كثيرة، لكن تعقبه في أحاديثه الحافظ أبو الفرج ... ). "المدخل" ص 452.

المبحث الخامس: مصادر الكتاب

المبحث الخامس: مَصَادِر الكِتَابِ حيث إن الذي قمت بتحقيقه هو جزء يسير من أصل الكتاب، فهو لا يمكن الإحاطة بمصادر الكتاب كلها، ولذا سأبذل جهدي في تلمس مصادر هذا الجزء الذي عملت على تحقيقه. فمن أهم مصادر المؤلف في كتابه: * القرآن الكريم. * السنة النبوية من قول، أو فعل، أو تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم -. * الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم -. * أقوال التابعين ومن تبعهم من الأئمة. * المسائل المروية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي: 1 - مسائل إبراهيم بن الحارث. 2 - مسائل إبراهيم بن إسحاق الحربي. 3 - مسائل إبراهيم بن عبد الله بن مهران الدينوري. 4 - مسائل أحمد المروذي.

5 - مسائل أحمد بن القاسم. 6 - مسائل أحمد بن الحسين بن حسان. 7 - مسائل أحمد بن محمد أبي الحارث الصائغ. 8 - مسائل أحمد بن أبي عبدة. 9 - مسائل أحمد بن حميد المشكاني. 10 - مسائل أحمد بن محمد الأثرم. 11 - مسائل أحمد بن نصر بن حامد الخفاف. 12 - مسائل أحمد بن الحسن الترمذي. 13 - مسائل أحمد بن الفرات. 14 - مسائل إسحاق بن منصور الكوسج. 15 - مسائل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ. 16 - مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي. 17 - مسائل إسماعيل أبي النضر العجلي. 18 - مسائل بكر بن محمد. 19 - مسائل جعفر بن محمد النسائي. 20 - مسائل حبيش بن سندي. 21 - مسائل حرب الكرماني. 22 - مسائل الحسن بن أيوب البغدادي.

23 - مسائل الحسن بن ثواب. 24 - مسائل حنبل بن إسحاق. 25 - مسائل حمدان بن علي، أبي جعفر الوراق. 26 - مسائل سليمان بن الأشعث (أبي داود). 27 - مسائل صالح بن الإمام أحمد. 28 - مسائل عبد الله بن الإمام أحمد. 29 - مسائل عبد الملك الميموني. 30 - مسائل علي بن سعيد بن جرير النسوي. 31 - مسائل الفضل بن زياد القطان. 32 - مسائل محمد بن الحكم. 33 - مسائل محمد بن النقيب بن أبي حرب الجرجرائي. 34 - مسائل محمد بن ماهان النيسابوري. 35 - مسائل محمد بن موسى بن مشيش. 36 - مسائل مهنا الشامي. 37 - مسائل يعقوب بن بختان. 38 - مسائل يوسف بن موسى بن راشد. * كتب صرَّح المصنف بذكرها: 1 - أجوبة مسائل لابن قتيبة.

2 - أحكام أهل الملل للخلال. 3 - اختلاف الفقهاء للساجي. 4 - الأفراد للدارقطني. 5 - الأم، والإملاء للشافعي. 6 - الأوسط لابن المنذر. 7 - التفسير لأبي بكر الخلال. 8 - تعاليق كتاب العلل لأبي إسحاق. 9 - تعاليق أبي حفص العكبري. 10 - التنبيه لأبي بكر غلام الخلال. 11 - الخلاف لأبي بكر غلام الخلال. 12 - الرد على أهل الرأي لمحمد بن نصر. 13 - زاد المسافر لأبي بكر عبد العزيز. 14 - سنن أبي داود. 15 - سنن الدارقطني. 16 - سنن أبي بكر النجاد. 17 - الشافي لأبي بكر غلام الخلال. 18 - صحيح البخاري. 19 - صحيح مسلم.

20 - صحيح ابن خزيمة. 21 - العلل لأبي بكر الخلال. 22 - عدد آي القرآن لمحمد بن خلف. 23 - غريب الحديث لأبي عبيد. 24 - كتب الحسن بن حامد. 25 - اللباس للخلال. 26 - المجموع لأبي حفص البرمكي. 27 - مختصر الخرقي. 28 - مسند الإمام أحمد. 29 - مسند الحميدي. 30 - المعارف لابن قتيبة. 31 - معاني القرآن للزجاج. 32 - المناسك لأبي حفص. 33 - المناهي لابن شاهين. هذه هي الكتب الوارد ذكرها في هذا الجزء من هذا الكتاب. * * *

المبحث السادس: ذكر محاسن الكتاب

المبحث السادس: ذِكْرُ مَحَاسِنِ الكِتَابِ كتاب ألَّفه شيخ الحنابلة، واشتهر به، لا أشك أنه من أفضل الكتب المؤلفة في بابه، ومحاسنه لا أستطيع إحصاءها، ولكن سأشير إلى أهم ما تميز به هذا الكتاب: ومنها: أ - كثرة الاستدلال على المسائل المذكورة بأدلة من الكتاب، والسنة، والآثار عن السلف من الصحابة، ومن بعدهم. ب - النقل عن الأئمة المتبوعين من أرباب المذاهب، وأصحابهم، ويزيد العناية بأئمة المذهب الحنبلي، والروايات الواردة فيه. ت - التحقيق، وتحرير المسائل العلمية المطروحة، ومناقشة الأدلة. ث - بيان سبب الخلاف في بعض المسائل. * * *

المبحث السابع: التنبيه على بعض الملحوظات التي وردت في الكتاب

المبحث السابع: التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ المَلْحُوظَاتِ الَّتِي وَرَدَت في الكِتَابِ لستُ أهلًا أن أُبيّن ملحوظات على إمام من أئمة الفقه في أهم وأشهر كتبه، لكن لما كانت من مستلزمات خطة البحث، فأستعين بالله كاتبًا: إن أبرز ما يمكن ملاحظته على هذا الكتاب ما يلي: 1 - استدلاله بالأحاديث الضعيفة، والموضوعة. 2 - إغفاله لأقوال بعض المذاهب الأربعة في بعض المسائل. 3 - يكتنف بعض جُمَل الكتاب غموض، لا يُدرك القارئ منها معنى، وربما كانت من أخطاء النساخ. 4 - إيراده لبعض الأحاديث بأسانيدها مع وجود الحديث في "الصحيحين"، أو في أحدهما. هذه أبرز ما يمكن أن يكتب في هذا المقام، وأسأل الله أن يجزي أبا يعلى عن المسلمين خيرًا، فما ذُكِر مغمور في محاسن الكتاب. * * *

صُوَر المخْطُوطَات

القسمُ الثَّاني النَّصُّ المحَقَّقُ التَّعْليقُ الكَبيْرُ في المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الأَئِمَةِ تَألِيْفُ القَاضِي أبِي يَعْلَى الفَرَّاءِ مُحمَّد بنِ الحُسَيْنِ بنِ مُحمَّد بنِ خَلَف البَغدَادِيِّ الحَنبَلِيِّ المولود ببغداد سنة 380 هـ والمتوفى بها سنة 458 هـ رحمه الله تعالى

تابع [كتاب الصلاة] [جـ 1 - 3]

تَابِع [كِتاب الصَّلَاةِ] وروى وكيع قال: حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال: لم يقنت أبو بكر ولا عمر - رضي الله عنهما - في الفجر. وروى الشالنجي قال: حدثنا شبابة عن عبد الله (¬1) بن ميسرة عن إبراهيم بن أبي حرة عن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - قال: أشهد لقد سمعت ابن عباس يسأل عن القنوت في صلاة الغداة فكرهه. وروى الدارقطني بإسناده عن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - قال: أشهد أني سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: القنوت في صلاة الفجر بدعة. فإن قيل: فقد روي عن عمر، وعلي - رضي الله عنهما - القنوت. قيل: أما عمر - رضي الله عنه - فقد روينا عنه من جهات ترك القنوت، وروايتنا أولى؛ لأنه يعضدها قول غيره، أما ما روي عن علي - رضي الله عنه - فقد روى ¬

_ (¬1) تنبيه: حيث أن رسالة الدكتوراه لم تتناول جميع المخطوط الموجود فهي تبدأ من (1/ 96) إلى نهاية الجزء الثالث، فقد قام المحقق بإكمال ما تبقى منه، وذلك بضبط النص بقدر الاستطاعة، والله الموفق. في الأصل: عبد الملك، والتصويب من سنن الدارقطني، والسنن الكبرى للبيهقي، وينظر: الميزان (4/ 566).

الشالنجي قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: إنما كان علي يقنت ها هنا؛ لأنه كان محاربًا ويدعو على أعدائه في القنوت في الفجر والمغرب، وهذا يدل على أن قنوته لسبب، ونحن نجيز مثل هذا، وهو أنه يجوز للإمام أن يدعو إذا أدهمه العدو، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية المروذي، وأبي طالب: إذا كان في سرية وغزاة وقنت الإمام، دعا من خلفه. فإن قيل: فتحمل أخباركم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القنوت، وترك القنوت الذي كان يدعو به على قوم من العرب بأسمائهم، ونحن نمنع من ذلك. قيل له: معلوم أن لم يكن جملة قنوته الدعاء على قوم من العرب، بل كان هذا وغيره من الأدعية التي كان علمها للحسن - رضي الله عنه -، فيجب أن يحمل النهي والترك لجميع ذلك. والقياس: أن هذه صلاة مفروضة فوجب أن لا يكون القنوت مسنونًا فيها، أصله: المغرب، ولا يلزم عليه (¬1) الوتر؛ لأنه ليس بفرض، ولا يلزم عليه إذا قنت الإمام على العدو، ولأن (¬2) ذلك يستوي فيه الأصل والفرع؛ لأن المروذي روى عن أحمد أنه قال: يقنت في الفجر والمغرب. فإن قيل: صلاة الفجر مخصوصة بالجهر بالقراءة في جميعها، وطول القراءة فيها، واختصاص أذانها بالتثويب، كذلك يجوز أن تختص بالقنوت. ¬

_ (¬1) في الأصل: على. (¬2) كذا في الأصل: ولعل صوابها: لأن، بدون الواو.

قيل: الجمعة تختص بالقراءة في جميعها، وتختص بشرائط كثيرة لا يشاركها فيها غيرها، ثم لم (¬1) القنوت. واحتج المخالف بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، والصلاة الوسطى: صلاة الصبح، فدلّ على أن القنوت مستحب فيها. والجواب: (¬2) علم أن الوسطى صلاة الصبح، وقد بينا ذلك فيما تقدم، وعلى أنا لو سلمنا (2) هذا الآية نزلت في النهي عن الكلام في الصلاة. وروي عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، وقد قيل: القنوت طول القيام في الصلاة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصلاة طول القنوت" يعني: طول القيام. واحتج بما روى أنس - رضي الله عنه - قال: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وروى أبو داود في سننه عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في صلاة الصبح. والجواب: أنه يرويه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس، وأبو جعفر ضعيف، والربيع لم يلق أنس فهو مرسل، وعندهم أن المرسل ليس بحجة. ¬

_ (¬1) سقط هنا بعض الكلمات لتمزق الورقة في الأصل. (¬2) سقطت بعض الكلمات لتمزق في الأصل.

وقد تكلم أبو القاسم عبد الرحمن بن منده فيما كتب به إلى علي - رضي الله عنه - هذا الحديث فقال: من الناس من يستدل على إقامة القنوت في صلاة الصبح بحديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الفجر حتى فارق الدنيا، وذكر بعده بإسناده عن عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: أبو جعفر الرازي ليس بالقوي في الحديث، وقال: رواه ابن أبي حاتم وغيره عن عبد الله بن أحمد بن حنبل - رضي الله عنهم - وروى بإسناده عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا إذا دعا على قوم أو دعا لهم، وهذا يدل على تعارض الرواية عن أنس وروى أيضًا عن معمر بن راشد، وإسحاق بن راشد عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في صلاة الفجر حتى أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] وذكر حديث عمرو بن عبد الغفار وغيره عن أبي جعفر عن الربيع عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يقنتون حتى مضوا، ثم روى بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: عمرو بن عبد الغفار ضعيف متروك الحديث، إلى ها هنا كلام عبد الرحمن. وعلى أنا روينا عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا ثم تركه. وجواب آخر: وهو أنه يحتمل أنه يكون قوله: قنت في صلاة الغداة بعد ما يفرغ من الصلاة ويسلم؛ لأن الصلاة قد يعبر بها عن الوقت

1 - مسألة: الترتيب مستحب في قضاء المغرب وإن كثرت

يقال: ... صلاة الفجر أو الظهر يعني وقت صلاة الفجر أو الظهر ويحتمل أن يكون قنت في صلاة الفجر يعني أطال القيام والقراءة فيها. واحتج: بأنه دعاء مسنون في صلاة النافلة، فكان مسنونًا في صلاة الفرض، دليله: سائر الأدعية المسنونة. والجواب: أنا نقلبه فنقول: وجب أن لا يختلف فيه صلاة الصبح وغيرها من الصلوات المفروضة، دليله: ما ذكرت، وإن قاسوا على قنوت الإمام على العدو فالمعنى فيه: أنها حال عذر، وقد يجوز في حال العذر (¬1) ما لا يجوز في غيرها، بدليل: الصلاة راجلًا وراكبًا، لأنا نقول وجب أن لا تختص بالفجر، دليله: قنوت الإمام على العدو. * * * 1 - مَسألَة: الترتيب مستحب في قضاء المغرب وإن كثرت: نص عليه في مواضع فقال في رواية مهنا: فمن ترك الصلاة سنين فلا يصلي صلاة مكتوبة إلا في آخر وقتها حتى يقضي التي عليه من الصلاة. ونقل عبد الله أيضًا: فمن ترك الصلاة شهرًا يعيد ما ترك حتى يضعف، فإن خاف فوت صلاة بدأ بالتي يخاف فوتها ثم قضى بعد ذلك، وكذلك نقل صالح وغيره. وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: يستحق الترتيب في خمس ¬

_ (¬1) في الأصل: العدو.

صلوات فما دون، ولا يستحق فيما زاد على ذلك. وقال الشافعي، وداود رحمهما الله: الترتيب غير مستحق في الجملة. فالدلالة على وجوب الترتيب في الجملة: أنه فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ورد مورد البيان كان على الوجوب. وقد روى جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته أربع صلوات يوم الخندق، فلما كان هويّ من الليل قام فصلاهن على الترتيب، فدل ذلك على وجوبه. فإن قيل: المجمل في القرآن أفعال الصلاة، وتقديم الصلاة على الصلاة ليس من أفعال الصلاة. قيل: المراد بالأمر في كتاب الله تعالى فعل الصلاة في مواقيتها، يدل عليه أن فعله لما وقع في الصلوات المعهودة في مواقيتها اعتقدت الصحابة رضوان الله عليهم وجوبها في هذه الأوقات، وإذا كان ذلك مرادًا كان ترتيبه للفوائت في مواقيتها بيانًا لأوقاتها. فإن قيل: الأمر بالصلاة في القرآن هو الأمر بالأداء في وقتها، والقضاء ثبت بدليل آخر، فلم يكن ما فعله في القضاء بيانًا للمجمل في القرآن (¬1). قيل له: والقضاء له أصل في القرآن ويحتمله، ففعله بيان له. وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقد صلى مرتبًا، فوجب أن يُصلى كما صلى. ¬

_ (¬1) في الأصل: الف، وأصاب ما بعدها طمس، وتحتمل الكلمة: القرآن، والفائتة.

وأيضًا بما روى أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا وقت لها إلا ذلك" فجعل وقت الذكر أخص بالفائتة (¬1) الوقت فلا يجوز تقديم صلاة الوقت على الفائتة كالفجر والظهر لما اختصت كل واحدة بوقت لزم فيهما الترتيب. فإن قيل: هذا حجة لنا من وجه وهو: أنه إذا كانت عليه صلاة صبح منسية، وظهر بعدها منسية، وذكر الظهر أن يصح فعل الظهر قبل الصبح لقوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" وهذه قد ذكرها. قيل له: الخبر يقتضي صلاة مذكور بقوله "من نام عنها أو نسيها" وإذا ... (¬2). وأيضًا روى شيخنا في كتابه عن [أبي] (¬3) إبراهيم الترجماني قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي (¬4) عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي يصلي ثم ليعد". ورواه أبو بكر في كتاب التنبيه عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ¬

_ (¬1) طمس في آخر السطر بمقدار كلمة. (¬2) في الأصل بياض بمقدار عشر كلمات. (¬3) ساقطة من الأصل، والتصويب من السنن الكبرى للبيهقي. (¬4) في الأصل: الترجماني، والتصويب من سنن الدارقطني، والتحقيق لابن الجوزي.

عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يصلي التي هو فيها ويقضي التي ذكر ويقضي التي كان فيها". والقياس: أنه ترتيب في الصلاة يستحق مع بقاء الوقت فلم يسقط بفواته، وكون الصلاة في الذمة، دليله: ترتيب الركوع والسجود. أو نقول: ترتيب مستحق في الأداء، فوجب أن يكون مستحقًا في القضاء، دليله: ما ذكرنا، ولأنهما صلاتان واجبتان مفعولتان في وقت يتسع لهما، فوجب أن يكون الترتيب بينهما واجبًا، كصلاتي عرفة، ولا يلزم عليه إذا كان ناسيًا؛ لأن التعليل لوجوب الترتيب في الجملة، ولا يلزم عليه إذا ذكرها في آخر الوقت؛ لأن الوقت لا يتسع لهما، ولا يلزم عليه جواز النافلة قبل الفائتة؛ لقولنا: واجبتان. فإن قيل: قوله: صلاتان، لا تأثير له؛ لأنه لا فرق عندك بين الصلاتين، وبين الصلوات. قيل له: الترتيب وإن كان ثابتًا في أكثر من صلاتين، فإنما ثبت بين كل صلاتين أولى فأولى حتى يستغرق جميعها فإنه يثبت بين الفجر والتي يليها، وكذلك بين الظهر والتي يليها على هذا حتى يستغرقها (¬1). فإن قيل: لما لم يسقط الترتيب بين الركوع والسجود، وبين صلاتي عرفة مع النسيان (¬2) يسقط مع الذكر، وفي مسألتنا يسقط مع النسيان فسقط مع الذكر. ¬

_ (¬1) طمس بمقدار كلمة. (¬2) طمس بمقدار كلمة.

قيل له: لا يمتنع أن يكون الترتيب شرطًا في الفوائت، ويختلف حال النسيان والذكر كالإمساك في (¬1) هو شرط ويختلف تركه مع النسيان والذكر، وترك الكلام عند مخالفنا. فإن قيل: إنما وجب الترتيب في المجموعتين؛ لأن الثانية تبع للأولى، وليس كذلك الفائتتان؛ لأنهما أصلان. قيل: لا يمتنع أن يكونا أصلين ويدخلهما الترتيب كالحجة المفروضة، والمنذورة، والفائتة، والحاضرة إذا تضايق وقت الحاضرة، والطهارة، والصلاة تترتب الطهارة على الصلاة. واحتج المخالف: بما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبتدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسيها". والجواب: أنا نحمله عليه إذا ذكر الفائتة وهو في الصلاة آخر الوقت، وعلى أنا نقابله بما روى ابن عمر - رضي الله عنهما -، وهو أولى؛ لأن فيه زيادة، والأخذ بالزائد أولى. واحتج: بأنهما صلاتان اتفقا في الوجوب، فوجب أن لا تترتب في الصحة، دليله: إذا كان الوقت ضيقًا، وفيه احتراز من صلاتي عرفة، فإن صلاة العصر غير واجبة في وقت الظهر، وإنما رخص في فعلها على سبيل التبع، فإذا لم توجد المتبوعة لم تصح التابعة، والفوائت كلها متفقة في الوجوب. ¬

_ (¬1) طمس بمقدار كلمة.

والجواب: أنه لا تأثير لقوله: صلاتان؛ لأن الصلوات، وقضاء رمضان، واجتماع الزكوات من سنين لا يجب الترتيب فيها، فتخصيص الصلوات بالترتيب لا تأثير له، وعلى أن المعنى في الأصل إنما سقط الترتيب في هذه الحال؛ لأنه لو قدم الفائتة لفائتة صلاة الوقت فيصليهما جميعًا في غير وقتهما، ولأن يصلي واحدة في وقتها أولى من أن يصليهما في غير وقتهما، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا، وعلى أنه ينتقض به إذا تضايق وقت الحاضرة، فإنه يجب ترتيب الحاضرة. واحتج: بأنهما عبادتان إذا ضاق وقت أداء الفائتة سقط الترتيب فيهما، فوجب إذا ثبتا في الذمة سقط الترتيب فيهما كصوم يومين من رمضان فإنه لو ترك اليوم الأول من رمضان فإن صوم اليوم الثاني يضيق فيه إذ لا وقت له غيره ثم يصوم اليوم الثاني وعليه صوم اليوم الأول، وكذلك إذا فاتا جميعًا كذلك ها هنا، وربما قالوا: عبادة واجبة لا تمتنع نفلًا من جنسها فمنعت فرضًا من جنسه. والجواب: أن الصيام والزكاة لا يعتبر الترتيب من جنسه، وليس كذلك الصلوات فإن ذلك يعتبر في جنسها بدليل المجموعتين. واحتج: بأنها عبادات اتفقت في الوجوب فلم تترتب في الصحة، دليله: الصلاة مع الصيام، والصيام مع الحج، والحج مع الزكاة. والجواب: أنه يبطل بالطهارة مع الصلاة، والحجة المفروضة مع المنذورة، والفائتة مع الحاضرة إذا تضايق وقت الحاضرة، وصوم القضاء مع صوم رمضان في شهر رمضان فإن الترتيب مستحق في جميع ذلك

فصل

إن كان الوصف موجودًا في ذلك، وعلى أن الترتيب غير معتبر في تلك العبادات ألا تراه غير معتبر في حال أدائها، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه معتبر في الصلوات ألا تراه معتبرًا في حال الأداء فكان معتبرًا في حال القضاء كترتيب الركوع والسجود. واحتج: بأن ترتيب الصلوات غير مقصود، وإنما ترتيب لترتيب أوقاتها، فإذا فاتت أوقاتها سقط الترتيب في قضائها كما يسقط التفريق بينهما، وكما أن صوم رمضان يجب متتابعًا لتتابع وقته فإذا فات الوقت سقط التتابع في القضاء. والجواب: أنه لو كان الترتيب لأجل الوقت لسقط في الجمع لعدم الوقت في حق الثانية، ولأن الوقت لم يوضع في الأصل للترتيب، وإنما هو شرط في جواز الصلاة وإنه متى لم يدخل الوقت لا يجوز فعلها فأما أن يقال: أنه وضع للترتيب فلا. * فصل: والدلالة على وجود الترتيب وإن كثرت وزادت على خمس صلوات أنها صلوات واجبات تفعل في وقت يتسع لها، فوجب فيها الترتيب، دليله: الخمس صلوات، ولا ترتيب في الصلاة فوجب أن يستوي حكمه في ست صلوات وما دون، دليله: ترتيب الأركان من الركوع والسجود وغير ذلك. فإن قيل: الست قد حصلت في حد التكرار، فلهذا سقط الترتيب فيها كصوم أيام رمضان إذا فاته يسقط الترتيب فيه لهذه العلة، وكذلك ركعات الصلاة وسجداتها لا يجب الترتيب فيها لهذه العلة، وليس كذلك

2 - مسألة: يجب الترتيب مع سعة وقت الحاضرة، ويسقط مع ضيقه

إذا لم تزد الفوائت على يوم؛ لأنها لم تحصل في حد التكرار. قيل له: لو كان هذا صحيحًا لوجب أن يسقط الترتيب فيما حصل التكرار فيه وهي الخامسة، والسادسة، ولما سقط الترتيب في الجميع امتنع أن يكون هذا فرقًا صحيحًا، وعلى أن ما اعتبر الترتيب ولم يسقط بحصوله في حد التكرار، بدليل: الترتيب في الركوع والسجود. * * * 2 - مَسألَة: يجب الترتيب مع سعة وقت الحاضرة، ويسقط مع ضيقه: نص على هذا في رواية الأثرم (¬1)، وإبراهيم بن الحارث (¬2)، ¬

_ (¬1) ينظر: كتاب "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى (1/ 132). والأثرم هو: أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الكلبي الإسكافي، الحافظ الجليل، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، قال الخطيب البغدادي: (كان الأثرم ممن يُعدّ في الحفاظ والأذكياء)، توفي - رحمه الله - سنة 260 هـ، وقيل: بل تأخرت وفاته حتى سنة 273 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (5/ 317)، طبقات الحنابلة (1/ 162)، وسير أعلام النبلاء (12/ 623)، وتهذيب التهذيب (1/ 45 - 46). (¬2) في الأصل: الحرب، وهو خطأ. ينظر: كتاب "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى (1/ 132). وإبراهيم هو: ابن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت، من أهل طرسوس، قال الخلال: (كان من كبار أصحاب أبي عبد الله)، كان أحمد يعظمه. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 238)، والمقصد الأرشد (1/ 221).

وحنبل (¬1)، وصالح (¬2)، وأبي داود (¬3)، وجعفر بن محمد (¬4)، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجد رواية حنبل فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وقد اطلعت على رسالة علمية مقدمة في الجامعة الإِسلامية لنيل درجة الدكتوراه بعنوان (مسائل الإمام أحمد بن حنبل الفقهية برواية حنبل) للدكتور/ يوسف بن أحمد - وفقه الله - ولم يذكر هذه الرواية. وحنبل هو: ابن إسحاق بن حنبل بن هلال الشيباني، ابن عم الإمام أحمد، كان ثقة ثبتًا، روى عن الإمام مسائل كثيرة، توفي سنة 273 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 383)، والمقصد الأرشد (1/ 365). (¬2) في مسائله (رقم 131). وصالح هو: أبو الفضل ابن الإمام أحمد بن حنبل، ولي القضاء بطرسوس ثم بأصبهان، له مسائل عن والده، توفي سنة 266 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 462)، والمقصد الأرشد (1/ 444). (¬3) في مسائله ص 72 - 73. وأبو داود هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني، صاحب السنن، والمراسيل، الإمام الحافظ، له: المسائل عن الإمام أحمد، توفي سنة: 275 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 427)، والمقصد الأرشد (1/ 406). (¬4) لم أجد رواية جعفر فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب. وجعفر هو: ابن محمد النسائي الشقراني، أبو محمد، ذكره الخلال فقال عنه: (رفيع القدر، ثقة جليل، أمّار بالمعروف، نهّاء عن المنكر ... )، له مسائل كثيرة عن الإمام أحمد. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 336)، والمقصد الأرشد (1/ 299). (¬5) ينظر: كتاب الآثار لمحمد بن الحسن (1/ 416)، ومختصر القدوري =

وروى الحسن بن ثواب (¬1) عن أحمد - رحمه الله - فيمن فاتته العتمة (¬2)، فلم يستيقظ إلا عند طلوع الشمس، فإن بدأ بها، فاتته الفجر: يبدأ بالعتمة، وإن فاتته الفجر، وكذلك نقل الميموني (¬3)، وظاهر هذا: وجوبُ (¬4) الترتيب مع ضيق وقت الحاضرة، وهو قول مالك - رحمه الله - (¬5). ¬

_ = ص 83، والمبسوط (1/ 306). (¬1) في الأصل (صواب). ينظر: كتاب "الروايتين والوجهين" (1/ 132). والحسن بن ثواب هو: أبو علي التغلبي المخرمي، أحد الرواة عن الإمام أحمد، قال عنه الخلال: (كان هذا شيخًا جليل القدر)، توفي سنة 268 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 352)، والمقصد الأرشد (1/ 317). (¬2) العتمة: يقال: عَتَم الليل يَعْتم، والعتمة: ظلمة الليل، وأطلقت على صلاة العشاء؛ لوقوعها فيها. ينظر: غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 178)، ولسان العرب (عشا). (¬3) لم أجد رواية الميموني فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وقد اطلعت على رسالة علمية مقدمة في جامعة أم القرى لنيل درجة الماجستير بعنوان (مسائل الإمام أحمد بن حنبل الفقهية برواية عبد الملك الميموني) للشيخ/ ماهر المعيقلي - وفقه الله -، ولم يذكر هذه الرواية. والميموني هو: عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الرقي، أبو الحسن، صحب الإمام أحمد أكثر من عشرين سنة، وروى عنه مسائل كثيرة، توفي سنة 274 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 92)، والمقصد الأرشد (2/ 142). (¬4) في الأصل: وجب، والمثبت هو الصواب. (¬5) المدونة (1/ 129)، والإشراف (1/ 258). =

وجه الأوّلة: أنه لو بدأ بالفائتة، لفاتته صلاة الوقت، فيصليهما جميعًا فائتتين؛ ولأن يصلي إحداهما في وقتها، والأخرى فائتةً أولى من أن يصليهما في غير وقتهما؛ ولأن أداء الصلاة في وقتها فرض، والترتيب فرض، ولا يمكنه إتيان الفرضين، فلا بد من ترك أحدهما، فترك الترتيب أولى؛ لأنه أيسرُ من ترك الوقت؛ لأن لآخر الوقت تأثيرًا في إسقاط الفرض وإيجابه؛ بدلالة أن المرأة إذا حاضت في وسط الوقت، سقط عنها فرض الصلاة عند مالك - رحمه الله - (¬1)، ولو طهرت في آخر الوقت، لزمها فرض الصلاة، وكذلك المجنون إذا أفاق، والكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ في آخر الوقت، يلزمهم فرض الوقت، وليس للترتيب هذه المزية. وإذا كان كذلك، وقد دفع إلى ترك أحدهما، فينبغي تركُ أيسرهما، وهو الترتيب؛ ولأن ضيق الوقت يُسقط الترتيب في الفوائت، دليله: إذا كانت ست صلوات ليس لهم أن يقولوا: إن الترتيب هناك يسقط مع سعة الوقت؛ لأنا لا نسلمه. واحتج المخالف؛ بأن الترتيب بين الفائتة والحاضرة، فوجب أن لا يختلف أول الوقت وآخره؛ كالطهارة، والركوع، والسجود. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار هذا بترتيب الركوع والسجود؛ لأن ¬

_ = وأما عند الشافعية، فالترتيب مستحب، ينظر: الأم (2/ 170)، والأوسط (2/ 415). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 52).

ذلك الترتيب آكد؛ بدليل: أنه يجب مع حصوله في حدّ التكرار، وهذا أخف عندهم؛ لأنه لا تجب إذا حصلت في حد التكرار، وأجود من هذا: أن اعتبار سائر الشرائط مع ضيق الوقت لا يوجب إخراج أحدهما (¬1) عن وقتها؛ ولأن سائر الشروط آكد من الترتيب، ألا ترى أنه من فاته صوم أيام من رمضان، سقط الترتيب، ولا يسقط سائر شروط الصوم؛ مثل: النية، والإمساك، كذلك يجوز أن يسقط في مسألتنا، وإن لم يَسْقط سائر شروط الصلاة. واحتج: بأنها فوائت في ذمته، فكان الترتيب فيها واجبًا، دليله: إذا كان الوقت واسعًا. والجواب: أن مع سعة الوقت لا يؤدي إلى أن يصليهما جميعًا فائتتين، وفي مسألتنا يؤدي إلى ذلك؛ ولأن يصلي إحداهما في وقتها أولى. واحتج: بأنه ترتيب يجب مع سعة الوقت، فوجب مع ضيقه؛ كالأذان، والمجموعتين. والجواب: أن الأذان (¬2) والمجموعتين لا تستفيد بإسقاط الترتيب فيها بقاء الوقت، وفي مسألتنا تستفيد ذلك، فلهذا فرّق بينهما. * * * ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الأصوب: إحداهما. (¬2) في الأصل: الأفعال، والمثبت هو الصواب.

3 - مسألة: ولا يجب الترتيب في حال النسيان

3 - مَسْألَة: ولا يجب الترتيب في حال النسيان: نصَّ على هذا في رواية صالح (¬1)، وأبي الحرب (¬2)، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬3). وقال مالك - رحمه الله -: يجب مع السهو (¬4). فعلى قولنا: إذا نسي أن عليه فائتة، فصلى صلاة الوقت، ثم ذكر، لم يلزمه إعادة الفائتة، وعنده: يلزمه. ¬

_ (¬1) في مسائله (رقم 278). (¬2) هكذا في الأصل، ولم أقف على أحد من أصحاب الإمام أحمد بهذه الكنية، فلعله تصحيف من لفظ (أبي الحارث)، ينظر (1/ 115)، وأبو الحارث هو: أحمد بن محمد الصائغ، قال أبو بكر الخلال: (كان أبو عبد الله يأنس به، ويقدمه ويكرمه)، روى مسائل كثيرة. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 177)، والمقصد الأرشد (1/ 163). وهذه المسألة قد وردت عند أصحاب المسائل، منهم: أبو داود في مسائله (رقم 345)، والكوسج (رقم 124 و 282)، بل نص ابن قدامة والمرداوي: أنها رواية الجماعة. ينظر: المغني (2/ 340)، والإنصاف (3/ 190). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 285)، والمبسوط (1/ 306). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 129)، والإشراف (1/ 258). وأما عند الشافعية، فالترتيب مستحب، ينظر: الأم (2/ 170 - 171)، والمجموع (3/ 53 - 54).

دليله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عُفِيَ لأُمتي الخطأُ والنسيانُ" (¬1)، وهذا ناسٍ (¬2)، فيجب أن يعفى عنه؛ ولأنه غير ذاكر للفائتة، فصحت صلاته. دليله: لو كانت الفوائت ست صلوات، فصلى وهو ناسٍ لها. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لو كان ذاكرًا لها، لم يجب الترتيب. قيل له: لا نسلم هذا، بل عندنا: لو كان ذاكرًا، وجب الترتيب. واحتج المخالف: بأن هذا ترتيب لا يَسقط في حال العمد، فلا يسقط في حال السهو. دليله: ترتيب الركوع على السجود. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون واجبًا، ويسقط بالسهو من الوجه الذي ذكرنا، وعلى أنه لا يجوز اعتبار هذا بترتيب الركوع والسجود؛ لأن ذلك الترتيب آكد، ألا ترى أنه يجب مع حصوله في حد التكرار، فبان الفرق. ¬

_ (¬1) رواه بهذا اللفظ: ابن حزم في المحلى (9/ 129)، وقد أخرج ابن ماجه الحديث بلفظ: "أن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ... "، وبلفظ: "إن الله وضع عن أمتي" كتاب: الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم (2043 و 2045)، وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: الطلاق، رقم (2801)، قال أبو حاتم: (أحاديث منكرة، كأنها موضوعة)، وأنكر كونه حديثًا: الإمام أحمد - رحمه الله -. ينظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 293) رقم (1296)، والعلل للإمام أحمد (1/ 561) رقم (1340)، وينظر: مسائل عبد الله رقم (1838). (¬2) في الأصل: ناسي.

4 - مسألة: إذا سلم على المصلي أشار بيده

واحتج: بأن الترتيب في الصلاتين المجموعتين لا يسقط بالسهو، كذلك يجب أن يقولوا في مسألتنا. والجواب: أن الثانية تابعة للأولى، فما لم يوجد المتبوع يجب أن لا يثبت حكم التبع، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا؛ فإن كل واحد منهما أصل بنفسه، فبان الفرق. وجواب آخر: وهو أن النسيان يؤثر فيما ليس عليه أمارة، وصلاة الجمع عليها أمارة، وهو الاجتماع؛ ولأن الصلاة الثانية إذا عجلها إلى وقت الأولى، فإنما يدخل وقت جواز فعلها، وإذا صلى الأولى، فمتى سها وصلى الثانية، فقد صلاها قبل وقتها، فلهذا لم تصح، وها هنا وقت كل واحدة منهما قد وجد، فجاز أن يفرق بين السهو والعمد. * * * 4 - مَسْألَة: إذا سلَّم على المصلي أشار بيده: نص عليه في رواية الأثرم (¬1)، ......................... ¬

_ (¬1) لم أجد رواية الأثرم فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وقد اطلعت على الرسائل العلمية المقدمة في قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض التي جمعت مسائل الإمام أحمد برواية الأثرم، فلم تذكر هذه الرواية، والذي وقفت عليه من رواية الأثرم هو التسليم على المصلي. ذكرها ابن المنذر في الأوسط (3/ 250)، وقد جاءت من رواية أبي داود في مسائله رقم (261)، وإسحاق =

وإبراهيم ابن الحرب (¬1) في الرجل يُسلم عليه وهو يُصلي يشير بيده؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بيده (¬2). قال أبو بكر (¬3): لا يفترق الحال بين الفرض والنفل. ¬

_ = ابن هانئ رقم (211)، علمًا أن رواية ابن هانئ في التطوع فقط. ينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 210)، وكتاب التمام (1/ 214). (¬1) هكذا في الأصل، ولم أقف على أحد من أصحاب الإمام بهذا الاسم، فلعله تصحيف، إما من اسم إبراهيم الحربي، أو إبراهيم بن الحرث، حيث إن الإملائية القديمة كانت تكتب أسماء الرواة هكذا: الحارث: الحرث، سفيان: سفين، إسحاق: إسحق، وللفائدة ينظر: كتاب الكتّاب لابن درستويه (ص 80). ولم أقف على رواية إبراهيم فيما اطلعت عليه من كتب الأصحاب. ينظر: المغني (2/ 460)، والإنصاف (3/ 663). (¬2) يأتي تخريجه في أدلة المسألة. (¬3) ينظر: كتاب التمام (1/ 214). وأبو بكر هو: عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد، المعروف (بغلام الخلال)، صحب أبا بكر الخلال، ولازمه حتى قيل عنه: غلام الخلال، متسع الرواية، من أعمدة المذهب، يصح أن يطلق عليه: ابن حنبل الصغير، له مصنفات كثيرة، منها: الشافي، والتنبيه، والخلاف مع الشافعي، توفي سنة 363 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 213)، والمقصد الأرشد (2/ 126). فائدة: إذا أُطلِق أبو بكر، فالمراد به: [غلام الخلال]. ينظر: الإنصاف (15/ 280).

وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬1). وقال أبو حنيفة: لا يرد بالإشارة (¬2). دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسجد عمرو بن عوف بقباء يصلي فيه، فدخلت عليه رجال من الأنصار، فسلموا عليه، فسألت بلالًا - رضي الله عنه - وكان معه -: كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كانوا يسلمون عليه؟ قال: كان يشير بيده (¬3). فإن قيل: هذه حكاية فعل، ويحتمل أن يكون أشار بيده يسكِّنهم، ويمنعهم من السلام؛ لئلا يشغلوه عن الصلاة. قيل له: روى الخلال (¬4) بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قلت ¬

_ (¬1) ينظر: حلية العلماء (1/ 207)، والمجموع (4/ 28). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 99)، وعيون المسائل (ص 131). (¬2) ينظر: الحجة (1/ 106)، ومختصر القدوري ص 81. (¬3) أخرجه أحمد في المسند، رقم (4568 و 23886)، وبنحوه أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، رقم (927) وسكت عنه، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة، رقم (368)، وقال: (هذا حديث حسن صحيح)، والنسائي في كتاب: السهو، باب: رد السلام بالإشارة في الصلاة، رقم (1187)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: المصلي يسلم عليه كيف يرد، رقم (1017)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ص 100. (¬4) هو: أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي، المعروف بأبي بكر الخلال، صحب المروذي إلى أن مات، رحل في جمع مسائل الإمام أحمد =

لبلال - رضي الله عنه -: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد السلام حين كانوا يسلمون عليه في الصلاة؟ قال: يشير بيده (¬1). فأثبت ابن عمر وبلال - رضي الله عنهم -: أن ذلك كان ردًا للسلام؛ ولأنه لو كان القصد الإنكار، لبيَّنه بما لا يحصل به الإشكال والاحتمال، وهذا محتمل؛ ولأنه عمل يسير به حاجة إليه، فلم يكره؛ كالخطوة، والضربة على الحية. واحتج المخالف: بما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خرجت في حاجة، ونحن نسلم بعضنا على بعض في الصلاة، ثم رجعت، فسلمت، فلم يرد عليَّ - يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " [إن] في الصلاة شغلًا" (¬2). ¬

_ = حتى تم له ذلك، من مصنفاته: الجامع، والعلل، والسنة، وغيرها، توفي سنة 311 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 23)، والمقصد الأرشد (1/ 166). ولم أقف على إسناد الخلال في المطبوع من كتبه. (¬1) أخرجه أحمد في المسند، رقم (4568 و 23886)، وبنحوه أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، رقم (927) وسكت عنه، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة، رقم (368)، وقال: (هذا حديث حسن صحيح)، والنسائي في كتاب: السهو، باب: رد السلام بالإشارة في الصلاة، رقم (1187)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: المصلي يسلم عليه كيف يرد، رقم (1017)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ص 100. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة، رقم (1199)، ومسلم كتاب: الصلاة، باب: تحريم الكلام في =

قوله: (فلم يرد عليّ) عام في اللسان واليد. والجواب: أنه محمول على أنه لم يرد بالكلام؛ لأنه قد كان الكلام مباحًا، ثم نسخ. واحتج: بأنها إشارة تبنى على (¬1) معنى ليس فيه إصلاح الصلاة، فصارت كالإشارة في حوائجه. والجواب: أن هناك إن كان حاجة إليه؛ مثل: أن يخاف ذهاب ماله، فينبه إنسانًا (¬2) على حفظه، أو يدق عليها إنسان الباب، فتشير إليه، فإنه لا يكره، وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (سقط النبي - صلى الله عليه وسلم - من فرس، فجُحِشَ (¬3) شقه الأيمن، فدخلوا عليه، فصلى بهم جالسًا، وأشار إليهم أن اجلسوا) (¬4). ¬

_ = الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، رقم (538). وهذا بعد رجوعهم من عند النجاشي - رحمه الله -. (¬1) كذا في الأصل، وقد تكون: تنبئ عن. (¬2) في الأصل: إنسان. (¬3) في الأصل: فخمش. وجحش: أي: انخدش جلده، وانسحج. ينظر: النهاية لابن الأثير (جحش). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، رقم (689)، ومسلم كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (411)، والإشارة إليهم بالجلوس وردت في حديث أنس - رضي الله عنه - في مصنف عبد الرزاق رقم (4078)، وفي المسند رقم (12656)، ووردت من حديث عائشة =

وروت معاذة (¬1) عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها أومتْ (¬2) إلى سمرة وهي في الصلاة أن يجلس (¬3). وقد أجاز أحمد - رحمه الله - السلامَ على المصلي في رواية ابن منصور (¬4)، وقد سئل: هل يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ ¬

_ = - رضي الله عنها - أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، رقم (688)، ومسلم كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (412). (¬1) هي: ابنة عبد الله العدوية، أم الصهباء البصرية، امرأة صلة بن أشيم، روت عن عائشة، وعلي، وهشام بن عامر، وأم عمرو بنت عبد الله بن الزبير، قال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة، وذكرها ابن حبان في الثقات. ينظر: الثقات (5/ 466)، وسير أعلام النبلاء (4/ 508). (¬2) (ومء): أَوْمَأْتُ إليه إيمَاءً: أَشَرْتُ إليه بحاجب، أو يد، أو غير ذلك، وفي لغة: وَمَأْتُ وَمْئًا من باب نَفَعَ، والإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس، واليد، والعين، والحاجب. النهاية: باب: الهمزة مع الواو، والمصباح المنير باب: الواو مع الميم. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه (رقم 3278): قال معمر: وحدثني بعض أصحابنا: أن عائشة كانت تأمر خادمها أن تقسم المرقة، فتمر بها وهي في الصلاة، فتشير إليها: أن زيدي. وللفائدة ينظر: المحلى (3/ 56)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 528 و 529). (¬4) في مسائله رقم (272). وابن منصور هو: أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي المعروف بالكوسج، صحب الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، له مسائل =

5 - مسألة

قال: نعم، وذكر حديث بلال - رضي الله عنه -. * * * 5 - مَسْألَة إذا قصد التنبيه بالتسبيح والتكبير، أو قراءة القرآن، لم تفسد صلاته؛ مثل: أن يجد ضريرًا لئلا يتردَّى في بئر (¬1)، أو يُطرق عليه الباب، فيسبح بقصد الإذن له بالدخول، وكذلك إذا أُخبر بخبر يسرّه، فقال: الحمد لله، وأراد به الجواب، لم تفسد صلاته، وكذلك إذا أُخبر بخبر يغمّه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله في إحدى الروايتين: قال في رواية أبي الحرب (¬2): في الرجل يكون في الصلاة، وينوبه الشيء، فيريد أن يُفْهِمَه بعضَ أهله، يسبح وهو يصلي؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "التسبيح للرجال، وللنساء التصفيق" (¬3)، وكذلك نقل أبو جعفر بن ¬

_ = الفقه عن الإمام أحمد، والحافظ ابن راهويه، وله كتاب الصلاة، توفي سنة 251 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 303)، والمقصد الأرشد (1/ 253). (¬1) كذا في الأصل، وفي التمام (1/ 217): [أن يجذب ضريرًا يقع في بئر]، وفي الإنصاف (3/ 633): (قال القاضي في التعليق، وغيره: ... في تحذير ضرير من وقوعه في بئر ونحوه). (¬2) ينظر: (1/ 115). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: العمل في الصلاة، باب: التصفيق للنساء، رقم =

محمد (¬1)، وإسماعيل بن سعيد (¬2): في رجل ناداه أهله، وهو في الصلاة، فقال: لا إله إلا الله، وبالتسبيح، والتكبير، لم يُفسد صلاته. وقال في رواية يوسف بن موسى (¬3): في رجل ذكر ذنبًا، فقال: ¬

_ = (1203)، ومسلم كتاب: الصلاة، باب: تسبيح الرجل، وتصفيق المرأة، رقم (422). (¬1) كذا في الأصل، ولم أقف على أحد من أصحاب الرواية عن الإمام أحمد بهذا الاسم، فلعل المراد: (جعفر بن محمد) لتكرر الرواية عنه في هذا الكتاب وغيره من الكتب، وقد تقدمت ترجمته. وينظر في هذه الرواية: التمام (1/ 217)، ورؤوس المسائل لأبي جعفر الهاشمي (1/ 150)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 210)، والمستوعب (2/ 229 - 230)، والمغني (2/ 454)، والإنصاف (3/ 626). (¬2) لم أقف على نسبة هذه الرواية لإسماعيل، وينظر في الرواية: ما مضى من المراجع في حاشية (4). وإسماعيل: هو أبو إسحاق بن سعيد الشالنجي، قال أبو بكر الخلال: عنده مسائل كثيرة، ما أحسب أن أحدًا من أصحاب أبي عبد الله روى عنه أحسن مما روى هذا، توفي سنة 230 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 273)، والمقصد الأرشد (1/ 261). (¬3) لم أقف على رواية يوسف فيما اطلعت عليه من كتب الأصحاب. ويوسف بن موسى بن راشد هو: أبو يعقوب القطان، الكوفي، أصله من الأهواز، ثم سكن بغداد، وحدَّث بها، روى عنه البخاري، وقال يحيى بن معين: صدوق، نقل عن الإمام أحمد بعض المسائل، توفي سنة 253 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 567)، والمقصد الأرشد (3/ 145).

أستغفرُ الله، لا بأس. وقال في رواية صالح (¬1): إذا عطس فقال: الحمد لله، لا يعجبني، فإن فعل؟ قال: تجزئه صلاته، فقد نص على أنه نبه (¬2) غيره لم يُبطل صلاته، وعلى قياسه إذا أُخبر بما يسره، فقال: الحمد لله، أو بما يسوءه، فقال: إنا لله، لا تبطل على ظاهر ما نقله صالح، ويوسف، وهو قول مالك (¬3)، والشافعي (¬4) - رحمهما الله -. وفيه رواية أخرى: تبطل، نص عليه في رواية مهنا (¬5): في رجل جاء ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (1359). (¬2) كذا في الأصل، ولعلها: أنه إن نبه. (¬3) ينظر: المدونة (1/ 100)، والإشراف (1/ 259). (¬4) ينظر: حلية العلماء (1/ 207)، والبيان (2/ 312). (¬5) ينظر: المغني (2/ 457)، وقد جعل رواية مهنا: أنه لا يعيد، ثم ذكر بعدها رواية أخرى: أنه يعيد، ولم ينسبها لأحد، وتبعه على ذلك المرداوي في الإنصاف (3/ 631)، وقد تصحف اسم (مهنا) في طبعة الوزارة إلى (ها هنا). وابن رجب ذكر رواية مهنا دون قصة الخارجي، وأنه يعيد، موافقًا لأبي يعلى. ينظر: فتح الباري (3/ 460)، وأيضًا ذكر في موضع آخر من الفتح (6/ 370) رواية أنه لا يعيد، ولم ينسبها لأحد، ونقل احتجاج الإمام أحمد بقصة الخارجي مع علي - رضي الله عنه -. تنبيه: ذكر الجامع لمسائل الإمام أحمد برواية مهنا، الشيخ إسماعيل مرحبا - وفقه الله -: أن ما في المغني من رواية مهنا أرجح مما في فتح الباري! . ينظر: مسائل مهنا، جمع/ إسماعيل مرحبا (1/ 186)، ولم يظهر لي وجه الترجيح، وما حكاه القاضي هنا يدل على رجحان ما نقله ابن رجب - غفر الله للجميع -. ومهنا هو: أبو عبد الله بن يحيى الشامي السلمي، من كبار أصحاب الإمام أحمد، روى عنه مسائل كثيرة، كان الإمام يجله ويكرمه، قال مهنا: (لزمت =

إلى رجل وهو يصلي، فقال له: قد ولد لك غلام، فقال: الحمد لله رب العالمين، يعيد، وقلت له: قول علي في الصلاة لما قال له الخارجي: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأجابه علي - رضي الله عنه - وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (¬1) [الروم: 60]، فقال: هذا يفسد صلاته. قلت: ولِمَ؛ وإنما قرأ القرآن؟ قال: لأنه إنما خاطب آدميًا، في الصلاة، ومن خاطب آدميًا، فصلاته فاسدة، فقد صرح بالفساد، وعلل بالمخاطبة، وهذا المعنى موجود فيه إذا نبه غيره في الصلاة، فعلى قياسه تبطل صلاته. ونقل أيضًا مهنا: في الرجل يكون في الصلاة، فيذكر كيسًا له ذهب، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ يعيد الصلاة، هذا نوى الكلام (¬2)، فظاهر هذا: أنه قد أبطل صلاته، وإن لم يكن على وجه المخاطبة. ¬

_ = أبا عبد الله ثلاثًا وأربعين سنة). ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 432)، والمقصد الأرشد (3/ 43). (¬1) وقصة علي - رضي الله عنه - رواها ابن أبي شيبة في مصنفه (21/ 428)، والحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر البيان الواضح أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (3/ 158)، والبيهقي في السنن الكبرى باب ما يجوز من قراءة القرآن، والذكر في الصلاة يريد به جوابًا أو تنبيهًا (2/ 348)، وفي سندها عمران بن ظبيان، ضعيف. ينظر: التقريب ص 476، وينظر: فتح الباري لابن رجب (6/ 370). (¬2) ينظر: الصفحة الماضية حاشية (5).

ونقل صالح (¬1) عن أبيه فيمن عطس في الصلاة، فقال: الحمد لله، لفظين: أحدهما: يعيد الصلاة، ونقل عنه لفظًا آخر: لا يعجبني أن يرفع صوته بها، فإن فعل، تجزئه صلاته، وكذلك نقل أبو الحرب (¬2): تجزئه صلاته. قال أبو بكر الخلال (¬3): روى هذه المسألة جماعة يقولون (¬4): يعيد الصلاة، إلا صالحًا (¬5)، ثم روى عنه: أنه: لا يعيد، فكأنه رجع عن القول الأول. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا قصد التنبيه بالتسبيح، أو التكبير، أو قراءة القرآن، فسدت صلاته، إلا في موضعين: أحدهما: إذا قصد تنبيه الإمام على سهوه. الثاني: إذا قصد دفع المارّ بين يديه (¬6). وقال أيضًا: إذا أخبر بخبر سوء، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو بخبر يسره، فقال: الحمد لله، يقصد الجواب، بطلت صلاته. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (367 - 1359 - 1360). (¬2) لعله تصحيف كما مضى (1/ 101)، وبنحوها نقل عبد الله في مسائله رقم (485)، وأبو داود رقم (260)، وابن هانئ رقم (545 و 546). وينظر: المغني (2/ 457)، والإنصاف (3/ 630). (¬3) ينظر: المغني (2/ 458)، والفروع (2/ 270)، والإنصاف (3/ 631). (¬4) في الأصل: يقولوا. (¬5) في الأصل: صالح. (¬6) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 309 - 310).

وإذا لسعته عقرب، فقال: باسم الله؛ بطلت صلاته (¬1). فالدلالة على أن الصلاة لا تبطل بشيء من ذلك: ما روى أبو داود (¬2) باسناده عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نابَكُمْ شيء في الصلاة، فليسبِّح الرجال، وليصفِّقِ النساء" (¬3). وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬4) باسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التسبيح للرجال، والتصفيح للنساء". فإن قيل: المراد بهذا: إعلامُ المأموم والإمام، والخبر في هذا ورد؛ لأنه رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: [أنه] خرج إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فأبطأ، فلما حضرت الصلاة، قدّموا أبا بكر - رضي الله عنه - ليصلي بهم، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة، فدخل المسجد، فأخذ الناس في التصفيق، فالتفت أبو بكر - رضي الله عنه -، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتأخر إلى الصف، وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغ من صلاته، قال: "ما لي رأيتكم أكثرتُمُ التصفيقَ؟ ! إذا نابكم في ¬

_ (¬1) ينظر: المبسوط (1/ 359)، وفتح القدير (1/ 285). (¬2) في كتاب: الصلاة، باب: التصفيق في الصلاة رقم (941). (¬3) وبنحوه أخرجه البخاري، ومسلم، وقد مضى في (1/ 109). (¬4) رقم (728 - 7550)، لكن بدلًا من لفظ (التصفيح) (التصفيق)، ولفظ: التصفيح ورد في المسند من حديث سهل الساعدي - رضي الله عنه -، رقم (22801 - 22807)، ومضى في (1/ 109)، والتصفيح والتصفيق واحد، وهو من ضَرْب صَفْحة الكَفِّ على صفحة الكف الآخر. ينظر: النهاية في الغريب (صفح).

صلاتكم شيء، فسبِّحوا؛ فإنما التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء" (¬1). قيل له: الحكم للّفظ دون السبب، واللفظ عام، ولا يجب قصره على سببه. وأيضًا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: نا أبو بكر بن عياش (¬3) قال: نا مغيرة بن مقسم (¬4) قال: حدثني الحارث العكلي (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم، رقم (7190)، ومسلم كتاب: الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، رقم (421). (¬2) رقم (608 و 647)، وأخرجه النسائي في كتاب: السهو، باب: التنحنح في الصلاة، رقم (1211)، وابن ماجه في كتاب: الأدب، باب: الاستئذان، رقم (3708)، وابن نجي لم يسمع من علي، وضعفه بعض أهل العلم، كما سيأتي. (¬3) ابن سالم الأسدي الكوفي الحناط المقرئ، قيل: اسمه محمد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل: شعبة، وقيل غير ذلك، قال ابن حجر: (مشهور بكنيته، والأصح: أنها اسمه، ... ثقة عابد، إلا أنه لما كبر، ساء حفظه)، توفي سنة 193 هـ. التقريب ص 693. (¬4) مغيرة بن مقسم، الثقة، أبو هشام الضبي، مولاهم، قال عنه يحيى بن معين: ثقة، مأمون، توفي سنة 133 هـ. سير أعلام النبلاء (6/ 10). (¬5) في الأصل: الحرب العكلي، والتصويب من المسند. وهذا مما يفيد أن ما مضى، وما سيأتي من لفظ: (أبي الحرب) هو: أبو الحارث، من أصحاب الإمام أحمد. والحارث هو: ابن يزيد العكلي التيمي الكوفي، ثقة، فقيه، قال الحاكم: قلت للدارقطني: الحارث بن يزيد العكلي؟ قال: ليس به بأس، روى له البخاري مقرونًا بغيره، ومسلم، والنسائي، =

عن عبد الله بن نجي (¬1) قال: قال علي - رضي الله عنه -: كان لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدخلان بالليل والنهار، كنت إذا دخلت عليه وهو يصلي، تنحنح (¬2)، فأتيته (¬3) ذات ليلة، فقال: "أما تدري ما أَحدثَ الملكُ الليلةَ؟ كنت أصلي، فسمعت خشفة (¬4) في الدار، فخرجتُ، فإذا جبريل - عليه السلام - فقال: ما زلتُ هذه الليلة أنتظرك، إن في بيتك كلبًا، فلم أستطع الدخول، وإنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، ولا جُنب، ولا تمثال". ورواه ابن المنذر (¬5) عن علي - رضي الله عنه - قال: كانت لي ساعة من السحر ¬

_ = وغيرهم. ينظر: تهذيب الكمال (5/ 308)، والتقريب ص 127. (¬1) ابن سلمة بن جشم بن أسد الكوفي الحضرمي، قال البخاري: فيه نظر، قال ابن معين: لم يسمع من علي، بينه وبينه أبوه، وقال الدارقطني في العلل (3/ 258): (ليس بقوي في الحديث)، وقال البيهقي في الكبرى (2/ 352): (وكيف ما كان فعبد الله بن نجي غير محتج به). ينظر: تهذيب الكمال (16/ 219). (¬2) في الأصل: تنحنحت، وهو خطأ، والتصويب من المسند. (¬3) في الأصل: فانتبه، والتصويب من المسند. (¬4) في الأصل: خسفة، الخَشْفة بالسكون: الحِسُّ والحرَكة، وقيل: الصَّوت، والخَشَفة بالتحريك: الحركة. ينظر: النهاية في غريب الحديث (خشف). (¬5) في الأوسط (3/ 240)، وأخرجه أحمد في المسند، رقم (570)، وأخرجه النسائي في كتاب: السهو، باب: التنحنح في الصلاة، رقم (1211)، وابن ماجه في كتاب: الأدب، باب: الاستئذان، رقم (3707)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 351)، وقال: (حديث مختلف في إسناده ومتنه، فقيل: سبح، وقيل: تنحنح. ومداره على عبد الله بن نجي الحضرمي، قال =

أدخل فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان في صلاة، سَبَّحَ، فكان ذلك إذنه لي، وإن لم يكن في الصلاة، أذن لي. وهذا نص، فإنه كان مأذونًا له (¬1) في الدخول بالتسبيح في حال صلاته. وأيضًا: ما روى شريك (¬2) عن عمران بن ظبيان (¬3) عن أبي تحيى (¬4) قال: كنا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في صلاة الفجر، فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ ¬

_ = البخاري: فيه نظر، وضعفه غيره). وابن المنذر هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، أبو بكر، قال الذهبي عنه: (الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام)، من مصنفاته: الأوسط، والإجماع، والإشراف، وغيرها، توفي سنة 318 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 490). (¬1) في الأصل كررت هكذا: مأذونا له مأذونا له. (¬2) ابن عبد الله النخعي، الحافظ، القاضي، أبو عبد الله، وثقه يحيى بن معين، وروى له مسلم في المتابعات، وأخرج له البخاري تعليقًا. قال ابن حجر: (صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء). توفي سنة 177 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 200)، والتقريب ص 269. (¬3) الحنفي الكوفي، قال البخاري: فيه نظر، وذكره العقيلي، وابن عدي في الضعفاء، قال ابن حجر: (ضعيف)، توفي سنة 157 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 319)، والتقريب ص 476. (¬4) أبو تحيى (هكذا): بكسر أوله وسكون المهملة، اسمه: حكيم بن سعد الحنفي، أبو تحيى الكوفي، قال يحيى بن معين: حكيم بن سعد ليس به بأس. ينظر: تهذيب الكمال (7/ 210).

مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأجابه علي - رضي الله عنه - وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] (¬1). قال مهنا: سألت أحمد عن أبي تحيى ما اسمه؟ قال: حكيم بن سعد، وهو كوفي، وأدرك عليًا (¬2) وسلمانَ - رضي الله عنه -. وروى أبو بكر (¬3) في كتابه بإسناده عن عطاء بن السائب (¬4) قال: استأذنت على عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬5) وهو يصلي، فقال: {ادْخُلُوا ¬

_ (¬1) وقد مضى تخريج هذا الأثر (1/ 112). (¬2) في الأصل: علي. (¬3) أبو بكر هنا قد يراد به: (الخلال)، وقد يراد به: (غلام الخلال)؛ لأن كلًا منهما من أصحاب الرواية، وقد تقدمت ترجمتهما، وغالب رواية الغلام عن طريق شيخه الخلال، وهذا الأثر ذكره الموفق في المغني (2/ 459) والبهوتي في كشاف القناع (2/ 434) وأن الخلال أخرجه، ولا يمنع أن غلامه رواه في أحد كتبه من طريقه، وهذا الاحتمال منحصر في مسألة رواية أبي بكر للأحاديث أو الآثار، أما إذا أطلق ولم يقيد، أو قال: اختاره أبو بكر، أو قال أبو بكر، فالمراد: غلام الخلال، كما مضى التنبيه عليه في (1/ 104) حاشية 3، وينظر: (1/ 144). (¬4) هو: أبو محمد، ويقال: أبو السائب الثقفي، الكوفي، قال النسائي: ثقة في حديثه القديم، إلا أنه تغير، وقال ابن حجر: صدوق اختلط، توفي سنة 136 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 103). (¬5) هو: الإمام، العلامة، الحافظ، أبو عيسى الأنصاري، الكوفي، الفقيه، واسم والده: يسار، وقيل: بلال، من أبناء الأنصار، روى عن جمع من الصحابة، =

مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]. وهذا إجماع من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -. والقياس: أن ما لا يُبطل الصلاة إذا لم يقصد به التنبيه لم يُبطل الصلاة إذا قصد به التنبيه، أصله: الإشارة، تبين صحة هذا: أن الإشارة مكروهة عندهم في الصلاة، وهذه الأذكار مستحبة فيها، ثم الإشارة لا تُبْطِل الصلاة، فأولى أن لا تبطل بالأذكار (¬1). وقياس آخر: وهو أنه قصد التنبيه بذكر مشروع في الصلاة، أو بذكر [يلائم] (¬2) الصلاة، فلم يفسدها. دليله: إذا قصد تنبيه الإمام على سهوه، أو قصد دفع المار بين يديه، وإذا غلط الإمام في القراءة، أو التبست عليه، فلقَّنه، وهذه العلة أولى مما علل (¬3) به بعضُهم أنه قصد التنبيه بالتسبيح؛ لأن ذلك لا تأثير له؛ فإن التنبيه بالتسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن سواء، فلا معنى للتقييد بالتسبيح. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن فيه إصلاح صلاته، وفي مسألتنا خطاب للغير من غير أن يتعلق به صلاح الصلاة. قيل له: ما يفسد الصلاة لا يختلف أن يقوله لإصلاح الصلاة، أو ¬

_ = وروايته في الكتب الستة، قتل سنة 82 هـ. تهذيب التهذيب (2/ 548). (¬1) في الأصل: لا يبطل بالأذكار. (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة، والمثبت من الهامش. (¬3) في الأصل: هلل.

لغير إصلاحها؛ كقوله: سهوت، أو قم، أو اقعد، فلما ثبت أنه لو قاله لإصلاح صلاته، لم يفسد، كذلك إذا قال لغير صلاح الصلاة، وعلى أن هذا يبطل بالمكبرين في الصفوف؛ فإنهم يقصدون إعلام الناس بتكبير الإمام، ولا تبطل صلاتهم، وإن لم يكن فيه مصلحة لصلاة المكبر، كذلك في مسألتنا. واحتج المخالف: بما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فسلمت عليه، فلم يرد عليّ السلام، فأخذني ما قَدُمَ، وما حَدُثَ (¬1)، فلما فرغ من صلاته، قال: "إن الله يُحْدِث من أمره ما شاء، وإن مما أحدثَ أن لا تكلَّموا (¬2) في الصلاة" (¬3). فظاهره يقتضي النهي عن الكلام في الصلاة جملة، فإذا قصد الجواب ¬

_ (¬1) قال البغوي في "شرح السنة" (3/ 235): (تقول العرب هذه اللفظة للرجل إذا أقلقه الشيء، وأزعجه، وغمه، وتقول أيضًا: أخذه المقيم والمقعد، كأنه يهتم لما نأى من أمره ولما دنا)، وقال الخطابي في "معالم السنن" (1/ 433): (معناه: الحزن والكآبة، يريد: أنه قد عاوده قديم الأحزان، واتصل بحديثها). (¬2) في الأصل: تتكلموا، والتصويب من سنن أبي داود. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة رقم (924)، وصححه ابن حبان في "صحيحه" حديث: "إن الله يحدث من أمره ما شاء"، رقم (2243)، وعلقه البخاري جازمًا به عن ابن مسعود في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وأصله في "الصحيحين" إلى قوله: [فلم يرد علي، فقلنا: يا رسول الله! كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا؟ فقال: إن في الصلاة لشغلًا]، ومضى تخريجه ص 106.

لغيره، فقد تكلم في الصلاة، فوجب أن تفسد صلاته. والجواب: أن هذا النوع من الكلام لا يدخل في هذا الخبر، ألا ترى [أنه] إذا لم يقصد به إفهام الآدمي، لا تبطل الصلاة؟ واحتج: بأنه إذا أُخبر بما يسره، فقال: الحمد لله، فقد قصد الجواب، فصار من كلام الناس، فتفسد صلاته، ألا ترى أنه لو سلم عليه إنسان، فرد عليه، أو شمَّت عاطسًا، فسدت صلاته؟ والجواب: أن السلام، وردّه، وتشميت العاطس، موضوع لمخاطبة الآدمي، ابتداءً وجوابًا، فجرى مجرى سائر مخاطبة الآدميين، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ فإنه ثناء على الله تعالى، أو تلاوة القرآن، وكل ذلك لا يبطل الصلاة، فإذا اقترن به إفهام الآدمي، وتنبيهه به، لم تبطل صلاته، كما تقول في التنبيه بالإشارة، وتنبيه الإمام على سهوه بالتسبيح، وتنبيه المار بين يديه، وتلقين الإمام إذا أشكلت عليه القراءة. واحتج: بأنه قصد خطاب غيره، لا لإصلاح صلاته، فوجب أن يُفْسِد صلاته، كما لو قال: قم أو اقعد، وكما لو كتب كتابًا لفتى اسمه يحيى، وافتتح الصلاة، فجاء الفتى لطلب الكتاب، فقال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وكذلك إذا قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، أو قال: {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، أو قال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]، وقصد بذلك كله خطاب الغير، ولا يلزم عليه إذا سبح بالإمام، أو بالمار بين يديه، أو فتح على الإمام؛ لأن فيه إصلاح صلاته.

والجواب: أنه منتقض بالمكبِّر إذا رفع صوته بالتكبير لإعلام المأمومين؛ فإنه قصد خطاب غيره، لا لإصلاح صلاته، ولا تبطل صلاته، وعلى أنه لا تأثير لقوله: قصد خطاب غيره، لا لإصلاح صلاته، في الأصل؛ لأنه إذا كلمه بالكلام الموضوع للإعلام، بطلت صلاته، سواء كان لإصلاح صلاته؛ مثل قوله: قم، أو اقعد، أو لم يكن لإصلاح. ثم المعنى في ذلك: أنه يبطل صلاته إذا لم يكن يقصد التنبيه والإعلام، كذلك إذا قصد به، أو نقول: المعنى في ذلك أنه غير مشروع، ولا ملائم لها، وهذا مشروع ملائم. وأما إذا قال لفتى اسمه يحيى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12]، فإنه إذا قصد بذلك قراءة القرآن، لم يُبْطل صلاته؛ لأن مثل هذا يختلف بالقصد والنية، فإذا نوى به قراءة القرآن، كان قرآنًا، وإذا لم يقصد به قراءة القرآن، لم يلزمه، وأبطل الصلاة، ألا ترى أن الجنب إذا قال ذلك وهو لا يقصد به قراءة القرآن لم يكن عاصيًا؟ وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية (¬1). فإن قيل: فإذا عملت (¬2) ها هنا بالقصد والنية، وجب أن يعمل به في مسألتنا. ¬

_ (¬1) ينظر: مسائل عبد الله رقم (147)، ومسائل الكوسج رقم (62)، والمغني (1/ 200)، والفروع (1/ 261). (¬2) في الأصل: علمت، وهو تصحيف.

فنقول: إذا قصد خطاب الآدمي وإفهامه، صار من جنس خطاب الآدميين، وأبطل الصلاة، وإذا لم يقصد به خطاب الآدميين، كان من جنس الأذكار، فلا تبطل. قيل له: لو كان كذلك، لوجب أن يُبطل صلاة المكبرين، وصلاة المنبه للإمام على سهوه، وصلاة الدافع للمار بين يديه، وهذا لا يقوله أحد، على أن الذكر الذي يجوز التنبيه به على ضربين: ضرب من جنس الأذكار؛ مثل: التسبيح، والتهليل. وضرب مشترك بين كلام الآدميين، وبين القرآن؛ مثل قوله تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، و {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، و {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، و {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، و {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]، و {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، و {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]. وأما التسبيح، والتكبير، والتهليل، فلا يخرج بقصد التنبيه به عن جنسه؛ لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدًا (¬1). وإنما يستدل على قصد المصلي بذكره بدلالة الحال، دون ما يقتضيه لفظه وحروفه، كما يستدل بالإشارة والتصفيق على التنبيه، وإذا كان كذلك، لم يجز أن يقال: إنه بالقصد صار من جنس كلام الآدميين، وأما ¬

_ (¬1) في الأصل: واحد.

6 - مسألة: إذا ناب المرأة شيء في صلاتها، فإنها تصفق، ويكره لها التسبيح

اللفظ [الذي] يصلح للقرآن ولكلام الآدميين، فإنه إذا قصد به تلاوة القرآن، كان من القرآن بقصده، ولم يضره معاودة التنبيه إياه، كما يضر المكبرين إذا قصدوا تنبيه المأمومين بالتكبير. وإن لم يقصدوا تلاوة القرآن، كان من كلام الآدميين، فبطلت الصلاة، وإنما اعتبرت النية في ذلك؛ لأن اللفظ مشترك يصلح للقرآن ولكلام الآدميين، ويفهم المخاطب معناه من لفظه. * * * 6 - مَسْألَة: إذا ناب المرأةَ شيء في صلاتها، فإنها تصفق، ويكره لها التسبيح: نص عليه في رواية صالح (¬1)، وابن منصور (¬2)، وأبي طالب (¬3)، وقد ¬

_ (¬1) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، ولا فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب. (¬2) في مسائله رقم (270)، والرواية التي ذكرها المؤلف هي بنصها مسألة ابن منصور. (¬3) لم أقف عليها فيما اطلعت عليه من كتب الأصحاب، وقد اطلعت على الرسائل العلمية المقدمة في قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض، التي جمعت مسائل الإمام أحمد برواية أبي طالب، فلم تذكر هذه الرواية. وأبو طالب هو: أحمد بن حميد المشكاني، المتخصص في صحبة الإمام أحمد، روى عنه مسائل كثيرة، كان أحمد يعظمه، مات سنة 244 هـ. ينظر: =

سئل عن التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، فقال: إي، والله. وقال مالك - رحمه الله -: هي كالرجل في التسبيح (¬1). دليلنا: ما تقدم (¬2) من حديث سهل - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نابكم شيء في الصلاة، فليسبِّحِ الرجال، وليصفِّقِ النساء". فلما فرق بينهما، دل على أنه يُكره لها التسبيح. ولأن من سنة صلاة المرأة تركَ الجهر بالقراءة فيما يُجهَر به من الصلوات، وترك الجهر بالأذان والتكبير؛ لما فيه من خوف الفتنة بها، وهذا المعنى موجود في رفع الصوت بالتكبير (¬3)، فلم يستحب ذلك في حقها، وأقيم التصفيق مقامه. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، والتصدية: هي التصفيق (¬4). ¬

_ = طبقات الحنابلة (1/ 81)، والمقصد الأرشد (1/ 95). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 100). والإشراف (1/ 258). ومذهب الحنفية: أن المرأة ممنوعة من إظهار صوتها في الصلاة، ومنه التسبيح. ينظر: فتح القدير (1/ 181). وأما الشافعية: فإن المرأة تصفق، وإن سبحت، فقد خالفت السنة. ينظر: الإشراف (2/ 49)، والمجموع (4/ 12). (¬2) (1/ 114). (¬3) كذا في الأصل، ولعله: التسبيح. (¬4) ينظر: لسان العرب، كلمة (صدد - مكا).

والجواب: أنه قد قيل: إن المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق (¬1)، وإنما كانوا يقيمون ذلك مقام صلاتهم التي هي الدعاء والتسبيح، فعلى هذا ليس فيه دلالة على النهي عن فعله في الصلاة. وقيل: إنهم كانوا يفعلون ذلك في صلاتهم، فعلى هذا: ليس المراد به: تصفيق النساء لنائبة تنوب في الصلاة، وإنما كانوا يفعلون ذلك أبدًا تقربًا، فلا حجة فيه على موضع الخلاف. واحتج: بأن هذا فعل منهي عنه في حق الرجل، فكان منهيًا عنه في حق المرأة. دليله: المسيء (¬2)، وغيره. والجواب: أن التجافي في الركوع، والسجود، والتورك، والافتراش، مستحب في حق الرجل، وتركه غير مستحب، ومع هذا، فهو غير مستحب في حقها. واحتج: بأن التسبيح مسنون في حق الرجل، فكان مسنونًا في حق المرأة كسائر الأذكار. ¬

_ (¬1) ينظر: لسان العرب، كلمة (صدد - مكا). (¬2) حديث المسيء في صلاته، أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، رقم (757)، ومسلم كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (397) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

7 - مسألة: ستر العورة شرط في صحة الصلاة في حق الرجل والمرأة

والجواب: أن الجهر بالقراءة، والتكبير، والأذان، مسنون في حق الرجل، وغير مسنون في حق المرأة، كذلك في مسألتنا. * * * 7 - مَسْألَة: ستر العورة شرط في صحة الصلاة في حق الرجل والمرأة: نص عليه في رواية مهنا: في الرجل يصلي في ثوب ليس بصفيق (¬1)، فإن بدت عورته، يعيد (¬2)، وبهذا قال أبو حنيفة (¬3)، والشافعي (¬4)، وداود (¬5). وأصحاب مالك - رحمهم الله - فمنهم من قال: ستر العورة شرط ¬

_ (¬1) أي: متين. ينظر: لسان العرب مادة (صفق). (¬2) لم أقف على رواية مهنا بهذا اللفظ إلا عند ابن رجب. ينظر: فتح الباري (2/ 196). وسيأتي بعد قليل تفصيل الروايات في حد العورة. (¬3) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 155)، والمبسوط (1/ 133). (¬4) ينظر: الأم (2/ 199)، والبيان (1/ 116 و 120). (¬5) ينظر: المحلى (3/ 125). وداود هو: ابن علي بن خلف، أبو سليمان الأصبهاني، البغدادي، قال الذهبي: (الإمام، البحر، الحافظ، العلامة، رئيس أهل الظاهر)، خالف في مسألة: القرآن كلام الله، له مصنفات، منها: كتاب الدعاوى، والرد على أهل الإفك، وصفة أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع، وإبطال القياس، توفي سنة 270 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 97).

في صحة الصلاة مع الذكر، وليس بشرط مع السهو. ومنهم من قال: هو واجب مفروض، إلا أنه ليس من شرط صحتها، فإن صلى مكشوف العورة عامدًا، كان عاصيًا، وسقط الفرض (¬1). دليلنا: قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، قيل: اللباس في الصلاة (¬2). وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي" (¬3) وقد صلى مستترًا. وروى إسماعيل بن سعيد الشالنجي بإسناده عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل أصيد، أفأُصلي (¬4) في قميص واحد؟ قال: "فزرَّه ولو بشوكة" (¬5). فلو لم يكن الستر واجبًا، لما أمره بأن يزره. وروى أيضًا بإسناده عن يحيى بن جابر الطائي - رضي الله عنه - قال: قال ¬

_ (¬1) ينظر: الإشراف (1/ 259)، ومواهب الجليل (2/ 177). (¬2) ينظر: تفسير الطبري (10/ 149). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، رقم (631). (¬4) في الأصل: افصلي. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: وجوب الصلاة في الثياب معلقًا بصيغة التمريض، وقال: (في إسناده نظر)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الرجل يصلي في قميص واحد، رقم (632)، وسكت عنه، والنسائي في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في قميص واحد، رقم (765)، وصححه الحاكم (1/ 379) ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امرأةٍ صلَّت باديةً أذنُها، فلا صلاة لها" (¬1). وروت عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاةَ حائضٍ إلا بخِمار" ذكرها أبو داود في كتابه بإسناده (¬2). واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا يقبل الله صلاة أحد حتى يتوضأ كما أمره الله" إلى أن قال: "ثم يستقبل القبلةَ، فُيُكَبِّر" (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجده، وقد ذكر نحوه ابنُ رجب في الفتح (2/ 140) من قول الحسن البصري: (إذا بلغت المحيض فصلت، ولم توار أذنيها، فلا صلاة لها). (¬2) في كتاب: الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار، رقم (641)، والترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار، رقم (377) وقال: (حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم)، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، رقم (655)، وقال ابن حجر في التلخيص (2/ 803): (أعله الدارقطني بالوقف، وقال: إن وقفه أشبه، وأعله الحاكم بالإرسال). (¬3) أخرجه أبو داود بنحوه في كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، رقم (857 وما بعده)، والنسائي في كتاب: التطبيق، باب: الرخصة في ترك الذكر في السجود، رقم (1136) من حديث رفاعة بن رافع، وليس فيه ذكر استقبال القبلة، وأخرجه البيهقي في كتاب: الصلاة، باب: من سها فترك ركنًا، عاد إلى ما ترك، رقم (3857)، وابن حبان في صحيحه في كتاب: الصلاة، باب: صفة الصلاة، رقم (1787)، والدارقطني في باب: وجوب غسل القدمين والعقبين، رقم (319)، قال ابن حجر في التلخيص (1/ 144): (لم أجده بهذا اللفظ ... نعم لأصحاب السنن من حديث =

فأخبر عما يتم الصلاة به، ولم يذكر ستر العورة، فدل على أنها غير واجبة. والجواب: أنه قد بين حكم الستارة في خبر آخر، وهو ما ذكرناه، والأخذ بالزائد أولى. واحتج: بأن ستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة؛ لأنه يلزم سترها في غيرها، ولو كان من شرطها، لاختصها كما يختص سائر فرائضها. والجواب: أن ترك الأكل، والشرب، والجماع، يجب في غير الصلاة، وهو الصيام، ويجب في الصلاة، كذلك الستر لا يمتنع أن يجب في غير الصلاة، ويجب في الصلاة. واحتج: بأن الستارة لو كانت واجبة، لكان بدلٌ يقوم مقامها عند العجز عنها؛ كالوضوء، ولما لم يكن لها بدل، دل على أنها غير واجب. والجواب: أنه يبطل بالتيمم، هو واجب، وليس ببدلٍ، وعلى أنه لا يجوز أن يستدل بسقوط الفرع على سقوط الأصل. والله أعلم. * * * ¬

_ = رفاعة بن رافع، في قصة المسيء صلاته فيه: "إذا أردت أن تصلي، فتوضأ كما أمرك الله"، وفي رواية لأبي داود، والدارقطني: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين) وعلى هذا فالسياق بـ "ثم" لا أصل له).

8 - مسألة

8 - مَسْألَة واختلفت (¬1) الرواية في حد عورة الرجل على روايتين: إحداهما: حدُّها من السُّرَّة (¬2) إلى الركبة: نص عليه في رواية المروذي (¬3)، فقال: العورة من أسفل السرة إلى فوق الركبة، وكذلك نقل عبد الله (¬4) - رحمه الله - عنه: الفخذ عورة، فإن صلى وفخذُه مكشوفة، أخشى أن يجب عليه أن يعيد، وبهذا قال أبو ¬

_ (¬1) في الأصل: اختلف. (¬2) السُّرَّةُ: الوَقْبَةُ التي في وسط البطن، وهي الموضع الذي قطع منه السُّر. ينظر: لسان العرب (سرر). (¬3) ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 136). والمروذي هو: أبو بكر أحمد بن محمد بن صالح بن الحجاج، الحافظ، القدوة، المقدم من أصحاب أحمد، روى مسائل كثيرة، ولزمه حتى مات، له: الورع، والمحنة، والعلل، توفي سنة 275 هـ. ينظر: الطبقات (1/ 137)، والمقصد الأرشد (1/ 156)، وسير أعلام النبلاء (13/ 173). (¬4) في مسائله رقم (270 - 271)، والروايتين (1/ 136). وعبد الله هو: ابن الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الرحمن، قال الذهبي: (الإمام، الحافظ، الناقد، محدث بغداد)، لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه منه، له مسائل كثيرة عن الإمام أحمد، والزوائد على المسند، والسنة، توفي سنة 290 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 5)، وسير أعلام النبلاء (13/ 516).

حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رضي الله عنهم -. والثانية: العورة هي القُبُل والدُّبُر: نص على ذلك في رواية مهنا (¬4)، فقال: العورة: الفرج والدبر، فإن بدت عورته؛ يعيد، وإن كان الفخذ، فلا، وبهذا قال داود (¬5). فالدلالة على أن الفخذ عورة: ما روى أحمد (¬6) - رحمه الله -، وذكره أبو بكر في كتابه قال: ثنا يحيى بن سعيد (¬7) عن سفيان (¬8) قال: ثنا أبو الزناد (¬9) ...................................... ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر القدوري ص 68، وفتح القدير (1/ 180). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 260)، وبداية المجتهد (1/ 166). (¬3) ينظر: الأم (2/ 199)، والبيان (2/ 117). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 136)، والمغني (2/ 284)، وفتح الباري (2/ 196). (¬5) ينظر: المحلى (3/ 126). (¬6) في المسند، رقم (15933). (¬7) ابن فروخ القطان التميمي، أبو سعيد البصري الأحول، الحافظ، روى له أصحاب الكتب الستة، قال عبد الله: سمعت أبي يقول: حدثني يحيى القطان، وما رأت عيناي مثله، مات سنة 198 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (4/ 357). (¬8) ابن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، حافظ، إمام، حجة، روى له أصحاب الكتب الستة، له كتاب الجامع، مات سنة 161 هـ. ينظر: سير الأعلام، (7/ 229)، والتقريب ص 239. (¬9) عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، المعروف: بأبي الزناد، =

عن زرعة بن عبد الرحمن بن جُرْهد (¬1) عن جده - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ بردة، وقد انكشف فخذي، فقال: "غَطِّ فخذَك، فإن الفخذَ عورةٌ" (¬2). وروى أبو بكر بإسناده في كتابه عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسفلُ السرَّة وفوق الركبتين من العورة" (¬3)، وهذا نص؛ ¬

_ = قال ابن معين: ثقة حجة، مات سنة 130 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (2/ 329). (¬1) الأسلمي المدني، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. ينظر: تهذيب التهذيب (1/ 629). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: ما يُذكر في الفخذ معلقًا بصيغة التمريض، وأبو داود في كتاب: الحمام، باب: النهي عن التعري، رقم (4014)، والترمذي في كتاب: الأدب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء أن الفخذ عورة، رقم (2795) وقال: (حديث حسن، وما أرى إسناده بمتصل)، وقال ابن رجب في الفتح (2/ 191) حين تكلم على أسانيد الحديث: (لا تخلو من انقطاع)، وقال ابن حجر في مقدمة الفتح ص 30: (وأما حديث جرهد، فوصله البخاري في التأريخ، وأبو داود، وأحمد، والطبراني من طرق، وفيه اضطراب، وصححه ابن حبان). (¬3) أخرجه الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: الأمر بتعليم الصلوات، رقم (890)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: عورة الرجل، رقم (3237) وقال: (سعيد بن أبي راشد البصري ضعيف)، قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 346): (وأما حديث أبي أيوب، فإن سعيد بن أبي راشد، وعباد بن كثير متروكان)، قال ابن حجر في التلخيص (2/ 804): (إسناده ضعيف؛ فيه عباد بن كثير، وهو متروك).

ولأن الفخذ عضو بين السرة والركبة، فكان من العورة، دليله: القبل، والدبر. واحتج المخالف: بما روت عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا كاشفًا عن فخذه، فاستأذن أبو بكر - رضي الله عنه -، فأذن له، وهو على حاله، ثم استأذن عمر - رضي الله عنه -، فأذن له وهو على حاله، ثم جاء عثمان - رضي الله عنه -، فاستأذن، فأرخى عليه ثيابه، وغطى فخذه، فلما قاموا، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فقلت: يا رسول الله! رأيتك تصنع بعثمان ما لم تصنع بهما؟ فقال: "يا عائشة! ألا أستحي من رجل - والله - إن الملائكة لتستحي منه" (¬1). وفي لفظ آخر: قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذه أو ساقه، فاستأذن أبو بكر - رضي الله عنه - وهو على تلك الحال، ثم استأذن عمر - رضي الله عنه - وهو على حاله كذلك، فاستاذن عثمان - رضي الله عنه -، فجلس وسوّى ثيابه ... وذكر الخبر (1). ولفظ آخر: أن أبا بكر - رضي الله عنه - استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لابسٌ مُرطَ (¬2) أم المؤمنين، فأذن له، ثم قضى إليه حاجته، ثم خرج، فاستأذن عليه عمر - رضي الله عنه - وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته، ثم خرج، فاستأذن عثمان - رضي الله عنه -، فاستوى جالسًا، وقال: "إن عثمانَ شديدُ الحياء، ولو أذنتُ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان، رقم (2401 - 2402). (¬2) كساء. ينظر: النهاية في غريب الحديث (مرط).

له على تلك (¬1) الحال خشيت أن لا يبلغ إليَّ في حاجته" (¬2). والجواب: أنه يحتمل أن يكون فخذه كان قد خفف عنها الثياب، فلما دخل عثمان - رضي الله عنه -، ستره أكثر، وهذا هو الظاهر؛ لأن في بعض الألفاظ: كان لابسًا مرطًا، ويحتمل أن يكون كشف إحدى فخذيه، فكان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - من الجانب الآخر لا يريان ذلك، فلما دخل عثمان - رضي الله عنه -، أراد أن يجلس من الجانب الآخر، فستر فخذه منه. ولأن عائشة - رضي الله عنها - شَكَّت: هل كان فخذه أو ساقه؟ وهذا يوجب التوقيف. فإن قيل: في الخبر ما يسقط هذا، وهو قوله لعائشة: "إن عثمان رجل حيي"، وإذا حمل الخبر على أنهما لم يشاهدا فخذه، بطل التنبيه لفضيلة عثمان. قيل له: لا يبطل؛ لأنه أراد أن يبين لعثمان هذه الفضيلة، فجعل سببًا، كما قال: "أقرؤُكم أُبيّ، وأصدَقُكم لهجةً أبو ذَرّ، وأفرضُكُم زيد" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: تيك، والتصويب من صحيح مسلم. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان، رقم (2401 - 2402). (¬3) أخرجه أحمد في المسند، رقم (12904 - 13990)، والترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل، رقم (3790 - 3791)، وابن ماجه باب: في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم (154)، والحاكم في مستدركه، كتاب: معرفة الصحابة، ذكر مناقب زيد - رضي الله عنه -، رقم (5784)، ونص الحافظ =

واحتج: بما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬1) بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، قال: فصلينا عندها صلاة الغداة بغَلَس، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وركب أبو طلحة، وأنا رديفُ أبي طلحة، فأجرى نبيُّ الله في زُقاقِ خَيبر، وإن ركبتي لتمسُّ فخذَيْ نبيِّ الله، وانحسر الإزار عن فخذَيْ نبيِّ الله، وإني لأرى فخذي نبي الله، فلما دخل قال: "اللهُ أكبر، خربتْ خيبر" الخبر. والجواب: أنه يحتمل أن يكون ظهر فخذه منه على وجه السهو والغفلة، لا عن علم بذلك. واحتج: بأنه بعض من الرِّجل ليس بمخرج الحدث، فلم يجب ستره. دليله: الساق (¬2)، أو نقول: لا ينتقض الطهر بمسه. والجواب: أن هذا قياس يعارض النص، وعلى أنه لا يمتنع أن لا يكون مخرجًا للحدث، ويكون عورة كبدن المرأة. * * * ¬

_ = ابن حجر على أن الحفاظ قالوا: بأنه مرسل، الفتح (7/ 119)، وبه قال الدارقطني في العلل (1/ 43)، وضعّفه شيخ الإسلام ابن تيمية، ينظر: الفتاوى (31/ 342). (¬1) رقم (11992)، وأخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: ما يُذكر في الفخذ، رقم (371) ومسلم في كتاب: الجهاد، باب: غزوة خيبر، رقم (1365). (¬2) في الأصل: السارق، وهو تصحيف، وينظر: المغني (2/ 285).

9 - مسألة: الركبة ليست بعورة

9 - مَسْألَة: الركبة ليست بعورة: هذا ظاهر كلام أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله: إذا صلى وفخذه مكشوفة، يعيد، فقيل له: ما حده؟ قال: فوق الركبة (¬1). وكذلك قال في رواية المروذي: العورة من أسفل السرة إلى فوق الركبة (¬2)، فجعل العورة من فوق الركبة وأسفل السرة، وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: الركبة عورة، والسرة ليست من العورة (¬4). دليلنا: ما تقدم من حديث أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة" (¬5). فإن قيل: هذا يدل على أن ما بينهما عورة، ونحن نقول ذلك، وليس فيه أن ما عداه ليس بعورة. ¬

_ (¬1) في مسائله (271 و 272). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 136)، ونصه: (من السرة إلى الركبة). (¬3) ينظر: الأم (2/ 199)، والحاوي (2/ 172)، وكون الركبة ليست بعورة قول أكثر المالكية. ينظر: عيون المسائل ص 121، والتاج والإكليل (2/ 179 و 180). (¬4) ينظر: مختصر القدوري ص 68، والهداية (1/ 45). (¬5) مضى تخريجه في (1/ 131).

قيل له: هذا غير صحيح؛ لأنه لا يجوز أن يقول: ما فوق الركبة من العورة، وعنده: الركبة من العورة، كما لا يجوز أن يقول: ما فوق نصف الفخذ من العورة، وعنده: أن جميع الفخذ من العورة، بل يكون هذا لغوًا من الكلام. وأيضًا: ما روى الدارقطني (¬1) بإسناده (¬2) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (¬3) - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُروا صبيانَكُم بالصلاة ¬

_ (¬1) في سننه في كتاب: الصلاة، باب: السنة في سجود الشكر رقم (1529 و 1530). والدارقطني هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود البغدادي، أبو الحسن، من أهل محلة دار القطن ببغداد، قال عنه الذهبي: (الإمام، الحافظ، المجود، شيخ الإسلام، علم الجهابذة، ... من أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله)، له المصنفات العظيمة، منها: السنن، العلل ... وغيرها، توفي سنة 385 هـ. ينظر: سير الأعلام (16/ 449). (¬2) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها، وحد العورة التى يجب سترها، رقم (887 و 888)، وأخرجه أحمد في المسند، رقم (6756)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ رقم (495 و 496)، قال العقيلي في الضعفاء (4/ 1326) بعد روايته للحديث: (الرواية في هذا فيها لين)، وفي سنده سوّار بن داود، قال ابن حجر: (صدوق له أوهام)، والحديث حسنه النووي في رياض الصالحين ص 126، ومال الألباني في الإرواء إلى تصحيحه (1/ 266). (¬3) هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الله المدني، ويقال: الطائفي، قال =

لسبع، واضربوهم عليها لعَشْر، وفرقوا بينهم في المضاجع، وإذا زَوَّج أحدُكم عبدَه، أو أَمَته، أو أَجيره، فلا تنظر الأمة إلى شيء من عورته؛ فإن ما تحت السرة إلى ركبته من العورة"، وفي لفظ آخر: "فإن ما بين سرته وركبتيه من عورته" (¬1). فجعل الركبة غاية، فلا تدخل في الحد؛ كقوله: ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط، لا يدخل الحائطان فيه. فإن قيل: الغاية قد تدخل في الجملة؛ كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وأجمعنا على دخول المرافق في ذلك. قيل له: إنما أوجبنا غسلَ المرافق بالسنة؛ لأن الظاهر اقتضى ذلك. والقياس: أن الركبةَ جُعِلت حدًا للعورة، فوجب أن لا تدخل. دليله: السرة. ¬

_ = البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا، يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، قال البخاري: فمن الناس بعدهم؟ ! وقد استبعد الذهبي أن يكون هذا من كلام البخاري، قال ابن حجر: صدوق، مات سنة 118 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 165)، وتهذيب التهذيب (3/ 277)، والتقريب ص 465. وأما شعيب بن محمد، فهو: صدوق ثبت. ينظر: التقريب ص 272. وأما محمد، فهو: مقبول. ينظر: التقريب ص 545. (¬1) ينظر: (1/ 131).

واحتج المخالف: بما روى عقبة بن علقمة (¬1) قال: سمعت عليًا - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الركبة من العورة" (¬2). الجواب: أن عقبة ضعيف، لا يثبته أهل الحديث، ولا يحتج بحديثه، على أنا نحمل قوله: "الركبة من العورة"، معناه: مقارب العورة (¬3)، قد يعبّر عن الشيء بما قاربه، ويكون القصد بهذا الاحتياط في ستر ما قاربها من الفخذ. واحتج: بأن الركبة هي: العظم المستدير الذي يجمع طرَفي عظم الساق والفخذ، والفخذ اسم العظم الذي يمتد من الورك إلى منتهى عظم الساق، وقد علمنا أن بعضه داخل تحت الركبة، وبعض الساق أيضًا داخل فيه؛ لأن المفصل تحتهما، وجب أن تكون الركبة عورة؛ لأنها قد جمعت جهتي الحظر والإباحة، وإذا اجتمعت جهتا الحظر والإباحة، كانت جهة ¬

_ (¬1) اليشكري، أبو الجنوب الكوفي، قال أبو حاتم: (ضعيف الحديث بيّن الضعف)، وكذا قال ابن حجر. ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 126)، والتقريب ص 435. (¬2) أخرجه الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها، وحد العورة التى يجب سترها، رقم (889)، وفي سنده النضر بن منصور، وعقبة بن علقمة لا يحتج بهما. ينظر: التحقيق لابن الجوزي (2/ 347)، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/ 113). (¬3) في الأصل طمس بمقدار كلمة، ولعلها [عورة]، فتكون الجملة: مقارب العورة عورة.

10 - مسألة: كل المرأة عورة إلا الوجه

الحظر أولى؛ كالجارية بين اثنين، وهذا الاعتبار غير موجود في السرة، فلا يلزم. والجواب: أنا لا نسلم أنها جمعت جهة الحظر والإباحة؛ لأن طرف العظم الذي في الركبة ليس من العورة عندنا، وإنما العورة تنتهي إلى الركبة، والركبة لا تدخل في اسم الفخذ، فلم يصح ما قاله، وعلى أنه يجب - على هذا - إذا كان جلد الفخذ ينتهي إلى القدمين أن يكون جميع ذلك عورة، وهذا لا يقوله أحدٌ، فبطل ما قاله. واحتج: بأن الفخذ عورة، ويجب ستره، ولا يتوصل إلى ستر جميعه إلا بستر بعض الركبة، فيجب ستر بعضها؛ لأن ما لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بها كانت فرضًا مثلها، وإذا وجب ستر بعضها، وجب ستر جميعها؛ لأن من أوجب ستر البعض، أوجبَ سترَ الجميع، ولهذا قلنا: إن المرافق داخلة في الوضوء. والجواب: أن هذا المعنى موجود في السرة؛ لأنه لا يمكن في العادة استيفاء ستر العورة إلا بستر جزء من السرة، ثم لا يجب ذلك، كذلك في الركبة، والله تعالى أعلم. * * * 10 - مَسْألَة: كل المرأة عورة إلا الوجه:

وقد أطلق أحمد القول بأن جميعها عورة، فقال في رواية النسائي (¬1): كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وكذلك قال في رواية أبي داود: إذا صلت لا يرى منها ولا ظفرها، وتغطي (¬2) كل شيء منها (¬3)، وهذا محمول على ما عدا الوجه؛ لأنه قد نص في رواية [] (¬4) فيمن خطب امرأة فله أن ينظر إلى الوجه. وقد ذكر الخرقي ذلك، قال: وإذا انكشف من المرأة شيء سوى وجهها، أعادت (¬5). وقد أومأ أحمد - رحمه الله - في موضع آخر إلى أن جميعها عورة إلا الوجه والكفين (¬6)، وقال في رواية حرب (¬7)، ومحمد بن أبي حرب ¬

_ (¬1) هو: جعفر بن محمد، وقد مضت ترجمته ص 97. (¬2) في الأصل: يغطي، والتصويب من مسائل أبي داود. (¬3) في مسائله (280). (¬4) بياض في الأصل. ولعلها من رواية صالح كما جاء في المغني (9/ 490) ولم أقف عليها في المطبوع من مسائله. (¬5) في مختصره ص 48. والخرقي هو: أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله، من أئمة المذهب الحنبلي، بل قال الذهبي: (شيخ الحنابلة)، له: المختصر المشهور، توفي سنة 334 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 147)، وسير الأعلام (15/ 363). (¬6) ينظر: الجامع الصغير ص 42، والفروع وتصحيحه (2/ 35)، والإنصاف (3/ 207). (¬7) ينظر: الفروع (8/ 183)، والمبدع (7/ 9)، والإنصاف (20/ 43). =

الجرجرائي (¬1): في البائع تأتيه المرأة، فينظر في كفها ووجهها، فإن كانت عجوزًا، رجوت، وإن كانت شابة تُشتهى، فإني أكره ذلك. فظاهر هذا: أن الكفين ليسا بعورة؛ لأنه أجاز النظر إليها إذا كانت عجوزًا، وبهذا قال مالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: جميعها عورة إلا الوجه، والكفين، والقدمين (¬4). فالدلالة على أن الكفين والقدمين من العورة: قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. ¬

_ = وحرب هو: ابن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، قال الخلال: (رجل جليل القدر)، وقال الذهبي: (مسائل حرب من أنفس كتب الحنابلة)، توفي سنة 280 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 388)، وسير أعلام النبلاء (13/ 244). (¬1) في الأصل: الجرجائي، وينظر: الفروع (8/ 183)، والإنصاف (20/ 43). ومحمد هو: ابن النقيب بن أبي حرب الجرجرائي، ذكره أبو بكر الخلال فقال: (ورع ... ، جليل القدر، كان أحمد يكاتبه، ويعرف قدره، ويسأل عن أخباره). طبقات الحنابلة (2/ 395). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 262)، وبداية المجتهد (1/ 167). (¬3) ينظر: الأم (2/ 201)، والأوسط (5/ 70). (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 28، والهداية (1/ 45).

وروى أبو بكر (¬1) في كتابه قال: نا أحمد بن محمد (¬2) قال: نا حرب بن إسماعيل (¬3) قال: نا يحيى (¬4) قال: نا شريك (¬5) عن أبي إسحاق (¬6)، ¬

_ (¬1) هو: غلام الخلال، وقد مضت ترجمته. وقد مضت الإشارة إلى الاحتمال بين الخلال، وغلامه، عند ذكر رواية أبي بكر للأحاديث والآثار، ومن المراد به منهما، والذي جعله هنا الغلام، هو ذكر شيخه الخلال بعده في السند، وهذه قرينة أبطلت الاحتمال. كما أنه في ص 188 ذكر المؤلف أثرًا برواية أبي بكر، وابنُ قدامة جعله مما أخرجه الخلال. المغني (2/ 312). ولا يمنع أن يكون الغلام رواه عن شيخه. (¬2) هو الخلال، وقد مضت ترجمته. (¬3) الكرماني، قال الذهبي: (ما علمت به بأسًا)، سير أعلام النبلاء (13/ 245)، وقد مضت ترجمته. (¬4) يوجد أكثر من واحد يحمل هذا الاسم، ويروي عن شريك، وأقربهم اثنان: الأول: يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن، أبو زكريا، قال الذهبي: (الحافظ الإمام الكبير)، وقال ابن حجر: (حافظ إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث)، توفي سنة 228 هـ، والثاني: يحيى بن أبي بكير أبو زكريا الكرماني، كوفي الأصل، سكن بغداد، وثقه غير واحد، قال الإمام أحمد: (ما أكيسه! )، توفي سنة 209 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 497، 10/ 526)، والتقريب ص 657 و 664. (¬5) مضت ترجمته. (¬6) هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد، ويقال: علي الهمداني، الكوفي، الحافظ، شيخ الكوفة، المعروف: بأبي إسحاق السبيعي، روى عن جمع من الصحابة، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة 127 هـ، وقيل غير ذلك. ينظر: سير =

عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر (¬1)، عن عبد الله في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: الثياب (¬2). وهذا يدل على أنَّ ما عدا ذلك عورة لا يجوز لها إبداؤه. فإن قيل: فقد رُوي عن عبد الله: أنه قال: إلا ما ظهر منها الثياب، والقُرْط، والدملوج، والخَلْخال، والقلادة (¬3). ¬

_ = أعلام النبلاء (5/ 392)، وتهذيب التهذيب (3/ 284). (¬1) كذا في الأصل، ولم أقف على أحد من أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه - يطلق عليه هذا الاسم، فلعل لفظة: (جابر) زائدة، ويكون المراد - كما في مصادر تخريج الأثر -؛ حيث ورد في بعض طرقه: أن الراوي عن ابن مسعود هو: عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، الإمام الفقيه، أبو بكر النخعي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 83 هـ. ينظر: سير الأعلام (4/ 78)، والتقريب ص 381. (¬2) أخرج الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، من غير الطريق الذي ساقه المؤلف: ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (17282)، والطبري في تفسيره (17/ 256)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 260)، رقم (9115)، والحاكم في مستدركه في كتاب: تفسير سورة النور، رقم (3499)، وصححه، ووافقه الذهبي، قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 239): (وأخرجه الطبري في تفسيره من طرق جيدة عن ابن مسعود). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره عند تفسير الآية، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 260) رقم (9116 و 9117)، وقال في المجمع (7/ 82): (رواه الطبراني بأسانيد مطولًا ومختصرًا، ورجال أحدها رجال الصحيح). =

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الوجه، والكفان (¬1). قيل له: إذا اختلفوا فيما عدا الثياب، وجب أن يتعارضوا، ويخرج من الآية ما اتفقوا عليه، وهو الثياب، وما اختلفوا يبقى على ظاهر الآية، وهو المنع من إبدائه ولو خُلِّينا والظاهر، لقلنا: إن الوجه من العورة أيضًا، لكن قام الدليل على تخصيص ذلك. وروى أيضًا بإسناده عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار (¬2) ليس عليها إزار؟ قال: "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها" (¬3)، وهذا يدل على أن قدميها ¬

_ = والقرط: نوع من الحلي يعلق في شحمة الأذن. والدملوج هو: سوار تضعه المرأة في عضدها. والخلخال: ما تلبسه المرأة من الحلي، وموضعه الساق. ينظر: المخصص لابن سيده (1/ 372)، والنهاية في غريب الحديث (قرط)، ولسان العرب (قرط، خلل). (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (17281)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 70)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: عورة المرأة الحرة، رقم (3214)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (6/ 200). (¬2) درع المرأة: قميصها، والخمار: هو النصيف، وقيل: ما تغطي به المرأة رأسها. ينظر: لسان العرب (درع، خمر). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في كم تصلي المرأة؟ رقم (640)، والدارقطني في: ما يجوز أن تصلي فيه المرأة من الثياب، رقم (1785)، =

عورة يجب سترها. وذكر شيخنا (¬1) في كتابه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ذكر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدلين من الثياب؟ قال: شبرًا، فقلت: شبرًا قليل تخرج منه العورة. قال: "ذراع" (¬2)، فسمَّت القدمين عورةً؛ لأن الكناية عنها، ولم ينكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بأن يدلين الثوب أسفلَ من الكعبين ذراعًا، مع نهيه الرجال عن سَبْل الإزار أسفلَ الكعبين. وحدثني أبو بكر محمد بن جعفر المؤدب (¬3) من أصحابنا بإسناده ¬

_ = والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما تصلي فيه المرأة من الثياب، رقم (3250)، قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 348)، وابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 113): (فيه مقال، وهو أن عبد الرحمن بن عبد الله: ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به)، وفيه أم محمد لا تعرف، وصوب بعضهم وقفه. ويراجع: الإرواء (1/ 303). (¬1) هو: الحسن بن حامد، مضت ترجمته عند ذكر شيوخ أبي يعلى في ص 33. (¬2) أخرجه أحمد رقم (26681)، وأبو داود في كتاب: اللباس، باب: في قدر الذيل، رقم (4117)، والنسائي في كتاب: الزينة، باب: ذيول النساء، رقم (5338)، وأخرجه الترمذي في كتاب: اللباس، باب: ما جاء في جر ذيول النساء من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، رقم (1731)، وقال: (حديث حسن صحيح)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (460). (¬3) لعله: محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن كنانة، أبو بكر المؤدب، الحنبلي، توفي سنة 366 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (2/ 151)، والفروع (2/ 422).

عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المرأة عورة" (¬1)، وهذا يدخل تحته الكفان، والقدمان، والوجه أيضًا، إلا أن الإجماع خص الوجه، وبقي ما عداه على موجب الظاهر. والقياس: أن الكفين والقدمين لا يجب كشفه في الإحرام، فوجب أن يكون (¬2) عورة منها، أصله: سائر بدنها، وعكسه الوجه، لما وجب عليها كشفه في الإحرام، لم يكن عورة. واحتج المخالف: بأن اليدين والقدمين تظهران في العادة، وهو موضع الزينة، فأشبه الوجه. والجواب: أنه يظهر في العادة منها عنقُها، وساعدُها، وبعض ساقها، وهذا كله عورة، فانتقض ما قاله. واحتج: بأن اليدين عضو لا يجوز لها أن تغطيه في الإحرام بما عمل على قَدِّه (¬3)، وهو القفازان، فلم يكن عورة. دليله: الوجه: .............................. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع، رقم (1173) وقال: (حديث حسن غريب)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب: جماع أبواب صلاة النساء في جماعة، باب: اختيار صلاة المرأة في بيتها على صلاتها في المسجد، رقم (1685)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 303). (¬2) كذا في الأصل، ولعل الأصوب: لا يجب كشفهما في الإحرام، فوجب أن يكونا. (¬3) القدّ: قدر الشيء. ينظر: لسان العرب (قدد).

11 - مسألة: إذا انكشف يسير من العورة، لم تبطل صلاته

لا يجوز أن تغطيه بالبُرْقع (¬1). والجواب: أن المعنى في الوجه: أنه يجب عليها كشفه في الإحرام، واليدين: لا يجب كشفهما، فهما كالقدمين، والساقين، والله تعالى أعلم. * * * 11 - مَسْألَة: إذا انكشف يسيرٌ من العورة، لم تبطل صلاته: نص على هذا في رواية الميموني فيمن صلى وعورته مكشوفة؟ فقال: إذا كان قليلًا، فلا بأس (¬2)، وكذلك نقل عبد الله عنه: في المرأة تصلي وبعضُ ساعدها مكشوفة؟ فقال: أو بعض شعرها، فإن كان شيئًا يسيرًا، فأرجو (¬3). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا انكشف من العورة المغلظة مقدار الدرهم، لم تبطل صلاته، وإن انكشف أكثر منه (¬4)، وإن انكشف من الفخذ، أو من شعر المرأة، أو ساقها، أو بطنها، أقل من الربع، لم تبطل صلاتها، ¬

_ (¬1) البُرْقُع، والبُرْقَع، والبُرْقُوعُ: تلبسها نساء الأَعراب، وفيه خَرْقان للعينين. ينظر: اللسان (برقع). (¬2) لم أجد رواية الميموني فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وينظر في تفصيل المذهب: المغني (2/ 287)، والإنصاف (3/ 220). (¬3) في مسائله رقم (279). (¬4) كذا في الأصل، وكان فيه سقطًا، ولعله: (أكثر منه بطلت صلاته).

وإن انكشف الربع فصاعدًا، بطلت صلاتها (¬1). وقال الشافعي - رحمه الله -: تبطل الصلاة، يسيرًا كان أو كثيرًا (¬2). فالدلالة أنه إذا كان يسيرًا، لم تبطل صلاته: ما احتج به أحمد - رحمه الله -، ورواه أبو بكر بإسناده عن عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - قال: لما رجع قومي من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: إنه قال لنا: "ليؤمَّكُم أكثرُكُم قراءة للقرآن"، قال: فدعَوْني، فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلِّي بهم، وعليّ بردةٌ مفتوقة (¬3)، فكانوا يقولون لأبي: غَطِّ اسْتَ (¬4) ابنِك (¬5). ولا يجوز أن يُحمل ذلك على الكثير، فلم يبق إلا أنه كان يسيرًا، ¬

_ (¬1) ينظر: المبسوط (1/ 354)، وفتح القدير (1/ 181). (¬2) ينظر: الأم (2/ 199)، والأوسط (5/ 71). وعند المالكية: تعيد ما دامت في الوقت. ينظر: المدونة (1/ 94)، ومواهب الجليل (2/ 178). (¬3) أي: مخروقة مشقوقة تظهر منها العورة. ينظر: حاشية السندي شرح سنن النسائي (2/ 404). (¬4) الاست - بكسر الهمزة -: من أسماء الدبر. ينظر: حاشية السندي شرح سنن النسائي (2/ 404). (¬5) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في كتاب: القبلة، باب: الصلاة في الإزار، رقم (767)، وبنحوه البخاري في صحيحه، في كتاب: المغازي، باب: من شهد الفتح رقم (4302).

فلولا أنه لم يُبطل الصلاة، لم يتبعوه في الإمامة، ومعلوم أن هذا انتشر فيما بينهم، ولم يُنقل عن أحد منهم نكير، فصار كالإجماع. وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" (¬1)، فظاهر هذا: أنه إذا كان عليها (¬2) خمار، فانكشف موضع من بدنها: أن الصلاة صحيحة؛ ولأن كل ما صحت الصلاة مع كثيره حالَ العذر، فُرِّق بين كثيره وقليله في غير حال العذر؛ كالمشي في الصلاة تجوز الصلاة مع كثيره في حال العذر، وهو حال المسايفة (¬3)، ويفرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر، فيعفى عن الخطوة والخطوتين، كذلك كشف العورة، لما صحت الصلاة مع كثيره في حال العذر، وهو إذا لم يجد ما يستر عورته، جاز أن يفرق بين كثيره وقليله في غير حال العذر، ولا يلزم عليه الحدث؛ لأن الصلاة لا تصح مع كثيره في حال العذر، ولا مع قليله أيضًا؛ لأنه لو عدم الماء أو بعضه، وعدم التراب، فإنه يصلي على حسب حاله، ويعيد، فلهذا لم يفرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر؛ ولأنه لو حل مئزره بغير اختيار، فرده عن قرب، لم تبطل صلاته، كذلك إذا انكشف منها ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 129). (¬2) في الأصل: عليه، والصواب المثبت. (¬3) في الأصل: المسابقة، وهو تصحيف. ينظر: العدة في أصول الفقه (5/ 1539)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 215). والمسايفة هي: المجالدة، واستاف القوم، وتسايفوا: تضاربوا بالسيوف. ينظر: لسان العرب (سيف).

يسير (¬1) في جميع الصلاة، يجب أن يعفى عنه؛ لأن اليسير في زمان الكثير يجري مجرى الكثير في زمان يسير، وقد روى المروذي عنه: في الرجل يصلي في ثوب واحد، فينكشف عن فرجه، فيصلحه؟ فقال: ما سمعت فيه شيئًا (¬2). وروى عنه ابن منصور: إذا كان ذلك بالقرب، فقد توقف في موضع عن القول في ذلك بالصحة والبطلان، وقطع به في رواية ابن منصور: أنه لا يعيد إذا كان بالقرب (¬3). وقد احتج بعض من نصر هذه المسألة: بأن كشف العورة يجري مجرى (¬4)؛ لأنه يختص بالموضع، ولا يتعدى حكمه إلى غيره كالنجاسة. ولأن العورة على ضربين: مغلظة، وهي: القبل والدبر، ومخففة، وهي الفخذ؛ لأن فيها نصًا متأولًا، وهو حديث أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما - (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: يسيرًا. (¬2) لم أقف على رواية المروذي، وقد اطلعت على رسالة علمية مقدمة في جامعة أم القرى لنيل درجة الدكتوراه بعنوان (مسائل الإمام أحمد في العبادات الخمس عدا الحج برواية أبي بكر المروذي) للشيخ د/ عبد الرحمن الطريقي - وفقه الله -، ولم يذكر هذه الرواية. (¬3) في مسائله رقم (348). (¬4) كذا في الأصل، وثمة نقص، لعله: الحدث، فتكون الجملة: يجري مجرى الحدث. (¬5) مضى ذكره وتخريجه في (1/ 132).

والنجاسة مغلظة: وهي نجاسة الكلب والخنزير، ومخففة: وهي ما عدا ذلك. ولأن ستر العورة لا بدل له، وغسل النجاسة لا بدل له، ثم ثبت أنه يعفى عن يسير النجاسة، وهو أثر الاستنجاء، ودم البراغيث، كذلك يجب أن يعفى عن يسير العورة، ولا يلزم على هذا الحدث؛ لأنه يتعدى محله؛ ولأن له بدلًا، فلهذا لم يفرق (¬1) قليله وكثيره، وهذا الدليل غير مستقيم على أصلنا؛ لأن ستر العورة يتعدى محله عندنا، وهو أنه يجب عليه أن يستر منكبيه في الصلاة، وليس من العورة؛ ولأن غسل النجاسة له بدل عندنا، وهو أنه إذا لم يجد ماء يزيلها، وجب عليه أن يتيمم لها، وليس القدر الذي يعفى عنه من النجاسة مما يلحق المشقة غالبًا، وليس هذا المعنى موجود [اً] في ستر العورة، فهو بالمشي في الصلاة أشبهُ؛ لأنه لا تدعو الحاجة إليه، وقد فرق بين قليله و [كثيره]، كذلك في ستره العورة. واحتج المخالف: بما تقدم (¬2) من حديث جرهد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "غَطِّ فخذَك؛ فإن الفخذ عورة"، وهذا أمر بتغطيته يعم القليل والكثير. والجواب: أنه إنما أمره بذلك في غير صلاة؛ لأنه أصار (¬3) عليه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل اللفظ يستقيم بـ (بين). (¬2) (1/ 131). (¬3) كلمة غير واضحة المعنى، والسياق يدل على المراد، وهو: أنه مرَّ به؛ كما في المسند رقم (15926).

وهو في المسجد، وعندنا: أنه يجب تغطية جميعه في غير الصلاة؛ لأجل الناظرين، ولأن دليل الخطاب يقتضي أنه إذا غطى فخذه، وانكشف يسيرًا من قبله أو دبره، تصح صلاته؛ لأنه قد امتثل ما أُمر به، وعندهم: لا تصح صلاته. واحتج: بأنه صلى وبعضُ عورته مكشوفة من غير عذر، فوجب أن لا تصح صلاته. دليله: الكثير. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الكثير بالقليل في مسألتنا؛ كما لم يجز اعتباره في المشي في الصلاة، وكذلك النجاسة. واحتج: بأنه حكم تعلق بالعورة، فاستوى فيه القليل والكثير. دليله: تحريم النظر. والجواب: إنه إنما سوّينا بينهما في تحريم النظر، لأنه يستوي فيه القليل والكثير؛ في نفي المشقة على الناظر، وإمكان التحرز، وليس كذلك في ستر العورة؛ لأنه قد يشق التحرز من الستر منهما، لا سيما في حق المرأة مع القيام، والقعود، واختلاف الأفعال؛ ولأن تحريم النظر مجمع عليه، فهو أغلظ. وستر العورة مختلف فيه، فإن مالكًا - رحمه الله - لا يجعله شرطًا، فهو أخف (¬1)؛ ولأن ستر العورة حق لله خالص، وتحريم النظر حق آدمي، ¬

_ (¬1) ينظر: (1/ 127).

فصل

وهو هتك حرمته، فهو آكد، ألا ترى أنه لو أكل ناسيًا في صومه، لم يفطر، ولو أكل طعام الغير وهو لا يشعر، ضمن؟ وكان الفرق بينهما: أن أحدهما حق لله تعالى، والآخر لآدمي. واحتج: بأنه سبب من أسباب الصلاة المنافية لها، فاستوى فيه القليل والكثير؛ كالحدث. والجواب: أنه يبطل بالمشي، فإنه ينافي الصلاة، ويفرق بين قليله وكثيره في حال العذر، وهذا تصح (¬1) الصلاة مع كثيره في حال العذر، فجاز أن يفرق بين القليل والكثير في غير حال العذر. * فصل: والدلالة على أبي حنيفة - رحمه الله - في نفي التقدير: أن هذا إثبات تقدير، وعنده: أن المقادير لا تثبت إلا بتوقيف أو اتفاق، وليس ها هنا واحد منهما؛ ولأن هذا يجري مجرى العمل من الوجه الذي ذكرنا، ويسيرُ العمل في الصلاة لا يتقدّر، كذلك ها هنا، والدلالة على التسوية بين العورة المغلظة والمخففة: أنهما سواء في وجوب الستر في حال القدرة، فاستويا في مقدار العفو، والله أعلم. * * * 12 - مَسْألَة: يجب عليه أن يستر منكبيه في الصلاة المفروضة: ¬

_ (¬1) في الأصل: يصح.

نص على هذا في رواية حنبل، وقد سئل عن الثوب اللطيف لا يبلغ أن يعقده، هل يأتزر به ويصلي؟ قال: لا أرى ذلك مجزئًا عنه (¬1)، فإن كان الثوب لطيفًا، صلى قاعدًا، أو عقد من ورائه، ويجزئه أن يأتزر بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء في صلاة التطوع (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهم الله -: لا يجب عليه ذلك. دليلنا: ما روى أحمد (¬6) - رحمه الله -، وذكره أبو بكر قال: ثنا سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج (¬7)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصلِّي الرجلُ في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" (¬8)، وهذا ¬

_ (¬1) في الأصل: قال: أرى ذلك مجزئًا عنه، والصواب المثبت. وينظر: المغني (2/ 317)، وفتح الباري (2/ 156). (¬2) ينظر: الإنصاف (3/ 213 و 214)، وتصحيح الفروع (2/ 37)، وفتح الباري (2/ 156). (¬3) ينظر: المبسوط (1/ 133)، وبدائع الصنائع (2/ 90). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 85)، والمعونة (1/ 166). (¬5) ينظر: الأم (2/ 202)، والمجموع (3/ 126). (¬6) في المسند رقم (7307، 9980). (¬7) هو: عبد الرحمن بن هرمز، المعروف: بالأعرج، أبو داود، روايته في الكتب الستة، قال الذهبي: (الإمام الحافظ)، توفي سنة 117 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 69)، وتهذيب التهذيب (2/ 562). (¬8) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى في الثوب الواحد، =

نهي يدل على فساد المنهي عنه، وروى أبو داود بإسناده (¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم في ثوب، فَلْيخالِفْ بطرفيه على عاتقيه" (¬2)، وهذا أمر، فاقتضى الوجوب. وروى ابن شاهين (¬3) في كتاب المناهي (¬4) بإسناده عن ابن بريدة (¬5) عن ¬

_ = فليجعل على عاتقيه، رقم (359)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد، وصفة لبسه، رقم (516). (¬1) في كتاب: الصلاة، باب: جماع أثواب ما يصلى فيه، رقم (627). (¬2) بنحوه أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى في الثوب الواحد، فليجعل على عاتقيه، رقم (360). (¬3) لم أقف على رواية ابن شاهين، ولا على كتابه المناهي. وابن شاهين هو: عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد، أبو حفص، المعروف بابن شاهين، قال الذهبي: (الشيخ الصدوق، الحافظ العالم، شيخ العراق)، له مؤلفات كثيرة، منها: التفسير الكبير، وشرح مذاهب أهل السنة، وناسخ الحديث ومنسوخه، توفي سنة 385 هـ. ينظر: سير الأعلام (16/ 431). (¬4) في الأصل: المباهي. والمثبت هو الصواب، وقد أشار ابن شاهين إلى كتابه المناهي في ناسخ الحديث ومنسوخه في ثلاثة مواضع: ص 338 و 458 و 461. (¬5) هو: عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أبو سهل، المروزي، روى عن جمع من الصحابة، وروايته في الكتب الستة، توفي سنة 105 هـ. ينظر: التهذيب (2/ 307)، والتقريب ص 308.

أبيه - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل - يعني: في ملاءة (¬1) - ليس عليه غيرها إلا [أن] يتوشح بها (¬2)، وأن يصلي في سراويل ليس عليه رداء" (¬3). وروى شيخنا (¬4) في كتابه عن أبي خالد (¬5)، عن ابن عجلان (¬6)، ¬

_ (¬1) الملاءة: الإزار. ينظر: لسان العرب (ملأ). (¬2) التوشح: أن يتشح بالثوب - أي: يلبسه -، ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره. ينظر: اللسان (وشح). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يتزر به إذا كان ضيقًا، رقم (636)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما يستحب للرجل أن يصلي فيه من الثياب، رقم (3276)، والحاكم في المستدرك، رقم (914) وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، وللفائدة: ينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 178 و 179)، والسلسلة الصحيحة رقم (2905). (¬4) هو ابن حامد - رحمه الله -. (¬5) هو: سليمان بن حيان الأزدي، أبو خالد الأحمر، الكوفي، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 189 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 19)، وتهذيب التهذيب (2/ 89). (¬6) هو: محمد بن عجلان، المدني، القرشي، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة، أبو عبد الله، قال ابن حجر: (صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة)، توفي سنة 148 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 646)، والتقريب ص 552.

عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (¬1). وروى شيخنا بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد لا يُدخل مَنْكِبيه فيه" (¬2). وروى أبو بكر بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه (¬3). وإذا ثبت هذا من فعله، دخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلَّي" (¬4)، وروى أبو بكر بإسناده عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت الرجال عاقدي أُزْرِهم في أعناقهم من ضيق الأُزر خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأمثال الصبيان، قال: فقال قائل: يا معشر النساء! لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال (¬5). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 129). (¬2) بنحوه أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ومضى في (1/ 129). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، رقم (354)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد، رقم (517) من حديث عمر بن أبي سلمة. (¬4) مضى تخريجه (1/ 128). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إذا كان الثوب ضيقًا، رقم (362)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: أمر النساء المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رؤوسهن من السجود حتى يرفع الرجال، رقم (441).

وهذا يدل على وجوب ستر المناكب؛ لأنهم فعلوه مع ضيق الثياب وقلتها. والقياس: أنه سترٌ وجبَ لا لأجل النظر، فلم يقف على ستر العورة. دليله: كفن الميت. فإن قيل: ستر الميت أعم في الإيجاب؛ لأنه يجب ستر جميع بدنه، ولا يجب مثل هذا في الصلاة. قيل: فهذا يؤكد؛ لأنه إذا وجب ستر جميعه وليس بعورة، جاز أن يجب ستر بعضه وإن لم يكن عورة، وعلى أن الطهارة الكبرى والصغرى يختلفان في المقدار، ومع هذا فإن كل واحدة منهما تتعدى محله. ولأنه أخلَّ بستر المنكبين مع القدرة عليهما، فلم يجز. دليله: إذا صلى خلف الإمام، ولم يقرأ، وكما لو انكشف من عورته يسير (¬1). فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لو ستر منكبيه، لم تجز صلاته. قيل له: لا نسلم لك هنا؛ ولأن الستر لا يختص وجوبه بالصلاة، ولا ما هو جارٍ (¬2) مجرى الصلاة، فتعدى محلَّه. ¬

_ (¬1) في الأصل: يسيرًا. (¬2) في الأصل: جاري.

دليله: الطهارة من الحدث، ولا يلزم عليه غسل النجاسة أنه لا يتعدى محله؛ لأنه يختص الصلاة (¬1) وهو الطواف، وليس كذلك الستارة؛ لأنها تجب لأجل النظر، وذلك ليس بصلاة، ولا جارٍ مجراها، وكذلك الطهارة تجب لحمل المصحف، وقراءة (¬2)، وليس ذلك بصلاة، ولا جار مجراها، وكل من لزمه فرض الصلاة لزمه ستر منكبيه فيها. دليله: المرأة. فإن قيل: المعنى في المرأة: أن منكبيها عورة، فلهذا لزمها سترها، وهذا ليس بعورة. قيل له: جميع بدن الميت ليس بعورة، ومع هذا فيلزم ستره، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بما روى مهنا قال: حدثونا عن عبد الرحمن بن المبارك (¬3) قال: نا فضيل بن سليمان النُّميري (¬4) قال: نا موسى بن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) كذا في الأصل، والمراد: قراءة القرآن. (¬3) أبو بكر البصري، العيشي، روى عنه: البخاري، وأبو داود، والنسائي، قال أبو حاتم: (ثقة)، توفي سنة 228 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (2/ 549)، والتقريب ص 376. (¬4) أبو سليمان البصري، روايته في الكتب الستة، قال أبو حاتم: (ليس بالقوي)، وقال ابن حجر: (صدوق له خطأ كثير)، توفي سنة 183 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 398)، والتقريب ص 496.

عقبة (¬1)، عن إسحاق بن يحيى بن (¬2) الوليد ابن أخي عبادة، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال: "إن كان واسعًا، فاشتمَلَه، وإن كان عاجزًا، فاتزر به" (¬3). قالوا: فقد جاز له أن يأتزر به، وعندكم: لا يجوز، بل يصلي جالسًا، ويستر منكبيه. والجواب: أن مهنا عرض هذا الحديث على أحمد - رحمه الله -، فقال: لا أعرفه، مَنْ عبد الرحمن بن المبارك؟ لا أعرفه. وعلى أنه لو صح، حملناه على صلاة النافلة، وهكذا الجواب عما روى سليمان بن حرب (¬4) عن حماد بن زيد (¬5)، ............... ¬

_ (¬1) ابن أبي عياش، الأسدي، مولى آل الزبير، وثقه الإمام أحمد، قال الذهبي: (الثقة الكبير)، توفي سنة 141 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 114). (¬2) في الأصل: عن، وهو تصحيف، ولا مزيد في اسمه على ما ذكره المؤلف، روى عنه موسى بن عقبة، ولم يرو عنه غيره، قال البخاري: (إسحاق لم يلق عبادة)، وقال ابن حجر: (مجهول الحال)، قتل سنة 131 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (1/ 130)، والتقريب ص 75. (¬3) بنحوه من طريق أخرى أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إذا كان الثوب ضيقًا، رقم (361) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وبمعناه كذلك مخرج عند مسلم في كتاب: الزهد، باب: حديث جابر الطويل، رقم (3010). (¬4) ابن بجيل الأزدي، أبو أيوب البصري، قال أبو حاتم: (إمام من الأئمة)، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 224 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (2/ 88). (¬5) ابن درهم الأزدي، أبو إسماعيل البصري، قال الإمام أحمد: (حماد من =

عن أيوب (¬1)، عن نافع (¬2)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إذا كان لأحدكم ثوبان، فليصلِّ فيهما، فإن لم يكن إلا ثوبٌ، فليأتزر به، ولا يشتمل اشتمالَ اليهود" (¬3). واحتج: بأن المنكبين ليسا (¬4) بعورة، فلم يجب سترهما. دليله: الصدر والظهر. والجواب: أنه لا يمتنع أن يجب سترهما، وإن لم يكونا عورة، كما وجب في حق الميت، وكما وجب غسل الأعضاء الأربعة، وإن لم يكن (¬5) محل الحدث، ولا يمتنع أن يجب ستر المنكبين، وإن لم يجب ستر ¬

_ = أئمة المسلمين)، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 179 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (1/ 480). (¬1) ابن أبي تميمة كيسان السختياني، أبو بكر البصري، قال الذهبي: (الإمام، الحافظ، سيد العلماء)، توفي سنة 131 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 15)، وتهذيب التهذيب (1/ 200). (¬2) أبو عبد الله المدني، مولى ابن عمر، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، فقيه، مشهور)، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 117 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (4/ 210)، والتقريب ص 625. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يتزر به إذا كان ضيقًا، رقم (635)، وسكت عنه، وصححه الألباني. ينظر: السلسلة الصحيحة رقم (2905). (¬4) في الأصل: ليس. (¬5) كذا في الأصل، ولعل الأقرب: تكن.

غيرهما، كما وجب غسل الأعضاء الأربعة في الحدث الأصغر، وإن لم يجب غسل غيرها، مع تساويهما في أن الحدث لم يخرج من واحد منهما. واحتج: بأن ما لا يجب ستره في صلاة النفل لا يجب في صلاة الفرض. دليله: ما ذكرنا. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يجب ذلك في صلاة النفل، ويجب في صلاة الفرض، وكذلك التوجه إلى القبلة في السفر. واحتج: بأنه لو كان واجبًا، لوجب أن تبطل الصلاة بتركه لستره العورة. والجواب: أن قوله في رواية حنبل: لا أرى ذلك مجزيًا عنه، يقتضي: أن الصلاة تبطل بتركه ذلك، وعلى هذا أصحابنا، فعلى [هذا] (¬1) يسقط السؤال، وقد روى مثنى الأنباري عنه: فيمن صلى وعليه سراويل، وثوبه على إحدى عاتقيه، والأخرى مكشوف (¬2)؟ يكره، وقيل له: يؤمر أن يعيد؟ فلم يرَ عليه إعادة (¬3). ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار كلمة، والعبارة تستقيم بالمثبت. (¬2) كذا بالأصل، ولعل الأقرب: مكشوفة. (¬3) ينظر: المغني (2/ 290)، وشرح الزركشي (1/ 613)، وتصحيح الفروع (2/ 38)، والإنصاف (3/ 216). =

وظاهر هذا: أن الصلاة لا تبطل، فعلى هذا لا يمتنع ذلك (¬1) واجبًا، فإن لم يكن شرطًا في صحة الصلاة؛ كما قلنا على أصولنا: إن الجماعة واجبة في الصلوات المفروضات، وليست بشرط في صحتها، وكذلك الإحرام؛ فإن الميقات واجب، ورمي الجمار، والمبيت بمنى، وليس ذلك بشرط في صحة الحج، كذلك ها هنا. واحتج: بأنه ستر لا يجب خارج الصلاة، فلا يجب في الصلاة، أصله: الصدر، والظهر. أنه (¬2) يبطل بالعورة في الموضع الذي لا يراه أحد، فإنه لا يجب خارج الصلاة، ويجب في الصلاة، وهو إذا صلى في ذلك الموضع، ثم لا يجوز اعتبار خارج الصلاة بالصلاة؛ بدليل: القراءة، وغيرها. وقد نا علي بن أحمد (¬3) بإسناده عن جابر - رضي الله عنه -: أنه صلى الظهر في ¬

_ = ومثنى هو: ابن جامع الأنباري، أبو الحسن، كان ورعًا، جليل القدر، كان الإمام أحمد يعرف حقه وقدره، ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 410). (¬1) في الأصل إشارة إلى سقط (ط). (¬2) كذا في الأصل، وكأن الكلام مرتبط في الأصل بعضه ببعض، والذي يظهر أن كلمة: (والجواب)، ساقطة من الأصل، فينتهي الاعتراض عند: (والظهر)، ويكون السياق: والجواب: أنه يبطل ... (¬3) كلمة في الأصل لم تتضح، وعلي لعله: علي بن أحمد بن عمر البغدادي، أبو الحسن الحمامي، قال الخطيب البغدادي: (كتبنا عنه، وكان صادقًا ... فاضلًا)، توفي سنة 417 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (11/ 329)، وقد مضت =

ثوب واحد متوشحًا به، كأني أنظر إليه؛ كأن على عاتقه ذنب فأرة (¬1)، وهذا يدل على أنه يجزئ القليل دون الاستيعاب. وذكر أبو حفص (¬2) في شرح كتاب الخرقي بإسناده عن إبراهيم (¬3) قال: كان الرجل من أصحاب (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد ثوبًا يصلي فيه، ألقى على عاتقه عقالًا، ثم صلى (¬5)، وإذا لم يجد ثوبًا، صلى قاعدًا يؤمئ، ¬

_ = الإشارة إليه في شيوخ أبي يعلى. (¬1) في الأصل: إشارة (ط)، والذي في الأصل هكذا (ذئب فايده)، والمثبت هو الصواب. ينظر: المغني (2/ 291)، وقد ذكر ابن قدامة الأثر بصيغة التمريض، وضعّفه، وأخرجه بنحوه الإمام أحمد في المسند، رقم (14136) وأصله في صحيح مسلم، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد، رقم (518)، ولم يرد فيهما: (كأني أنظر ... ). (¬2) هو: عمر بن إبراهيم بن عبد الله، أبو حفص العكبري. يعرف بـ: (ابن المسلم). قال ابن أبي يعلى: (معرفته بالمذهب المعرفة العالية، له التصانيف السائرة)، من مصنفاته: المقنع، وشرح الخرقي، توفي سنة 387 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 291)، والمقصد الأرشد (2/ 291). (¬3) هو: ابن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي، قال الذهبي: (الإمام، الحافظ)، وقال الإمام أحمد: (كان إبراهيم ذكيًا، حافظًا، صاحب سنة)، توفي سنة 96 هـ. ينظر: سير الأعلام (4/ 520). (¬4) في الأصل: أصحب. (¬5) لم أقف على هذا الأثر، وذكره أيضًا صاحب "التمام" (1/ 210)، وابن قدامة في المغني (2/ 291).

وإن صلى قائمًا بركوع وسجود، أجزأه، نص على هذا في رواية بكر بن محمد: في القوم ينكسر بهم، فتذهب ثيابهم، أو تُسرق: يصلون قعودًا (¬1)، وقد روى الأثرم عنه: إن توارى بعضهم عن بعض، فصلوا قيامًا، فلا بأس به (¬2)، فظاهر هذا: أنه في حال الخلوة إن شاء صلى قائمًا، وإن شاء صلى قاعدًا يؤمئ، ولا يكره له القيام. وظاهر رواية بكر بن محمد: أنه لا فرق بين الخلوة وغيرها، وهو المذهب (¬3)، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬4). وقال مالك (¬5)، والشافعي (¬6) - رحمهما الله -: لا يجزئه إلا أن يصلي قائمًا بركوع وسجود. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في قوم انكسرت مراكبهم فخرجوا عراة، قال: يصلون جلوسًا يومئون برؤوسهم ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (2/ 53). وبكر هو: ابن محمد بن الحكم النسائي، أبو أحمد، كان الإمام أحمد يقدمه، ويكرمه، عنده مسائل كثيرة سمعها من أبي عبد الله. ينظر: الطبقات (1/ 318)، والمدخل المفصل (2/ 631). (¬2) ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 137). (¬3) ينظر: الإنصاف (3/ 238). (¬4) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 618)، وفتح القدير (1/ 185). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 95)، والإشراف (1/ 262). (¬6) ينظر: الأم (2/ 204)، والبيان (2/ 127).

إيماءً (¬1)، وهذا قول ظهر وانتشر، ولم يُنقل عن أحد خلافه؛ ولأنه قادر على ستر ما يجب ستره من العورة، فلم يجز له تركُه. دليله: لو كان واجدًا للثوب، تبين صحة هذا: أنه لا فرق بين أن يجد ثوبًا يستر جميع عورته، أو يجد ما يستر بعض عورته في أنه يجب عليه ذلك، كذلك ها هنا، هو قادر على ستر ما يُلاقي الأرض من العورة، فيجب أن يلزمه؛ ولأن ستر العورة للصلاة واجب؛ كما أن سترها عن غيره واجب، ثم ثبت أنه لو سترها عن غيره ببدنه، أجزأه، وسقط الفرض عنه، كذلك في الستر الواجب في الصلاة. وأيضًا: فإن ستر العورة فرض، والقيام فرض، وقد دفع إلى ترك أحدهما؛ لأنه لا يمكن إتيانهما، فيجب أن يأتي بآكدهما، والستر آكد من القيام، ألا ترى فرض الستر لا يسقط في حال الصلاة على الراحلة، وفرض القيام يسقط، وكذلك فرض الركوع والسجود، ويجوز ترك القيام في صلاة صحيحة من غير عذر، وهو التطوع، وترك الستر لا يجوز في حال القدرة عليه بوجه. وستر العورة يجب للصلاة وغيرها، والقيام لا يجب إلا للصلاة؛ ¬

_ (¬1) روى هذا الأثر: ابن المنذر في الأوسط (5/ 78) عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وقال: (ولا يثبت عن ابن عمر، وابن عباس ما روي عنهما)، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه بنحو ما ذكره المؤلف آثارًا عن بعض الصحابة والتابعين، رقم (4563 و 4564 و 4565 و 4566)، وابن أبي شيبة - كذلك - في المصنف عن بعض التابعين، رقم (5021 و 5022 و 5023).

ولأنه إذا صلى قاعدًا، فقد أتى بفرض الستر، وما يقوم مقام القيام، والركوع، والسجود، وهو الإيماء، وإذا صلى قائمًا، فقد أتى بفرض القيام، والركوع، والسجود، من غير أن يأتي بما يقوم مقام الستر، ولأن يأتي بفرض الستر وما يقوم مقام غيره من الفروض أولى من أن يأتي بسائر الفروض، ويترك فرض الستر جملة. فإن قيل: لا يجوز أن يستر بعض بدنه ببعض، ولهذا يقول: إن من صلى منحلَّ الأزرار، فسدَّ الجيب بلحيته: أنه لا يجوز. قيل له: عندنا: يجوز أن يستر بعضه ببعض، وقد روى الأثرم عن أحمد - رحمه الله -: أنه سئل عن الرجل يصلي في قميص واحد غير مزرور عليه، ولحيته تغطي، والقميص غير متسع الجيب؟ فقال: إذا كان يسيرًا، فجائز (¬1). وظاهر هذا: أن اللحية قد تستر العورة؛ لأنه لم ينكر ذلك على السائل. فإن قيل: ستر العورة لو كان آكد - على ما ذكره -، لوجب أن يتعين عليه فرضه، ولا يجوز تخييره؛ لأنه إنما يخير بين شيئين متساويين. قيل له: هكذا نقول: إنه يتعين عليه الجلوس على معنى: أنه يستحب له الجلوس، ويكره له القيام، وقد يقع التخيير بين شيئين، وأحدهما أولى من الآخر؛ كالمسح على الخفين مع الغسل، وعتق الرقبة ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (2/ 295)، وكذلك الأوسط لابن المنذر (5/ 63).

مع الإطعام في الكفارة. فإن قيل: لا نسلِّم أن ستر العورة آكدُ من القيام في الفريضة، بل هما سواء؛ لأن كل واحد منهما شرط في صحة الفريضة إذا كان قادرًا عليه، وإذا عجز عنه، سقط فرضه، وصلى، ولم تجب الإعادة. قيل له: قد بيّنا أن أحدهما آكد في النفل، فيجب أن يكون آكدَ في الفرض، والتأكيد إنما يطلب في موضع واحد. فإن قيل: فهذا لا يصح على أصلك؛ لأنك تقول: يصلي جالسًا، ويسجد بالأرض، فيخل بالقيام، وبالستر جميعًا. قيل: روى أبو طالب (¬1)، وإبراهيم الحربي عن أحمد - رحمه الله -: أنه يؤمئ في ركوعه وسجوده (¬2)، وهو قول شيوخنا: الخرقي (¬3)، وأبي بكر، وروى عنه بكر بن محمد: أنه يصلي جالسًا، ويسجد بالأرض (¬4)، قال أبو بكر: الذي رواه بكر بن محمد قول لأبي عبد الله أول - يعني: ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 137). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 137). وإبراهيم هو: ابن إسحاق بن إبراهيم الحربي، أبو إسحاق، نقل عن الإمام أحمد مسائل عديدة، وله مؤلفات كثيرة، منها: غريب الحديث، ودلائل النبوة، والمناسك، وغيرها، توفي سنة 285 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 218)، والمقصد الأرشد (1/ 211). (¬3) مختصر الخرقي ص 47. (¬4) ينظر: الفروع (2/ 53)، والإنصاف (3/ 238).

مرجوع عنه - (¬1)، على أن السجود آكدُ من القيام؛ بدليل أن القيام يسقط في صلاة النافلة، والسجود بالأرض لا يسقط، فجاز أن يسقط القيام - لضعفه - بعد الستر، ولا يسقط السجود؛ لقوته، ويجب أن يكون المذهب الصحيح: أن السجود يومئ؛ لما ذكرنا من الدليل. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع، فعلى جَنْب" (¬2)، وهذا عام. والجواب: أن هذا محمول على من كان واجدًا لما يستر عورته؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: أنه مستطيع للقيام من غير ضرر، فوجب أن لا يجوز له تركه في الفرض. ودليله: المكسي. والجواب: أن المكسي يمكنه أن يأتي بفرض الستر وسائر الأركان، فوجب عليه أن يأتي بالجميع، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لا يمكنه أن يأتي بفرض الستر مع سائر الفروض، ولا بد من إتيان بعضها، وترك بعضها، فيجب أن يأتي بآكدهما، ويترك أيسرهما، وقد بينا أن ستر العورة ¬

_ (¬1) ينظر: شرح العمدة (2/ 327). (¬2) أخرجه البخاري في أبواب: تقصير الصلاة، باب: إذا لم يطق قاعدًا، صلى على جنب، رقم (1117).

13 - مسألة: إذا لم يجد إلا ثوبا نجسا، وليس معه ما يغسله، فإنه يصلي فيه، ولا يصلي عريانا

آكدُ من سائر الفروض، فيجب أن يأتي به، ويترك الأيسر. واحتج: بأن القيام والركوع والسجود من أركان الصلاة، فلا يسقط بالعجز عن ستر العورة؛ قياسًا على سائر الأركان من القراءة وغيرها. والجواب: أنه (¬1) يسقط سائر الأركان؛ لأنه يمكنه إتيانها مع الستر، وفي مسألتنا لا يمكنه إتيانها إلا مع ترك فرض الستر، وقد بينا أن الستر آكد، فكان إتيانها أولى. واحتج: بأنه إذا صلى قائمًا، حصلت له ثلاثة أركان، وإذا صلى قاعدًا، حصل له ستر بعض العورة، ولا يجوز أن يترك ثلاثة فروض لفرض واحد. والجواب: أنه إذا صلى قاعدًا، فإنه يحصل له ستر العورة المغلظة، وما عداها، فحكمُه أخفُّ وأيسر؛ لأنه مختلف في كونه عورة، ووجوب ستره، والله أعلم. * * * 13 - مَسْألَة: إذا لم يجد إلا ثوبًا نجسًا، وليس معه ما يغسله، فإنه يصلي فيه، ولا يصلي عريانًا: ¬

_ (¬1) طمس في الأصل، ولعله: [إذا سقط] سقط سائر الأركان).

نص على هذا في رواية حرب (¬1)، وأبي طالب: فيمن معه ثوب، وعليه دم فاحش وقذر، وهو مضطر، هل يتعرى ويصلي؟ فقال: لا يتعرى، ولكن يصلي ويعيد (¬2)، فقد نص على أنه يصلي ويعيد، ويتخرج في الإعادة رواية أخرى: أنه لا يعيد؛ لأنه قد نص فيمن عدم الماء والتراب وصلى، هل يعيد؟ على روايتين، كذلك يتخرج ها هنا (¬3). وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف - رحمهما الله -: إن كان ربع الثوب طاهرًا، وثلاثة أرباعه نجسًا، صلى فيه، ولم يصلّ عريانًا، وإن كان أقل من ربع الثوب طاهرًا، أو كان مملوءًا، فهو بالخيار، إن شاء صلى في الثوب ولا يعيد، وإن شاء صلى عريانًا (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 92). (¬2) لم أقف على رواية أبي طالب فيما اطلعت عليه من كتب الأصحاب، ولا في الرسائل العلمية التي جمعت مسائله، وقد جاء نحوها في مسائل أبي داود رقم (290). (¬3) ينظر: الجامع الصغير ص 43، والمستوعب (2/ 81)، ومختصر ابن تميم (2/ 74)، والفروع (2/ 51)، والإنصاف (3/ 229). (¬4) ينظر: المبسوط (1/ 344)، والهداية (1/ 46). وأبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، الأنصاري الكوفي، لزم أبا حنيفة سبع عشرة سنة، قال ابن معين: (ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف)، له كتاب: الخراج، والآثار، وغيرهما، توفي سنة 182 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 535).

وقال الشافعي - رحمه الله -: لا يجوز له أن يصلي في الثوب، ولكن يصلي عريانًا (¬1). فالدلالة على أنه يصلي في الثوب من غير تخيير: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غَطِّ فَخذَك؛ فإن الفخذ عورة" (¬2)، وقوله: "لا تُبرِز (¬3) فخذَك، ولا تنظر إلى فخذِ حيٍّ ولا ميتٍ" (¬4)، وهذا أمر بتغطية الفخذ، فهو على العموم؛ ولأنه قادر على ستر ما يجب سترُه خارجَ الصلاة، فلم يجز له تركه في الصلاة، دليله: لو كان واجدًا لثوب طاهر. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الفرض يسقط معه، وها هنا ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 124)، والأوسط (2/ 166). وعند المالكية: يصلي في الثوب النجس، ولا يصلي عريانًا، وتجزئه، فإن وجد ثوبًا طاهرًا بعد أن صلى، وكان في الوقت، استحب له الإعادة. ينظر: المدونة (1/ 34)، والإشراف (1/ 280). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 133). (¬3) في الأصل: لا تبد، والتصويب من الحديث. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الجنائز، باب: في ستر الميت عند غسله، رقم (3140) من حديث علي - رضي الله عنه -، وكذلك أخرجه مرة أخرى في كتاب: الحمام، باب: النهي عن التعري رقم (4015) وقال: (هذا الحديث فيه نكارة)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت رقم (1460)، قال ابن رجب في الفتح (2/ 192): (له علتان: إحداهما: أن ابن جريج لم يسمع من حبيب، ... العلة الثانية: أن حبيب بن أبي ثابت لم تثبت له رواية عن عاصم بالسماع منه).

لا يسقط معه الفرض. قيل له: قد بيّنا أن في الإعادة روايتين: إحداهما: لا يجب، فعلى هذا: لا فرق بينهما. والثانية: يجب. فعلى هذا: لا يمتنع أن يجب عليه الصلاة على هذه الصفة، وإن كانت الإعادة واجبة؛ كما قلنا نحن (¬1) والشافعي - رحمه الله - (¬2): فيمن عدم الماء والتراب: يصلي ويعيد، وكذلك يلزمه المضي في الحج الفاسد، وإن لم يسقط به الفرض، وكذلك إذا أدرك الإمام بعد الركوع، لزمه متابعته، وإن لم يعتد (¬3) به، كذلك ها هنا. وأيضًا: فإن ستر العورة فرض، والطهارة من النجاسة فرض، وقد دفع إلى ترك أحدهما؛ لأنه لا يمكنه إتيانهما، فيجب أن يأتي بآكدهما، وهو الستر؛ لأنه آكد، ألا ترى أنه يجب في الصلاة وفي غير الصلاة، والنجاسة تسقط في غير الصلاة؟ ولأن أبا حنيفة - رحمه الله - قد قال: لو طاف عريانًا، لزمه دم، ولو طاف في ثوب نجس، لم يلزمه دم (¬4). ولأن الشافعي - رحمه الله - قد قال (¬5): إذا انكشف من العورة يسيرٌ، لم تصح صلاته. وقال: يعفى عن يسير النجاسة، وإذا كان كذلك، ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 91، 92)، والإنصاف (3/ 229). (¬2) ينظر: الأم (2/ 107)، ومغني المحتاج (1/ 167). (¬3) في الأصل: يعيد. (¬4) ينظر: المبسوط (4/ 45)، وبدائع الصنائع (3/ 71، 72). (¬5) ينظر: الأم (2/ 118 و 201).

وجب أن يأتي بآكد الفرضين، ويترك أيسرهما، ولا يكون مخيرًا في أحدهما. ولأن كشف العورة في الصلاة يجري مجرى النجاسة، ثم ثبت أنه لو عدم الستارة، صلى عريانًا، كذلك إذا عدم الطهارة من النجاسة، يجب أن يصلي مع النجاسة. ولأنه غير قادر على ثوب طاهر، فلم يكن مخيرًا بين الصلاة في الثوب النجس وبين تركه، كما لو كان ربعه طاهرًا، وثلاثة أرباعه نجسًا، فإن أبا حنيفة - رحمه الله - قد قال: لا يخير، بل يلزمه الصلاة فيه، كذلك إذا كان أكثره نجسًا، تبين صحة أن هذا تقدير، والمقادير عنده لا تثبت إلا بتوقيف أو إجماع، وليس ها هنا واحد منهما. واحتج المخالف: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بطهارة" (¬1). والجواب: أنا نحمله: لا صلاة مجزئة إلا بطهارة إذا قلنا: إنه يعيد الصلاة؛ أو نحمله على أنه: لا صلاة إلا بطهارة مع القدرة عليها إذا قلنا: لا يعيد؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بأن كل نجس لم يجب استعماله في الصلاة إذا وجد طاهرًا ¬

_ (¬1) قال ابن حجر: (لم أر هذا الحديث بهذا اللفظ) ينظر: التلخيص الحبير (1/ 345)، وبمعناه أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ: "لا تقبل صلاة بغير طهور"، كتاب: الطهارة باب: وجوب الطهارة للصلاة، رقم (224) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وبوّب البخاري في صحيحه: باب: لا تقبل صلاة بغير طهور.

من جنسه، لم يجز استعماله، وإن لم يجد؛ كالماء النجس. والجواب: أن الماء له بدل يرجع إليه، فلا معنى لاستعمال النجس، وهذا معدوم في الستر؛ ولأن الماء النجس لا يحصل به المقصود، وهو رفع الحدث، وهذا يحصل به المقصود، وهو الستر، ألا ترى أنه يحصل به هذا المعنى في غير الصلاة؟ واحتج: بأنه صلى بنجس مقدور على إزالته، ممكن الاحتراز منه غالبًا، فلم يجز. دليله: إذا كان معه ثوب طاهر. والجواب: أن قوله: (مقدور على إزالته)، غير مسلَّم؛ لأنه لا يقدر على إزالته إلا بترك الستر، وقد بينا أن الستر آكدُ من طهارة النجس، فلم يجز إسقاط الآكد بالأضعف. واحتج أبو حنيفة - رحمه الله - في التخيير، وإسقاط الفرض: بأن النجاسة تجري مجرى كشف العورة في بطلان الصلاة مع القدرة، فيجب أن يكون مخيرًا في أيهما شاء حال العجز، ويسقط الفرض بالنجاسة كما يسقط مع كشف العورة (¬1). والجواب: أنه كان يجب أن يعتبر الربع في سترها، كما اعتبر الربع في النجاسة. فإن قيل: فعندكم أن الستارة لها بدل، وهو الجلوس، فكان يجب ¬

_ (¬1) ينظر: المبسوط (1/ 344).

14 - مسألة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - إذا صلى في ثوب غصب هل تبطل صلاته، أم لا؟

أن ينتقل إليه، ولا يصلي في ثوب نجس. قيل: ذلك ليس ببدل في الحقيقة، ولهذا من أجاز الصلاة جالسًا، خيَّره بين الجلوس والقيام، ولو كان بدلًا في الحقيقة، ما جاز تركه؛ ولأنه لو كان بدلًا في الحقيقة، لم يختلف الناس فيه، كما لا يختلفون في الثوب. * * * 14 - مَسْألَة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - إذا صلى في ثوب غصب هل تبطل صلاته، أم لا؟ : فنقل عبد الله (¬1)، وأبو طالب (¬2): فيمن سرق ثوبًا، وصلى فيه: ما هو بأهل أن تجوز صلاته، وإنه لأهل أن يعيد (¬3). وروى عنه إسماعيل بن سعيد: فيمن صلى في ثوب غصبه: لا آمره بالإعادة (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 158)، ولم أقف على رواية عبد الله في المطبوع من مسائله. (¬2) لم أقف على روايته، وينظر: المحرر (1/ 95)، وشرح الزركشي (2/ 632). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 407). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 158)، والانتصار (2/ 407). تنبيه: في كتاب الروايتين يُحْتمل أنه تصحَّف اسم (إسماعيل بن سعيد) إلى (علي بن سعيد)، إلا أن يكون المراد (علي بن سعيد بن جرير النسوي)، =

وهكذا إن صلى في أرض غصب، هل يعيد، أم لا؟ على روايتين، نقل جعفر بن محمد عنه في مسجد محرابُه غصب، وقدر ما يقوم مقام الإمام: فسدت صلاة المأموم (¬1). ونقل إسماعيل بن سعيد: إن صلى في دار غصبها: آمره (¬2) بإعادة الصلاة، وهكذا إن غصب ماء وتوضأ، في الإعادة روايتان، وكذلك إن غصب خفًا ومسح عليه، هل يعيد تلك الطهارة؟ على روايتين. وقال أبو بكر: فإن صلى في ثوب حرير، هل يعيد، أم لا؟ على روايتين (¬3)، ذكره في كتابه التنبيه، وقد سُئل أحمد - رحمه الله - في رواية إسماعيل: عَمَّنْ صلَّى وفي سراويله تكة (¬4) حرير، هل يعيد (¬5)؟ وكذلك ¬

_ = فتكون رواية أخرى عن الإمام أحمد - رحمه الله -. (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 407). ولفظه: (وقدّر بما يقوم الإمام فيه: أن صلاة الإمام فاسدة، وإذا فسدت صلاة الإمام، فسدت صلاة المأموم)، والفروع (3/ 38)، ولفظه: (قدر ما يقوم الإمام فيه: صلاة الإمام فاسدة، وإذا ... ). (¬2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: لا آمره؛ لأنه أراد الرواية الأخرى في المسألة، وهي عدم الأمر بإعادة الصلاة. وينظر: الروايتين (1/ 158)، والانتصار (2/ 407). (¬3) ينظر: الجامع الصغير ص 43، والمغني (2/ 476)، والحاوي الصغير ص 59. (¬4) التِّكةُ: رباط السراويل، وجمعها تِكَكٌ، قال ابن دريد: لا أَحسبها إِلا دخيلًا. ينظر: اللسان (تكك). (¬5) لم أقف على رواية إسماعيل، وجاء نحوها في مسائل عبد الله رقم (286) =

إن حج بمال غصب، هل يجزئه، أم لا (¬1)؟ نقل عبد الله (¬2)، وأبو طالب: عَمَّنْ سرق مالًا، وحج به: لا يجزئه، وعليه الحج. وروى عنه إسماعيل: إذا غصب مالًا، وحج به: أعجبُ إليَّ أن يعيد الحج. واختار أبو إسحاق (¬3) في تعاليقه على كتاب العلل، فقال: لا حج له، واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدثَ في أمرنا ما ليس منه، فهو رَدّ" (¬4). وقال أبو بكر: فيمن غصب شاةً وذبحها: فهي ميتة (¬5)، والمنصوص عن ¬

_ = قال: (سمعت أبي يقول: أكره التكة تكون من الحرير - يعني: أن يصلى بها -). وينظر: شرح العمدة (2/ 281)، والإنصاف (3/ 225). (¬1) ينظر: الفروع (2/ 46)، والإنصاف (15/ 284). (¬2) في مسائله رقم (1046). (¬3) هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا، أبو إسحاق، البزار، جليل القدر، كثير الرواية، حسن الكلام في الأصول والفروع، توفي سنة 369 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 227). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، رقم (2697)، ومسلم في كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718). (¬5) ينظر: الإنصاف (26/ 497)، وفي مسائل عبد الله برقم (1162): [سمعت أبي يقول: لو أن رجلًا سرق شاة ثم ذبحها، فقال: لا يحل أكلها - يعني: له - =

أحمد - رحمه الله -: أنها تكون مذكاة؛ لأنه قال في رواية ابن منصور: في لص ذبح شاة: فلا يأكلها إلا أن يأذن له (¬1)، فقد أباحها بعد الإذن. وقال أبو بكر أيضًا: إذا ذبح بسكين غصب، فهو ميتة، ولا يمتنع أن يخرج ذلك على الروايتين (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهم الله -: قد أثم، وعصى بصلاته على هذا الوجه، وهي مجزئة عنه، وكذلك في الحج، والطهارة، والذكاة. والدلالة على أنه يعيد الصلاة: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬6) قال: نا أسود بن عامر (¬7) قال: نا بقية بن الوليد الحمصي (¬8) عن ¬

_ = قلت لأبي: فإن ردها على صاحبها؟ قال: لا تؤكل]. (¬1) في مسائله رقم (1526)، ونصها: (قلت: ذبيحة السارق؟ قال: لا بأس بها). (¬2) ينظر: الإنصاف (27/ 299). (¬3) ينظر: المبسوط (1/ 368)، وبدائع الصنائع (1/ 543). (¬4) ينظر: التاج والإكليل (2/ 189)، وشرح مختصر خليل للخرشي (1/ 253). (¬5) ينظر: المهذب (1/ 215)، والمجموع (3/ 118). (¬6) رقم (5732). (¬7) الشامي، يكنى: أبا عبد الرحمن، ويلقب: شاذان، ثقة، توفي سنة 208 هـ. ينظر: التقريب ص 83. (¬8) أبو يُحْمِد، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، توفي سنة 197 هـ. ينظر: التقريب ص 100.

عثمان بن زفر (¬1)، عن هاشم (¬2)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاةً ما دام عليه. قال: ثم أدخل أصبعيه في أذنيه، ثم قال: صُمَّتا إنْ لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول (¬3). وهذا نص. فإن قيل: فقد روى أبو طالب قال: سألت أحمد - رحمه الله - عن حديث بقية بن الوليد عن يزيد بن عبد الله الجهني (¬4)، عن هاشم الأوقص (¬5)، عن نافع قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - وذكر الخبر -، فقال: ليس هذا ¬

_ (¬1) الجهني، الدمشقي، مجهول، توفي بعد سنة 130 هـ. ينظر: التقريب ص 419. (¬2) قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 338): (هاشم مجهول)، وقال ابن حجر في تعجيل المنفعة (2/ 323): (هاشم عن ابن عمر، روى عنه عثمان بن زفر، لا أعرفه، قاله الحسيني)، وأقره الحافظ، قال الهيثمي: (وهاشم لم أعرفه) المجمع (10/ 292)، وإن كان الأوقص، فهو غير ثقة كما قاله البخاري. ينظر: ميزان الاعتدال (4/ 290). (¬3) الحديث ضعَّفه جماعة من أهل العلم. ينظر: المجموع (3/ 129)، وتنقيح التحقيق (2/ 100)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 215)، وجامع العلوم والحكم ص 186. (¬4) لا مزيد في ترجمته، إلا أن الذهبي قال عنه: (روى عنه عن هاشم الأوقص، وعنه بقية. لا يصح خبره). ينظر: ميزان الاعتدال (4/ 431). (¬5) ينظر: الانتصار (2/ 408)، وتنقيح التحقيق (2/ 101)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 215).

بشيء، ليس له إسناد، فقد ضعفه، فلم يصح الاحتجاج به (¬1). قيل له: الإسناد الذي سُئِلَ عنه وضعفه غير الذي في المسند؛ لأنه رواه عن بقية عن عثمان بن (¬2) زفر عن هاشم، والذي سئل عنه رواه بقية عن يزيد بن عبد الله عن هاشم، وروى أبو حفص في الجزء الأول من كتاب: الإجارات، في باب: التغليظ في كسب الحرام، بإسناده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كسب مالًا من حرام، فأنفقه، لم يُقبل منه، فإن ادَّخَر (¬3) منه شيئًا، كان زادَه إلى النار، ومن لبس سربالًا حرامًا، لم يُقبل منه صلاةٌ ما دام ذلك السربال عليه، إن الله أجلُّ وأكرمُ من أن يقبل صلاة رجل ودعاءه وعليه سربال حرام" (¬4). وأيضًا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا، ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 408)، وتنقيح التحقيق (2/ 101)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 215). (¬2) في الأصل: عن، والتصويب من المسند. (¬3) في الأصل: دخر، والتصويب من مسند البزار. (¬4) أخرجه البزار في البحر الزخار بنحوه (3/ 61)، رقم (818)، وقال: (هذا الحديث لا نعلم له إسنادًا إلا هذا الإسناد، وأبو الجنوب، فلا نعلم أسند عنه إلا النضر بن منصور)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 292): (فيه أبو الجنوب، وهو ضعيف)، وأبو الجنوب هو: عقبة بن علقمة الكوفي، قال أبو حاتم: (ضعيف الحديث بيّن الضعف). ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 126).

فهو رَدٌّ" (¬1)، والصلاة في الثوب الغصب ليس عليه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن تكون مردودة. وروى النجاد (¬2) في كتاب مكة بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا حج الرجل من مال حرام، فقال: لبيك اللهمَّ. قال الله: لا لبيك ولا سعدَيْك (¬3). وأيضًا: فإنه ثوب تحرم الصلاة فيه، أو بقعة تحرم الصلاة فيها، فلم تصح الصلاة فيها. دليله: الثوب النجس، والبقعة النجسة، ولهذا قال أصحابنا في المواضع المنهي عن الصلاة فيها: إن صلاته لا تصح فيها على الصحيح من الروايتين؛ لهذه العلة، وهو أنه يحرم عليه الصلاة فيها؛ ولأنه صلى في ثوب غصب، أو بقعة غصب، فلم تصح صلاته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب: الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ، ومسلم في كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم (1718). (¬2) هو: أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر النجاد، قال ابن أبي يعلى: (اتسعت رواياته، وانتشرت أحاديثه ومصنفاته)، له كتاب كبير في السنن، والفقه، توفي سنة 348 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 15)، وسير أعلام النبلاء (15/ 502). (¬3) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم (930)، وقال: (لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وينظر: السلسلة الضعيفة رقم (1091).

دليله: صلاة النافلة، وكل ثوب لا تصح صلاة النفل فيه لا تصح صلاة الفرض فيه؛ كالنجس. فإن قيل: القصد من النفل القربةُ فقط، والغصبُ ينافيها، والقصد من الفرض إسقاطُ الفرض. قيل: هذا لا يوجب الفرقَ بينهما، كما لم يوجبه في الثوب النجس. وجواب آخر: وهو أنه كان يجب أن تصح في النفل دون الفرض؛ لأنها أخف في شرائطها من الفرض. وجواب آخر: وهو أنه لو غصب خمسة دراهم، وتصدق بها، لم يجزئه عن فرضه، ولا عن التطوع، وإن كان القصد من النفل الثواب (¬1) فقط، ومن الزكاة إسقاط الفرض. ولأن الصلاة قربة، هي أكوان مفتقر إلى مكان (¬2) ممنوعًا من الكون في هذه البقعة، خرجت عن معنى القربة، فلم تصح (¬3). ولأن الفعل الشرعي يوجد من طرق ثلاثة: إما من طريق الوجوب، أو المندوب، أو الجواز، وهذه الصلاة على هذا الوجه تخرج عن هذه الأقسام، فلم تكن صلاة شرعية، فيجب أن لا تصح، وهذان التعليلان ¬

_ (¬1) في الأصل: التوب. (¬2) والمعنى: أن الصلاة أفعال تحتاج للقيام بها إلى مكان، وهذا المكان ممنوع من إيقاعها فيه. (¬3) ينظر: العدة في أصول الفقه (2/ 443).

يوجدان في الحج بمال غصب. ولأن الشرائط كالأركان، ثم ثبت أنه لو أوقع الأركان على وجه محرم، لم يصح، وهو أن يطوف منكوسًا، أو محدِثًا، كذلك في الشرط الذي هو الراحلة، ولا يجوز أن يقال: إن الزاد والراحلة يتقدمان على العبادة، ولا يصحبانها؛ لأنه لو أحرم من دُويرة أهله، أو من الميقات، وسار على راحلة محرمة، فالتحريم هنا مصاحبٌ للعبادة، وهو صحيح عندهم؛ ولأن الحج من نتيجة المال المغصوب وفائده (¬1). ومن أصلنا: أن فائدة المال المغصوب لا تكون للغاصب، وتكون لصاحب المال، ولا يمكن أن يكون الحج لصاحب المال؛ لأنه ما أذن فيه، ولا نواه. واحتج المخالف: بما روى النجاد بإسناده عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: أُهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوْجٌ (¬2) من حرير، فلبسه، وصلى فيه المغرب، فلما قضى الصلاة، نزعه نزعًا عنيفًا، فقلنا: يا رسول الله! لبسته وصليت فيه؟ فقال: "إن هذا لا ينبغي للمتقين" (¬3). ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، ولعلها: وفائدته. (¬2) الفَرُّوج: القَباءُ، وقيل: الفَرُّوج: قَباءٌ فيه شَقٌّ من خَلْفِه. اللسان مادة (فَرَجَ). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: من صلى في فَرُّوجِ حرير ثم نزعه، رقم (375)، ومسلم في كتاب: اللباس، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، رقم (2075).

قالوا: فقد صلى في الحرير، ولم يعد الصلاة. والجواب: أنه يحتمل أن يكون قبل تحريمه؛ إذ لو كان بعد التحريم، ما لبسه، ولا يحتمل أن يكون أعاد، ولم يُنقل، وقد كان لبسه مباحًا؛ بدليل: ما رواه أبو بكر الخلال في كتاب: اللباس بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن أُكَيدر دُومَة (¬1) أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة، قال سعد: أحسبه قال: سندس (¬2)، قال: وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها، فعجب الناس منها (¬3)، فقال: "والذي نفسي بيده! لمناديلُ سعدِ بنِ معاذٍ في الجنة أحسنُ منها" (¬4). واحتج: بأن هذه بقعة طاهرة مستقبَلٌ بها القبلةُ، أو سترة طاهرة، ¬

_ (¬1) في الأصل: اكندر. قال ابن حجر: (أكيدر دومة، هو: أكيدر، تصغير أكدر، ودومة: بضم المهملة وسكون الواو، بلد بين الحجاز والشام، وهي دومة الجندل: مدينة بقرب تبوك، بها نخل، وزرع، وحصن، على عشر مراحل من المدينة ... ، وكان أكيدر ملكها، وهو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن - بالجيم والنون - ... ، ينسب إلى كندة، وكان نصرانيًا). الفتح (5/ 284). (¬2) السُّندس: ما رقَّ من الدِّيباج. ينظر: النهاية في غريب الأثر، باب: السين مع النون. (¬3) في الأصل: فعجب الناس منها، (فلبسها)، فحذفتُ ما بين القوسين؛ لعدم وجودها في الحديث. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، رقم (2115، 2116)، ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ، رقم (2469).

أشبه إذا لم تكن مغصوبة. والجواب: أن المعنى في الأصل: إنما يباح الصلاة فيها، وهذه محرم الصلاة فيها، وهي كالنجسة، وكالصلاة النفل. واحتج: بأن المنع من الصلاة في ثوب غصب، وأرض غصب، وثوب حرير، لا يختص الصلاة، ألا ترى أنه ممنوع من ذلك في غير الصلاة؟ وإذا لم يكن المنع يختص الصلاة، يجب أن لا يؤثر فيها؛ كما لو صلى وعنده وديعة، وهو مطالب بها، وهي في كمّه، وهو قادر على دفعها، فلم يدفعها، فإن صلاته صحيحة، وإن كان ممنوعًا من الصلاة على هذا الوجه؛ لأن المنع لا يختص الصلاة، كذلك ها هنا. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يختص الصلاة ويفسدها، كما أن المُحْرِم إذا نكح امرأة حلالًا، لم يصح النكاح، وإذا لم يكن المنع يختص المعقودَ عليها، وإنما يختص العاقدَ، وكذلك إذا اشترى صيدًا، لم يصح، وإن لم يكن المنع يختص الصيد؛ لأن العين تقبل العقد، وإنما المنع يختصه، كذلك ها هنا المنعُ لا يختص الصلاة، بل هو في معنى المصلي، ولا يصح، وكذلك صلاة النفل تبطل، وإن لم يرجع النهي إلى الصلاة خاصة؛ ولأن من غصب طعامًا فأكله في حال صومه، أو زنا وهو صائم، فإن تحريم ذلك لا يختص الصوم، ويفسدُه، وكذلك يحرم الأكل في الصلاة، وكشفُ العورة في الصلاة بحضرة الناس لا يختص الصلاة، وكذلك الجنب إذا صلى في المسجد، لم تصح صلاته، وإن كان ذلك التحريم

لا يختص الصلاة؛ لأنه، وإن كان ذلك التحريم الصلاة (¬1)؛ لأنه، يسبق الصلاة بنفس دخوله المسجد، فأما إذا امتنع [من] رد الوديعة، وتشاغل بالصلاة، فإنما لم تبطل صلاته؛ لأن المنع هناك لا يرجع إلى شرط من شرائط الصلاة، وفي مسألتنا يرجع إلى شرط من شرائطها، وهو المكان والستر، تبين صحة هذا: أن ذلك لا يؤثر في صلاة النفل. فإن قيل: لا فرق عندكم بين أن يكون الثوب المغصوب هو الشرط المواري لعورته، وبين أن يكون زائدًا على ذلك. قيل: إذا ستر به عورته، بطلت الصلاة لعلتين: إحداهما: أنه ثوب تحرم الصلاة فيه. والثانية: أن التحريم في شرط من شرائطها، وإذا كان زائدًا على ستر العورة، بطلت لعلة واحدة، وهو كونه ثوبًا تحرم فيه الصلاة، ومثل هذا ما نقوله: إن القتل يجب بعلل: الردة، والمحاربة، وتزول الردة، ويبقى القتل بالمحاربة، وكذلك الكفارة قد تجب بوطء في الإحرام، [و] في صيام رمضان، وقد تزول إحداهما، وتبقى الأخرى. وجواب آخر مليح: وهو أنه إذا كان زائدًا على ستر العورة، وإن لم يكن شرطًا في الصلاة، فهو من جنس ما هو شرط، فتبعه في حكمه، كما قلنا في كفن الميت إذا كان ثلاثة أثواب، فسرق السارق اللفافة الثالثة، قُطع، كما بالأولة، وإن كان فرض الكفن سقط بالأولة دون الثالثة، كذلك ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل فيه سقطًا.

لا يمتنع أن تبطل الصلاة بالثاني، وإن كان فرض الستر سقط بالأول. وكذلك عند أبي حنيفة - رحمه الله -: إذا مسح فوق الجرموق، جاز، وإن كان سِتر القدم حصل بما تحته (¬1)، ويفارق هذا: إذا غصب ثوبًا، وتركه في كمه، وصلى: لا تبطل الصلاة؛ لأنه ليس على صفة ما هو شرط، فجرى مجرى ما لو طوى اللفافة الثالثة، وجعلها ثوبًا مطويًا في جملة الكفن، فسرقها السارق: لا قَطْعَ عليه؛ لأنها ليست على صفة ما هو كفن الميت. فإن قيل: فالثوب الثاني والثالث من الكفن مندوب إليه، وما زاد على السترة غيرُ مندوب إليه. قيل: الصلاة في العمامة مندوب إليها، وكذلك الرداء (¬2)، وقد نصّ أحمد في رواية ابن القاسم (¬3)، وقد حكى له عن مالك - رحمه الله -: أنه يكره للمصلي أن ينحي عنه رداءه (¬4)، فأعجبه ذلك، وقال في رواية أبي طالب: يستحب أن يكون للذي يصلي بالناس ثوبان (¬5)، وقد دلت السنة ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 144). (¬2) ينظر: المغني (2/ 294)، ومختصر ابن تميم (2/ 72)، والحاوي الصغير ص 58. (¬3) ابن القاسم هو: أحمد، حدث عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وعن الإمام أحمد بمسائل كثيرة، ولم أجد مزيدًا في ترجمته. ينظر: الطبقات (1/ 135)، والمقصد الأرشد (1/ 155). (¬4) ينظر: التمهيد (6/ 375). (¬5) ينظر: الفروع (2/ 38).

على ذلك، فروى ابن بطة (¬1) بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له ثوبان، فليتَّزِرْ وليرتَدِ (¬2)، ومن لم يكن له ثوبان، فليتزر، ثم ليصلِّ" (¬3). وروى أبو حفص في تعاليقه بإسناده عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاةٌ في عِمامة أفضلُ من سبعين صلاة بغير عمامة، إن الله وملائكته يصلُّون على المتعَمِّمين" (¬4). وروى ابن بطة بإسناده عن نافع قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي في ثوب واحد، فقال: ألم أكسُكَ؟ قلت: بلى، قال: أرأيتَ لو بعثتك في ¬

_ (¬1) هو: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله، العكبري، المعروف: بابن بطة، من مصنفاته: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، والسنن، والمناسك، وإبطال الحيل. توفي سنة 387 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 256)، وسير الأعلام (16/ 529). (¬2) في الأصل: واليتردا. والتصويب من المسند. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (1390)، وأحمد في مسنده رقم (6356)، قال محقق المسند: (إسناده صحيح على شرط الشيخين، لكن روي مرفوعًا، وروي موقوفًا، ورجح الطحاوي وقفه). ينظر: شرح معاني الآثار (1/ 377)، ومسند الإمام أحمد، طبعة الرسالة (10/ 424). (¬4) أخرجه الديلمي في الفردوس، رقم (2571) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ: (جمعة بعمامة أفضل من سبعين جمعة بلا عمامة)، وأسنده ابن حجر في اللسان (4/ 413) بلفظ أقرب للفظ المؤلف، ووصفه بأنه موضوع، وينظر: المقاصد الحسنة ص 346، والسلسلة الضعيفة رقم (128).

حاجة، كنت تذهب هكذا؟ قال: لا. قال: الله أحقُّ أنَ تَزَيَّنَ له (¬1). واحتج: بأن كل بقعة صحت فيها صلاة الجمعة (¬2) صحت فيها بقية الصلوات، كسائر البقاع، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل: في المسجد الغصب يُصلي فيه الجمعة، ولا يتطوع فيه (¬3). ونحو ذلك نقل صالح (¬4)، وابن منصور (¬5). والجواب: أن هذا مبني على صلاة الجمعة (¬6) خلف الفاسق: أنه يتبع؛ لأنها تقف على إمام واحد، وكذلك تختص ببقعة واحدة، وفي الإعادة روايتان: إحداهما (¬7): تجب، فعلى هذا: لا فرق. والثانية: لا يعيد؛ لأنه مأمور بمتابعته، وبالصلاة في هذا المكان، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، رقم (1391)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 53، 54)، وابن خزيمة في صحيحه، رقم (766)، والبيهقي في الكبرى في كتاب: الصلاة، باب: ما يستحب للرجل أن يصلي فيه من الثياب، رقم (3272)، قال ابن كثير: (إسناده جيد). ينظر: مسند الفاروق (1/ 149). (¬2) في الأصل: الجمعية. (¬3) لم أقف على روايته، ونقلها ابن هانئ في مسائله رقم (344). (¬4) في مسائله رقم (761 و 762). (¬5) في مسائله رقم (544). (¬6) في الأصل: الصلاة الجمعة. (¬7) في الأصل: إحديهما.

وليس كذلك في غير الجمعة؛ فإنه ممنوع منها (¬1). واحتج: بأنه لو بطلت الصلاة في البقعة الغصب، لبطلت إذا صلى في أرض بنيانها غصب، والأرض ليست بغصب (¬2)؛ لأنه ممنوع من الانتفاع بذلك كما يمنع من الأرض. والجواب: أن أبا بكر المروذي قال: قيل لأبي عبد الله: أليس ينظر في البناء؟ قال: نعم، كان أبو مسلم (¬3) قد بنى مسجدًا، فكان المبارك لا يصلي فيه إلا الفرض - يعني: الجمعة - (¬4). وظاهر هذا: المنعُ، ويشهد له من أصله: منعُ الصلاة في موضعٍ قبلتُه إلى الحُشّ (¬5)، فمنع من الصلاة إلى حائط الحش، وإن لم تكن البقعة من الحش. واحتج: بأنه لو صلى في ثوب غصب، أو بقعة غصب، وهو لا يعلم ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 185)، وشرح الزركشي (2/ 85)، والفروع (3/ 20، 21) (¬2) في الأصل: والأرض بغصب. (¬3) عبد الرحمن بن مسلم، ويقال: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، أبو مسلم الخراساني، قال الذهبي عنه: (هازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية ... كان سفاكًا للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك)، قتل سنة 137 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 48). (¬4) ينظر: الورع للمروذي ص 33 و 34، ومسائل ابن هانئ رقم (342). (¬5) الحُشُّ: موضع قضاء الحاجة. ينظر: لسان العرب (حشش).

بذلك، ثم علم، صحت صلاته، كذلك إذا كان عالمًا به. والجواب: أن الجاهل بذلك لا مأثم عليه، والعالم مأثوم ممنوع، والقُرَبُ إذا وقعت على الوجه (¬1) نافت القربة، فأما حق الآدمي، فلا يسقط بالنسيان، وهو آخره (¬2). واحتج: بأنه لو توضأ في دار مغصوبة بماء يملكه، صحت الطهارة، وإن كان الفعل محرمًا، وكذلك إذا باع، أو تزوج في دار مغصوبة، كذلك ها هنا. والجواب: أن التحريم هناك لم يرجع إلى شرط من شرائط الطهارة، ولا إلى شرط من شرائط العقد، تبين صحة هذا: أن الكون ليس بشرط في صحة العقد، ولا الطهارة؛ لأنه يصح أن يوجبا العقد، وهما يَسْبحان، أو يَهْويان من عُلْو، وكذلك الطهارة تصح في حال سباحته، وليس كذلك الصلاة؛ لأن التحريم رجع إلى شرط من شرائطها، فإن الكون شرط فيها، وكذلك السترة، تبين صحة هذا: لو توضأ لتجديد الطهارة لا عن حدث في دار غصب، لم يؤثر في صحة الطهارة، ولو صلى فيها نافلة، لم تصح، وكان الفرق ما ذكرنا، على أنه قد رُوي عن أحمد - رحمه الله - ما يدل على أنه إذا باع في أرض، لم يصح البيع، فقال في رواية ابن بختان (¬3) ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: هذا الوجه. (¬2) كلمة غير واضحة وهو اخره الميل. (¬3) هو: يعقوب بن إسحاق بن بختان، أبو يوسف، قال ابن أبي يعلى: (ذكره =

في رجل اكترى دكانًا غصبًا، وهو لا يعلم، وقد خرج، ما يصنع بما اشترى؟ قال: يرده في الموضع الذي أخذ منه، وقال في موضع آخر: يرجع فيلقيه في المدينة، ويخرج (¬1). فإن قيل: فما تقول إذا تضايق وقت الصلاة، وهو في أرض غصب، هل يصليها، أم يؤخرها حتى يخرج منها وإن فاتت الصلاة؟ قيل: ينظر في هذا، فإن كان محبوسًا فيها، فإنه يصلي ولا يؤخرها، كما لو كان محبوسًا في حُشّ، صلَّى، ولم يؤخر الصلاة شغلًا للوقت، وفي الإعادة روايتان، وإن كان هو الغاصب، وضاق الوقت عن خروجه منها، لم يجز له الصلاة؛ كما لو ضاق الوقت عليه وهو محدِث، وخاف إن تشاغل خرج الوقت، لم يجز له الصلاة، وتشاغل بالطهارة، كذلك ها هنا. فإن قيل: فما تقولون إذا غصب سكينًا، فذبح بها؟ قيل له: على قول أبي بكر من أصحابنا: لا تصح الذكاة؛ لأنه قال: إذا غصب شاة فذبحها، تكون ميتة (¬2)، ولا يقطع السارق بإخراجها، والمنصوص عن أحمد - رحمه الله -: أن الذكاة صحيحة، نص عليه في الشاة ¬

_ = أبو محمد الخلال فقال: كان جار أبي عبد الله وصديقه، وروى عن أبي عبد الله مسائل صالحة كبيرة لم يروها غيره في الورع، ومسائل صالحة في السلطان). ينظر: الطبقات (2/ 554)، والمقصد الأرشد (3/ 121). (¬1) ينظر: الورع للمروذي ص 33. (¬2) مضى في ص 278.

15 - مسألة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في كلام العامد في الصلاة لمصلحتها، هل تبطل الصلاة، أم لا؟

المغصوبة، فعلى هذا: الفرقُ بينهما: أن الضرورة تبيح ذلك؛ بدليل أنه لو اضطر إلى شاة الغير، أو سكين الغير ليذبح بها، جاز له أخذه، فلهذا لم يؤثر الغصب فيها، وليس كذلك في باب الصلاة؛ لأنه لو عدم السترة أو البقعة، لم يجز له أن يأخذ ثوب غيره ليصلي فيه؛ فبان بذلك: أن السكين أخف، والسترة أغلظ. فإن قيل: فما تقولون لو صلى في بَرَاح (¬1) لرجل ليس عليه [سَتْرٌ] (¬2). قيل: ليس فيه رواية تحتمل أن نسلّمه؛ لأن الظاهر: أن مالكه لا يمنع من الصلاة فيه. * * * 15 - مَسْألَة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في كلام العامد في الصلاة لمصلحتها، هل تبطل الصلاة، أم لا؟ : ¬

_ (¬1) قال ابن قندس في حاشيته على الفروع (2/ 49): (البراح من الأرض: المتسع، لا زرع فيه، ولا شجر). (¬2) في الأصل طمس بمقدار كلمة، والتعديل من الفروع (2/ 49)، ونصه: (وقيل للقاضي: لو صلى في براح لرجل ليس عليه ستر، فقال: لا رواية فيه، ويحتمل أن نسلمه؛ لأن الظاهر: أن مالكه لا يمنع).

فنقل حنبل (¬1)، وحرب (¬2): أنه يَقْطع، فقال في رواية حرب بعد كلام كثير: ولو أن إمامًا تكلم اليوم، وأجابه أحد، أعاد الصلاة (¬3). وقال أيضًا في رواية حنبل: إنما كان ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولمن أجابه، ولو فعل هذا إمام ومن وراءَه، فسدت صلاته وصلاتهم، وأعادوا، وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا (¬4)، وبهذا قال أبو حنيفة (¬5)، والشافعي (¬6)، وداود (¬7) - رحمهم الله -. ونقل صالح (¬8)، وأبو داود (¬9)، وأبو طالب (¬10): إن تكلم الإمام، لم تنقطع صلاته، وإن تكلم المأموم، انقطعت صلاته. فقال في رواية صالح: في إمام صلى ركعتين، ثم سلم: أنه يعيد ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 138). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 138). (¬3) ينظر: المغني (2/ 447). (¬4) ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 159)، وشرح الزركشي (2/ 25). (¬5) ينظر: الهداية (1/ 62)، وفتح القدير (1/ 281). (¬6) ينظر: الأم (2/ 281)، والبيان (2/ 303). (¬7) ينظر: المحلى (4/ 5). (¬8) في مسائله رقم (949). (¬9) في مسائله رقم (374). (¬10) الذي وجدته من رواية أبي طالب: أن صلاة الإمام والمأموم صحيحة، إذا كان الكلام لمصلحتها. ينظر: الروايتين (1/ 138).

كلُّ من أجابه وتكلم، والإمام لا يعيد إذا كان يستثبت. وكذلك نقل أبو داود عنه: في إمام صلى ركعتين وسلَّم: فكل (¬1) من تكلم وراءه يعيد، فإذا تكلم الإمام، فقال: صليت ركعتين؟ وأشاروا إليه برؤوسهم، يبني على صلاته. وكذلك نقل أبو طالب: في إمام سلم من ركعتين، وسألهم، فأخبروه، أعادوا؛ لأنه ليس بواجب على أحد أن يجيب أحدًا، وإنما يتم الإمام إذا كان عنده أنه صلى تمامًا أربعًا على ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو اختيار الخرقي من أصحابنا (¬2). وقال مالك - رحمه الله - (¬3): لا يقطع الصلاة الإمام والمأموم. وجه الرواية الأولى، وأن الصلاة تنقطع: ما روى زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت (¬4). وروى أبو داود بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: كنا نسلِّم في الصلاة، ¬

_ (¬1) في الأصل: فكلم، والتصويب من مسائل أبي داود رقم (374). (¬2) ينظر: مختصره ص 53. (¬3) ينظر: المدونة (1/ 105)، والإشراف (1/ 263). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة، رقم (1200)، ومسلم في كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، رقم (539).

ونأمر بحاجتنا، فقدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس، فسلمت عليه، فلم يردَّ عليّ السلام، فأخذني ما قَدُم وما حَدُث، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قال: "إن الله يُحدِث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدَث أن لا تَكَلَّموا في الصلاة"، وردَّ عليَّ السلام (¬1). وروى أبو داود بإسناده (¬2) عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثُكْل أمتاه (¬3)! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يُصَمِّتوني. وروي: فلما رأيتهم يُسَكِّتوني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي -، ما ضربني، ولا كَهَرني (¬4)، ولا سبَّني، قال: "إن هذه الصلاة لا يحلّ فيها شيء من كلام الناس هذا؛ إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الخبر (¬5). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 120). (¬2) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: تشميت العاطس رقم (930). (¬3) الثُّكْل: الموت والهلاك، والثَّكُول التي ثَكِلَتْ وَلَدَها، وثكِلَتْه أُمُّه: أي: فقدته. ينظر: اللسان (ثكل). (¬4) الكَهْر: الانْتِهار. وقد كَهَره يَكْهَرُه: إذا زَبَره، واسْتَقْبله بوجه عَبُوس. ينظر: النهاية (كهر). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، رقم (537).

فعموم هذه الأخبار تقتضي النهي عن الكلام في الصلاة، سواء لإصلاح الصلاة، أو لغيره. ولأنه من كلام الناس، فأشبه إذا لم يرد منه إصلاح الصلاة، ولا يلزم عليه السلام؛ لأنه ليس من كلام الناس، ووجدنا أن السلام مسنون فيها، فلو كان من كلام الناس، ما كان مسنونًا فيها. واحتج المخالف: بما روى أحمد - رحمه الله - (¬1)، وذكره أبو بكر فقال: نا ابن أبي عدي (¬2) عن ابن عون (¬3)، عن محمد (¬4)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشاء، يذكرها أبو هريرة، ونسيها محمد، قال: فصلى ركعتين، ثم سلم، فأتى خشبة في المسجد معترضة، فقال بيده عليها، كأنه غضبان، وخرجت السَّرَعان (¬5) من أبواب المسجد ¬

_ (¬1) في المسند رقم (7201). (¬2) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، أبو عمرو البصري، قال الحافظ ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 194 هـ. ينظر: التقريب ص 522. (¬3) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصري، قال الحافظ: (ثقة، ثبت)، توفي سنة 150 هـ. ينظر: التقريب ص 334. (¬4) هو: محمد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة، قال الحافظ: (ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر)، توفي سنة 110 هـ. ينظر: التقريب ص 538. (¬5) السَّرَعان - بفتح السين والراء، ويجوز تسكين الراء -: أوائلُ الناس الذين يَتَسارعُون إلى الشيء ويُقْبِلون عليه بِسُرْعة. ينظر: النهاية في غريب الحديث (باب: السين مع الراء).

فقالوا: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. وفي القوم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فهابا أن يتكلما، وفي القوم رجل في يده طول يُسمى: ذا اليدين، فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: "لم أنس، ولم تقصر الصلاة" ثم قال: "أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم. فجاء فصلى الذي كان ترك، ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر. فكان محمدٌ يُسأل: ثم سلم؟ (¬1). وروى أحمد - رحمه الله - أيضًا (¬2)، وذكره أبو بكر قال: نا إسماعيل بن إبراهيم (¬3) قال: نا خالد الحذاء (¬4) عن أبي قلابة (¬5)، عن أبي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم (482)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (573). (¬2) في المسند، رقم (19828). (¬3) هو: ابن مقسم الأسدي، مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف: بابن علية، ثقة حافظ، توفي سنة 193 هـ. ينظر: التقريب ص 77. (¬4) هو: خالد بن مهران، أبو المنازل - بفتح الميم، وقيل: بضمها وكسر الزاي -، البصري، الحذاء، قال الحافظ: (ثقة، يرسل)، توفي سنة 141 هـ. ينظر: التقريب ص 178. (¬5) هو: عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي، أبو قلابة، البصري، قال الحافظ: (ثقة، فاضل، كثير الإرسال)، توفي سنة 104 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (2/ 339)، والتقريب ص 318.

المهلب (¬1)، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[سلَّم] (¬2) في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، وكان في يده طول، فقال: يا رسول الله! فخرج إليه، فذكر صنيعه، فجاء فقال: "أصدق هذا؟ " قالوا: نعم. فصلى الركعة التي ترك، ثم سجد سجدتين، ثم سلم (¬3). قالوا: فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى على صلاته، ولم يأمر ذا اليدين، ولا الخرباق باستئناف الصلاة؛ لأنه تكلم لإصلاح الصلاة. والجواب: أن ذلك كان في إباحة الكلام في الصلاة، ألا ترى أنه رُوي في الخبر: "وجاء إلى جذع في المسجد، واستند إليه، وخرج سرعان الناس وهم يقولون (¬4): قصرت الصلاة، قصرت الصلاة"، ولم يكن كلامه لإصلاح الصلاة، ومع هذا، فلم يأمر باستئنافها، فعلم أن ذلك كان في حال إباحة الكلام في الصلاة، ثم حُظر الكلام في الصلاة بعد ذلك، وقد ¬

_ (¬1) هو: أبو المهلب الجرمي، البصري، عم أبي قلابة، اسمه: عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، قال الحافظ: (ثقة). التقريب ص 727. (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة، والمثبت من المسند. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (574). (¬4) في الأصل: وهو يقول، والتصويب من المسند، رقم (16707).

رُوي عن الزهري: أنه قال: كان ذلك قبل استحكام الفرائض (¬1). واحتج: بأنه كلام أُتي به قصدًا للتنبيه به لإصلاح الصلاة، فلم تبطل به؛ كالتسبيح للإمام بالسهو، وللمار بين يديه. والجواب: أن التسبيح ليس من كلام الآدميين، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما فقال: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬2)، فلم يجعله من كلام الآدميين وأجراه مجرى قراءة القرآن، فلهذا إذا قصد به إصلاح صلاته، لم تفسد، وما اختلفنا فيه من كلام الآدميين، فيجب أن يفسد صلاته، كما لو لم يقصد به إصلاح صلاته. واحتج: بأن التنبيه على مصلحة الصلاة قد يقع بما لا يكون مباحًا لغيره. دليله: التصفيق للنساء. والجواب: أن مالكًا (¬3) - رحمه الله - منع من التصفيق في حق النساء، ¬

_ (¬1) ذكره عبد الرزاق بنحوه في المصنف (2/ 297)، والبيهقي في الكبرى في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يسجدهما قبل السلام في الزيادة (2/ 481). والزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي، الزهري، أبو بكر، قال ابن حجر: (الفقيه، الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه)، توفي سنة 125 هـ. ينظر: التقريب ص 564. (¬2) مضى تخريجه (1/ 199). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 100). والإشراف (1/ 258).

16 - مسألة: واختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في كلام الناسي، هل يقطع الصلاة أم لا؟

فلا يصح احتجاجه بذلك. على أن التصفيق فعل يسير، فعفي عنه؛ كالخطوة والخطوتين، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ لأنه كلام، وقد سوى في ذلك بين القليل والكثير في الفساد، والله أعلم. * * * 16 - مَسْألَة: واختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في كلام الناسي، هل يقطع الصلاة أم لا؟ : فروى عنه صالح (¬1)، والمروذي (¬2)، وإسحاق بن إبراهيم (¬3)، وأبو طالب (¬4)، ومحمد بن طالب بن الحكم (¬5): أنه يقطع الصلاة، فقال في رواية ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (584 و 1292)، وينظر: الانتصار (2/ 291). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 291). (¬3) في مسائله رقم (203)، وينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 292). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 291). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 138). ومحمد هو: ابن الحكم، أبو بكر الأحول، قال أبو بكر الخلال: (كان قد سمع من أبي عبد الله، ومات قبل موت أبي عبد الله بثمان عشرة سنة، ولا أعلم أحدًا أشد فهمًا من محمد بن الحكم)، توفي سنة 223 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 295)، والمقصد الأرشد (2/ 435)، وتهذيب التهذيب (3/ 545).

صالح (¬1): ومن تكلم عامدًا أو ساهيًا، أعاد الصلاة، ومن قال: إن الخطأ والنسيان مرفوع عنه، يلزمه إذا قتل صيدًا ناسيًا، وكذلك نقل إسحاق بن هانئ عنه: في إمام صلى بقوم، فيتكلم ناسيًا، يعيد الصلاة (¬2)، وكذلك نقل أبو طالب: في الرجل يسلم عليه، فيرد السلام ناسيًا، يعيد الصلاة في الفريضة والتطوع (¬3)، وكذلك نقل المروذي - رحمه الله -: إذا قال في صلاته: اسقني ماءً، عامدًا أو ناسيًا، استقبل (¬4)، وكذلك نقل محمد بن الحكم (¬5). وقال: كان الشافعي - رحمه الله - يقول: إذا تكلم ساهيًا، لا يعيد (¬6)، ويعيد أعجبُ إلي. وبهذا قال جماعة من أصحابنا (¬7). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (584 و 1292)، وينظر: الانتصار (2/ 291). (¬2) في مسائله رقم (203)، وينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 292). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 291). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 291). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 138). ومحمد هو: ابن الحكم، أبو بكر الأحول، قال أبو بكر الخلال: (كان قد سمع من أبي عبد الله، ومات قبل موت أبي عبد الله بثمان عشرة سنة، ولا أعلم أحدًا أشد فهمًا من محمد بن الحكم)، توفي سنة 223 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 295)، والمقصد الأرشد (2/ 435)، وتهذيب التهذيب (3/ 545). (¬6) ينظر: الأم (2/ 281). (¬7) ينظر: مختصر الخرقي ص 53، والإرشاد ص 76.

وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬1). وروى عنه أبو الحارث (¬2)، ويوسف بن موسى (¬3): لا تبطل الصلاة إذا تكلم ساهيًا. وأومأ إليه في رواية أبي طالب: في إمام سلم من اثنتين فسأل، فقال بعضهم: هي اثنتان، وقال بعضهم: هي أربع، فالذين قالوا: اثنتان يعيدون، ومن قال: إنها أربع، وظن أنها أربع، فهم مثل الإمام لا يعيدون، إنما تكلموا في أمر الصلاة، وهم يظنون أنهم أتموا؛ فقد حكم بصحة صلاتهم؛ لاعتقادهم أنهم في غير صلاة. وبهذا قال مالك (¬4)، والشافعي (¬5)، وداود (¬6) - رحمهم الله -. فالدلالة على أن ذلك يقطع الصلاة: ما تقدم (¬7) من حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا". ¬

_ (¬1) ينظر: الحجة (1/ 166)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 269)، ومختصر القدوري ص 82. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 138)، والانتصار (2/ 292). (¬3) ينظر: ما مضى، والمغني (2/ 446). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 105)، والمعونة (1/ 173). (¬5) ينظر: الأم (2/ 281)، والحاوي (2/ 177). (¬6) ينظر: المحلى (4/ 6). (¬7) (1/ 199).

فلو كان كلام الناسي لا يفسد، لكان قد صلح فيها شيء من كلام الناس. فإن قيل: فالخبر حجة عليكم، معتمد في المسألة؛ لأنه لم يأمره بإعادة الصلاة؛ لأنه كان جاهلًا بالحكم. قيل له: لم يعلم بالنهي، فلم يلزمه حكمه، كما لم يلزم أهل قباء حكم النسخ قبل العلم به، بل استداروا في الصلاة (¬1). وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل: فيمن صلى في أعطان الإبل ولم يعلم، ولم يسمع الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رجوت أن لا يلزمه (¬2)؛ يعني: لا يلزمه الإعادة. وقال في رواية صالح: ذو اليدين تكلم، ولا يدري لعلها قد قصرت (¬3). فإن قيل: قوله: "لا يصلح" لا يفيد بطلان الصلاة؛ لأن الالتفات لا يصلح في الصلاة، والعبث في ثيابه، ولحيته، والخطوة، والخطوتين، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ}، رقم (4490)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، رقم (526). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 156). (¬3) في مسائله رقم (949).

قيل له: رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يصلح الالتفات، أو الخطوة والخطوتان" (¬1)، لكنا نقول: إن ظاهره يقتضي بطلان الصلاة. فإن قيل: هذا أمر بالامتناع من الكلام في الصلاة، وأن (¬2) في صورة الخبر؛ كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، والناسي لا يتوجه إليه الأمر والنهي. قيل له: ظاهره الخبر، ويمكنّا حملُه عليه، فلا نصرفه إلى غيره إلا بدلالة، على أن الناسي يجوز أن يكون حكم الخطاب قائمًا عليه في فساد صلاته إذا ترك شرطًا من شروطها، ولم يجز توجه الخطاب إليه في حال النسيان؛ كما لو نسي الطهارة، وصلى، أو نسي القراءة أو الركوع، فسدت صلاته، وكذلك إذا تكلم ساهيًا. وروى أبو شيبة (¬3) عن يزيد أبي خالد (¬4)، ................. ¬

_ (¬1) لم أجده، وجاء في سنن الترمذي رقم (589) باب: ما ذكر في الالتفات في الصلاة: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني! إياك والالتفات في الصلاة؛ فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد، ففي التطوع، لا في الفريضة"، وذكر ابن رجب في الفتح (4/ 405): أنه لا يحتج به. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: وأنه في صورة. (¬3) هو: إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو شيبة، قال ابن حجر: (متروك الحديث). ينظر: التقريب ص 62. ووهم ابن الجوزي كما في التحقيق (2/ 31)، فجعل أبا شيبة (عبد الرحمن بن إسحاق)، قاله ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 297). (¬4) في الأصل: يزيد بن حلد، والتصويب من سنن الدارقطني. =

عن أبي سفيان (¬1)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء" (¬2)، وهذا عام في العمد والسهو؛ ولأن مثله غير مسنون في الصلاة، فوجب أن لا يختلف عمدُه وسهوه؛ كالجماع، ولا يلزم عليه السلام؛ لأن مثله مسنون في الصلاة، وهو قوله: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬3). ولا يلزم عليه الخطوة والخطوتان (¬4)؛ لأنه لا يختلف عمدها وسهوها، وكذلك الالتفات. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه يبطل الطهارة والصلاة، فأبطل ¬

_ = ويزيد هو: أبو خالد الدالاني، الأسدي، الكوفي، اسمه: يزيد بن عبد الرحمن، قال ابن حجر: (صدوق يخطئ كثيرًا، وكان يدلس). ينظر: التقريب ص 701. (¬1) هو: طلحة بن نافع الواسطي، الإسكاف، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 291. (¬2) أخرجه الدارقطني في كتاب: الطهارة، باب: أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها، رقم (659)، والبيهقي في الخلافيات (2/ 367)، وضعّف رفع الحديث في السنن الكبرى (1/ 226)، وضعّفه ابن الجوزي في التحقيق (2/ 30)، وابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 296)، وابن حجر في التلخيص (2/ 811). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان: باب: التشهد الأخير، رقم (831)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، رقم (402). (¬4) في الأصل: الخطوتين.

الصلاة في الحالين، والكلام لا يبطل الطهارة، ويبطل الصلاة، فاختلف عمده وسهوه؛ كالسلام. قيل له: العمل الكثير لا يبطل الطهارة، ويبطل الصلاة، ويستوي عمده وسهوه؛ ولأنه من كلام الناس، فوجب أن يفسد الصلاة؛ كما لو تعمد. ولا يلزم عليه السلام؛ لأنه ليس من كلام الناس، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" (¬1)؟ ووجدنا السلام مثله مسنون في الصلاة، فلو كان من كلام الناس، لما كان مسنونًا في الصلاة. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكْرِهوا عليه" (¬2). والجواب: أن ظاهره يقتضي أن يكون نفسُ النسيان مرفوعًا عن الأمة، وقد علمنا وقوع النسيان منهم، فعلم أن المراد بالخبر غيرُ ما يقتضي ظاهره، فلا يخلو إما أن يكون المراد به المأثم، أو الحكم، وليس واحد منهما مذكورًا في الخبر، فسقط التعلق به. فإن قيل: نحمله عليهما. قيل له: العموم يُدّعى في الألفاظ، والمأثم والحكم غير مذكورين (¬3) ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 199). (¬2) مضى تخريجه ص 102. (¬3) في الأصل: مكورين، ولعل المثبت يستقيم به اللفظ.

في اللفظ، فلا يصح ادعاء العموم فيهما. واحتج: بحديث معاوية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاته (¬1)، وقد أجبنا عنه، وجعلناه حجة لنا من الوجه الذي بينا. واحتج: بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشاء، فسلم في الركعتين، ثم استند إلى جذع في المسجد، وخرج سرعان الناس وهم يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة [، أم نسيت]؟ فقال: "لم تقصر، ولم أنس"، فقال: بل نسيت، قال: "كل ذلك لم يكن"، ثم أقبل على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فقال لهما: "أحق ما يقول ذو اليدين؟ "، فقالا: نعم، فعاد إلى مكانه، وأتم صلاته (¬2). فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم، وعنده: أنه قد أتم الصلاة، فكان بمنزلة الناسي، وكذلك ذو اليدين تكلم، وعنده: أن الصلاة قد قصرت، فظن أنه يتكلم في غير الصلاة، فكان في حكم الناسي، ومع ذلك فلم يستأنف النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل بنى على ما مضى منها. والجواب: أن الكلام في الصلاة كان مباحًا في ذلك الوقت، ورُوي عن الزهري: أنه قال: [كان ذلك قبل استحكام الفرائض]، ويدل على ذلك أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم تقصر، ولم أنس" قال ذو اليدين: بل نسيت، ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 199). (¬2) مضى تخريجه (1/ 201).

هكذا رواه أبو داود (¬1)، فتكلم عامدًا بعد ما علم أن الصلاة لم تقصر، وأنه بعدُ في الصلاة، وكذلك أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - تكلما بعد علمهما أنهما في الصلاة، ولم يأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة. فإن قيل: روى أبو داود (¬2) هذا الحديث بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إلى قوله: "قال له ذو اليدين: بل نسيتَ يا رسول الله، فأقبل على القوم، فقال: "أصدق ذو اليدين؟ "، فأومؤوا (¬3)؛ أي: نعم، ففي هذا الخبر أنهم أشاروا ولم يتكلموا، ويروى: "أنهم قالوا: نعم" (2)، وإنما أراد به الإيماء، وسمّاه قولًا؛ لأن ذلك سائغ في اللغة، تقول العرب: قلتُ برأسي ويدي، وقال بعضهم (¬4): تقُول إِذا دَرأْتُ لها وَضِينِي ... أَهذا دِينُه أَبَدًا ودِيني (¬5) ¬

_ (¬1) في سننه في كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين، رقم (1008). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 200). (¬3) في الأصل: فاوموا. (¬4) هو: المثقب العبدي، واسمه: عائذ بن محصن بن ثعلبة، من بني عبد القيس من ربيعة، شاعر جاهلي من أهل البحرين. ينظر: مقدمة ديوان المثقب ص 8. (¬5) في الأصل: يقول إذا رادت وقلت لها وصيتي ... أهذا دينه أبدًا وديني ينظر ديوان المثقب ص 195، وهو بيت من قصيدة مطلعها: أَفاطِمُ قبلَ بيْنِكِ مَتّعيني ... وَمَنْعُكِ ما سَأَلتُ كَأَنْ تَبِيني =

يريد: الناقة، فعبّر عن الإشارة والإيماء بالقول. قيل له: في هذا الخبر: "أن القوم أومؤوا؛ أي: نعم"، وفي رواية أحمد التي تقدم ذكرها (¬1): أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - قالا: نعم، فثبتهما جميعًا، ونقول: أشار القوم؛ أي: نعم، وقال أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - بلسانهما: نعم. فإن قيل: لم تبطل صلاة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وإن تكلما عامدين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سألهما عما يقول ذو اليدين، لزمهما أن يجيباه، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا أُبيًّا وهو في الصلاة، فلم يجبه، فلما فرغ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما منعكَ أن تجيبني إذ دعوتُكَ؟ "، فقال: كنت أصلي، فقال: "أما سمعتَ الله يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]؟ فقال: لا أعود (¬2). فدل على أن إجابته في الصلاة كانت واجبة، وإذا وجبت، لم تبطل بها الصلاة، وجرت مجرى القراءة، والركوع، والسجود. قيل: لزوم الإجابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع الفساد، ألا ترى أنه لو ¬

_ = ومعنى دَرَأْت وضِينَ البعيرِ: إِذا بَسَطْتَه على الأَرضِ، ثم أَبْرَكْته عليه لِتَشُدَّه به، ودَرَأْتُ عن البعير الحَقَبَ: دَفَعْتُه؛ أَي: أَخَّرْته عنه. ينظر: لسان العرب (درأ). الوَضِين: بِطانٌ منسوج بعضه على بعض، يُشَدُّ به الرَّحْلُ على البعير. ينظر: اللسان (وضن). (¬1) (1/ 201). (¬2) أخرجه أحمد في المسند رقم (9345)، والترمذي في كتاب: ثواب القرآن، باب: ما جاء في فضل الفاتحة رقم (2875)، وقال: (حديث حسن صحيح)، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، رقم (861).

رأى رجلًا يقتل رجلًا، وأمكنه أن يمنعه، لزمه أن يمنعه؟ وإذا فعل، فسدت صلاته. فإن قيل: حظرُ الكلام في الصلاة كان بمكة، وقصةُ ذي اليدين بالمدينة، يدلك على صحة ذلك: ما روي أن عبد الله قدم من الحبشة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند الكعبة، فسلم عليه، فلم يرد عليه، الخبر (¬1). قيل له: الكلام كان مباحًا بالمدينة، ألا ترى أن أبا عمرو الشيباني (¬2) روى عن زيد بن أرقم قال: كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة، حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام (¬3). وروى رجاء الحافظ (¬4) في كتابه ........................ ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 120)، وليس فيه جملة: "عند الكعبة"، وسيأتي كلام المؤلف بعد قليل. (¬2) هو: سعد بن إياس الكوفي، من بني شيبان بن ثعلبة، أدرك الجاهلية، وكاد أن يكون صحابيًا، حدث عن طائفة من الصحابة، من رجال الكتب الستة، توفي سنة 95 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 173)، والتقريب ص 220. (¬3) مضى تخريجه (1/ 198). (¬4) هو: رجاء بن مرجَّى الغفاري، أبو محمد المروزي، إمام، ثقة، حافظ، توفي سنة 249 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 416)، وسير أعلام النبلاء (12/ 98)، والتقريب ص 196.

قال (¬1): كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمِرْنا حينئذ بالسكوت. ورُوي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا نرد السلام في الصلاة، حتى نُهينا عنه (¬3). وزيد بن أرقم وأبو سعيد لم يُسْلِما بمكة، وهما من الأنصار. وقال صالح بن أحمد (¬4): قلت لأبي: قصة ذي اليدين قبل بدر أو بعد بدر؟ فقال: أبو هريرة يحكيه، وكان إسلامه بعد وقعة خيبر، وإنما صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين وشيئًا (¬5)، وهذا يدل على أنه رأى النسخ بالمدينة، وقولهم: إن عبد الله بن مسعود قدم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلي عند الكعبة غلط؛ لأن في هذا الخبر: أن عبد الله قدم من الحبشة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، وثمة سقط وهو: (بإسناده عن زيد بن أرقم)، كما في الانتصار (2/ 298). (¬2) هكذا في الأصل، وثمة سقط وهو: (نتكلم في الصلاة ... )، والحديث مضى تخريجه (1/ 198). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 451)، والبزار. ينظر: كشف الستار عن زوائد البزار (2/ 268)، رقم (554)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 81): (وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث ... ضعفه الأئمة أحمد وغيره)، وينظر: فتح الباري لابن رجب (6/ 420). (¬4) في مسائله رقم (143). (¬5) في الأصل: أو سنتا، والتصويب من المسائل.

يتأهب للخروج إلى بدر، وذو اليدين صاحب القصة كان حيًا يومئذ، وقتل ببدر بعد ذلك، فيجوز أن تكون قصته قبل قدوم عبد الله من الحبشة في حال كان الكلام مباحًا، ثم حظر الكلام، فقدم عبد الله والكلامُ محظور (¬1)، فخرج ذو اليدين إلى بدر، وقتل، وإذا ثبت أن قدومه كان عند تأهبه، امتنع أن يكون قدومه بمكة؛ لأنه من المدينة خرج إلى بدر. فإن قيل: الذي قتل يوم بدر كان يقال له: ذو الشمالين، والذي تكلم في الصلاة ذو اليدين، والدليل على ذلك: ما روى علي بن سعيد قال: سألت أحمد - رحمه الله - عن قصة ذي اليدين، وقصة الخرباق؟ قال: لا، هما حديثان (¬2). وقال أيضًا في رواية الميموني - وقد قيل: لو أنهم يقولون: إنه قتل يوم بدر -، فقال: ليس من هذا شيء. وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (¬3): حديث عمران بن ¬

_ (¬1) في الأصل: محظورًا. (¬2) ينظر: فتح الباري لابن رجب (6/ 471). علي هو: ابن سعيد بن جرير النسوي، أبو الحسن، قال الخلال عنه: (كبير القدر، صاحب حديث)، له مسائل كيرة عن الإمام أحمد، توفي سنة 257 هـ. ينظر: الطبقات (2/ 126)، والمقصد الأرشد (2/ 225). (¬3) ينظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 510) رقم (3925)، فقد أورد كلام الحميدي بطوله. =

حصين غير حديث أبي هريرة، وكانا في وقتين مختلفين، والخرباق غير ذي اليدين، والدليل عليه: أن عمران بن حصين روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلّم من ركعتين، فدل ذلك على أحدهما غير الآخر. ولأن أبا محمد القتبي (¬1) قال في المعارف (¬2): "ذو اليدين، كنيته: أبو محمد (¬3)، واسمه: عمير (¬4)، وكان من خزاعة، قال: وهو الذي كلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. قيل له: قد قيل: إن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وكان طويل اليدين يعرف بذي الشمالين، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقال له: ذو الشمالين، فقال: "أحقٌّ ما يقول ذو اليدين؟ ". ¬

_ = والحميدي هو: عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة، الإمام، الحافظ، الفقيه، شيخ الحرم، أبو بكر القرشي، الأسدي، قال أحمد بن حنبل: الحميدي عندنا إمام. له كتاب المسند، توفي سنة 219 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 616). (¬1) القتبي هو: أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدينوري، قال الذهبي: (العلامة الكبير، ذو الفنون)، من تصانيفه: غريب القرآن، وغريب الحديث، والمعارف، ومشكل القرآن، وغيرها، توفي سنة 276 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 296). (¬2) في ص 182. (¬3) في الأصل: محمد، والتصويب من المعارف. (¬4) في الأصل: عبيد، والتصويب من المعارف.

وروى الزهري أنه قال (¬1): ذو اليدين قتل يوم بدر، وأن ذا اليدين وذا الشمالين واحد (¬2). وروي عن يحيى بن معين: أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، واسمه الخرباق (¬3). وفي بعض الأخبار رُوي عن (¬4) [أبي] (¬5) قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: سلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث ركعات من العصر، ثم دخل الحجرة، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، وكان طويل اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبًا يجر رداءه، فقال: "أصدق؟ "، قال: نعم، فصلى تلك الركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم (¬6). وقد روى أحمد - رحمه الله - هذا اللفظ (¬7)، على أن أكثر ما فيه أن ذا اليدين غير ذي الشمالين، وأن القصة تأخرت عن قدوم ابن مسعود، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله: وروي عن الزهري أنه قال. (¬2) ينظر: الاستذكار (4/ 310 و 311)، وشرح ابن بطال للبخاري (3/ 222)، وتنقيح التحقيق (2/ 305). (¬3) لم أقف عليها. (¬4) في الأصل: أنه، والمثبت هو الصواب. كما مضى في ص 201. (¬5) ساقطة من الأصل. (¬6) مضى تخريجه (1/ 202). (¬7) في المسند، رقم (19828).

وهذا لا يضير (¬1)؛ لأن الكلام أُبيح بعد ذلك، والدليل عليه: ما روى زيد بن أرقم قال: كنا نتحدث في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت (¬2). وزيد بن أرقم أصغر سنًا من أبي هريرة - رضي الله عنهما -. فإن قيل: فأبو هريرة هو الذي روى قصة ذي اليدين، وعمران بن حصين، وإسلامُهما متأخر، وقد بين ذلك محمد بن نصر المروزي (¬3) في كتابه: الرد على أهل الرأي ومخالفتهم لعلي وعبد الله - رضي الله عنهما -، فذكرا لي قال: وأما أبو هريرة، فقال: أسلمتُ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد فتح خيبر، وقدمت المدينة وبها سباع بن عرفطة (¬4) الغفاري - رضي الله عنه -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فخرجت إليه، قال: وصحبت النبي - صلى الله عليه وسلم -[ثلاث] سنوات (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: يصير، والكلام لا يستقيم بها، فلعل المثبت هو الصواب. (¬2) مضى تخريجه (1/ 198). (¬3) هو: محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، أبو عبد الله، قال الذهبي: (الإمام، شيخ الإسلام، الحافظ)، من مصنفاته: تعظيم قدر الصلاة، واختلاف الفقهاء، والسنة، توفي سنة 294 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 33)، والتقريب ص 570. (¬4) في الأصل: عروطة. (¬5) في الأصل: بدون ثلاث، والزيادة من صحيح البخاري. (وقول أبي هريرة - رضي الله عنه -: صحبت ... ) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3591). =

وقال أبو بكر الحميدي: وأسلم عمران بن حصين بعد بدر (¬1). وإذا كان كذلك، دل على أنه كان هذا بعد تحريم الكلام بسنتين. قيل: يحتمل أن يكون حدّث بالقصة عن غيره، وإن لم يكن قد شاهدها، وكذلك زيد بن أرقم وعمران بن حصين - رضي الله عنهما -، كما قال البراء: ما كلُّ ما نحدِّثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه، ولكن سمعنا، وحدَّثَنا أصحابُنا (¬2). وروى حماد بن سلمة (¬3) عن حميد (¬4)، عن (¬5) أنس قال: والله! ¬

_ = وينظر: الأوسط (3/ 292)، وسير أعلام النبلاء (2/ 589). وأما كتاب الرد على أهل الرأي لابن نصر، فلم أقف عليه، وقد أشار إليه الذهبي في السير (14/ 38). (¬1) ينظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 510)، رقم (3925). (¬2) أخرجه بنحوه الإمام أحمد في المسند، رقم (18493 و 18498)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 174)، وقال: (هو صحيح على شرط الشيخين، وليس له علة، ولم يخرجاه)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 154): (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح). (¬3) ابن دينار البصري، أبو سلمة، قال ابن حجر: (ثقة، عابد، ... تغير حفظه بأخرة). توفي سنة 167 هـ. ينظر: التقريب ص 163. (¬4) ابن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، قال ابن حجر: (اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة، مدلس)، توفي سنة 142 هـ. ينظر: التقريب ص 166. (¬5) في الأصل: بن، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب.

ما كلُّ ما نحدِّثكم سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كان يحدث بعضنا بعضًا (¬1). وروى ابن جريج (¬2) قال: نا عمرو (¬3) عن يحيى بن جعدة (¬4): أنه أخبره عن عبد الله بن عبد القاري (¬5) أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: لا وربِّ هذا البيت! ما أنا قلت: من أدرك الصبح وهو جنب، فليفطر، ولكن محمدًا قاله، وحقِّ ربِّ هذا البيت (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 665) رقم (6458)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 154): (ورجاله رجال الصحيح). (¬2) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم، المكي، قال ابن حجر: (ثقة، فقيه، فاضل، وكان يدلس، ويرسل)، توفي سنة 150 هـ. ينظر: التقريب ص 394. (¬3) هو: عمرو بن دينار المكي، أبو محمد، الأثرم، الجمحي مولاهم، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 126 هـ. ينظر: التقريب ص 462. (¬4) ابن هبيرة بن أبي وهب المخزومي. قال ابن حجر: (ثقة، وقد أرسل عن ابن مسعود، ونحوه). ينظر: التقريب ص 658. (¬5) هو: عبد الله بن عمرو بن عبد القاري، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 332. (¬6) أخرجه بنحوه الإمام أحمد في مسنده، رقم (7388)، وابن ماجه في كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الرجل يصبح جنبًا وهو يريد الصيام، رقم (1702)، وقال الألباني: (إسناده صحيح، رجاله ثقات)، ينظر: السلسلة الصحيحة (3/ 11)، رقم (1012).

ثم لما أُخبر برواية أم سلمة (¬1) - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا من غير احتلام، ثم يصوم يومه ذلك، قال: لا علم لي بهذا، إنما أخبرني به الفضل بن العباس - رضي الله عنهما - (¬2). فإن قيل: لو كان كذلك، لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أبا هريرة لم يكن قد أسلم في ذلك. قيل له: قوله: صلى بنا، يحتمل أن يريد به: صلى بقومنا، ويعني به: المسلمين، كما قال النزال بن سَبْرة (¬3) - رضي الله عنه -: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وكما قال طاوس (¬5): قدم علينا معاذ، وأراد به: قدم على أهل ¬

_ (¬1) في الأصل: برواية وأم سلمة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبًا، رقم (1925 و 1926)، ومسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، رقم (1109). (¬3) في الأصل: سرة، والتصويب من التقريب ص 627. قال ابن حجر: (النزال بن سَبْرة، الهلالي، الكوفي، ثقة ... قيل: إن له صحبة)، روى عنه البخاري وغيره. ينظر: التقريب ص 627. (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/ 282)، رقم (3239)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: (رجاله ثقات)، وينظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (3/ 220)، وتعليق ابن التركماني على سنن البيهقي (2/ 511)، وأول الحديث: "إنا كنا وإياكم في الجاهلية ندعى بني عبد مناف". (¬5) هو: طاوس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري مولاهم، يقال: =

بلدنا؛ لأن (¬1) معاذًا خرج إلى اليمن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطاوس لم يكن ولد في ذلك الوقت (¬2). وكما قال الحسن (¬3): خطبنا عتبة بن غزوان، وأراد به خطب أهلَ بلدنا - يعني: البصرة (¬4) -. فإن قيل: نحمل حديث زيد بن أرقم على أن المهاجرين كان أحدهم يكلم الرجل إلى جنبه بمكة، ويكون بمعنى قوله: أحدنا يريد به: أحد (¬5) الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم المهاجرون بمكة، فأضافه إليهم على هذا الوجه. ¬

_ = اسمه ذكوان، وطاوس لقب، قال ابن حجر: (ثقة، فقيه، فاضل)، توفي سنة 106 هـ. ينظر: التقريب ص 289. (¬1) في الأصل: إلى أن، والمثبت هو الصواب. ينظر: الانتصار (2/ 301). (¬2) ذكره الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 451)، وابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (3/ 221)، وابن التركماني في تعليقه على سنن البيهقي (2/ 511). (¬3) هو: الحسن بن أبي الحسن البصري، واسم أبيه يسار الأنصاري مولاهم، قال ابن حجر: (ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، وكان يرسل كثيرًا، ويدلس، قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم، فيتجوز، ويقول: حدثنا وخطبنا، يعني: قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة)، توفي سنة 110 هـ. ينظر: التقريب ص 140. (¬4) ذكره الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 451). (¬5) في الأصل: أخذنا، يريد به: أخذ، والمثبت هو الصواب.

قيل له: لا يصح هذا؛ لأنه ذكر في الخبر: كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، وهذا في سورة البقرة (¬1)، وهي مدنية، قال أحمد - رحمه الله - في رواية المروذي: أربع سور نزلت بالمدينة: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة (¬2). واحتج: بأنا قد علمنا بأن الكلام في الصلاة لم يكن يبطلها، وقد تيقنا ورود النسخ في العمد، فيجب أن يكون حكم السهو باقيًا على ما كان في الأصل. والجواب: أن الذي أوجب بطلان الصلاة بكلام العامد هو الذي يوجب بطلانها بكلام الساهي، فلا معنى للفرق بينهما. فإن قيل: الذي يوجب بطلان الصلاة بكلام العامد هي (¬3) الأخبار التي فيها نهي عن الكلام، والناسي لا يتوجه إليه النهي. قيل له: إن يتوجه إليه، جاز أن يدخل تحت الخبر الذي صورته الإخبار؛ مثل قوله: الكلام يبطل الصلاة، ولا يبطل الوضوء، ومثل حديث معاوية (¬4)، وعلى أن إباحة الكلام في الصلاة ونفي بطلانها بالكلام حكم ثابت في الأصل، فالحكم ببطلانها بكلام الناسي لا يكون نسخًا، ¬

_ (¬1) آية: 238. (¬2) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 1026). (¬3) في الأصل: هو، والصواب المثبت. (¬4) مضى تخريجه في (1/ 199).

فيجوز أن يثبت بدلالة القياس. واحتج: بأن الناسي كالجاهل في سقوط المأثم، ثبت أنه لو كان جاهلًا بتحريم الكلام في الصلاة، لم تبطل صلاته، كذلك إذا كان ناسيًا. والجواب: أن الجاهل بتحريم الكلام يتكلم بإباحة سابقة؛ لأن الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام. بدليل: ما تقدم من الأخبار، فلهذا لم يثبت حكم النسخ في حقه إلا بعد العلم، وليس كذلك الناسي؛ لأن الكلام حصل منه بعد علمه بنسخه، فلهذا لم يعذر فيه. فإن قيل: فالناسي أعذر من الجاهل، بدليل: أنه لو أكل في الصوم ناسيًا، لم يبطل صومه، ولو أكل جاهلًا بتحريم الأكل، بطل صومه. قيل: إنما لم يعذر الجاهل (¬1)؛ لأنه لم يسبق في الشرع إباحة [الأكل] في حال الصوم، وها هنا قد سبق إباحة الكلام، وأما إذا أكل ناسيًا، فإنما لم يبطل صومه؛ لما يأتي الكلام عليه. واحتج: بأن الكلام معنى يختص بإفساد الصلاة، فوجب أن لا يفسدها بسهوه؛ قياسًا على السلام، وفيه احتراز من الحدث؛ لأنه يفسد الطهارة والصلاة جميعًا، فلم يكن مختصًا بإفساد الصلاة، وربما قالوا: نطقٌ حرّمتْهُ الصلاة، فوجب أن يختلف عمده وسهوه، أصله: السلام. والجواب: إن مثله مسنون في الصلاة، فجاز أن يختلف حكم عمده ¬

_ (¬1) في الأصل: إنما يعذر الجاهل، والصواب المثبت.

وسهوه، وليس كذلك الكلام؛ لأن مثله غير مسنون في الصلاة، فلا يختلف حكم سهوه وعمده؛ كالجماع. قيل: الحلق مأمور به في الحج والعمرة في موضع، وقتل الصيد غير مأمور به، ثم إذا قدم الحلق في الإحرام على موضعه، كان حكمه حكم قتل الصيد فيما يتعلق به من الفدية، ولم يجز أن يفرق بينهما بأن أحدهما نسك في هذه العبادة، والآخر ليس بنسك، كذلك لا يجوز أن يفرق بين الكلام والسلام بهذا الفرق. قيل له: الحلق غير مأمور به في حال هذه العبادة، فلم يختلف حكمه وحكم قتل الصيد في حال الإحرام، واستوى أيضًا حكم عمده وسهوه؛ كالكلام لما لم يكن مسنونًا في حال الصلاة، وهو قوله: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬1)، فجاز أن يختلف حكم عمده وسهوه. واحتج: بأنه معنى تمتنع منه (¬2) العبادة منعًا يختص بالعبادة، فسهوه لا يبطلها؛ كالأكل في الصوم. والجواب: أنا لا نسلِّم الوصف في الأصل؛ لأن الأكل لا يختص ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 209). (¬2) هكذا في الأصل، ولعلها: معنى يمنع منه في العبادة منعًا يختص. وقد جاء في الانتصار (2/ 306): (واحتج: بأن ما منع منه في العبادة منعًا يختصها فُرِّق بين عمده وسهوه؛ كالأكل في الصوم).

النهي عنه بالصوم؛ لأنه ممنوع منه في الصلاة أيضًا، وعلى أن الصلاة أعم في الفساد من الصوم؛ لأنه يفسدها ما لا يفسد الصوم من الكلام، والعمل، والحديث. ولأن الصوم حجة عليهم؛ لأنه لو ظن أن الشمس قد غربت، فأكل، ثم بان أنها لم تغرب، فعليه القضاء، ولو ظن أنه قد خرج من الصلاة فتكلم، فصلاته صحيحة، وكان يجب أن يقولوا: تبطل كالصوم، وعلى أن الصوم ينعقد، وإن لم يقصد انعقاده، وهو بكونه (¬1) نائمًا، أو مغمى عليه حين طلوع الفجر، فجاز أن يكون ما يفسده يختلف بقصده وعدم قصده، والصلاة لا يصح انعقادها من غير قصده، فجاز أن لا يختلف ما يفسدها بالسهو. واحتج: بأن بكر بن محمد روى عن أبيه (¬2) عن أحمد - رحمه الله - فيمن قرأ آية رحمة، فجعلها عذابًا، تمت صلاته، ولا يسجد للسهو (¬3)، ومعلوم أن هذا لا يكون قرآنًا، وقد حكم أحمد - رحمه الله - بصحة (¬4) الصلاة (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: بكون. (¬2) اسمه: محمد بن الحكم، مضت ترجمته. (¬3) ينظر: الإنصاف (4/ 399). (¬4) في الأصل: بصحت. (¬5) ينظر: التمام (1/ 178)، والنكت على المحرر (1/ 138)، ونقل الكوسج نحوها في مسائله (199)، وكذلك مثنى بن جامع. ينظر: التمام =

17 - مسألة: إذا سبقه الحدث في صلاته بطلت الصلاة

والجواب: أن هذا يعتقد أنه يأتي في صلاته بما هو مشروع فيها، فهو كما لو سها، فصلى خمسًا: أن صلاته صحيحة، وكلام الآدميين لم يقصد به هذا، فهو كالعمل في الصلاة إذا كثر من غير اعتقاد أنه من الصلاة، فإن صلاته تبطل، وعلى أنه قد رُوي عن أحمد - رحمه الله - ما يدل على بطلان الصلاة أيضًا، فقال الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني (¬1): سألت أحمد - رحمه الله -: عن الرجل يختم آية رحمة بآية عذاب؟ فقال: هذا أشد، كأنه رأى الإعادة للصلاة، قيل له: فأي حروف تعاد منه الصلاة؟ قال: إذا كان حرفًا يغيّر المعنى، أو كلامًا يشبه هذا (¬2)، وهذا يدل على البطلان. * * * 17 - مَسْألَة: إذا سبقه الحدث في صلاته بطلت الصلاة: نص عليه في رواية الميموني (¬3)، ........................... ¬

_ = (1/ 178)، والطبقات (2/ 412). (¬1) قال ابن أبي يعلى: (نقل عن إمامنا أشياء)، ولم يؤرخ وفاته، ولم أجد مزيدًا في ترجمته: ينظر: الطبقات (1/ 371)، والمقصد الأرشد (1/ 333). (¬2) ينظر: التمام (1/ 179)، وقد جعلت الرواية فيه لوالده محمد بن الحارث، وهو سهو، بل الرواية لابنه الحسن. وينظر: الإنصاف (4/ 399). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 308).

وإسحاق بن إبراهيم (¬1)، وصالح (¬2)، قال صالح: قلت (¬3): قال سفيان في الضحك والريح: يعيد الوضوء والصلاة، وفي الرعاف (¬4): يبني؟ فقال: إني أعجبُ إليَّ أن يتوضأ في هذا كله ويستأنف الصلاة (¬5). وبهذا قال مالك (¬6)، والشافعي - رحمهما الله - في الجديد (¬7). وروى حنبل عنه: أنه يتوضأ، ويبني على صلاته (¬8). وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬9)، والشافعي - رحمه الله - في القديم (¬10)، وداود (¬11). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (37 و 228 و 229 و 397 و 398 و 399). (¬2) في مسائله رقم (684 و 1278). (¬3) كذا في الأصل منسوبة لصالح، ولعل الصواب أنها للكوسج، فهي موجودة في مسائله بالنص، ويدل على هذا: أنه كثيرًا ما يسأل الإمام أحمد عن أقوال سفيان. (¬4) رعاف الأنف: هو سيلان دمه وقطرانه. اللسان (رعف). (¬5) ينظر: مسائل الكوسج رقم (89 و 90). (¬6) ينظر: المدونة (1/ 37)، والمعونة (1/ 204). (¬7) ينظر: الأم (2/ 66)، والبيان (2/ 302). (¬8) ينظر: الروايتين (1/ 139). (¬9) ينظر: الحجة (1/ 60)، ومختصر الطحاوي ص 32. (¬10) ينظر: الأم (2/ 66)، والبيان (2/ 301). (¬11) ينظر: المحلى (4/ 98).

وروى عنه الفضل بن زياد: إن كان الحدث من السبيلين، يبتدئ الصلاة، وإن كان من غيرهما؛ كالرعاف والفصاد (¬1) ونحوه، توضأ وبنى (¬2). وهو قول سفيان - رضي الله عنه - (¬3). فالدلالة على أنه يبتدئ الصلاة: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة إلا بطهور" (¬4)، وهذا لا طهور له، فوجب أن لا يكون صلاة. فإن قيل: لا تجوز الصلاة بغير طهور؛ لأنه لو فعل جزءًا منها بغير طهور، لم يعتد به. قيل له: إلا أنه داخل في الصلاة، ومتلبس فيها قبل أن يتوضأ، والخبر يقتضي: نفي الصلاة إذا لم تكن طهارة. وأيضًا ما روى أبو داود (¬5)، وذكره أبو بكر بإسناده عن علي بن طلق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فسا أحدُكم في الصلاة، فلينصرف، ¬

_ (¬1) الفصد: قطع العروق، وافتصد فلان: إذا قطع عرقه. اللسان (فصد). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 139). والفضل هو: ابن زياد القطان، أبو العباس، البغدادي، قال الخلال: (كان من المتقدمين عند أبي عبد الله، وكان أبو عبد الله يعرف قدره، ويكرمه، وكان يصلي بأبي عبد الله). ينظر: الطبقات (2/ 188). (¬3) ينظر: مسائل الكوسج رقم (89)، واختلاف الفقهاء للمروزي ص 126. وسفيان هو: ابن سعيد بن مسروق الثوري، مضت ترجمته. (¬4) مضى تخريجه (1/ 176). (¬5) في سننه، كتاب: الطهارة، باب: من يحدث في الصلاة، رقم (205).

فليتوضأ، وليُعد صلاته" (¬1)، ولم يفرق بين أن يكون مختارًا، أو مغلوبًا عليه. والقياس: أنه حدثٌ يمنع من المضي في الصلاة، فوجب أن يمنع من البناء عليها، قياسًا على الحدث إذا تعمده، وعكسه حدث الاستحاضة، ومن به سَلَس؛ لأن هناك لا يمنع المضي، فلا يمنع البناء. فإن قيل: امتناع المضي فيها لا يدل على بطلانها، كالأمة إذا عتقت في الصلاة، لا يجوز لها [أن] (¬2) تمضي فيها بغير قناع، ولا تبطل صلاتها، وأهل قباء لما علموا بوجوب التوجه إلى الكعبة، لم يجز لهم المضي فيها إلى تلك الجهة، ولم تبطل صلاتهم. قيل له: إنما لم تبطل صلاتها، وصلاة أهل قباء؛ لأن ذلك عمل يسير، وهو الستر، والاستدارة إلى القبلة، وها هنا عمل كثير؛ ولأن ما أوجب الطهارة في خلال الصلاة أبطل الصلاة. دليله: الماسح على الخفين إذا انقضت مدة مسحه في الصلاة، وكما لو احتلم في صلاته في حال نومه، أو أصابته بُنْدُقة (¬3)، فشجته، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، رقم (1164)، وأعله ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 191) بأن في سنده من لا يعرف، وأقره الحافظ ابن حجر في التلخيص (2/ 787)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (607). (¬2) إضافة يقتضيها الكلام. (¬3) البندق: الذي يرمى به، والواحدة بندقة، وقيل: البندق حمل شجر. =

وسال دمه، فإنهم قد وافقوا في هذه المسائل أنه يبتدئ الصلاة، كذلك ها هنا. فإن قيل: المعنى في المسح على الخفين: أنه لا يرفع الحدث، وإنما أُبيح له أداءُ الصلاة به ما دام الوقت باقيًا، فإذا خرج الوقت، ارتفعت الرخصة، وقد حصل له جزء من الصلاة مع الحدث، فيجب عليه أن يستقبل، وها هنا صح دخوله في الصلاة على طهارة صحيحة، ففارقَ حكمَ الماسح، وكذا الاحتلام؛ فإن القياس يقتضي فيه البناء كالحدث، لكن خصصناه من جملة القياس، فلا يقاس عليه، وأما الحدث بالبندقة، فإنما (¬1) ابتداء؛ فإنه حصل بفعل آدمي. قيل له: أما قولك: إن المسح لا يرفع الحدث، فلا نسلم لك هذا، بل يرفع الحدث، وهذا أصل قد تقدم الكلام فيه في الطهارة في مسألة: إذا خلع خفيه، هل تبطل الطهارة بكمالها، أم لا؟ وعلى أن هذا المعنى لم يمنع من المضي في جميع الصلاة، مع بقاء الوقت، فأولى أن لا يمنع الاعتداد. وأما قولك: إن القياس يقتضي في الاحتلام: أنه يبني أيضًا، لكن خصصناه بدليل، فغير صحيح؛ لأن المعنى الذي لأجله تركت القياس في الاحتلام موجود في غيره من الأحداث، فيجب أن يترك القياس له. ¬

_ = ينظر: اللسان (بندق). (¬1) في الأصل بياض بمقدار كلمة، ولعلها [يجب]؛ لدلالة ما سيأتي.

وأما قولك: إن الحدث بالبندقة حصل بفعل آدمي، فيبطل إذا وقعت آجُرّة (¬1) على رأسه من هبوب ريح، ومرور سِنَّور (¬2) عليها، فشجته، فإن صلاته تبطل، وإن كان ذلك بغير فعل آدمي، وعلى أن هذا لا يوجب الفرق بينهما في البناء والابتداء، كما لم يوجبه في بعض الطهارة وبطلانها. واحتج المخالف: بما روى ابن أبي مليكة (¬3) عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قاء (¬4)، أو رعفَ، فلينصرفْ فليتوضأ، وليبنِ على ما مضى من صلاته ما لم يتكلَّمْ أو يُحْدِث" (¬5). والجواب: أن أبا طالب سأل أحمد - رحمه الله - عن حديث ابن ¬

_ (¬1) الآجر: طين يطبخ، ثم تصنع به بعض الأشياء كالأواني. اللسان (أجر). (¬2) السَّنَّوْرُ: الهِرُّ. ينظر: اللسان (سنر). (¬3) هو: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة - بالتصغير - ابن عبد الله بن جدعان، يقال: اسم أبي مليكة: زهير، التيمي، المدني، أدرك ثلاثين من الصحابة، قال ابن حجر: (ثقة، فقيه)، توفي سنة 117 هـ. ينظر: التقريب ص 328. (¬4) في الأصل: من فسا، والتصويب من الحديث. (¬5) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في البناء على الصلاة رقم (1221)، والدارقطني في كتاب: الطهارة، باب: في الوضوء من الخارج من البدن كالرعاف والقيء رقم (563)، والبيهقي في كتاب: الطهارة، باب: ترك الوضوء من خروج الدم من غير مخرج الحدث رقم (669)، والحديث ضعيف كما سيأتي من كلام المؤلف، وينظر: التلخيص الحبير (2/ 787).

عياش (¬1) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قاء أو رعف"، فقال: كذا رواه ابن عياش، وإنما رواه ابن جريج عن أبيه (¬2)، وليس فيه عائشة - رضي الله عنها -، ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ورُوي عن أبي عبد الرحمن بن أبي حاتم (¬4) قال: سألتُ أبي (¬5) عن هذا الحديث؟ فقال: هذا خطأ، إنما يرويه ابنُ جريج عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: ابن عباس - رضي الله عنهما -، والتصويب من سنن البيهقي (1/ 222)، والانتصار (2/ 311). وابن عياش هو: إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، أبو عتبة، الحمصي، قال ابن حجر: (صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّط في غيرهم)، توفي سنة 181 هـ. ينظر: التقريب ص 81. (¬2) هو: عبد العزيز بن جريج المكي، مولى قريش، قال الحافظ: (ليّن). ينظر: التقريب ص 386. (¬3) ينظر: سنن البيهقي (1/ 222)، فقد ذكر رواية أبي طالب بسنده. (¬4) كذا في الأصل، واسمه: عبد الرحمن، وكنيته: أبو محمد، فتكنيته بأبي عبد الرحمن سهو. قال الذهبي: (العلامة، الحافظ)، له مصنفات كثيرة، منها: الجرح والتعديل، والتفسير، والعلل، وغيرها، توفي سنة 327 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 263). (¬5) هو: محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أبو حاتم، الرازي، شيخ المحدثين، توفي سنة 277 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 247). (¬6) ينظر: العلل (1/ 154) رقم (57)، وفيه: (يروونه عن ابن جريج)، =

وجواب ثاني (¬1): وهو أنه لو صح واتصل، فإنا نحمل قوله: "يبني" بمعنى: يبتدئ؛ لأنه يقال لمن فعل مثلَ ما سبق بفعله: بنى عليه، فيقال: فلان (¬2) يبني على حديث فلان، وفلان يبني دار فلان، وإن كان مبتدئًا بها. وقوله (¬3): "ما لم يتكلم" حث على المسارعة إليه قبل الاشتغال بغيره حتى لا يفوته الوقت. واحتج: بما روي عن عمر (¬4)، وعلي (¬5)، وابن عمر (¬6) - رضي الله عنهم - جواز البناء، ولا نعرف عن نظرائهم خلافه. ¬

_ = بدلًا عن: (يرويه) (¬1) هكذا في الأصل، ولعل الأصوب: وجواب ثان. (¬2) في الأصل: فلا. (¬3) في الأصل: قولك. وينظر: الانتصار (2/ 312). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5950)، وفي سنده رجل لم يسمَّ. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، رقم (3606)، وابن أبي شيبة، رقم (5952)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يبني من سبقه الحدث على ما مضى من صلاته، رقم (3385 و 3386)، وقال: (الحارث الأعور ضعيف، وعاصم بن ضمرة غير قوي، وروي من وجه ثالث عن علي - رضي الله عنه -، وفيه أيضًا ضعف). (¬6) أخرجه عبد الرزاق رقم (3609 و 3610)، وابن أبي شيبة رقم (5953)، وأخرجه البيهقي في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يبني من سبقه الحدث على ما مضى من صلاته، رقم (3384) من فعل ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه إذا رعف، انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى على ما صلى، ولم يتكلم، قال البيهقي: (هذا عن ابن عمر صحيح).

والجواب: أنه قد رُوي عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -: أنه يستأنف الصلاة (¬1)، وروى أبو حفص البرمكي (¬2) بإسناده عن الزهري: أن معاوية - رضي الله عنه - صلى بالناس، فطُعن وهو ساجد، فسلّم، وقال: أتموا صلاتكم، فصلى كل رجل لنفسه، ولم يقدِّم رجلًا (¬3). وقوله: "سلّم" يقتضي: أنه لم يتم صلاته. واحتج: بأنه حدث خارج الصلاة لا يتعلق به غسلُ جميع البدن، فإذا حدث في الصلاة بغير فعل آدمي، لم تبطل الصلاة، دليله: دم الاستحاضة، وبول من به سلس البول، ولا يلزم عليه الضحك؛ لأنه ليس بحدث خارج الصلاة، ولا يلزم عليه الاحتلام؛ لأنه يتعلق به غسل جميع البدن، ولا يلزم عليه إذا أصابته بندقة فشجته؛ لأنه حصل بفعل الآدمي. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يبني من سبقه الحدث على ما مضى من صلاته، رقم (3395)، واحتج به الشافعي. ينظر: الأم (2/ 428)، وجزم البيهقي أنه قول للمسور - رضي الله عنه -. ينظر: سنن البيهقي (2/ 362 و 565) رقم (3381 و 4091). (¬2) هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم، أبو حفص البرمكي، له مصنفات، منها: المجموع، وشرح بعض مسائل الكوسج، وغيرهما. توفي سنة 387 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 273)، والمقصد الأرشد (2/ 293). (¬3) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، رقم (3687)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يخرج ولا يستخلف رقم (5259).

18 - مسألة: ما يفعله المسبوق مع الإمام آخر صلاته

والجواب: أنه يبطل بانقضاء مدة المسح، وبوقوع الآجرّة على رأسه بهبوب الريح، ومشي السنور عليها، فإنه بغير فعل آدمي، ولا يتعلق به غسلُ جميع البدن، وهو حدث خارج الصلاة، ومع هذا، فإنه يُبطل الصلاة، ثم المعنى في الأصل: أنه لا يمنع من المضي في الصلاة، أو لا يوجب عملًا طويلًا، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه بخلافه، والله أعلم. * * * 18 - مَسْألَة: ما يفعله المسبوق مع الإمام آخرُ صلاته: نص عليه في رواية حرب (¬1)، وصالح: فيمن يدرك مع الإمام ركعتين من صلاة الظهر؟ يقرأ فيما بقي في كل ركعة بالحمد وسورة (¬2). وقال في رواية بكر بن محمد: إذا قام يقضي، يستعيذ (¬3)، وكذلك نقل أحمد بن أصرم المزني (¬4)، وهذا فائدة قولنا: إن ما يفعله آخرُ صلاته، ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 128). (¬2) في مسائله رقم (383). (¬3) لم أقف عليها فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب. (¬4) ينظر: قواعد ابن رجب (3/ 271). وأحمد هو: ابن أصرم بن خزيمة بن عباد، ينتهي نسبه إلى عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، أبو العباس المزني، نقل عن أحمد أشياء، توفي سنة 285 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 48)، وسير الأعلام (13/ 384).

وبهذا قال أبو حنيفة (¬1)، وهو المشهور عن مالك - رحمه الله - (¬2). وقال الشافعي - رحمه الله -: ما يفعله مع الإمام أولُ صلاته، وما يقضيه آخرُ صلاته (¬3)، وهو قول محمد (¬4)، وقد رُوي نحوُ ذلك عن مالك - رحمه الله - (¬5)، وربما يحكيه بعض أصحابنا رواية لأحمد - رحمه الله -؛ لأن محمد بن موسى بن مشيش قال: سألت أحمد - رحمه الله - عن الرجل إذا أدرك الإمام، وقد سبقه بركعة، فهي للإمام ثانية، وله أولة، يتشهد مع الإمام؟ فقال: نعم، يتشهد، قد تجد الرجل يقعد في مواضع ثلاث مرات (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء (1/ 293)، والمبسوط (1/ 347). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 96)، والإشراف (1/ 266). (¬3) ينظر: الأوسط (4/ 240)، والبيان (2/ 379). (¬4) ينظر: التجريد (2/ 623)، والمبسوط (1/ 347). ومحمد هو: ابن الحسن بن فرقد الشيباني، الكوفي، أبو عبد الله، صاحب أبي حنيفة، قال الذهبي: (العلامة، فقيه العراق)، له من المصنفات: السير الكبير، والصغير، والآثار، وغيرها، توفي سنة 189 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 134). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 97)، والإشراف (1/ 266). (¬6) ينظر: الروايتين (1/ 128). وابن مشيش هو: أبو جعفر محمد بن موسى بن مشيش البغدادي، قال أبو بكر الخلال: (كان من كبار أصحاب أبي عبد الله، وروى عنه مسائل مشبعة جيادًا، وكان جاره، وكان يقدمه، ويعرف حقه). =

وقول أحمد - رحمه الله -: نعم، لم يرجع إلى أن ما يفعله أولُ صلاته، وإنما يرجع إلى أنه يتشهد تبعًا للإمام، وروى عنه عقيب هذا الكلام: أنه قال: إذا أدرك ركعة من الظهر، ثم قام، يقضي فاتحة الكتاب وسورة، ويجلس ثم يقوم، فيقرأ فاتحة الكتاب وسورة، فإذا قضى الثالثة، قرأ فاتحة الكتاب (¬1). والدلالة على أن ما يفعله آخرُ صلاته: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: نا علي بن عاصم (¬3) عن حميد (¬4)، عن أنس - رضي الله عنه -، وخالد (¬5) عن محمد (¬6)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء أحدكم وقد أُقيمت الصلاة، فليمش على هِينَتِه (¬7) وليصلِّ ما أدركَ، وليقضِ ما سبقَه" (¬8)، ¬

_ = ينظر: الطبقات (2/ 365)، والمقصد الأرشد (2/ 495). (¬1) ينظر: مسائل عبد الله رقم (504 و 505)، وقواعد ابن رجب (3/ 272). (¬2) رقم (13558). (¬3) ابن صهيب الواسطي، التيمي مولاهم، قال ابن حجر: (صدوق، يخطئ ويصر)، توفي سنة 201 هـ. ينظر: التقريب ص 443. (¬4) الطويل، مضت ترجمته. (¬5) الحذاء، مضت ترجمته. (¬6) ابن سيرين، مضت ترجمته. (¬7) أي: بسكون ورفق؛ كقوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]. ينظر: لسان العرب (هون). (¬8) أخرجه بلفظ قريب منه: مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، =

فوجه الدلالة من وجهين: أحدهما: قوله: "فليصل ما أدرك"، والذي أدركه آخرُ صلاة الإمام، وقد أُمر أن يُصلي ما أدركه، فيجب أن يكون آخرَ صلاته. والثاني: قوله: "وليقض ما سبقه"، والقضاء لا يكون إلا لشيء فائت، والذي يفعل في موضعه لا يكون فائتًا، ولو كان ما يفعله مع الإمام أولَ صلاته، وما يفعله وحده آخرَ صلاته، لما كان شيء منه قضاء؛ لأنه يأتي بأفعال صلاته في موضعها أولًا فأولًا على الترتيب. فإن قيل: قوله: "وليقض ما سبقه" معناه: ما بقي عليه من صلاته فليفعله؛ كما قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10]، معناه: إذا فُعلت وأُديت. قيل له: لا يجوز أن يعبر عما بقي عليه بالفائت؛ لأن الفائت عبارة عما وجب في الماضي وفات موضعُه، على أن الفائت من صلاة الإمام أولُها، فيجب أن يقضيه. فإن قيل: فقد روى أحمد - رحمه الله - أيضًا (¬1) قال: نا سليمان بن ¬

_ = كتاب: المساجد، باب: استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (602)، والحديث مخرّجٌ في الصحيحين بمعناه، البخاري في كتاب: الأذان، باب: لا يسعى إلى الصلاة، رقم (636)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (602). (¬1) في المسند رقم (13397).

حيان (¬1) قال: نا حميد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم إلى الصلاة، فليمش على هينته، فما أدرك صلَّى، وما سبقه أتمَّ" (¬2)، والأمرُ بإتمام الصلاة يقتضي فعلَ آخرِها. قيل له: الأمر بالإتمام يقتضي تمام النقصان، والنقصان يكون في الأول كما يكون في الآخر، فإذا استوفى آخر الصلاة، واستوعب فروضها، فقد أتم، ويدل عليه أيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الإمام ليؤتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه" (¬3). ولأنه آخرُ صلاة الإمام، فوجب أن يكون آخرَ صلاة المأموم أيضًا؛ كما لو أدرك أول صلاة الإمام؛ ولأن الفائت أولُ صلاة الإمام، فيجب أن يكون أولَ صلاة المأموم، دليله: إذا أدركه في التشهد. واحتج المخالف: بما روى أبو حفص باسناده عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ! اجعلْ ما أدركتَ مع الإمام أولَ صلاتك" (¬4). والجواب: إنما نحمل قوله: "اجعل ما أدركتَ أولَ صلاتك" فعلًا لا حكمًا. ¬

_ (¬1) هو: أبو خالد الأحمر، مضت ترجمته. (¬2) وسنده صحيح كما قاله محقق المسند (21/ 91)، وأخرجه الطبراني في الأوسط رقم (2697)، وينظر: السلسلة الصحيحة رقم (1198). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، رقم (722)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام رقم (414). (¬4) لم أقف عليه.

واحتج: بما رُوي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - (¬1): أنه قال: ما أدرك المأموم فهو أولُ صلاته (¬2). ورُوي عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - (¬3). والجواب: أن قول الواحد والجماعة ليس بحجة على قول الشافعي - رحمه الله - (¬4). وعلى أن أحمد - رحمه الله - قد قال في رواية صالح (¬5): ¬

_ (¬1) قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره (11/ 238): (وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب، أن يفرد علي - رضي الله عنه - بأن يقال: "عليه السلام"، من دون سائر الصحابة، أو: "كرم الله وجهه"، وهذا وإن كان معناه صحيحًا، لكن ينبغي أن يُسَاوى بين الصحابة في ذلك؛ فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه - رضي الله عنهم أجمعين -). (¬2) أخرجه عبد الرزاق رقم (3160)، وابن أبي شيبة رقم (7194)، والدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: ما أدرك مع الإمام فهو أول الصلاة، رقم (1498)، وذكر ابن المنذر: أنه لا يثبت، وأقره النووي، وابن رجب. ينظر: الأوسط (4/ 239)، والمجموع (4/ 84)، وفتح الباري (3/ 574). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، رقم (7191)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته، رقم (3632)، قال ابن المنذر: (ولا يثبت ذلك)، وأقره النووي، وابن رجب. ينظر: الأوسط (4/ 239)، والمجموع (4/ 84)، وفتح الباري (3/ 574)، وضعفها ابن عبد البر. ينظر: التمهيد: (20/ 235). (¬4) ينظر: البرهان للجويني (2/ 1362)، والبحر المحيط للزركشي (6/ 54). (¬5) في مسائله رقم (666).

قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما أدركت من الصلاة، فهو آخرُ صلاتك (¬1)، وهذا خلاف في الصحابة، فلم يصح الاحتجاج به. واحتج: بأنها ركعة مفتتحة بالإحرام، فوجب أن تكون أول صلاته، دليله: إذا كان منفردًا، وقيل: لأنها أول صلاته فعلًا، فوجب أن تكون أولها حكمًا؛ قياسًا على ما ذكرنا، وقيل: ركعة يعقبها ركعة، فوجب أن لا تكون آخر صلاته، دليله: ما ذكرنا، وقيل: لأنه لم يتقدم من جهته ما هو أول صلاته، فلم يكن هذا آخر صلاته، دليله: ما ذكرنا. والجواب: أنه لا يجوز حال المؤتم به بالمنفرد، ألا ترى أنه لو دخل خلف الإمام وهو في السجود، لزمه أن يبدأ بالسجود، ولو كان منفردًا، لم يجز له أن يبدأ به، وكذلك لو دخل في صلاة الإمام في الركعة الثالثة من المغرب، لزمه أن يقعد مع الإمام، ويقعد في الثانية والثالثة، ولو كان منفردًا، لقعد في الثانية والأخيرة فقط، فإذا كان كذلك، لم يمنع أن يختلف المؤتم به في مسألتنا وحكم المنفرد؛ ولأن صلاة المنفرد غير تابعة لغيرها، فاعتبر حكمها بنفسها، والمؤتم صلاته مبنية على صلاة غيره، وتترتب عليها، فجاز اعتبارها بها. وإن قاسوا على صلاة الإمام. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة رقم (7197)، واحتج به إسحاق بن راهويه. ينظر: مسائل الكوسج (2/ 828) رقم (479)، وجزم به أحمد في مسائل صالح رقم (666).

فالجواب عنه: ما تقدم من الفرقين أحدهما: أن حكم الإمام حكم المنفرد فيما يأتي به من الأفعال، والمأموم بخلافه، وهو أنه يلزمه أن يتبع الإمام فيما لا يعتد به. والثاني: أن صلاة الإمام غير تابعة لغيرها. واحتج: بأن ما كان له تحليل وتحريم، فإن التحريم أولُه، والتحليل آخرُه؛ كالحج، والصلاة منفردًا. والجواب: أنا لا نسلم أن تحريم المسبوق أولُ صلاته. فإن قيل: إذا سَلَّم لنا أن التحريم أولُ صلاته، وجب أن يكون ما يلي التحريم أولَ صلاته. قيل له: لا يجب هذا؛ كما لو دخل مع الإمام وهو في السجود، فإن التحريم أولُ صلاته، وما يلي التحريم من السجود ليس بأولها، وكذلك إذا دخل معه في صلاة المغرب في الركعة الثالثة، وأما الحج لا يقع على وجه المتابعة الغير (¬1)، وكذلك صلاة المنفرد، فلهذا وجب اعتبارها، ثم تقع المتابعة به، وهذا يقع على وجه المتابعة له. ولأن الصلاة يقع الدخول في آخرها إذا كان الإمام يصلي آخرها، فإن جاز أن يقع الدخول في آخرها، جاز أن يحتسب به عن آخرها، ولما كان الحج، وصلاة المنفرد مما لا يقع الدخول ابتداءً في آخرها، لم يحتسب إلا على الوجه الذي يقع فيه الدخول. واحتج: بأنه لو أدرك مع الإمام ركعة من المغرب، فسلم الإمام، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: للغير.

وقام هو وقضى ركعة، أمر بالقعود فيها، فلو كان ما يقضيه أول صلاته، لما أمر بالقعود؛ لأن هذه الركعة أولُ صلاته، وليس من السنة القعودُ في الركعة الأولى من الصلاة. والجواب: أن الرواية اختلفت عن أحمد - رحمه الله - في ذلك، فروى حرب عنه (¬1): فيمن أدرك ركعة من صلاة الظهر وركعة من صلاة المغرب، وقام يقضي: لا يجلس عقيب الثانية، فعلى هذا يسقط السؤال. وروى صالح (¬2)، والميموني عنه: أنه يجلس (¬3)، فعلى هذا الركعةُ التي يقضيها، وإن كانت أول صلاته في الحكم، فإنها ثانية في الفعل، وجب أن تكون ثانية في الحكم؛ كما لو كان منفردًا. قيل له: الاتفاق في الهيئة لا يوجب الاتفاق في الحكم؛ لأن الفرض والنفل متفقان في الهيئة، ومختلفان في الحكم. وجواب آخر: وهو أنا نقابل هذا بمثله، فنقول: فلو كانت الركعة الآخرة التي يدركها مع الإمام من المغرب أولَ صلاته، لم يجلس فيها للتشهد، ولما قالوا: يجلس، وإن كانت أول صلاته، كذلك لا يمتنع أن نقول: يجلس في الثانية، وإن كانت أول صلاته. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 128 و 129)، والمغني (3/ 307)، وقواعد ابن رجب (3/ 273). (¬2) في مسائله رقم (290 و 383 و 666 و 1169). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 129).

فإن قيل: إنما يجلس فيها لأجل متابعة إمامه، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا. قيل له: وكذلك نقول: إنه يجلس عقيب الثانية بحكم المتابعة، ومن حُكم متابعة الإمام الجلوسُ عقيب الركعتين، وليس ممتنع أنه يلزمه حكمُ المتابعة مع زوال صلاة الإمام وخروجه عن متابعته، ألا ترى أن المسافر يدخل مع المقيم في آخر صلاته، ثم يسلم الإمام، فإنه يلزمه أن يأتي بجميع صلاة الإمام، وإن كان ما زاد على الركعتين إنما يلزمه على وجه المتابعة والائتمام به، ومع هذا، فحكمه لازم مع زوال صلاة الإمام. واحتج: بأنه لو كانت الأخيرة التي يقضيها أولية، لم يجب فيها الجلوس للتشهد، فلما أجمعنا على الجلوس للتشهد فيها، دل أنها الآخرة. والجواب: أنه يحتاج إلى التحلل من الصلاة، والتحلل منها لا يكون إلا في حال القعود، والقعود الذي يليه التحلل من الصلاة فرض. واحتج: بأنه لو كان ما يقضيه أول صلاته؛ لوجب إذا فاته مع الإمام ركعتان من صلاة المغرب والعشاء الآخرة أن يجهر بالقراءة فيهما، فلما لم يجهر، علم أنه آخر صلاته. والجواب: أنه ليس من حيث لم يجهر بالقراءة فيها يجب أن لا يكون أول صلاته؛ لأنه لو افتتح صلاة المغرب والعشاء مع الإمام، لزمه أن يقرأ كما يقرأ الإمام عندكم، ولا يجهر بالقراءة فيهما، ولم يمنع ذلك من أن تكون الركعتان من أول صلاته، على أن المسبوق فيما يقضيه في حكم

المنفرد، ألا ترى أنه لو سها، لم يلزمه سجود السهو؟ والمنفرد لم يسن له الجهر ولا الإخفاء، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حرب: في رجل فاتته صلاة يُجهر فيها بالقراءة في الجماعة: يصلي وحده، فإن شاء لم يجهر؛ لأن الجهر في الجماعة (¬1)، وكذلك لو فاتته صلاة بالليل مما يُجهر فيها بالقراءة، فصلاها بالنهار، ونقل الأثرم عنه أيضًا: في المأموم إذا قام يقضي: إن شاء جهر، وإن شاء خافت، إنما الجهر للجماعة، وكذلك إذا صلى وحده بالمغرب (¬2)، وظاهر كلام أحمد - رحمه الله -: أنه مخير في ذلك، والأفضل تركُه؛ لما نا أبو محمد الخلال (¬3) بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد سمعتُك يا أبا بكر تُخافِتُ بصلاتك"، قال: أسمعتُ من ناجيتُ، قال: "وسمعتك يا عمر تجهر"، ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية حرب، وقد اطلعت على رسالة علمية مقدمة في الجامعة الإسلامية لنيل درجة الدكتوراه بعنوان (مسائل الإمام أحمد بن حنبل الفقهية رواية حرب الكرماني) للشيخ د/ عبد الباري الثبيتي - وفقه الله -، ولم يذكر هذه الرواية. ووجدت نحوها من رواية صالح. ينظر: مسائله رقم (1107). (¬2) ينظر: المغني (2/ 271)، والإنصاف (3/ 466)، وللفائدة ينظر: المستوعب (2/ 148)، ومختصر ابن تميم (2/ 130)، وتصحيح الفروع (2/ 188). (¬3) هو: الحسن بن محمد بن الحسن البغدادي، أبو محمد الخلال، قال الذهبي: (الإمام الحافظ المجود، محدث العراق)، من مصنفاته: المستخرج على الصحيحين، وغيره، توفي سنة 439 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 593).

قال: أُنَفِّر الشيطان، وأُوقظ الوسنان (¬1)، وقال: "وسمعتك يا بلال تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة"، قال: كلام طيب يجمع الله بعضه إلى بعض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم قد أصاب" (¬2). فوجه الدلالة: أنه أقرّ كلَّ واحد منهم، فدل على أن الجميع جائز. فإن قيل: فإذا قلتم: إنه مخير في الجهر وفي تركه، فأيهما أفضل؟ قيل: ترك الجهر، وهو ظاهر كلام أحمد - رحمه الله - في رواية الميموني: في رجل زحم مع الإمام يوم الجمعة، فلم يقدر يركع ولا يسجد حتى انصرف الإمام: يصلي ركعة يقرأ فيها، قيل له: يرفع صوته بالقراءة؟ قال: ليس عليه أن يجهر، إنما الجهر بالقراءة في الجماعة، أرأيت إن صلى وحده عليه أن يجهر؟ (¬3). قيل له: وهكذا إذا صلى وحده، فلا يجهر فيما ليس عليه، لوجهين: أحدهما: أن المنفرد في حكم المأموم؛ بدليل أنه لا يتحمل عن غيره، والمأموم لا يجهر بالقراءة في حال سكتات الإمام، كذلك المنفرد. ¬

_ (¬1) هو: النائم الذي ليس بمستغرق في نومه. ينظر: النهاية في الغريب (وسن)، ولسان العرب (وسن). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل رقم (1330)، قال النووي: (رواه أبو داود بإسناد صحيح). ينظر: المجموع (3/ 248). (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (4/ 1409)، ونصها: (إنما الجهر بالقراءة في الجماعة، أرأيت إن صلى وحده عليه أن يجهر؟ ! إنما الجهر في الجماعة إذا صلوا).

ولأن الجهر إنما يستحب عند الجماعة، ألا ترى أن المأموم يستحب له أن يرفع صوته بالتكبير عند كثرة الناس للحاجة، ولا يستحب ذلك عند عدمها؟ فنقول: كل من لا يحتمل القراءة عن غيره لا يُشرع في حقه الجهر، دليله: المأموم في سكتات الإمام. ولأن الأذكار التي يسن فيها الجهر في حق الإمام لا تسن في حق المنفرد، دليله: التكبير، وقول: سمع الله لمن حمده، والسلام، ولا معنى لقولهم: إن الإمام إنما يجهر بذلك ليسمع المأموم؛ لأن القراءة أيضًا بهذه المثابة. واحتج: بأنه لو كان ما يفعله مع الإمام آخرَ صلاته، وما يقضيه أولَ صلاته، لوجب أن يكون القعود مقدار التشهد مع الإمام فرضًا، حتى لو تركه، فسدت صلاته؛ لأن القعود في آخر الصلاة فرض، وتركه يوجب فساد الصلاة. والجواب: أن القعود الفرض هو الذي يفعله في آخر صلاته، ويعقبه السلام، وهذا معدوم ها هنا، فهو يجري مجرى التشهد الأول، على أن القعود بعد سجدتي السهو من آخر صلاته، وليس بفرض، فلا يمتنع أيضًا أن يكون القعود الذي يفعله مع الإمام من آخر صلاته، ولا يكون فرضًا. واحتج: بأنا لا نجد في الأصول صلاة يفعل آخرها قبل أولها. والجواب: أنا لا نجد في الأصول أيضًا أن يفعل الإمام آخر صلاته، والمأموم أولها.

19 - مسألة: إذا أدرك الإمام في التشهد الأخير، فكبر وجلس معه، ثم سلم الإمام، فإن المأموم ينهض بتكبير

واحتج: بأن اتباع الإمام لا يقلب الأركان، فيجعل المقدم مؤخرًا، والمؤخر مقدمًا؛ بدلالة الركوع والسجود. والجواب: أن من أدرك الإمام في الركعة الثالثة من المغرب، فإنه يأتي عقيبها بقعدة، وتأتي مثل عقيب كل ركعة بقعدة، فصار تاركًا للترتيب لأجل متابعته، وكذلك المسافر يدخل مع المقيم؛ فإن قعدته الأولى كانت فريضة، وبمتابعته الإمام ينقلب إلى آخر صلاته، وتكون الأوّلة سنة عندهم. واحتج: بأن الشيء يكون أولًا ثم آخرًا، ولا يجوز آخرًا ثم أولًا. والجواب: أن الذي يفعله المؤتم أولُ صلاته من جهة الفعل، وآخرُها من جهة الحكم، والامتناع الذي ذكروه إنما يكون في الفعل من جهة المشاهدة، ونحن نمنع من ذلك، فأما من جهة الحكم، فغير ممتنع؛ ألا ترى أنه إذا أدرك الإمام في التشهد الأخير، فإنه يجلس معه، وإن كان هذا مما يؤتى به في آخر صلاته، وقد أتى به في أولها. واحتج: بأنه لو كان هذا الذي يقضيه أول صلاته، لم يسلِّم فيها. والجواب: أن السلام يختص بحال الفراغ والخروج من الصلاة، وهذا يحصل بهذه الركعة، فلهذا سلم عقيبها. * * * 19 - مَسْألَة: إذا أدرك الإمامَ في التشهد الأخير، فكبر وجلس معه، ثم سلَّم الإمام، فإن المأموم ينهض بتكبير:

نص عليه في رواية حرب (¬1)، والأثرم (¬2)، وأحمد بن أبي عبدة (¬3)، وهو قول الحسن (¬4)، وإسحاق بن راهويه (¬5)؛ خلافًا للشافعي - رحمه الله - في قوله: ينهض بغير تكبير (¬6). دليلنا: أنه نهوض إلى ركن يُعتد به، فكان التكبير فيه مشروعًا. دليله: لو أدركه في التشهد الأول، ثم نهض مع الإمام إلى الثالثة، ¬

_ (¬1) لم أقف عليها. وينظر: المغني (2/ 183)، ومختصر ابن تميم (2/ 265)، والإنصاف (4/ 292). (¬2) لم أقف عليها. وينظر: ما مضى. (¬3) هو: أبو جعفر، أحمد بن أبي عبدة، همذاني، قال الإمام أحمد عنه: (ما عبر هذا الجسر أنصحُ لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أحمد بن أبي عبدة)، قال: الخلال: يعني: جسر النهروان، توفي قبل الإمام أحمد. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 214)، والمقصد الأرشد (1/ 120). (¬4) ينظر: مصنف عبد الرزاق رقم (3390). (¬5) ينظر: الأوسط (4/ 238). وإسحاق هو: ابن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله، التميمي ثم الحنظلي، المروزي، أبو يعقوب، نزيل نيسابور. المعروف: بابن راهويه، قال الذهبي: (الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ)، توفي سنة 238 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (11/ 358). (¬6) ينظر: الأوسط (4/ 237)، والمجموع (4/ 83). وأما الحنفية: فلم أجد لهم قولًا فيها فيما وقفت عليه من كتبهم. وعند المالكية: ينهض بتكبير. ينظر: المدونة (1/ 96).

فإنه ينهض بتكبير بلا خلاف، كذلك ها هنا. فإن قيل: إنما كبر هناك؛ لأنه مع إمامه، فلهذا قام بتكبير متبعًا له، ليس كذلك (¬1)؛ لأنه قد فارق إمامه. قيل: لا يمتنع أن يفارقه، ويأتي بما كان يأتي به معه؛ كالاستفتاح، والاستعاذة، والقراءة، والتسبيح. واحتج المخالف: بأن هذا ليس بقيام إلى ركعة، وإنما هو قيام إلى قراءة بعد تكبيرة (¬2) الإحرام، وليس هذا موضع تكبير. والجواب: أنه إذا أدركه في التشهد الأول، ثم نهض قائمًا، فإنما نهض إلى قراءة بعد تكبيرة الإحرام، ومع هذا يكبر، وكذلك الإمام والمنفرد إذا قاما إلى الثالثة، فإنه قيام إلى قراءة، ومع هذا يكبر. فإن قيل: هناك قيام إلى ركعة، وموضعه التكبير. قيل له: وكذلك قيام المسبوق هو قيام إلى الركعة الأوّلة في حقه، فلا فرق بينهما. فإن قيل: أليس لو أدرك الإمام وقد سجد، فإنه ينحط ساجدًا بغير تكبير؟ كذلك ها هنا. قيل له: إنما لم يكبر؛ لأنه ينحط إلى ركن لا يعتد به، ولا هو متابع فيه لإمامه، فإذا نهض قائمًا من التشهد الأخير، فإنه نهوض إلى ركن معتد ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعلها: وليس كذلك ها هنا. (¬2) في الأصل: تكبير، والمثبت هو الصواب.

20 - مسألة: إذا صلى وحده، أو في جماعة، ثم أدركها في جماعة، استحب له إعادتها، إلا المغرب، فإن دخل معه، أتمها

به، فهو كما لو نهض إلى الثالثة والرابعة، والله أعلم. * * * 20 - مَسْألَة: إذا صلَّى وحدَه، أو في جماعة، ثم أدركها في جماعة، استحب له إعادتُها، إلا المغربَ، فإن دخل معه، أتمها: نص على هذا في رواية أبي طالب، فقال: يصلي الرجل الصلوات كلها إلا المغرب (¬1)، وهو قول مالك - رحمه الله - (¬2). وروى عنه الأثرم: إذا صلى في جماعة، ثم دخل يصلي معهم، قيل: والمغرب؟ قال: والمغرب أيضًا، إلا أنه يشفع معها ركعة (¬3)، وظاهر هذا: أنه يكره فعلها، وأنه يعيدها، ولو كان قد صلى في جماعة، وهو قول أبي يوسف (¬4). وقال أبو حنيفة: يصليها إلا الفجر والعصر والمغرب (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 166). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 87)، والإشراف (1/ 267). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 166)، والمغني (2/ 519). (¬4) ينظر: فتح القدير (1/ 336). (¬5) ينظر: الحجة (1/ 144)، والآثار (1/ 345)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 297).

وقال الشافعي - رحمه الله -: يصلي كلها حتى المغرب، ولا يشفع معها ركعة (¬1). فالدلالة على أبي حنيفة - رحمه الله -: ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن يزيد بن الأسود (¬2) عن أبيه - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بنا الفجر، فانحرف فرأى رجلين في أُخْريات الناس جالسين، قال: فدعاهما، فجيء بهما ترعُدُ فرائِصُهما (¬3)، فقال: "ما منعكما من الصلاة معنا؟ "، قالا: صلينا في رحالنا، ثم أتيناك، قال: "فإذا صليتم، ثم جئتم والناسُ في الصلاة، فصلوا معهم، واجعلوها سُبْحَة" (¬4). وروى أحمد - رحمه الله - بلفظ آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر، فرأى رجلين في آخر القوم، فقال: "ما منعكما أن تصليا؟ "، قالا: ¬

_ (¬1) ينظر: حلية العلماء (1/ 223)، والبيان (2/ 381). (¬2) هو: جابر بن يزيد بن الأسود السوائي، ويقال: الخزاعي، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: تهذيب الكمال (4/ 465)، والتقريب ص 113. (¬3) الفريصة: اللحم الذي بين الكتف والصدر. ينظر: اللسان (فرص). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، رقم (575)، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة، رقم (219)، وقال: (حديث حسن صحيح)، والنسائي في كتاب: الإمامة، إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده رقم (858)، وحسّن إسناده الهيثمي في المجمع (8/ 283).

يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إذا أُقيمت الصلاة وأنتما في المسجد، فصلِّيا فإنها لكما نافلة" (¬1)، وهذا في صلاة الفجر، وقوله - عليه السلام -: "إذا أقيمت الصلاة وأنتما في المسجد، فصلِّيا" عام في سائر الصلوات إلا ما خصه الدليل. وروى أحمد - رحمه الله -، وذكره أبو بكر بإسناده عن بسر بن محجن (¬2) عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أقيمت الصلاة، فجلست، فلما صلى، قال: "ألست مسلمًا؟ "، قلت: بلى، قال: "فما يمنعك أن تصلي مع الناس؟ "، قال: قلت: قد صليت في أهلي، قال: "فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت في أهلك" (¬3). وهذا عام أيضًا في الفجر، والعصر، وغيرهما. والقياس: أنها صلاة شفع، فاستحب له (¬4) فعلُها في جماعة، دليله: الظهر والعشاء، ولا يلزم عليه الوتر والمغرب؛ لأنهما وتر. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا صلاة بعد ¬

_ (¬1) ينظر: المسند رقم (17474). (¬2) الدِّيلي، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: تهذيب الكمال (4/ 77)، والتقريب ص 96. (¬3) ينظر: المسند رقم (16395)، وأخرجه النسائي في كتاب: الإمامة، باب: إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه، رقم (857)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1337). (¬4) في الأصل: استحب لها، والصواب المثبت.

العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس" (¬1). والجواب: أن هذا محمول على غير مسألتنا من النوافل التي لا سبب لها. واحتج: بما روى أبو بكر بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلَّى وحدَه، ثم أدرك الجماعة، فليصلِّ، إلا الفجرَ والمغربَ" (¬2). والجواب: أنا نحمل قوله - عليه السلام -: "إلا" بمعنى الواو (¬3)، وتقديره: والفجر والمغرب، كما قال (¬4): ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، رقم (586)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (827) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) ذكره بسنده الدارقطني في العلل (12/ 312) مرفوعًا، وابن القطان في بيان الوهم (3/ 274)، وأشار إلى اضطرابه سندًا ومتنًا، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6726) نحوه من كلام ابن عمر - رضي الله عنهما -، ونصه أنه قال: (إذا صلى الرجل في بيته، ثم أدرك جماعةً، صلى معهم، إلا المغرب والفجر)، وروى مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه قال: (من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام، فلا يَعُد لهما). ينظر: الموطأ، كتاب: صلاة الجماعة، باب: إعادة الصلاة مع الإمام، وصوّب الموقوف الدارقطني في العلل (12/ 312). (¬3) ينظر: جمهرة أشعار العرب (1/ 13)، والصحاح (إلا)، ولسان العرب (إلا). (¬4) القائل هو: عمرو بن معد يكرب الزَّبيدي، أسلم في سنة تسع من =

وكُلُّ أَخٍ مفارِقُهُ أخوه ... لَعَمْرُ أَبيكَ (¬1) إلَّا الفرقدانِ (¬2) واحتج: بأنها صلاة نافلة، فكُره فعلُها بعد العصر وبعد الفجر، دليله: سائر النوافل التي لا سبب لها، وتبين صحة هذا: أن ماله سبب لا يجوز فعلُه في هذه الأوقات؛ بدليل سجود التلاوة، وتحية المسجد، وصلاة الخسوف، ونحو ذلك، وليس في هذه الصلاة أكثرُ من أن لها سببًا، فيجب أن لا يجوز. والجواب: أن هذا قياس المنصوص على المنصوص عليه، وذلك لا يجوز؛ لأنه يفضي إلى إسقاط أحدهما، وذلك أن سائر النوافل منهي عنها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة بعد العصر ... وبعد الفجر ... " (¬3)، وفي مسألتنا الخبرُ الذي ذكرنا يقتضي جوازها، فحملُه على ذلك يُسقط أحدَهما؛ ولأن هذه الصلاة آكدُ من غيرها من النوافل، ألا ترى أنه يستحب فيها ¬

_ = الهجرة، وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ارتد، ثم أسلم، توفي سنة 26 هـ. ينظر: الأعلام (5/ 86)، ونُسِب البيت إلى حضرمي بن عامر. ينظر: خزانة الأدب (3/ 426). (¬1) في الأصل: أخيك، والتصحيح من ديوان عمرو ص 167. (¬2) ينظر: ديوان عمرو ص 167. والفرقدان: نجمان في السماء لا يغرُبان، ولكنهما يطوفان بالجدي، وقيل: هما كوكبان قريبان من القُطْب، وقيل: هما كوكبان في بنات نَعْشٍ الصغرى. ينظر: لسان العرب (فرقد). (¬3) مضى تخريجه (1/ 256).

فصل

الجماعة، وغيرها من النوافل التي لها سبب لم يشرع فيها ذلك، فكانت هذه كالفرض. واحتج: بأنه لو كان في غير مسجد الجماعة، وأقيمت الصلاة، لم يستحب له الدخولُ وفعلُ الفجر والعصر، كذلك إذا كان في مسجد الجماعة، وأقيمت الصلاة يجب أن يكره له فعلُها. والجواب: أن المذهب على هذا، وأنه يكره دخول في هاتين الصلاتين، وقد نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية الأثرم (¬1)، إلا أنه إذا دخل، وحضرت الجماعة، فإنه يصليها، وكأن المعنى في ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أقيمت الصلاة وأنتما في المسجد، فصليا" (¬2)، فأمر بذلك لمن كان حاضرًا؛ ولأنه إذا كان حاضرًا، ولم يصل، كان مستخفًا بحرمتها؛ ولأنه يلحقه تهمة في أنه لا يرى (¬3) فعل الجماعة، وهذا معدوم إذا لم يكن حاضرًا. * فصل: والدلالة على الشافعي - رحمه الله -، وأن المغرب لا تعاد: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن سليمان (¬4) مولى ميمونة قال: أتيت على ابن ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 166)، والمغني (2/ 519). (¬2) مضى تخريجه (1/ 255). (¬3) في الأصل: لا ترى، والمثبت يستقيم به الكلام. (¬4) ابن يسار الهلالي، المدني، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، قال ابن حجر: =

عمر والناس يصلون، فقلت: ألا تصلي؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ في يوم مرتين" (¬1)، وهذا عام في سائر الصلوات إلا ما خصه الدليل. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى وحده، ثم أدرك الجماعة، فليصلِّ، إلا الفجرَ والمغربَ" (¬2)، ولو خُلِّينا والظاهر، لم يعد الفجر، لكن قام هناك الدليل، وهو الحديث الذي تقدم (¬3) في صلاة الفجر، وأنه أمر الرجلين أن يعيدا صلاة الفجر. ولأنه إذا دخل في صلاة الإمام، لزمه ما أوجبته تحريمة الإمام، وتحريمةُ الإمام أوجبت ثلاث ركعات، ولا يجوز التنفل بثلاث ركعات، فوجب أن يكره. ولأنه يحتاج أن يقعد في الثالثة فيها، وهي له نافلة، وقد دل على أنه ¬

_ = (ثقة فاضل، أحد الفقهاء السبعة)، توفي قبل المئة، وقيل: بعدها. ينظر: التقريب ص 255. (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة، أيعيد؟ رقم (579)، والنسائي في كتاب: الإمامة، سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة، رقم (860)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1641)، وصححه ابن السكن، وأقره ونقله ابن حجر كما في تلخيص الحبير (1/ 421). (¬2) مضى الكلام عليه ص 256. (¬3) (1/ 255).

لا يجوز التنفل بثلاث: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الليل والنهار مَثْنى مثنى" (¬1)، فالظاهر يمنع الزيادةَ على ذلك. فإن قيل: ليس يمتنع مثلُ هذا، ألا ترى أن أحمد - رحمه الله - قد قال في رواية المروذي: في الرجل يصلي مع الإمام في شهر رمضان، ويريد أن يقوم من آخر الليل، والإمام يوتر بثلاث بسلام واحد؟ فقال: إذا سلم الإمام، يقوم يشفع بركعة، فيكون قد صلى أربع ركعات، فقيل له: أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى"، قال: هذه العلة (¬2)، فقد أجاز مخالفة ما أوجبته تحريمة الإمام من الثلاث، فأجاز له الجلوس عقيب الثالثة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في صلاة النهار رقم (1295)، والترمذي في كتاب: الجمعة، باب: أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، رقم (597)، والنسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: كيف صلاة الليل رقم (1666)، وقال: (هذا الحديث عندي خطأ)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات والسنة فيها، باب: ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، رقم (1322)، وسئل البخاري عن الحديث أصحيح هو؟ فقال: نعم. ينظر: سنن البيهقي (2/ 686)، وأخرج البخاري في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر رقم (990)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل، رقم (749) بلفظ: "صلاة الليل مثنى مثنى ... ". (¬2) لم أجد رواية المروذي، وينظر: المغني (2/ 599)، والفروع (2/ 376).

قيل له: هذا محمول على رواية الأثرم، وأنه يتبعه في المغرب، ويشفع إليها (¬1)؛ ولأنها صلاة نافلة، فلم يجز فعلُها ثلاث ركعات. دليله: السنن الراتبة مع الفرائض، وصلاة الخوف، والاستسقاء، والعيدين، ولا يلزم عليه المغرب؛ لأنها فرض، ولا الوتر؛ لأنها واحدة. واحتج المخالف: بما روى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلّى بالقوم ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ست ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث" (¬2). والجواب: أنه يحتمل هذا أن يكون هذا في الوقت الذي كان يعاد الفرض مرتين. واحتج: بأنه أدرك الناس في جماعة، وهو من أهل الصلاة، فاستحب أن يصلي معهم، دليله: الظهر، والعشاء الآخرة. والجواب: أن المعنى في تلك: أنه يجوز التنفل بمثلها، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه لا يجوز التنفل بمثلها، فلا يستحب إعادتها؛ كالخسوف. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 166)، والمغني (2/ 519). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في: صلاة الخوف، باب: صلاة الإمام المغرب بالمأمومين صلاة الخوف، رقم (1368)، والدارقطني في كتاب: العيدين، باب: صلاة الخوف، رقم (1783) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، وأشار إليه أبو داود في سننه في كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، رقم (1248)، قال في التنقيح (2/ 487): (وهذا لا يعرف).

فصل

* فصل: وتكون الثانية نافلة، نص عليه في رواية الأثرم (¬1)، وأبي داود (¬2)، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬3). وقال مالك (¬4)، والشافعي - رحمهما الله - في أحد القولين (¬5): أحدهما: فريضة لا بعينها. دليلنا: ما تقدم (¬6) من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلِّيا معهم، واجعلوها سُبْحَة"، وهذا نص؛ ولأن إعادة هذه الصلاة في الجماعة غيرُ واجب عليه، فيجب أن لا يغير فرضه السابق، ولا يوجب كونه مراعًى؛ كما لو أعادها منفردًا، ولا يشبه هذا إذا صلى المريض الظهر، ثم حضر الجمعة، وصلاها الثانية فرضه؛ لأنه بالحضور قد لزمه فعلُها، وليس كذلك هذه الثانية؛ لأنه لا يلزمه فعلُها، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 166)، والمغني (2/ 519). (¬2) في مسائله رقم (341). (¬3) ينظر: الحجة (1/ 144)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 297). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 88)، ومواهب الجليل (2/ 403). (¬5) ينظر: نهاية المطلب (2/ 212)، والبيان (2/ 382). (¬6) (1/ 254).

21 - مسألة: إذا صلت امرأة في صف الرجال، لم تفسد صلاة من يليها

21 - مَسْألَة: إذا صلَّت امرأة في صف الرجال، لم تفسُدْ صلاةُ من يليها: هكذا ذكره شيخنا (¬1)، وأبو بكر الخلال (¬2)، وقد توقف أحمد - رحمه الله - عن الجواب في ذلك، فقال صالح: سألت أبي: إذا صلت المرأة معهم في الصف، هل تفسد صلاتهم؟ فقال: دعها (¬3)، ولم يجب. وبهذا قال مالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهما الله -. وذكر أبو بكر بن جعفر في كتاب الخلاف: تبطل صلاة من يليها (¬6). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تبطل صلاة مَنْ عن يمينها، وعن ¬

_ (¬1) المراد به: ابن حامد. ينظر: الانتصار (2/ 397)، وطبقات الحنابلة (3/ 217)، والمحرر (1/ 187). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 143)، والانتصار (2/ 397)، وطبقات الحنابلة (3/ 217). (¬3) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وذكرها أبو الخطاب في الانتصار (2/ 397)، ونقل عبد الله نحوها في مسائله رقم (541). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 106)، ومواهب الجليل (2/ 434). (¬5) ينظر: الأم (2/ 335)، والبيان (2/ 430). (¬6) ينظر: الروايتين (1/ 143)، والانتصار (2/ 397)، وطبقات الحنابلة (3/ 217).

يسارها، ومن خلفها بحذاها (¬1). وقال داود: تبطل صلاتها، ولا [تبطل] (¬2) صلاة الرجل (¬3). دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا يقطع الصلاةَ شيء، وادرؤوا ما استطعتم" (¬4). وهذا عام في المجتاز بين يديه وفي غيره، إلا ما خصه الدليل. وروت عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاته من الليل، وأنا معترضَةٌ بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة (¬5). فإن قيل: عائشة - رضي الله عنها - لم تكن في صلاة بين يديه، ¬

_ (¬1) ينظر: الآثار (1/ 362 و 363)، ومختصر القدوري ص 79، وتحفة الفقهاء (1/ 360). (¬2) بياض في الأصل، ويستقيم الكلام بالمثبت. (¬3) ينظر: المحلى (4/ 14). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا يقطع الصلاة شيء، رقم (719)، والدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: صفة السهو فى الصلاة، وأنه لا يقطع الصلاة شيء، رقم (1382) والحديث ضعفه ابن الجوزي في التحقيق (3/ 215)، وقال: (فيه مجالد، وقد ضعفه يحيى، والنسائي، والدارقطني)، وكذلك قال ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 319). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على الفراش رقم (383)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي، رقم (512).

وإنما تبطل صلاته إذا كان مشاركًا له في الصلاة (¬1). قيل له: [كونها] (¬2) في صلاة أحسنُ حالًا من كونها بين يديه في غير صلاة، ثم لم تبطل صلاته بذلك، فأولى أن لا تبطل إذا كانت في صلاة. والقياس: أنه شخص لو وقف إلى جانبه في صلاة الجنازة، صحت صلاته، فإذا وقف في سائر الصلوات، يجب أن يصح؛ قياسًا على العبيد والصبيان؛ ولأنها (¬3) صلاة لو وقف فيها قُدّام النساء، صحت، فإذا وقف فيها معهن، يجب أن تصح؛ قياسًا على صلاة الجنازة. فإن قيل: المرأة لم تجعل لها مقامًا؛ لأنها منهية عن حضور الجنازة مع الرجال، بدلالة: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه رأى نسوة في الجنازة، فقال: "أتحملْنَ فيمن نحمل؟ "، فقلن: لا، فقال: "أتدلين فيمن يدلي (¬4)؟ "، فقلن: لا. فقال: "ارجعن مأزوراتٍ غيرَ مأجورات" (¬5)، فنهاهن عن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الأصوب أن تكون العبارة: إذا كانت مشاركة له في الصلاة. وينظر: الانتصار (2/ 398). (¬2) ليست بالأصل، وبها يستقيم الكلام. ينظر: الانتصار (2/ 398). (¬3) في الأصل: لأنه. (¬4) في الأصل: فيمن ندلي، والتصويب من سنن ابن ماجه. (¬5) أخرجه ابن ماجه في كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز، رقم (1578)، والبيهقي في كتاب: الجنائز، باب: ما ورد في نهي النساء عن اتباع الجنائز، رقم (7201)، قال النووي في المجموع (5/ 168): (إسناده ضعيف).

حضور الجنازة مع الرجال، فدل على أنه ليس لهن مقام في هذه الصلاة، وإذا لم يكن لهن مقام، لم يؤخذ علينا فيها الترتيب في المقام، وليس كذلك سائر الصلوات ليس لهن مقامٌ فيها، فكان الترتيب في المقام مأخوذًا (¬1) علينا، فكان حكمُ الرجال معهن حكمَ المأمومين في سائر الصلوات مع الرجال إذا تركوا الترتيب في المقام، ووقفوا قُدّام الإمام، فسدت صلاتهم، كذلك ها هنا، ويفارق العبيد والصبيان؛ لأنه لم يُنْه عن المقام إلى جنبهم. قيل له: النساء منهياتٌ عن حضور سائر الصفوف؛ كما نهين عن حضور صلاة الجنازة، فإذا حضرن وصلين، كان موقفهن خلف الرجال، فلا فرق بين صلاة الجنازة وبين سائر الصلوات، وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية حرب، وقد سأله عن النساء يخرجن في العيدين، فقال: لا يعجبني في زماننا هذا؛ لأنهن فتنة (¬2)، وقد وردت السنة بذلك، فحدثنا أبو بكر بن جعفر الحنبلي المؤدب (¬3) بإسناده عن محمد بن عبد الله بن قيس (¬4): أن رجالًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن نساءنا يستأذِنَّنا في المسجد؟ فقال: "احبسوهن"، ¬

_ (¬1) في الأصل: مأخوذ. (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 401)، والفروع (2/ 422)، وفتح الباري (6/ 140)، ونقلها صالح في مسائله رقم (402)، وعبد الله في مسائله رقم (618). (¬3) مضت ترجمته. (¬4) ابن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 613)، والتقريب ص 545.

ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فعاد أزواجهن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! قد استأذنَّنا حتى إننا لَنُحرج. قال: "فإن أرسلتموهن، فأرسلوهن تَفِلاتٍ" (¬1). وبإسناده عن عمر بن عبد الله القيسي (¬2): أن امرأة (¬3) قالت: يا رسول الله! نحب الصلاة معك، فيمنعنا أزواجُنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاتكن في بيوتكن أفضلُ من صلاتكن في حُجَركن، وصلاتكن في حجركن أفضل من صلاتكن في دوركن، وصلاتكن في دوركن أفضل من صلاتكن في مسجد القرية، وصلاتكن في مسجد القرية أفضلُ من صلاتكن في مسجد الجماعة" (¬4). وبإسناده عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير ¬

_ (¬1) لم أجده، وقد ذكره ابن مفلح في الفروع (2/ 422)، وقال عنه ابن رجب: (وهذا مرسل غريب). ينظر: فتح الباري (5/ 320). تفلات: أي: تاركات للطيب. ينظر: لسان العرب (تفل). (¬2) لم أجد له ذِكرًا، لا في أسانيد الحديث، ولا في كتب التراجم التي وقفت عليها. (¬3) هي أم حميد الساعدي - رضي الله عنها -. (¬4) أخرجه أحمد في المسند بنحوه رقم (27090)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7702)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1689)، من حديث أم حميد - رضي الله عنها -. قال الهيثمي في المجمع (2/ 33): (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، وثقه ابن حبان)، وقال ابن حجر في الفتح (2/ 451): (وإسناد أحمد حسن).

مساجد النساء قعرُ بيوتهن" (¬1). وإذا ثبت بهذه الأخبار أنهن منهياتٌ عن حضور سائر الصلوات، لم يصح الفرق بينها وبين صلاة الجنازة. وقولهم: إن الصبي والعبد غير منهي عن الصلاة إلى جنبه، وهو منهي عن الصلاة إلى جنبها، فيأتي الكلام عليه، وأيضًا: فإن الرجل والمرأة في خطأ الموقف سواء؛ لأن الرجل كما نُهي عن القيام إلى جنب المرأة، نُهيت المرأة عن القيام بجنب الرجل، فلما لم تبطل صلاتها، وجب أن لا تبطل صلاته. فإن قيل: الرجل مخصوص بالنهي؛ بدليل: أنه واجه الرجال بالخطاب دون النساء، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخِّروهنَّ من حيث أَخَّرَهنَّ الله" (¬2)، وإذا كان الرجل مخصوصًا بالنهي، لم يصح قولك: إنهما في الموقف سواء. قيل له: لا يجوز أن يأمرهم بتأخيرهن، ولا يجب عليهن التأخر، وإنما واجه الرجالَ بالخطاب دون النساء؛ لأن الأحسن في الخطاب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند رقم (26542)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1683) وتوقف في ثبوته، والحاكم في المستدرك كتاب: الصلاة، في الإمامة وصلاة الجماعة، رقم (756) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3327). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من قول ابن مسعود - رضي الله عنه - رقم (5115)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1700)، وقال: (الخبر موقوف غير مسند)، وضعفه مرفوعًا الزيلعي في نصب الراية (2/ 36 و 37).

مواجهةُ الرجال به؛ ولأنهم أقوى من النساء، وأقدرُ على الدفع، فأُمروا بدفعهن وتأخيرهن. فإن قيل: فالمرأة إنما نُهيت عن القيام إلى جانب الرجال لأجل صلاة الرجل، والرجل نُهي عن القيام إلى جانبها لأجل صلاة نفسه، فتبطل صلاته، ولا تبطل صلاتها، كما قلنا في الإمام والمأموم: إن الإمام منهي عن القيام خلف المأمومين لأجل صلاتهم، والمأمومون منهيون عن القيام قُدّام الإمام لأجل صلاتهم، فبطلت صلاتهم، ولم تبطل صلاة الإمام كذلك ها هنا. فإن قيل: لا نسلم لك أنها نهيت عن القيام إلى جانب الرجل لأجل صلاة الرجل، بل نُهي كل واحد منهما لأجل صلاة نفسه، لا لأجل صلاة غيره، وأما صلاة المأموم قُدّام الإمام، فيأتي الكلام عليه. فإن قيل: الرجل أغلظ حالًا من المرأة؛ لأنه منع من الوقوف خلف المرأة وعن يمينها وشمالها، والمرأة لم تُنه عن الوقوف خلف الرجل. قيل: قد نهيت عن الوقوف قُدّام الرجل، ولم يُنه الرجل عن الوقوف قدام المرأة، فاستويا. وأيضًا: كل معنى اشترك الرجل والمرأة في المنع منه، ولم تبطل صلاة المرأة، لم تبطل صلاة الرجل، دليله: الالتفات، ورفع الرأس من السجود قبل الإمام، والتشبيك بين الأصابع، والفرقعة، وفعل الصلاة مع المدافعة للأخبثين، وما أشبه ذلك.

وفيه احتراز من اقتداء الرجل بالمرأة في الصلاة، فإنه لا تبطل صلاة المرأة، وتبطل صلاة الرجل؛ لأنهما لم يشتركا في النهي عن ذلك؛ فإن المرأة يجوز لها أن تأتم بالمرأة، ولا يجوز للرجل أن يأتم بالمرأة، وكل من لا يُبطل صلاةَ الرجل إذا كان خلفه، لا يُبطل صلاته إذا صافَّه؛ كالصبي. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخروهن من حيث أخرهن الله" (¬1)، فأمر بتأخيرهن، وذلك يقتضي النهي عن القيام إلى جانبهن، والنهي يدل على الفساد، وإن شئت قلت: أمر بتأخيرهن، فصار تأخيرهن فرضًا، فإذا تركن فرضًا مأمورًا به في الصلاة، فسدت صلاته. والجواب: أن المرأة يجب عليها أن تتأخر بهذا الأمر؛ لأنه أن يكون الرجل مأمورًا بتأخيرهن، ولا يكون النساء مأمورات؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخروهن من حيث أخرهن الله"، وهذا يدل على أنهن مأمورات بالتأخير، فإذا لم تبطل صلاة المرأة، لم تبطل صلاة الرجل، وهذا موجود في صلاة المرأة. واحتج: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "شرُّ صفوف النساء أولُها، وخيرها آخرُها" (¬2)، وإذا كان تقدمها على الرجل في الصف شرًا، وجب تأخرها. والجواب عنه: ما تقدم. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 268). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، رقم (440) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

واحتج: بما رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[صلى] (¬1) في بيت أم سليم، فأقام أنسًا واليتيم وراءه، وأقام أمَّ سليم خلفهما (¬2)، فلو كان لها مقام، لأقام (¬3) أمَّ سليم في صف الرجال، مع نهيه عن صلاة المنفرد خلف الصف، وإذا ثبت أنه ليس لها مقام في صف الرجال، وجب عليها تأخيرها (¬4). والجواب عنه: ما تقدم. واحتج: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يقطع صلاةَ الرجل: المرأةُ، والحمارُ، والكلبُ الأسود" (¬5)، وليس ها هنا موضعٌ تقطع المرأة صلاة الرجل إلا هذا الموضع، فوجب أن يستعمل الخبر فيه. والجواب: أن المراد به: إذا مرت بين يدي المصلي، وهو منسوخ؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأن كل شخصين كانا مشتركين في صلاة جُعل لهما فيها مقام، وقام أحدهما مقامًا لا يجوز أن يقومه بحال، مع اختصاصه بالنهي ¬

_ (¬1) بياض في الأصل، والمثبت من الحديث. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: صلاة النساء خلف الرجال، رقم (871) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) في الأصل: لما أقام، والصحيح المثبت. (¬4) كذا في الأصل، ولعله: وجب عليه تأخيرها. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، رقم (510 و 511) من حديث أبي ذر، وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.

لأجل صلاته، فسدت صلاته، دليله: إذا قام المأموم قُدّام الإمام، ولا يلزم عليه إذا قام إلى جانبها في صلاة الجنازة؛ لقولنا: في صلاة جُعل لهما فيها مقام، ولم يجعل للمرأة في صلاة الجنازة مقام أصلًا، ولا يلزم عليه الإمام إذا قام خلف المأمومين أن صلاته لا تفسد؛ لقولنا: مع اختصاصه بالنهي لأجل صلاته، والإمام لم يُنه عن القيام (¬1) خلف المأمومين لأجل صلاته، وإنما نُهي عنه لأجل غيره، وهو أن ذلك يفسد صلاة المأمومين، ألا ترى أنه قد كان جائزًا له أن يقف حيث شاء قبل دخول المأمومين في صلاته؟ فإذا لم يتعلق المنع بمعنى يرجع إلى صلاته، لم تبطل صلاته؛ كالصلاة في الدار المغصوبة. ولا يلزم عليه أيضًا المرأة أن صلاتها لا تفسد، وإن كانت منهية عن القيام إلى جانب الرجل؛ لأنها إنما نهيت عن محاذاة الرجل لأجل صلاته، ألا ترى أن لها أن تقف خلفه بحذاه، وليس له أن يقف خلفها بحذاها، فلو كانت قد نُهيت عن محاذاته لأجل صلاتها، لما جاز لها أن تقف خلفه، كما لا يجوز له أن يقف خلفها بحذاها، فإذا ثبت أنها نهيت عن ذلك لمعنى في غير صلاتها، لم تفسد صلاتها؛ كالصلاة في الدار المغصوبة. ولا يلزم عليه إذا قام عن يسار الإمام ليس ذلك يجوز أن يقوم به المأموم بحال، وهو أن القوم إذا كانوا كلهم عراة، قام الإمام في وسطهم، ¬

_ (¬1) في الأصل: عن القيام [خلف القيام] خلف المأمومين، فما بين قوسين حذفتها من الأصل؛ ليستقيم الكلام.

وجعل بعضهم عن يمينه وشماله، وكذلك الفَذُّ خلف الصف يجوز أن يقومه المأموم بحال، وهو أن يدخل المسجد، فلا يجد في الصف موضعًا، فله أن يقف خلف الصف وحدَه. والجواب: أن قولك: مع اختصاصه بالنهي لأجل صلاته، غيرُ مسلَّم، بل هما في النهي سواء، وقد بينا ذلك، وإذا لم يسلم، وجب حذفه، وإذا حذفه، انتقض بصلاة المرأة، وعلى أنه منتقض بصلاة الجنازة؛ لأن موقفها فيه خلف الرجال كسائر الصلوات، ثم إذا وقفت في صفهم، لا تبطل صلاتها، والأوصاف التي ذكروها موجودة فيها، ثم المعنى في الأصل: لأنه موقف لو وقفه في صلاة الجنازة، بطلت صلاته، كذلك ها هنا؛ لأن هذا موقف لو وقفه في صلاة الجنازة، لم تبطل صلاته، فإذا وقفه في غيرها، لم تبطل؛ كما لو وقف إلى جنب صبي أو عبد. وجواب آخر: وهو أن النهي هناك لما اختص المأموم، أفسدت صلاته، وها هنا الرجل والمرأة يشتركان في النهي، فلما لم تفسد صلاة المرأة، يجب أن لا تفسد صلاة الرجل، وهكذا الجواب على أصلنا عن الفذ خلف الصف، وإذا صلى عن يسرة الإمام، وهو أن ذلك النهي لما كان مؤثرًا في الصلاة، استوى فيه صلاة الجنازة وغيرها. ولأنه لما اختص النهي المأموم، أفسد، وها هنا الرجل والمرأة يشتركان في النهي، فلما لم يُفسد صلاة المرأة، لم يُفسد صلاة الرجل، وجميع ما ذكرنا على أبي حنيفة - رحمه الله - من الدلائل، فهو دلالة على داود من الأخبار؛ ولأن المرأة والرجل متساويان في مخالفة مسنون

22 - مسألة: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب

الموقف، بل الرجل هو المخاطب بالتأخير، فإذا لم تبطل صلاته، فأولى أن لا تبطل صلاتها. فإن قيل: بل هي المنهية عن التقدم، والمأمورة بالتأخير. قيل: قد بيّنا أن كل واحد منهما مأمور بذلك، والله أعلم. * * * 22 - مَسْألَة: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب: نص عليه في رواية حنبل (¬1)، والأثرم (¬2)، فقال: ما كان في الصلاة، فأحبُّ أن يسجد؛ لأنه أوكَدُ، ومن قرأ، ولم يكن في صلاة، ولم يسجد، فلا بأس. وبهذا قال الشافعي (¬3)، وداود (¬4) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: هو واجب (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 380). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 380). (¬3) ينظر: التنبيه ص 73، والبيان (2/ 289). وإلى استحبابه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 111)، والإشراف (1/ 269). (¬4) ينظر: المحلى (5/ 74). (¬5) ينظر: مختصر القدوري ص 96، والهداية (1/ 78).

دليلنا: ما روى أبو داود بإسناده (¬1) عن عطاء بن يسار (¬2)، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، فلم يسجد فيها (¬3). فلو كانت واجبة، لم يتركها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يترك أحدًا يَتْركها. فإن قيل: أراد به: لم يسجد في الحال؛ لأنه معلوم أن زيدًا لم يكن في سائر أوقاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلم تركه في جميع الأوقات، وعندنا: تركه في الحال وتأخيره (¬4) إلى وقت آخر. قيل له: بل طريق إلى معرفة ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنني لم أسجد، أو دلالة تدل عليه من حالة تضطره إلى معرفته، فيجب حَمْله على إطلاقه، وهذا كما رُوي عن عليّ - رضي الله عنه -: أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة (¬5)، ونحن نعلم: أنه لم يكن معه في سائر ¬

_ (¬1) في كتاب: الصلاة، باب: من لم ير السجود في المفصل، رقم (1404). (¬2) الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة - رضي الله عنها -، قال ابن حجر: (ثقة، فاضل)، توفي سنة 94 هـ. ينظر: التقريب 431. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: سجود القرآن، باب: من قرأ السجدة ولم يسجد رقم (1072 و 1073)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: سجود التلاوة، رقم (577). (¬4) كذا في الأصل، ولعل الأصوب: وأخّره. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يقرأ القرآن، رقم (229)، والنسائي في كتاب: الطهارة، باب: حجب الجنب من قراءة القرآن، =

أوقاته، ولكن لما كان له طريق إلى العلم به، حملنا قوله على إطلاقه، كذلك زيدٌ له طريق إلى معرفة ذلك، فوجب حملُه على عمومه. فإن قيل: إنما قال عليٌّ ذلك؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن" (¬1)، ولم يثبت عنه في ترك السجود خبر ينتظم جواز تركه في سائر الأوقات، فيجب أن يُحمل قولُ زيد على ما ذكرنا. قيل له: ذلك لا يدل على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يدل على حكم أمته، وعلى أن الخبر اقتضى أن الجنب والحائض يُمنعان من القرآن، ولم يبين حكم غيرهما، وعليّ (¬2) نفى جميع الأشياء، وأثبت الجنابة، وعلى أن زيد بن ثابت أخبر عن نفسه: أنه لم يسجد، كما أخبر عن غيره، وهو ¬

_ = رقم (265)، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، رقم (594)، ونقل النووي في المجموع (2/ 128): أن الحفاظ على تضعيفه، وينظر: العلل للدارقطني (3/ 248). (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرأان القرآن، رقم (131)، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، رقم (595)، والدارقطني في كتاب: الطهارة، باب: في النهي للجنب والحائض عن قراءة القرآن، رقم (419)، قال الإمام أحمد: (هذا باطل). ينظر: العلل للإمام أحمد (3/ 381)، وقال ابن حجر: (ضعيف من جميع طرقه). ينظر: الفتح (1/ 530). (¬2) في الأصل: وعلى ونفى.

يعلم حال نفسه، فلو كان واجبًا، لعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: يحتمل أن يكون قرأها عند طلوع الشمس، أو وقت الزوال، أو الغروب، فلم يسجد فيها. قيل: لو كان كذلك، لوجب أن ينقل زيد السبب الذي لأجله تركه. فإن قيل: لا يجب ذلك، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولد الزنا شر الثلاثة" (¬1)، وهو وارد على سبب، فنقل الراوي الخبر، وسكت عن نقل السبب، وكذلك حديث أسامة - رضي الله عنه -: "إنما الربا في النسيئة" (¬2)، "ولا ربا إلا في النسيئة" (¬3)، وهذا وارد في الجنسين، فنقل الراوي الخبرَ، وترك السبب. قيل له: لا يجوز أن يترك نقل السبب؛ لأن إفراده عن سببه إسقاط لوجوبه، وقوله: "ولد الزنا شر الثلاثة" (1)، فلا نقول: إنه وارد على سبب، ولا على رجل بعينه، وإنما هو عام في الجميع، والمراد به: شر الثلاثة نسبًا، فإنه لا نسب له، وأما قوله: "إنما الربا في النسيئة" (2)، فإنه يجوز أن يكون قد خفي عليه السؤال، ولم يسمعه؛ لأنه لا يمتنع أن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند رقم (24784)، وأبو داود في كتاب: العتق، باب: في عتق ولد الزنا، رقم (3963)، وحسنه ابن القيم في المنار المنيف ص 129. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل، رقم (1596). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع الدينار بالدينار نساء، رقم (2178، 2179).

يسمع الجواب ولا يسمع السؤال، ويجوز أن يكون منسوخًا، ولم يكن وارد [اً] على سبب. فإن قيل: يجوز أن يكون قد خفي سببه عليه. قيل: لو كان كذلك، لسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، وأعلمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن له ترك الواجب الذي زال وجوبه لعارض وسبب، ولما لم يبينه لهم، دل على إسقاط وجوبه. وأيضًا: فإنه إجماع الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -، روى ابن خزيمة محمد بن إسحاق (¬1)، وأبو بكر بن المنذر (¬2): أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ يوم الجمعة على المنبر، حتى إذا جاء السجدة، قال: أيها الناس! إنما نمر بالسجود، فمن سجد، فقد أجاد وأحسن، ومن لم يسجد، فلا إثم عليه (¬3). ¬

_ (¬1) في صحيحه في كتاب: الصلاة، باب: ذكر الدليل على أن السجود عند قراءة السجدة فضيلة لا فريضة، رقم (567). وابن خزيمة هو: محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري، أبو بكر، قال الذهبي: (الحافظ، الحجة، الفقيه، شيخ الإسلام، إمام الأئمة)، من مؤلفاته: كتاب التوحيد، والصحيح، وغيرها، توفي سنة 311 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 365). (¬2) في الأوسط (4/ 77). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: سجود القرآن، باب: من رأى أن الله - عز وجل - لم يوجب السجود، رقم (1077).

فوجه الدلالة: أنه قال هذا في يوم الجمعة في وقت الخطبة بمحضر من المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه أحد، ولا خالفه مخالف، فصار ذلك إجماعًا منهم. وروى أبو بكر الأثرم بإسناده عن هشام بن عروة (¬1) عن أبيه (¬2): أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد، وسجدوا معه، ثم قرأها من الجمعة الأخرى، فتهيؤوا للسجود، فقال: على رِسْلِكم، إن الله تعالى لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا (¬3). فإن قيل: يحتمل أن تكون التلاوة منه كانت وقت الزوال. قيل له: فإن ذلك كان في خطبة الجمعة، وخطبة الجمعة لا تُفعل وقت الزوال. والقياس: أن السجود ركن في الصلاة، فوجب أن لا يجب منفردًا، أصله: القعود للتشهد الثاني. فإن قيل: فيجب أن لا يستحب منفردًا؛ كالقعود للتشهد. ¬

_ (¬1) ابن الزبير بن العوام الأسدي، قال ابن حجر عنه: (ثقة، فقيه، ربما دلّس)، توفي سنة 145 هـ. ينظر: التقريب ص 640. (¬2) عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، قال ابن حجر عنه: (ثقة، فقيه)، توفي سنة 94 هـ. ينظر: التقريب ص 425. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: القرآن، باب: ما جاء في سجود القرآن، رقم (701)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من لم ير وجوب سجدة التلاوة، رقم (3756)، وهو مرسل، ذكره البيهقي في الكبرى (2/ 455).

قيل له: لا يمتنع أن يُستحب منفردًا، ولا يجب كالقراءة؛ ولأن ما شُرع فعلُه لوجود التلاوة، لم يكن واجبًا؛ قياسًا على سؤال الرحمة إذا قرأ آية الرحمة، والاستعاذة من النار إذا قرأ آية عذاب، فإن ذلك مستحب للتلاوة، وقد رُوي ذلك في حديث (¬1)؛ ولأنها تلاوة، فلم يجب فيها سجود، دليله: إذا تكررت في مجلس، والسجدة الثانية من الحج. فإن قيل: السجدة الثانية ليست من مواضع السجود. قيل له: عندنا أنها من مواضع السجود. فإن قيل: تكرار الزنا لا يوجب تكرار الحد، ولم يمنع ذلك وجوبه في الابتداء، وكذلك الشرب، وكذلك تكرار السهو في الصلاة لا يوجب تكرار سجود السهو، ولم يمنع ذلك وجوبه لأجل السهو، وكذلك تكرار الحدث لا يوجب تكرار الطهارة، ولم يمنع ذلك وجوب الطهارة بالحدث. قيل له: هذا ما يشبهه ما ذكرنا؛ لأنه لو قرأ وسجد، ثم كرر قراءتها في ذلك المجلس، لم يسجد، ومثله لو زنا فَحُدَّ، ثم زنا في ذلك المجلس حُدَّ، وكذلك الحدث؛ ولأنه لو قرأها في مجلس ولم يسجد، وقرأ في مجلس آخر، وجب عليه القضاء، ولو زنا ولم يُحد، وزنا في وقت آخر، فحَدٌّ واحد، فعلم أن السجود لا يشبه الحدَث، ولا الحدَّ، وأما سجود السهو، فلا يُفعل عقيب سببه، وإنما يؤخر إلى آخر الصلاة ليكون جبرانًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (772).

لما يحصل من السهو، فلهذا لم يكن تداخُله دلالة على نفي الوجوب، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يفعل عقيب سببه، فلو كان واجبًا، لم يتداخل بتكراره؛ كالسجود في الصلاة المفروضة. وأيضًا: فإن هذا سجود يجوز فعلُه على الراحلة من غير خوف ولا شرط، فلم يكن واجبًا، دليله: سجود النافلة، وقد ثبت عندهم: أنه لو قرأ على الراحلة السجدة، جاز أن يسجد عليها، ولا يلزم عليه إذا نذر أن يصلي ركعتين على الراحلة أنه يجزئه، ومع هذا فهي واجبة؛ لأنها إنما جاز ذلك بالشرط، ألا ترى أنه لو نذر أن يصلي ركعتين مطلقًا، لم يجز أن يصلي على الراحلة، وفي مسألتنا القراءةُ على الراحلة ليس فيها شرط، فلو كانت واجبة، لم يجز فعلُها على الراحلة. فإن قيل: إذا تلاها راكبًا، فقد أوجب السجدة على تلك الصفة، ألا ترى أنه لو تلاها على الأرض، لم يجز له أن يؤديها راكبًا؟ قيل له: هذا باطل به لو زالت الشمس وهو على الراحلة، فإن سبب الوجوب قد وجد وهو على الراحلة، ولا يجوز فعلُ الصلاة عليها. وأيضًا: فإنها لو كانت واجبة، لوجب إذا تلاها في الصلاة، ثم لم يفعلها فيها حتى خرج منها أن لا تسقط، فلما اتفقنا أنه لا يجب عليه فعلها بعد خروجه منها، دل على أنها لم تجب. فإن قيل: إذا تليت في الصلاة، صارت من سننها، وسنن الصلاة لا تقضى خارج الصلاة.

قيل له: لا نسلم لك أنها تصير من سنن الصلاة. فإن قيل: لو لم تصر من سننها، ما جاز فعلُها فيها. قيل: إنما جاز فعلُها في الصلاة (¬1)؛ لأن سببها عرض في الصلاة. فإن قيل: سقوطها في الثاني لا يدل على أنها لم تجب عليه، كما أن سقوط فرض الجمعة بخروج الوقت لا يدل على نفي وجوبها في وقتها. قيل له: إنما سقطت الجمعة؛ لأن الوقت شرط في صحتها، وليس كذلك السجدة؛ لأن الصلاة ليست شرطًا (¬2) في صحتها؛ لأنها تفعل خارج الصلاة عند التلاوة كما تفعل في الصلاة، فلو كانت واجبة، لوجب قضاؤها خارج الصلاة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]، فذمَّهم على ترك السجود، والذمُّ لا يستحق إلا بترك الواجب. والجواب: أن الله - عز وجل - ذم الكفار في هذه الآية على تركهم الإيمان، وتركهم لسجود القرآن تكذيبًا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق: 22, 23] يعني: بما يجمعون في صدورهم من الكفر والشرك (¬3)، وإذا ترك سجود القرآن على هذا ¬

_ (¬1) في الأصل: فيها الصلاة. (¬2) في الأصل: شرط. (¬3) ينظر: تفسير الطبري (24/ 257)، والمحرر الوجيز (8/ 574).

الوجه، فهو مذموم يستحق الوعيد. فإن قيل: الكافر لا يستحق الذم على ترك ما ليس بواجب، فلما ذمهم على ترك السجود عند تلاوته، دل على وجوبه. قيل له: إنما ذمهم على تركه على الوجه الذي ذكرنا، وهو تركهم له تكذيبًا وكفرًا، وذلك يستحق به الذم، وقد قيل: لما أضاف ذلك إلى جميع القرآن، دل على أن المراد به ما ذكرنا. واحتج المخالف بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15]، فجعله من شرائط الإيمان، فدل على وجوبه. والجواب: أنه من شرائط الإيمان في حق من تركه مستكبرًا جاحدًا، وهكذا نقول. واحتج بقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، ثم قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]، والظاهر: أن هذا راجع إلى ما تقدم ذكرُه من السجود، فدل على وجوبه؛ لاستحقاق الذم بتركه. والجواب: أن المراد بقوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59] يعني: كذبوا بها، هكذا ذكره المفسرون (¬1)، وأنهم اليهود، وإذا تركوا ¬

_ (¬1) ينظر: معاني القرآن للزجاج (3/ 164)، والمحرر الوجيز (6/ 46)، والدر المنثور (10/ 97).

ذلك على وجه التكذيب، استحقوا الذم، مع أنه قرن السجود بالبكاء، والبكاء غير واجب، كذلك السجود. واحتج بقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، وهذا أمر. والجواب: أنا نحمله على الندب؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بما روى أبو داود بإسناده (¬1) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم، فسجد فيها، وما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفًا من حصى أو تراب، فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد هذا قُتل كافرًا (¬2)، وهذا على وجه الذم له عند ترك السجود، والذم لا يستحق إلا بترك الواجب. والجواب: أنه يحتمل أن يكون ترك السجود مستكبرًا أو جاحدًا، فلهذا ذمه، ولهذا روي: أنه قُتل كافرًا. واحتج: بأنه يجوز فعلُها في الصلاة في حق تاليها، ولو كانت نفلًا، لم يجز فعلها، ولما جاز فعلُه فيها، دل على وجوبه، دليله: سجدات الصلاة، ولا يلزم عليه سجود السهو؛ لأنه واجب عندنا. والجواب: أنه إنما جاز في الصلاة لا لوجوبه، لكن لوجود سببه في الصلاة، ألا ترى لو قرأ آية السجدة خارج الصلاة، لم يجز له أن يسجد ¬

_ (¬1) في سننه رقم (1406). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: سجود القرآن، باب: ما جاء في سجود القرآن وسنتها، رقم (1067)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: سجود التلاوة رقم (576).

23 - مسألة: في الحج سجدتان: الأولى: قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض} [الحج: 18]، والثانية: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77]

في الصلاة، وإن كانت السجدة عندهم؛ لأن سببها لم يوجد في الصلاة. فإن قيل: هذا يبطل بسجود الشكر إذا وجد سببه في الصلاة، وهو إذا بُشِّر في صلاته بنعمة من الله - عز وجل - ظاهرة تجددت، فإنه لا يجوز أن يسجد في صلاته، وإن كان سببه وجد في الصلاة. قيل: سبب سجود الشكر تجدد النعمة، وذلك ليس بعارض في الصلاة، وإنما العارض أن يكون سببه من أفعال الصلاة، والله أعلم. * * * 23 - مَسْألَة: في الحج سجدتان: الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18]، والثانية: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]: نص على ذلك في رواية الأثرم (¬1)، وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬2). وقال مالك (¬3)، وأبو حنيفة (¬4) - رحمهما الله -: فيها سجدة ¬

_ (¬1) ينظر: التمهيد (19/ 131)، والاستذكار (8/ 103)، ولم أجدها في كتب الأصحاب - رحمهم الله -. (¬2) ينظر: الأم (8/ 415)، والبيان (2/ 291). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 109)، والمعونة (1/ 206). (¬4) ينظر: الحجة (1/ 82)، وتحفة الفقهاء (1/ 370).

واحدة، وهي الأولى. دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - (¬1)، وذكره عبد الله في مسائله (¬2) قال: نا عبد الله بن يزيد (¬3) قال: حدثنا ابن لهيعة (¬4) عن مِشْرح (¬5) بن هاعان (¬6)، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أفضلت سورة الحج على القرآن بأن جُعل فيها سجدتان؟ قال: "نعم، ومن لم يسجدهما، فلا يقرأهما" (¬7). ¬

_ (¬1) في المسند رقم (17364). (¬2) رقم (489). (¬3) المكي، أبو عبد الرحمن المقرئ، قال ابن حجر عنه: (ثقة، فاضل)، توفي سنة 213 هـ. ينظر: التقريب ص 349. (¬4) عبد الله بن لَهيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري، قال ابن حجر عنه: (صدوق، ... خلّط بعد احتراق كتبه)، توفي سنة 174 هـ. ينظر: التقريب ص 337. (¬5) في الأصل: شريح، والتصويب من المسند، رقم الحديث (17364). (¬6) المَعَافري، المصري، أبو مصعب، قال ابن حجر عنه: (مقبول)، توفي سنة 128 هـ. ينظر: التقريب ص 593. (¬7) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: تفريع أبواب السجود رقم (1402)، والترمذي في كتاب: الجمعة، باب: في السجدة في الحج، رقم (578) وقال: (هذا حديث ليس إسناده بذلك القوي)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: سجدتي الحج، رقم (3728)، وأقرّ الاحتجاج به الإمام أحمد كما في رواية الأثرم. ينظر: التمهيد (19/ 131)، بل واحتج به كما في =

وروى أبو داود بإسناده (¬1) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أفي سورة الحج سجدتان؟ فقال: "نعم، ومن لم يسجدْهما، فلا يقرأهما" (¬2). فإن قيل: ظاهر الخبر يقتضي الوجوب، وقد اتفقنا على نفي وجوبها، والخبر إذا اقتضى وجوب شيء، وقامت الدلالة على نفي الوجوب، سقط التعلق بظاهره، ولم يجز الاحتجاج به في الندب. قيل له: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه لا يدل على وجوبه؛ لأن معناه: من تركهما معتقدًا أنه ليس بقربة، فليترك قراءتهما معتقدًا أنه ليس بقربة، وهذا مثل قوله - عليه السلام -: "من لم يُضَحِّ، فلا يَقْرَبَنَّ مصلَّانا" (¬3). ¬

_ = مسائل عبد الله رقم (489)، وقال أحمد شاكر: (بل هو حديث صحيح). ينظر: تحقيقه لسنن الترمذي (2/ 363). (¬1) ينظر: الحاشية رقم (7) صفحة 286. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: تفريع أبواب السجود رقم (1402)، والترمذي في كتاب: الجمعة، باب: في السجدة في الحج، رقم (578)، وقال: (هذا حديث ليس إسناده بذلك القوي)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: سجدتي الحج، رقم (3728)، وأقرّ الاحتجاج به الإمام أحمد كما في رواية الأثرم. ينظر: التمهيد (19/ 131)، بل واحتج به كما في مسائل عبد الله رقم (489)، وقال أحمد شاكر: (بل هو حديث صحيح). ينظر: تحقيقه لسنن الترمذي (2/ 363). (¬3) أخرجه أحمد في المسند رقم (8273)، وابن ماجه في كتاب: الأضاحي، =

والثاني: أن اللفظ الذي تركنا ظاهره غيرُ الذي أثبتنا به السجدة الثانية؛ لأنا أثبتناها بقوله - عليه السلام -: "نعم" جوابًا عن السؤال، وهذا مستقل بنفسه غيرُ متعلق بما بعده. وأيضًا: روى أبو داود بإسناده (¬1) عن عمرو بن العاص (¬2) - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها: ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان (¬3). ¬

_ = باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ رقم (3123) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورجاله ثقات، ومخرج لهم في الصحيحين إلا واحدًا، فهو من أفراد مسلم، وروي مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أشبه بالصواب، ذكر ذلك ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 564)، وابن حجر في الفتح (10/ 6)، وينظر: كلام ابن مفلح في الفروع (2/ 309). (¬1) في كتاب: الصلاة، باب: تفريع أبواب السجود رقم (1401). (¬2) في الأصل: عن عبد الله بن عمرو بن العاص. والتصويب من سنن أبي داود. (¬3) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، باب: عدد سجود القرآن، رقم (1057)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الصلاة، باب: التأمين، رقم (811) وقال: (هذا حديث رواته مصريون، قد احتج الشيخان بأكثرهم، وليس في عدد سجود القرآن أتم منه، ولم يخرجاه)، قال ابن الجوزي في التحقيق (3/ 227): (وهذا الحديث لا يعتمد عليه)، وقال الذهبي في تنقيحه على التحقيق (3/ 227): (لم يصح)، وقال ابن حجر في التلخيص (2/ 848): (فيه عبد الله بن منين، وهو مجهول، والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي، وهو لا يعرف أيضًا).

فإن قيل: ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذه مواضع السجود، وجاز أن يكون قرأها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فظن أنها مواضع السجود، فأخبر عما عنده. وأيضًا: بأنه إجماع الصحابة - رضوان الله عليهم -. روى أحمد - رحمه الله - بإسناده في مسائل عبد الله (¬1) عن عبد الله بن ثعلبة (¬2) قال: رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسجد في الحج سجدتين، قال سعد بن إبراهيم (¬3): قلت لعبد الله بن ثعلبة: في الصبح؟ قال: في الصبح (¬4). ¬

_ (¬1) لم أجده في المسائل المطبوعة، ولا في مسند الإمام أحمد. ينظر: كشاف القناع (3/ 120). (¬2) ابن صُعَير، ويقال: ابن أبي صعير، معدود من الصحابة، قال ابن حجر: (له رؤية، ولم يثبت له سماع)، توفي سنة 87 هـ، وقد قارب التسعين. ينظر: التقريب ص 309. (¬3) في الأصل: سعيد بن إبراهيم، وهو خطأ. وسعد هو: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال ابن حجر: (كان ثقة فاضلًا عابدًا)، توفي سنة 125 هـ. ينظر: التقريب ص 219. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5895)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (4319)، والدارقطني في: سجود القرآن، رقم (1522)، والحاكم في المستدرك في كتاب: التفسير، تفسير سورة الحج، رقم (3471) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال أبو الطيب آبادي في تعليقه على المغني (2/ 271): (إسناده قوي).

وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي (¬1): إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يسجد في الحج سجدتين (¬2). وروى أحمد بن حنبل - رحمه الله - بإسناده (¬3) عن أبي العالية (¬4): قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فُضلت سورة الحج بسجدتين (¬5). وروى أحمد - رحمه الله - بإسناده (¬6) عن جبير بن نفير: أن أبا ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السُّلمي، الكوفي، المقرئ، مشهور بكنيته، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت)، توفي بعد السبعين من الهجرة. ينظر: التقريب ص 312. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4322)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجدتي سورة الحج، رقم (3732)، وفي معرفة السنن والآثار (3/ 246)، وقال ابن المنذر في الأوسط (5/ 263): (وممن ثبت ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب ... )، وبنحوه ذكر النووي في المجموع (3/ 384). (¬3) لم أجده. (¬4) هو: رُفَيع بن مهران، أبو العالية الرياحي، روايته في الكتب الستة، قال ابن حجر: (ثقة كثير الإرسال)، توفي سنة 90 هـ. ينظر: التقريب ص 197. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5894)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجدتي سورة الحج، رقم (3736) ومال إلى الاحتجاج به في معرفة السنن والآثار (3/ 244)، وصححه ابن حزم في المحلى (5/ 75). (¬6) لم أجده.

الدرداء - رضي الله عنه - سجد في الحج سجدتين (¬1). وقال صفوان بن محرز (¬2): إن أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - قرأ عليّ (¬3) سورة الحج على منبر البصرة، فسجد بالناس سجدتين (¬4). وروى أحمد - رحمه الله - بإسناده (¬5) عن نافع قال: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يسجد في الحج سجدتين (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4320)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجدتي سورة الحج، رقم (3737)، قال ابن المنذر في الأوسط (5/ 265): (كان يرى أن يسجد في الحج سجدتين: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو)، وينحوه ذكر النووي في المجموع (3/ 384). (¬2) في الأصل: محمد، وهو تصحيف. وصفوان هو: ابن محرز بن زياد المازني أو الباهلي، قال ابن حجر: (ثقة، عابد)، توفي سنة 74 هـ. ينظر: التقريب ص 283. (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: علينا، وقد تكون: علي، خطأ. (¬4) كذا في الأصل، وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (5/ 264)، ونصه: (عن صفوان بن محرز: أن أبا موسى قرأ سورة الحج على منبر البصرة، فسجد بالناس سجدتين)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجدتي سورة الحج، رقم (3734)، وينظر: كلام ابن المنذر في الحاشية رقم (1). (¬5) لم أجده. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5890)، والحاكم في المستدرك في كتاب: التفسير، تفسير سورة الحج، رقم (3473)، وصححه، ووافقه الذهبي، =

وروى أحمد - رحمه الله - بإسناده (¬1) عن أبي إسحاق قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين (¬2). وهذا إجماع منهم لا يُعرف عن أحد منهم خلافُه، فوجب العمل به (¬3). والقياس: أنه ترغيب من الله تعالى، وحث (¬4) على السجود له في شريعتنا باسمه الخاص، فوجب أن يكون من مواضع السجود، أصله: المواضع الأُول من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18]، وسائر الآيات التي يتعلق بتلاوتها السجود. وفيه احتراز من قوله في آخر الحجر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]؛ لأن ذلك لم يقصد به الترغيب في السجود، وإنما قُصد به تسليةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يضيق صدره من كلام المشركين وقلبه، وقوله تعالى: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] معناه: مع ¬

_ = والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجدتي سورة الحج، رقم (3731)، وهو في موطأ مالك عن عبد الله بن دينار: أنه قال: رأيت عبد الله بن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين. ينظر: الموطأ (2/ 288) رقم (699). (¬1) لم أجده. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (4326). (¬3) ينظر: المغني (2/ 356). (¬4) في الأصل: وجب، والصواب المثبت.

الساجدين، هكذا قاله المفسرون (¬1)، فأمره الله تعالى بمفارقة المشركين، ومصاحبة المؤمنين، لئلا يرى منهم ما يضيق صدره. وفيه احتراز من قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43]، لأن ذلك من قول الملائكة: يا مريم إلى قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ ولأن ذلك في شريعة مَنْ كان قبلنا. وفيه احتراز من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]؛ لأنه لا يتضمن السجود، ولم يصرح باسمه. وفيه احتراز من قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34]؛ لأن ذلك ذم لمن ترك السجود لآدم - عليه السلام -، وليس ذلك بذم لمن ترك السجود لله. وأما قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ليس بحث على السجود، وإنما هو إخبار عن توبة داود - عليه السلام -. وأما قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]، ليس بحثٍّ على السجود، وإنما هو حثٌّ على التسبيح. وأما قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، أمر بتطهير البيت من الشرك للمصلين، وليس بحث على السجود؛ لأن القائمين هم المصلون، والركع السجود تكرار ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير البغوي (3/ 69).

على سبيل التأكيد. وفيه احتراز من قوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]؛ لأن ذلك ليس بحث على السجود، وإنما هو إخبار عن قوم (¬1) وصفهم الله بذلك، ونعت حالهم لنا. واحتج المخالف: بأن الثانية من الحج ذكرت مع الركوع، فصارت كقوله: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43]، وقوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. والجواب: أن عند المخالف: أنه إذا تلا السجدة، كان مخيرًا بين السجود والركوع، والسجود على طريق التأكيد، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه ترغيب من الله على السجود في شريعتنا باسمه الخاص أشبه ما ذكرنا. واحتج: بأن السجود الذي مع الركوع هو الصلاة، والأمر بالصلاة لا يقتضي سجودًا؛ كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]. الجواب: أن هذا ليس بأمر بالصلاة؛ لأن الأمر بالصلاة بعده، وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ولو كان ذلك أمرًا بالصلاة، لما أعادها بعد، وعلى أنه لو كان أمرًا بالصلاة، اقتضى أن يكون موضعًا للسجود؛ ولأنه قد صرح بذكر السجود على سبيل الحث والترغيب، وليس كذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ لأنه لم يصرح بذكر السجود. ¬

_ (¬1) في الأصل: قومهم.

24 - مسألة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في قوله تعالى في سورة {ص}: {وخر راكعا وأناب} [ص: 24]، هل هو موضع لسجود التلاوة؟

واحتج: بأنها سورة من القرآن، فلم تتضمن سجدتين، دليله: سائر سور القرآن. والجواب: أن هذا القياس وما قبله من الأقيسة يخالف نصَّ الخبر والإجماع، فيجب اطِّراحُه، وعلى أنه ليس إذا لم يكن في غيرها من السور مما يمنع منها، كما أن السور التي فيها السجود لم يوجد ذلك في غيرها، ولم يمنع ذلك منها؛ ولأن سائر السور لم يوجد الترغيب من الله تعالى على السجود في موضعين، وليس كذلك في هذه السورة؛ لأنه قد وجد الترغيب من الله - عز وجل - على السجود في شرعنا باسمه الخاص في موضعين، فلهذا فرقنا بينهما. * * * 24 - مَسْألَة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في قوله تعالى في سورة {ص}: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، هل هو موضع لسجود التلاوة؟ : فنقل المروذي (¬1)، وحرب (¬2) عدد سجود القرآن أربع عشرة، فأخرج منها سجدة، .................................... ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 144). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 144).

وهو اختيار الخرقي (¬1)، وبه قال الشافعي - رحمه الله - (¬2). ونقل صالح (¬3)، والأثرم (¬4)، والفضل بن زياد (¬5): أنها خمس عشرة، فأثبت {ص}. وهو قول مالك (¬6)، وأبي حنيفة (¬7) - رحمهما الله -. وجه الأولة: ما روى أبو داود بإسناده (¬8) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: {ص}، فلما بلغ السجدة، نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر، قرأها، فلما بلغ السجدة، تشرَّفَ الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي توبةُ نبي، ولكن رأيتكم تشزنتم (¬9) للسجود، فنزل وسجد" (¬10)، وهذا يدل ¬

_ (¬1) في مختصره ص 48. (¬2) ينظر: الأوسط (5/ 268)، والبيان (2/ 291). (¬3) لم أجدها في المطبوع من مسائله. وينظر: الروايتين (1/ 143). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 143). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 143). (¬6) أي: إثبات سجدة سورة {ص}. ينظر: المدونة (1/ 109)، والإشراف (1/ 270). (¬7) في الأصل: أبو حنيفة. ينظر: الآثار (1/ 567)، وتحفة الفقهاء (1/ 370). (¬8) في كتاب: الصلاة، باب: السجود في {ص} رقم (1410). (¬9) التشزن: التأهب والتهيؤ للشيء، والاستعداد له. ينظر: النهاية في غريب الحديث (شزن). (¬10) أخرجه الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: سجود القرآن، رقم (1519)، =

على أنه ليس بترغيب في السجود، وإنما هو إخبار عن توبة داود - عليه السلام -، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد للشكر. فإن قيل: لما سجد في المرة (¬1) الأولى عند التلاوة، دل على أنه موضع للسجود، وقوله: "ولكني رأيتكم تشزنتم" يدل على جواز التأخير، وقوله: "إنما هي توبة نبي" لا ينفي كونها من العزائم؛ بدليل أن داود - عليه السلام - سجدها على وجه التوبة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سجدها لتلاوة الآية. قيل: أما سجوده في الرفعة (¬2)، فإنما أراد به الشكر لا التلاوة. بدليل: أنه بين عن ذلك في المرة الثانية، وقال: "إنما هي توبة نبي". وقولهم: إن قوله: "رأيتكم تشزنتم" يدل على التأخير، لا يصح؛ لأنه بين عن العلة التي لأجلها أراد الترك، وهو كونها توبة نبي. ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سجدها نبي الله داود - عليه السلام - توبة، وسجدناها شكرًا" (¬3)، وهذا نص. ¬

_ = والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: سجدة {ص}، رقم (3740)، وقال: (هذا حديث حسن الإسناد صحيح). (¬1) في الأصل: المراة. (¬2) كذا في الأصل، وقد تكون تصحيفًا من لفظة: التوبة. (¬3) أخرجه النسائي في كتاب: الافتتاح، باب: سجود القرآن: السجود في {ص} رقم (957)، والدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: سجود القرآن رقم (1515)، وقد روي موصولًا ومرسلًا، قال البيهقي عن الموصول: =

ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. روى أحمد بإسناده (¬1) عن عكرمة (¬2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ليس من عزائم السجود، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها (¬3). فإن قيل: قوله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها يدل على أنها من عزائمه. قيل له: بل يدل على أنها شكر، إلا أنه قد بين ذلك فيما ذكرنا، وروى ابن المنذر (¬4) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه كان لا يسجد في {ص}، ويقول: إنها توبة نبي (¬5). ¬

_ = (ليس بالقوي)، وذكر أن المرسل هو المحفوظ. ينظر: سنن البيهقي (2/ 452)، ومعرفة السنن والآثار (3/ 252). (¬1) في المسند رقم (3387). (¬2) عكرمة هو: أبو عبد الله القرشي، مولاهم، المدني، البربري الأصل، كان مولى لابن عباس، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، عالم بالتفسير ... لا تثبت عنه بدعة)، توفي سنة 104 هـ. ينظر: سير الأعلام (5/ 12)، والتقريب ص 437. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: سجود القرآن، باب: سجدة {ص}، رقم (1069). (¬4) في الأوسط (5/ 255). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5873)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (4300)، وجزم به ابن المنذر في الأوسط (5/ 255) حيث قال: (وممن كان لا يسجد فيها: عبد الله بن مسعود).

والقياس: أنها توبة نبي، فوجب أن لا يتعلق بتلاوتها سجود، أصلُه: قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، وقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121, 122]. فإن قيل: أجمعنا على الفرق بينهما؛ لأنه إذا قرأ: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، سجد، وإذا قرأ توبة آدم، لا يسجد، فدل أنه في {ص} للتلاوة. قيل له: لا فرق بينهما عندنا؛ لأنه لا يسجدهما لتلاوتهما، وليس واحد منهما حثًا على السجود، ولا ترغيبًا، فقد سوّينا بينهما في ذلك. وأما قوله: إنكم تسجدون لتوبة داود، ولا تسجدون لتوبة آدم - عليه السلام -، فإنما فرقنا بينهما؛ لأن آدم - عليه السلام - لم يسجد لتوبته، وداود - عليه السلام - سجد لتوبته، فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للشكر على صفته وهيئته. وأيضًا (¬1): فإنه ليس بحثٍّ على السجود، ولا ترغيب فيه، وإنما السجود في الموضع الذي يكون [في] القرآن حثًا على السجود، وترغيبًا فيه، ألا ترى أن سائر مواضع السجود فيها أمرٌ بالسجود، أو حث عليه؛ كقوله تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، ونحو ذلك، وها هنا هو خبر عن فعل داود - عليه السلام -، وليس بحث، فوجب أن لا يتعلق بتلاوته السجود. ¬

_ (¬1) كررت (أيضًا) في الأصل مرتين.

واحتج المخالف: بما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه سجد في {ص}، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها (¬1)، وظاهره: أنه يقتضي للتلاوة (¬2). والجواب: أنه سجدها شكرًا، لا للتلاوة؛ بدليل: ما ذكرنا في خبر آخر. واحتج: بأن من يقول: إنها سجدة شكر (¬3)، فإنه يفعلها للتلاوة، فإذا كان كذلك، قلنا: إن كل سجدة تعلقت بالتلاوة فإنها من سجدات التلاوة. دليله: سائر السجدات التي في القرآن. والجواب: أنها غير متعلقة بالتلاوة، وإنما [تكون] (¬4) شكرًا على ما أنعم الله على داود - عليه السلام - بقبول توبته واستغفاره لذنبه، وتكون التلاوة سببًا للعلم بذلك أو التذكر. واحتج: بأن مواضع السجود على ضربين: أحدهما: ذُم قوم على ترك السجود؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]، ومُدح قوم على فعل السجود؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [وَيُسَبِّحُونَهُ] (¬5) وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]، وقوله: ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 298). (¬2) هكذا في الأصل، ولعلها: التلاوة. (¬3) في الأصل: سجد شكر. (¬4) بياض في الأصل بمقدار كلمة، وتستقيم بالمثبت. (¬5) ساقطة من الأصل.

{وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] حكاية عنه على وجه المدح له، فوجب أن يكون موضعًا للسجود. والجواب: أنه ليس بمدح، إنما هو إخبار عن ذنبه واستغفاره وتوبته، قال: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24]؛ أي: علم داود قول الملكين له: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] تنبيهًا له على ذنبه في امرأة أوريا (¬1)، وليس كل خبر عن ذنب وتوبة يوجب أن يكون مدحًا لفاعله، فلم يكن حجة على أنه مدح؛ ولأنه إنما يكون حثًا وترغيبًا لمدح إذا كان المدح لمن أطاع من غير معصية، فأما من عصى ثم تاب، وأذنب ثم استغفر، فإنه إذا فعل ذلك ترغيبًا أو حثًا على مثله، وجب أن يكون حثًا على الذنب والتوبة، وهذا لا يجوز، فبان بهذا أنه ليس بمدح؛ إذ لو كان مدحًا، لم يكن للترغيب والحث والتحريض. واحتج: بأنه لو كان للشكر، لبطلت الصلاة به. والجواب: أنا لا نعرف الرواية في ذلك، ولو قلنا: إنها تبطل كسائر سجود الشكر، لم يمتنع، وإن قلنا: لا تبطل، فوجهه: أن سبب العلم بهذه النعمة هو القرآن وإذ (¬2) سبب، وجعل العلم بالسبب من جهة التلاوة لم تبطل الصلاة، وتخالف سائر سجود الشكر. ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير الطبري (20/ 67)، وتفسير القرطبي (18/ 155). (¬2) طمس في الأصل بمقدار كلمة.

25 - مسألة: في المفصل ثلاث سجدات: في آخر النجم، وفي الانشقاق، وفي العلق

والوجه الأول أقطع لكلام الخصم. * * * 25 - مَسْألَة: في المفصل (¬1) ثلاث سجدات: في آخر النجم (¬2)، وفي الانشقاق (¬3)، وفي العلق (¬4): نص على ذلك في رواية الجماعة (¬5): ........................ ¬

_ (¬1) المفصل اختلف فيه على أقوال لعل أصحها: أنه من أول سورة "ق" إلى آخر سورة الناس. وسمي بذلك: لكثرة الفصل بين سوره، أو لقلة النسخ فيه. ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع ص 94، والبرهان في علوم القرآن (1/ 245). (¬2) {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]. (¬3) {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]. (¬4) {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. (¬5) قال عثمان النجدي المعروف بابن قائد المتوفى سنة 1097 هـ في حاشيته على المنتهى (2/ 179): (وحيث أُطلق الجماعة، فالمراد بهم: عبد الله ابن الإمام، وأخوه صالح، وحنبل ابن عم الإمام، وأبو بكر المروذي، وإبراهيم الحربي، وأبو طالب، والميموني)، وأشار إلى أن هذا ما قاله الشيخ محمد الفارضي المتوفى سنة 981 هـ. وللشيخ الدكتور عبد الرحمن الطريقي - وفقه الله - بحث عن مصطلح الجماعة عند الحنابلة، نشر في مجلة جامعة أم القرى العدد 23، سنة 1422 هـ، انتهى فيه إلى أن المراد بالجماعة عند الإطلاق: =

الأثرم (¬1) , وحنبل (¬2)، وحرب (¬3)، وغيرهم (¬4). وهو قول أبي حنيفة (¬5)، والشافعي (¬6) - رحمهما الله -. ورُوي عن مالك - رحمه الله - روايتان، إحداهما: مثل هذا (¬7). والثانية - وهي الصحيحة -: لا سجود فيه (¬8). دليلنا: ما رُوي في حديث عمرو بن العاص الذي تقدم ¬

_ = عدم التحديد بعدد مقدر، أو معدود محدد بعينه، إنما رواية أكثر، قلتُ: وهو الذي يظهر، فأبو يعلى مثلًا في كتابه الروايتين (1/ 117) قال: (فنقل الجماعة، منهم: إسحاق بن إبراهيم، وأبو الحارث، وعلي بن سعيد ... ) وقال في (1/ 118): (فنقل الجماعة، منهم: عبد الله، ومهنا، وإسحاق بن إبراهيم، وابن مشيش، وحنبل، وأبو طالب ... )، فلم يطلقها - أي: رواية الجماعة - على أصحاب مسائل بأعيانهم، وقد يقال: إن مصطلح الجماعة عند المتأخرين من الحنابلة يختلف عن متقدميهم. (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 143). (¬2) لم أجدها. (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 144). (¬4) ينظر: مسائل عبد الله رقم (489)، ومسائل ابن هانئ رقم (488)، ومسائل الكوسج رقم (370). (¬5) ينظر: الحجة (1/ 83)، ومختصر القدوري ص 96. (¬6) ينظر: الإشراف (2/ 288)، والحاوي (2/ 202). (¬7) ينظر: الإشراف (1/ 270)، والمعونة (1/ 207). (¬8) ينظر: المدونة (1/ 109)، والإشراف (1/ 270).

ذكره (¬1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها: ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. وأيضًا: ما روى أحمد - رحمه الله - في مسائل عبد الله بإسناده (¬2) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم، فسجد فيها، وما بقي أحد من القوم إلا سجد، غير أن شيخًا أخذ كفًا من حصى أو تراب، فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد ذلك قُتل كافرًا (¬3). وروى أحمد - رحمه الله - في مسائل عبد الله بإسناده (¬4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سجدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] , و: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] (¬5). وروى أبو داود (¬6) عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، فسجد، فقلت: ما هذه السجدة؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه (¬7). ¬

_ (¬1) (1/ 288). (¬2) لم أجده في مسائل عبد الله المطبوعة، وهو في المسند برقم (3805، 4405). (¬3) مضى تخريجه (1/ 284). (¬4) لم أجده في مسائل عبد الله المطبوعة، وهو في المسند برقم (7396). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: سجود التلاوة رقم (578). (¬6) في كتاب: الصلاة، باب: السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ} رقم (1408). (¬7) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الجهر في العشاء رقم (766)، =

وهذه الأخبار نصوص في ذلك. ولأن مواضع السجود على ثلاثة أضرب: أحدها: ذمُّ قومٍ على ترك السجود؛ مثل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. ومدحُ قومٍ على السجود؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. وأمرُ قومٍ بالسجود؛ نحو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 77]، وهذه المعاني موجودة في المفصل؛ لأن قوله تعالى في آخر النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] أمر. وقوله تعالى في سورة الانشقاق: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20، 21]، ذم القوم على ترك السجود. وقوله تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] أمر، فيجب أن يكون ذلك من عزائم السجود. فإن قيل: قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ليس فيه مدح ولا ذم. قيل له: قد تقدم ذم، وهو قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61]؛ يعني: لاهون (¬1). ¬

_ = ومسلم في كتاب: المساجد، باب: سجود التلاوة رقم (578). (¬1) ينظر: تفسير الطبري (22/ 97)، وتفسير البغوي (4/ 319).

واحتج المخالف: بما روى أبو داود بإسناده (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة (¬2). وروى أبو داود بإسناده (¬3) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، فلم يسجد فيها (¬4). والجواب: أنا قد روينا في أخبارنا: أنه سجد، ونقل في أخبارهم الترك، فنحمل أخبارهم أنه ترك ليبين أنه ليس بواجب، وسجد ليبين أنه سنة. واحتج: بما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وزيد بن ثابت - رضي الله عنه -: ليس في المفصل سجود (¬5). ¬

_ (¬1) في كتاب: الصلاة، باب: من لم ير السجود في المفصل رقم (1403). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: ذكر الدليل على ضد قول من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في المفصل بعد هجرته إلى المدينة، رقم (560)، وذكره ابن المنذر في الأوسط (5/ 271)، وقال: (حديث قد تكلم في إسناده)، قال ابن عبد الهادي: (لا يصح). ينظر: التحقيق (2/ 335). (¬3) في كتاب: الصلاة، باب: من لم ير السجود في المفصل رقم (1404). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: سجود القرآن، باب: من قرأ السجدة ولم يسجد رقم (1073)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: سجود التلاوة رقم (577). (¬5) أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5900)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (4254)، وصحح إسناده ابن عبد البر في الاستذكار (8/ 96). =

26 - مسألة: لا يجوز أن يركع عند التلاوة بدلا عن السجود

والجواب: إنا قد روينا (¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سجد في سورة الانشقاق، فتعارضا، وكان قول أبي هريرة أولى؛ لأنه يوافق الأخبار، وفيه الاحتياط. والله تعالى أعلم. * * * 26 - مَسْألَة: لا يجوز أن يركع عند التلاوة بدلًا عن السجود: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية الأثرم: إذا كان السجود في آخر السورة، فقرأها في الصلاة، فإن شاء سجد، وإن شاء ركع (¬2)، ولم يرد بهذا أن الركوع يقوم مقام السجود، وإنما خيره إن شاء أسقط السجود أصلًا، وركع ركوع الصلاة؛ لأنه آخر السورة. ¬

_ = وأما أثر زيد - رضي الله عنه -، فلم أقف على سنده، وقد أشار إليه البيهقي في الكبرى (2/ 443)، وينظر: معرفة السنن والآثار (3/ 235)، إلا أن يكون المراد بالأثر: أن عطاء بن يسار سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام؟ فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء، وزعم أنه قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، فلم يسجد. فهذا مضى تخريجه في (1/ 306). (¬1) في (1/ 304). (¬2) لم أجد رواية الأثرم، وقد رواها عن الإمام أحمد الكوسجُ في مسائله رقم (380)، وينظر: المستوعب (2/ 254)، والمغني (2/ 369)، والإنصاف (4/ 217).

وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬1). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: هو بالخيار، إن شاء ركع، وإن [شاء] سجد (¬2). دليلنا: قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، وهذا أمر؛ ولأنه مستطيع للسجود، فلم يقم الركوع مقامه، دليله: سجود الصلاة. واحتج المخالف: بأن الركوع ركن، وهو خضوع في الصلاة، فجاز أن يجزئ في التلاوة، دليله: السجود، تبين صحة هذا: أنه قد يعبر بأحدهما عن الآخر، قال تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وأراد به: السجود. والجواب: أن الركوع، وإن كان خضوعًا، فإن السجود أبلغ في الخضوع منه، فلا يوجد معناه فيه، وعلى أن هذا المعنى لم يوجب أن ينوب الركوع فيه عن السجود في الصلاة، كذلك ها هنا في التلاوة. وقياس قول أحمد - رحمه الله -: أنه إذا قرأ سجدة في الصلاة، فأقام ركوع الصلاة مقامها أن يجزئه؛ لأنه قد قال في رواية الأثرم وغيره: إذا كانت السجدة في آخر السورة، أو قريبًا من آخرها، مثل سورة الأعراف، وبني إسرائيل، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، فركع ¬

_ (¬1) ينظر: حلية العلماء (1/ 204)، والمجموع (3/ 392). وهو قول المالكية. ينظر: المدونة (1/ 111)، والإشراف (1/ 270). (¬2) ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء (1/ 241)، والمبسوط (2/ 15 و 16).

حين فرغ من السورة، تجزئه سجدة الركعة من سجود التلاوة، ولفظ كلامه أنه قال: إن شاء سجدها، وإن شاء ركع (¬1)، بلغنا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ذلك (¬2). والخلاف في المسألتين خلاف واحد، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬3)؛ خلافًا للشافعي - رحمه الله - في قوله: لا يجزئه ذلك (¬4). دليلنا: قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، فعبر بالركوع عن السجود، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - في سورة الأعراف: إن شاء سجدها، وإن شاء ركع (¬5). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: إذا تلا سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] في غير الصلاة، سجد، وإذا تلاها في الصلاة، ركع ولم يسجد (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: ص 308، وينظر: الأوسط (5/ 286). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (5919)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 285)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 286): (رجاله ثقات). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء (1/ 241)، والمبسوط (2/ 15 و 16). (¬4) ينظر: حلية العلماء (1/ 204)، والمجموع (3/ 392). (¬5) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير رقم (8734)، وذكر الهيثمي في المجمع (2/ 286): أن رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا بين إبراهيم النخعي وبين ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬6) لم أجده، وأخرج الطبراني في المعجم الكبير رقم (8729) عن الأسود قال: سجدت مع عمر، ومع عبد الله في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، قال الأسود: أما أحدهما، فلا أشك فيه. قال الهيثمي في المجمع (2/ 286): (رواه =

27 - مسألة: سجود الشكر مستحب

فدل على أن ما بعد الركوع من السجود يقوم مقام سجود التلاوة، فيقع التداخل به. ولأنه إذا نوى أن يقيم ركوع الصلاة مقامها، قامت الركعة بسجودها (¬1) مقام سجدة التلاوة، وسجدة التلاوة يصح فيها التداخل، ولهذا إذا تلا السجدة في مجلس واحد مرتين، اقتصر على سجود واحد؛ لأن الفصل متقارب، ولو كانا في مجلسين، لم يتداخل، كذلك ها هنا بين قراءة السجدة وبين سجدة الصلاة زمان يسير، فتداخلا، ويفارق هذا سجود الصلاة؛ لأنه ليس مبناه على التداخل مع تقارب السجدتين. ولا معنى لقولهم: إن هذا سجود، فلا يقوم الركوع مقامه؛ كسجود الصلاة، وذلك أننا نقول بموجبه، ونقول: بأن إحدى السجدتين قامت مقام الأخرى؛ لتقاربهما، فأما أن نقول: الركوع قام مقامه، فلا، ولهذا نقول: لو قرأها خارج الصلاة، فأراد أن يجعل مكان السجود ركوعًا، لم يصح؛ لأنه ليس هناك سجود متكرر، فيتداخل، والله أعلم. * * * 27 - مَسْألَة: سجود الشكر مستحب: نص عليه في رواية حنبل، فقال: لا بأس به، وقد فعله أصحاب ¬

_ = الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات). (¬1) في الأصل: بسجدوها، والصواب المثبت.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو خير يأتيه، وشكر لله (¬1)، وكذلك نقل أبو طالب عنه: في الرجل يأتيه الأمر يسره: يسجد للشكر (1)، وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬2). وقال مالك (¬3)، وأبو حنيفة (¬4) - رحمهما الله -: هو مكروه. دليلنا: ما روى حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتقدمني، فوجدته ساجدًا، فوقفت أنتظره، فأطال، ثم رفع، فقلت له: لقد خشيت أن يكون الله تعالى قد قبض روحك في سجودك، فقال: "إني لما كنت حيث رأيتني، لقيني جبريل، فأخبرني عن الله تعالى أنه قال: من صلى عليك صلاة، صليت عليه عشرًا، فسجدت شكرًا لله تعالى" (¬5)، وهذا نص. ¬

_ (¬1) لم أجد رواية حنبل، ولا رواية أبي طالب، ووجدتها عن الإمام أحمد من رواية الكوسج في مسائله رقم (3344)، وينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 229)، والمغني (2/ 371)، ومختصر ابن تميم (2/ 226)، والإنصاف (4/ 234). (¬2) ينظر: الأوسط (5/ 287)، ومعرفة السنن والآثار (3/ 316)، والبيان (2/ 298). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 108)، والإشراف (1/ 271). (¬4) ينظر: التجريد (2/ 667)، وحاشية ابن عابدين (4/ 609). (¬5) لم أجد حديث حذيفة - رضي الله عنه -، ووجدت نحوه حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، أخرجه أحمد في المسند رقم (1664)، والبيهقي في الكبرى، كتاب، الصلاة، باب: سجود الشكر رقم (3936)، وحسنه الألباني في الإرواء (2/ 229)، وينظر: إعلام الموقعين (4/ 309).

وروى أبو بكر بإسناده عن معاذ - رضي الله عنه - قال: جئت أطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزله، فلم أجده، فخرجت في طلبه، فوجدته عند سلع (¬1) ساجدًا حتى أهوى، فجلست خلفه أنتظره، فلم يزل ساجدًا حتى ظننت أن الله تعالى قد قبض روحه، فرفع رأسه، فقال: "ألا أخبرك؟ "، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "أتاني جبريل - عليه السلام - قال: يا محمد! إن ربك يقول: ما أصنع بأمتك من بعدك؟ قلت: ذاك إلى الله يصنع بهم ما أحب، فذهب ثم رجع، فقال: إن ربك يقول: إني أَسُرُّكَ في أمتك، فحمدتُ الله سرورًا لأمتي، وشكرته، ولو علمت شيئًا أجلَّ من السجود، لفعلت" (¬2). فإن قيل: أنتم تستحبون سجود الشكر عند تجدد نعمة ظاهرة، وليس هذا من النعمة الظاهرة، فلا دلالة في الخبر على موضع الخلاف. قيل له: نزول جبريل - عليه السلام - بهذا من النعم الظاهرة، والبشارة السارة التي تقتضي السجود لشكرها، ويزيد على كل نعمة مما يستحب له السجود؛ من سلامة مال من غرق، أو سلامة دار من حرق، أو بلوغ أمل من قربة وطاعة، وتجدد رزق من مال، وولد، وزوجة، وما أشبه ذلك، وهذا لا يخفى على أحد، فسقط هذا السؤال. فإن قيل: نحمل هذا على الجواز، ونحن نجيز ذلك. قيل له: مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - المعروف: أنه مكروه، ¬

_ (¬1) سَلْع: قال الحموي: (بفتح أوله وسكون ثانيه ... : جبل بسوق المدينة، قال الأزهري: سلع: موضع بقرب المدينة)، معجم البلدان (3/ 236). (¬2) لم أجده.

فلا معنى لتأويل الخبر على خلاف المذهب، على أن الظاهر من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سنة تتبع، وإن لم يتكرر منه ذلك، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج في عمره مرة واحدة، وأفعاله فيها سنة، وإن لم يتكرر منه، ولم يداوم على فعله، وكذلك الاستسقاء بالصلاة والخطبة لم يفعله إلا مرة، وذلك سنة مستحبة. وعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد داوم على ذلك، وتكرر منه، وهو ما روى الشالنجي (¬1)، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر عبد العزيز بإسناده عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الأمر يسر به، يَخِرُّ ساجدًا شكرًا لله تعالى (¬2). وهذا يدل على أنه كان يسجد لِما يسره، ونحن نعلم أن ما سره تكرر منه، وكثر، فوجب أن يكون السجود قد تكرر منه وكثر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يداوم على فعل المكروه، ولا على فعل تركُه أولى من فعله. وروى الشالنجي أيضًا بإسناده عن يحيى بن الجزار (¬3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مضت ترجمته. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في سجود الشكر رقم (2774)، والترمذي في كتاب: السير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في سجدة الشكر رقم (1578)، وقال: (حديث حسن غريب ... والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم)، وابن ماجه في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، رقم (1394)، وحسنه الألباني في الإرواء (2/ 226). (¬3) العُرَني الكوفي، قيل: اسم أبيه: زبان، وقيل: بل لقبه، قال ابن حجر: =

مر به رجل به زَمانة (¬1)، فسجد، وسجد أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬2). وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر نغاشيًا، فسجد، ثم رفع رأسه، وقال: "نسأل الله العافية" (¬3)، ويريد بالنغاشي (¬4): الخلق صغير الجثة (¬5). وأيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سجدها نبي الله داود - عليه السلام - توبةً، وسجدناها شكرًا" (¬6)، وإذا سجد لنعمة على غيره، فالنعمة عليه أولى بالسجود للشكر. وأيضًا: فالمسألة إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. ¬

_ = (صدوق، رمي بالغلو في التشيع). ينظر: التقريب ص 658. (¬1) رجل زَمِن: أي مبتلى، والزمانة: العاهة، وهو مرض يدوم زمنًا طويلًا. ينظر: لسان العرب (زمن)، والمصباح المنير ص 212. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة رقم (8500)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجود الشكر، رقم (3939) ونص على أنه مرسل. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5960)، والدارقطني في سننه في كتاب: الصلاة، باب: السنة في سجود الشكر رقم (1528)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجود الشكر، رقم (3938) وقال: (منقطع ... وله شاهد). (¬4) طمس في الأصل بمقدار كلمة، ولعلها: ناقص الخلق. نسأل الله العافية. (¬5) ينظر: النهاية في غريب الحديث (نغش)، ولسان العرب (نغش). (¬6) مضى تخريجه (1/ 297).

وروى الشالنجي بإسناده عن أبي عون (¬1) قال: بلغ أبا بكر - رضي الله عنه - فتحُ اليمامة، فسجد لله تعالى (¬2). وروى ابن المنذر في كتابه (¬3): أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سجد حين وجد ذا الثدية (¬4)، ورواه أيضًا الشالنجي عن علي - رضي الله عنه -. وروى أيضًا عن كعب بن مالك - رضي الله عنه -: أنه لما نزلت توبته، خر ساجدًا (¬5). ¬

_ (¬1) هو: محمد بن عبيد الله بن سعيد، أبو عون الثقفي، الكوفي، الأعور. قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 551. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5962)، وابن أبي شيبة رقم (8499)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجود الشكر رقم (3940)، وفي سنده رجل لم يسم، قال الألباني: (رجاله ثقات، رجال الشيخين غير الرجل الذي لم يسم). ينظر: الإرواء (2/ 230). (¬3) الأوسط (5/ 288). (¬4) تصغير الثدي، وإنما أدخل فيه الهاء - وإن كان الثدي مذكرًا - كأنه أراد قطعة من ثدي. ينظر: لسان العرب (ثدي)، والنهاية في غريب الحديث (ثدي). والأثر: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5962)، وابن أبي شيبة رقم (8502)، والبيهقي في الكبرى كتاب: الصلاة، باب: سجود الشكر، رقم (3941)، وقواه الألباني بطرقه. ينظر: الإرواء (2/ 231). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، رقم (4418)، ومسلم في كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم (2769).

وروى أيضًا عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: أنه كان عندها شيء أعطاها النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه في سَفَط (¬1)، فلما قُتل عبد الله - رضي الله عنه -، ذهب، وأرسلت في طلبه رجلًا، فجاءها به، فسجدت (¬2)، وهذا كله يدل على ثبوت سجود الشكر وشهرته بينهم. واحتج المخالف: بأن نعم الله - عز وجل - على نبينا - صلى الله عليه وسلم - كانت ظاهرة، وآلاؤه لديه متواترة، من حين بُعث إلى أن قُبض، فمما أنعم الله: أنه اصطفاه بالرسالة، واجتباه للنبوة، وائتمنه على وحيه، وصيَّره سفيرًا بينه وبين خلقه، وجعله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وأيده بالبراهين الواضحة، والحجج اللائحة، والمعجزات الدالة على صدقِه، وصحةِ ما جاء به من عند ربه - عز وجل -، ثم مكّنه من أعداء الدين، وملَّكه رقابهم، وأموالهم، ولم ينقل عنه أنه سجد لشيء من ذلك شكرًا لله تعالى، فلو كان سجود الشكر مسنونًا (¬3) مستحبًا، لما جاز أن يتركه عند هذه النعم المتجددة، ولو فعل، لنُقِل، فلما لم ينقل، دل على أنه لم يفعل، وأنه غير مسنون (¬4). ¬

_ (¬1) السَّفَطُ: الذي يُعبَّأ فيه الطيب، وما أشبهه من أدوات النساء. ينظر: لسان العرب (سفط). (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير رقم (282)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 290): (إسناده حسن، وفي بعض رجاله كلام). تنبيه: في المعجم الكبير تصحف (سفط) إلى: (سقط). (¬3) في الأصل: منسوبًا، والصواب المثبت. (¬4) في الأصل: منسوب، والصواب المثبت.

والجواب: أنه يجب أن يكون قد سجد لذلك؛ لما روى أبو بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا أتاه أمر يسره، خر ساجدًا شكرًا لله - عز وجل - (¬1)، وعلى أنه ليس بواجب، فيجوز تركه، ولا يدل أنه ليس بمسنون (¬2)، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يترك التكرار في أعضاء الوضوء، ويقتصر على مرة (¬3)، ومرتين في أوقات (¬4)، ويستوفي الثلاث في أوقات (¬5)، وكذلك استسقى بالصلاة مرة (¬6)، واستسقى بالدعاء أخرى (¬7)، وكان فعله لذلك كله سنة، وتركه إياه لا يدل على أنه ليس بسنة، كذلك ها هنا. واحتج: بأن الناس شكوا إليه القحط، وقالوا: هلكت المواشي (¬8)، ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 313). (¬2) في الأصل: منسوب، والصواب المثبت. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة، رقم (157). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الوضوء مرتين مرتين رقم (158). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا رقم (159)، ومسلم في كتاب: الوضوء، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (236). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب: الاستسقاء، باب: صلاة الاستسقاء ركعتين، رقم (1026)، ومسلم في كتاب: صلاة الاستسقاء، رقم (894). (¬7) أخرجه البخاري في كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، رقم (1013)، وفي كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3582)، ومسلم في كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء، رقم (897). (¬8) اسم يقع على الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يستعمل في الغنم. ينظر: =

وأجدبت الأرض (¬1)، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستسقى، فأرسلت السماء عزاليها (¬2)، فدام المطر أسبوعًا، ثم شكوا إليه كثرةَ المطر، فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، على الآكام (¬3)، ومنابت الشجر"، فتقشعت السماء حتى صارت كالإكليل (¬4) حول المدينة. فليت شعري! أي نعمة أكثر وأظهر؟ ثم لم ينقل أنه سجد لله - عز وجل -. والجواب عنه: ما تقدم من الوجهين: أحدهما: أن حديث أبي بكرة (¬5) يدل على أنه سجد، وإن لم يُنقل. والثاني: أنه قد كان يترك ما هو مسنون، ولا يدل على أنه ليس ¬

_ = النهاية في الغريب (مشى). (¬1) أي: قحطت. ينظر: لسان العرب (جدب). (¬2) في الأصل: غزائلها. والتصويب من صحيح البخاري، وقد مضى تخريج الحديث الصفحة السابقة حاشية (6). والعزالي: جمع العزلاء، وهو فم المزادة الأسفل، فشبه اتساع المطر واندفاقه بالذي يخرج من فم المزادة. ينظر: النهاية في غريب الحديث (عزل). (¬3) الآكام: دون الجبل وأعلى من الرابية، وقيل: هو الرابية. ينظر: شرح مسلم للنووي (6/ 433)، والنهاية في غريب الحديث (أكم). (¬4) الإكليل: كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس، فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج. ينظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 652). (¬5) مضى تخريجه (1/ 313).

بمسنون (¬1)، مثل تكرار الغَسل، والاستسقاء بالصلاة، كذلك ها هنا. واحتج: بأن الإنسان لا يخلو في كل وقت من نعم يجددها الله - عز وجل - عنده، أو نقمة يصرفها عنه، فلو كان السجود مسنونًا مستحبًا لها، لوجب أن يسجد في كل وقت، وقد علم عجزه عن أداء ذلك والقيام [به] (¬2)، وما أدى إلى ذلك لم يصح اعتباره. والجواب: أنا إنما نستحبه عند تجدد النعمة الظاهرة، أو انصراف نقمة ظاهرة، وهذا لا يؤدي إلى ما قالوه، والفرق بينهما ظاهر معقول لكل أحد من الناس. ولهذا ترى العقلاء يهنئون بالسلامة من خوف عارض في الحوار (¬3)، ولا يفعلون ذلك في كل ساعة من ساعات النهار، وإن كان الله - عز وجل - يصرف عنهم البلاء والآفات، ويمتعهم بأسماعهم وأبصارهم وعقولهم وأديانهم، ويفرقون في التهنئة [بين] (2) النعم الظاهرة والباطنة، كذلك السجود للشكر يتعلق بإحداهما دون الأخرى. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم أهل البلاء، فسلوا الله العافية" (¬4)، وهذا يدل على أنه لا يسجد. ¬

_ (¬1) في الأصل: بمنسوب. (¬2) ما بين القوسين مضافة ليستقيم الكلام. (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: في الجوار. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وذكره ابن القيم في عدة الصابرين ص 95، وقد جاء =

28 - مسألة: إذا صلى، وليس بين يديه شيء، فإنه يقطع صلاته الكلب الأسود البهيم

والجواب: أنا نجمع بين الخبرين، ونقول: يسجد، ويسأل الله العافية. والله أعلم. * * * 28 - مَسْألَة: إذا صلى، وليس بين يديه شيء، فإنه يقطع صلاتَه الكلبُ الأسودُ البهيم: نص عليه (¬1) في رواية أبي طالب (¬2)، وصالح (¬3)، وحبيش بن سندي (¬4)، فقال: يقطع الكلب، فأما المرأة، فإذا ذهب إلى حديث ¬

_ = عند الترمذي بلفظ: "من رأى مبتلى، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، لم يصبه ذلك البلاء" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا رأى مبتلى رقم (3432). وينظر: السلسلة الصحيحة رقم (2737). (¬1) قال ابن قدامة: (نقله الجماعة عنه). ينظر: المغني (3/ 97)، وينظر: مسائل عبد الله رقم (484)، ومسائل الكوسج رقم (290)، ومسائل ابن هانئ رقم (319)، ومسائل أبي داود رقم (318). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 136). (¬3) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وهي في الروايتين (1/ 136). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 136). وحبيش بن سندي: لا مزيد في اسمه، ولم أعثر على تاريخ وفاته، قال أبو بكر الخلال: (من كبار أصحاب أبي عبد الله ... كتب عن أبي عبد الله نحوًا =

عائشة - رضي الله عنها - (¬1)، وأما الحمار، فإذا ذهب إلى حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2)، بمعنى: لا يقطعان الصلاة. وهو قول الحسن (¬3)، ومجاهد (¬4)، ....................... ¬

_ = من عشرين ألف حديث، وكان رجلًا جليل القدر جدًا، وعنده عن أبي عبد الله جزآن مسائل مشبعة حسان جدًا ... فمضيت إليه، فأبى أن يحدثني بها، وقال: أنا لا أحدث بهذه المسائل وأبو بكر المروذي حي). ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 390)، والمقصد الأرشد (1/ 356). (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب سترة المصلي، باب: من قال: لا يقطع الصلاة شيء رقم (514)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي رقم (512). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب سترة المصلي، باب: سترة الإمام سترة من خلفه، رقم (493)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي رقم (504). (¬3) الذي وقفت عليه من قول الحسن - رحمه الله -: أن الكلب، والمرأة، والحمار يقطعون الصلاة. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2920)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 100). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2914). ومجاهد هو: ابن جبر، أبو الحجاج المكي، لزم ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأخذ عنه القرآن والتفسير والفقه، وحدث عن جمع من الصحابة، قال الذهبي: (الإمام، شيخ القراء والمفسرين)، توفي سنة 102 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 449).

وعكرمة (¬1)، وطاوس (¬2)، وعطاء (¬3)، ومكحول (¬4). وقال أبو حنيفة (¬5)، ومالك (¬6)، والشافعي (¬7) - رضي الله عنهم -: لا يقطع صلاته شيء. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (2354)، وعن عكرمة: (أن الكلب، والخنزير، واليهودي، والنصراني، والمجوسي، والمرأة الحائض يقطع الصلاة). أخرجه عبد الرزاق رقم (2352)، زاد ابن أبي شيبة: (الحمار)، في مصنفه رقم (2921). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2922). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (2347)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2924). وعطاء هو: ابن أبي رباح بن أسلم، أبو محمد القرشي مولاهم، حدث عن جمع من الصحابة، قال الذهبي: (الإمام، شيخ الاسلام، مفتي الحرم)، توفي سنة 115 هـ. ينظر: سير الأعلام (5/ 78). (¬4) الذي وقفت عليه من قول مكحول - رحمه الله -: أن المرأة، والحمار، والكلب يقطع صلاة الرجل. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2918). ومكحول هو: أبو عبد الله الشامي، اشتهر باسمه، وهو عالم أهل الشام، كان يرسل عن كثير من الصحابة، ولم يلقهم. قال ابن حجر: (ثقة، فقيه، كثير الإرسال)، توفي سنة 112 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 155)، والتقريب ص 608. (¬5) ينظر: المبسوط (1/ 348)، وفتح القدير (1/ 287). (¬6) ينظر: المدونة (1/ 114)، والمعونة (1/ 215). (¬7) ينظر: الأوسط (5/ 105)، والبيان (2/ 158).

دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬1) قال: نا إسماعيل عن يونس (¬2)، عن حميد بن هلال (¬3)، عن عبد الله بن الصامت (¬4)، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحدُكم قام يصلِّي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثلُ آخِرَةِ الرَّحل، فإذا لم يكن بين يديه مثلُ آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاتَه الحمارُ، والمرأةُ، والكلبُ الأسود"، قال: فقلت: يا أبا ذر! ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال: يا بن أخي! سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "الكلب الأسود شيطان" رواه مسلم (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (21342). (¬2) ابن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبيدة البصري، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، فاضل، ورع)، توفي سنة 139 هـ. ينظر: التقريب ص 687. (¬3) ابن هبيرة العدوي، أبو نصر البصري، قال ابن حجر: (ثقة، عالم). ينظر: تهذيب الكمال (7/ 403)، والتقريب ص 168. (¬4) الغفاري، البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي بعد السبعين من الهجرة. ينظر: التقريب ص 323. (¬5) في كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي رقم (510). وآخرة الرحل: هي العود الذي في آخر الرحل. ينظر: شرح مسلم للنووي (4/ 440). ومسلم هو: ابن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، قال ابن حجر: (ثقة، حافظ، مصنِّف، عالم بالفقه)، له مصنفات، من أهمها: الصحيح، والتمييز، توفي سنة 261 هـ. ينظر: التقريب ص 589.

فإن قيل: تعليله بأنه شيطان يدل على نسخه لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مر بي شيطان وأنا أصلي، فخنقته، ولو ما سبق من دعوة سليمان - عليه السلام - لأصبح مربوطًا إلى سارية المسجد" (¬1)، فدل على أن مرور الشيطان لا يبطل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مضى في صلاته. قيل: يحتمل إن يكن اعترضَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمر بينه وبين ستره (¬2). فإن قيل: الخبر منسوخ في حق المرأة والحمار، فيجب أن يكون جميعه منسوخًا. قيل: ولمَ إذا نُسخ بعضُ حكمه نُسخ جميعه؟ ونحن نعلم أن القبلة نُسخت عن بيت المقدس، ولم يوجب ذلك نَسخ جميع شرائطها، على أن ابن منصور (¬3) قد روى عن أحمد - رحمه الله -: أن المرأة والحُمُر يقطعان الصلاة على ظاهر الحديث. وقد روى أبو بكر النجاد في كتابه بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع الصلاةَ: الكلبُ، والحمارُ، والمرأةُ الحائض، واليهوديُّ، والنصرانيُّ، والخنزيرُ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الأسير أو الغريم يربط في المسجد رقم (461)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة رقم (541). (¬2) كذا في الأصل. (¬3) في مسائله رقم (291)، وينظر: الروايتين (1/ 135). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة، رقم =

وروى بإسناده عن الحسن عن الحكم بن عمرو الغفاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع الصلاةَ: الكلبُ، والحمارُ، والمرأةُ" (¬1). وروى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع الصلاةَ: الحمارُ، والمرأةُ" (¬2). وروى بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقطع الصلاةَ: الكلب، والحمار، والمرأة" (¬3). ¬

_ = (704)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يقطع الصلاة إذا لم يكن بين يديه سترة رقم (3487)، قال أبو داود: (في نفسي من هذا الحديث شيء ... وأحسبه وهم)، ونصَّ ابن رجب: أنه منكر. ينظر: الفتح (2/ 703). (¬1) أخرجه الطبراني في المعجم رقم (3161)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 60): (فيه عمر بن دريح، ضعفه أبو حاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات)، والحديث في صحيح مسلم، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، رقم (511) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (2350) بزيادة لفظ: "والكلب"، وفي سنده أبو هارون العبدي. قال الحافظ في التقريب ص 449: (متروك، ومنهم من كذبه)، والحديث في صحيح مسلم، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، رقم (511) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البزار في مسنده رقم (7461)، قال الدارقطني: (الموقوف أصح)، ووافقه ابن رجب. ينظر: العلل (12/ 124)، وفتح الباري (2/ 705). والحديث في مسلم كما مضى.

وروى بإسناده عن الحسن عن عبد الله بن المغفل - رضي الله عنه - مثلَه (¬1). ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. روى أبو بكر النجاد بإسناده عن بكر بن عبد الله (¬2) قال: كنت أصلي إلى جنب عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، فمرّ جروٌ (¬3) بيني وبينه، ثم مر بين يدي، فقال عبد الله: أما أنت، فأعد الصلاة، وأما أنا، فلا أعيد (¬4). وروى بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال: يقطع صلاة الرجل: المرأة، والحمار، والكلب (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند رقم (16797)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما يقطع الصلاة، رقم (951)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه. وللفائدة ينظر: علل الدارقطني (9/ 93)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 704). (¬2) المزني، أبو عبد الله البصري، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، جليل)، توفي سنة 108 هـ. ينظر: سير الأعلام (4/ 532)، والتقريب ص 101. (¬3) الجرو: الصغير من كل شيء، والمراد به هنا: صغير الكلب. ينظر: لسان العرب (جرا). (¬4) أخرجه ابن المنذر في الأوسط (5/ 101)، وهو عند ابن أبي شيبة (2923): أن ابن عمر أعاد ركعة من جرو مرّ بين يديه في الصلاة. وينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 699 و 716). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2916)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 101)، وأخرجه البزار في مسنده رقم (7461) مرفوعًا، والموقوف على أنس - رضي الله عنه - أصح كما قاله الدارقطني في العلل (12/ 124).

وروى بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: يقطع الصلاة: الكلب الأسود، والمرأة الحائض (¬1). وروى بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: لا يقطع الصلاةَ إلا الكلبُ الأسود (¬2). ولأن الشرع قد ورد أن تكون بين يدي المصلي سترة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جعلتَ بين يديك مثلُ آخرة الرحل، فلا يضرك مَنْ مر بين يديك" (¬3)، فإذا صلى، وليس بين يديه سترة، فمر بين يديه كلب أسود، فقد أخلَّ بسترة ورد الشرع بها في حقِّ المصلي، فجاز أن يكون للإخلال بها تأثير في بطلان الصلاة، دليله: ستر العورة. فإن قيل: ليس المبطلُ للصلاة الإخلالَ بالسترة، وإنما المبطل لها فعلٌ من جهة الغير، وهو الكلب، ألا ترى أنه لو لم ينصب سترة، ولم يجز بين يديه كلب، لم تبطل صلاته، وإن لم يكن بين يديه سترة؟ قيل: فعل الغير إنما أبطل لأجل الإخلال بها، ألا ترى أنه لو مرَّ هذا ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (2354)، وابن أبي شيبة رقم (2919)، وجزم ابن المنذر أنه قول ابن عباس. ينظر: الأوسط (5/ 102)، وللفائدة ينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 702). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (2907)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 102)، وجزم ابن قدامة أنه قول عائشة - رضي الله عنها -. ينظر: المغني (3/ 97). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي رقم (499).

الكلب من وراء السترة، لم تبطل صلاته، وإنما تبطل إذا مرَّ بين يديه كلب أسود، ولا سترةَ هناك. وليس يمتنع أن يكون وجوبُها مراعًى، فإن اجتاز (¬1) كلب أسود، تبين أنها كانت شرطًا في صحة الصلاة، وإن لم يجز كلب، تبينا أنها لم تكن واجبة، كما قلنا فيمن كان جالسًا في موضع خالٍ (¬2) من الناس، قلنا: يجوز لك كشفُ عورتك بشرط أن لا ينظر إليك أحد، فلو كان هناك مَنْ ينظر إليه، وهو لا يعلم به، تبينا أنها كانت واجبة عليه. وأيضًا: فإنه مصل مرَّ بين يديه كلب أسود، فجاز أن تبطل صلاته، دليله: المأموم إذا لم يقر (¬3) في صلاته، وكان إلى جنب الإمام، فمر بين يديه كلب أسود، أو كان إلى جنب الإمام، أو إلى جنب امرأة، وبين يديه كلب أسود، ولا يجوز أن يقال: إن هناك تبطل، وإن لم يمر بين يديه كلب؛ لأنا نسلم ذلك. وأيضًا: فإنها صلاة، فجاز أن تبطل بفعل من جهة الغير. دليله: الجمعة تبطل بانفضاض العدد، وهو فعل الغير، ولا يمكن القول بموجب العلة، وهو إذا ألقى عليه الغير نجاسة؛ لأن بطلانها هنا لم يكن بفعل الغير، وإنما كان بترك المصلي لها عليه، وكذلك إذا انقضت مدة المسح، أو ظهر القدمان (¬4)، أو انقطع دم الاستحاضة: أن الصلاة ¬

_ (¬1) في الأصل: اخبار. (¬2) في الأصل: خالي. (¬3) كذا في الأصل، وقد تكون: يقتد. (¬4) في الأصل: القدمين.

لا تبطل، لكن بفعل الله تعالى (¬1)، ونحن قلنا بفعل الغير، وإطلاق ذلك ينصرف إلى المخلوقين، وكذلك إذا وجد الماء في الصلاة؛ لأنه إن كان قد وجده في موضع، فليس ذلك بفعل الغير، وإن جاء به ركب، فليس البطلان بفعل الغير، وإنما هو بفعله، وهو ترك الاستعمال، ألا ترى أنه لو رآه، وهو لا يقدر على استعماله لمرض أو عطش، لم تبطل صلاته؟ واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقطع صلاة المرء شيء، وادرؤوا ما استطعتم" (¬2)، وهذا عام. والجواب: أنا نخصُّه، ونحمله على غير الكلب الأسود؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأنه ذو روح، فلم تبطل الصلاة به، دليله: الأصفر والأبيض وسائر الحيوانات. والجواب: أن هذا قياس يعارض النص، والإجماع، فلم يصح استعماله، على أنه ليس إذا لم يقطعها غير الأسود، وتجب أن لا يقطعها الأسود، ألا ترى أن النوم جالسًا لا يقطع الطهارة عندهم، ويقطعها القائم والساجد؟ وكذلك مس الذكر ببطن كفه ينقض، ولا ينقض بظهره، وأجود ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا يقطع الصلاة شيء، رقم (719)، وضعفه ابن الجوزي في التحقيق (3/ 215)، والنووي في شرح مسلم (4/ 451).

29 - مسألة: إذا صلى على ظهر الكعبة، أو في جوفها صلاة الفريضة، لم تصح صلاته

من هذا: أن دم الاستحاضة ودم الحيض يشتركان في الاسم، ويختلفان في الحكم، وكذلك بول الغلام والجارية. واحتج: بأنه فعل من جهة الغير، فلم تبطل صلاته كسائر الأفعال. والجواب: أنه يلزم عليه انفضاض العدد في صلاة الجمعة، والله أعلم. * * * 29 - مَسْألَة: إذا صلى على ظهر الكعبة، أو في جوفها صلاةَ الفريضة، لم تصح صلاته: وقد نص أحمد - رحمه الله - على المنع في رواية إبراهيم بن الحارث، فقال: لا يصلي فوق بيت الله الحرام (¬1)، وكذلك نقل الأثرم عنه: إذا صلى فوق الكعبة، فلا تجوز صلاته (¬2)، وكذلك نقل أحمد بن القاسم (¬3) - وقد سئل عن الصلاة المفروضة في الكعبة -، فقال: في نفسي منه شيء (¬4)، ¬

_ (¬1) ينظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/ 489). (¬2) ينظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/ 489). (¬3) لا مزيد في اسمه على ما ذكره المؤلف، غير أن له مسائل عن الإمام أحمد، وهو صاحب لأبي عبيد القاسم بن سلام. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 135)، والمقصد الأرشد (1/ 155). (¬4) ينظر: شرح العمدة (2/ 500).

وحُكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه كان ينكره (¬1)؛ لأنه يجعل بعض البيت خلفه، والتطوع أسهل، والصلاة فوقه أيسرُ من الصلاة فيه، وكذلك نقل المروذي عنه: أنه قال: لا يصلي في الحِجْر، الحجر من البيت (¬2)؛ فقد منع الصلاة فيه، وحمل أصحابنا ذلك المنعَ على الإبطال، وقد أطلق أحمد - رحمه الله - القولَ في رواية أبي طالب (¬3) - وقد سئل: أيصلي الرجل في البيت؟ - قال: نعم، ويقوم كما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأسطوانتين، وهذا محمول على صلاة التطوع. فأما قوله في رواية ابن القاسم: الصلاة فوق أيسر، فقد نقل الأثرم عنه خلاف هذا، فقال: أما فوق الكعبة، فلم يختلفوا بأنه لا يجوز، واحتج بالحديث: "لا قِبلَة له" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: من كبر في نواحي الكعبة، رقم (1601)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، رقم (1331). (¬2) ينظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/ 489)، والفروع (2/ 124)، وحاشية ابن قندس (2/ 123). (¬3) ينظر: الفروع (2/ 114)، والمبدع (1/ 399)، والإنصاف (3/ 316)، ونقل نحوها الكوسج في مسائله رقم (1547). وحديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأسطوانتين: أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الأبواب والغلق للكعبة رقم (468)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج، رقم (1329). (¬4) ينظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/ 489). ولم أقف على حديث: "لا قبلة له".

وقال أبو حنيفة (¬1)، وداود (¬2): تجوز الصلاة فيها، وعلى ظهرها إذا كان قدامه شيء من السطح، أو أرض البيت. وروي عن مالك روايتان: إحداهما: مثل مذهبنا، وهو المشهور عنهم، والثانية: مثل قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬3). وقال الشافعي - رضي الله عنه -: إن صلى على ظهرها، لم (¬4) إلا أن يكون بين يديه سترة مبنية بجص أو طين، فأما إن كان لَبِنًا، أو آجرًا منصوبًا بعضُه فوق بعض، لم تجز، وإن غرس خشبة، فاختلفوا، فمنهم من قال: تصح، ومنهم من قال: تبطل. وإن صلى في جوفها مقابلًا للباب، لم تجز إلا أن يكون بين يديه عتبة شاخصة متصلة بالبناء (¬5). دليلنا على أنه لا تجوز صلاة الفرض من فوقها ولا فيها، سواء كان بين يديه سترة متصلة أو لم يكن: قوله - سبحانه وتعالى -: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. ومنه ثلاثة أدلة: أحدها: أنه أمرنا أن نصلي إلى البيت؛ لأن الشطر هو: النحو ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء (1/ 233)، والهداية (1/ 93). (¬2) ينظر: المحلى (4/ 53). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 91)، والإشراف (1/ 271)، والكافي ص 39. (¬4) كذا في الأصل، ولعلها: لم يجز. (¬5) ينظر: الأم (2/ 223 و 8/ 552)، والحاوي (2/ 206)، والبيان (2/ 137).

والتلقاء، ومنه قول الشاعر: أقولُ لأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمي (¬1) ... صُدورَ العِيسِ (¬2) شَطْرَ بَني تَميمِ (¬3) يعني: نحوهم، وإذا كان مأمورًا أن يصلي إلى البيت، فإذا صلى على ظهره، فهو مصلٍّ (¬4) عليه، وليس بمصلًّ إليه، فيجب أن لا تصح صلاته، ألا ترى أن المصلي على الراحلة يسمى مصليًا عليها، ولا يسمى مصليًا إليها، وكذلك إذا صلى على بساط، قالوا: صلى عليه، ولا يقولون (¬5): صلى إليه، وكذلك من صلى في دار، يقال: صلى فيها، ولا يقال: صلى إليها، فلما كان المصلي عليها وفيها لا يكون مصليًا إليها، كان الأمر بالصلاة إليها باقيًا، فيلزمه إعادتها. ¬

_ (¬1) في الأصل: أقيمن أم زنباع أقيمن، والتصويب من كتاب الأغاني (10/ 229). (¬2) في الأصل: العيش، والتصويب من كتاب الأغاني (10/ 229). (¬3) وقائل هذا البيت هو: أبو جندب بن مرة الهذلي، من شعراء هذيل المعدودين، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، ومات في الحرم وهو يعتمر. ينظر: الشعر والشعراء ص 440، والأغاني (10/ 229)، ولقصيدته هذه تتمة، ومناسبتها حث على طلب الثأر. ينظر: الأغاني (10/ 227)، ولسان العرب (شطر). (¬4) في الأصل: مصلي. (¬5) في الأصل: يقولوا.

فإن قيل: إذا كان بين يديه جزء من البيت، أو من السطح، فقد صلى إليه. قيل له: فيجب إذا صلى على الراحلة وعلى البساط يقال (¬1): قد صلى إلى الراحلة وإلى البساط؛ لأن بين يديه جزء [اً] منه، وأحد من أهل اللغة لا يقول هذا. والدليل الثاني من الآية الكريمة: أنه بالصلاة إلى البيت (¬2)، وإذا صلى فيه أو عليه، فقد صلى إلى بعضه وجزء منه، وهذا خلاف ما اقتضاه الأمر. فإن قيل: الشطر لا يقتضي الجملة، وإنما يقتضي البعض، ولهذا يقال: شطرت الشيء؛ أي: جعلته نصفين (¬3)، ويقولون في مثلٍ لهم: احلب حلبًا لك شطره؛ أي: نصفه (¬4). قيل له: يجوز أن يستعمل الشطر في البعض في غير هذا الموضع، فأما في هذا الموضع، فلا؛ لما روي عن علي (¬5)، .............. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله الأصوب: أن يقال. (¬2) كذا في الأصل، والمراد: أنه أُمِر بالصلاة إلى البيت. (¬3) ينظر: لسان العرب (شطر). (¬4) ينظر: مجمع الأمثال (1/ 347). (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 664)، والحاكم في المستدرك في كتاب: التفسير، من سورة البقرة رقم (3064)، وقال: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي في التلخيص.

والبراء بن عازب (¬1) - رضي الله عنهما -: أن الشطر: النحو، والقبالة، فكان المرجع إلى التفسير في ذلك أولى. وعلى أن الموضع الذي يستعمل فيه الشطر للبعض فهو النصف، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تمكث شطر دهرها" (¬2)، والمراد به: النصف، ومنه: لو وصى لرجل بشطر ماله، كان له نصفه، وأحد ما قال: يجب أن يتوجه إلى نصفه، فامتنع أن يكون المراد: البعض، وإنما المراد به: النحو. والثالث من الآية الكريمة: أن الأمر إنما يتوجه إلينا إذا كنا على صفة يصح منا فعلُ المأمور به وتركُه؛ لأن المأمور إنما يكلَّف ليفعل أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (399)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة رقم (525). (¬2) قال البيهقي: (طلبته كثيرًا، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسنادًا بحال)، وقال ابن الملقن: (وقد نص غير واحد من الحفاظ على أنه لا يُعرفُ له أصل)، وقال: (أما ما ذكره ابن تيمية في "شرح الهداية" لأبي الخطاب عن القاضي أبي يعلى: ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في "سننه": أنه - عليه السلام - قال: "تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي". وعبد الرحمن ليس له سنن، وسننه التي عزاه إليها لم نقف عليها، بل ولا سمعنا بها، فالله أعلم). ينظر: معرفة السنن والآثار (2/ 145)، والبدر المنير (3/ 55). وفي صحيح مسلم: (تمكث الليالي ما تصلي). كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات رقم (132).

يترك، فما لا يصح منا تركُه، لا يصح أن يؤمر بفعله، ومعلوم أن من هو في البيت أو فوقه لو أراد أن لا يولي وجهه شطره، لم يمكنه، فعلم أنه مأمور بأن يحصل على صفة يصح منه الفعل والترك، وهو الخروج عنه. ومن جهة السنة: ما روى أبو بكر الأثرم بإسناده، وذكره أبو بكر في كتابه عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلَّى في ظهر بيت الله" (¬1). وروى شيخنا (¬2) في كتابه بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في سبعة مواطن: المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، والحمام، ومَحَجَّة الطريق، وظهر بيت الله الحرام، ومَعاطِن الإبل" (¬3)، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة: باب: ما جاء في كراهية ما يصلى إليه، رقم (346)، وقال: (إسناده ليس بذلك القوي)، وابن ماجه في كتاب: المساجد: باب: المواضع التي تكره فيها الصلاة، رقم (746)، قال ابن حجر: (في سند الترمذي: زيد بن جبيرة، وهو ضعيف جدًا، وفي سند ابن ماجه: عبد الله بن صالح، وعبد الله بن عمر العمري المذكور في سنده ضعيف أيضًا)، ينظر: التلخيص الحبير (2/ 603). (¬2) المراد به: ابن حامد - رحمه الله -. (¬3) ينظر: حاشية رقم (1)، قال ابن تيمية بعد أن ذكر تضعيف بعض أهل العلم لهذا الحديث: (وهذا الكلام لا يوجب رد الحديث لوجهين ... )، ثم ذكرهما، وأطال في ذلك. ينظر: شرح العمدة (2/ 432). =

فإن قيل: نحمله عليه إذا كان مقتديًا بغيره، فيكون هو فوق السطح، وإمامُه على ظهر الأرض، فيكره له ذلك. قيل له: لا يجوز حملُه على ذلك؛ لأنه لا يختص به ظهر الكعبة، بل المساجد كلها في ذلك سواء. فإن قيل: نحمله على مَنْ صلى على طرف ليس بين يديه من أرض السطح شيء. قيل له: هذا لا يصح؛ لأن هذا اسم يعم جميع أرض السطح، ولا يصح حمله على غيره، وأيضًا: رُوي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه نهى عن الصلاة على ظهر الكعبة (¬1)، وروى عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لا يصلى في جوف الكعبة، ولا في فوقها، وفي لفظ آخر: لا تجعل شيئًا من البيت خلفك (¬2). والقياس يقول: صلى على الكعبة، فلم تصح صلاته, كما لو صلى ¬

_ = والمجزرة: موضع الجزارين الذي تنحر فيه الإبل، وتذبح البقر والشاء، وتباع لحمانها. ومحجة الطريق: جادة الطريق، وهي المقصد والمسلك. لسان العرب (جزر)، و (حجج). (¬1) لم أقف على من أخرجه، وذكره ابن تيمية، وذكر أن القاضي ذكره. ينظر: شرح العمدة (2/ 490). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة رقم (3398)، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 100): (حديث حسن).

على منتهى طرف سطحها، وافق أبو حنيفة - رحمه الله -: أنها لا تصح، وكما لم يكن بين يديه سترة ظاهرة، وافق الشافعي - رحمه الله - على أنه لا تصح صلاته. فإن قيل: المعنى فيه إذا كان هناك سترة: أنه صلى إلى شيء شاخص منها، فلهذا لم يكره. قيل له: فإذا صلى على جبل أبي قبيس (¬1)، جازت صلاته، وإن لم يكن مصليًا إلى شيء شاخص منها، فبطل هذا. فإن قيل: المعنى فيه إذا لم يكن بين يديه شيء من سطح البيت، ولا شيء من أرضه: أنه غير متوجه إلى شيء من البيت، فلهذا لم تجزئه، وها هنا هو متوجه إلى شيء من البيت، فأجزأه كما لو كان خارجًا منه. قيل له: هو مأمور بالتوجه إليه، لا إلى شيء منه؛ بدليل قوله - عز وجل -: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]؛ ولأنه إذا صلى فيه أو عليه، فلا يوصف بأنه متوجه إليه؛ كما لا يوصف من صلى على الراحلة ولا على البساط أنه متوجه إليه، وإنما يقال: هو مصل عليه لا إليه، وعلى أنه إذا كان خارجًا منها لا يقال: صلى إلى شيء منها، وإنما صلى إلى ¬

_ (¬1) أبو قبيس: بلفظ التصغير كأنه تصغير قبس النار، وهو اسم الجبل المشرف على مكة، وجهه إلى قعيقعان، ومكة بينهما، أبو قبيس من شرقيها، وقعيقعان من غربيها؛ قيل: سمي باسم رجل من مذحج كان يكنى أبا قبيس، لأنه أول من بنى فيه قبة، ... وكان في الجاهلية يسمى الأمين؛ لأن الركن كان مستودعًا فيه أيام الطوفان، وهو أحد الأخشبين. ينظر: معجم البلدان (1/ 80).

جميعها، كما أن من صام جميع شهر رمضان لا يوصف بأنه صام يومًا منه؛ ولأنه صلى وهو مستدبر لشيء من القبلة في حال القدرة على الاستقبال، فلم يصح فرضه؛ كما لو رفع بنيان البيت، ولن يرفع. فإن أصحاب الشافعي - رحمهم الله - قالوا (¬1): لا تصح الصلاة فيه، وإنما تصح إليه، وإن شئت قلت: استدبرَ من البيت ما لو استقبله، أجزأه، فلم تصح صلاته، دليله: خارج البيت، ولا نوع عبادة تختص البيت، فلا يصح فعلها فيه، ولا عليه، دليله: الطواف، ولا يلزم عليه صلاة النافلة؛ لأن التعليل لجملة النوع، والنافلة بعض النوع. فإن قيل: الطواف يفارق الصلاة، ألا ترى أنه لا يصح نفلُه فيها، ولا عليها؟ وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يصح نفل الصلاة فيها وعليها، فصح فرضها. قيل له: صلاة النافلة تصح على الراحلة، ولا تصح الفريضة، كذلك في مسألتنا. فإن قيل: إنما لم يصح الطواف فيها ولا عليها؛ لأنه لا يستوعب البيت العتيق بالطواف. قيل له: كذلك إذا صلى فيها، فهو مستدبر لشيء منها، وهو مأمور بالاستقبال، ممنوعٌ من الاستدبار؛ ولأنه إذا صلى فيها، فهو مستقبل لها، ومستدبر أيضًا، فقد اجتمع في هذه الصلاة حظر يختصها وإباحة، فوجب ¬

_ (¬1) ينظر: المهذب (1/ 224)، والبيان (2/ 138).

أن يغلب حكم الحظر، كما إذا اجتمع ذلك في الذكاة، وفي المنكوحة. فإن قيل: لا تأثير لقولك: مستدبر لشيء من البيت، وعندك: أنه لو وقف بمنتهى (¬1) البيت بحيث لا يكون خلفه شيء، لم يصح. قيل: تعليل أحمد - رحمه الله - في رواية ابن القاسم يقتضي الجواز؛ لأنه قال له: لم كرهت الصلاة في البيت؟ قال: لأنك تجعل بعض البيت خلفك، ولو لم يقل هذا، لم يضر؛ لأنه إذا لم يستدبر، لبطل لعلة واحدة، وإذا صلى في وسطه، بطل لعلتين. وطريقة أخرى، وهو: أن استقبال القبلة شرط من شرائط الصلاة؛ كالستارة، والطهارة، ثم ثبت أنه لو ستر بعض العورة، وكشف بعضها، أثَّر الكشف في الستر، ومنع من صحة الصلاة، وكذلك لو غسل بعض الأعضاء، ولم يغسل بعضها، أثَّر ما لم يغسله فيما غسله، ومنع من صحة الصلاة، كذلك ها هنا إذا استقبل بعضها، واستدبر بعضها، أثر ما استدبره فيما استقبله، ومنع من الصحة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، فأخبر أن البيت محل الركوع. والجواب: أن معناه: للركوع والسجود إليه، لا فيه، ألا ترى أنه قال: {لِلطَّائِفِينَ}، وأجمعنا على أنه لا يجوز الطواف فيه؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: متتها. والتصويب من شرح العمدة (2/ 488)، ولفظه: (فلو سجد على منتهى السطح، أو على عتبة الباب، لم تصح صلاته).

واحتج بما رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، فصلى فيه (¬1). والجواب: أن تلك الصلاة كانت نافلة؛ لأنه رُوي: أنه لما دخل، أغلق الباب عليه، وصلى ركعتين، ومعلوم أنه ما كان ينفرد بصلاة الفريضة وحدَه، بل يجمع بمن معه. واحتج: بما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أصلي في البيت؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "في الحِجْر؛ فإنه من البيت" (¬2). والجواب: أنا نجيز النذر في البيت؛ لأن النذر يعتبر فيه لفظ الناذر، ولهذا نقول: لو نذر أن يصلي على الراحلة، أجزأه، ولو أطلق النذر، لم يجزئه. واحتج: بأنها بقعة طاهرة مستقبل بها البيت، فصحت، كما لو كان خارج البيت. والجواب: عن قوله: مستقبل بها البيت، لا نسلِّم؛ لأن من صلى فيه وعليه لا يقال: صلى إليه، كما لا يقال: صلى إلى الراحلة، وإلى ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 331). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: الصلاة في الحجر رقم (2028)، والترمذي في كتاب: الحج، باب: ما جاء في الصلاة في الحجر رقم (876)، وقال: (حديث حسن صحيح)، والنسائي في كتاب: الحج، باب: الحجر، رقم (2912)، جميعهم بلفظ: "فإنَّما هو قطعة من البيت"، وصححه الألباني في إرواء الغليل رقم (1106).

البساط، ثم المعنى هناك: أنه يصير (¬1) مستدبر [اً] لشيء من البيت، وها هنا هو مستدبر فلم تصح صلاته؛ تغليبًا للحظر. واحتج: بأن كل بقعة جاز فعلُ النافلة فيها، جاز فعلُ الفرض فيها، دليله: خارج البيت. والجواب: أنه لا يمتنع أن تجوز صلاة النافلة، وإن لم تجز صلاة الفريضة، كما قلنا في الصلاة على الراحلة، ثم المعنى في الأصل ما ذكرنا. واحتج: بأنكم أجزتم صلاة النافلة في الكعبة، ولو كان في حكم المستدبر، لم يجز فعله في الكعبة؛ لأن القبلة لا يجوز تركها إلا على الراحلة. والجواب: أنه لا يمتنع الإخلال بها في النافلة؛ كما جاز الإخلال بالقيام فيها، ولم يجز ذلك في الفريضة. واحتج: بأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، ووجدنا أن استدباره لبعضها ليس بنهي عن الاستقبال. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يكون الاستدبار نهيًا عمّا استقبله، ويؤثر في البطلان؛ كما أنّ كشف (¬2) بعض العورة ليس بنهي عما ستره، وقد أثر في البطلان، وكذلك ما لم يغسله من الأعضاء ليس بنهي عما ¬

_ (¬1) في الأصل: يخير. (¬2) في الأصل: انكشف.

30 - مسألة

غسله، وقد أثر في البطلان. واحتج: بأنه لو صلى على عتبة الكعبة، صحت صلاته، كذلك إذا صلى داخلها. والجواب: أنا لا نعرف الرواية فيه، وتعليله يقتضي جواز الصلاة؛ لأنه قال: لا يجوز الصلاة في الكعبة؛ لأنه يستدبر، فاقتضى تعليله: أنه إذا كان على العتبة بحيث لا يستدبر منه: أنه يجوز، وكان المعنى فيه: أنه غير مستدبر لشيء من القبلة، وها هنا هو مستدبر لشيء منها، فلهذا لم يصح. فإن قيل: فما تقولون في الحِجْر؟ قيل: نقول ما نقول في البيت، نص عليه في رواية ابن القاسم، فقال: الصلاة في الحجر بمنزلة الصلاة في البيت. آخر الجزء الثالث عشر من أجزاء المصنف - رحمه الله -. * * * 30 - مَسْألَة إذا صلى في المواضع المنهي عن الصلاة فيها، وهي: المقبرة، والحمام، والحُشّ، وقارعة الطريق، وأعطان الإبل (¬1)، ¬

_ (¬1) العطن للإبل كالوطن للناس، وقد غلب على مبْركِها حول الحوض. ينظر: اللسان (عطن).

وظهر بيت الله الحرام، كُره له ذلك، وهل تبطل صلاته، أم لا؟ على روايتين: إحداهما: تبطل: نص عليه في رواية صالح: في الصلاة في مواضع نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معاطن الإبل والمقبرة: يعيد الصلاة (¬1)، وهو اختيار الخرقي (¬2). والثانية: لا تبطل صلاته: نص عليه في رواية أبي الحارث في الصلاة في المقبرة والحمام ومرابض الإبل (¬3): يكره ذلك، قيل: فإن صلى يعيد؟ قال: إن أعاد (¬4)، كان أحبَّ إليَّ (¬5)، وبهذا قال أكثر الفقهاء (¬6). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (610)، وينظر: مسائل عبد الله رقم (307 و 308)، ومسائل الكوسج رقم (292)، ومسائل ابن هانئ رقم (350). (¬2) في مختصره ص 53. (¬3) كذا في الأصل، والأصوب: معاطن الإبل. (¬4) في الأصل: إن عادت. والتصويب من الروايتين (1/ 156). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 156). (¬6) ينظر للحنفية: مختصر اختلاف العلماء (1/ 302)، وبدائع الصنائع (1/ 539 و 542)، وللمالكية: المدونة (1/ 90)، والكافي ص 66، وللشافعية: الأم (2/ 210)، والبيان (2/ 109)، وللحنابلة: المغني (2/ 473)، والإنصاف (3/ 296).

وروى حنبل عنه: لا يصلي في أعطان الإبل، فإن صلى ولا يعلم، ولم يسمع الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رجوت أن لا يلزمه الإعادة، وإن كان قد سمع وفعل، أعاد (¬1). فقد فرق بين أن يكون قد بلغه النهي، وخالفه: أن صلاته تبطل، وهذا يدل من مذهبه على أنه حمل النهي على التحريم والإبطال. والدلالة على أن صلاته باطلة: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: نا أحمد بن عبد الملك (¬3) قال: نا محمد بن سلمة (¬4) عن محمد بن إسحاق (¬5)، عن عمرو بن يحيى بن عمارة (¬6)، عن أبيه (¬7)، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل الأرض مسجد وطهور، إلا ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 156). (¬2) رقم (11784). (¬3) ابن واقد الحراني، قال ابن حجر: (ثقة تُكُلم فيه بلا حجة)، توفي سنة 221 هـ. ينظر: التقريب ص 52. (¬4) ابن عبد الله الباهلي مولاهم، الحراني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 191 هـ. التقريب ص 536. (¬5) ابن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، قال ابن حجر: (إمام المغازي، صدوق يدلس)، توفي سنة 150 هـ. ينظر: التقريب ص 523. (¬6) ابن أبي حسن المازني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي بعد سنة 130 هـ. ينظر: التقريب ص 474. (¬7) يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني، الأنصاري، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 665.

المقبرة والحمام" (¬1)، وهذا يمنع أن يكون المقبرة والحمام مسجدًا وطهورًا، وإذا لم تكن مسجدًا، لم تصح صلاته. وروى أحمد - رحمه الله - (¬2)، وذكره حنبل قال: نا غندر (¬3) عن هشام (¬4)، عن محمد (¬5) حديثه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا لم تجدوا إلا مرابضَ الغنم ومعاطنَ الإبل، فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل" (¬6)، وهذا نهي، ................... ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب: الصلاة، باب: في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، رقم (492)، والترمذي، كتاب: مواقيت الصلاة، باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، رقم (317)، وقال: (هذا حديث فيه اضطراب)، وابن ماجه، كتاب: المساجد، باب: المواضع التي تكره فيها الصلاة، رقم (745)، قال الدارقطني في العلل (11/ 321): (والمرسل المحفوظ). (¬2) في المسند رقم (9825). (¬3) هو: محمد بن جعفر الهُذَلي، البصري، المعروف بـ (غندر)، قال ابن حجر: (ثقة صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلة)، توفي سنة 193 هـ. ينظر: التقريب ص 528. (¬4) ابن حسان الأزدي القُرْدوسي، أبو عبد الله البصري، قال ابن حجر: (ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين)، توفي سنة 147 هـ. ينظر التقريب ص 639. (¬5) هو: ابن سيرين. (¬6) أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل رقم (348)، وقال: (حديث حسن صحيح)، وابن =

والنهي يدل على فساد المنهي عنه. وروى أبو محمد بن أبي حاتم (¬1)، وشيخنا أبو عبد الله في كتابه بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في سبع مواطن: المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، والحمام، ومحجة الطريق، وظهر بيت الله الحرام، ومعاطن الإبل" (¬2). وروى النجاد بإسناده عن هشام، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلوا على جَوادِّ الطريق" (¬3). ¬

_ = ماجه، كتاب: المساجد والجماعات، باب: الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، رقم (768)، وهو في صحيح مسلم بلفظ ( ... قال: أُصلِّي في مبارك الإبل؟ قال: "لا") من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، كتاب: الحيض، باب: الوضوء من لحوم الإبل، رقم (360). (¬1) في علله رقم (412)، ونقل كلام أبي حاتم - والدِه - في تضعيفه لهذا الحديث. وأبو محمد: مضت ترجمته. (¬2) مضى تخريجه (1/ 336). قوله: "سبع مواطن" الأشهر: أن يكون "سبعة مواطن" وقد يكون له وجه في اللغة، لا سيما وأن مَنْ أخرج الحديث أورده بهذا اللفظ، ولهذا قال أبو الفتح عثمان بن جني في كتابه المحتسب (1/ 236): (ليس ينبغي أن يُطلق على شيء له وجه من العربية قائم - وإن كان غيره أقوى منه - أنه غلط). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (14277)، وابن ماجه، كتاب: الطهارة وسننها، باب: النهي عن الخلاء على قارعة الطريق رقم (329)، قال ابن =

وروى أُسيد بن حُضير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل" (¬1). وروى أبو بكر بإسناده عن بسر بن عبيد الله (¬2): أنه سمع أبا مرثد الغنوي - رضي الله عنه - يخبر: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" (¬3). فإن قيل: إنما نهى عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأجل أبوالها. قيل: أجاب أبو بكر عن هذا، فقال: لو كان كذلك، لم يفرق بينه وبين مرابض الغنم؛ لأنه فيها بولها. ¬

_ = الملقن: (إسناده صحيح)، وقال ابن حجر: (إسناده حسن). ينظر: البدر المنير (2/ 314)، والتلخيص الحبير (1/ 276). (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (19096)، والطبراني في الكبير رقم (559)، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 310): (وهو حديث مرسل؛ فإن ابن أبي ليلى لم يسمع من أسيد بن حضير). ينظر: حاشية رقم (1) ص 272. (¬2) في الأصل: بشر بن عبد الله. والتصويب من صحيح مسلم. وبسر هو: ابن عبيد الله الحضرمي، ثم الشامي، قال ابن حجر: (ثقة، حافظ). ينظر: التقريب ص 96. تنبيه: بين بسر وأبي مرثد - رضي الله عنه - واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه -، لعله سقط من النساخ. والاستدراك من صحيح مسلم. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، رقم (972).

فإن قيل: إنما نهى عن الصلاة فيها؛ لأنها تنفر، فتفزع المصلي، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنها جن من جن" (¬1). قيل: أجاب أبو إسحاق (¬2) عن هذا بأنه: لو كان كذلك، ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على البعير، ولا إليه. فإن قيل: إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لأنه مناخ الركبان، وكانوا يبولون ويتغوطون في أمكنتهم، ثم يرحلون، فنهى أن يُصلى في أعطانها؛ لمواضع أبوال الناس. قيل: قد روى أبو محمد [بن] (¬3) أبي حاتم في كتابه بإسناده (¬4) عن عبد الله (¬5) بن مغفل المزني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان" (¬6)، فجعل ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده رقم (57)، وهو في كتابه الأم (2/ 207)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ذكر المعنى في كراهية الصلاة في أحد هذين الموضعين، رقم (4358) قال ابن رجب: (فيه ضعف). الفتح (2/ 420)، وذكر الألباني أنه ضعيف جدًا، فيه إبراهيم الأسلمي (متروك). ينظر: السلسلة الضعيفة رقم (2210). (¬2) ابن شاقلا، مضت ترجمته. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) لم أجده. (¬5) في الأصل: أبي عبد الله، والتصويب من المسند. (¬6) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (16799)، والنسائي في كتاب: المساجد، =

العلة معنى لا في الركبان. ولأن الشافعي - رضي الله عنه - قد قال (¬1): "العطن: موضع قرب البئر التي يسقى بها"، وليس العادة أن يبال في هذا الموضع. فإن قيل: إنما نهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مألفة الجن، ويشهد لذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام هو وأصحابه في الوادي حتى طلعت الشمس، لم يصل فيه (¬2). قيل: هذا يحتاج إلى نقل أنها مألفة الجن، وعلى أنه نقل في الخبر حكم وسبب، فالحكم المنع، والسبب العطن، فإذا حمل على ما ذكر، عدل به عن سببه. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: روى حميد عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت أصلي وبين يدي قبرٌ وأنا لا أشعر، فناداني عمر - رضي الله عنه -: القبر؛ فظننت أنه يعني القمر، فرفعت رأسي إلى السماء، فقال رجل: إنما يعني القبر، فتنحيت عنه (¬3). ¬

_ = باب: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في أعطان الإبل، رقم (735)، وابن ماجه، كتاب: المساجد والجماعات، باب: الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، رقم (769)، وقال الذهبي في تنقيح التحقيق (2/ 330): (سنده صحيح). (¬1) في كتاب الأم (2/ 208). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: التيمم، باب: الصعيد الطيب، رقم (344)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة، رقم (681). (¬3) أخرجه البخاري معلقًا جازمًا به في كتاب: الصلاة، باب: هل تنبش قبور =

وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا يُصلّى في حمام، أو عند قبر (¬1). وقال جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: لا يُصلّى في أعطان الإبل (¬2). وكذلك رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬3). ذكر شيخنا - رحمه الله - هذه الأخبار في كتابه، وهذا كله يدل على البطلان. ولأنه صلى في المقبرة، والحمام، وأعطان الإبل، وقارعة الطريق، فلم تصح صلاته، كما لو صلى في هذه المواضع مع الإمام، ولم يقر (¬4) ¬

_ = مشركي الجاهلية؟ وهو عند عبد الرزاق في مصنفه موصولًا عن معمر، عن ثابت البناني، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬1) بنحوه أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (7671). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (3902)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 188)، وجزم بأن جابرًا - رضي الله عنه - قاله. (¬3) لم أجد أثر ابن عمر - رضي الله عنهما -، وذكره ابن تيمية بصيغة التمريض في شرح العمدة (2/ 438)، وأشار محقق كتاب الأوسط لابن المنذر (2/ 187) أن الاسم مصحف، وأنه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وأثر ابن عمرو أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (3904 و 7659)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 188). (¬4) هكذا في الأصل، ولعلها: يقرأ، وتحتمل أن تكون الراء دالًا فتكون: ولم يقدمه في صلاته، وسبب هذا الاحتمال: أن بعضًا من فقهاء الحنابلة يضرب مثالًا بفساد صلاة المأموم بتقدمه على إمامه، وكون امرأة بجانبه. ينظر مثلًا: الفروع (3/ 39).

في صلاته، أو صلى إلى جنب امرأة. فإن قيل: المعنى في ذلك: أنه لو صلى في غير هذه المواضع، بطلت صلاته. قيل له: ليس كذلك عندنا؛ لأنها بقعة منهي عن الصلاة فيها نطقًا، فلم تصح الصلاة فيها، أصله: البقعة النجسة، ولا يلزم عليه لو صلى في دار الحرب مع قدرته على الهجرة: أنه تصح صلاته؛ لأن النهي عن الصلاة فيها استدلالًا، لا نطقًا. ولا يلزم عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬1)؛ لأن غير المسجد ليس بمنهي عن الصلاة فيه؛ بدليل أنه لو صلى في جماعة في منزله، لم يكن منهيًا عن الصلاة فيه، وإن شئت قلت: هذا النهي يختص الصلاة، أشبهَ البقعة النجسة. واحتج المخالف: بما روى أحمد - رحمه الله - بإسناده (¬2)، وذكره حنبل عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركَتْ [رجلًا من] (¬3) أمتي الصلاةُ، فعنده ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: حث جار المسجد على الصلاة فيه، رقم (1553)، قال ابن حجر في التلخيص (2/ 919): (مشهور بين الناس، وهو ضعيف، ليس له إسناد ثابت). (¬2) في المسند رقم (22137). (¬3) ساقطة من الأصل، والتكملة من المسند.

31 - مسألة: إذا أسلم المرتد، لم يلزمه قضاء ما تركه من الصلوات والزكوات في حال ردته

مسجدُه وطَهورُه" (¬1). والجواب: أنا قد روينا في خبر آخر زيادة، وأنه قال: "إلا المقبرة والحمام" (¬2)، والأخذ بالزيادة أولى. واحتج: بأنها بقعة طاهرة مستقبل بها القبلة، فيجب أن تصلح صلاته فيها. دليله: سائر البقاع. والجواب: أن هذا قياس يعارض الخبر، فيجب أن يسقط، ثم المعنى في تلك البقاع: أنه غير منهي عن الصلاة فيها، وهذه البقاع بخلافه، فهي كالبقعة النجسة. والله أعلم. * * * 31 - مَسْألَة: إذا أسلم المرتد، لم يلزمه قضاء ما تركه من الصلوات والزكوات في حال رِدَّته: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، رقم (4267)، وصحح إسناده ابن الملقن في البدر المنير (2/ 624)، وبنحوه أخرجه البخاري في كتاب: التيمم، رقم الحديث (335)، ومسلم في كتاب: المساجد، رقم الحديث (521) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (¬2) مضى تخريجه (1/ 346).

هكذا ذكره شيخنا (¬1)، وقال أبو إسحاق ابن شاقلا: فيه روايتان: إحداهما: لا قضاء عليه. والثانية: عليه القضاء، وقد أومأ أحمد - رحمه الله - إلى الروايتين جميعًا (¬2). فقال في رواية ابن منصور (¬3): في المرتد إذا أسلم، وقد حال على ماله الحول، فلا يزكيه، ويستأنف الحول، وهذا نص في إسقاط قضاء الزكاة، وحكمُ الصلاة كذلك. وقال أيضًا في رواية مهنا - فيما حكاه أبو بكر الخلال في أحكام أهل الملل (¬4) -: إذا ارتد، ولحقَ بدار الحرب، فقَتل بها رجلًا مسلمًا، ثم عاد وقد أسلم، فأخذه وليّه، هل عليه قود؟ فقال: قد زال عنه الحكم؛ لأنه قتله وهو مشرك، وكذلك إن سرق وهو مشرك، فقيل له: فيذهب دم الرجل؟ فقال: لا أقول في هذا شيئًا. وظاهر هذا يقتضي إسقاط القضاء؛ لأنه إسقاط (¬5) الحد، وهو حق الله تعالى، وتوقف عن القصاص. ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (2/ 49)، والإنصاف (3/ 11). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 347)، المغني (2/ 48)، وشرح العمدة (2/ 37)، والإنصاف (3/ 11). (¬3) في مسائله رقم (623). (¬4) رقم المسألة (1298). (¬5) كذا في الأصل، ولعلها: أسقط.

وبهذا قال أبو حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، وداود (¬3) - رحمهم الله -. وقد رُوي عنه ما يدل على إيجاب القضاء، فقال في رواية ابن منصور (¬4)، ومهنا (¬5) فيما حكاه أبو بكر بن جعفر في كتابه: في مرتد زنى وسرق وقطع الطريق وقتل النفس، ولحق بدار الحرب، ثم أخذه المسلمون؟ فقال: تقام عليه الحدود، ويُقتص منه، فقيل له في ذلك، فقال: تقام عليه الحدود والقصاص (¬6). وهذا يقتضي إيجابَ القضاء؛ لأنه لم يسقط عنه الحد في حال الردة، وهو حق لله تعالى، وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬7). فالدلالة على إسقاط الحد: قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وهذا عام في كل كافر. فإن قيل: الله تعالى علق الغفران بشرط الانتهاء، والانتهاء لا يحصل عندنا إلا باعتقاد وجوب القضاء لما تركه من الصلوات في حال الردة. ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 377)، وحاشية ابن عابدين (4/ 461). (¬2) ينظر: المدونة (2/ 166)، والإشراف (1/ 273). (¬3) ينظر: المحلى (2/ 148). (¬4) في مسائله رقم (3483)، وهي في أحكام أهل الملل رقم المسألة (1297). (¬5) ينظر: أحكام أهل الملل رقم المسألة (1296). (¬6) ينظر: الروايتين (2/ 307). (¬7) ينظر: الأم (2/ 154)، والمجموع (3/ 6).

قيل له: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} [الأنفال: 38] معناه: فإن ينتهوا من الكفر، وإذا أسلم المرتد، فلقد انتهى من الكفر، واعتقاد قضاء ما تركه في حال الكفر ليس من الانتهاء من الكفر في شيء، والذي يدل على ذلك: أن وجوب قضائها مختلف فيه، وهو مما يشرع فيه الاجتهاد، فلا جائز أن يكون شرطًا في إيمانه عن الكفر. فإن قيل: هذا خطاب لغير المرتدين؛ بدليل: أنه لم يكن في وقت نزول هذه الآية مرتدون، وإنما كانوا كفار الأصل (¬1)، ويدل عليه: أنه قال: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] في وقعة بدر، وهذا يدل على أن المراد: كفار الأصل. قيل له: الحكم يتعلق بعموم اللفظ دون السبب، واللفظ عام في كفار الأصل، والمرتدين، فوجب حمله على عمومه. فإن قيل: الغفران يرجع إلى الذنب دون الواجبات؛ بدليل: أنه يقال: أُبرئ من الواجب، ولا يقال: غُفر له، ويدل عليه: أن المرتد إذا أسلم، لا يسقط عنه المطالبة بحقوق الآدميين، وإنما يسقط الذنب والإثم الذي كسبه بالكفر. قيل له: لو خُلِّينا والظاهر، لقلنا: إن حقوق الآدميين تسقط بالانتهاء، لكن قام دليل الإجماع على أن حقوق الآدميين لا تُغفر، وبقي ما عداه على موجب الظاهر، وقولهم: إن لفظة الغفران لا تستعمل في الواجبات، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

وإنما يرجع إلى الذنب لا يضر؛ لأن من أوجب القضاء ولم يقض، يقول: بأن ذنبه لا يغفر، فظاهر الآية يقتضي الغفران عنه بترك القضاء. ومن جهة السنة: ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الإسلام يَجُبُّ ما قبله" (¬1)، يعني: يقطع حكمَ ما قبله، وهذا عام في المأثم وغيره. والقياس: أنها صلوات تركَها في حال كفره، فلا يجب عليه قضاؤها بعد الإسلام. دليله: الكافر الأصلي. فإن قيل: الكافر الأصلي لم يلتزم وجوبَها، فلم يطالَب بها، والمرتد قد التزم وجوبَها. قيل له: اللزوم لا يتعلق بالالتزام، ألا ترى أن الكافر الأصلي والمرتدَّ سواءٌ في لزوم الإسلام والشرائع، وإن كان أحدُهما التزم، والآخر لم يلتزم؟ فلو كان القضاء لازمًا لأحدهما، كان لازمًا للآخر؛ كلزوم الصلاة في الأصل، وسائر العبادات. فإن قيل: المسلم إذا ترك الصلاة، لزمه قضاؤها، والكافر الأصلي لا يلزمه، وليس ها هنا معنى يفرق بينهما، إلا أن المسلم التزمها، والكافر لم يلتزمها، كذلك يجب أن يفرق بين الكافر الأصلي وبين المرتد بهذا المعنى. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (17777)، واللفظ له، ومسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، رقم (121).

قيل له: المسلم لم يلزمه القضاء؛ لأنه التزم، ألا ترى أنه يسقط عنه القضاء في حال إسلامه، مع وجود هذا المعنى؟ وهو: إذا أغمي عليه عندهم. فإن قيل: الكفر الأصلي يطول، فلو قلنا: إنه يوجب القضاء، شق ذلك، ونَفَّر من الإسلام، والردة يقلُّ زمانُها، فلا يشق إيجابُ القضاء. قيل له: هذا لا يدل على إيجاب القضاء؛ كما لم يدل زمان الإغماء على إيجاب القضاء عندَك، وإن كان الزمان في العادة يقلُّ، وكذلك زمان الحيض، والنفاس، والجنون، وعلى أنه قد يرتد، ويلحق بدار الحرب، ويطول مكثه فيها، فكان يجب أن يسقط عنه القضاء لهذا المعنى الذي ذكره. وقياس آخر: وهو أن الكفر الأصلي لا يوجب القضاء، فالطارئ منه لا يوجب القضاء، دليله: الجنون. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتُها" (¬1)، ومنه دليلان: أحدهما: أن المرتد إذا ترك الصلاة ناسيًا، أو في حال نومه، يجب عليه قضاؤها بحق الظاهر. ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، رقم (597)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة، رقم (684).

والثاني: أن الناسي يقع على الترك عمدًا، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، يعني: تركوا الله، فتركهم (¬1)، فأوجب القضاء على من ترك الصلاة. والجواب: أن المرتد لا يدخل تحت العموم، ألا ترى أنه قال: "فليصلِّها إذا ذكرها"، وهذا يقتضي أن يكون ممن يصح منه فعلُ الصلاة في حال ذِكْره، ولو ترك المرتد صلاة ناسيًا، ثم ذكرها في حال ردته، لم يصح منه فعلُها، فعُلِم أنه غير داخل تحت اللفظ. وأما قولهم: إن الناسي يقع على التارك عمدًا، فلا يصح؛ لأن النسيان تركٌ على صفة، وهو أن لا يكون معه ذِكْرٌ، ألا ترى أنه يصح أن يقال: ترك صلاته عمدًا، ولا يصح أن يقال: نسيها عامدًا، ويقال: تكلم في صلاته ناسيًا، ولا يقال فيها: تكلم عامدًا (¬2)؟ والذي يدل عليه: أنه قال: "فليصلها إذا ذكرها"، فعلم أن المراد به: تركها مع فقد الذكر لها. وأما قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} مجاز؛ لأنهم فعلوا ما يفعل الناسي من ترك الذكر لله - عز وجل -، فأجرى عليهم لفظ الناسي، ثم أجرى لفظ النسيان على الله - عز وجل - على طريق المقابلة؛ كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، والجزاء ليس بسيئة. ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير الطبري (11/ 549). (¬2) في الأصل: تاركًا.

واحتج: بأنه تركَ الصلاة بمعصية بعد اعتقاد وجوبها، فوجب أن يلزمه القضاء؛ قياسًا على السكران، وقولهم: بمعصية، يحترزون به من المجنون، والمغمى عليه، والحائض، وقولهم: بعد اعتقاد وجوبها، يحترزون به من الحربي. والجواب: أن شرط المعصية لا تأثير له في الأصل؛ لأنه لو كان السكر بغير معصية، وجب عليه القضاء أيضًا، وهو أن يكره على الشرب، فإن قاس على المسلم إذا تركها متعمدًا بغير عذر بهذه العلة، أجبنا عنه: بأن شرط المعصية في هذا الأصل لا معنى له؛ لأن المسلم لو تركها غير متعمد، وجب عليه القضاء، وهو أن ينسى أو ينام. فإن قيل: له تأثير؛ لأنه لو تركها في حال الإغماء، لم يجب عليه القضاء؛ لأنه غير معصية. قيل له: هناك لم يسقط القضاء عندك؛ لأنه غير معصية؛ بدليل: أن الناسي والنائم غير عاصٍ، ويجب القضاء، فعلمنا أن المغمى عليه لم يسقط بهذه العلة، وعلى أنه لا تأثير له في الفرع أيضًا؛ لأن المرتد لو أغمي عليه أيامًا، ثم أفاق وأسلم، وجب عليه القضاء، وعلى أن هذا منتقض بالحامل إذا ضربت بطنها، فأسقطت ونفست: أنها تترك الصلاة بسبب هو معصية بعد اعتقاد وجوبها، ولا قضاء عليها. فإن قيل: المعنى هناك هو الضربةُ، والتركُ بالنفاس، وذلك ليس بمعصية؛ لأنه يحدث بفعل الله تعالى.

قيل له: وكذلك السكر ليس بمعصية؛ لأنه يحدث بفعل الله تعالى، وإنما المعصية هو نفس الشرب، ثم المعنى في الأصل: أن ترك الصلاة لم يقارنه الشرك، ولا ما يسقط، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الشرك قارنها، فمنع من قضائها؛ كالكفر الأصلي. واحتج: بأنه ترك الصلاة بعد الإسلام في حال التمكن من فعلها، أو في حال القدرة على فعلها، فلزمه قضاؤها؛ قياسًا على العامد والسكران، وفيه احتراز من الحائض، والنفساء، والمجنون، والمغمى عليه؛ فإنهم لا يقدرون على فعل الصلاة الشرعية، وفيه احتراز من الكافر الأصلي؛ لقوله: بعد الإسلام. والجواب: أنه لا تأثير للقدرة والتمكن في الأصل؛ لأن المسلم إذا ترك الصلاة وهو نائمٌ، أو ناسٍ، أو سكران، فإنه يجب عليه قضاؤها، وإن كان لا يقدر على فعلها. فإن قيل: للقدرة تأثير في الحائض، والمجنون، والمغمى عليه. قيل: إنما يؤثر ذلك في حكمهما (¬1) إذا كان سقوط القضاء عنهم لعدم القدرة والتمكن، وليس لهذه العلة، ألا ترى أن النائم، والناسي، والسكران يجب عليهم، وإن كان التمكن معدومًا في حقهم؟ فامتنع أن يكون سقوط القضاء عنهم لتلك العلة، وهي عدم التمكن. فإن قيل: سقوط القضاء عن الحائض، والمغمى عليه، والمجنون ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: في حكمهم.

لعدم القدرة والتمكن، بمعنى: يكثر مصادفته للصلاة، ويفارق النوم، والسكر، والنسيان؛ فإنه لا يكثر مصادفته للصلاة، فلم يسقط القضاء. قيل له: الإغماء لا يكثر مصادفته، وهو مسقط للقضاء عندك، فامتنع أن يكون العلة ما ذكرت. فإن قيل: مشاركة من لا يقدر على فعلها في سقوط القضاء لا يمنع تأثير العلة؛ لأن القضاء إذا وجب على من لا يقدر على فعلها، كان من يقدر على فعلها وتركها أولى بوجوب القضاء من طريق التنبيه. قيل له: فيجب أن يوجب القضاء على الكافر الأصلي، لوجود هذه العلة فيه، وهو قدرته على فعلها، وعلى أنه إنما يكون تنبيهًا على القادر إذا سلمنا أن العلة في إيجاب القضاء القدرةُ، فنقول: إذا وجب على من لا يقدر، أولى أن يجب على من يقدر، ونحن لا نسلم أن العلة هذه، ألا ترى أن الحربي يقدر ولا يقضي؟ ويفارق هذه قوله تعالى: {فَلَا تَقُلُ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]: أنه تنبيه على الضرب؛ لأن علة النهي هناك رفع الضرب عنهم، وهذا موجود في القليل والكثير، وأما الأصل، فقد تكلمنا عليه. واحتج: بأنه جحودٌ توسَّطَ بين إقرارين، فوجب أن لا يكون للجحود حكم فيما شاركه الإقرار، أصله: الإقرار بالحقوق من الحدود، والأموال، والعقود. والجواب: أن هذا منتقض بالوديعة إذا أقرّ بها، ثم جحدها، ثم أقرّ بها؛ فإن الجحود له حكم، وهو الضمان، وعلى أنه لا تأثير له في

الأصول التي قاس عليها؛ لأنه لا يحتاج إلى أن يكون الجحود متوسطًا بين إقرارين؛ لأن الجحود الذي لم يتقدمه إقرار إذا تعقبه إقرار، لم يكن له حكم، ثم المعنى في تلك الحقوق التي هي الحدود، والعقود، والأموال إذا حصل الإقرار بها بعد الجحود، لم يكن للجحود حكم، سواء تقدمه إقرار، أو لم يتقدمه إقرار، وليس كذلك في الصلاة، والصيام، والزكاة؛ لأنه لو حصل الإقرار بها بعد جحود لم يتقدمه إقرار، كان للمجحود حكم، وهو في حق الكافر الأصلي؛ فإن لجحوده حكمًا، وهو إذا تعقبه الإقرار بالإسلام، فكذلك جاز أن يكون له حكم إذا تقدم الجحودَ إقرار. واحتج: بأن الإسلام يتضمن وجوبَ الوفاء بحقوق الله تعالى، وحقوقِ الآدميين، وقد أجمعنا على أن الردة لا تؤثر في إسقاط حقوق الآدميين من نفس أو مال. والجواب: أنه ليس إذا لم يؤثر في حقوق الآدميين يجب أن لا يؤثر في حقوق الله تعالى، ألا ترى أن عقد الذمة لا يؤثر في حقوق الآدميين من الأنفس، والأموال، ويؤثر في حقوق الله تعالى؟ وكذلك الحيض، والنفاس، والجنون، والصغر كذلك في مسألتنا. فإن قيل: عقد الذمة يتضمن الوفاء بحقوق الآدميين دون الوفاء بحقوق الله تعالى، وليس كذلك عقد الإسلام؛ فإنه يتضمن الوفاء بحقوق الله تعالى وحقوق الآدميين. قيل له: إنما يتضمن الوفاءَ بحقوق الله تعالى بشرط المقام على الإسلام، وقد عدم الشرطُ بالردة.

فصل

* فصل: فإن ترك صلوات، أو صيامًا، أو زكاة في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، فإنه يجب عليه قضاء ما ترك في حال ردته، هكذا ذكره شيخنا (¬1)، وقد نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية ابن منصور (¬2)، وقد ذكر له قول سفيان (¬3): فمن حج، وأصاب في حجته تلك ما يوجب عليه الكفارات، ثم ارتدَّ، ثم أسلم، فلا كفارة عليه، فقال أحمد - رحمه الله -: كل شيء وجب عليه وهو مسلم، فهو عليه، لا بد أن يأتي به. وحكى (¬4) له قولَ سفيان: فمن سرق، ثم ارتد عن الإسلام، ثم تاب، هدم الإسلامُ ما كان قبل ذلك، إلا حقوقَ الناس بعضِهم في بعض، فقال أحمد - رحمه الله -: يقام عليه الحد، واستبشع (¬5) هذا من قوله (¬6). وقد نص على أن ما وجب عليه في حال الإسلام من حقوق الله تعالى لا تسقط بالردة. ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (2/ 49). (¬2) في مسائله رقم (1684). (¬3) الثوري، مضت ترجمته. (¬4) أي: إسحاق بن منصور حكى للإمام أحمد - رحمهما الله -، وسفيان هو: الثوري. (¬5) كذا في الأصل، وفي مسائل الكوسج (2685)، وأحكام أهل الملل مسألة رقم (1295): استشنع. (¬6) ينظر: مسائل الكوسج رقم (2685)، وأحكام أهل الملل مسألة رقم (1295).

وقال أبو حنيفة (¬1)، ومالك (¬2) - رحمهما الله -: يسقط ذلك كما يسقط عنه ما تركه في حال ردته. دليلنا: أنها صلوات تركها في حال الإسلام بعد وجوبها، فلزمه قضاؤها. دليله: لو لم يرتد، ولا يلزم عليه المجنون والحائض؛ لقولنا: تركها بعد وجوبها، ولا يلزم عليه ما تركه في حال الردة؛ لقولنا: في حال الإسلام. ولأن الكفر معصية، فلم يُسقط صلاة وجبت قبله، دليله: شرب الخمر، والتشاغل بالمعاصي حتى فاتت الصلاة. ولأن الكفر يمنع وجوبًا مستقبلًا (¬3)، فلم يُسقط وجوبًا سابقًا، كذلك ها هنا. فإن قيل: الإسلام يمنع وجوبًا مستقبلًا للجزية، ويمنع وجوبًا سابقًا. قيل: إنما كان كذلك في الجزية؛ لأنها تجب عقوبة، والمسلم ليس من أهل العقوبة، فاستوى فيه السابق والمستقبل؛ كالقتل، وليس كذلك ¬

_ (¬1) الذي ظهر لي: أن الحنفية يوجبون القضاء عليه في هذه الحالة. ينظر: المبسوط (2/ 147 و 148)، وحاشية ابن عابدين (4/ 462). (¬2) ينظر: المدونة (2/ 166)، والإشراف (1/ 273). وينظر لمذهب الشافعي: الأم (2/ 154)، والمجموع (3/ 6). (¬3) في الأصل: مستقلًا.

الصلاة وغيرُها من العبادات؛ لأن طريق قصاصها ترك بعد وجوب في حال الإسلام، وهذا موجود ها هنا، على أن الجزية حُجَّة لنا؛ لأن الإسلام أسقطها في المستقبل والماضي جميعًا، يجب (¬1) أن يستويا ها هنا في الإيجاب في المستقبل والماضي؛ ولأنه حق وجب عليه في حال إسلامه، فلم يسقط بالردة، دليله: حقوق الآدميين. فإن قيل: حقوق الآدميين لا يمنع منها حالة الردة، فلهذا لم يمنع فيما مضى. قيل: لا يمتنع أن يتفقا فيما قبل الردة في الوجوب، ويختلفان في حال الردة؛ كالحائض والمجنون، إذا طرأ الحيض والجنون عليها، وقد ثبتت في ذمتها عبادة، فإنها لا يُسقطها كالذنوب، ويختلفان في حال الحيض، فيلزمها حقوق الآدميين، ولا يلزمها الصلاة. فإن قيل: فقد اعتمدتم الفرق في الفصل الذي قبل هذا، بين حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين، فكيف جمعتم بينهما ها هنا؟ قيل: اعتمدنا الفرق بينهما في حالة الكفر، ونحن جمعنا بينهما في حالة الإسلام، فهما سواء. واحتج المخالف: بأن الكفر يُحبط العمل؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]، وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وإذا حبط عملُه، صار بمنزلة الكافر الأصلي، فلا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: فيجب.

يجب عليه قضاء ما تركه من الصلوات، كما لا يجب على الكافر الأصلي، ويدل عليه أيضًا: أن عمله بالحج ينحبط، ويجب عليه القضاء، فدل على أنه كالكافر الأصلي، وكذلك الطهارة تبطل، ويدل عليه أيضًا: أنه لا قضاء لما تركه في حال ردته؛ كالكافر الأصلي. والجواب: أن عندنا لا يحبط عمله بنفس الردة، وإنما ينحبط إذا مات على الردة، وكل ما فعله قبل الردة مثل: الحج، والصلاة، والصيام، والطهارة فحكمه قائم كما كان لم يبطل، ولكنا أوجبنا عليه الحج بعد إسلامه؛ لأنه إسلام طرأ بعد كفر، فلزمه الحج؛ كالحربي، ولأن هذا الإسلام الثاني يلزمه فيه جميع العبادات من الصلاة، والصيام، والزكاة؛ كما يلزمه في الإسلام الأول، كذا يجب أن يلزمه الحج، ولم يلزمه في الإسلام الثاني قضاءُ ما فعله قبل الردة؛ لأنه يفعل أمثال تلك العبادات في أوقاتها، فلا حاجة إلى قضائها؛ ولأنها تكثر، فيؤدي إلى المشقة، وليس كذلك الحج؛ لأنه لا يفعل أمثاله في الإسلام الثاني؛ ولأنه لا يكثر، فلا مشقة في فعله، وأما الطهارة، فإنما يلزمه إعادتها بعد الإسلام؛ لأنها عبادة تفتقر إلى نية، فأبطلتها الردة؛ كالصلاة إذا كان محرمًا بها، وكالصوم، ثم ارتد (¬1) في أثنائه؛ فإنه يبطل، كذلك الطهارة يجب أن تبطل بالردة، فامتنع أن يكون بطلانها يحبط العمل. وأما ما تركه في حال ردته، فإنما لم يلزمه قضاؤه؛ لأنه تركه في حال ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: إذا ارتد.

كفره، فهو كالكافر الأصلي، ولم يسقط القضاء عنه؛ لأن عمله انحبط، بل لأجل مقاربة الترك للكفر (¬1)، وليس يمتنع مثلُ هذا، ألا ترى أن الحيض إذا قارب وقت الصلاة، منع الإيجاب، وإذا طرأ بعد الإيجاب، لم يسقطه؟ وكذلك الجنون، والنفاس، والذي يدل على أن الردة لا تحبط العمل: قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]، فأخبر أن المرتد الذي يحبط عمله هو الذي يموت على ردته، فعلق حبوط العمل بشرطين: أحدهما: الردة. والثاني: الموت عليها، وهذا يقتضي جنس الكفار، فلا بنفي (¬2) كافرًا ينحبط عمله إلا بالردة والموت، وعندهم: ينحبط عمله بأحد الشرطين، وهو: الردة فقط، والذي يدل على أنه يقتضي الجنس: إدخال الألف واللام في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 217]، وهذا كقوله: من قتل عمدًا مكافئًا، فأولئك الذين وجب عليهم القتل، ومن تعدى في الوديعة، فأولئك عليهم الضمان؛ فإنه ينفي وجوبَ القتل بغير العمد، ووجوبَ الضمان بغير عدوان، كذلك ها هنا. فإن قيل: الشرطان أفادا الخلود، ولم يفيدا حبط العمل، ألا ترى أنه بيَّن ذلك بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، ولم يرجع إلى حبط العمل؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) كذا في الأصل، وقد تكون: يبقى.

قيل له: يجب أن يرجع كل واحد من الحُكمين - أعني: حبط العمل، والخلود - إلى الشرطين جميعًا، ولا يرجع أحدهما إلى الشرطين دون الآخر، وهذا كقوله: لا تطأ وأنت محرِم، فعليك القضاء والكفارة، فإن كل واحد من الحُكمين راجع إلى الشرطين، وهما: الوطء، والإحرام. وكذلك قوله لعبد: إذا دخلتَ الدار، وكلمتَ زيدًا، فأنت حر، وامرأته طالق، فإن كل واحد من الشرطين، وهو: العتق، والطلاق راجع إلى الشرطين، فلا يعتق حتى يدخل الدار، ويكلم زيدًا، وكذلك: لا تطلق إلا بهما. كذلك ها هنا يجب أن يكون حبط العمل يتعلق بالشرطين: الردة، والموت، والخلود متعلق بهما أيضًا، وهذه الآية أخصُّ من قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]؛ لأنه لم يذكر في ذلك الموت، وقد ذكره ها هنا، على أنه قد قيل: إن في سياق هاتين الآيتين ما يدل على أن المراد به: إذا مات على كفره، دونَ مَنْ أسلمَ. واحتج بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الإسلام يجبّ ما قبله" (¬1). والجواب: أن هذا محمول على ما تركه في حال كفره؛ بدليل ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 357).

32 - مسألة: فإن أسلم المرتد وقد حج، لزمه إعادة الحج

واحتج: بأن الإسلام طارئ بعد كفر متقدم، فمنع من إيجاب القضاء لما ترك، دليله: ما تركه في زمان كفره. والجواب: أن المعنى هناك: أن الترك حصل في زمان الكفر، وليس كذلك ها هنا؛ لأن الترك حصل في حال الإسلام بعد الوجوب، فهو كما لو ترك بسكر أو غيره. والله أعلم. * * * 32 - مَسْألَة: فإن أسلم المرتدُّ وقد حجَّ، لزمه إعادةُ الحج: نص عليه في رواية حنبل (¬1)، وابن منصور (¬2)، وقال أبو إسحاق: فيها روايتان (¬3): إحداهما: مثل هذا، وأنه يلزمه إعادته. وهو قول أبي حنيفة (¬4)، ومالك (¬5) - رحمهما الله -. ¬

_ (¬1) ينظر: أحكام أهل الملل، رقم المسألة (1293). (¬2) في مسائله رقم (1583 و 1684). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 335)، والمغني (2/ 48)، والنكت على المحرر (1/ 75). (¬4) ينظر: المبسوط (2/ 148)، وحاشية ابن عابدين (4/ 462). (¬5) ينظر: المدونة (2/ 167)، والإشراف (1/ 274).

والثانية: لا يلزمه، وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬1). وجه الأوّلة: أنه إسلام طرأ بعد كفر متقدم، فأوجب حجة الإسلام. دليله: الكافر الأصلي. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يسقط فرض الحج، وها هنا أسقط فرض الحج. قيل: لا نسلم لك هذا، بل هذا الإسقاط مراعًى، فإن لم يرتد، سقط الفرض، وإن ارتد، لم يسقط، وجرى هذا مجرى المريض إذا صلى الظهر في منزله، ثم حضر الجامع، فإن حضوره يمنع من الاعتداد بما فعله؛ لأنه كان مراعًى، ولا نقول: إنه باطل. ولأنها عبادة لا تُفعل (¬2) في العمر إلا مرة مع استمرار الإسلام، فوجب إعادتها بعد الردة؛ كالإيمان. واحتج المخالف: بأنه أتى بالعبادة بشرائطها، فلم يلزمه إعادتها، دليله: إذا لم يرتد، ودليله: الصلاة، والصيام، والزكاة، ولا يلزم عليه إذا صلى، ولم يجد ماء، ولا ترابًا أنه يعيد؛ لأنه لم يأت بالعبادة بشرائطها. والجواب: أن الصبي والعبد إذا حجا، فقد أتيا بالعبادة بشرائطها، ومع هذا، فيلزم الإعادة بعد العتق والبلوغ، وأما إذا لم يرتد، فإنما لم يلزمه الإعادة؛ لأنه لم يَحْدُثْ إسلامٌ بعد كفر، وها هنا قد حدث، فهو كالحربي، ¬

_ (¬1) ينظر: المجموع (3/ 7)، ومغني المحتاج (4/ 173). (¬2) في الأصل: يفعل.

وأما سائر العبادات، فإنما لم يقضها؛ لأنه لم يفعل لمثلها في هذا الإسلام الثاني، وليس كذلك الحج؛ لأنه لا يفعل أمثاله، ولهذا قالوا: لو بلغ الصبي في الصلاة، أو بعد الفراغ منها في وقتها، لم يقضها، وأجزأته، ولو بلغ بعد أن حج، كان عليه الإعادة، وكلُّ فرقٍ لهم في حق الصبي بين الصلاة والحج، هو فرقنا؛ ولأن تلك العبادات تكثر، فيشق، وهذا لا يكثر، فلا تلحق المشقة. فإن قيل: فما تقولون فيه إذا صلى في أول الوقت، ثم ارتد، ثم أسلم في آخر الوقت، هل يلزمه إعادة الصلاة ثانية، أم لا؟ قيل: لا نعرف عن أصحابنا رواية في ذلك، وقياس قولهم: لا يعيد؛ لأن من أصلهم: أن الردة لا تحبط العمل، وهذه العبادة فعل أمثالها في هذا الإسلام، ويفارق الحج، لأنه لا يفعل أمثاله في هذا الإسلام، فلهذا لزمه إعادتها، ويفارق هذا الصبي إذا صلى، ثم بلغ في الوقت: أنه يعيد في غير وقت الوجوب، ها هنا فعلها في حال وجوبها بشرائطها، وهي مما يتكرر أمثالها، فلهذا لم يلزمه الإعادة. واحتج بعضهم: بأن الردة سبب إذا قارن الحج، أبطله، فإذا طرأ بعده، لم يبطله، دليله: الوطء. والجواب: أنا نقول بموجبه، وأن الردة الطارئة لا تبطل الحج، وإنما تمنع الاعتداد به، كما نقول في المريض إذا صلى الظهر في منزله، ثم حضر الجامع، فإن حضوره يمنع الاعتداد بما فعله، ولا نقول: إن ذلك

33 - مسألة: إذا شك في صلاته، فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإنه يبني على اليقين، سواء كان أول ما أصابه السهو، أو كان يعرض له ذلك كثيرا، أو سهوا كان إماما أو منفردا

الفعل باطل، وعلى هذا: يبطل به لو مات على الردة؛ فإن هذا معنى لو قارن الحج، أبطله، وإذا طرأ عليه واستدامه إلى الموت، أبطله. وهذه المسألة في آخر الحج. والله أعلم. * * * 33 - مَسْألَة: إذا شك في صلاته، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فإنه يبني على اليقين، سواء كان أول ما أصابه السهو، أو كان يعرض له ذلك كثيرًا، أو سهوًا كان إمامًا أو منفردًا (¬1): نص على هذا في رواية ابن القاسم، فقال: أنا أذهب إلى أن أَبني على اليقين، لا آخذ بالتحري؛ لأنه أصح في الرواية (¬2). وكذلك روى أبو داود (¬3) فقال: كان أبو عبد الله لا يذهب إلى التحري، وكان يرى أن يبني على الأقل. وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا (¬4)، وبه قال مالك (¬5)، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: سواء كان إمامًا أو منفردًا. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 145)، والانتصار (2/ 355). (¬3) في مسائله رقم (368). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 145)، والانتصار (2/ 355). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 128)، والتلقين ص 86.

والشافعي (¬1)، وداود (¬2) - رحمهم الله -. وروى أبو طالب عنه (¬3) في الإمام خاصة: أنه يتحرى، فقال: إذا صلى بقوم، فلا بأس أن يتحرى، وينظر إلى مَنْ خلفه، فإن قاموا، تحرى وقام، وإن سبَّحوا به، تحرى، وفعل ما يفعلون. ويجب أن يُحمل هذا على أن للإمام رأيًا، فإن لم يكن له رأي، بنى على اليقين، وهو اختيار الخرقي من أصحابنا (¬4). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا شك في صلاته، فإن كان أول ما أصابه، استأنف الصلاة، وإن كان له كثيرًا، تحرى، فإن كان له رأي، عمل على رأيه الغالب، وإن لم يكن له رأي، بنى على اليقين منه (¬5). فالدلالة على أن صلاته لا تبطل إذا كان أول ما أصابه: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬6) قال: نا يونس بن محمد (¬7) قال: نا فليح (¬8) ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 212)، والمجموع (4/ 32). (¬2) ينظر: المحلى (4/ 111). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 145)، والانتصار (2/ 355). (¬4) في مختصره ص 50. (¬5) ينظر: مختصر القدوري ص 90، والمبسوط (1/ 383). (¬6) رقم (11689). (¬7) ابن مسلم البغدادي، أبو محمد المؤدب، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت)، توفي سنة 207 هـ. ينظر: التقريب ص 687. (¬8) ابن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي، أو الأسلمي، أبو يحيى المدني، =

عن زيد بن أسلم (¬1)، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شكَّ أحدُكم في صلاته، فلم يَدْرِ كَمْ صلَّى، فليبنِ على اليقين، حتى إذا استيقن أن قد أتمَّ، فليسجد سجدتين قبل أن يسلَّم، فإنه إن كانت صلاته وترًا، كان شفعًا، وإن كان شفعًا، كان ذينك ترغيمًا للشيطان" (¬2). وروى أحمد - رحمه الله - (¬3)، وذكره أبو بكر في كتابه قال: سمعت إبراهيم بن [سعد] (¬4) قال: حدثني محمد بن إسحاق (¬5) عن مكحول (5)، عن كريب (¬6)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال لي عمر - رضي الله عنه -: يا غلام! هل ¬

_ = ويقال: فليح لقب، واسمه: عبد الملك، قال ابن حجر: (صدوق، كثير الخطأ)، توفي سنة 168 هـ. ينظر: التقريب ص 497. (¬1) العدوي، أبو عبد الله المدني، قال ابن حجر: (ثقة، عالم، وكان يرسل)، توفي سنة 136 هـ. ينظر: التقريب ص 210. (¬2) بنحوه أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (571). (¬3) في المسند رقم (1656). (¬4) ساقطة من الأصل. وإبراهيم هو: ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو إسحاق المدني، قال ابن حجر: (ثقة، حجة، تكلم فيه بلا قادح)، توفي سنة 185 هـ. ينظر: التقريب ص 59. (¬5) مضت ترجمته. (¬6) ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم، المدني، أبو رشدين، قال ابن حجر: =

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدًا من أصحابه: إذا شك الرجلُ في صلاة ماذا يصنع؟ قال: فبينا هما كذلك، إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، قال: فيما أنتما؟ فقال عمر - رضي الله عنه -، سألتُ هذا الغلام: هل سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدًا من أصحابه: إذا شكَّ الرجل في صلاته، فلم يدر واحدة صلَّى أو ثنتين؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا شك أحدُكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين، فليجعلْها واحدة، وإذا لم يدرِ اثنتين صلى أم ثلاثًا، فليجعلْها ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثًا صلى أم أربعًا، فليجعلْها ثلاثًا، ثم يسجد إذا خرج من صلاته وهو جالس قبل أن يسلِّم" (¬1). وروى أبو بكر في كتابه بإسناده عن علقمة (¬2) عن عبد الله بن ¬

_ = (ثقة)، توفي سنة 98 هـ. ينظر: التقريب ص 516. (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي، فيشك في الزيادة والنقصان، رقم (398)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء فيمن شك في صلاته، فرجع إلى اليقين، رقم (1209)، قال ابن حجر: (وهو معلول؛ فإنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلًا، قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله، فقال لي: هل أسنده لك؟ قلت: لا، فقال: لكنه حدثني: أن كريبًا حدثه به، وحسين ضعيف جدًا). ينظر: التلخيص (2/ 836). (¬2) ابن قيس بن عبد الله النخعي، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، فقيه)، توفي بعد الستين من الهجرة. ينظر: التقريب ص 437.

مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصوابَ، ثم يسجد سجدتين" (¬1)، يعني: للسهو. فوجه الدلالة من هذه الأخبار: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في حديث أبي سعيد، وابن عباس بالبناء على اليقين والسجود، وفي حديث ابن مسعود بالتحري والسجود، ولم يفرق بين أن يكون ذلك في أوله، أو بعد تكرره، فهو على عمومه. والقياس: أنه شاكٌّ في عدد الركعات، فوجب أن لا تبطل بذلك صلاته، أصله: إذا تكرر منه ذلك، وإن شئت قلت: شك فيما يجب عليه فعلُه في الصلاة، فلا تبطل بذلك صلاته، أصله: إذا شك هل قرأ الفاتحة، وهذا أولى؛ لأنه تأثير لتخصيص عدد الركعات في التعليل (¬2)، وإن شئت قلت: شك في فعل ما أمر به في الصلاة، فوجب أن لا تبطل صلاته، أصله: ما ذكرنا، وهذا أولى من الذي قبله؛ لأن ما يجب فعلُه وما لا يجب فعلُه في مسنونات الصلاة سواء. فإن قيل: لا يجوز اعتباره بالقراءة؛ لأن الزيادة في القراءة لا تُبطل الصلاة، والزيادة في الركعة وسائر الأفعال تبطل الصلاة. قيل له: الزيادة في الأفعال إذا تعمدها تُبطل الصلاة، فأما إذا لم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (401)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة رقم (572). (¬2) هكذا في الأصل.

يتعمدها، وعملَها سهوًا، لم تبطل صلاته، وإذا لم يتيقنها، وكان شاكًا هل زاد أم لا؟ فالأصل: أنه ما زاد، فيكون بمنزلة المتيقن أنه لم يزد، فلا يضر ذلك صلاته. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ" (¬1)، وإذا بنى على اليقين، لم يأمن أن يكون قد زاد في صلاته ركعة، فيكون الشك باقيًا من هذا الوجه، وظاهر الخبر يقتضي تركَ الشك من جميع الوجوه، وإذا استقبل، تيقن أنه أدّى (¬2) فرضه من غير زيادة ولا نقصان. والجواب: أن المراد به: تركُ الشك، والبناء على اليقين، وهو الأخذ بالأقل الذي هو يقين، وقد روينا ذلك في حديث أبي سعيد، وابن عباس - رضي الله عنهم - حُمِل الخبر عليه. واحتج: بما روى أحمد - رحمه الله - بإسناده (¬3)، وذكره أبو بكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إغرارَ في صلاةٍ ولا تسليمٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم (2518)، وقال: (حديث صحيح)، والنسائي في كتاب: الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهات، رقم (5711)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 44). (¬2) في الأصل: إذا. (¬3) في المسند رقم (9937). (¬4) أخرجه أبو داود بلفظ: "لا غرار"، كتاب: الصلاة، باب: رد السلام على =

قال أحمد - رحمه الله - في رواية ابنيه (¬1): سألت أبا عمرو (¬2) عن قوله: "لا إغرارَ في صلاة ولا تسليم"، فأنكرها بالألف. فوجه الدلالة: أنا لو قلنا: نأخذ بالأقل، لكان قد انصرف منها وهو شاكٌّ فيها، ففيه غرر بها. والجواب: أن المراد به: أن المصلي لا ينصرف وهو شاكٌّ في نقصانها، هكذا قال أبو عبيد (¬3): "لا غرار في الصلاة"؛ أي: لا نقصان (¬4)، فإذا أخذنا بالأقل، وزاد حتى تيقن التمام، لم يكن شاكًا في النقصان، ¬

_ = المصلي، رقم (929)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الصلاة، باب: التأمين، رقم (972)، وقال: (حديث صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي في التلخيص (1/ 396)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (318). (¬1) مسائل عبد الله رقم (1841). ولم أقف على رواية صالح في مسائله المطبوعة، وقد ذكر الإمام كلام أبي عمرو في المسند بعد الحديث، قال الإمام أحمد: (معنى "غرار" يقول: لا يخرج منها وهو يظن أنه قد بقي عليه منها شيء حتى يكون على اليقين والكمال). المسند (16/ 29). (¬2) هو: إسحاق بن مِرار، أبو عمرو الشيباني، الكوفي، قال ابن حجر: (كان نحويًا لغويًا ... صدوق)، توفي سنة 210 هـ. ينظر: التقريب ص 717. (¬3) هو: القاسم بن سلّام، أبو عبيد، البغدادي، قال ابن حجر: (الإمام المشهور، ثقة، فاضل)، له: غريب الحديث، توفي سنة 224 هـ. ينظر: التقريب ص 500. (¬4) ينظر: غريب الحديث (1/ 276).

وإلى هذا أومأ أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله، فقال: لا تخرجْ منها [إلا] وأنت تظن أنها كاملة؛ حتى لا يكون منه شكّ، ويكون على الكمال واليقين (¬1). والذي يدل على أن المراد به: هو النقصان: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "حتى يكون الوهم في الزيادة"، رواه أحمد - رحمه الله -، وذكره أبو بكر في كتابه، فقال: نا إسماعيل بن إبراهيم (¬2) قال: نا محمد بن إسحاق قال: حدثني مكحول - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم، فشك في صلاته، فإن شك في الواحدة والاثنتين، فليجعلْهما واحدة، وإن شك في الاثنتين والثلاث، فليجعلْها ثنتين؛ حتى يكون الوهم في الزيادة، ويسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، ثم يسلِّم" (¬3). قال محمد (¬4): قال لي حسين المغازلي (¬5): أسند ذلك؟ قال: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي مسائل عبد الله رقم (1841): (حتى لا تكون في شك، حتى تكون على ... ). (¬2) هو: ابن علية، مضت ترجمته. (¬3) مضى الكلام عليه في ص 376. (¬4) المراد به: ابن إسحاق. (¬5) هو: حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس الهاشمي المدني، قال الذهبي: (قال ابن معين: ضعيف، وقال أحمد: له أشياء منكرة، ... وقال النسائي: متروك)، توفي سنة 141 هـ. ينظر: ميزان الاعتدال (1/ 537).

قلت: لا، [فقال] (¬1): لكنه حدثني: أن كريبًا مولى ابن عباس حدثه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جلست إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا ابن عباس! إذا اشتبه على الرجل في صلاته، فلم يدر أزاد أم نقص؟ قلت: والله! يا أمير المؤمنين! ما أدري، ما سمعت في ذلك شيئًا. فقال عمر: والله! ما أدري. قال: فبينا نحن على ذلك، إذ جاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: ما هذا الذي تذكران؟ فقال له عمر - رضي الله عنه -: ذكرنا الرجل يَشُكُّ في صلاته كيف يصنع؟ فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... هذا الحديث (¬2). وهذا يدل على أنه المراد بقوله: "لا غرار في الصلاة ولا نقصان". واحتج: بأنه يمكنه أداء فرضه بيقين، فوجب أن يلزمه، ألا ترى أن من أمكنه أن يتوجه إلى القبلة، ويؤدي صلاته إليها بيقين، لزمه ذلك، ولا يتحرى، ويصلي إليها على غالب الظن؟ كذلك ها هنا. والجواب: أنه يبطل بمن تيقن الطهارة، وشك في الحدث، فإنه لا يجب عليه أن يتوضأ، ويجوز له أن يصلي، وعلى أن المعنى في الأصل: أن المطلوب معنى موجود، وهو الكعبة، فإذا أمكنه الوصول إليها قطعًا ويقينًا، لم يجز الاجتهاد والظن، وليس كذلك في مسألتنا، فإن المطلوب فَعَله وهو شاكٌّ هل فعله أم لا؟ فإذا فعله، كان شاكًا في الزيادة المفسدة ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، وهي في المسند، وبها يستقيم الكلام. (¬2) مضى تخريجه (1/ 376). وقد ذكره بهذا اللفظ مع ما دار بين ابن إسحاق وحسين المغازلي: الإمام أحمد في مسنده، رقم الحديث (1677)، (3/ 210).

فصل

لصلاته، والأصل عدمُها، فكان الشك فيما أصله عدمُه غيرَ قادح في صلاته، كالشك في الحدث الذي الأصلُ عدمُه. * فصل: والدلالة على أنه إذا تكرر منه يبني على اليقين، وهو الأخذ بالأقل: ما تقدم من حديث أبي سعيد، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالبناء على اليقين (¬1)، ولم يفرق بين أن يكون الشك قد تكرر، أو كان له غلب ظن، أو لم يكن. فإن قيل: يحمل ذلك على من لم يكن له رأي. قيل له: هذا تخصيص بغير دلالة، وعلى أن هذا مخالف لتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أمر بالزيادة في حديث عبد الرحمن؛ ليكون الوهم في الزيادة دون النقصان، والعلة عندهم في ذلك غلبة الظن، فلم يصح. والقياس: أنه شك في عدد الركعات قبل الفراغ من الصلاة، فوجب أن يبني على اليقين، أصله: إذا لم يكن له رأي، وفيه احتراز من الشك بعد السلام، فإنه لا حكم له؛ لأننا حكمنا بصحة صلاته، فلا ننقصه بالشك الطارئ بعده، وقد نص أحمد - رحمه الله - على أن الشك الطارئ بعد الفراغ لا حكم له (¬2) في رواية جعفر بن محمد، وبكر بن محمد: في الذي ¬

_ (¬1) مضى في (1/ 375). (¬2) ينظر: المستوعب (2/ 270)، وبدائع الفوائد (3/ 1280)، والقواعد لابن رجب (3/ 168)، والقواعد لابن اللحام (1/ 19)، ولم أقف على رواية جعفر، ولا رواية بكر بن محمد - رحمهما الله -.

يشك في صلاته بعد خروجه منها: ليس بشيء، تمت صلاته، وليس عليه سجود سهو، وإن شئت قلت: شك في فعل ما يجب عليه قبل الحكم بسقوطه عنه، فلزمه البناء على اليقين، أصله: إذا لم يكن (¬1) رأي. وفيه احتراز: من الشك الطارئ بعد الفراغ من الصلاة، وهذه أولى من التي قبلها؛ لأنه ليس لتخصيص الركعات بالتعليل تأثير؛ لأن البناء على اليقين واجب، سواء كان الشك في عدد الركعات، أو في سائر أفعال الصلاة. وأيضًا: فإنه لو شك هل صلى أم لا؟ فإنه يبني على اليقين، وهو أن يأخذ بأنه لم يصلِّ، كذلك إذا شك هل صلى الركعة الرابعة؟ لزمه فعلها، ولا فرق بينهما، وقد حرر من هذا دليل، وهو: أن كل ما لو شك في أصله بنى على اليقين، فإذا شك في عددٍ، بنى على اليقين؛ كالطلاق. وقد منع بعضهم هذا، وقال: إذا شك هل صلى أم لا؟ فإنه مثل الشك في عدد الركعات، فإن كان ذلك أول ما أصابه، استأنف، وإن كان قد تكرر، تحرى، وعمل على ما يغلب على ظنه، وهذا فرار من الزحف، وخطأ على المذهب؛ لأن أبا حنيفة - رحمه الله - قال فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة: يلزمه أن يصلي جميع الصلوات الخمس؛ ليتيقن قضاء ما نسيه منها (¬2)، ولم يقل: إنه يتحرى فيها، ويجعل هذا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: لم يكن له رأي. (¬2) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 367)، وبدائع الصنائع (1/ 600).

دليلًا في المسألة. فنقول (¬1): إذا نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة لا يعرف عينها، فإنه يجب عليه أن يعيد جميع الصلوات الخمس؛ ليتيقَّن فعل المنسية، ولا يجوز أن يتحرى، ويعمل على ما يغلب على ظنه، كذلك إذا شك هل صلى الركعة الرابعة، أو لم يصل؛ لأن فعل ركعة واحدة أسهلُ من فعل خمس صلوات، فإذا وجب عليه فعلُ الخمس ليؤدي ما عليه بيقين، كان فعلُ الركعة الواحدة أولى. فإن قيل: إنما أمرناه بإعادة الصلوات الخمس؛ لأن من شرط الصلاة تعيينَ النية لها، ولا يمكن تعيين المنسية إلا بأن يعيد الجميع، وليس كذلك ها هنا، فإنه لا يحتاج إلى تعيين النية. قيل: إنه كان يجب أن يتحرى، فما غلب على ظنه، يَقْضِه، ويعين النية لها، ويجزئه. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن عليه صلاة واجبة بيقين، وإنما شك في عينها، وليس كذلك في مسألتنا، فإنه شاكّ هل يجب عليه ركعة أخرى، أم لا؟ قيل له: فلا فرق بينهما؛ لأنه شك في الأصل في غير الصلاة، وفي الفرع في فعلها، فإذا لم يجز التحري في طلب عينها، لم يجز في طلب فعلها. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 135)، والفروع (1/ 443).

واحتج المخالف: بما تقدم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، تحرى الصواب، وسجد سجدتين" (¬1). قالوا: وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضًا التحري عند الشك (¬2). وروى شعبة (¬3)، [عن] (¬4) عمرو بن دينار، عن سليمان اليشكري (¬5)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنه قال في الوهم: يتحرى، قال: قلت: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). والجواب: أن الرواية الصحيحة عن أبي سعيد: ما رواه أحمد - رحمه الله -: "إذا شك أحدكم في صلاته، فإن شك في الواحدة والثنتين، ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 377). (¬2) رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، في كتاب: الصلاة، باب: إتمام المصلي ما ذكره إذا شك في صلاته، رقم (316 و 318)، وعبد الرزاق في المصنف رقم (3469). (¬3) ابن الحجاج بن الورد العَتَكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي، قال ابن حجر: (ثقة، حافظ، متقن)، توفي سنة 160 هـ. ينظر: التقريب ص 270. (¬4) في الأصل: و، والتصويب من المسند. (¬5) سليمان بن قيس اليَشْكري، البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي قبل الثمانين من الهجرة. ينظر: التقريب ص 252. (¬6) رواه أحمد في المسند رقم (11349)، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط في المسند (17/ 448).

فليجعلْهما (¬1) واحدة، وإن شك في الثنتين والثلاث، فليجعلْهما اثنتين، حتى يكون الوهم في الزيادة" (¬2)، وهذا نص في البناء على اليقين، وعلى أن المراد به: فليقصد الصواب، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]؛ أو قصدوا رشدًا (¬3). والصواب: هو البناء على اليقين، فكأنه قال: فليقصد البناء على اليقين، وتكون الدلالة على هذا حديث أبي سعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وهما مفسران. واحتج: بما روى أبو داود (¬4) عن النُّفَيلي (¬5)، عن محمد بن سلمة، عن خُصَيف (¬6)، عن أبي عبيدة (¬7) بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: فيجعلهما، والتصويب من المسند. (¬2) مضى تخريجه (1/ 376). (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: [أي] بدل [أو]، ينظر: تفسير البغوي (5/ 161). (¬4) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يُتمُّ على أكبر ظنه، رقم (1028). (¬5) هو: عبد الله بن محمد بن علي بن نُفَيل، أبو جعفر، النفيلي الحراني، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 234 هـ. ينظر: التقريب ص 340. (¬6) ابن عبد الرحمن الجزري، أبو عون، قال ابن حجر: (صدوق، سيئ الحفظ)، توفي سنة 136 هـ. ينظر: التقريب ص 180. (¬7) ابن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، مشهور بكنيته، قال ابن حجر: (والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه: عامر، كوفي، ... والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه)، وروايته في الكتب الستة، توفي بعد الثمانين من =

قال: "إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاثٍ وأربعٍ، وأكبرُ ظنك على أربعٍ، تَشهَّدتَ، ثم سجدت سجدتين وأنت جالسٌ قبل أن تسلِّم، [ثم] (¬1) تَشهَّدتَ أيضًا، ثم تسلِّم" (¬2). والجواب: أن أبا داود قال في كتابه (¬3): عبد الواحد بن زياد (¬4) عن خصيف، عن أبي عبيدة (¬5)، عن أبيه، ولم يرفعه، وهذا يدل على أنه ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا رواه أحمد - رحمه الله - في المسند (¬6) موقوفًا على ابن مسعود. وعلى أن الخبر مُطَّرَح الظاهر؛ لأنه أمر بالتشهد، ثم سجد سجدتي ¬

_ = الهجرة. ينظر: التقريب ص 713. (¬1) في الأصل: (و)، والتصويب من سنن أبي داود. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (4075)، وقد أشار أبو داود في سننه بعد إيراده للحديث أنه موقوف كما ذكر القاضي - رحمه الله -، قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (3/ 282): (وهذا حديث مختلف في رفعه ومتنه، وخصيف غير قوي، وأبو عبيدة، عن أبيه مرسل). (¬3) السنن، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يُتمُّ على أكبر ظنه، رقم (1028). (¬4) العبدي مولاهم، البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 176 هـ. ينظر: التقريب ص 399. (¬5) في الأصل: عبيد. (¬6) رقم (4076).

السهو قبل السلام، ثم بالتشهد، ثم بالسلام، وهذا متروك بالإجماع. واحتج: بأنه لا يتوصل إلى أداء فرضه من جهة اليقين، فجاز له أن يجتهد؛ قياسًا على وقت الصلاة في يوم غيم، وإذا اشتبهت عليه جهة القبلة، والأواني، والثياب إذا كان بعضها طاهرًا وبعضها نجسًا، وكذلك تُقوّم المستهلكات، وتقدير أُروش الجنايات، ونفقة الزوجات، وكذلك إذا شهر عليه رجل سلاحه، فإنه يتحرى، وإن غلب على ظنه أنه يقتله، جاز قتله. والجواب: أنه إذا شك في دخول الوقت، وكذلك القبلة، يمكنه أن يصلي أربع ركعات إلى أربع جهات، فيكون قد أدى فرضه بيقين، فسقط قوله: لا يتوصل إلى أداء فرضه بيقين في الوقت، والقبلة، وعلى أن الوقت عليه أمارات في يوم الغيم من جهة ما يعتاده الناس من قدر الأعمال، فيستدل بذلك عليه، فأُجِيز له الاجتهاد، كذلك القبلة، وأروش الجنايات، ونفقة الزوجات، وإذا شهر سلاحه عليه، عليه أمارات، وهو الرجوع إلى قول المقوِّمين، وسعر مثل ذلك في السوق، فإن ذلك أمارة، ونفقة الزوجة عليه أمارة، وهو نفقة مثلها يعتبر من نساء بلدها، وهذه أمارة، وكذلك إذا شهر سلاحه عليه أمارة، وهو أنه ينظر إلى حال مثله هل ينكفّ عنه بقطع يده، أو قطع رجله، ونحو ذلك؟ فهذه أمارة، وأما الأواني، والثياب، فلا يتحرى فيها على أصلنا، وليس كذلك إذا سهى، فعرض له الشك، فإنه لا دليل عليه، فأُمِر بالبناء على اليقين، كما إذا نسي صلاة من يوم لا يعرف عينَها، فإنه لا يتحرى في طلبها، وكذلك إذا تيقن الطهارة،

وشك في الحدث، لا يتحرى، بل يبنى على اليقين؛ لأنه لا دليل عليه، كذلك ها هنا. فإن قيل: فإذا كانت ليلة مظلمة، والرياح ساكنة، والسماء متغيّمة، فليس هناك دلالة على الوقت، ومع هذا يتحرى. قيل له: إن كانت له صنعة يَعْرِفُ بها، فإنه يرجع إليها، وتلك أمارة، وإن لم يكن له، لم يجز التحري، ولزمه التأخير حتى يغلب على ظنه دخول الوقت، بل إن خفيت عليه دلائل القبلة بسكون الرياح، والظلام، والغيم، فإنه يصلي على ما يغلب عليه ظنه (¬1)، وفي الإعادة وجهان، ذكرهما أبو بكر في كتاب الشافي، والصحيح: أنه يعيد لعدم الأمارة. فإن قيل: قد كان يمكنه أداء فرضه بيقين في حال اشتباه القبلة، وهو أن يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات، فكان يجب أن يلزمه ذلك. قيل: قد بينا أن هناك أمارة تدل على القبلة، وعلى أن الأمر (¬2) بذلك أمرٌ بالخطأ، فلهذا أمر بالاجتهاد، وليس كذلك في مسألتنا، وهو البناء على اليقين؛ لأنه ليس فيه أمره بالخطأ، فلهذا بنى على اليقين، كما إذا نسي صلاة من يوم لا يعرفها. وجميع ما استدللنا به على أبي حنيفة - رحمه الله - فهو دلالة على ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 169)، والمغني (2/ 107 و 113). (¬2) في الأصل: المر، والتصويب من هامش المخطوط.

من قال من أصحابنا (¬1) بالتحري في حق الإمام؛ لأن في حديث أبي سعيد (¬2)، وعبد الرحمن بن عوف (2) الأمرَ بالرجوع إلى اليقين، ولم يفرق بين الإمام، والمنفرد، وكذلك ما ذكرنا من القياس عليه إذا لم يكن له غالب ظن، وإذا نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها؛ ولأنه مصلٍّ شك في فعل ما يجب عليه قبل الحكم بسقوطه، فيجب أن يبني على اليقين؛ كالمنفرد. فإن قيل: فرضه اليقين؛ بدليل: أنه لا يرجع عنه إلى غيره، فلهذا لم يتحر، وليس كذلك الإمام؛ لأنه ليس فرضه اليقين؛ بدليل: أنه إذا سبَّح به اثنان فصاعدًا، رجع إلى قولهما، وترك يقينَ نفسه، وإذا لم يكن فرضه اليقين، جاز له التحري. قيل: فكان يجب أن يبني على اليقين إلى أن يظهر له قول غيره، ويرجع عليه، كالحكم يُبنى في الدعاوى على اليقين، وهو براءة الذمم، ولا تُقبل الدعوى حتى تظهر شهادة شاهدين، فيرجع عن ذلك إلى قولهما. واحتج: بما تقدم من حديث ابن مسعود في التحري (¬3)، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية (¬4). ¬

_ (¬1) كالخرقي - رحمه الله - في مختصره ص 50. (¬2) مضى تخريجه (1/ 376). (¬3) مضى في (1/ 377). (¬4) في الأصل: بما في كتابه، والصواب المثبت، كما سيأتي في الصفحة التي تليها.

واحتج: بما روى أحمد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وذكره أبو بكر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى إحدى صلاتي العشاء، فصلى ركعتين، ثم سلَّم، وأتى خشبةً في المسجد"، وذكر الخبر (¬1). وروى أيضًا أحمد - رحمه الله - بإسناده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، وذكرها أبو بكر -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم من ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، وذكر الخبر (¬2). فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا قد بنى على غالب رأيه؛ لأنه لو بنى على الأقل، لم يسلِّم من نقصان. والجواب: أنه ليس في الخبر ما يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شك في صلاته، بل الظاهر: أنه كان [على] يقين من فعله (¬3)، ولهذا قال له ذو اليدين: أَقُصِرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: "لم أنس، ولم تُقصر"، وهذا يدل على أنه كان على يقين من فعله. واحتج: بالسؤال الذي تقدم، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية. * * * ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 198). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 200). (¬3) في الأصل: كان يقين من فعله. والصواب المثبت كما في السطر الذي يليه.

34 - مسألة: إذا سبح بالإمام اثنان من المأمومين، فإنه يرجع إلى قولهما، سواء سبحوا به إلى زيادة، أو نقصان، وسواء قلنا: إنه يبني على اليقين، أو على غالب ظنه

34 - مَسْألَة: إذا سَبَّح بالإمام اثنان من المأمومين، فإنه يرجع إلى قولهما، سواء سبحوا به إلى زيادة، أو نقصان، وسواء قلنا: إنه يبني على اليقين، أو على غالب ظنه: نص عليه في رواية بكر بن محمد عن أبيه: فقال: لا يجوز له إذا صلى وحده، أو كان إمامًا، أن ينصرف إلا على اليقين، إلا أن يسبحوا به، فيصير إلى يقينهم إذا سبح به نفسان، فإن كان واحدًا، لم يجز عندي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له ذو اليدين، لم يقبل قوله حتى سأل القوم (¬1). وقال أيضًا - في رواية أبي داود - (¬2): إذا وَهِمَ في صلاته وهو إمام، فسبَّح به مَنْ خلفَه، فإن سبحوا به، فلم يلتفت، وصلى، يعيد، ويعيدون. فقد صرح القول أن صلاته تبطل إذا ترك المتابعة لهم، وهو اختيار ¬

_ (¬1) حديث ذي اليدين - رضي الله عنه - مضى تخريجه (1/ 200، 201). ورواية بكر بن محمد عن أبيه، لم أقف عليها، وقد نقل نحوها عبدُ الله في مسائله رقم (400)، وابن هانئ في مسائله رقم (372 و 373 و 374)، والكوسج في مسائله رقم (238). وينظر: الجامع الصغير ص 45، والمغني (2/ 412)، ومختصر ابن تميم (2/ 232)، والفروع (2/ 317)، والإنصاف (4/ 12). (¬2) في مسائله رقم (366).

أبي بكر الخلال (¬1). وروى أبو بكر المروذي عنه: إذا قام إلى خامسة، فسبحوا به، فلم يلتفت إلى قولهم، لا يتبعوه، ولا يُسلِّموا، يعجبني أن يصبروا حتى يكون هو يسلِّم بهم (¬2). فظاهر هذا: أنه مأمور بالرجوع إلى قولهم، فإن لم يرجع، لم تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يجوز أن يرجع إلى قول واحد منهم (¬3). وقال مالك - رحمه الله -: يرجع إلى قول اثنين منهم (¬4). وقال الشافعي - رحمه الله -: لا يجوز له الرجوع إلى قولهم، ويبني على يقين نفسه (¬5). دليلنا: ما روي في حديث ذي اليدين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، فسلم من اثنتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: "أحقٌّ ما قال ذو اليدين؟ "، قالا: نعم، ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 174)، ورؤوس المسائل لأبي جعفر الهاشمي (1/ 167). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 175). (¬3) ينظر: فتح القدير (1/ 374)، وحاشية ابن عابدين (4/ 524). (¬4) ينظر: القوانين الفقهية ص 63، ومواهب الجليل (2/ 311). (¬5) ينظر: حلية العلماء (1/ 217)، والمجموع (4/ 96).

فصلى ركعتين، وسجد للسهو (¬1). ففيه دلالة: على أنه يرجع إلى قول المأمومين، وفيه دلالة أيضًا: على أنه لا يرجع إلى قول الواحد؛ لأنه لم يلتفت لقول (¬2) ذي اليدين. فإن قيل: لم يرجع إلى قولهما، وإنما يذكر بقولهما، فرجع إلى يقين نفسه. قيل له: نقل في الخبر حكم، وهو الرجوع، وسبب، وهو سؤاله لهما عن ذلك، فالظاهر أن الحكم متعلق بذلك السبب. ولأن قول الاثنين فصاعدًا أمارة ظاهرة تدل على السهو، فجاز الرجوع إليه، وتركُ اليقين، كما قلنا في الحاكم يرجع إلى قول الشهادة؛ لأنها أمارة ظاهرة، ويترك الأصل واليقين، وهو براءة الذمم (¬3)، وكذلك ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 200، 201). (¬2) في الأصل: بقول، والصواب المثبت. (¬3) قال ابن قدامة في المغني (2/ 413): (وإن كان الإمام على يقين من صوابه، وخطأ المأمومين، لم يجز له متابعتهم. وقال أبو الخطاب: يلزمه الرجوع إلى قولهم؛ كالحاكم يحكم بالشاهدين، ويترك يقين نفسه. وليس بصحيح؛ فإنه يعلم خطأهم، فلا يتبعهم في الخطأ، وكذا نقول في الشاهدين: متى علم الحاكم كذبهما، لم يجز له الحكمُ بقولهما؛ لأنه يعلم أنهما شاهدا زور، فلا يحل له الحكم بقول الزور، وإنما اعتبرت العدالة في الشهادة؛ لأنها تغلب على الظن صدق الشهود، ورُدت شهادةُ غيرهم؛ لأنه لا يعلم صدقُهم، =

العمل بخبر الواحد جائز، وهو أمارة، وغلبة ظن، وإن كان الأصل هو اليقين، وكذلك في الصيام إذا حال دون هلال شوال غيم في ليلة الثلاثين، فشهد اثنان برؤية الهلال، فإنه يرجع إلى شهادتهما، وهو غالب ظن، فيترك اليقين والأصل الذي هو بقاء الشهر، كذلك ها هنا. ولأنه لا يمتنع أن يرجع إلى قول غيره في فعل نفسه، الدليل عليه: ما رُوي عن أنس - رضي الله عنه - قال: بعث أبو موسى بالهرمزانِ (¬1) معي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين نزل على حكمه، فلما قدمتُ به، لم يتكلم الهرمزان، فقال عمر - رضي الله عنه -: تكلم، فقال: كلام حي، أم كلام ميت؟ فقال له: تكلم، ولا بأس عليك، فقال: نحن وأنتم - معاشرَ العرب - حيث جعل الله بيننا وبينكم، كنا نستعبدكم ونغصبكم (¬2)، فلما كان الله معكم، فليس لنا بكم يدانِ، فأمر عمر - رضي الله عنه - بقتله، فقال له أنس: تقتله وقد قلت: لا بأس عليك! فقال عمر لأنس - رضي الله عنهما -: من يشهد معك؟ فأتى عمرَ بنُ الزبير - رضي الله عنه - وقد كان ¬

_ = فمع يقين العلم بالكذب أولى أن لا يقبل). (¬1) الهرمزان: من عظماء الفرس، كان بينه وبين المسلمين قتال كثير، ثم أُسِر، فبعث به أبو موسى إلى عمر - رضي الله عنهما -، فأسلم الهرمزان، فكان عمر يستشيره في مغازيه، قتله عبيد الله بن عمر ظنًا منه أنه تواطأ مع أبي لؤلؤة المجوسي - عامله الله بعدله - على قتل أبيه عمر. ينظر: صحيح البخاري، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة، رقم (3159)، وفتح الباري (6/ 317). (¬2) في الأصل: بعضكم، والتصويب من مسند الشافعي.

سمع عمر -، فشهد عنده، فأطلقه (¬1). فرجع عمر - رضي الله عنه - إلى غيره في أمان نفسه. وكذلك في الأخبار: روى ربيعة (¬2) عن سهيل (¬3) بن أبي صالح (¬4)، عن أبيه (¬5)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده رقم (1124)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال رقم (304)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: السير، باب: نزول أهل الحصن أو بعضهم على حكم الإمام، رقم (18183)، وفي معرفة السنن والآثار رقم (18118)، وصححه ابن الملقن في البدر المنير (9/ 175)، وابن حجر في الفتح (6/ 330)، وعلقه البخاري مختصرًا في كتاب: الجزية والموادعة، باب: إذا قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أسلمنا. (¬2) ابن أبي عبد الرحمن، التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني، المعروف بربيعة الرأي، واسم والده فرّوخ، قال ابن حجر: (ثقة، فقيه، مشهور)، توفي سنة 136 هـ. ينظر: التقريب ص 195. (¬3) في الأصل: سهل. (¬4) سهيل بن ذكوان السمان، أبو يزيد المدني، قال ابن حجر: (صدوق، تغير حفظه بأخرة، روى له البخاري مقرونًا، وتعليقًا)، توفي في خلافة المنصور. ينظر: التقريب ص 260. (¬5) هو: ذكوان، أبو صالح السمان، الزيات، المدني، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت)، توفي سنة 101 هـ. ينظر: التقريب ص 190. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، رقم (3610)، والترمذي في كتاب: الأحكام، باب: اليمين مع الشاهد رقم =

فنسي سهيل الحديث، فقال له ربيعة: أنت حدثتني به، فكان سهيل يقول: حدثني ربيعة عني عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد، فكذلك في مسألتنا. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلْيُلْغِ الشك، ولْيبنِ على اليقين" (¬1). والجواب: أن هذا محمول على المنفرد؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بأنه شاكٌّ في عدد الركعات، فيجب أن يبني على اليقين. دليله: المنفرد. والجواب: أن المنفرد ليس معه أمارة ظاهرة يرجع إليها، وليس كذلك الإمام؛ لأن معه أمارة ظاهرة يرجع إليها، فهو كالحاكم يرجع إلى قول الشهود. ¬

_ = (1343)، وابن ماجه في كتاب: الأحكام، باب: القضاء بالشاهد واليمين رقم (2368)، وصححه أبو حاتم، وأبو زرعة. ينظر: العلل لابن أبي حاتم رقم (1409). وقصة سهيل مع ربيعة - رحمهما الله - ذكرها أبو داود في سننه بعد هذا الحديث، وابن أبي حاتم في العلل رقم (1392). (¬1) بنحوه أخرجه مسلم، كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة رقم (571)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: إذا شك في اثنتين رقم (1024)، والنسائي في كتاب: السهو، باب: إتمام المصلي على ما ذكر إذا شك، رقم (1238)، واللفظ له، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، باب: من شك في صلاته، رقم (1210).

فإن قيل: فيجب أن نقول في المنفرد إذا كان بحضرته من يشاهده يصلي، فأخبره بسهوه (¬1): أن يرجع إلى قوله. قيل: يحتمل أن يرجع إليهما؛ لأن ما طريقه الأمارة لا فرق بين أن يشتركا فيهما أم لا، ألا ترى أنه لو شهد برؤية الهلال المريض، أو المسافر، أو الحائض، ونحوهم ممن لا يلزمهم الصيام، قُبلت شهادتهم، كما يقبل ممن يلزمه؟ ويحتمل أن لا يقبل؛ لأن من معه في الصلاة أضبط، وأشد تحفظًا كذلك من غيره، والأول أشبهُ بكلام أحمد - رحمه الله -، وأنه يقبل؛ لأنه قال في رواية أبي طالب (¬2) وصالح (¬3): لو اختلف رجلان، فقال: أحدهما طفنا سبعًا، وقال الآخر: طفنا ستًا، فقال: لو كانوا ثلاثة، فقال اثنان: قد طفنا سبعًا، وقال الآخر: طفنا ستًا، قُبل قولهما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل قول القوم. فقد رجع إلى قول اثنين في الطواف؛ فإن كل واحد غير مشارك له في طوافه. واحتج: بأن ما أمكن الرجوع في معرفته إلى القطع، لا يُعمل فيه بغالب الظن؛ كالشهادة على الأفعال والعقود لا يجوز تحملُها بالاستفاضة؛ لأنها غالب ظن، ويجوز ذلك فيما لا يمكن معرفتُه؛ كالنسب ونحوه، ¬

_ (¬1) في الأصل: فأخبره سهوه. (¬2) ينظر: المحرر (1/ 372)، والفروع (2/ 319)، وكشاف القناع (2/ 471). (¬3) لم أجدها في مسائله المطبوعة.

35 - مسألة: يسجد للسهو قبل السلام إلا في موضعين: أحدهما: أن يسلم ساهيا، وقد بقي عليه شيء من صلاته؛ كالركعة والركعتين، فإن ترك أقل من ركعة؛ كالسجدة ونحوها، سجد قبل السلام

وها هنا يمكن الرجوع إلى يقينه. والجواب: أن الأمارة إذا كانت ظاهرة، رجع إليها، وإن كان فيه تركٌ لليقين؛ كالرجوع إلى خبر الواحد، وقول الشهود، وأن الأصل هو اليقين، وهو براءة الذمة، وإنما لم يشهد بالعقود (¬1) بالاستفاضة؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، وبه حاجة ها هنا؛ لأنه لا يأمن أن يرجع إلى يقينه، فيزيد في صلاته. واحتج: بأنه لو شهد، ثم نسي شهادته، فشهد عنده بها، لم يجز أن يشهد بذلك. والجواب: أن سماع الشهادة إلى الحكام؛ ولأن الشهادة بالحقوق آكدُ من أخبار الديانات، ولهذا تُقبل شهادة الواحد في رؤية الهلال، والله أعلم. * * * 35 - مَسْألَة: يسجد للسهو قبل السلام إلا في موضعين: أحدهما: أن يسلِّم ساهيًا، وقد بقي عليه شيء من صلاته؛ كالركعة والركعتين، فإن ترك أقل من ركعة؛ كالسجدة ونحوها، سجد قبل السلام: نص عليه في رواية حرب (¬2)، فقال: إذا نسي سجدة من صلاته، ثم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: على العقود. (¬2) ينظر: شرح الزركشي (2/ 12)، والإنصاف (4/ 83).

سلَّم، يقوم فيأتي بركعة وسجدتين، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام. والثاني: إذا كان إمامًا، وشك وتحرى، وقلنا: إنه يتحرى، فإنه يسجد بعد السلام، وما عدا ذلك كله قبل السلام، وكان القياس يقتضي أن يكون جميعه قبل السلام: وقد نص على هذا في مواضع، فقال في رواية ابن بدينا (¬1): يصنع كما صنع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ما جاء عنه، لكان السجود قبل؛ لأنه من تمام الصلاة، وقال أيضًا في رواية صالح (¬2)، والأثرم (¬3) - واللفظ لصالح -: يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سجد للسهو في خمسة مواضع: موضعان قبل السلام، وثلاثة بعد السلام، فأما بعد التسليم: فهو - إذا شك أن يبني على أكثر ظنه ووهمه - يسجدهما بعد التسليم، وإذا سلم من اثنتين أو ثلاث، يسجدهما بعد التسليم، فهذا رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما قبل التسليم، فإن نهض من اثنتين، فلما كان قبل أن يسلم، سجد كأنه لم يتشهد بينهما، ثم سلم، وإذا رجع إلى اليقين، سجد قبل التسليم، والذي نختار بعد هذه المواضع: أن يسجد قبل التسليم؛ لأنه شيء يكمل به صلاته. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 147). وابن بدينا هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلي، حدث عن الإمام أحمد بمسائل كثيرة، توفي سنة 303 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 280)، والمقصد الأرشد (2/ 288). (¬2) في مسائله رقم (1338). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 366)، والمغني (2/ 415).

وقال أيضًا في رواية صالح (¬1)، وأبي طالب (¬2): مالك - رحمه الله - (¬3) يقول: ما كان من نقصان، فهو قبل، وما كان من زيادة، فهو بعد، وهذا خلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شك أحدكم في الثلاث والأربع، فليجعلها ثلاثًا، ويسجد قبل" (¬4)، فقد أمره أن يدع الرابعة، وهي زيادة، ويسجد قبل. وقال أيضًا في رواية أبي داود (¬5)، وحرب (¬6): إذا صلى خمسًا أو ستًا، سجد قبل السلام. فقد نص على ما ذكرنا قبل السلام إلا في موضعين. وروي عنه: إن كان للزيادة، فبعد السلام، وإن كان للنقصان، فقبله (¬7). وروى عنه الحسن بن علي - رضي الله عنهما - (¬8)، فقال: العمل عندنا في سجود ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (989). (¬2) لم أقف عليها. (¬3) ينظر: المدونة (1/ 136)، وبداية المجتهد (1/ 265). (¬4) مضى تخريجه في (1/ 377). (¬5) في مسائله رقم (370). (¬6) ينظر: الروايتين (1/ 148). (¬7) نقلها الحسن بن زياد. ينظر: الانتصار (2/ 367). (¬8) أي: عن الإمام أحمد. ينظر: الروايتين (1/ 147). والحسن بن علي قد يراد به: ابن الحسن بن علي الإسكافي، أبو علي، قال عنه الخلال: (جليل القدر). =

السهو على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: قبل السلام في النقصان، وبعد السلام في الزيادة. وقال أيضًا في رواية ابن منصور (¬1): فيمن صلى الظهر خمسًا: يسجد سجدتين بعد ما يسلم. وبهذه الرواية قال مالك - رحمه الله - (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3)، وداود (¬4): يسجد للسهو بعد السلام في جميعه. وقال الشافعي - رحمه الله -: يسجد للسهو قبل السلام في جميعه (¬5). وذكره أبو بكر النجاد في كتابه قال: وفي كتاب الساجي (¬6): قال أبو ¬

_ = أو: ابن محمد بن بحر القطان، قال عنه الخلال: (شيخ جليل). أو: الأُشنائي البغدادي، فهؤلاء كلهم ممن روى عن الإمام أحمد، ولا مزيد يذكر في ترجمتهم. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 364 و 365 و 366)، والمقصد الأرشد (1/ 327 و 328). (¬1) في مسائله رقم (355). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 134)، والإشراف (1/ 275). (¬3) ينظر: الحجة (1/ 151)، ومختصر القدوري ص 87. (¬4) ينظر: المحلى (4/ 110). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 214)، والبيان (2/ 346). (¬6) هو: زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الضبي البصري، أبو يحيى الشافعي، قال الذهبي عنه: (الإمام الثبت الحافظ)، له من المصنفات: اختلاف العلماء، وعلل الحديث، توفي سنة 307 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 197).

العباس النسائي (¬1): رأيت أحمد بن حنبل - رحمه الله - يقول: سجدتا السهو قبل السلام، زيادة كان أو نقصانًا (¬2)، مثل قول الشافعي - رحمه الله - (¬3). فالدلالة على أنه يسجد قبل السلام فيما عدا الموضعين: ما روى أحمد (¬4)، [و] (¬5) ذكره أبو بكر قال: نا سفيان (¬6) عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه -، قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً نظن أنها العصر، فقام في الثانية، ولم يجلس، فلما كان قبل أن يسلم، سجد سجدتين (¬7). ¬

_ (¬1) جاء في طبقات الحنابلة (2/ 347): (محمد بن العباس النسائي، نقل عن إمامنا أشياء) ا. هـ، وذكره أبو يعلى في الروايتين بهذا الاسم. ينظر: الروايتين (1/ 347). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 367). (¬3) ينظر: المحلى (4/ 110). (¬4) في المسند رقم (22920). (¬5) في الأصل بدون واو، وطريقة المؤلف فيما مضى ذكر الواو. (¬6) هو: ابن عيينة بن أبي عمران، أبو محمد الهلالي الكوفي، ثم المكي، قال الذهبي عنه: (الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخ الإسلام)، توفي سنة 198 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 454). (¬7) بنحوه أخرجه البخاري في كتاب: السهو، باب: ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، رقم (1224)، ومسلم كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له رقم (570).

وروى أحمد - رحمه الله - (¬1) قال: نا عبد الرزاق (¬2) قال: نا معمر (¬3) عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشاء، فقام في ركعتين، فلم يجلس، فلما كان في آخر صلاته، انتظرنا أن يسلم، فسجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم (¬4). وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬5) قال: نا محمد بن فضيل (¬6) قال: ................................... ¬

_ (¬1) في المسند عدة أحاديث، لكن لم أجده بهذا الإسناد، والمتن الذي ذكره المؤلف لم أجده، لكن روى الإمام أحمد عدة أحاديث مقاربة في المسند برقم (22929)، (22930)، (22932). (¬2) ابن همام بن نافع الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 211 هـ. ينظر: التقريب ص 382. (¬3) ابن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 154 هـ. ينظر: التقريب ص 603. (¬4) بنحوه أخرجه البخاري في كتاب: السهو، باب: من لم ير التشهد الأول واجبًا، وباب: ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، رقم (829 و 1224)، ومسلم كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (570). (¬5) رقم (22919). (¬6) ابن غزوان، الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق)، توفي سنة 195 هـ. ينظر: التقريب ص 560.

نا يحيى بن سعيد (¬1) عن عبد الرحمن الأعرج: أن ابن بحينة أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في الثنتين من الظهر، نسي الجلوس، حتى إذا فرغ من صلاته إلى أن يسلم، سجد سجدتين، ثم ختم بالتسليم (¬2). وهذا نص. فإن قيل له (¬3): الذي رواه أحمد من طريقين: (فلما كان في آخر صلاته، سجد قبل السلام)، وفي لفظ آخر: (فلما كان قبل أن يسلم، سجد)، وهذا يسقط ما قالوه. وعلى أن قوله: (فلما قضى صلاته) أراد به: قضى صلاته غير التسليم؛ لأنه أخبر أنهم انتظروا تسليمه، ولا يجوز أن يكون سلم وهم ينتظرون تسليمه. فإن قيل: يحتمل أن يكون قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجود السهو، فرآه تشهد بعد سجود السهو، فظنه أنه سجد قبل السلام، فأخبر بذلك. قيل له: هذا لا يجوز؛ لأن ابن بحينة يقول: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلاة يظن أنها العصر، فقام في الثانية، ولم يجلس، فلما كان قبل أن يسلم، سجد سجدتين). ¬

_ (¬1) ابن قيس الأنصاري، المدني، أبو سعيد القاضي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 144 هـ. ينظر: التقريب ص 661. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: السهو، باب: من لم ير التشهد الأول واجبًا، وباب: التشهد في الأولى، رقم (829 و 830)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (570). (¬3) كذا في الأصل، ولعل (فإن) زائدة؛ لدلالة ما بعدها من الاعتراض.

وفي اللفظ الآخر: (فلما كان في آخر صلاته، انتظرنا أن يسلم علينا، فسجد)، وهذا يقتضي أنه كان قد دخل معه في أول صلاة، وأدرك جميعًا (¬1)، فلم يصح حمله على ما قالوه. فإن قيل: يحتمل أنه سجد قبل التسليمة الثانية. قيل له: قوله: (انتظرنا أن يسلم علينا، فسجد)، وهذا يقتضي السلام الأول؛ لأنه هو المنتظر؛ ولأن قوله: (سجد قبل أن يسلم)، يقتضي جنس التسليم؛ لأن الألف واللام تقتضي الجنس. وروى أحمد - رحمه الله - في المسند قال: نا يونس بن محمد قال: نا فليح عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كَمْ صلَّى؟ فليبن على اليقين، حتى إذا استيقن أنه قد أتمَّ، فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإنه إن كانت صلاته وترًا، صارت شفعًا، [وإن كانت شفعًا]، كان ذينك ترغيمًا للشيطان" (¬2)، وهذا نص. وروى أحمد - رحمه الله - في المسند، قال: نا إبراهيم بن سعد قال: حدثني محمد بن إسحاق عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال له عمر: يا غلام! هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدًا من أصحابه: إذا شك الرجل في صلاته، ماذا يصنع؟ قال: فبينما [نحن] ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: أدركها جميعًا. (¬2) مضى تخريجه (1/ 375).

كذلك، إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم أجمعين - قال: فيما أنتما؟ فقال عمر - رضي الله عنه -: سألت هذا الغلام: هل سمعَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدًا من أصحابه: إذا شك الرجل في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم ثنتين؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا شك أحدُهم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أو ثنتين، فليجعلْها واحدة، وإذا لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثًا، فليجعلْها اثنتين، وإذا لم يدر ثلاثًا صلى أم أربعًا، فليجعلْها ثلاثًا، ثم يسجد إذا خرج من صلاته وهو جالس قبل أن يسلِّم" (¬1). وروى أحمد - رحمه الله -، وذكره أبو بكر قال: نا إسماعيل بن إبراهيم قال: نا محمد بن إسحاق قال: حدثني مكحول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم، فشك في صلاته، فإن شك في الواحدة والثنتين، فليجعلهما (¬2) واحدة، فإن شك في الثنتين والثلاث، فليجعلهما ثنتين (¬3) حتى يكون الوهم في الزيادة، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم يسلم" (¬4). وروى أبو الحسن الدارقطني بإسناده (¬5) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 376). (¬2) في الأصل: فيجعلها، والتصويب من المسند رقم (1677). (¬3) في الأصل: اثنتين، والتصويب من المسند رقم (1677). (¬4) مضى تخريجه في (1/ 376). (¬5) في سننه، باب: صفة السهو في الصلاة رقم (1403).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم، فلم يدر أزاد أم نقص؟ فليسجد سجدتين وهو جالس، ثم يسلم" (¬1). وروى أيضًا بإسناده (¬2) عن محمد بن يوسف (¬3) - مولى عثمان - عن أبيه (¬4): أنه قال: صلى بهم معاوية - رضي الله عنه -، فقام في الركعتين وعليه الجلوسُ، فسبح الناس به، فأبى أن يجلس حتى جلس للتسليم، سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي (¬5). وهذا يدل على أنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن رواية معاوية متأخرة. والقياس: أنه نوع سجود عرض سببه في الصلاة، فوجب أن يكون قبل السلام، دليله: سجود التلاوة، ولا يلزم عليه إذا سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته، أو تحرى؛ لأن التعليل للنوع، فلا يلزم عليه الأحوال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بنحوه في كتاب: السهو، باب: السهو في الفرض والتطوع، رقم (1232)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (389). (¬2) في السنن، باب: صفة السهو في الصلاة رقم (1407). (¬3) القرشي، المدني، قال أبو حاتم: (ثقة). ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 740). (¬4) يوسف القرشي الأموي، المدني، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 686. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (16917)، والنسائي في كتاب: السهو، باب: ما يفعل من نسي شيئًا من صلاته، رقم (1260)، وأشار إليه أبو داود في سننه في كتاب: الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود رقم (191).

فإن قيل: لو كان بمنزلة سجود التلاوة، لوجب أن يُفعل عقيب سببه؛ لأنه يتداخل، ولا يجوز أن يفرد كل سجود بسجدتين، فأُخِّر إلى كل آخر الصلاة (¬1)؛ ليجمع السهو كله، وليس كذلك سجود الصلاة؛ فإنه لا يتداخل، والمستحب إذا تلا آيات السجود: أن يقرأ كل واحدة منها بسجدة، فلم يؤخر السجود إلى آخر القراءة. فإن قيل: فقد يمكن أن يسهو قبل السلام، فكان يجب تأخيره عن السلام. قيل له: هذا أقصى ما يمكن التأخير؛ لأن السلام يخرج به من الصلاة، وهذا السجود ينبغي أن يكون مفعولًا في التحريمة؛ لأن هذا السجود عندهم يفعله في التحريمة، فوجب أن يكون قبل السلام؛ قياسًا على سائر أفعال الصلاة، وكما لو ذكر أنه نسي سجدة من صلاته، وهو جالس في التشهد، فإنه يسجد ويسلم، والذي يدل على أنه يُفعل في التحريمة: أن عندهم: سلّم، ثم سجد، فطلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح، بطلت صلاته، أو كان متيممًا، فوجد الماء في هذه الحال، أو دخل وقت العصر وهم في صلاة الجمعة، بطلت الصلاة، فدل بها على أنه عاد إلى التحريمة، فوجب أن يكون قبل السلام، وبهذا قالوا: لو تكلم، لم يسجد؛ لأن الكلام يقطع حكم التحريمة. فإن قيل: المعنى في سجود التلاوة، وفي سائر موجبات التحريمة: ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، والأقرب: كل آخر صلاة.

أن جميعها يُفعل قبل السلام. قيل: لا يمتنع أن يُفعل بعضه في الصلاة، وبعضه خارجًا منها، كالصوم عن دم التمتع: بعضُه في الحج، وهو صوم الثلاثة، وبعضه خارج الحج؛ وهو صوم السبعة. وقد قيل: بأن هذا السجود لإصلاح الصلاة، فيجب أن يكون قبل الخروج منها؛ قياسًا على ما ذكرنا. فإن قيل: لا يمتنع أن يكون لإصلاحها، ويفعل خارجًا منها؛ كالجبران في الحج. قيل له: موجبات تحريمة الحج يجوز خارج التحريمة، كذلك جبراناته، ولا يجوز موجبات تحريمة الصلاة خارج الصلاة، كذلك جبراناتها، وفي هذا ضعف؛ لأن موجبات تحريمة الحج إنما تأخرت عن تحريمته؛ لأن وقته لم يدخل، فأما وقت الجبران، فموجود، وقد جاز تأخره، وقد كان القياس يقتضي أن يفعله في الموضعين قبل السلام، ولكن تركنا القياس في ذلك؛ لما نذكره. واحتج المخالف: بما روى أحمد - رحمه الله -، وذكره أبو بكر قال: نا ابن أبي عدي عن ابن عون، عن محمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشاء، فذكرها أبو هريرة، وحدثنا محمد قال: "فصلى ركعتين ثم سلم، فأتى خشبة في المسجد"، وذكر الخبر بطوله، قال: "فصلى الذي كان ترك، ثم سلّم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطولَ، ثم

رفع رأسه وكبر" (¬1). وروى شيخنا أبو عبد الله في كتابه (¬2) فقال: ثنا ابن سلم (¬3) قال: نا [ابن] (¬4) عبد الخالق (¬5) قال: نا أبو بكر (¬6) قال: نا أبو عبد الله (¬7) [قال: نا] (¬8) إسماعيل بن إبراهيم قال: نا خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 201). (¬2) لعله يقصد كتابه: الجامع في المذهب، فقد ذكر ابن أبي يعلى في الطبقات أنه يقع في أربع مئة جزء. ينظر: الطبقات (3/ 309). (¬3) هو: أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم الخُتَّلي، أحد شيوخ ابن حامد، قال الذهبي عنه: (الحجة، ... أحد علماء بغداد)، توفي سنة 365 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 82). (¬4) ساقط من المخطوط؛ لأن ابن سلم يروي عن ابن عبد الخالق، والأخير يروي عن أبي بكر المروذي. (¬5) هو: أحمد بن محمد بن عبد الخالق، أبو بكر الوراق، قال الخطيب البغدادي: (كان ثقة، معروفًا بالخير والصلاح)، توفي سنة 309 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (5/ 56). (¬6) هو: أبو بكر المروذي، مضت ترجمته، علمًا أن ابن عبد الخالق قد روى عن المروذي كتاب الورع، وغيره، قال ابن أبي يعلى في الطبقات (3/ 312) في ترجمة ابن حامد نقلًا عنه أنه قال: (وأما المروذي، فقرأتُه على أحمد بن سلم، قال: حدثنا ابن عبد الخالق، عن المروذي عنه). (¬7) يعني: الإمام أحمد - رحمه الله -، وهو في المسند رقم (19828). (¬8) ساقطة من الأصل، يدل لذلك ما مضى ص 201، وإسماعيل هو: أبو بشر المعروف بابن علية.

المهلب، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل إليه رجل يقال له: الخرباق، وكان في يده طول، فقال: يا رسول الله! فخرج إليه، فذكر صنيعه، فقال: "أصدق هذا؟ "، قالوا: نعم، فصلى الركعة التي ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين (¬1). والجواب: أنا نقول بموجب هذه الأخبار؛ لأنها واردة ممن سلَّم ساهيًا، وقد بينا أن ذلك يسجد له بعد السلام. واحتج: بما روى أبو بكر الأثرم في كتابه، قال: نا أبو بكر (¬2) قال: نا محمد بن المنهال (¬3) قال: نا يزيد بن زُريع (¬4) قال: نا روح بن القاسم (¬5) عن منصور بن المعتمر (¬6)، ..................... ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 202). (¬2) الذي ظهر لي: أنه الأثرم، وأنّ (نا) المفيدة للتحديث زائدة من النساخ، فتكون هكذا: قال أبو بكر: نا محمد ... ، فأبو بكر الأثرم من الرواة عن محمد بن المنهال كما تجده في ترجمة محمد بن المنهال. ينظر: تهذيب الكمال (26/ 509)، وسير أعلام النبلاء (10/ 643). (¬3) الضرير، أبو عبد الله البصري، التميمي، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 231 هـ. ينظر: التقريب ص 568. (¬4) البصري، أبو معاوية، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 182 هـ. ينظر: التقريب ص 673. (¬5) التميمي العنبري، أبو غياث، البصري، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 141 هـ. ينظر: التقريب ص 199. (¬6) ابن عبد الله السلمي، أبو عتاب، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، =

عن إبراهيم (¬1)، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة -[لا أدري] زادَ فيها أم نقص -، فلما قضى صلاته، قلنا: يا رسول الله! أزيد في الصلاة شيء؟ قال: "ما ذاك؟ "، قال: صليت بنا كذا كذا، فثنى رجله، فسجد سجدتين، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: "إنما أنا بشر مثلكم، فإذا نسيت، فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاة، فليتحرَّ الصواب، فليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين بعد ذلك" (¬2). ورواه أبو بكر أيضًا في كتابه بإسناده بهذا اللفظ، والدارقطني (¬3). وقد روى أبو بكر النجاد بإسناده عن علقمة: أن عبد الله سجد سجدتي السهو بعد السلام، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله (¬4). ¬

_ = توفي سنة 132 هـ. ينظر: التقريب ص 612. (¬1) النخعي، مضت ترجمته. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (401)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة، رقم (572). (¬3) في سننه، باب: البناء على غالب الظن، رقم (1408). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4475)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء فيمن سجدهما بعد السلام، رقم (1218)، والدارقطني باب: سجود السهو بعد السلام، رقم (1411)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه بعد إيراده للأثر.

والجواب: أنا نقول أيضًا بظاهر الخبر؛ لأنه وارد في التحري، وقد بينا أنه إذا تحرى، بنى على غالب ظنه، سجد بعد السلام. واحتج: بما روى أحمد - رحمه الله - (¬1)، [و] ذكره شيخنا في كتابه قال: نا الحكم بن نافع (¬2) عن إسماعيل بن عياش (¬3)، عن عبيد الله بن عُبيدٍ الكَلَاعي (¬4)، عن زهير (¬5)، عن عبد الرحمن بن جبير (6)، عن أبيه جُبير (¬6) بن نُفير (¬7)، عن ثوبان - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكلِّ سهوٍ سجدتان ¬

_ (¬1) في المسند رقم (22417). (¬2) البَهْراني، أبو اليمان الحمصي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 222 هـ. ينظر: التقريب ص 160. (¬3) في الأصل: عن ابن عباس، والتصويب من المسند، وابن عياش مضت ترجمته. (¬4) في الأصل: عبد الله، والتصويب من المسند. وعبيد الله هو: ابن عبيد، أبو وهب الكَلَاعي، قال ابن حجر: (صدوق)، توفي سنة 132 هـ. ينظر: التقريب ص 406. (¬5) في الأصل: سهيل، والتصويب من المسند، وزهير هو: ابن سالم العنسي، أبو المخارق، الشامي، قال ابن حجر: (صدوق فيه لين، وكان يرسل). ينظر: التقريب ص 205. (¬6) في الأصل: جرير، وهو تصحيف من جبير. وعبد الرحمن هو: ابن جبير بن نفير، الحضرمي، الحمصي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 118 هـ. ينظر: التقريب ص 358. (¬7) ابن مالك بن عامر الحضرمي، الحمصي، قال ابن حجر: (ثقة جليل)، =

بعد ما يسلِّم" (¬1). وروى أحمد - رحمه الله - أيضًا في المسند (¬2) قال: نا حجاج (¬3) قال: نا ابن جريج: أخبرني عبد الله بن مسافع (¬4): أن مصعب بن شيبة (¬5) أخبره عن عقبة بن محمد بن الحارث (¬6)، عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما -: ¬

_ = توفي سنة 80 هـ. ينظر: التقريب ص 114. (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس، رقم (1038)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء فيمن سجدهما بعد السلام، رقم (1219)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب من قال: يسجدهما بعد التسليم، رقم (3822)، وقال: (إسناد فيه ضعف)، وقال في معرفة السنن (3/ 278): (تفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بالقوي)، وأشار لضعفه ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 354). (¬2) رقم (1751). (¬3) ابن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد، قال ابن حجر: (ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره)، توفي سنة 206 هـ. ينظر: التقريب ص 134. (¬4) ابن عبد الله بن شيبة بن عثمان العبْدري، المكي، توفي سنة 99 هـ، لم أجد من تكلم فيه بقدح ولا بمدح. ينظر: تهذيب الكمال (16/ 119)، وتهذيب التهذيب (2/ 431). (¬5) ابن جبير بن شيبة بن عثمان العبْدري، المكي، الحَجَبي، قال ابن حجر: (ليّن الحديث). ينظر: التقريب ص 594. (¬6) في الأصل: الحرب، والتصويب من المسند. وعقبة الأرجح أنه: عتبة بن محمد بن الحارث بن نوفل الهاشمي، قال =

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلِّم" (¬1). والجواب: أن هذا محمول عليه إذا سلم ساهيًا، وقد بقي عليه شيء من صلاته، أو كان إمامًا، فتحرى؛ بدليل: ما ذكرنا من الأخبار. واحتج: بأنه سجود ليس من مقتضى التحريمة، فوجب أن يفعل بعد السلام؛ كتكبيرات التشريق، والتلبية، وسجدة منذورة، ولا يلزم عليه سجود التلاوة؛ لأن التلاوة من مقتضى التحريمة، والسجود من مقتضاها، فهو مما اقتضاه مقتضى التحريمة. والجواب: أن المعنى في الأصل: يجب فعله في التحريمة، فلهذا كان خارج الصلاة، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يجب فعله في التحريمة من الوجه الذي ذكرنا، فكان قبل السلام كسائر الأفعال؛ ولأن هذا - وإن لم يكن من مقتضى التحريمة -، فهو إصلاح للتحريمة، وجبران للنقص الواقع فيها، فوجب أن يكون في التحريمة كما يكون مقتضى التحريمة. واحتج: بأن السلام من موجب التحريمة، فوجب أن يكون مقدمًا ¬

_ = ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 416. (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب. الصلاة، باب: من قال: بعد التسليم، رقم (1033)، والنسائي في كتاب: السهو، باب: التحري رقم (1248)، قال البيهقي في الكبرى (2/ 476): (هذا الإسناد لا بأس به)، وذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفه؛ كأبي بكر الأثرم إذ قال: (إنه لا يثبت). ينظر: التحقيق لابن الجوزي (3/ 249)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 354).

فصل

على سجود السهو، دليله: سائر موجبات التحريمة. والجواب: أن السلام ليس من موجبات التحريمة؛ لأنه ينافيها ويضادها، فلا يجوز أن (¬1) تقتضي ما يضادها، وإذا كان كذلك، فالوصف غير صحيح، وعلى أن سائر الأفعال لا يخرج بها من التحريمة، وليس كذلك التسليم؛ فإنه يخرج به من التحريمة، كما نقول: إذا كان عليه شيء من موجبات التحريمة، ثم نقابل هذا بمثله، فنقول: السجود يُؤدى في التحريمة، فوجب أن يكون مقدمًا على السلام من سائر أفعال الصلاة. واحتج: بأنه سجود تعلق بالسهو، فكان محله بعد السلام، دليله: إذا سلم ساهيًا، وقد بقي عليه شيء من صلاته، أو كان إمامًا، فتحرى وبنى على غالب ظنه: أنه يسجد له بعد السلام، كذلك في بقية السجود. والجواب: أن هذا قياس المنصوص على المنصوص عليه؛ لأن حديث أبي هريرة وعمران - رضي الله عنهما - يقتضي إذا سلم من نقصان، سجد بعد السلام، وحديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنه يسجد قبل السلام، إذا بنى على اليقين، فقياس أحدهما على الآخر يقتضي إسقاط أحدهما، وعلى أنه لا يمتنع أن يختلف محله باختلاف سببه؛ كما أن صوم السبعة عن دم المتمتع يفعل بعد التحلل، وصوم الإحصار والحلق يفعل قبل التحلل. * فصل: والدلالة على أنه يسجد قبل السلام في الزيادة، خلافًا لمالك ¬

_ (¬1) كررت (أن) في الأصل مرتين.

- رحمه الله -: ما روى الدارقطني بإسناده عن عكرمة بن عمار (¬1) عن يحيى بن [أبي] (¬2) كثير، عن أبي سلمة (¬3)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم، فلم يدرِ أزاد أم نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس، ثم يسلم" (¬4)، فقد أمرنا بالسجود قبل السلام، وسوى بين الزيادة والنقصان، وأيضًا: فإن الزيادة في الصلاة بمحل النقصان في الحكم، ألا ترى أن من صلى الظهر خمسًا، لم تجزئه؛ كما لو صلاها ثلاثًا، فثبت أن كلًّا من الأمرين سواء، ثم ثبت في النقصان: أنه يسجد قبل السلام، كذلك في الزيادة. ولأنه نوع سجود تعلق بالسهو، فكان محله قبل السلام، كما لو كان من نقصان، وقد بينا أن القياس كان يقتضي في الموضعين: أنه يسجد قبل السلام أيضًا. ¬

_ (¬1) العجلي، أبو عمار اليمامي، قال ابن حجر: (صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب)، توفي سنة 159 هـ. ينظر: التقريب ص 436. (¬2) ساقطة من الأصل، والتصويب من سنن الدارقطني (2/ 206). ويحيى هو: ابن أبي كثير الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل)، توفي سنة 132 هـ. ينظر: التقريب ص 666. (¬3) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل: اسمه: عبد الله، قال ابن حجر: (ثقة مكثر)، توفي سنة 94 هـ، وقيل: 104 هـ. ينظر: التقريب ص 707. (¬4) مضى تخريجه (1/ 408).

فصل

واحتج المخالف: بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سجد قبل السلام (¬1)، ورُوي: أنه سجد بعد السلام (¬2)، فيجمع بين الأخبار، ونحمل بعضها على النقصان، وبعضها على الزيادة، فنستعمل الأخبار كلها. والجواب: أنه إذا كان لا بد من استعمالها على وجهين مختلفين، كان استعمالها على الصفة التي وردت أولى، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بعد السلام في الموضع الذي سلم، وقد بقي عليه شيء من صلاته، وأمرنا بالسجود بعد السلام في موضع التحري، ونحن نقول بذلك، وأمرنا بالسجود قبل السلام في غير هذين الموضعين. واحتج: بأنه إذا كان للنقصان، فهو جبران، والجبران يفعل في العبادة، وإذا كان للزيادة، فهو ترغيم للشيطان، فيجوز أن يفعله خارجًا منها. والجواب: أن الزيادة في الصلاة نقصان في الحكم من الوجه الذي ذكرنا، فلا فرق بينهما. واحتج: بأن هذا السهو قد اقتضى زيادة لأجل الصلاة، فلو قلنا: إنه يكون فيها، لكان زيادتين في الصلاة، وذلك لا يجوز. والجواب عنه: ما تقدم من أن الزيادة نقصان في المعنى. * فصل: والدلالة على أنه يسجد بعد السلام إذا سلم، وقد بقي عليه شيء ¬

_ (¬1) ينظر: (1/ 403). (¬2) ينظر: (1/ 413).

من صلاته، وإذا تحرى، فبنى على غالب ظنه: ما تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1)، وعمران بن حصين - رضي الله عنه - (¬2)، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سلَّم وقد بقي عليه شيء، سجد بعد السلام. وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في التحري قال فيه: "ويسجد بعد السلام" (¬3). فإن قيل: لا يصح الاحتجاج بحديث أبي هريرة؛ لأن أبا هريرة كان يفتي بسجدتي السهو قبل أن يسلم (¬4)، وروى عنه ابن المنذر (¬5)، والدارقطني (¬6) بخلاف ما روى، لم يجز الاحتجاج به. قيل له: لا نقول هذا، بل نحتج به، ولهذا قلنا: في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في بريرة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيّرها (¬7)، وإن كان من مذهبه أن ¬

_ (¬1) في (1/ 200, 201). (¬2) في (1/ 201, 202). (¬3) ينظر: (1/ 413). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4477)، والترمذي في أبواب السهو، باب: ما جاء في سجدتي السهو قبل التسليم، رقم (391)، وصحح إسناده الألباني في صحيح الترمذي. (¬5) في الأوسط (3/ 308). (¬6) في العلل (9/ 377). (¬7) أخرجه البخاري في كتاب: الطلاق، باب: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة، رقم (5283)، وليس فيه تصريح بالتخيير، وأخرجه صراحة أبو داود في كتاب: الطلاق، باب: في المملوكة تُعتق وهي تحت حر أو عبد، رقم =

بيع الأمة طلاقها (¬1). فإن قيل: فقد روى أبو هريرة هذا في قصة ذي اليدين (¬2)، وروى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم، فلم يدر أزاد أم نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس، ثم يسلم" (¬3)، والقول أولى من الفعل. قيل له: إنما يكون أولى إذا لم (¬4)، ونحن نحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سجد قبل السلام" في غير هاتين الحالتين. فإن قيل: فالرواية مختلفة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، فروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث وأربع، وأكبرُ ظنك على أربع، تشهدتَ، ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم" (¬5). ¬

_ = (2232)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وأخرج البخاري في كتاب: العتق، باب: بيع الولاء وهبته، رقم (2536)، ومسلم في كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، رقم (1504) التخيير في حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه رقم (1947)، والطبري في تفسيره عند قول الله - عز وجل -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (6/ 566). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 200، 201). (¬3) مضى تخريجه في (1/ 408). (¬4) بياض في الأصل بمقدار جملة، ولعلها: يمكن الجمع. (¬5) مضى تخريجه في (1/ 387).

قيل له: الصحيح عن ابن مسعود متصلًا، وموقوفًا على خلاف هذا، وأنه يسجد بعد السلام، فالمتصل: ما رويناه عن الأثرم والنجاد (¬1)، والموقوف: ما رواه أحمد - رحمه الله - في المسند قال: نا محمد بن فضيل قال: نا خصيف: حدثني أبو عبيدة بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إذا شككت في صلاتك وأنت جالس، فلم تدر ثلاثًا صليت أم أربعًا، فإن كان أكبرُ ظنك أنك صليت ثلاثًا، فقم فاركع ركعة، ثم سلم، ثم اسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم، وإن كان أكبرُ ظنك صليت أربعًا، فسلم، وأسجد سجدتين، ثم سلم" (¬2). فإن قيل: فما رُوي في حديث أبي هريرة، وابن مسعود - رضي الله عنهما - منسوخ بما رُوي عن الزهري - رضي الله عنه -: أنه قال: كان آخر الأمرين السجود قبل السلام (¬3). ويدل عليه: أن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - روى السجود قبل السلام (¬4)، وهو متأخر الإسلام. قيل له: لا خلاف في جواز الأمرين جميعًا، وإنما الكلام في الأولى ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 385). (¬2) مضى في (1/ 387). (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب: الصلاة، باب من قال: يسجدهما قبل السلام، رقم (3836) وفي سنده مطرف بن مازن، قال البيهقي: (غير قوي). ينظر: سنن البيهقي (2/ 481). (¬4) مضى في (1/ 408).

والأفضل، فلا معنى لادعاء النسخ فيه. فإن قيل: يحمل ما رويتم على السلام الذي في التشهد، وهو قوله: السلام [عليك] (¬1) أيها النبي؛ بدلالة حديث ابن بحينة - رضي الله عنه -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد قبل السلام (¬2)، وكذلك حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلْيبنِ على اليقين، ويسجد قبل السلام" (¬3)، وحديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (¬4). قيل له: في أخبارنا ما يمنع من هذا التأويل، أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ففيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد، ثم سلم، ثم كبر فسجد، ثم كبر فرفع رأسه، ثم تشهد (¬5)، وفي حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - (¬6) نحو ذلك؛ لأنه قال: فصلَّى الركعة التي ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، وهذا يقتضي صلَّى جميع الركعة، ثم سجد بعد السلام، وكذلك في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصواب، فليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين" (¬7)، وهذا يقتضي السجود بعد تمام ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. (¬2) مضى في (1/ 403). (¬3) مضى تخريجه (1/ 375). (¬4) مضى تخريجه (1/ 376). (¬5) مضى في (1/ 201). (¬6) مضى في (1/ 202). (¬7) مضى تخريجه في (1/ 377).

الصلاة؛ لقوله: "فليتمه، ويسلم"، والتمام عادة عن الفراغ، وعلى أن السلام إذا أطلق، عقل منه السلام الذي يتحلل به من الصلاة، ألا ترى أنه قال: "تحليلها التسليم" (¬1)، فعقل منه السلام المعهود، وهو الذي يقع به التحلل فيها، فمن استعمل أخبارنا في السلام المذكور في التشهد، فقد أزالها عن ظاهرها، وما رووا من الأخبار، فنقول بظاهرها فيما وردت فيه، غير الحالتين اللتين ذكرناهما، ومن استعمل الأخبار على ظاهرها، كان أسعد ممن صرف بعضها عن مقتضاها. وأيضًا: فإن الصلاة عبادة لها تحليل وتحريم، فكان من أفعالها ما يفعل بعد التحليل منها؛ كالحج منه ما يُفعل بعد التحلل، وهو طواف الزيارة، والرمي. ولأنها عبادة لا يقف وجوبها على وجود مال، فكان جبرانها ما يفعل بعد الخروج؛ كالصوم من جبرانه ما يُفعل بعد الخروج منه، وهو الصوم في كفارة الوطء. ولا معنى لقولهم: إن زمان الصوم لا يقبل غيره، فلهذا وجب تأخير ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه، رقم (618)، والترمذي في كتاب: الطهارة، باب: أن مفتاح الصلاة الطهور، رقم (3)، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، رقم (275)، من حديث علي - رضي الله عنه -: قال الترمذي: (هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن)، قال ابن حجر: (أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح). ينظر: الفتح (2/ 417).

36 - مسألة: إذا قام إلى خامسة، ثم ذكر، فإنه يعود فيجلس، ويتشهد ويسجد سجدتي السهو، سواء قعد في الرابعة، أو لم يقعد، وسواء عقد الخامسة بسجدة، أو لم يعقدها

صوم الكفارة بعد الخروج من الصيام، وقبل السلام، وهو محل لفعل السجود، فلهذا وجب فعله قبل التحلل؛ لأنه لا يمتنع أن يكون محلًا للسجود، ويؤخر عنه، كما أن قبل يوم النحر زمان للصوم لا يجوز صوم السبعة في دم التمتع، بل يجب تأخيره، كذلك ها هنا. واحتج: بأنه سجود تعلق بالسهو، فكان محله قبل السلام، دليله: سائر المواضع غير الموضعين. والجواب عنه: ما تقدم في الفصل الأول مع أبي حنيفة - رحمه الله -. * * * 36 - مَسْألَة: إذا قام إلى خامسة، ثم ذكر، فإنه يعود فيجلس، ويتشهد ويسجد سجدتي السهو، سواء قعد في الرابعة، أو لم يقعد، وسواء عقد الخامسة بسجدة، أو لم يعقدها: وقد نص عليه أحمد - رحمه الله - في مواضع، فقال في رواية حمدان بن علي الوراق (¬1): في الرجل يصلي الظهر خمس ركعات: ¬

_ (¬1) هو: محمد بن علي بن عبد الله بن مهران بن أيوب، أبو جعفر الوراق الجرجاني، المعروف: (بحمدان)، قال عنه الخلال: (رفيع القدر، كان عنده عن أبي عبد الله مسائل حسان)، توفي سنة 272 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 334)، والمقصد الأرشد (2/ 468).

يسجد سجدتي السهو، فقيل له: أليس قد تمت صلاته، وإن لم يجلس في الرابعة؟ قال: نعم (¬1). وكذلك نقل ابن منصور عنه - وقد قيل له: قال سفيان في رجل صلى خمسًا ولم يجلس في الرابعة: أحبُّ إليّ أن يعيد - فقال أحمد: يسجد سجدتين بعد ما سلم (¬2). وكذلك نقل أبو داود عنه: إذا صلى خمسًا، فذكر في التشهد، يسجد قبل أن يسلم (¬3)، وكذلك نقل حرب عنه: إذا صلى ستًا، سجد للسهو قبل السلام (¬4)، فقد نص على صحة الصلاة، وإن عقد الخامسة بسجود، وإن لم يتقدمها تشهد. وبهذا قال الشافعي (¬5)، وداود (¬6) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة: إن ذكر أنه في خامسة، وقد عقدها بسجدة، أضاف إليها ركعة أخرى، وتشهد وسلم، وسجد سجدتي السهو، وتشهد وسلم، سواء في الرابعة .................................... ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: الروايتين (1/ 148)، والمغني (2/ 428)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 17). (¬2) في مسائله رقم (355). (¬3) في مسائله رقم (370). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 148). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 216)، ونهاية المطلب (2/ 246). وهو مذهب المالكية: ينظر: المدونة (1/ 134)، والكافي ص 57. (¬6) ينظر: المحلى (4/ 103).

[عقد] (¬1) التشهد، أو لم يعقد، إلا أنه إذا كان قعد في الرابعة، فالصلاة تامة، والركعة نافلة، وإن لم يكن قعد، كان ما صلى تطوعًا، واستقبل الظهر، وإن لم يكن عقد الخامسة بسجدة، عاد، فإن كان قعد في الرابعة قدر التشهد، سلم في الحال، وسجد للسهو، وتشهد وسلم (¬2). دليلنا: ما روى أبو بكر في كتابه بإسناده، وذكره أبو داود (¬3) عن علقمة قال: قال عبد الله: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا، فلما انفتل، توسوس القوم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله! هل زاد في الصلاة شيء؟ قال: "لا"، قالوا: فإنك قد صليت خمسًا، فانفتل، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" (¬4). فوجه الدلالة: أنه لا يخلو إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد في الرابعة مقدار التشهد، أو لم يقعد، فإن كان قعد، فلم يضف إلى الخامسة أخرى، وعندهم: أنه يضيف إليها سادسة، وإن لم يكن قعد، فلم يحكم بفساد صلاته، وعندهم: تبطل الصلاة، والظاهر: أنه لم يقعد في الركعة الرابعة لوجوه: أحدها: أنه يقال في بعض ألفاظ هذا الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى خمسًا، ولم يقعد، وسجد سجدتي السهو. ¬

_ (¬1) في الأصل: قدر، والصواب المثبت. (¬2) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 279)، ومختصر القدوري ص 89 و 90. (¬3) في سننه كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى خمسًا رقم (1022). (¬4) مضى تخريجه في ص 413.

والثاني: أنه لو قعد فيها، لنقل، ولما لم يُنقل، دل على أنه لم يقعد. والثالث: أن من سها، فصلى خمسًا، لا يخلو: إما أن يكون قام من الرابعة، وهو يظن أنها ثالثة، فلا يحصل له على هذا جلوس عقيب الرابعة، أو يكون جلس في الرابعة، ثم سها فظن أنه في التشهد الأول، فقام من الجلوس، فيحصل له جلوس في الركعة الرابعة، ولو كان سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا، لكان ستًا، فلما صلى خمسًا، وقيل له في ذلك، وجبرها بسجود السهو، دل على أن سهوه كان على أنه اعتقد أنها ثلاث، وإن لم يحصل منه جلوس في الرابعة. فإن قيل: الخبر محمول على أنه جلس في الرابعة، فلم تبطل صلاته، وإن لم يضف إليها سادسة؛ لأنه ذَكَرَ أنها خامسة بعد السلام. قيل له: قد منعنا أن يكون جلس في الرابعة من الوجه الذي ذكرنا، وعلى أنه لو جلس، لوجب أن يضم إلى الخامسة ركعة، وقولهم: إنها خامسة بعد السلام، فغير صحيح؛ لأنه لو وجب إضافة السادسة إليها، لما منعه ذلك السلام من أثنائها؛ لأنه سلم وعليه ركعة، وكان بمنزلة من سلم في الركعة الثالثة من الظهر ساهيًا، ثم علم: أن ذلك السلام لا يمنعه من بناء الرابعة. ولأنه لو كان ذلك السلام مانعًا من بناء السادسة، لكان مانعًا من بناء سجدتي السهو؛ لأنهما يفعلان بعد السلام، ويمنع بناء صلاة أخرى. والقياس: أنه زاد في الصلاة من جنسها على طريق السهو، فوجب

أن يكون ملغىً، ولا يبطلها، دليله: لو لم يعقد الخامسة بسجدة. ولأن السجود فعل لو ذكر السهو قبله، لزمه الرجوع إلى الرابعة، وإذا ذكر بعده، وجب أن يلزمه الرجوع إليها؛ قياسًا على الركوع لما كان فعلًا إذا ذكر السهو قبله، لزمه الرجوع إلى الرابعة، فإذا ذكر بعده، لزمه الرجوع إليها. ولأن الخامسة إذا قيدها بسجدة، لو كان يخرج بها من تحريمة الفريضة، لوجب أن يخرج منها بما قبل السجود؛ لأنه قد استوفى موجبات التحريمة، ولم يبق عليه إلا التسليم عنده، أما أن لا يكون من موجبات التحريمة، وأنه والكلام وسائر الأفعال سواء في التحليل، أو يكون من موجبات التحريمة، ولكن يقوم مقامه غيره من الأفعال المخالفة للتحريمة بالقيام إلى الخامسة؛ لأنه مخالف للتحريمة، فلما لم يخرج بذلك إذا لم يسجد، كذلك وإن سجد، وتنبني المسألة على أن الخامسة ملغاة، وليست صلاة نافلة. والدلالة عليه أشياء، منها: أن من سها في الفريضة، ثم تحلل منها، ودخل في النافلة، سقط سجدتا السهو عنه، وفات وقتهما بدخوله في النافلة، وقد قالوا: إنه يسجد للسهو (¬1). والثاني: أن الذي يقضي سجدتي السهو هو هذه الركعة، فإذا لم ¬

_ (¬1) ينظر: حاشية ابن عابدين (4/ 515).

تكن هذه زيادة واقعة في تحريمة الفريضة، وإنما هي صلاة مبتدأة نافلة، فقد سلمت الفريضة من السهو، فلا معنى لسجود السهو، ولما أجمعوا على أنه يسجد، دلت على أنها ليست صلاة. والثالث: أنها لو كانت نافلة، لوجب إذا سلم منها ساهيًا أو جاهلًا أن يضيف إليها أخرى؛ لأن أقل النفل ركعتان، وقد ثبت بهذه الركعة حكم النافلة عنده، ولما لم يضف إليها ركعة، دل على أنها ملغاة، وليست صلاة. واحتج المخالف فقال: أبني المسألة على أن الخامسة صلاة نافلة، وإذا ثبت أنها نافلة، قلنا: قد خرج عن الفرض، ودخل في النفل، وإذا خرج عنها، وقد بقي عليه فرض من فروضها، وهو القعود مقدار التشهد، فسدت صلاة الظهر، ووجب استئنافها. والدليل على أنها نافلة: ما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليضف إليها ركعة أخرى، فإن كانت قد تمت صلاته، فالركعة والسجدتان له نافلة" (¬1)، فسمى الخامسة، فلو كانت ملغاة، لما سماها نافلة. والجواب: أنا قد دلّلنا على أن الخامسة ملغاة، وليست نافلة، وأما حديث أبي سعيد، فالرواية مختلفة فيه، ففي رواية أحمد - رحمه الله -: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1024)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الدليل على أن سجدتي السهو للسهو نافلة، رقم (3883)، وبنحوه في صحيح مسلم، كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له، رقم (571).

أنه قال: "إذا لم يدر أحدكم ثلاثًا صلى أم أربعًا، فليقم فليصل ركعة، ويسجد سجدتين وهو جالس، فإن كان خمسًا، شفع صلاته، وإن كان قد صلى أربعًا، كانت ترغيمًا للشيطان" (¬1)، وفي لفظ آخر: "إذا صلى أحدكم، فشك في صلاته، فإن شك في الواحدة والثنتين، فليجعلهما واحدة، وإن شك في الثنتين والثلاث، فليجعلهما ثنتين؛ حتى يكون الوهم في الزيادة، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم" (¬2)، ولم يقل: إنها نافلة، فلم يصح التعلق به، وعلى أن المخالف لا يقول به؛ لأن عنده أن السجدتين واجبتان، وعلى أنا نقول: إن الركعة وما دونها، وكل ما فعله، وعنده: أنه واجب، ثم كان أنه لم يكن واجبًا، فإنه يثاب عليه ثواب النافلة، وليس الخلاف في هذا، وإنما الخلاف في بقاء تحريمة الفريضة، وهل خرج منها إلى تحريمة النافلة أم لا؟ فعندنا: أن هذه الزيادة حصلت في تحريمة الفريضة، ولزمه فعلها، والرجوع إلى تحريمة الفريضة، وقد قال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله عن رجل فاتته من الصلاة ركعة، فصلى الإمام خمسًا، هل تجزئ الذي فاتته الركعة؟ فتوقف ولم يجب (¬3)، وتوقفه يدل على ما ذكرناه، وأنه يثاب عليه ثواب النافلة؛ إذ لو لم يكن كذلك، لم يتوقف، ولا وجب على المأموم قضاء الركعة؛ لأن ما أدركه مع الإمام ملغىً لا يعتد به، فلما توقف، دل على أنه في حكم النافلة. ¬

_ (¬1) مضى في (1/ 375). (¬2) مضى في (1/ 375، 386). (¬3) ينظر: الفروع (2/ 319)، والمبدع (1/ 507)، والإنصاف (4/ 16).

وقد اختلفت الرواية عنه في المتنفل، هل يؤم المفترضَ أم لا؟ على روايتين، وقد نقل المروذي عنه: في رجل دخل مع الإمام، وقد فاتته ركعة من الظهر، فصلى الإمام خمس ركعات ساهيًا: لا يجزئ هذا المأموم الذي فاتته ركعة، يعيد (¬1)، فقد صرح القول في هذه الرواية: أنه لا يعتد بهذه الركعة مع الإمام، وقوله: يعيد الصلاة، محمول على أنه لم يقض الركعة التي فاتته حتى تطاولَ الفصل، وعلى هذه: الخبرُ حجة عليهم، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الشاك في الصلاة بالبناء على اليقين، ومن شك أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، فاليقين أن يبني على الأقل، فيقوم من الرابعة ولا يجلس؛ لأن الثالثة لا يتعقبها جلوس، فيقوم فيأتي بركعة أخرى، ويسلم، فإن كانت هذه الركعة خامسة، فقد صلاها خمسًا، ولم يجلس في الرابعة، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: [أنها] (¬2) ماضية، وعندك: أنها باطلة، فنصُّ الخبر حجة عليهم. واحتج: بأنه قد أتى بأكثر أفعال الركعة، فوجب أن يثبت حكمها، ولا تكون ملغاة؛ كالمسبوق، وإذا أدرك الإمامَ في الركعة، وتابعه في الركعة، اعتد بها؛ لما ذكرنا، وليس كذلك إذا ذكر قبل أن يعقدها بسجدة أنه يلغيها؛ لأنه لم يأت بأكثر أفعال الركعة. والجواب: أن المسبوق حجة لنا؛ لأن الأقل والأكثر سواء في حكم ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية المروذي، وينظر في المذهب: المحرر (1/ 150)، والحاوي الصغير ص 84، والإنصاف (4/ 16). (¬2) ساقطة في الأصل، ويدل عليها ما بعدها، والضمير يرجع إلى الركعة.

37 - مسألة: إذا نسي سجدة من ركعة، أو سجدتين، ثم ذكر في الركعة الثانية، فإن ذكر قبل أن يأخذ في القراءة، عاد وسجد، وإن ذكر بعد ما قد أبطل حكم الأولة، واعتد بالثانية

المضي؛ فإنه مأمور بالمضي فيها، كذلك ها هنا يجب أن يكونا سواء، وإذا وجب قطع الأول والرجوع إلى ترتيب تحريمة صلاته، كذلك الأكثر. وعلى أن المسبوق يعتد له بفعل الإمام، ويحتسب له به؛ لأن أكثر أفعال الركعة تقوم مقام جميعها، ألا ترى أنه لو كان منفردًا، فأتى بذلك، لم يثبت حكم؛ لأنه لا إمام له. ولأن المسبوق بأكثر أفعال الركعة مع العلم، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه أتى به مع السهو، والنسيان، فلم يعتد به، فلزمه قطعه. ولأن المسبوق يثبت له حكم الركعة على ما أمر به، وقصد فعله، وليس كذلك من صلى خمسًا؛ فإنه صلى الخامسة على أنها فريضة، وأنها واجبة، فلم يثبت لها حكم. والله أعلم. * * * 37 - مَسْألَة: إذا نسي سجدة من ركعة، أو سجدتين، ثم ذكر في الركعة الثانية، فإن ذكر قبل أن يأخذ في القراءة، عاد وسجد، وإن ذكر بعد ما قد أبطل حكم الأولة، واعتد بالثانية: نص عليه في رواية الميموني (¬1). ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: مسائل صالح رقم (927)، ومسائل عبد الله رقم (399)، ومسائل الكوسج رقم (237)، ومسائل ابن هانئ رقم (378)، =

وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬1). وقال الشافعي - رحمه الله -: يعود إلى الأولى ويسجد، سواء ذكر قبل القراءة، أو بعدها (¬2). وقال مالك - رحمه الله -: إن ذكر قبل أن يشرع في الركوع، عاد، وإن شرع فيه، لم يعد، وكانت أولية (¬3). دليلنا: أن القيام غير مقصود في نفسه، وإنما القصدُ القراءةُ؛ بدليل: أنه يلزمه من القيام قدرُ الواجب من القراءة، فهو مقدر بالقراءة الواجبة، وإذا لم يكن مقصودًا في نفسه، جاز الرجوع إلى ما تركه؛ كما لو ذكر قبل أن يعتدل (¬4) قائمًا، فإنه يعود، وأما القراءة، فهي مقصودة في نفسها، فإذا ذكر فيها، لم يجز الرجوع، كما لو ترك الاستفتاح والاستعاذة، ثم ذكر بعد أن شرع في القراءة، فإنه لا يعود، وكذلك لو ترك التشهد الأول حتى اعتدل قائمًا، لم يعد؛ لأنه شرع في مقصود، كذلك ها هنا. فإن قيل: لو لم يكن القيام في نفسه، لم يلزم الأخرس القيام؛ لأنه لا قراءة عليه. ¬

_ = والإرشاد ص 78، والمغني (2/ 424)، وشرح الزركشي (2/ 22)، والإنصاف (4/ 50). (¬1) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 338)، وفتح القدير (1/ 372). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 219)، والبيان (2/ 324). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 136 و 137)، والكافي ص 60. (¬4) في الأصل: اعتدل.

38 - مسألة: فإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، سجد سجدة في الحال، وقام وأتى بثلاث ركعات، وتشهد وسلم

قيل له: إلا أن القيام في حقه مقدر بقدر الفاتحة، فدل على أن ذلك هو المقصود. فإن قيل: التشهد الأول ليس بواجب، فلهذا لم يجب الرجوع إليه. قيل: لا نسلم هذا. واحتج: بأنه شرع في الثانية قبل إتمام الأولى، فوجب أن يعود إلى الأولى، أصله: إذا ذكر قبل أن يأخذ في القراءة. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه ذكر قبل أن يأخذ في ركن مقصود، فلهذا رجع، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه ذكر بعد أن رجع في ركن مقصود، فلهذا لم يرجع كما قلنا في الاستفتاح، والاستعاذة، والتشهد، والله أعلم. * * * 38 - مَسْألَة: فإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، سجد سجدة في الحال، وقام وأتى بثلاث ركعات، وتشهد وسلَّم: نص عليه في رواية صالح (¬1)، وحنبل (¬2)، وعلي بن سعيد (¬3). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (498 و 927). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: المستوعب (2/ 269)، ومختصر ابن تميم (2/ 235)، والإنصاف (4/ 54). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 146).

وروى بكر بن محمد عن أبيه عنه: أن الصلاة تبطل (¬1). وروي عن مالك - رحمه الله - روايتان، مثل مذهبنا (¬2). وقال أبو حنيفة [- رحمه الله -] (¬3): يسجد قبل السلام أربع سجدات متواليات (¬4). وقال الشافعي - رحمه الله -: يصح له ركعتان، ويقضي ركعتين (¬5)، وهو قول داود (¬6). فالدلالة على أن الصلاة لا تبطل: قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطع صلاة المرء شيء" (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 145)، وقد جعل الرواية عن بكر بن محمد عن الإمام أحمد مباشرة، وينظر: مسائل الكوسج رقم (331)، مختصر الخرقي ص 52، والمستوعب (2/ 270). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 134 وما بعدها)، والكافي ص 60، وبداية المجتهد (1/ 263). (¬3) ليست موجودة في المخطوط، واستدركتها على طريقة المؤلف في ذكرها. (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 30، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 281)، والتجريد (2/ 703). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 221)، ونهاية المطلب (2/ 259). (¬6) ينظر: المحلى (4/ 16). (¬7) مضى تخريجه في (1/ 329).

فصل

ولأنه سهو في أركان الصلاة، فلا يبطلها؛ كما لو سلم ناسيًا عن نقصان. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، ولم ينقل عنه: أنه [إذا] فاته أربع سجدات، قضى بعدها ثلاث ركعات. والجواب: أن معناه: كما عَلِمْتموني أصلي، وقد ثبت عنه: أنه سها عن نقصان وزيادة، ولم تبطل صلاته، فكان ذلك دليلًا على مسألتنا. * فصل: والدلالة على أبي حنيفة: أنه شرع في الثانية قبل كمال الأولى، فلم يعتد بما فعله؛ كما لو ترك السجدتين. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يأت بأكثر أفعال الركعة، كذلك في مسألتنا؛ لأنه قد أتى بأكثر من أفعال الركعة. قيل له: إذا أتى بتكبيرة الافتتاح، والقيام، والقراءة، والركوع، فقد أتى بأكثر أفعال الركعة، وبقيت عليه السجدتان، وهما أقل مما أتى به، فلم يصح قوله: إنه لم يأت بأكثر الركعة في الأصل، وعلى أن الأكثر لا يقوم مقام الركعة ها هنا؛ لأن السجدة الثانية باقية عليه، ولا بد من فعلها، ولو كان الأكثر قائمًا مقام الركعة، لوجب أن يسقط ما بقي منها، ولمّا لم يسقط، لم يصح قوله. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 128).

ولأن السجدة الثانية فعلٌ واجب من أفعال الصلاة، فوجب أن يكون الترتيب بينه وبين ما بعده واجبًا. دليله: سائر أفعال الصلاة من الركوع لا يصح قبل القيام والقراءة، ولا يصح السجود قبل الركوع، كذلك يجب أن لا يصح القيام في الركعة الثانية قبل أن تصح السجدة الأخيرة. وعبر بعضهم [عن] هذا المعنى بعبارة أخرى، فقال: ترتيب مستحق في الصلاة، لا يسقط مع الذكر، فلا يسقط السهو؛ كترتيب الركوع على السجود. وأجاب المخالف عن هذا: بأن الترتيب بين السجدات غير مستحق مع الذكر؛ فإنه لو ترك سجدة من ركعة، وقام إلى الركعة الأخرى مع الذكر، لم تفسد صلاته. واحتج المخالف: بأن السجدة الثانية مفعولة على وجه التكرار، فجاز أن يسقط الترتيب بينها وبين الأولى، فيثبت حكم السجدة الأولى من الركعة الثانية قبل ثبوت حكم السجدة الثانية من الركعة الأولى؛ كما قلنا في صيام أيام من رمضان، وركعات الصلاة: إن الترتيب يسقط فيها بهذه العلة، ولا يلزم عليه تقديم السجود على الركوع؛ لأنه لا يجوز؛ لأن السجود والركوع غير مفعولين على وجه التكرار، فجاز أن يثبت بينهما. والجواب: أنَّ لا نسلم أن الثانية مفعولة على وجه التكرار؛ لأن بين الثانية والأولى جلسة الفصل، وهي واجبة عندنا، فتكرار السجدتين في ركعة، كتكرار السجود والركوع في كل ركعة.

وجواب آخر: وهو أن هذا يلزم عليه السعي؛ فإنه مفعول على وجه التكرار، ويجب الترتيب بينه وبين ما قبله من الطواف، وعلى أن الصيام لا مدخل للترتيب فيه، وليس كذلك الركوع والسجود؛ لأن للترتيب مدخلًا فيه. وأجاب بعضهم عن هذا بجواب آخر، فقال: كل يوم من قضاء رمضان عبادة مفتقرة، والعبادات إذا تقدمت في الوجوب، سقط فيها الترتيب، وليس كذلك السجود؛ فإنه ركن من أركان صلاة واحدة، وإن كانت الصلاة يجب فيها الترتيب، ولا يثبت ركن حتى يثبت ما قبله، ألا ترى أنه لا يثبت الركوع حتى يثبت القيام قبله، ولا يثبت السجود حتى يثبت الركوع قبله؟ كذلك لا يثبت القيام في الثانية حتى يثبت السجود الذي قبله، وهذا يصح على أصلنا في الفرع، فأما معارضة الأصل، فلا يصح على أصلنا؛ لأن الترتيب قد يستحق في العبادات، وهو قضاء الفوائت. واحتج: بأنه أتى بأكثر أفعال الركعة، فوجب أن لا تنعقد الركعة، ويثبتُ حكمُها؛ كالمسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع، وتابعه في بقية الركعة: أنه يثبت حكمها؛ لأنه أتى بأكثر أفعالها. والجواب: أن المسبوق لم يبق عليه من الركعة شيء، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه قد بقي عليه من الركعة السجدة الثانية، فلم يصح ما بعدها، على أنه منتقض به إذا بقيت عليه السجدتان؛ فإنه قد أتى بأكثر أفعال الركعة من الوجه الذي بيّنا، ومع هذا، فلا يحتسب له بما يفعله في الركعة الثانية.

فصل

* فصل: والدلالة على الشافعي - رضي الله عنه -: أن ما ذهبنا إليه يحصل به مواليًا بين الركوع والسجود؛ لأنه يسجد في الرابعة سجدة أخرى، فيحصل سجدتان قد تقدمهما الركوع، ولم يتخللهما غيره، وإذا لفق، لم يوال بينهما، فكانت الموالاة أولى، يبين صحة هذا ما قالوه: إذا زحم عن السجود في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، فتخلص، والإمام راكع في الثانية، فإنه يركع معه، ولا يتشاغل بقضاء ما عليه، ويكون الركوع الثاني فرضه، والأول لغو؛ لأنه توالى بين ركوعه وسجوده، ولو جعلنا الأولى فرضَه، والثانيةَ، فرَّقنا بين الركوع والسجود، فكانت الموالاة أولى. ودلالة ثانية: وهو أنه إذا سجد في الرابعة سجدة، قصر الفصل بين المتتابعتين - أعني: بين السجدة الأوّلة والثانية -، وإذا لفق سجود الثانية إلى الأوّلة، والرابعة إلى الثالثة، طال الفصل بين المتتابعتين، وقد يسقط حكم الفصل في الصلاة إذا قصر، ولا يسقط إذا طال وكثر، ألا ترى أن الجمع بين الصلاتين في الأولى منهما جائز؛ بشرط أن لا يطول الفصل بينهما، فإن لم يطل، جاز، وكذلك إذا ذكر - بعد أن سلم -: أنه نسي سجدتي السهو، فإن كان الفصل قليلًا، أعادها، وإن كان طويلًا، لم يعدها، وجب أن يعتبر ما يقصر به الفصل المتتابعتين، دون ما يطول؛ ولأن السجود ركن من أركان الركعة، فلم يصح تلفيقه من ركعتين. دليله: القراءة، وذلك أنه لو قرأ نصف الفاتحة في ركعة، وفي النصف الثاني من الركعة الثانية، لم يلفق، كذلك السجود.

39 - مسألة: إذا نسي التشهد الأول، ثم ذكر بعد أن اعتدل قائما، وقبل أن يشرع في القراءة، فالمستحب له: أن يمضي في صلاته، ولا يرجع، فإن رجع، جاز

ودلالة ثالثة: وهو أن الصلاتين المجموعتين قد جُعِلتا في حكم الصلاة الواحدة في نية الجمع، وهو أن ينوي من الأول للجمع، ويجب التوالي بينهما، والترتيب، ثم ثبت أنه لا يلفق سجود الثانية إلى الأولى، كذلك الصلاة الواحدة. فإن قيل: أليستا في حكم الصلاة الواحدة؛ بدليل: جواز الكلام بينهما، ويفصل بينهما بتسليم، وتُفرد كل واحدة بنية. قيل: لم يُدَّعَ أنهما في حكم الصلاة من جميع الجهات. واحتج المخالف: بأن هذا سهو لا يبطل الصلاة، فلا يبطل الاعتداد بما فعله. دليله: لو سلم من ركعتين. والجواب: أن هناك لا يفضي (¬1) إلى ترك الموالاة بين الركوع والسجود، وهذا بخلافه. والله أعلم. * * * 39 - مَسْألَة: إذا نسي التشهد الأول، ثم ذكر بعد أن اعتدل قائمًا، وقبل أن يشرع في القراءة، فالمستحب له: أن يمضي في صلاته، ولا يرجع، فإن رجع، جاز: ¬

_ (¬1) في الأصل: يعصي، ولعل الأقرب المثبت.

نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله (¬1)، وأبي داود (¬2)، وحرب (¬3)، وبكر بن محمد (¬4)، - رحمهم الله -. وقال مالك - رحمه الله -: إن ارتفعت أليتاه من الأرض، لم يعد (¬5). وقال الشافعي - رحمه الله -: إن ذكر قبل أن ينتصب قائمًا، عاد وجلس وتشهد، وإن ذكر بعد ما انتصب قائمًا، لم يجز له أن يعود (¬6). دليلنا: أنه ذكر قبل أن يشرع في القراءة، فجاز له الرجوع، دليله: لو ذكر قبل أن يعتدل قائمًا، أو قبل أن ترتفع أليتاه من الأرض. فإن قيل: المعنى فيه إذا لم يعتدل (¬7): أنه لم يحصل في ركن مقصود، فجاز العود، وإذا ذكره في القيام، فقد ذكر بعد حصوله في ركن ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (401 و 410). (¬2) في مسائله رقم (384). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: المستوعب (2/ 274)، والمغني (2/ 419)، ومختصر ابن تميم (2/ 168). (¬4) لم أقف عليها، ونقل الرواية: الكوسج في مسائله رقم (241)، وينظر: الفروع (2/ 323). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 138)، ومواهب الجليل (2/ 337). (¬6) ينظر: الوسيط (2/ 667)، وروضة الطالبين (1/ 303). وعند الحنفية: إن كان إلى حال القعود أقرب، عاد فجلس، وإن كان إلى حال القيام أقرب، لم يعد. ينظر: مختصر القدوري ص 89، والهداية (1/ 75). (¬7) في الأصل: يعتد.

مقصود فلم يجز الرجوع؛ كما لو ذكر بعد أن رجع (¬1) شرع في القراءة، ولهذا قلنا: إذا نسي دعاء الاستفتاح، ثم ذكره قبل أن يستفتح بالقراءة، أنا نقول: إن كان قد استفتح، لم يأت به. قيل له: القيام غير مقصود في نفسه، وإنما يتوصل [به] إلى القراءة المقصودة، وقد بينا ذلك فيما تقدم، دليلنا عليه: بأن القيام (¬2) يتقدر بالقراءة الواجبة، ويسقط ما زاد عليه بسقوط القراءة، وإذا كان كذلك، لم يصح ما قاله، وجرى القيام مجرى نهوضه إلى القيام قبل أن يعتدل؛ فإنه يرجع، وليس كذلك القراءة؛ لأنه ركن مقصود في نفسه، فلهذا لم يرجع. واحتج المخالف: بما روى أحمد في المسند (¬3) بإسناده عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قام أحدكم من الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائمًا، فليجلس، وإن استوى قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو" (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل كلمة: (رجع) زائدة. (¬2) في الأصل: الصيام، وهو خطأ. (¬3) رقم (18223). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس، رقم (1036)، وعلّقه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسيًا، رقم (364)، وابن ماجه كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن قام من اثنتين ساهيًا، رقم (1208)، قال البيهقي في المعرفة (3/ 286): (وجابر هذا - يعني: الجعفي - لا يحتج به، غير أنه يروى من =

والجواب: أنا نحمل قوله: "وإن استوى قائمًا، فلا يجلس" على أحد وجهين: إما على الاستحباب، أو على أنه استوى قائمًا، وشرع في القراءة؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بأنه شرع في ركن مقصود، فلم يجز له الرجوع، كما لو أخذ في القراءة. والجواب عنه: ما بيّنا، وأن القيام ليس بمقصود في نفسه. فإن قيل: فإذا لم يكن مقصودًا في نفسه، فلم كرهت له الرجوع؟ ألا ترى أنه إذا لم يعتدل قائمًا، لم يكن ذلك مقصودًا، لم يكره له الرجوع. قيل: إنما كرهنا الرجوع بعد القيام؛ لأن من الناس من يجعل القيام مقصودًا في نفسه، ويمنعه من الرجوع، فكرهنا الرجوع، للخروج من الخلاف، والله أعلم. * * * ¬

_ = وجهين آخرين)، قال ابن حجر: (ومداره على جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًا). ينظر: التلخيص (2/ 833)، وثبت عن المغيرة - رضي الله عنه -: أنه صلى بقوم، فنهض في الركعتين، فقالوا: سبحان الله، ومضى، فلما أتم صلاته وسلم، سجد سجدتي السهو، فلما انصرف قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت. أخرجه أبو داود، كتاب: الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس، رقم (1037)، والترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسيًا، رقم (364)، وصححه ابن الملقن في البدر المنير (4/ 223).

40 - مسألة: إذا قرأ في الأخيرتين من الظهر، والعصر، وعشاء الآخرة بالحمد وسورة ساهيا، أو صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، أو دعا بما يدعو في التشهد الآخر، أو قرأ في موضع تشهده، أو موضع ركوعه وسجوده، أو تشهد في موضع قيامه، أو قال في موضع ركوعه: سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك، فإنه يسجد في جميع ذلك سجود السهو

40 - مَسْألَة: إذا قرأ في الأخيرتين من الظهر، والعصر، وعشاء الآخرة بالحمد وسورة ساهيًا، أو صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، أو دعا بما يدعو في التشهد الآخر، أو قرأ في موضع تشهده، أو موضع ركوعه وسجوده، أو تشهد في موضع قيامه، أو قال في موضع ركوعه: سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك، فإنه يسجد في جميع ذلك سجود السهو: وقد نص على ذلك في مواضع، فقال في رواية صالح: إذا جلس ليتشهد، فقرأ ناسيًا، أو قام فتشهد مكان القراءة ناسيًا، سجد السهو (¬1). وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا سها في ركوعه، فقال: سمع الله لمن حمده، يسجد (¬2)، وقال في رواية حنبل (¬3)، وأبي طالب: إذا صلى الظهر، فقرأ في أربع ركعات بالحمد وسورة، أو صلى المغرب، فقرأ ¬

_ (¬1) لم أجدها بهذا اللفظ، وبنحوها في مسائله رقم (552). (¬2) ينظر: مسائله رقم (377)، والروايتين (1/ 147). وابن إبراهيم هو: إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، أبو يعقوب النيسابوري، خدم الإمام أحمد وهو ابن تسع سنين، ونقل عنه مسائل كثيرة جدًا، توفي ببغداد سنة 275 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 284)، والمقصد الأرشد (1/ 241). (¬3) لم أقف عليها.

في الثالثة بالحمد وسورة ساهيًا: يسجد للسهو (¬1). وقال في رواية إسحاق بن هانئ (¬2)، والمروذي (¬3): إذا زاد على تشهد ابن مسعود في الركعتين الأوليين شيئًا من الدعاء: يسجد سجدتين بعد السلام. وقد روي عنه: أنه لا سجود في ذلك، نص عليه في رواية الميموني (¬4)، وأحمد بن هاشم الأنطاكي (¬5): إذا قرأ في الآخرتين بفاتحة الكتاب وسورة: لا يسجد. وبه قال أبو حنيفة (¬6)، ومالك (¬7)، والشافعي (¬8) - رضي الله عنهم -. وقال داود (¬9): لا يسجد إلا من شكَّ، فلم يدرِ كم صلَّى، فإنه يُلغي، ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 147)، وبدائع الفوائد (3/ 991)، وفي الفروع (1/ 44) أشار إليها، وأنه لا ينبغي أن يفعل، ولم يذكر السجود. (¬2) في مسائله رقم (395). (¬3) لم أقف عليها. (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 146)، وبدائع الفوائد (3/ 991). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 146)، وبدائع الفوائد (3/ 991). وأحمد هو: ابن هشام بن الحكم بن مروان الأنطاكي، قال الخلال عنه: (شيخ جليل متيقظ، رفيع القدر). ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 206)، والمقصد الأرشد (1/ 204). (¬6) ينظر: مختصر القدوري ص 88، وفتح القدير (1/ 360). (¬7) ينظر: بداية المجتهد (1/ 269)، والقوانين الفقهية ص 60. (¬8) ينظر: نهاية المطلب (2/ 266)، والبيان (2/ 336). (¬9) ينظر: المحلى (4/ 103).

ويبني على اليقين، ومن قام من اثنتين ساهيًا، ولم يتشهد، ومن سلم من اثنتين ساهيًا، ومن قام إلى خامسة (¬1)، ومن سها إمامُه، فأدرك معه أول صلاته (¬2)، وليس في غير ذلك سجود. وجه الرواية الأولة: ما روى أحمد - رحمه الله - بإسناده، وقد ذكرته فيما تقدم (¬3) عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لكل سهو سجدتان بعد السلام"، وهذا عام؛ ولأن هذا ذكرٌ مشروع في الصلاة أتى به في غير موضعه على وجه السهو، فوجب أن يسجد، دليله: إذا سلم من ركعتين. فإن قيل في ذلك: إن عمده يبطل، فسهوه يُسجد له، وليس كذلك ها هنا؛ فإن عمده لا يبطل، فسهوه لا يُسجد له. قيل له: تركُ التشهد الأول، والقنوتِ عمدًا لا يُبطل، وإذا تركه سهوًا، سجد للسهو، فبطل أن يكون السجود مفعولًا بما يبطل الصلاة تعمده. فإن قيل: الزيادة في الصلاة بالأفعال تنقسم، فما كان منها يُبطل الصلاة تعمُّدُه، فإن سهوه يُسجد له؛ مثل: أن يقوم إلى خامسة ساهيًا، وما كان منها لا يبطل الصلاة عمدُه، فإن سهوه لا يُسجد له؛ مثل: الخطوة ¬

_ (¬1) في الأصل: خمسة، والصواب المثبت. (¬2) في الأصل: أو صلاته. (¬3) في ص 415.

والخطوتين، كذلك الزيادة بالقول يجب أن تنقسم، فما أبطل عمده، سُجد له، وهو السلام في غير موضعه، وما لم يبطل عمده، لم يسجد له، وهو هذه المسائل. قيل له: ولم كان ذلك، وعلى أنا قد بينا أن سجود السهو لا يقف على ما يُبطل الصلاة عمدُه، وعلى أن العمل اليسير إنما لم يُسجد له؛ لأنه لا يمكن الاحتراز من ذلك، ففي السجود لذلك مشقة، فلهذا لم يسجد، وقد قال أحمد في رواية بكر بن محمد: إذا قرأ آية رحمة، فجعلها عذابًا، تمت صلاته، ولا يسجد (¬1). وقال أيضًا في رواية الميموني (¬2): لا يدعو في الفريضة: "سجد وجهي للذي خلقه" (¬3)، فإن دعا، لم يسجد للسهو. وأيضًا: فإن الأفعال في الصلاة إذا أتى بها في غير موضعها، سجد للسهو؛ مثل: أن يأتي بالقيام في موضع الجلوس، وهو القيام إلى الخامسة، أو يأتي بالجلوس في موضع القيام، فهو أن يجلس عقيب الأوّلة أو الثالثة، كذلك يجب أن الأذكار إذا أتى بها في غير موضعها أن يسجد لها. ¬

_ (¬1) ينظر: الإنصاف (4/ 399). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: المغني (2/ 234)، والإنصاف (3/ 553). (¬3) جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان، رقم (771).

41 - مسألة: إذا ترك تكبيرات العيدين، أو قرأ بالسورة، لم يسجد للسهو

وذهب المخالف: إلى الأسْوِلة (¬1) التي ذكرناها، وقد أجبنا عنها، والله أعلم. * * * 41 - مَسْألَة: إذا ترك تكبيرات العيدين، أو قرأ بالسورة، لم يسجد للسهو: وقد نص على ذلك في السورة في رواية الميموني (¬2): فيمن قرأ بفاتحة الكتاب، وذكر في التشهد، هل يسجد للسهو؟ فقال: أما ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو غير هذا، ولم أره يوجب في هذا سجود سهو. وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة: يسجد للسهو (¬4). وقد نقل أبو جعفر الوراق عن أحمد - رحمه الله -: أنه قرأ يوم الجمعة السجدة، فسها أن يسجد، فسجد سجدتي السهو (¬5)، كذلك ها هنا. ¬

_ (¬1) في الأصل: الاسولة. ينظر: لسان العرب (سول). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: الجامع الصغير ص 47، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 243)، والمغني (2/ 388). (¬3) ينظر: الوسيط (2/ 663)، والبيان (2/ 332). (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 30، ومختصر القدوري ص 88. وللمالكية قولان، ينظر: المعونة (1/ 171)، والقوانين الفقهية ص 62. (¬5) ينظر: الفروع (3/ 190)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 385).

دليله: ما روى الدارقطني (¬1) عن سالم (¬2)، عن أبيه - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا سهو إلا في قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام" (¬3)، وهذا يدل على أنه لا يسجد لترك الذكر؛ ولأنه ذكر مشروع في قيام القراءة، فلا يسجد لتركه؛ قياسًا على ذكر الاستفتاح، والاستعاذة، ولا يلزم عليه التكبير للخفض، والرفع، والتسبيح في الركوع، والسجود، وقول: سمع الله لمن حمده؛ لأن ذلك لا يفعل في قيام القراءة. واحتج المخالف: بما روى ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل سهو سجدتان بعد السلام" (¬4). والجواب: نخصه ونحمله على غير مسألتنا؛ بدليل ما تقدم. واحتج: بأنه ذكر مسنون في موضع واحد يُفعل بعد ذكر الاستفتاح، أشبهَ التشهدَ، والقنوتَ، وقد نص على السجود للقنوت في رواية صالح: ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: الصلاة. باب: ليس على المقتدي سهو، وعليه سهو الإمام، رقم (1414). (¬2) ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - القرشي العدوي، أبو عمر المدني، أحد الفقهاء السبعة، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 106 هـ. ينظر: التقريب ص 216. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من سها فجلس في الأولى، رقم (3853)، وقال: (وهذا حديث ينفرد به أبو بكر العنسي، وهو مجهول)، وينظر: البدر المنير (4/ 218). (¬4) مضى في (1/ 415).

إذا ترك القنوت ساهيًا، يسجد إذا كان ممن يقنت (¬1)، ونقل صالح (¬2): إذا ترك التشهد الأول ساهيًا، يسجد للسهو. قالوا: ولا يلزم عليه تكبيرات الرفع، والخفض، والتسبيح في الركوع، والسجود؛ لأنه ذكر يشرع في مواضع متفرقة، ولا يلزم عليه الاستفتاح؛ لقولنا: يفعل بعد ذلك الاستفتاح. والجواب: أنه يبطل بتكبيرات الركوع، والسجود، فإن أدناها ثلاث تسبيحات، وتكبيرات العيدين عند أبي حنيفة - رحمه الله - ثلاث (¬3)، ومع هذا، فلا يسجد للتسبيح، وعلى أن المعنى في القنوت: أنه ذكر مقصود، ألا ترى أنه يتقدر محله به، وهو مقصور عليه؟ فلهذا سجد، وليس كذلك في تكبيرات العيدين؛ لأنه غير مقصود؛ لأنه تابع في محله لغيره، فلهذا لم يسجد؛ كالاستفتاح، والاستعاذة، وكذلك التشهد الأول؛ لأنه مقصود؛ ولأنه يتقدر محله؛ ولأن الصلاة تبطل إذا تركه عامدًا على أصلنا، وما بطلت الصلاة بتركه، فهو مقصود. ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله بهذا اللفظ، والذي وجدته: (قال أبي: سألت إسماعيل عمن نسي القنوت في الوتر، هل عليه سجدتا السهو؟ قال: ما أرى عليه ذلك، قال: وسألت هُشيمًا عن ذلك، فقال: يعجبنا أن يسجد لذلك سجدتي السهو) رقم المسألة (717)، ونقل السجود في نسيان القنوت ممن يقنت عادة: أبو داود في مسائله رقم (487). (¬2) في مسائله رقم (552). (¬3) ينظر: مختصر القدوري ص 104، والهداية (1/ 85).

42 - مسألة: إذا جهر فيما يسر، أو أسر فيما يجهر، لم يسجد للسهو في أصح الروايتين

واحتج: بأنه تكبير مشروع بعد الدخول في الصلاة، فسجد له، دليله: تكبير الخفض والرفع؛ ولأنه ذكر مسنون يفعل بعد الاستفتاح، أشبه التسبيح في الركوع، والسجود. والجواب: أن المعنى في تلك الأذكار: أنها مقصودة عندنا, ولهذا تبطل الصلاة بتركها عمدًا، فلهذا سجد للسهو، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه غير مقصود، فلهذا لم يسجد له. * * * 42 - مَسْألَة: إذا جهر فيما يُسِرّ، أو أَسَرَّ فيما يجهر، لم يسجد للسهو في أصح الروايتين: نص عليها في رواية صالح (¬1)، وابن منصور (¬2) - وقد ذُكر له قول سفيان: [السهو] (¬3): إذا قمت فيما لا ينبغي لك أن تقوم، أو قعدت فيما لا ينبغي لك أن تقعد، أو سلمت ناسيًا، أو جهرت فيما لا ينبغي لك أن تجهر، أو خافَتَّ فيما لا ينبغي لك أن تُخافت ناسيًا -، فقال أحمد: كله ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وهي موجودة في الروايتين (1/ 122)، والمغني (2/ 428). (¬2) في مسائله رقم (329). (¬3) ليست في المخطوط، وهي موجودة في مسائل ابن منصور، وبها يتم الكلام، فسفيان يُعرِّف السهو.

جيد، إلا جهره بالقراءة، وإخفاءه فيما لا ينبغي، فإن سجد، فلا بأس، وإن لم يسجد، فليس عليه. وكذلك نقل الأثرم عنه (¬1)، وقد سئل عن رجل سها، فجهر فيما يُخافت فيه، هل عليه سجدتا السهو؟ فقال: أما عليه، فلا, ولكن إن شاء سجد، وذكر الحديث (¬2): كان يسمع منه نغمة (¬3) في صلاة الظهر (¬4)، وأنس جهر فلم يسجد (¬5)، وظاهر هذا: أنه لا يسجد، وبه قال الشافعي - رحمه الله - (¬6). وفيه رواية أخرى: يسجد لذلك، نص عليه في رواية صالح في موضع آخر، فقال: إذا جهر في الظهر، سجد سجدتي السهو، فقيل: ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 122)، والمغني (2/ 428). (¬2) لعل ثمة سقطًا، فتتمة رواية الأثرم عند ابن قدامة في المغني (2/ 428) تبين أن المراد ليس حديثًا مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتتمة هي: (وذكر أبو عبد الله الحديث عن عمر، أو غيره: أنه كان يُسمع منه نغمة في صلاة الظهر ... ). (¬3) في الأصل: نعلمه، والصواب المثبت، وينظر: المغني (2/ 428)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 486). (¬4) الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (3593) عن عمر - رضي الله عنه -، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، قال ابن حجر: (ضعيف). ينظر: التقريب ص 441. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (3667)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 154): (وفيه سعيد بن بشير، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات). (¬6) ينظر: الحاوي (2/ 226)، والوسيط (2/ 663).

أنس جهر فلم يسجد؟ فقال: وما يضره أن يسجد (¬1)؟ وقال أيضًا في رواية أبي داود (¬2): إذا خافَتَ فيما يجهر به حتى فرغ من فاتحة الكتاب، ثم ذكر، يبتدئ فاتحة الكتاب، فيجهر، ويسجد سجدتي السهو. وقال أيضًا في رواية حنبل (¬3): إذا جهر بالاستفتاح، والاستعاذة، فهو سهو يسجد للسهو، فظاهر هذا: أنه يسجد، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬4). وجه الرواية الأولة: ما تقدم (¬5) من حديث سالم عن أبيه - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى قتادة (¬6) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنه جهر في الظهر أو العصر، فلم يسجد (¬7)، ولا يعرف له مخالف. ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر: الروايتين (1/ 121 و 122)، والمستوعب (2/ 268)، والمغني (2/ 428). (¬2) في مسائله رقم (382). (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 984). (¬4) ينظر: التجريد (2/ 707)، والهداية (1/ 74). وبه قالت المالكية، ينظر: المدونة (1/ 140)، والإشراف (1/ 276). (¬5) في الصفحة الماضية حاشية رقم (2). (¬6) ابن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 118 هـ. ينظر: التقريب ص 504. (¬7) مضى تخريجه الصفحة الماضية حاشية رقم (5).

ولأنها هيئة مسنونة لركن، فلا يتعلق بتركها جبران، دليله: إذا ترك وضع اليمين على الشمال في حال القيام، والرمَل، والاضطباع في الطواف. واحتج المخالف: بما تقدم (¬1) من حديث ثوبان: "لكل سهو سجدتان". والجواب: أنه محمول على غير مسألتنا. واحتج: بأنه مسنون لركن يُفعل في موضع واحد يُفعل بعد الاستفتاح، أشبهَ دعاءَ القنوت. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه منتقض بترك التسبيح في الركوع، ثم القنوت مقصود، وهذا هيئة غير مقصودة. واحتج: بأنها هيئة للذكر يتعلق بتركه نقصان يفتقر (¬2) إلى الجبران. دليله: إذا ترك الصلاة مع الإِمام يوم عرفة، ولا يلزم عليه ترك الرمل في الطواف؛ لأنه هيئة لبعض الذكر دون جميعه، وكذلك رفع اليدين هو هيئة لبعض التكبيرات دون بعض، وكذلك التورك والافتراش هو لبعض الجلوس دون بعض. والجواب: أنه ينتقض بترك الاضطباع في جميع الطواف؛ فإن هذه هيئته، ومع هذا، فلا جبران فيه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في (1/ 415). (¬2) في الأصل: يقتصر.

43 - مسألة: إذا ترك تكبيرات الخفض، والرفع، والتسبيح في الركوع، والسجود، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا لك الحمد، والتشهد الأول، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، فإنه يسجد للسهو

43 - مَسْألَة: إذا ترك تكبيرات الخفض، والرفع، والتسبيح في الركوع، والسجود، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا لك الحمد، والتشهد الأول، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، فإنه يسجد للسهو: وقد ذكر الخرقي جميع ذلك (¬1)، وقد نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية أبي الحارث (¬2): فيمن ترك التسبيح عامدًا: تبطل صلاته، فإن تركه ساهيًا، سجد للسهو، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهض من الاثنتين ساهيًا، فترك الافتراش، وترك تكبير الجلوس، وسجد للسهو قبل السلام (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهما الله -: لا يسجد في شيء ¬

_ (¬1) في مختصره ص 50. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 128)، وكذلك نقلها صالح في مسائله رقم (552). (¬3) مضى في ص 403. (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 30، والهداية (1/ 74). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 226)، والبيان (2/ 336). وعند المالكية: التفريق بين ترك تكبيرة واحدة، وبين ترك أكثر من واحدة، فيقولون بالسجود للثانية دون الأولى، وكذلك يفرقون بين ما ليس من بُنية الصلاة؛ كالقنوت، وما كان منها؛ كالتكبيرات غير تكبيرة الافتتاح، فالأول: لا يسجد لتركه سهوًا، والثاني: يسجد لتركه. ينظر: المدونة (1/ 137)، والمعونة (1/ 171)، والقوانين الفقهية ص 62.

44 - مسألة

من ذلك إلا في التشهد الأول، وفي دعاء القنوت أيضًا. دليلنا: ما تقدم (¬1) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -: "لكل سهو سجدتان"، وهذا عام؛ ولأنه قد ثبت من أصلنا: أن هذه الأذكار واجبة مع الذكر، وتسقط بالسهو، وهذا يدل على أنها مقصودة، وإذا كان ذكرًا مقصودًا لا تبطل الصلاة بتركه، فإنه يسجد له، دليله: التشهد الأول، والقنوت؛ ولأنها عبادة يدخلها الجبران، فيجب أن يدخل لترك واجب؛ كالحج، وعندهم: لا يدخل لترك واجب، أو نقول: فجاز أن يقوم الجبران، مقام واجب، كالحج. فإن قيل: هذه الأذكار غير مقصودة؛ لأن التكبير جُعل للانتقال من ركن إلى ركن، والتسبيح في الركوع ليس بمقصود؛ لأنه شرع في محل هو خضوع في نفسه، فلا يحتاج إليه. قيل: قد دللنا على وجوبه فيما تقدم، فلا معنى لهذا الكلام، وإذا ثبت أنه مقصود، فلا تبطل الصلاة بتركه؛ فإنه يسجد له، والله أعلم. * * * 44 - مَسْألَة إذا ترك القنوت عامدًا، لم يسجد للسهو، وكذلك كل ما لم يُسْجَد له؛ مثل: القراءة للسورة في الآخرتين، والصلاة على ¬

_ (¬1) في (1/ 415).

النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، والجهر فيما يسرُّ به إذا قلنا: يسجد (¬1): وهو قول أبي حنيفة (¬2). قال الشافعي - رحمهما (¬3) الله -: يسجد سجدتي السهو (¬4). دليلنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماهما: مَرْغَمَةً للشيطان (¬5)، والحكمُ إذا عُلق في الشريعة بعلة، وجب اعتبار تلك العلة، وإذا وجدت، وجب الحكم بها، وهذه العلة تحصل متى كان الترك بسبب من جهة الشيطان من إيراد الشك والشبهة، فأما إذا كان عمدًا، فإنهما يصيران مرغمتيه دون الشيطان؛ ولأنه إذا دخل في صلاةٍ نقصٌ على طريق العمد، فلا يلزمه جبران ذلك النقص بالسجود. دليله: تكبيرات الركوع والسجود، والتسبيح في الركوع والسجود إذا تركها عمدًا. ¬

_ (¬1) ينظر: رؤوس المسائل لأبي جعفر الهاشمي (1/ 172)، والممتع للتنوخي (1/ 487)، والمغني (2/ 388). (¬2) ينظر: التجريد (2/ 708)، وفتح القدير (1/ 358). (¬3) كذا في الأصل. (¬4) ينظر: الحاوي (2/ 226)، والبيان (2/ 337). وللمالكية قولان. ينظر: القوانين الفقهية ص 61، ومواهب الجليل (2/ 287). (¬5) مضى تخريجه (1/ 375).

فإن قيل: لأنه لو تركها ساهيًا، لم يسجد. قيل له: عندنا: يسجد؛ ولأن هذا السجود يضاف إلى السهو، فوجب أن يختصه، ألا ترى أن سجود التلاوة لما أضيف إليها، اختص بها؟ فإن قيل: إنما يضاف إليه؛ لأن الغالب أنه يفعله لأجله، لا لأنه مختص به. قيل له: فقلْ في سجود التلاوة مثلَه. فإن قيل: سجود التلاوة لا يختص التلاوة، ألا ترى أنه إذا كان مستمعًا للتلاوة، فإنه يسجد لها، وإن لم تكن التلاوة منه؟ قيل له: قد وُجِدتِ التلاوة، لكن من جهة غيره، ولم يشترط وجودها من الساجد. واحتج المخالف: بأن ما تعلق الجبران بسهوه، فإنه يتعلق بعمده. دليله: ما يوجب الجبران في الحج. والجواب: أن الحج آكدُ في هذا الباب من الصلاة، ألا ترى أن ما يوجب الجبران في الحج يستوي حكمُه بعد فساد الإحرام وقبلَه، وما يوجب الجبران في الصلاة يختلف حكمه بعد فساد الصلاة وقبله؟ كذلك يستوي العمد والسهو في الحج، ولا يستوي في الصلاة. واحتج: بأن السهو أخفُّ حكمًا من العمد، وإذا تعلق الجبران بالسهو، فبالعمد أحرى؛ لأن ترْك المأمور ساهيًا أخفُّ منه عامدًا.

45 - مسألة: سجود السهو واجب

والجواب: أنَّا نقول له: لِمَ قلتَ: إن السهو أخفُّ حكمًا من العمد فيما يتعلق به من الجبران؟ ونحن نخالفك في ذلك، ونقول: بأن السهو آكدُ حكمًا من العمد، وعلى أنه في حال السهو يوجد ما يضاف إليه، وهو السهو، ولا يوجد ذلك في العمد. واحتج: بأنه تَرَك ذكرًا مسنونًا مقصودًا، فسجد له، دليله: إذا ترك (¬1) ساهيًا. والجواب: أن المعنى هناك: أنه وجد ما يضاف إليه السجود، وهو السهو، فلهذا سجد، وهذا المعنى معدوم ها هنا. أو نقول: المعنى هناك: أنه تركه على وجه السهو، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه تركه على وجه العمد، أشبهَ تكبيراتِ الخفض والرفع، والله أعلم. * * * 45 - مَسْألَة: سجود السهو واجب: ذكره شيخنا (¬2)، وقد أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في كلام نذكره في أثناء المسألة، ................................. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الأصوب: تركه. (¬2) يعني: ابن حامد - رحمه الله -. ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 172)، والانتصار (2/ 377).

وبه قال الكرخي (¬1) من أصحاب أبي حنيفة. وقال أصحاب مالك: يجب إذا كان السهو في النقصان (¬2). وقال أصحاب الشافعي - رحمه الله -: لا يجب (¬3). فالدلالة على وجوبه: ما رُوي في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: "وليسجد سجدتين بعد السلام" (¬4)، وهذا أمر، ولأنه جبران لنقص أدخله في عبادة، فوجب أن يكون واجبًا؛ كالجبران في الحج. فإن قيل: الجبران في الحج يقوم مقام واجب تَرَكَه، فلهذا كان واجبًا، وليس كذلك الجبران في الصلاة؛ لأنه يقوم مقام مسنون، فيجب أن يكون مسنونًا. قيل له: عندنا: يقوم مقام واجب، وهو التكبير للخفض، والرفع، والتسبيح للركوع والسجود، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: رب ¬

_ (¬1) هو: عبيد الله بن الحسين بن دلال، أبو الحسن الكرخي، البغدادي الفقيه، قال الذهبي: (الشيخ الإمام الزاهد، مفتي العراق، شيخ الحنفية، ... انتهت إليه رئاسة المذهب، ... كان رأسًا في الاعتزال)، توفي سنة 340 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 426). وينظر: مختصر القدوري ص 87، وتحفة الفقهاء (1/ 332)، وفيه قول الكرخي، والاختيار (1/ 99). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 276)، وبداية المجتهد (1/ 264). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 227)، والبيان (2/ 345). (¬4) مضى في (1/ 413).

اغفر لي، والتشهد الأول، وعلى أنه لا يمتنع أن يقوم الشيء مقام ما ليس بواجب، ويكون هو واجب، كما نقول فيمن أفسد حجة تطوع: إنه يجب عليه القضاء، فيكون القضاء واجبًا، والمقضي عنه تطوعًا. فإن قيل: إذا دخل في حجة التطوع، صارت واجبة. قيل له: لم يكن ابتداؤها والدخول فيها واجبًا، ويجب ابتداء قضائها والدخول فيها، فصار البدل (¬1) حالًا من هذا الوجه. فإن قيل: جبران الحج لا يسقط بتطاول الزمان، وهذا يسقط. قيل له: سجدتا السهو تفعلان عندنا بناءً على التحريمة، فلم يجز أن يبنيهما على التحريمة إلا على حسب ما تبنى سائر أفعال الصلاة، فإذا تطاول، انقطع حكم التحريمة، فلم يجز البناء، وهذا فصل نذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى -. واحتج المخالف: بما روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن علي اليقين، وليلغ الشك، ويسجد سجدتين، فإن كانت صلاته نقصت، فقد أتى بها، والسجدتان ترغيمًا للشيطان، وإن كانت صلاته تامة، كان ما زاد، والسجدتان له نافلة" (¬2). والجواب: أنه يحتمل أن يكون سماهما نافلة؛ لأنهما ليستا من ¬

_ (¬1) كلمة لم أهتد لقراءتها. (¬2) مضى تخريجه (1/ 375).

صلاته، وتركهما لا يفسد صلاته، وأطلق عليهما اسم النافلة على طريق التشبيه بها. واحتج: بأن الصلاة لا تبطل بتركه، فوجب أن لا يكون واجبًا؛ قياسًا على سائر سنن الصلاة. والجواب: أن أبا بكر الأثرم نقل عن أحمد - رحمه الله - إذا نسي سجدتي السهو؟ فقال: إن كان في سهو خفيف، فأرجو أن لا يكون عليه شيء، فقيل له: فإن كان فيما سها فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسجد ناسيًا، فقال: هاه، ولم يجب، وبلغني عنه أنه يستحب أن يعيد (¬1). ونقلت من خط أبي إسحاق البرمكي (¬2) عن شيخنا أبي عبد الله قال: وجدت في مسائل يعقوب بن بختان، قيل له: رجل نسي التشهد؟ قال: يعود فيقعد، ثم يتشهد ويسلم، قيل له: فإن خرج؟ قال: يرجع ما كان في المسجد، فإن خرج فتكلم: أعاد (¬3). فظاهر هذا: أنه يبطل بتركه سهوًا، فعلى هذا يسقط السؤال. والصحيح من المذهب: أن الصلاة لا تبطل، قال أبو بكر الخلال: ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 151). (¬2) هو: إبراهيم بن عمر بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، أبو إسحاق البرمكي، صحب ابن بطة، وابن حامد، وعلّق عنهما، توفي سنة 445 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 352). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 151)، والانتصار (2/ 377)، وطبقات الحنابلة (2/ 556).

46 - مسألة: إذا نسي أن يسجد قبل السلام، أو عقيب السلام، وذكر بعد ذلك، [سجد] ما لم يتطاول ويخرج من المسجد، وإن تكلم، فإن خرج، لم يسجد

اتفقوا عنه: أنه يسجد بالقرب، وإن تباعد، فلا شيء عليه، وما قاله الأثرم عنه، بلغه عن أبي عبد الله: أنه إذا لم يسجد، يعيد، فلا أعرف له وجهًا، ولعله لم يضبط من حكى له (¬1)، فعلى هذا قد بيّنا أن هذا يجري مجرى الجبران الواجب في الحج، وتركه لا يبطل الحج، ولم يمنع ذلك من وجوبه، كذلك ها هنا. واحتج: بأن هذا بدل عما ليس بواجب، فلا يجوز أن يكون واجبًا؛ لأن المبدل آكد من البدل (¬2) في الأصول. والجواب عنه: ما بيَّنا من أنه قد يكون عدلًا عن واجب؛ ولأن قضاء حجة التطوع بدل، وهو واجب، وحجة التطوع ليست بواجب، والله أعلم. * * * 46 - مَسْألَة: إذا نسي أن يسجد قبل السلام، أو عقيب السلام، وذكر بعد ذلك، [سجد] (¬3) ما لم يتطاول ويخرج من المسجد، وإن تكلم، فإن خرج، لم يسجد: ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 151). (¬2) في الأصل: المبدل. (¬3) ما بين المعقوفتين ساقطة من الأصل، وبالمثبت يستقيم الكلام. ينظر: مختصر الخرقي (ص 52)، والجامع الصغير (ص 47)، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 173)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 247).

نص على هذا في رواية أبي داود (¬1)، فقال: يسجد ما دام لم يخرج من المسجد، وكذلك نقل صالح عنه: أنه قال: يسجد ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج، لم يسجد (¬2). وروى عنه حنبل، وصالح أيضًا: يسجدهما بعد الكلام، قيل له: فإذا تباعد؟ قال: وإذا تباعد، سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثنتين (¬3)، ورُوي من ثلاث (2)، فخرج ثم عاد، فبنى على صلاته (¬4). وكذلك نقل عنه ابن منصور: أنه قال: يسجدهما بعد الكلام، قيل له: فإذا تباعد؟ قال: في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الحجرة، فخرج فبنى (¬5). فظاهر هذا: أنه يسجد، وإن تطاولَ وتشاغلَ. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يسجد ما لم يتكلم، ولم يخرج من المسجد (¬6). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (391). (¬2) لم أجدها، وروى مثلها عبد الله في مسائله رقم (408). (¬3) مضى تخريجه ص 200 و 201. (¬4) لم أقف على رواية حنبل، ولا رواية صالح، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 173)، والمستوعب (2/ 281)، والفروع (2/ 333)، وتصحيح الفروع (2/ 333 و 334). (¬5) في مسائله رقم (241)، وحديث عمران - رضي الله عنه - مضى تخريجه في ص 201. (¬6) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 276)، وتحفة الفقهاء (1/ 344).

وقال الشافعي - رحمه الله -: إن ذكر، وكان قريبًا، سجد، قولًا واحدًا، وإن تطاول وتشاغل، فعلى قولين: أحدهما: يسجد، والثاني: لا يسجد، وهو الصحيح عندهم (¬1). فالدلالة على أنه إذا تطاول وتشاغل، وخرج من المسجد، لا يسجد: وهو أنه سجود مفعول لتكملة الصلاة، فلم يجز بناؤه على التحريمة إلا على حسب ما يبني سائر أفعال الصلاة، دليله: لو سلم، وقد بقي عليه سجدة أو سجدتان، وتطاول واشتغل، فإنه ينقطع حكم التحريمة، ولا يبني عليه، كذلك سجود السهو؛ ولأن تكبيرات التشريق لما كان من سببها أن تفعل عقيب السلام، لم يقضها إذا تركها حتى تطاول؛ كذلك سجود السهو. واحتج المخالف: بأنه يفعل على وجه الجبران، فوجب أن يلزم وإن تطاول، كالجبران في الحج. والجواب: أن الجبران في الحج لا يفعل بناءً على إحرام الحج، وهذا يفعل بناءً على التحريمة، فهو كسائر الأفعال؛ ولأن أفعال الحج لما جاز أن يبني بعضها على بعض، وإن تطاول، وهو أنه يفعل الطواف بعد الوقوف بزمان طويل، جاز أن يلزم الجبران فيه، وإن تطاول، وهذا بخلافه. ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 227)، ونهاية المطلب (2/ 241)، والبيان (2/ 347). وعند المالكية تفصيل: فإن كان السجود بعد السلام، فيسجد، ولو طال الفصل، وإن كان قبل السلام، ولم يتطاول الفصل، سجد، وإلا، أعاد الصلاة. ينظر: المدونة (1/ 137)، والمعونة (1/ 170).

فصل

واحتج: بأنه سجود يفعل لأجل السهو، فجاز فعله، دليله: لو ذكر وهو في ناحية من المسجد، فإنه يعود فيسجد، كذلك إذا ذكره خارج المسجد. والجواب: أن المسجد أُجرِي مجرى البقعة الواحدة، ولهذا يجوز اقتداء من هو في آخر المسجد بمن هو في أوله، فما دام في المسجد هو كالباقي في موضعه، وهذا المعنى معدوم فيه إذا خرج من المسجد، ألا ترى أنه لا يصح اقتداء من هو خارج المسجد بمن هو فيه؟ * فصل: والدلالة على جوازه بعد الكلام: ما روى أبو بكر بإسناده عن علقمة قال: قال عبد الله - رضي الله عنه -: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا، فلما انفتل، توسوس القوم بينهم، فقال: "ما شأنكم؟ "، قالوا: يا رسول الله! هل زاد في الصلاة شيء؟ قال: "لا"، قالوا: فإنك قد صليت خمسًا، فانفتل فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" (¬1). فوجه الدلالة: أنه سجد بعد الكلام؛ ولأن سجدتي السهو في هذه الحال مفعولة في غير صلاة، فلم يمنع الكلام من تعلقها بالصلاة. دليله: خطبة العيد، وتكبيرات التشريق، لما كان هذا مفعولًا بعد السلام، لم يمنع الكلامُ تعلُّقه بالصلاة المتقدمة، كذلك ها هنا، ويفارق هذا إذا تكلم، وقد بقي عليه ركعة أو سجدة: أن الكلام ناسيًا يمنع من ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 413).

47 - مسألة: إذا سها الإمام فلم يسجد، سجد المأموم في أصح الروايتين

البناء على ما تقدم من الصلاة؛ لأن تلك مفعولة في الصلاة، فلهذا منع الكلام من تعلقها بالصلاة وبنائها عليها. فإن قيل: سجود السهو يفعل بناءً على التحريمة، والكلام بناءً في التحريمة، كذلك ما يبنى عليها. قيل له: إنما يُبنى على التحريمة على معنى أنه يعتبر أن يقع فعله قريبًا من السلام من غير تطاول الزمان، فأما أن يبنى عليها على معنى أنه يعيد نيته إلى الصلاة، ويعود في الصلاة، فلا يعود هذا، بل هو مفعول خارج الصلاة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 47 - مَسْألَة: إذا سها الإمام فلم يسجد، سجد المأموم في أصح الروايتين: رواها المروذي عنه، فقال: إذا سها الإمام، فخرج، والقوم خلفه يسجدون لما سها بهم (¬1). وبه قال مالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رحمهما الله -. وروى يوسف بن موسى عنه: في الإمام يسهو فلا يسجد: لا يسجد ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 149). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 277)، ومواهب الجليل (2/ 325). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 228)، ونهاية المطلب (2/ 280).

مَنْ خلفه (¬1)، وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا (¬2)، وهو قول أبي حنيفة (¬3)، واختاره المزني (¬4). وجه الرواية الأولة: أن الإمام إذا سها، فقد حصل النقص في صلاته وصلاة المأموم؛ لأن صلاة المأموم لما كملت بصلاة الإمام، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجمع تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة" (¬5)، وإذا كملت صلاته بصلاة الإمام، جاز أن تنقص بنقصانه. فإن قيل: هذا لا يصح؛ لأن حدث الإمام إذا ذكره بعد الفراغ يوجب ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 150). (¬2) ينظر: الإنصاف (4/ 76). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 276)، ومختصر القدوري ص 89. (¬4) ينظر: مختصر المزني ص 29. والمزني هو: أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني، المصري، قال عنه الذهبي: (الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، ... امتلات البلاد بـ "مختصره" في الفقه، وشرحه عدة من الكبار؛ بحيث يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة بـ "مختصر" المزني)، من مصنفاته: المختصر، والمنثور, وغيرهما، توفي سنة 264 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 292). (¬5) أخرجه أحمد في المسند رقم (10742)، واللفظ له، والبخاري في كتاب: الأذان، باب: فضل صلاة الجماعة، رقم (646 و 4440)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: فضل صلاة الجماعة رقم (649).

نقصان صلاته، ولا يوجب نقصان صلاة المأموم. قيل له: فرق بينهما، وذلك أن كمال صلاة الإمام بالطهارة لا يوجب كمال صلاة المأموم إذا كان محدِثًا، فلهذا نقصانُ صلاة الإمام بحدثه لا يوجب نقصان صلاة المأموم، وليس كذلك ها هنا؛ لأن صلاة المأموم تكمل بكمال صلاة الإمام، وهو إذا سها المأموم، ولم يسهُ الإمام، فإنه لا يحتاج إلى سجدتي السهو، وجب إذا نقصت صلاة الإمام بالسهو أن تنقص صلاة المأموم. وطريقة أخرى: وهو أن الإمام لما يحمل عن المأموم حكم سهوه، لزم المأمومَ اتباعُه فيما لا يُعتد به، وهو إذا أدركه ساجدًا أو جالسًا، فكبر خلفه. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تختلفوا على إمامكم" (¬1)، فإذا ترك الإمام، وسجد هو، فقد اختلف على إمامه. والجواب: أنه قد خرج بالسلام من أن يكون إمامًا، فإذا سجد، لا يكون قد اختلف على إمامه. واحتج: بأن المأموم يقول: ما سهوتُ، وإنما إمامي سها، فإن سجد للسهو، سجدتُ تبعًا له، وإن لم يسجد، لم أسجد؛ لأني ما سهوت. ¬

_ (¬1) لعله مروي بالمعنى كما أشار إليه ابن حجر في التلخيص (2/ 942 و 946)، وقال ابن الملقن في البدر المنير (4/ 482): (لا يحضرني من خرجه بهذا اللفظ)، قلت: ويدل عليه حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، وقد مضى تخريجه في ص 241.

والجواب: أنا نقول له: إمامك سها، ونقصتْ صلاتُك بنقصان صلاة الإمام، كما كملتْ بكمالها؛ ولأنه لما تحمّل عنك الإمامُ حكمَ سهوك، لزمك حكمُ سهوه. واحتج: بأن سجود السهو مسنون، والمأموم يتبع إمامه في ترك المسنون، كما إذا ترك التشهد الأول، والجلوس له، فإن المأموم يتبعه في تركه، كذلك ها هنا. والجواب: أن سجود السهو عندنا واجب، وقد بينا ذلك فيما قبل، ولا يجوز أن يتبعه في ترك واجب، وما استشهدوا به من ترك التشهد الأول فلا نسلمه أيضًا؛ لأن عندنا: أنه واجب، ولا يتبعه في تركه، ولو سلمنا ذلك نظرًا، فلا يشبه مسألتنا؛ لأنه إنما يتبعه في ترك المسنونات ما دام مؤتمًا به، ومتبعًا له، فأما إذا كان فارقه، وزال اتباعه، فإنه لا يتبعه في ترك المسنونات، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي داود: في الإمام يسلم، وقد بقي عليه من الدعاء شيء: يسلم إلا أن يكون شيئًا يسيرًا (¬1). فإن قيل: أليس لو أدرك الإمام ساجدًا، فسجد معه، فلما رفع الإمام رأسه عن السجدة الأولى، وأراد أن يسجد الأخرى، فسدت صلاته، فإن المأموم لا يأتي بالسجدة الأخرى؛ لأن إمامه ما أتى بها. قيل: الفصل بينهما: أن سجود السهو يفعله لتكمل صلاته، فإذا ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (505).

لم يفعله إمامه، فعله هو عن نفسه، وليس كذلك في تلك المسألة؛ لأن المأموم يفعله لاتباع إمامه، لا لتكملة صلاته، فلهذا إذا لم يفعله الإمام، لم يفعله المأموم، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: أليس [سجود] التلاوة يتوجه على التالي والمستمع، ثم ثبت أن التالي لو تركه، سقط عن المستمع، سواء كان التالي في صلاة، أو في غيرها، نص عليه في رواية المروذي، قال: قُرِئ على أبي عبد الله السجدة، فلم يسجد، فقلت له: لم تسجد؟ فقال: لو سجدتَ، سجدتُ (¬1). قيل له: سجود التلاوة سنة، والمستمع لها تابع، والقارئ هو المتبوع، ولهذا قال أحمد - رحمه الله - في رواية: ... (¬2) إذا كان القارئ صبيًا (¬3) أو امرأة، لم يسجد المستمع (¬4)، والسنن لا يثبت حكمها إلا بعد ثبوت المتبوع، ولهذا قلنا في السنن الراتبة كسنة الظهر، والمغرب، والعشاء: لا تثبت إلا بعد أن تتقدم المفروضة، وليس كذلك سجود السهو؛ لأنه واجب عندنا, ولأن فعل تلك لا يعود بكمال القراءة، فتركها لا يعود بنقصانها، وسجود السهو يعود بكمال الصلاة، فتركه يعود بنقصانها. ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 1016). (¬2) في الأصل بياض بمقدار كلمة. (¬3) في الأصل: صبيٌّ. (¬4) ينظر: المغني (2/ 367)، ومختصر ابن تميم (2/ 226).

48 - مسألة: إذا صلى بقوم وهو جنب أو محدث، فإن كان عالما بحدث نفسه، أعاد وأعادوا، علموا أو لم يعلموا، وإن كان ناسيا، فإن علموا بذلك في أثناء الصلاة، أعاد وأعادوا أيضا، وإن علموا بعد الفراغ منها، أعاد، ولم يعيدوا

آخر الجزء الرابع عشر من أجزاء المصنف - رحمة الله عليه، وعلى كاتبه، وعلى والديهم، والمسلمين أجمعين -. * * * 48 - مَسْألَة: إذا صلى بقوم وهو جُنب أو محدِث، فإن كان عالمًا بحدث نفسه، أعاد وأعادوا، علموا أو لم يعلموا، وإن كان ناسيًا، فإن علموا بذلك في أثناء الصلاة، أعاد وأعادوا أيضًا، وإن علموا بعد الفراغ منها، أعاد، ولم يعيدوا: نص عليه في مواضع، فقال في رواية المروذي: إذا صلى الجنب بأصحابه ناسيًا، يعيد ولا يعيدون، وإن كان ذاكرًا، يعيد ويعيدون، وإن ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض، ولم يستنشق، يعيدون، وإن لم يذكر حتى فرغ، يعيد ولا يعيدون (¬1)، وقد نص على معنى هذا في رواية ابن القاسم (¬2)، وأبي طالب (¬3)، وغيرهم. وقد روى بكر بن محمد عن أبيه عنه كلامًا يدل على أنه إذا كان ناسيًا ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 174)، ونص الرواية موجودة في الانتصار (2/ 420)، ولم يعزها للمروذي، وينظر: المستوعب (2/ 346)، والقواعد لابن اللحام (1/ 298). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: المغني (2/ 504)، والإنصاف (4/ 392). (¬3) ينظر: الفروع (3/ 27)، والمبدع (2/ 75)، والإنصاف (4/ 394).

أنهم لا يعيدون، سواء علموا بذلك في الصلاة، أو خارجًا منها، فقال: في إمام صلى بقوم، فلما دخل في الصلاة، أو صلى بعضها، شك أنه متوضئ أم (¬1): لم يجزئه، حتى يستيقن أنه كان على وضوء، ولا تفسد صلاتهم، إن شاؤوا قدّموا، وإن شاؤوا صلَّوا فرادى (¬2). فقد نص على أن علمهم بفساد صلاته في أثناء الصلاة لا يوجب عليهم الإعادة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يعيد ويعيدون بكل حال (¬3). وقال مالك - رحمه الله -: إن كان عامدًا، يعيد ويعيدون، وإن لم يعلموا بذلك، وإن كان ناسيًا، أعاد ولم يعيدوا (¬4). وقال الشافعي - رحمه الله -: يعيد ولا يعيدون، عالمًا كان أو ناسيًا (¬5)، وهو قول داود (¬6). فالدلالة على أنهم لا يعيدون إذا لم يكن عالمًا بحدثه، وعلموا بذلك بعد الفراغ من أفعال الصلاة، خلافًا لأبي حنيفة - رحمه الله -: ما روى ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل: (أم) زائدة. (¬2) ينظر: الفروع (3/ 26)، وجعلها من رواية بكر بن محمد نفسه، وكذلك المرداوي في الإنصاف (4/ 393). (¬3) ينظر: مختصر القدوري ص 80، والهداية (1/ 59). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 33)، والإشراف (1/ 279). (¬5) ينظر: الأم (2/ 329)، والمجموع (4/ 108). (¬6) ينظر: المحلى (4/ 138 و 139).

أبو الحسن الدارقطني (¬1) عن جويبر (¬2) عن الضحاك (¬3)، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم، وليس هو على وضوء، فتمت للقوم، وأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقوله: صلى، يقتضي جميعَ الصلاة. وروى أبو الحسن بإسناده (¬5) عن إسحاق بن راهويه عن بقية: نا عيسى بن عبد الله الأنصاري (¬6) عن جويبر عن الضحاك، عن البراء بن عازب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى الإمام بالقوم وهو جنب، فقد مضت صلاتهم، ثم ليغتسلْ هو، ثم ليُعِدْ صلاته، فإن صلى بغير وضوء، فمثل ¬

_ (¬1) في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب أو محدث، رقم (1366). (¬2) ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، قال ابن حجر: (ضعيف جدًا)، توفي بعد 140 هـ. ينظر: التقريب ص 122. (¬3) ابن مزاحم الهلالي، أبو القاسم الخرساني، قال ابن حجر: (صدوق كثير الإرسال)، توفي بعد المئة. ينظر: التقريب ص 286. (¬4) أخرجه البيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب رقم (4076)، وقال: (هذا غير قوي)، وضعفه في معرفة السنن والآثار (3/ 350). (¬5) الدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب أو محدث، رقم (1368)، وضعّفه ابن الملقن في البدر المنير (4/ 441)، وقال ابن الجوزي في التحقيق (4/ 65) عن هذين الحديثين: (هذان حديثان لا يصحان؛ بقية مدلس، وعيسى ضعيف، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق البراء). (¬6) ابن أُنيس المدني، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 486.

ذلك"، وظاهر هذه الأخبار يدل على الفراغ من الصلاة، ثم لم يأمر المأمومين بالإعادة، فدل على أن الإعادة غير واجبة. واعتمد أحمد - رحمه الله - في المسألة على إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، فروى أحمد في مسائل عبد الله (¬1) قال: نا وكيع (¬2) قال: نا الأعمش (¬3) عن إبراهيم (¬4): أن عمر - رضي الله عنه -: صلى بالناس وهو جنب، وأعاد ولم يعيدوا (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (514)، ولم يذكر السند فيها. وينظر: العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (3/ 57). (¬2) ابن الجراح بن مليح الرُّؤاسي، أبو سفيان الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة حافظ عابد)، له: كتاب الزهد، توفي سنة 197 هـ. ينظر: التقريب ص 650. (¬3) هو: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي، الأعمش، قال ابن حجر: (ثقة حافظ، عارف بالقراءات، ورع، لكنه يدلس)، توفي سنة 148 هـ. ينظر: التقريب ص 253. (¬4) النخعي، مضت ترجمته. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4604)، وهو مرسل، وأخرجه عبد الرزاق من طريق أخرى في مصنفه رقم (3656)، والدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب، رقم (1371)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب، رقم (4073)، وصحح الأثر: المجدُ في المنتقى في باب: من اقتدى بمن أخطأ بترك شرط أو فرض ص 275، وعلّق أبو الطيب آبادي على سند الدارقطني بقوله: (رواة هذا الحديث كلهم ثقات). ينظر: التعليق المغني (2/ 187).

وروى أحمد - رحمه الله - (¬1) قال: نا هشيم (¬2) عن خالد بن سلمة المخزومي (¬3) عن محمد بن عمرو بن الحارث (¬4)، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: يعيد ولا يعيدون إذا صلى بهم وهو جنب (¬5). وروى عبد الله بن أحمد (¬6) قال: حدثني أبو معمر (¬7) قال: حدثني ¬

_ (¬1) في العلل ومعرفة الرجال (2/ 110). (¬2) ابن بشير بن القاسم بن دينار السُّلمي، أبو معاوية الواسطي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي)، توفي سنة 183 هـ. ينظر: التقريب ص 642. (¬3) ابن العاص بن هشام بن المغيرة، الكوفي، المعروف بالفأفاء، قال ابن حجر: (صدوق، رمي بالإرجاء والنصب)، قتل سنة 132 هـ. ينظر: التقريب ص 174. (¬4) ابن المصطلق الخزاعي، الأزدي، روى عن عثمان - رضي الله عنه -، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عنه. ينظر: الجرح والتعديل (8/ 29). (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب، رقم (1372)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب رقم (4074)، وصحح الأثر: المجدُ في المنتقى في باب: من اقتدى بمن أخطأ بترك شرط أو فرض ولم يعلم، ص 275. (¬6) لم أقف عليه من طريق عبد الله، وأصل المسألة موجود في مسائله رقم (516)، وإسناد الأثر عن علي - رضي الله عنه - موجود في مسائل صالح رقم (987). (¬7) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن معمر بن الحسن الهُذَلي، أبو معمر القطيعي، قال ابن حجر: (ثقة مأمون)، توفي سنة 236 هـ. ينظر: التقريب ص 77.

يزيد (¬1) بن هارون (¬2) عن الحجاج (¬3)، عن أبي إسحاق (¬4)، عن الحارث (¬5)، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الرجل يصلي بالقوم وهو على غير وضوء؟ يعيد ولا يعيدون (¬6). وروى أحمد (¬7) ................................... ¬

_ (¬1) في الأصل: بريدة، وهو خطأ، فإن الذي يروي عن الحجاج هو: يزيد بن هارون. ينظر: تهذيب الكمال (5/ 523)، ولم أقف على رجل يسمى بـ (بريدة بن هارون). (¬2) هو يزيد بن هارون بن زادان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، قال ابن حجر: (ثقة متقن عابد)، توفي سنة 206 هـ. ينظر: التقريب ص 678. (¬3) ابن أرطاة بن ثور بن هبيرة النخعي، أبو أرطاة الكوفي، قال ابن حجر: (أحد الفقهاء، صدوق، كثير الخطأ والتدليس)، توفي سنة 145 هـ. ينظر: التقريب ص 132. (¬4) هو: أبو إسحاق السبيعي. مضت ترجمته. (¬5) ابن عبد الله الأعور الهمْداني، الحُوتي، أبو زهير الكوفي، قال ابن حجر: (كذّبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف)، توفي في إمرة ابن الزبير. ينظر: التقريب ص 125. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4605 و 4609)، وذكره ابن عبد البر في التمهيد (1/ 182) عن أبي بكر الأثرم عن ابن أبي شيبة بسنده، وهو أثر ضعيف؛ لضعف ابن أرطاة، والحارث. وينظر: التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل ص 25. (¬7) لم أقف على رواية الإمام أحمد - رحمه الله -، غير أنه أشار إليه في مسائله صالح رقم (987).

قال نا عبد الرحمن بن مهدي (¬1) قال: نا سفيان (¬2) عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في رجل صلى بقوم وهو على غير وضوء؟ قال: يعيد ولا يعيدون (¬3). وروى عبد الله: حدثني أبو معمر عن هشيم، عن جابر، عن الشعبي (¬4)، والقاسم (¬5)، وسالم (¬6)، ................... ¬

_ (¬1) ابن حسان العنبري مولاهم، أبو سعيد البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت حافظ، عارف بالرجال والحديث)، توفي سنة 198 هـ. ينظر: التقريب ص 379. (¬2) الثوري، مضت ترجمته. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب، رقم (1373)، قال أبو الطيب آبادي في التعليق على المغني (2/ 188): (سنده صحيح جدًا). (¬4) روى عبد الرزاق في المصنف رقم (3657): أنه قال: (يعيد ويعيدون). وينظر: الأوسط (4/ 214). والشعبي هو: عامر بن شراحيل الشعبي، أبو عمرو، قال ابن حجر: (ثقة مشهور فقيه فاضل)، توفي بعد المئة. ينظر: التقريب ص 297. (¬5) ابن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، قال ابن حجر: (ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة)، توفي سنة 106 هـ. ينظر: التقريب ص 502. (¬6) هو ابن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وهو راوي الأثر السالف عن أبيه، وروى عبد الرزاق في مصنفه رقم (3650) عن سالم: أن ابن عمر صلّى بأصحابه صلاة العصر وهو على غير وضوء، فأعاد، ولم يعد أصحابه.

وأبي جعفر (¬1) - رضي الله عنهم - قالوا: يعيد ولا يعيدون. وروى أحمد عن هشيم، عن مغيرة (¬2)، عن إبراهيم (¬3) ويونس (¬4) عن الحسن (¬5). والشيباني (¬6) عن سعيد بن جبير (¬7). وجابر (¬8) ........................................ ¬

_ (¬1) هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -، ثقة فاضل، توفي سنة 118 هـ. ينظر: التقريب ص 554. (¬2) ابن مقسم الضبي مولاهم، أبو هشام الكوفي، الأعمى، قال ابن حجر: (ثقة متقن، إلا أنه يدلس، ولا سيما عن إبراهيم)، توفي سنة 136 هـ. (¬3) هو: النخعي، وأخرج قوله عبد الرزاق في المصنف رقم (3651)، وابن أبي شيبة (4608). (¬4) ابن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 139 هـ. ينظر: التقريب ص 687. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (3652)، وابن أبي شيبة رقم (4606). (¬6) هو: ضِرار بن مرة الكوفي، أبو سنان الشيباني الأكبر، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 132 هـ. ينظر: التقريب ص 287. (¬7) رواه عبد الرزاق في المصنف رقم (4611)، وابن أبي شيبة رقم (3655). وسعيد هو: ابن جبير الأسدي مولاهم، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت فقيه)، قُتِل بين يدي الحجاج سنة 95 هـ. ينظر: التقريب ص 223. (¬8) جابر هذا إما أن يكون: ابن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد الله الكوفي، قال ابن حجر: (ضعيف رافضي)، توفي سنة 127 هـ، أو ابن يزيد بهن رفاعة العجلي الموصلي، أصله من الكوفة، قال ابن حجر: (صدوق). =

عن أبي جعفر (¬1)، وسالم (¬2)، وعد أربعة، قال: يعيد ولا يعيدون، يعني: في الجنب يصلي بالقوم. وقال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان: أكان بالكوفة أحد يقول: يعيد ويعيدون؟ قال: لا، إلا حمادًا (¬3)، قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: إنما كان حماد يقول: يعيد، ويعيدون اختيارًا أو استحبابًا؛ لأنه روى إبراهيم الصائغ (¬4) عن حماد: أنه كان يقول: إذا كان يعرف القوم، وذهب الوقت، أعاد الإمام، ................................. ¬

_ = ينظر: التقريب ص 113. (¬1) لم أقف على قوله، لكنه هو راوي الأثر عن علي - رضي الله عنه - في صلاته بالناس على غير وضوء، أو وهو جنب، فأعاد، وأمرهم أن يعيدوا. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (3663)، وضعّف ما ورد في هذا المسألة عن علي - رضي الله عنه -: ابنُ المنذر في الأوسط (4/ 214). (¬2) ينظر: ما مضى في الصفحة الماضية، ومعرفة السنن للبيهقي (3/ 349). (¬3) ينظر: الدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب، رقم (1374)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب رقم (4082)، وقول حماد أخرجه عبد الرزاق رقم (3659). وحماد هو: ابن أبي سليمان: مسلم الأشعري مولاهم، أبو إسماعيل الكوفي، قال ابن حجر: (فقيه صدوق له أوهام)، توفي سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 164. (¬4) هو: إبراهيم بن ميمون الصائغ المروزي، قال ابن حجر: (صدوق)، قتل سنة 131 هـ. ينظر: التقريب ص 65.

ولم يعد أصحابه (¬1). وهذا يدل على حصول الإجماع منهم على ذلك قبل أبي حنيفة - رحمه الله -. فإن قيل: نحمل ما رويتموه على أن القوم تفرقوا, ولم يعرفهم عمر. قيل له: هذا لا يصح؛ لأنه معلوم أن أكثر من صلى خلفه الصحابة، وهم معه في البلد، وعلى أن الذي روينا عن عثمان، وعلي، وابن عمر - رضي الله عنهم - قولًا مبتدأً: أنهم قالوا: يعيد ولا يعيدون. والقياس: أنه علم بحدث الإمام بعد فراغه من أفعال الصلاة، فلم يلزمه الإعادة، دليله: لو سبق الإمام الحدث، فلم يعلم به المأموم حتى فرغ من الصلاة، فإنه لا يعيد، كذلك ها هنا. فإن قيل: المعنى هناك: أن صلاة الإمام لم تبطل، بل يتوضأ، ويبني عليها، فلهذا لم يعد المأموم. قيل له: لا نسلم لك هذا؛ لأن الرواية في الحدث إذا سبقه في الصلاة هل يبني أو يبتدئ؟ والصحيح: أنه يبتدئ، وقد تقدم الكلام في ذلك، وحكينا كلام أحمد - رحمه الله -، واختلاف الفقهاء فيه، وقد نص أيضًا في الإمام إذا سبقه الحدث، فروى عبد الله (¬2)، وصالح (¬3)، ¬

_ (¬1) لم أقف على كلام ابن نصر، لكن يدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (4610): أن حمادًا قال: (أحبُّ إليّ أن يعيدوا)، وينظر: الأوسط لابن المنذر (4/ 214). (¬2) في مسائله رقم (521 و 522). (¬3) في مسائله رقم (1279).

ومهنا (¬1): جوازَ الاستخلاف، وهذا يدل على أن صلاته لم تبطل. قال أبو بكر (¬2): ثم رجع عنه (¬3)، وأنبأ عن نفسه: أنه يخرج فيبتدئ الصلاة، ويبتدئون الصلاة، قال (2): وبه أقول (¬4). نص عليه في رواية أحمد بن سعيد (¬5)، وبكر بن محمد، فقال: إذا أحدث قبل أن يخرج من صلاته، يخرج فيتوضأ، ويستقبلون الصلاة، ولا يستخلف، ليس هو في صلاة (¬6). فإن قيل: فإذا قلت: إن حدَثَ الإمام يُبطل صلاته وصلاة المأمومين، فلا معنى لقولك: علم بحدثه بعد الفراغ، وعندك: أنه تبطل صلاتهم ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 141)، وقواعد ابن رجب (3/ 184). (¬2) هو: غلام الخلال. (¬3) يعني: الإمام أحمد - رحمه الله -. (¬4) ينظر: المغني (2/ 507)، ومختصر ابن تميم (2/ 273)، والنكت على المحرر (1/ 173). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 141)، والمغني (2/ 507). وأحمد بن سعيد إما أن يكون: ابن إبراهيم، أبو عبد الله الرباطي، روى عنه البخاري ومسلم، توفي سنة 243 هـ، أو أحمد بن سعيد، أبو جعفر الدارمي، كثير النقل، والرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -، توفي سنة 253 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 101 و 103)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 674. (¬6) لم أقف على رواية بكر، وينظر - مع ما مضى -: الانتصار (2/ 308)، والمستوعب (2/ 304).

قبل الفراغ وبعده. قيل له: لا نقول هذا، بل نقول فيه ما نقوله في مسألتنا، وهو: إن عملوا بسبق حدثه في الصلاة، أعاد وأعادوا، وإن علموا بذلك بعد خروجه من أفعال الصلاة، لم يعيدوا؛ ولأنه لو اقتدى بإمام اجتهد فأخطأ القبلة، وهو لا يعلم، فلما فرغ من صلاته علم، فإنه لا إعادة عليه، كذا إذا اقتدى بمحدث وهو لا يعلم، ثم علم بعد ذلك. فإن قيل: ذلك المعنى هو في المأموم لا في الإمام، وهو ترك التوجه إلى القبلة، ألا ترى أنه لو لم يقتد بالإمام، وافتتح الصلاة منفردًا إلى تلك الجهة، لم يصح؟ وفي مسألتنا المانعُ معنًى في الإمام. قيل: هما سواء في العلم بعد الفراغ في الصحة. فإن قيل: هناك صلاة الإمام لم تبطل، وها هنا صلاة الإمام باطلة. قيل: هما سواء في منع الاقتداء مع العلم. واحتج المخالف: بأنه اقتداء بمن لم تنعقد صلاته، فوجب أن يلزمه الإعادة، كما لو كان عالمًا بحاله، أو كان الإمام عالمًا بحال نفسه، والمأموم لا يعلم. والجواب: أنه يبطل بالمسبوق إذا استخلف، فأحدث في الركعة الآخرة عامدًا بعد فراغ المأموم من صلاته، فإن صلاته لا تبطل، وإن لم تنعقد صلاة الإمام، ثم المعنى فيه إذا كان عالمًا بحدث الإمام، أو بحدث نفسه، أنه يقتدي بمن عنده: أنه ليس في صلاة، فهو مفرط، ألا ترى أنه

لو كان متطهرًا، فاعتقد أنه محدث، وائتم به، لم تصح صلاته؟ وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يعتقد أن إمامه في الصلاة، فهو غير مفرط. واحتج: بأنه منع في الإمام صحة الاقتداء به في حال العلم به، فوجب أن يمنع صحته في حال الجهل؛ قياسًا على كفر الإمام، وعلى الأنوثية. والجواب: أنه لا يمتنع أن يمنع صحة الاقتداء مع العلم، ولا يمنع حال الجهل؛ كمن اقتدى بإمام اجتهد فأخطأ القبلة وهو يعلم، لم تصح صلاته، ولو لم يعلم حتى فرغ، صحت صلاته، وعلى أنَّا قد بيَّنا الفرق بين العلم بحاله وبين عدمه، وأما الكفر والأنوثية، فإلحاقُ مسألتنا بإمام اجتهد فأخطأ أشبهُ من إلحاقه بالكافر والمرأة اللذين ليسا من أهل الإمامة في الجملة. واحتج: بأنه حدث يمنع صحة الاقتداء مع العلم، فمنع مع الجهل، دليله: حدث نفسه. والجواب: أنَّا قد بيَّنا الفرق بين العلم بالحدث، وبين الجهل به، وأما حدث نفسه، فهو منسوب فيه إلى التفريط في حدث الإمام؛ لأنه ما كلف معرفة طهارته قبل دخوله في الصلاة معه. واحتج: بأنه اقتداء بمحدِث، فلم تصح صلاته؛ كما لو علم بحدثه في الصلاة. والجواب: أنه يبطل بالمسبوق إذا استخلف، فأحدث في الركعة

الآخرة عامدًا بعد فراغ المأموم: لا تبطل، وإن كان إمامه محدثًا، وعلى أن العلم بحدثه في الصلاة يخالف العلم خارج الصلاة؛ بدليل: أنه لو اقتدى بإمام اجتهد وأخطأ القبلة وهو لا يعلم حتى فرغ، صحت صلاته، ولو علم قبل الفراغ، نوى مفارقته، ولم يجز له تمام الصلاة معه، فبان الفرق بين العلم بعد الفراغ: أنه يعتد بجميعها معه، وقبل الفراغ لا يعتد بجميعها، وإنما افترقا من وجه، وهو إذا علم بخطئه في الصلاة، ينوي مفارقته، وإذا علم بحدثه، بطلت صلاته؛ لأن العلم بخطئه لا تبطل صلاة الإمام، فلم تبطل صلاته، وحدثُه يبطل صلاة الإمام، فجاز أن يُبطل صلاته، وليس إذا أَثَّر في حال العلم في الصلاة يجب أن يؤثِّر بعد الفراغ، كما أن علمه بخطأ إمامه أَثَّر في الاقتداء قبل الفراغ، ولم يؤثر بعد الفراغ؛ ولأن ما بعد الفراغ من الصلاة لا يُبطل صلاة الإمام ببطلان صلاة المأموم، وهو إذا صلى بمسبوق، وسلّم، ثم أفسدوا صلاتهم، لم تبطل جماعته، كذلك لا تبطل صلاتهم ببطلان صلاة الإمام، ليس كذلك في أثناء الصلاة؛ لأنه تبطل صلاته ببطلان صلاتهم، وهو إذا نقص العدد في الجمعة، بطلت صلاته، وفي الجماعة تبطل جماعته، ويصير منفردًا، ولأنهم قد قالوا: إذا صلى الأمي والقارئ، بطلت صلاة الجميع؛ لأنهم كانوا قادرين أن يأتوا بالصلاة بقراءة، قال الرازي (¬1): إن لم يعلموا أن ¬

_ (¬1) لم أقف على قوله، وسيأتي كلام الحنفية في هذه المسألة. والرازي هو: أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص الحنفي، له مصنفات كثيرة، منها: أحكام القرآن، وشرح مختصر الطحاوي، وغيرهما، =

فيهم قارئًا حتى فرغوا من الصلاة: أن صلاة الأمي صحيحة، وإن علموا في الصلاة، لم تصح صلاتهم. واحتج: بأن صلاة المأموم مضمنة بصلاة الإمام، تفسد بفسادها؛ بدليل: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "الإمام ضامن" (¬1)، فلو كان مصليًا لنفسه، ولم تكن صلاة المأموم معقودة بصلاة الإمام، ما كان ضامنًا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة" (¬2)، فلو كان كل واحد مصليًا لنفسه (¬3)؛ ولأنه لو كان ¬

_ = قال الخطيب البغدادي عنه: (أبو بكر الرازي الفقيه، إمام أصحاب الرأي في وقته)، توفي سنة 370 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (4/ 314). وقد أكثر المؤلف من ذكره في كتابه "العدة في أصول الفقه" في مواضع متفرقة؛ كما في (1/ 294، 2/ 349 و 360 و 385 و 544 و 591، 3/ 756 و 969) وغيرها. (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، رقم (517)، والترمذي في كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، رقم (207)، وقد أشار الترمذي للاختلاف الذي فيه والاضطراب، ونَقَل عن علي المديني: أنه لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما يجب على الإمام، رقم (981)، قال ابن رجب في الفتح (3/ 487 و 4/ 181): (وفي إسناد الحديث اختلاف كثير)، وينظر: علل الدارقطني (10/ 191). (¬2) مضى تخريجه (1/ 469). (¬3) في الأصل بياض بمقدار خمس كلمات، وقد جاء في الانتصار (2/ 424) =

فصل

مصليًا لنفسه، لم يلحق المأمومَ سهوُ إمامه. والجواب: أنه لا يمتنع أن يتبعه في الفساد في حال، ولا يتبعه في حال؛ كما لو ائتم بمسبوق، فأحدث فيما أدركه معه عامدًا، بطلت صلاته، ولو أحدث فيما يقضيه، فقد فسدت صلاته، وكان المأموم مؤتمًا به. * فصل: والدلالة على أنه إذا كان الإمام عالمًا بحدث نفسه، يعيدون الصلاة إذا علموا بذلك بعد الفراغ: أنه قاصد لإفساد صلاتهم، والاستهزاء بالدين، فبطلت صلاتهم خلف مَنْ هذه صفتُه؛ كالكافر؛ ولأنه يصير بهذا الفعل فاسقًا، وإمامة الفاسق لا تصح عندنا، وهذا فصل يأتي الكلام فيه - إن شاء الله تعالى -. * فصل: والدلالة على أنه إذا علم بحدث الإمام في أثناء الصلاة، يعيد: ما رواه الرفاعي (¬1) ................................ ¬

_ = في ذات المسألة ما نصه: (وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"، ولو كان حكمها حكم الانفراد، لما كان لهذا الفضل معنى). (¬1) لم أهتد لمعرفته، ولم أجد أحدًا من شيوخ أبي يعلى بهذا الاسم. ذكر أبو الخطاب في الانتصار (2/ 430) ما نصه: (وروى شيخنا أبو يعلى قال: حدثنا الرفاعي، عن الجزري، عن أبي حفص بن شاهين بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ... ).

عن أبي القاسم الجزري (¬1)، عن أبي حفص بن شاهين (¬2)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فسدت صلاة الإمام، فسدت صلاة من خلفه" (¬3)، وظاهر هذا يقتضي فسادها في عموم الأحوال، إلا ما خصه الدليل، ولأنه علم يحدث الإمام في صلاته، فوجب أن تبطل صلاته، دليله: إذا علم بحدثه في صلاة الجمعة قبل أن يعقدها بركعة، فإن جمعتهم تبطل، ولو علموا بحدثه بعد الفراغ من صلاته، لم تبطل جمعتهم عندهم. فإن قيل: لا تبطل جمعتهم، بل ينوون (¬4) الانفراد، وينوون (4) بها الظهر. قيل له: قد بطلت صلاته التي أحرم بها، وهي الجمعة، وينوي فرضًا آخر، وهو الظهر. ¬

_ (¬1) لم أهتد لمعرفته، إلا أن يكون: نصر بن الحسن بن القاسم، أبو القاسم الجزري، ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق (62/ 29)، ولم أقف على أحد بهذا الاسم ممن يروي عن ابن شاهين. (¬2) أخرجه في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 306، رقم (222). وابن شاهين مضت ترجمته. (¬3) أخرجه الخطيب البغدادي في المتفق والمفترق (1/ 667) رقم (383)، وقال ابن الجوزي في التحقيق (4/ 67): (حديث لا يعرف)، وأقره ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 503)، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (5863): (موضوع). (¬4) في الأصل: ينون.

فإن قيل: إنما بطلت جمعته؛ لأن من شرطها الإمام، وقد عُدِم، وليس من شرط هذا الإمام. قيل: لا فرق بينهما؛ لأن من شرط الجماعة إمام، وإذا عدم الإمام، بطلت الجماعة، وعلى أنه قد تصح الجمعة بغير إمام، وهو إذا كان مسبوقًا، فسلَّم إمامه، فإنه يتمها منفردًا. واحتج المخالف: بما روى الشافعي (¬1)، وأبو داود (¬2) - رحمهما الله - بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إلى الناس: أن امكثوا، ثم رجع - صلى الله عليه وسلم - وعلى جلده أثرُ الماء (¬3)، ورُوي: ثم رجع وقد اغتسل (2). ¬

_ (¬1) في مسنده في كتاب: الإمامة، رقم (189 و 190). (¬2) في سننه، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يصلي بالقوم وهو ناسٍ، رقم (234). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الغسل، وكتاب: الأذان، باب: إذا ذكر في المسجد أنه جنب، وباب: هل يخرج من المسجد لعلة؟ رقم (275 و 639)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: متى يقوم الناس للصلاة؟ رقم (605)، وليس فيه أنه بدأ في الصلاة كما أشار إليه ابن نصر المروزي في كتابه اختلاف الفقهاء ص 181، قال ابن حجر: (ويمكن الجمع بينهما يحمل قوله: "كبر" على: أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان، أبداه عياض، والقرطبي احتمالًا، وقال النووي: إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان كعادته، فإن ثبت، وإلا، فما في الصحيح أصح). ينظر الفتح (2/ 160).

وقد روى الشافعي (¬1)، وأبو داود بإسناده (¬2) عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة الفجر، فأومأ إليهم: أن مكانكم، فذهب، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم (¬3). والجواب: أنه ليس في الخبر أن القوم كانوا كَبَّروا. فإن قيل: لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوموا حتى تروني قد خرجت" (¬4)، وقال في الخبر: "مكانكم"، علمنا أنهم كانوا في الصلاة؛ لأنهم لو لم يكونوا في الصلاة، لكانوا منهيِّين عن القيام عند غيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا تقوموا في الصف حتى تروني" (¬5). قيل له: ليس في قوله: "على رِسْلكم، ومكانَكُم" أمرٌ بالقيام، ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 329)، وهو في معرفة السنن والآثار من طريقه (3/ 347). (¬2) في كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يصلي بالقوم وهو ناسٍ، رقم (233). (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب، رقم (4063)، وصحح إسناده في كتابه معرفة السنن (3/ 347)، لكنه من رواية الحسن عن أبي بكرة - رضي الله عنه -. قال ابن رجب في الفتح (3/ 599): (وحديث الحسن، عن أبي بكرة في معنى المرسل؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة عند الإمام أحمد والأكثرين من المتقدمين). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: المشي إلى الجمعة رقم (909)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: متى يقوم الناس للصلاة؟ رقم (604) واللفظ له. (¬5) لم أجده بهذا اللفظ، وينظر: الحاشية الماضية.

ويحتمل أن يكون المراد به: اثبتوا ولا تنصرفوا. فإن قيل: روي في خبر أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس: "مكانكم"، فلم يزالوا قيامًا ينتظرون حتى خرج. قيل: يحتمل أنهم لم يزالوا قيامًا في غير صلاة ينتظرونه حتى خرج. فإن قيل: روى الدارقطني بإسناده (¬1) عن أنس - رضي الله عنه -: أنه قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم: كما أنتم، فلم نزل قيامًا حتى أتانا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد اغتسل ورأسُه يقطُر ماء (¬2). قيل له: إن ثبت هذا الخبر، فلا دلالة فيه؛ لأنه لا خلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع، كَبَّر، وقد قال لهم: "إذا كبر الإمام، فكبروا" (¬3)، فلم يكونوا ليخالفوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيتركون التكبير عند تكبيره، فالظاهر من أمرهم: أنهم استأنفوا التكبير عند تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس جنبًا، ¬

_ (¬1) في السنن, باب: صلاة الإمام وهو جنب أو محدث، رقم (1362)، وأشار إلى الاختلاف في وصله. (¬2) أخرجه البيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب، رقم (4071)، وأشار إلى رواية المرسل، قال ابن حجر في التلخيص (2/ 927): (اختلف في وصله وإرساله). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، رقم (733)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (411).

فأعاد ولم يعيدوا (¬1). قيل له: روى أبو بكر النجاد في كتابه بإسناده عن عبد الله بن زُرير (¬2) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم انصرف، ثم جاء ورأسُه يقطر، فأعادوا، قال: "إني صليت بكم وأنا جنب، فمن أصابه مثلُ الذي أصابني، أو وجد رِزًّا في بطنه (¬3)، فليفعلْ مثلَ الذي صنعت" (¬4). وروى النجاد أيضًا في كتابه عن خلد (¬5) عن أبي جابر محمد بن ¬

_ (¬1) لم أجده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال أبو الخطاب في الانتصار (2/ 432): (لا يعرف)، وقد مضى حديث البراء - رضي الله عنه - بنحوه في ص 474. (¬2) في الأصل: وزير. وعبد الله هو: ابن زُرير الغافقي، المصري، قال ابن حجر: (ثقة، رُمي بالتشيع)، توفي سنة 80 هـ. ينظر: التقريب ص 317. (¬3) رِزّ البطن: الصوت فيه من القرقرة ونحوها. ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد القاسم (2/ 133). (¬4) رواه الإمام أحمد في المسند رقم (777)، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة، قال الطبراني في الأوسط (6/ 272): (لا يروى هذا الحديث عن علي إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة)، وقال ابن الجوزي عن الحديث: لا يعرف. ينظر: التحقيق (4/ 67). (¬5) كذا في الأصل، ولم أهتد إلى رجل في السند بهذا الاسم، ولا باسم خالد، ولا بنحوه، والراوي عن أبي جابر البياضي في سند الحديث هو: ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة القرشي، أبو الحارث المدني، قال =

عبد الرحمن بن خالد (¬1)، عن سعيد بن المسيب (¬2): أنه لما رجع، استأنف بهم الصلاة، وفي لفظ آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس وهو جنب، فأعاد وأعادوا (¬3)، وهذه الزيادة من رواية من روى أنهم لم يعيدوا، لا تنفي ثبت (¬4) الإعادة، وتلك تنفي، والمثبتة منها أولى؛ كالشهادة التي تثبت أولى من الشهادة التي [لم تثبت] (¬5). واحتج: بأنه غير منسوب إلى التفريط في الائتمام به، فوجب أن ¬

_ = ابن حجر: (ثقة فقيه)، توفي سنة 158 هـ. ينظر: التقريب ص 485. (¬1) المديني، قال الإمام أحمد: (أبو جابر البياضي منكر الحديث جدًا)، وذكر البيهقي: أنه متروك الحديث. ينظر: الجرح والتعديل (7/ 324)، وسنن البيهقي (2/ 559). (¬2) ابن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي، قال ابن حجر: (أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار)، توفي بعد التسعين من الهجرة. ينظر: التقريب ص 235. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (3660)، والدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب، رقم (1369)، وقال: (مرسل، وأبو جابر، متروك الحديث)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: إمامة الجنب، رقم (4077)، وأشار لضعفه. (¬4) هكذا في الأصل، وعليها حرف (ط) إشارة للسقط، وفي الانتصار (2/ 432) ما نصه: (ثم أخبارنا أولى ومثبتة، وأخباركم نافية، والمثبت أولى كما في الشهادة). (¬5) بياض في الأصل بمقدار كلمة، والمثبت بين القوسين من هامش المخطوط.

تصح صلاته؛ قياسًا على من اقتدى بمن مس زوجته لغير شهوة، أو نام زائلًا عن مستوى الجلوس نومًا يسيرًا، أو علم بحدثه بعد فراغه من الصلاة. والجواب: أن هذا يبطل بمن اقتدى بكافر، أو امرأة. فإن قيل: هو منسوب إلى التفريط. قيل له: قد بينا أن المأموم لم يكلف معرفة حال الإمام، فكيف يكون مفرطًا في الائتمام بهما مع الجهل بحالهما، وأما إذا صلى خلف من مس امرأته لغير شهوة، أو نام زائلًا نومًا يسيرًا، فالمعنى فيه: أن الاقتداء به يصح في حال العلم بحاله عندنا، فجاز أيضًا في حال الجهل، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لا يجوز الاقتداء به مع العلم بحاله، فجاز أن لا يجوز أيضًا مع الجهل؛ كما لو كان كافرًا، أو امرأة، وأما إذا علم بحدثه بعد الفراغ من الصلاة، فقد بينا الفرق بين أن يعلم بذلك في الصلاة، وبين أن يعلم خارجًا منها، من الوجه الذي ذكرنا، وهو أن شكّه في الصلاة يوجب عليه التحري، أو البناء على اليقين، وخارج الصلاة لا حكم له، وكذلك انقطاع دم المستحاضة، وانقضاء مدة المسح، ورؤية الماء في الصلاة يبطلها, ولا يؤثر ذلك خارجًا منها، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بأن من لم تصح صلاته بصلاة غيره، لم تبطل صلاته ببطلان صلاته، أصله: بطلان صلاة بعض المأمومين، وربما قالوا: كل من بطلت صلاته - بمعنى: انفرد به - لم تبطل صلاة غيره ببطلان صلاته، أصله: المأموم إذا كان جنبًا.

والجواب: أن هذا يوجب أن لا تبطل صلاة غيره، وإن كان عالمًا بحاله؛ كما لا تبطل صلاة غير المأموم، على أنا قد بيّنا أن صلاة الإمام غير متعلقة بصلاة المأموم، فلهذا لم تفسد بفسادها, وليس كذلك المأموم؛ لأن صلاته متعلقة بصلاة الإمام من الوجه الذي ذكرنا، وهو أن الإمام لو علم أن المأموم محدِث، لم يمنع ذلك من صحة صلاته، وكذلك لو سها المأموم، لم يلزم الإمام حكم سهوه، ولو سها الإمام، لزم المأموم حكمه، فلهذا لم تفسد صلاة الإمام بفساد صلاة المأموم، وفسدت صلاة المأموم بفساد صلاة الإمام. واحتج: بأنه لو صلى في ثوب نجس, صحت صلاتهم، نص عليه في رواية يوسف بن موسى: إذا صلى في ثوب (¬1)، يعيد ولا يعيدون (¬2)، كذلك ها هنا. والجواب: أن هذا محمول على أنه إن علم بعد الفراغ منها. واحتج: بأن قال: صلاة المأموم تتعلق بصلاة الإمام في الفضيلة، لا في الجواز والبطلان، ألا ترى أن كلَّ ما تبطل به صلاة المنفرد تبطل به صلاة الجماعة، فإذا لم يتعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام إلا في الفضل، وجب إذا لم تصح صلاته أن يزول الفضل دون الجواز. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والمراد: في ثوب نجس. (¬2) لم أقف على هذه المسألة. وينظر: الإرشاد ص 23، والجامع الصغير ص 43، والفروع (2/ 50).

والجواب: أنه لو كان كذلك، لوجب إذا كان المأموم عالمًا يحدث الإمام أن تبطل الفضيلة، ويبقى الجواز، وقد اتفقنا على بطلان الأمرين، فبطل ما قاله. واحتج: بأنه ليس على المأموم معرفة طهارة الإمام من طريق الاجتهاد، ولا من طريق اليقين، وقد يخطئ الإنسان في كثير مما أُمِر بالاجتهاد فيه، فيعذر، فما لم يؤمر بالاجتهاد فيه، ولا معرفته من جهة اليقين أولى أن لا يعذر في خطئه. والجواب: أن هذا يوجب أن يعذر إذا صلى خلف امرأة أو كافر. فإن قيل: الإمام مؤتمن على طهارته، ولا يوقف عليها إلا من جهته، فإذا علمنا بقوله، لم يقبل رجوعه بعد ذلك؛ كالمرأة إذا أقرَّت بانقضاء العدة، ووجب، ثم رجعت عن ذلك، وقالت: لم تنقض عدتي بَعْدُ: أنَّا لا نقبل قولها. قيل: فيجب أن لا يقبل قوله قبل الدخول في الصلاة؛ لهذا المعنى، وعلى أنا إنما لم نقبل رجوع المرأة بعد التزويج؛ لأن دخولها في عقد النكاح اعتراف منها بصحته، فإذا ادعت ما يوجب فسخه، وإبطال حق الزوج، لم تصدَّق، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن هذا من أمر الدين، فيقبل قوله فيه؛ كما يقبل قوله قبل الدخول في الصلاة. والله أعلم. * * *

49 - مسألة: فإن سبق الإمام الحدث، وقلنا: إن صلاة المأموم [لا تبطل] بحدثه، فإنه يجوز له أن يستخلف غيره في أصح الروايتين

49 - مَسْألَة: فإن سبق الإمامَ الحدثُ، وقلنا: إن صلاة المأموم [لا تبطل] بحدثه (¬1)، فإنه يجوز له أن يستخلف غيره (¬2) في أصح الروايتين: نص عليه في مواضع، فقال في رواية أبي النضر (¬3): إذا أحدث، فقدَّم رجلًا فاتته معه ركعة، صلَّى بالقوم ثلاثًا هي رابعةُ القوم، فإذا تشهد، قدَّم رجلًا من القوم - يعني: ممن أدرك أول الصلاة - يسلِّم بهم (¬4)، فقد نص على جواز الاستخلاف في الحدث لمسبوقٍ لم يدرك معه أول الصلاة، وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم عنه (¬5): إذا أحدث وهو في الصلاة؟ يستخلف، فإن استخلف رجلًا قد فاتته ركعة، فأراد أن يسلِّم، ¬

_ (¬1) في الأصل: المأموم بحدثه، وعليها حرف (ط) إشارة للسقط. وفي رؤوس المسائل لأبي يعلى لوح 14 ما نصه: (إذا سبق الإمام الحدث، وقلنا: إن صلاة المأموم لا تبطل بحدثه، جاز له أن يستخلف غيره)، وينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 250). (¬2) في الأصل: غير. (¬3) هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون بن عبد الحميد بن أبي الرِّجال، أبو النضر العجلي، مروزي الأصل، روى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، توفي سنة 270 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 276)، والمقصد الأرشد (1/ 263). (¬4) لم أجد رواية أبي النضر، وهي بنصها رواية ابن هانئ في مسائله رقم (228) وستأتي، وينظر: مسائل الكوسج رقم (345)، والإنصاف (3/ 385). (¬5) في مسائله رقم (228 و 229).

يقدم رجلًا يسلِّم بهم، قيل له: فالرجل يرعف في الصلاة؟ قال: يستأنف أحبُّ إليَّ. فقد نص على جواز الاستخلاف، مع الحكم ببطلان صلاته في حقه. وكذلك نقل عبد الله عنه (¬1): إذا أحدث، فقدَّم رجلًا يصلِّي بهم من حيث انتهى الإمام، فقد استخلف عمر (¬2)، وعلي - رضي الله عنهما - (¬3)، وإن لم يستخلف كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا بأس (¬4)، وإن صلَّوا وحدانًا، فقد طُعن معاوية - رضي الله عنه -، وصلى الناس وحدانًا من حيث طعن أتموا لأنفسهم (¬5). فقد نص على جواز الاستخلاف من جهة الإمام، ومن جهة أنفسهم، وأجاز ترك الاستخلاف، وأن يتموا صلاتهم منفردين. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (521). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة, باب: قصة البيعة، رقم (3700) بلفظ: (وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدَّمه). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (3670)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 242)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: الصلاة بإمامين أحدُهما بعد الآخر رقم (5258)، واحتج بأثر علي - رضي الله عنه - الإمامُ أحمد؛ كما في مسائل عبد الله رقم (522)، ومسائل صالح رقم (1279). (¬4) مضى في (1/ 491). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (3687) مرسلًا، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: الإمام يخرج ولا يستخلف، رقم (5259)، واحتج به الإمام أحمد؛ كما في مسائل عبد الله.

وكذلك نقل صالح (¬1)، وابن منصور (¬2): في رجل أَمَّ قومًا، فضحك في آخر صلاته بعد ما تشهد: يستقبل صلاتَه، ومَنْ خلفه يسلمون، تمت صلاتهم، أو يقدمون رجلًا، فيسلِّم بهم. فقد أجاز الاستخلاف، ها هنا مع الحكم ببطلان صلاته في حقه بالضحك، وأجاز ترك الاستخلاف وأن يتموا منفردين، فقد ثبت بما روينا عنه جواز الاستخلاف. وفيه رواية أخرى: لا يجوز (¬3)، قال في رواية حنبل (¬4): إذا أحدث الإمام يوم الجمعة بعد ما يخطب، يقدِّم رجلًا يصلي بهم لم يصلِّ هذا المقدم إلا أربعًا، فإن أعاد الخطبة، صلى ركعتين. وهذا يدل على منع الاستخلاف؛ لأنه قد نص على أن الجمعة قصرت لأجل الخطبة، وأنها قائمة مقامها، وقد منع من الاستخلاف فيها. وقال أيضًا في رواية أحمد بن سعيد (¬5): في إمام صلى بقوم، ثم أحدث قبل أن يخرج من صلاته؟ يخرج فيتوضأ، ويستقبلون هم الصلاة، ولا يستخلف، كيف يستخلف من ليس هو في صلاة؟ إذا أمرته أن يستقبل، ¬

_ (¬1) لم أجدها بهذا اللفظ في مسائله، ولكنه المفهوم مما في مسائله رقم (924 و 1322)، وينظر: الروايتين (1/ 141)، والنكت على المحرر (1/ 172). (¬2) في مسائله رقم (347). (¬3) ينظر: مختصر ابن تميم (2/ 273)، والإنصاف (3/ 384). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 184)، والمغني (3/ 178). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 141).

أمرتهم أن يستقبلوا، فقيل له: روي عن عمر، وعلي - رضي الله عنهما -، فقال: لا يعجبني؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف (¬1)، فقيل له: ذكروا أنك ترى الاستخلاف، فتبسم، وقال: كنت أراه، وجنبت عنه. وهذه الرواية لا تدل على أنه لا يرى الاستخلاف إذا حكم بصحة صلاة المأموم، وإنما منع في المواضع الذي حكم ببطلان صلاتهم بحدث الإمام، فلا يصح الاستخلاف في تلك الحال، والرواية قد اختلفت عنه في حدث الإمام هل تبطل صلاة نفسه، أم لا؟ على روايات ثلاث (¬2)، وإذا حكمنا ببطلان صلاته، فهل تبطل صلاة المأمومين؟ على روايتين، فمنع من الاستخلاف على الرواية التي حكم ببطلان صلاتهم، قال: إذا قلنا: إن صلاة المأمومين صحيحة، فالذي نص عليه في رواية أبي [النضر] (¬3)، وعبد الله (¬4)، وصالح (5)، وابن منصور (¬5): جوازه. وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬6)، والذي نقل حنبل في الخطبة ¬

_ (¬1) مضى في (1/ 491). (¬2) الأولى: تبطل مطلقًا، والثانية: يبني على صلاته ما لم يكن الحدث باختياره، الثالثة: يقطع الصلاة ما خرج من الدبر أو القبل دون غيره. ينظر: الروايتين (1/ 139)، وشرح الزركشي (3/ 217). (¬3) في الأصل طمس، لكن تقدم الرواية في (1/ 499)، وهي تدل على المثبت. (¬4) مضت في (1/ 499)، وينظر: الروايتين (1/ 141). (¬5) مضت في (1/ 500). (¬6) ينظر: مختصر الطحاوي ص 32، ومختصر القدوري ص 82. =

يقتضي المنع (¬1). وللشافعي - رحمه الله - قولان، قال به في الجديد: يجوز، وفي القديم: لا يجوز (¬2). دليلنا: ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر - رضي الله عنه - في مرضه أن يصلي بالناس، فافتتح بهم الصلاة، ثم وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خفة، فخرج إلى المسجد وهو يُهادى بين اثنين، وتقدم وقعد بجنب أبي بكر - رضي الله عنه -، وصلى بالناس (¬3)، فصار أبو بكر - رضي الله عنه - مأمومًا بعد ما كان إمامًا، فدل هذا على جواز الصلاة بإمامين، وهذه قضية مشهورة، يأتي شرحها على الاستيفاء فيما بعد - إن شاء الله تعالى -. فإن قيل: فإن أبا بكر - رضي الله عنه - صار مأمومًا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إمامًا، فما الدليل على ذلك؟ قيل له: روي في الخبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد عن يسار أبي بكر، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمومًا، لوجب أن يجلس عن يمينه، ألا ترى أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لما قام عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم -، أداره إلى يمينه (¬4)؟ ¬

_ = وإلى الاستخلاف ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 145)، والمعونة (1/ 213). (¬1) ينظر: (1/ 500). (¬2) ينظر: الأم (2/ 351)، والأوسط (4/ 242)، والبيان (2/ 611). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة، رقم (683)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، رقم (418). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء، رقم (697)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (763).

ويدل عليه أيضًا: ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم؛ فقدموا أبا بكر يصلي بهم العصر، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف في الصف، فتأخر أبو بكر، وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلى بالقوم بقية الصلاة (¬1). فإن قيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصًا بذلك. قيل له: كونه مخصوصًا بذلك حكمٌ من الأحكام يحتاج إلى دليل، وأيضًا: فإن صلاة الجماعة تفتقر إلى إمام ومأموم، ثم لا خلاف أن حكمها لا يتغير بتغير المأموم، وهو أن يحدث، ويجيء مأموم آخر، كذلك يجب أن لا يتغير حكمها بتغير الإمام. واحتج المخالف: بما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح بالناس صلاة الفجر، ثم ذكر أنه جنب، فاغتسل، ولم يستخلف (¬2)، فلو جاز، لفعل ذلك؛ لأن ذلك أولى من تأخير الصلاة، والانتظار فيها لغير عذر، وبهذا احتج أحمد - رحمه الله - في بطلان الاستخلاف. والجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد دخل في الصلاة، وكذلك القوم، وقد بينا ذلك فيما تقدم، وخلافنا: في إمام دخل في الصلاة، وافتتح القوم خلفه، ثم سبقه الحدث. فإن قيل: روي عن علي - رضي الله عنه -: أنه خرج من صلاته، وقال: مسست ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 114). (¬2) مضى في (1/ 490، 491).

فرجي، ولم يستخلف (¬1). قيل له: قد روى أحمد - رحمه الله - عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - الاستخلافَ (¬2)، وعلى أنا نجوِّز الاستخلاف، ولا نوجبه، وليس في هذه الأخبار دلالة على نفي جوازه. واحتج: بأنه إمام استخلف على مأمومه، فوجب أن لا يصح، أصله: إذا أدرك المأموم الإمام في الركعة الأخيرة، فسلم الإمام: أنه ليس له أن يستخلف عليهم من يتم به الصلاة. والجواب: أن الثاني يقوم مقام الأول، والأول ليس له أن يُتَمّم بالمسبوق صلاته، كذلك لا يجوز له أن يقيم غيره مقامه. واحتج: بأنه مأموم اقتدى في صلاة واحدة بإمامين، فوجب أن لا يصح، دليله: المسبوق إذا صلى مع الإمام الركعة الآخرة، وسلم الإمام: أنه لا يجوز أن يقتدي بإمام آخر في بقية صلاته. ¬

_ (¬1) لم أجده، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه رقم (416)، والبيهقي في الكبرى، في كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، رقم (632) عن ابن أبي مليكة: أن عمر - رضي الله عنه - بينا هو يؤم الناس، إذ زلت يده على ذكره، فأشار إلى الناس أن امكثوا، ثم خرج فتوضأ، ثم رجع فأتم بهم ما بقي من الصلاة. وينظر: معرفة السنن (1/ 392)، وفي سند عبد الرزاق من لم يسمّ، ورواية ابن مليكة عن عمر مرسلة، كما قاله أبو زرعة - رحمه الله -. ينظر: مراسيل ابن أبي حاتم ص 113. (¬2) مضى في (1/ 499).

والجواب: أنه إنما لم يجز؛ لأن تحريمته اقتضت كونه منفردًا فيما يقضيه، فإذا اقتدى بغيره، بطلت صلاته؛ كالمنفرد إذا اقتدى بغيره، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن تحريمة القوم لم تقتض كونهم منفردين في بعض صلاتهم، فإذا سبق إمامهم الحدث، جاز أن يقدموا غيره، ويقتدوا به في بقية صلاتهم، ولأن صلاة الإمام قد كملت هناك، فلهذا لم يجز الاستخلاف؛ كالمسبوق في صلاة الجمعة لا يجوز الاستخلاف عليهم؛ لأن صلاة الإمام قد كملت، وليس كذلك إذا أحدث؛ لأن صلاتهم لم تكمل، على أن الحكم في المأموم إذا أدرك الإمام في الركعة الأخيرة، فسلَّم، هل يستخلف عليهم مَنْ يتم بهم الصلاة، أو يستخلف المأموم من يتم به؟ وفي المسافر إذا صلى بمقيمين، فسلَّم من ركعتين، هل يستخلف واحدًا منهم ليقتدوا به بعد فراغه من الصلاة، أو أرادوا أن يقدموا واحدًا منهم؟ ولا يجوز، نص عليه في رواية صالح (¬1): في مسافر صلى بمقيمين: يتم المقيمون أربعًا، قيل له: فيتقدم رجل منهم فيصلي؟ قال: لا، يتمون وحدانًا. والوجوب فيه ما تقدم، وفرق آخر: وهو أن هذه الصلاة قد أقيمت بكمالها في جماعة، ومن أدرك معه بعضها، فقد أدرك فضيلة الجماعة، فلهذا لم يستخلف، وليس كذلك إذا سبقه الحدث قبل كمالها: أنه يستخلف ليصلي هذه الصلاة بكمالها في جماعة، فلهذا ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة.

50 - مسألة: فإن سبقه الحدث، وخرج من المسجد ولم يستخلف، فاستخلف القوم بعد ذلك رجلا منهم، أو أتموا لأنفسهم، جاز

جاز أن يستخلف، والله أعلم. * * * 50 - مَسْألَة: فإن سبقه الحدث، وخرج من المسجد ولم يستخلف، فاستخلف القومُ بعد ذلك رجلًا منهم، أو أتموا لأنفسهم، جاز (¬1): وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إن خرج من المسجد، ولم يستخلف، بطلت صلاتهم، سواء استخلفوا رجلًا منهم، أو لم يستخلفوا (¬2). دليلنا: أنهم قد صاروا منفردين بخروج الإمام، فكان لهم أن يتموا لأنفسهم؛ كالمسبوق إذا سلم إمامه، وقام يقضي، وكما لو أحرم بالصلاة منفردًا، فإنه يتم لنفسه؛ لعدم إمامه، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بأن القياس يقتضي أنه متى انتقل عن موضعه قبل الاستخلاف: أن تفسد صلاتهم؛ لأن القوم قد بقوا بلا إمام، وأدّوا جزءًا من الصلاة منفردين، فصاروا كمن اقتدى بالإمام، ثم انفرد بصلاة ¬

_ (¬1) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 157)، والمبدع (1/ 423). وإليه ذهبت المالكية، والشافعية. ينظر: المدونة (1/ 145)، والمعونة (1/ 213)، والأم (2/ 351)، والأوسط (4/ 242). (¬2) ينظر: مختصر الطحاوي ص 32، وفتح القدير (1/ 268).

51 - مسألة: فإن صلى بقوم، فحصر فتأخر، وتقدم رجل، جاز

نفسه: أن صلاته تفسد، وإنما تركنا القياس ما دام في المسجد لدلالة، وهو أن بقاع المسجد كلها في حكم البقعة الواحدة، فإذا خرج من المسجد، حمل على موجب القياس. والجواب: أنه إنما لا تصح صلاته إذا انفرد بصلاة نفسه إذا كان انفراده لغير عذر، وها هنا انفرادهم لعذر، وهو عدم الإمام، فلهذا لم تبطل صلاتهم. والله أعلم. * * * 51 - مَسْألَة: فإن صلى بقوم، فحُصِر (¬1) فتأخر، وتقدّم (¬2) رجلٌ (¬3)، جاز (¬4): ¬

_ (¬1) الحصر: ضرب من العِيّ، وحُصِر: لم يقدر على الكلام، وحُصِر صدره: ضاق، ومنه قوله سبحانه: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} أي: ضاقت صدورهم. ينظر: لسان العرب كلمة: (حصر). (¬2) هكذا في الأصل، وفي رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 157): (فإن صلى بقوم فحصر، فتأخر وقدّم رجلًا، جاز). (¬3) في الأصل: رجلًا. (¬4) ينظر: الفروع (2/ 155)، والإنصاف (3/ 389)، وكشاف القناع (2/ 260). وإليه ذهبت المالكية، والشافعية. ينظر: القوانين الفقهية ص 57، ومواهب الجليل (2/ 479)، والأم (2/ 351)، والبيان (2/ 613).

وقال أبو يوسف، ومحمد: يستقبل القومُ صلاتَهم (¬1). دليلنا: أنه قد تعذَّر عليه [المضي] (¬2) في صلاته؛ لعجزه عن القراءة، فيجب أن يصير ذلك عذرًا في جواز تأخره واستخلافه؛ كالذي يسبقه الحدث: أنَّ له أن يتأخر، ويستخلف غيره، ولا يلزم على هذا إذا أغمي عليه في الصلاة، أو مات، فإنه يجوز للقوم أن يستخلفوا مكانه؛ لأن أكثر ما فيه: أنه قد بطلت صلاته، وقد بينا أن أحمد - رحمه الله - قد أجاز الاستخلاف مع بطلان صلاته، وهو إذا قهقه (¬3)، أو تكلم في الصلاة (¬4). فإن قيل: جواز البناء مع الحدث مخصوص من جملة القياس، والمخصوص من جُمَله لا يقاس عليه، إلا أن يكون علته مذكورة. قيل: جواز الاستخلاف ليس بمخصوص من جملة القياس، بل القياس يقتضي جوازه عند العذر، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج في مرضه الذي مات فيه، صار أبو بكر - رضي الله عنه - مأمومًا بعد أن كان إمامًا (¬5)؛ لأن خروج ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية (1/ 60)، والاختيار لتعليل المختار (1/ 84)، وقول أبي حنيفة على الجواز. (¬2) طمس في الأصل بمقدار كلمة، والتصويب من رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 157). (¬3) القهقهة: من قهقه يقهقه قهقهة: إذا مدّ ورجّع في ضحكه، وقيل: هو اشتداد الضحك. ينظر: لسان العرب (قهقه). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 141). (¬5) مضى في (1/ 502).

النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عذرًا له في خروجه عن الإمامة؛ لأنه لم يكن له أن يتقدم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: لو كان أميًّا في الابتداء، لم يصح لهم الاقتداء، فإذا صار أميًا وهو في الصلاة، يجب أن تبطل صلاتهم، ولا يجوز أن يستخلف، كالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته، بطلت صلاتهم، ولم يجز الاستخلاف؛ لأنه لو رآه في الابتداء، لم يصح اقتداؤهم به. قيل له: الحصر لا يوجب كونه أميًا، وليست المسألة مبنية على أنه نسي القرآن، وإنما هي مبنية على أنه لحقه خجل (¬1)، أو فزع (¬2) لم يمكِّنه أن يقرأ، ولو كان الأمر على هذا، فهو اعتبار فاسد بمن سبقه الحدث في الصلاة: أنه لو وُجِد منه الحدث في الابتداء، لم يصح اقتداؤهم به، ومع هذا إذا وُجد في الصلاة، لم تبطل صلاة القوم، ويجوز أن يستخلف، وأما المتيمم، فالقول فيه، وفي المغمى عليه في أثناء الصلاة واحد، وأنه يجوز لهم الاستخلاف؛ ولأن أكثر ما فيه: أن صلاة الإمام تبطل، وقد بينا جواز الاستخلاف على أصلنا، مع الحكم ببطلان صلاته، فسقط هذا. فإن قيل: فإذا بطلت صلاته، تعدى ذلك إلى صلاتهم؛ لأن عندكم أن صلاتهم تفسد بفساد صلاته. ¬

_ (¬1) رجل خجل، وبه خجلة: أي: حياء، والخجل: التحير والدهش من الاستحياء. ينظر: اللسان (خجل). (¬2) الفزع: الذَّعر من الشيء، وأفزعه: أخافه وروعه. ينظر: اللسان (فزع).

52 - مسألة: إذا أحدث الإمام يوم الجمعة بعد ما خطب، فاستخلف رجلا ليصلي، جاز، سواء حضر الخطبة معه، أو لم يحضر

قيل له: قد بينا في ذلك روايتين (¬1)، وأن المسألة مبنية على الرواية التي تقول: لا تبطل صلاتهم بحدث الإمام. فإن قيل: فإذا بطلت صلاة الإمام، فقد خرج من الصلاة، فلا معنى لاعتبار الاستخلاف من جهته. قيل له: قد بينا فيما تقدم (¬2) أن استخلاف الإمام ليس بشرط في صحة صلاتهم، وأنهم إن استخلفوا لأنفسهم، جاز، فعلى (¬3) هذا استخلافُه بهم، وهو في غير صلاة، يجري مجرى استخلافهم لأنفسهم، والله أعلم. * * * 52 - مَسْألَة: إذا أحدث الإمام يوم الجمعة بعد ما خطب، فاستخلف رجلًا ليصلي، جاز، سواء حضر الخطبة معه، أو لم يحضر: نص عليه في رواية صالح (¬4)، وأبي طالب (¬5)، فقال: إذا أحدث ¬

_ (¬1) في (1/ 499). (¬2) في (1/ 506). (¬3) كررت في الأصل مرتين. (¬4) لم أجدها في مسائله، ولا فيما وقفت عليه، ونقل مثلها الكوسجُ في مسائله رقم (531)، وينظر: الإرشاد ص 101، ومختصر ابن تميم (2/ 424)، والفروع (3/ 171)، والإنصاف (5/ 234). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 184).

قبل أن يدخل في الصلاة، فإن شاء قدَّم من شهد الخطبة، أو من لم يشهد، [هو] واحد. وقال في رواية حنبل (¬1): إذا أحدث يوم الجمعة بعد ما خطب، فقدم رجلًا، فلا يصلي هذا المقدم إلا أربعًا، إلا أن يعيد الخطبة. وهذه الرواية أفادت منع الاستخلاف في الجملة، وقد حكيناها في أول مسائل الاستخلاف (¬2)، والكلام في هذه المسألة إنما يصح بعد الحكم بجواز الاستخلاف، وعلى قياسه إذا أحدث في صلاة الجمعة، فاستخلف من لم يدخل معه، جاز، وقد نص عليه في رواية ابن منصور (¬3)، وصالح (¬4) - وذكر له قول سفيان: إن أحدث يوم الجمعة قبل أن يدخل في الصلاة، فلا يقدم إلا من شهد الخطبة، فإن دخل الإمام في الصلاة، فصلى، ثم أحدث، فلا بأس أن يقدم من دخل معه في صلاته، وإن لم يشهد الخطبة -، فقال (¬5): إن شاء قدم من شهد الخطبة، أو لم يشهد، هو واحد. خلافًا لأصحاب الشافعي - رضي الله عنهم - في قولهم: لا يصح أن يَستخلف إلا من حضر معه الخطبة، وأحرم معه بالصلاة (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 184)، والمغني (3/ 178). (¬2) في (1/ 499). (¬3) في مسائله رقم (531). (¬4) ينظر: الصفحة السابقة حاشية رقم (4). (¬5) أي: الإمام أحمد - رحمه الله -. (¬6) ينظر: الحاوي (2/ 421)، والبيان (2/ 615). =

دليلنا: أن كل صلاة جاز أن يستخلف فيها من أحرم معه بالصلاة، جاز أن يستخلف من لم يُحرم معه، دليله: سائر الصلوات غير الجمعة؛ ولأنه استخلف مَنْ هو من أهل فرض الجمعة، فصح الاستخلاف، دليله: من حضر معه الخطبة، وأحرم معه بالصلاة. واحتج المخالف: بأن من لم يحضر ليس من أهل الجمعة، ولا أصل فيها، ألا ترى أنه لو خطب بهم، فلما فرغ، وافى أربعون لم يحضروا الخطبة، فقدموا واحدًا منهم فأحرم بهم الجمعة، لم تنعقد؛ لأنهم ما حضروا الخطبة، كذلك ها هنا. والجواب: أنه لا يصح هذا؛ لأنه لو أحدث بعد الدخول في صلاة الجمعة، فاستخلف من حضر الجمعة، ولم يحرم معه، لم يجز استخلافه عندهم، وإن كان من أهلها؟ بدليل: أنه يصح استخلافه في الخطبة، والخطبة من شرائط الجمعة. فإن قيل: إذا أجزتم له أن يستخلف من لم يدخل معه في الصلاة، أفضى إلى أن يستخلف من أدركه في التشهد، فيكون الإمام في ظُهر، والمأموم في جمعة. ¬

_ = وإليه ذهبت الحنفية. ينظر: المبسوط (2/ 43)، وبدائع الصنائع (2/ 203). وأما المالكية: فقد كره مالك - رحمه الله - أن يصلي بهم من لم يشهد الخطبة، وقال: أرجو أن تجزئهم. ينظر: المدونة (1/ 155)، والتاج والإكليل (2/ 528).

53 - مسألة: فإن أحدث في غير الجمعة، فاستخلف من لم يدخل معه، جاز، ولا فرق بين الركعة الأولة والثالثة، وبين الثانية والرابعة

قيل: هذا مبني على أصل، فإن قلنا: إنه يدخل بنية جمعة على قول أبي إسحاق (¬1)، لم يفض إلى ما قالوه، وإن قلنا: يدخل بنية الظهر، لم يستخلف، لما ذكروه. والله تعالى أعلم. * * * 53 - مَسْألَة: فإن أحدث في غير الجمعة، فاستخلف من لم يدخل معه، جاز، ولا فرق بين الركعة الأولة والثالثة، وبين الثانية والرابعة: نص عليه في رواية صالح (¬2). خلافًا لأصحاب الشافعي - رحمهم الله - في قولهم: يجوز ذلك في الأولة والثالثة، ولا يجوز في الثانية والرابعة إلا لمن أحرم معه (¬3). دليلنا: أن من جاز أن يستخلفه في الأولة والثالثة، جاز في الثانية والرابعة. دليله: من أحرم معه بالصلاة، وكل ركعة جاز أن يستخلفه فيها إذا ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (3/ 190)، والفروع (2/ 444)، والإنصاف (4/ 414). وأبو إسحاق هو: ابن شاقلا، مضت ترجمته. (¬2) لم أقف عليها في مسائله، وينظر: الروايتين (1/ 141)، والمغني (2/ 509). وإلى هذا ذهبت الحنفية، والمالكية. ينظر: بدائع الصنائع (2/ 119)، والهداية (1/ 61)، والمدونة (1/ 145)، والكافي ص 52. (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 422)، والبيان (2/ 614).

كان قد أحرم معه بها، جاز، وإن لم يحرم؛ كالأولة والثالثة. فإن قيل: إنما جاز في الأولة والثالثة؛ لأن ترتيب نفسه لا يخالف ترتيب المأموم؛ لأنه لو كان في الأولى، فلا إشكال فيه، وإن كان في الثالثة، فإنه يصلي ركعتين، ويجلس جلوسه الأول، وجلوس الإمام الأخير، وليس كذلك إذا لم يدخل معه في الثانية والرابعة؛ لأن ترتيبه يخالف ترتيب المأموم؛ فإن ترتيبه أن يجلس بعد أن يصلي ركعتين، وترتيبهم بعد أن يصلوا معه ركعة، فإن اتبعهم في ترتيبهم، لم يصح؛ لأنه يجلس في موضع قيامه، وإن تبعوه في ترتيبهم، لم يجز؛ لأنهم يقومون في موضع جلوسهم، وكذلك في الرابعة، فلم يجز، ويخالف هذا إذا كان قد أحرم خلف إمامه؛ لأنه قد لزمه حكم ترتيب الإمام، فلا يتشوش عليهم الترتيب، فلهذا قلنا: يجوز. قيل: في هذا روايتان: إحداهما: يتبع ترتيبهم، وإن جلس في موضع قيامه؛ لأنه لما دخل مع الإمام، فقد التزم أحكام صلاة الإمام، وهذا ترتيب صلاة الإمام، فوجب أن يبني عليه، كما قلنا في المسبوق: إذا أدرك الإمام في السجود، فإنه يتبعه، وإن خالف ترتيبه؛ لأنه حكم صلاة الإمام، وقد أومأ أحمد - رحمه الله - إلى هذا في رواية عبد الله (¬1): في الإمام إذا أحدث في صلاته، قدم رجلًا، فصلى بالقوم، فيأخذ من حيث انتهى الإمام. وكذلك قال في رواية صالح (¬2): يبني المستخلف ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (522). (¬2) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر: الروايتين (1/ 142).

على صلاة المحدث. وكذلك قال في رواية بكر بن محمد: إذا أحدث الإمام، فقدم رجلًا، يأخذ من حيث انتهى، كأنه لم ير به بأسًا (¬1). وفيه رواية أخرى: أنه مخير في أن يتبع ترتيبهم، أو ترتيب نفسه، وإن قام في موضع جلوسهم، أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في مواضع، فقال في رواية يعقوب بن بختان: في الإمام يستخلف، هل يبني على الذي قدم، أو يستأنف؟ قال: إن شاء بنى، وإن شاء استأنف، يتشهد، ثم يتأخر، ويقدم من يسلِّم بهم (¬2). وكذلك قال في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬3): فإن استخلف رجلًا فاتته ركعة؟ إن شاء استأنف، وإن شاء بنى على صلاة الأول، فإذا أراد أن يسلم، يقدم رجلًا يسلم بهم، ويتم هو صلاته، إنما كان مخيرًا في أن يتبع ترتيبهم؛ لأنه قائم مقام الإمام الأول، والأول كان ترتيبه ترتيبهم، وبين أن يتبع ترتيب نفسه؛ لأنه إمام، وقد ابتدأ بالصلاة. فإن قيل: قولكم: إنه قد التزم صلاة الإمام، وحكمُ الإمام أن يبني على ترتيبهم، لا معنى له؛ لأنه لو استخلف من لم يدخل معه في الصلاة، صح، وإن لم يكن قد التزم حكم صلاته، وخالفتم أبا حنيفة (¬4)، ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية بكر، وينظر: المبدع (1/ 423)، والكافي (1/ 385). (¬2) لم أقف عليها. (¬3) في مسائله رقم (228)، وينظر: الروايتين (1/ 142). (¬4) لم أقف على قول أبي حنيفة - رحمه الله - بالمنع، وقد مضت الإشارة =

54 - مسألة: إذا صلى خلف كافر، وهو لا يعلم به، ثم علم، فعليه الإعادة

والثوري (¬1) في ذلك، أن عندهما: لا يصح الاستخلاف إلا لمن دخل معه في الصلاة، وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية صالح (¬2) - وذكر له: قول سفيان في إمام أحدثَ، فقدَّم رجلًا لم يدخل معهم في صلاتهم؟ -: أرى أن يستقبلوا. فقال أحمد - رحمه الله -: إذا قدم رجلًا قبل أن يحدث، أو بعد أن أحدث، أو لم يقدم، فتقدم رجل (¬3)، فصلاتهم تامة. قيل: ... (¬4). * * * 54 - مَسْألَة: إذا صلى خلف كافر، وهو لا يعلم به، ثم علم، فعليه الإعادة: ¬

_ = لقول الحنفية في (1/ 511، 512). (¬1) نقل ذلك عنه الكوسجُ في مسائله رقم (345)، وفي مصنف عبد الرزاق: أن الثوري - رحمه الله - سئل عن: رجل أم قومًا، فصلى بهم ركعة أو ركعتين، ثم أحدث، فقدَّم رجلًا لم يدرك أول الصلاة؟ قال: يصلي بهم الذي قدم صلاة الإمام، ثم ينكص قاعدًا، ويقدم رجلًا زحفًا، فيسلم بهم، ويقوم هو فيتمُّ. رقم (3688). (¬2) هذه نص رواية ابن منصور الكوسج في مسائله رقم (345). (¬3) في الأصل: فيقدم رجلًا، والتصويب من مسائل الكوسج. (¬4) طمس في الأصل بمقدار خمس كلمات.

نص عليه في رواية بكر بن محمد (¬1)، وهو قول الجماعة (¬2)، واختلف أهل الظاهر، فقال بعضهم: صلاته مجزئة، ولا إعادة عليهم، ومنهم من قال: يعيد. دليلنا: أن الأصل بقاء الصلاة في ذمته، فمن ادعى [براءته من] (¬3) الصلاة، فعليه الدليل، وأيضًا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر في حديث جابر - رضي الله عنه -: "لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا فاجر مؤمنًا" (¬4)، فنهي عن إمامة الفاجر، والنهي يدل على الفساد. واحتج المخالف: بأن أكثر ما فيه: أن صلاته لم تصح، وهذا ¬

_ (¬1) لم أقف عليها. (¬2) ينظر: مسائل أبي داود رقم (305)، ومسائل ابن هانئ رقم (295، و 312)، ومختصر الخرقي ص 56، والروايتين (1/ 185)، والمغني (3/ 32)، ومختصر ابن تميم (2/ 291)، والفروع (3/ 27)، والإنصاف (4/ 368)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 186). وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية. ينظر: بدائع الصنائع (1/ 668)، وتحفة الفقهاء (1/ 361)، والإشراف (1/ 297)، والقوانين الفقهية ص 55، والأم (2/ 330)، والحاوي (2/ 335 و 336). (¬3) في الأصل: براءتها الصلاة، ولعل الصواب ما أثبت. (¬4) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: في فرض الجمعة، رقم (1081)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، رقم (5570) وفيه عبد الله بن محمد العدوي، قال البيهقي: (منكر الحديث)، وضعّف الحديث ابنُ الملقن في البدر المنير (4/ 434)، وابن رجب في الفتح (4/ 190).

55 - مسألة: قليل النجاسة وكثيرها سواء في منع الصلاة معها سوى الدم، فإنه تجوز الصلاة بيسيره، فإن كثر وتفاحش، لم تجز

لا يمنع صحة الصلاة في حق المأموم؛ كالحدث. والجواب: أن فيه أكثر من هذا، وهو أنه فاسق، ولهذا نقول: إنّ الفاسق لا تصح إمامته (¬1)، والله أعلم. * * * 55 - مَسْألَة: قليل النجاسة وكثيرها سواء في منع الصلاة معها سوى الدم، فإنه تجوز الصلاة بيسيره، فإن كثر وتفاحش، لم تجز: نص على هذا في مواضع، فقال في رواية صالح (¬2): الدم في الثوب أسهلُ من البول، وقال في رواية عبد الله (¬3): إذا كان يصلي، فرأى في ثوبه بولًا؟ فقال: أما البول والغائط، فإنه يعيد من قليله وكثيره، وقال أيضًا في رواية جعفر بن محمد (¬4)، وحنبل (4): في الدم إذا فحش: أعاد، ولم يوقت فيه شيئًا، وبهذا قال مالك - رحمه الله - (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 172)، والانتصار (2/ 465). (¬2) في مسائله رقم (1329). (¬3) في مسائله رقم (295). (¬4) لم أقف عليها، وبنحوها جاء في مسائل عبد الله رقم (289)، ومسائل الكوسج (95)، ومسائل ابن هانئ رقم (36)، ومسائل أبي داود رقم (99 و 100) والروايتين (1/ 86 و 152)، والمغني (1/ 249)، وطبقات الحنابلة (1/ 208). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 20 و 34)، والمعونة (1/ 118).

وقال أبو حنيفة [رحمه الله] (¬1): تجوز الصلاة مع قدر الدرهم من سائر النجاسات (¬2). وقال الشافعي - رحمه الله -: لا تجوز الصلاة مع شيء منها إلا يسير دم البراغيث (¬3). واختلف أصحابه في كثيره (¬4)، وأما غير دم البراغيث، فقال في الإملاء (¬5): قليله وكثيره سواء، وقال في الأم (¬6) - وذكره المزني (¬7) -: يعفى عن قليله، وهو الذي يتعافاه، وقال في القديم: عما دون الكف، والقيح بمنزلة الدم (¬8). فالدلالة: على أنه لا يعفى عن غير الدم: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، فوجب بحق الظاهر تطهير هذا الثوب من هذا ¬

_ (¬1) ليست موجودة في الأصل. (¬2) ينظر: مختصر الطحاوي ص 31، ومختصر القدوري ص 60. (¬3) ينظر: الأم (2/ 118)، والبيان (2/ 91). (¬4) ينظر: نهاية المطلب (2/ 292). (¬5) ينظر: معرفة السنن والآثار (3/ 356)، والمهذب (1/ 205). والإملاء: (من كتب الشافعي الجديدة بلا خلاف)، قاله النووي في تهذيب الأسماء (3/ 320). (¬6) (2/ 118)، والحاوي (1/ 295). (¬7) في مختصره ص 31. (¬8) ينظر: نهاية المطلب (2/ 292)، وحلية العلماء (1/ 159)، وروضة الطالبين (1/ 280).

القدر من النجاسة. وأيضًا: روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأبي هريرة (¬1)، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب أهل القبر منه" (¬2)، ولم يقدره بمقدار، فهو على عمومه. فإن قيل: المقصود بالآية، والخبر: الأمرُ بالتجنب في الجملة، وليس المراد به المقدار. قيل: الأمر اقتضى التجنب فيما يسمى رجسًا، وبولًا، فهو عام في جميع ما يسمى بذلك، إلا ما خصه الدليل. والقياس: أنها نجاسة مقدورٌ على إزالتها؛ قياسًا على ما زاد على قدر الدرهم، ولا يلزم عليه يسيرُ الدم؛ لأنه يلحق المشقة في إزالته؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: أبو هريرة. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه، باب: نجاسة البول، والتنزه منه، رقم (459 و 464 و 466)، وقال عن حديث أنس - رضي الله عنه -: (والمحفوظ المرسل)، وهو قول أبي حاتم، وأبي زرعة الرازي، ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 147)، وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: فقال الألباني عنه: (وهذا سند رجاله ثقات غير محمد بن الصباح)، ينظر: إرواء الغليل (1/ 311)، وأما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، ففي إسناده أبو يحيى القتات، في حديثه ضعف، وحسّن إسناد الحديث ابن حجر في التلخيص (1/ 280)، وينظر: تهذيب الكمال (34/ 402)، قال ابن الملقن عن الحديث: (هذا الحديث صحيح، وله طرق كثيرات بألفاظ مختلفات، وفي المعنى متفقات). ينظر: البدر المنير (2/ 323).

لأنه يخرج من بدن الإنسان بالجمِّ (¬1) في البثْر (¬2)، والجَرَب (¬3)، والدُّمَّل (¬4)، وغير ذلك، ولا يلزم عليه أثرُ الاستحاضة؛ لأنه أيضًا يلحق المشقة في إزالته، ولأن ما لا يعفى عنه إذا زاد على قدر الدرهم، لا يعفى عنه إذا كان قدر الدرهم؛ قياسًا على الحدث، ولا يلزم عليه يسيرُ الدم؛ لأنه يعفى عما زاد على قدر الدرهم، فعفي عن قدر الدرهم، وذلك أن الرواية اختلفت عنه في يسير الدم، هل هو محدود؟ فقال في رواية الأثرم (¬5)، وخطّاب بن بشر (¬6): لا أحدّه (5)، فعلى هذا: ترجع فيه إلى ما يتعافاه ¬

_ (¬1) الجم، والجمم: الكثير من كل شيء. ينظر: لسان العرب (جمم). وقد يكون صواب اللفظ (بالحك)، لا كما في أصل المخطوط (بالجم)، يدل لذلك ما في ص 527. (¬2) البثر: خرّاج صغار، وخص بعضهم به الوجه. ينظر: اللسان (بثر). (¬3) قال ابن منظور: (الجرب: معروف، بثر يعلو أبدان الناس والإبل). ينظر: اللسان (جرب). (¬4) الدّمل: واحد دماميل: القروح، والدمل: الخراج، على التفاؤل بصلاحه واندماله. اللسان (دمل). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 86). (¬6) ابن مطر، أبو عمر البغدادي، له مسائل حسان عن الإمام أحمد - رحمه الله -، قال الخلال: (كان رجلًا صالحًا)، توفي سنة 264 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 406)، والمقصد الأرشد (1/ 374). تنبيه: في كتاب الروايتين (1/ 86) تصحف اسمه إلى (حطان بن بشير)، ولم أجد أحدًا من أصحاب الإمام أحمد يحمل هذا الاسم.

الناس، ولا يتقدَّر بدرهم. وروى عنه ابن منصور (¬1)، وأحمد بن علي (¬2)، وإسماعيل بن سعيد (¬3): حدَّه شبرًا في شبر، فعلى هذا لا يلزم؛ لأنه لما عُفي عما زاد على قدر الدرهم، عُفي عن قدر الدرهم. واحتج المخالف: بأنها نجاسة لا تزيد على قدر الدرهم، فوجب أن تكون معفوًا عنها، دليله: أثر الاستنجاء، وقليل الدم. والجواب عنه: ما تقدم من أن ذلك تلحق المشقة في إزالته. فإن قيل: أليس قد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي طالب (¬4): في الرجل يكون في المسجد، فيصيبه بول الخشَّاف (¬5)، فقال: أرجو ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (95) و (283). (¬2) ينظر: سنن الأثرم رقم (125)، الروايتين (1/ 86). وأحمد بن علي هو: إما ابن سعيد، أبو بكر، ولي قضاء حمص، وحدث فيها عن الإمام أحمد - رحمه الله -. أو ابن مسلم، أبو العباس النخشبي، المعروف بـ (الأبّار)، له مسائل عديدة عن الإمام أحمد - رحمه الله -، توفي سنة 290 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 126 و 127)، والمقصد الأرشد (1/ 142). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 86). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 151)، وطبقات الحنابلة (1/ 83). (¬5) هو: الخفاش، والخَشَفان: الجولان بالليل، ولأجله سُمِّي الخشاف به. ينظر: لسان العرب (خشف).

أن لا يضر، وإن كان كثيرًا، غسل. وقال أيضًا في رواية إبراهيم بن عبد الله بن مهران الدينوري (¬1): في لعاب الحمار والبغل: إن كان كثيرًا، لا يعجبني. وقال أيضًا في رواية الميموني (¬2): في القَلس إذا ملأ الفم. وقال أيضًا في رواية أبي طالب (¬3): في النبيذ إذا كان قليلًا: لم يعد. وقال أيضًا في رواية صالح (¬4): في المذي والودي إذا فحش: أعاد. وهذا كله يدل على العفو عن يسير النجاسة غير الدم، وإن لم تلحق المشقة في إزالتها. قيل له: قد نص في هذه المسائل على خلاف ذلك، وهو الصحيح عنه، فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬5) - وقد سئل عن بول الخشاف -، فقال: الذي أذهب إليه: أن كل ما أكل لحمُه، فلا بأس ببوله. وهذا يقتضي أنه لا يُعفى عن يسيره. وقال أيضًا ................................. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 152)، وطبقات الحنابلة (1/ 246). وإبراهيم: لا مزيد في اسمه على ما ذكر المؤلف، نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - بعض المسائل، لم أقف على تأريخ وفاته. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 246)، والمقصد الأرشد (1/ 225). (¬2) أي: أنه يعفى عن يسيره. ينظر: الروايتين (1/ 152). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 152). (¬4) في مسائله رقم (1329). (¬5) في مسائله رقم (141).

في رواية عبد الله (¬1): في لعاب الحمار وعرقه يصيب الثوب؟ أكرهه، وهو رجس، أو نجس. وقال أيضًا في رواية أبي داود (¬2): في القلس: هو مثل ما خرج من السبيلين. وقال في رواية حنبل (¬3): في قطرة مسكر: من أقامه مقام الخمر، أنزله هذه المسألة. وقال في رواية الحسن بن الحسين (¬4): في المذي يصيب الثوب: يُغسل، ليس في القلب منه شيء. وهذا كله يدل على أنه لا يعفى عن يسير شيء من ذلك؛ للمعنى الذي ذكرنا، وعلى أنه قد فرّق بين يسير هذه النجاسات، وبين البول، والعذرة، والخمر. فقيل: في بول الخشاف، هو في المساجد من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلولا أنه معفو عنه، لم يقرره فيه، وقيل: في لعاب الحمار، والبغل: هو مختلف في تنجيسه، فجاز العفو عن يسيره، وكذلك يسير النبيذ، وكذلك يسير المذي؛ لأنه جزء من مني، والمني طاهر. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (27). (¬2) في مسائله رقم (103). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 152). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 153)، وطبقات الحنابلة (1/ 352). والحسن، لا مزيد في اسمه على ما ذكره المؤلف، نقل عن الإمام أحمد أشياء، ولم أقف على تاريخ وفاته. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 352)، والمقصد الأرشد (1/ 320).

فصل

* فصل: والدلالة على أنه يعفى عن يسير الدم: ما روى الدارقطني بإسناده (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في دم الحبون (¬2) - يعني: الدماميل (¬3) -، وهذا نص. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. روى سليمان التيمي (¬4) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: إذا كان فاحشًا، أعاد، وإن كان قليلًا، فلا إعادة (¬5). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه عصر بثرة في وجهه، فخرج منها شيء ¬

_ (¬1) في سننه، باب: في الوضوء من الخارج من البدن، رقم (588) وقال: (هذا باطل عن ابن جريج، ولعل بقيّة - يعني: ابن الوليد - دلَّسه عن رجل ضعيف). (¬2) في الأصل: الحبوب، والتصويب من سنن الدارقطني. (¬3) ينظر: غريب الحديث للحربي (2/ 402). (¬4) سليمان بن طرخان التيمي، أبو المعتمر البصري، نزل في التيم، فنسب إليه، قال ابن حجر: (ثقة عابد)، توفي سنة 143 هـ. ينظر: التقريب ص 249. وهو يروي هذا الأثر عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 172 و 2/ 152)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما يجب غسله من الدم، رقم (4100)، واحتج به الإمام أحمد - رحمه الله - كما في مسائل صالح رقم (1004)، ومسائل عبد الله رقم (291).

من دم وقيح، فمسحه بيده، وصلى، ولم يتوضأ (¬1)، ورأى رجلًا يصلي يخرج من محاجمه شيء من دم وهو يصلي، فأخذ ابن عمر حصاة، فَسَلَتَ الدم من قفاه، ثم دفنها (¬2). وروى [عطاء بن] (¬3) السائب: أنه رأى عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهم -: أنه يتنخَّم دمًا عبيطًا وهو يصلي (¬4). ورُوي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنه سئل عن رجل صلَّى، فامتخط، فخرج مع مخاطه شيء من دم؟ قال: لا بأس بذلك، فليتم صلاته (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، رقم (1478)، والبخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، قال ابن حجر في الفتح (1/ 369): (إسناد صحيح). (¬2) أخرجه الأثرم في سننه، باب: الوضوء من الحجامة، رقم (114)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 172). (¬3) ليست في الأصل، والزيادة من مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. وعطاء مضت ترجمته. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، رقم (571)، وابن أبي شيبة في مصنفه، رقم (1343)، والبخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، وقال ابن حجر في الفتح (1/ 369): (الإسناد صحيح). (¬5) أخرجه الأثرم في سننه، في باب: الوضوء من الحجامة، رقم (112)، وفي سنده داود بن شبيب الباهلي، قال ابن حجر: (صدوق)، وحبيب بن حبيب الجرمي، قال ابن حجر: (صدوق يخطئ). ينظر: التقريب ص 130 =

وروى مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه لم يكن يرى بالقطرة والقطرتين من الدم بأسًا (¬1). وهذا إجماع منهم، ولأنه دم تلحق المشقة في إزالته، فعفي عنه. دليله: دم البراغيث، وقد بينا أنه لا يمكن الاحتراز منه من الوجه الذي ذكرنا، وهو الذي يخرج من بدن الإنسان بالحك، والدمل، والبثر، ونحو ذلك. واحتج المخالف: بما روى الدارقطني بإسناده (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم" (¬3). ¬

_ = و 186، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (1482) عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه -: أنه أدخل إصبعه في أنفه، فخرج عليها دم، فمسحه بالأرض أو بالتراب، ثم صلى. (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، رقم (1475)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 173)، وفي سنده شريك بن عبد الله النخعي. قال ابن حجر: (صدوق، يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء)، وعمران بن مسلم الثقفي قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 269 و 476. (¬2) في سننه، باب: قدر النجاسة التي تُبطل الصلاة، رقم (1494)، وأشار إلى الوهم الذي فيه. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما يجب غسله من الدم، رقم (4095)، وقال - أي: البيهقي - في المعرفة (3/ 356): (لم يثبت)، وقال ابن الملقن: (هذا الحديث ضعيف بمرة). ينظر: البدر المنير (4/ 139)، والتلخيص الحبير (2/ 800).

والجواب: أنا نحمله على طريق الاستحباب. واحتج: بما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماء في دم الحيض: "حُتِّيه، ثم اقْرُصيه، ثم اغسليه بالماء" (¬1). والجواب: أنه يحتمل أن يكون الدم الذي أصاب ثوبها كثيرًا، وعلى أنا نقول بظاهره في دم الحيض، وأنه يجب غسل يسيره. واحتج: بأن المشقة لا تلحق في إزالته، فهو كغيره من النجاسات. والجواب: أنا قد بينا أن المشقة تلحق، وأما دم الحيض، فالفرق بينه وبين سائر الدماء، أنه خارج من مخرج الحدث (¬2)، فتغلظه في نفسه، ألا ترى أن خروجه منها يوجب نقض (¬3) الطهر يسيره وكثيره عندنا، وعند مخالفنا ينقض (¬4) الطهر، ولو خرج من غير السبيلين، لم ينقض الطهر؟ على أنا لا نعرف الرواية عن أحمد - رحمه الله -: في الفرق بين دم الحيض، وبين غيره من الدماء، وقد نظرت في كلام أحمد - رحمه الله -، فما وجدت فرقًا، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: غسل الدم، رقم (227)، ومسلم في كتاب: الطهارة، باب: نجاسة الدم وكيفية غسله، رقم (291). (¬2) في الأصل: المحدث. (¬3) في الأصل: بعض، والمثبت هو الصواب. (¬4) في الأصل: ببعض.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّعْلِيقُ الكَبِيرُ فِي المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الأَئِمَةِ [2]

دَارُ النَّوادِر المؤسس والمالك نُورُ الدِّين طَالِبُ مؤسسة ثقافية علمية تُعنى بالتراث العربي والإسلامي والدراسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة بالعلوم الشرعية واللغوية والإنسانية تأسست في دمشق سنة 1422 هـ - 2002 م، وأُشهرت سنة 1426 هـ - 2006 م. سوريا - دمشق - الحلبوني: ص. ب: 34306 00963112227001 00963112227011 00963933093783 00963933093784 00963933093785 Skype: dar.alnawader Twitter: daralnawader.com Facebook: daralnawader.com YouTube: daralnawader.com Instagram: daralnawader.com LinkedIn: daralnawader.com E-mail: [email protected] website: www.daralnawader.com جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة يُمنع طبع هذا الكتاب أو أي جزء منه بكافة طرق الطبع والتصوير والنقل والترجمة والتسجيل المرئي أو المسموع أو استخدامه حاسوبيًا بكافة أنواع الاستخدام وغير ذلك من الحقوق الفكرية والمادية إلا بإذن خطي من المؤسسة. الطَّبْعَةُ الأُولَى 1435 هـ - 2014 م شركات شقيقة دار النوادر اللبنانية - لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 4462 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) دار النوادر الكويتية - الكويت - ص. ب: 1008 - هاتف: 22453232 - فاكس: 22453323 (00965) دار النوادر التونسية - تونس - ص. ب: 106 (أربانة) - هاتف: 70725547 - فاكس: 70725547 (00216)

56 - مسألة: دم السمك طاهر

تَابِع [كِتابِ الصَّلَاةِ] 56 - مَسْألَة: دم السمك (¬1) طاهر: نص عليه في رواية أحمد بن سعيد بن عبد الخالق (¬2) - وقد سئل عن دم الحيات، والأوزاغ يقع في الإناء -، فقال: يُصَبّ (¬3)، فقيل له: فدمُ السمك؟ قال: لا بأس به (¬4). وقال أيضًا في رواية إسحاق بن إبراهيم، وجعفر بن محمد: ليس دم السمك عبيطًا (¬5)، ............................... ¬

_ (¬1) في الأصل: النسك. (¬2) لم أجد روايته، ولم أقف له على خبر. (¬3) ينظر: مسائل ابن هانئ رقم (5 و 1759). (¬4) لم أقف على الرواية، وينظر: الجامع الصغير ص 31، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 176)، والمستوعب (1/ 315)، والمغني (2/ 485)، والكافي (1/ 187)، والمحرر (1/ 32)، ومختصر ابن تميم (1/ 67)، والفروع (1/ 339)، والإنصاف (2/ 323). (¬5) لم أقف عليها، وينظر: ما مضى في حاشية (3)، وقد جاء في مسائل =

وبهذا قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬1). وقال مالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رحمهما الله -: هو نجس. دليلنا: أنه جزء من السمك، فكان طاهرًا. دليله: اللحم، يبيّن صحة هذا: أن لحم الميتة ودمها سواء في التحريم، يجب أن يكون سواء في مسألتنا في الإباحة؛ ولأنه لو كان دمه نجسًا، لما جاز أكله، أو يسفح دمه؛ كالشاة، والبعير، والبقر، فلما اتفقوا على جواز أكله من غير سفح دمه، دل على أنه طاهر؛ ولأنه دمُ مأكول، فكان دمه طاهرًا؛ كالكبد، والطحال، والدلالة أنه يؤكل بدمه: أنه يشوى كما هو من غير سفح دمه. فإن قيل: ليس في السمك دمٌ حالَما يؤكل. قيل له: السمك له دم سائل، فإذا لم يسفح، بقي فيه بعد الموت؛ كما يبقى دم الشاة فيها، وهذا نعلمه مشاهدة، ألا ترى أن السمكة إذا شق جوفها بعد موتها، وجد فيها دم كثير، وإذا كان كذلك، واتفقوا على أنه ¬

_ = ابن هانئ رقم (171) السؤال عن الدم العبيط ما هو؟ فأجاب الإمام أحمد - رحمه الله - بقوله: الذي لا يخالطه شيء. (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 129)، والهداية (1/ 38). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 21)، وبداية المجتهد (1/ 120) وجعله أحد القولين للإمام مالك - رحمه الله -. (¬3) ينظر: الحاوي (1/ 323)، والبيان (1/ 421)، وهو أحد الوجهين عند الشافعية.

ليس من شرط إباحة السمك إخراجُ ما فيه من الدم، بل يجوز أن يشوى على جهته، ويؤكل، ثبت أن أكله بدمه مباح. فإن قيل: إنما شرط ذبح سائر الحيوانات؛ لأنه أسهل ما يمكن إماتته، فشُرِط ذلك؛ لئلا يؤدي إلى تعذيبه، لا أن سفح دمه مقصود لكونه نجسًا، ألا ترى أنه لا يجب سفحُ بوله وإخراجُ روثه، والأسهلُ في السمك موتُه من غير سفح؛ لأن دمه طاهر. قيل له: فذبحُ السمك أسهل في إماتته من تركه حتى يموت حتفَ أنفه؛ لأنا نعلم أن السمك يبقى بعد خروجه من الماء بعد (¬1) زمان كثير، ثم يموت، ولأنه لو كان موته أسهل في إماتته من ذبحه، لوجب أن لا يباح أكله؛ لأنه عدل عن الأسهل. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. والجواب: أنه محمول على غيره من الدماء. واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال" (¬2)، فدل على أن ما عدا هذين الدمين لا يحل. ¬

_ (¬1) موجودة في الأصل، ولعلها زائدة. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده رقم (5723)، وابن ماجه في كتاب: الأطعمة، باب: الكبد والطحال، رقم الحديث (3314)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، وجاء موقوفًا عن ابن عمر، وصحح الوقف أبو زرعة، قال البيهقي عن إسناد الموقوف: (هذا =

57 - مسألة: دم البق، والبراغيث طاهر في أصح الروايتين

والجواب: أنا نقول: ودم السمك أيضًا، بما ذكرنا، ولأنه لما أباح السمك على الإطلاق، كان عامًا في جملته، والدم من جملته. واحتج: بأنه دم سائل، فكان محرمًا، دليله: سائر الدماء، وفيه احتراز: من الكبد والطحال، ولأنه حيوان، فكان دمه نجسًا، دليله: سائر الحيوانات. والجواب: أن المعنى في تلك الدماء، محظور تناولُها، وليس كذلك في دم السمك؛ لأنه مباح بدلالة ما قدمنا، فصار كالكبد، والطحال، والله أعلم. * * * 57 - مَسْألَة: دم البق (¬1)، والبراغيث (¬2) طاهر في أصح الروايتين: نص عليه في رواية صالح (¬3) في دم البراغيث، فقال: لا بأس به، ¬

_ = إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، وقد رفعه أولاد زيد عن أبيهم)، ينظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 400)، وسنن البيهقي (1/ 384)، والبدر المنير (1/ 448). (¬1) هو: البعوض، والواحدة بعوضة. ينظر: الصحاح (بعض). (¬2) جمع برغوث، وهو دويبة شبه الحرقوص، لونه أسود، لا يمشي، بل يثب، وهو من الخلق الذي يعرض له الطيران، فيستحيل بقًّا. ينظر: الحيوان للجاحظ (5/ 373)، ولسان العرب (بُرْغث). (¬3) لم أقف على روايته، والمسألة بنصها ذكرها الكوسجُ في مسائله رقم (149)، =

ليس هو دمًا مسفوحًا (¬1). وهذا تعليل يدل على طهارته عنده، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬2). وقال في رواية أبي داود: في دم البراغيث، إذا كثر: لأفزع منه (¬3). وكذلك نقل جعفر بن محمد عنه: في دم البراغيث: إذا كان يسيرًا، فلا بأس (¬4). وسئل عن دم البعوض؟ فقال: كثير (¬5). وهذا يدل على نجاسته، لأنه توقف عن كثيره (¬6)، وبه قال الشافعي - رحمه الله - (¬7). ¬

_ = وينظر: المغني (2/ 484)، ومختصر ابن تميم (1/ 68)، والإنصاف (2/ 323). (¬1) في الأصل: دم مسفوح. (¬2) ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء (1/ 129)، وتحفة الفقهاء (1/ 96). (¬3) في مسائله رقم (287). (¬4) لم أقف على روايته، وينظر: المبدع (1/ 247). (¬5) في الأصل: كثيرًا. (¬6) ينظر: المحرر (1/ 32)، والمستوعب (1/ 330). وذهبت المالكية: إلى أنه إذا كثر، يجب غسله. ينظر: المدونة (1/ 21)، والمعونة (1/ 117 و 118). (¬7) ينظر: الحاوي (1/ 295)، والمهذب (1/ 205).

وجه الرواية الأولة: أنا قد بيّنّا - فيما تقدم -: أن موت هذه الأشياء في الماء لا يفسده (¬1)، فلو كان دمها نجسًا، لأفسده؛ كالشاة إذا ماتت في الماء، ولأنه دم غير سائل، فكان طاهرًا، دليله: الكبد، والطحال، ولا يلزمه عليه الدمُ الذي يخرج (¬2) على رأس الجرح، ولا يسيل: أنه نجس؛ لأنا نريد بقولنا: غير سائل: أنه مع وجود السبب الموجب لسيلانه لا يسيل، وهو قتل هذا الحيوان. واحتج المخالف بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. والجواب: أن المراد به: الدمُ السائل؛ بدليل قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فحرم منها ما كان مسفوحًا، ودم البق، والبراغيث غيرُ مسفوح؛ ولأن التحريم ورد على الوجه الذي كانوا يستبيحونه، وهم كانوا يفصدون البهيمة، ويشربون دمها، ولا يتكلفون ليسير (¬3) دم البق والبراغيث، فالتحريم ورد على ما كانوا عليه. ¬

_ (¬1) نسب ابن المنذر - رحمه الله - هذا القول إلى عوام أهل العلم. وقال أبو الخطاب - رحمه الله -: (لأن المسألة إجماع، فإن من لدن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى وقت الشافعي يقع الذباب والبق في الماء ... ولم ينقل عن أحد منهم أنه أراق ذلك، ورآه نجسًا). ينظر: الأوسط (1/ 282)، والانتصار (1/ 492)، والمغني (1/ 60)، والإقناع في مسائل الإجماع (1/ 76). (¬2) في هامش المخطوط مكتوب: يظهر، والمثبت هو المكتوب في الأصل. (¬3) في الأصل: يسيل.

58 - مسألة: بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر

واحتج: بأنه حيوان، فكان دمه نجسًا، دليله: سائر الدماء. والجواب: أن سائر الدماء مسفوحة غير مأكولة، وهذا غير مسفوح، فهو كدم الكبد، والطحال، ولا يلزم على علة الأصل: دم السمك؛ لأنه مأكول. * * * 58 - مَسْألَة: بول ما يؤكل لحمُه وروثُه طاهر: نص عليه في رواية عبد الله (¬1)، والمروذي (¬2)، وهو قول مالك (¬3)، وداود (¬4) - رحمهما الله -. وروى الأثرم عنه: في بول الإبل يصيب الثوب إذا كان كثيرًا فاحشًا: يعيد (¬5). وقال أيضًا في رواية صالح (¬6): يتنزه عن الأبوال كلها، فقيل له: أليس قد شرب قوم؟ فقال: ذاك عند الضرورة. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (38 و 41). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 155). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 21)، والكافي ص 18. (¬4) ينظر: المحلى (1/ 185). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 155). (¬6) في مسائله بنحوها رقم (1249)، والروايتين (1/ 155).

وظاهر هذا أنه نجس، وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬1). وقال أبو حنيفة: روثُ الحمام والعصافير طاهر، وبقية ما يؤكل لحمُه بولُه وروثُه نجس (¬2). دليلنا: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، وليس هذا بواحد من تلك. وأيضًا: ما روى شيخنا في كتابه (¬3) عن يحيى بن أبي كثير عن سوار بن مصعب (¬4)، عن أبي جهم (¬5)، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر المزني ص 31، والحاوي (2/ 249). (¬2) ينظر: مختصر الطحاوي ص 31، والمبسوط (1/ 171)، والهداية (1/ 37)، ونص على أنه إذا كثر، لم تصح الصلاة فيه، على تفصيل في الكثير عندهم. (¬3) ذكره ابن حامد - رحمه الله - بلا إسناد في كتابه تهذيب الأجوبة (2/ 656). (¬4) الهمداني الكوفي الضرير، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: متروك الحديث، توفي سنة بضع وسبعين ومئة. ينظر: الجرح والتعديل (4/ 271)، وميزان الاعتدال (2/ 246). (¬5) هو: سليمان بن الجهم بن أبي جهم الأنصاري الحارثي، أبو جهم الجوزجاني، مولى البراء، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 247. تنبيه: سقط من السند الذي ساقه المؤلف (مطرف بن طريف)، وهو الراوي عن أبي جهم، وهو: أبو بكر الحارثي، الكوفي، وثّقه الإمام أحمد - رحمه الله -، لا كما نقل المؤلف - رحمه الله - أنه متروك. ينظر: العلل ومعرفة الرجال (1/ 412)، والجرح والتعديل (8/ 313)، والتهذيب (4/ 90).

أنه قال: "ما أُكل لحمه، فلا بأس ببوله" (¬1). وروى محارِب بن دِثار (¬2) عن حذيفة بن اليمان، أو عن جابر - رضي الله عنهما - (¬3)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أُكل لحمه، فلا بأس ببوله" (¬4). فإن قيل: هذا خبر ضعيف؛ لأن سوار بن مصعب متروك الحديث، ومطرف متروك الحديث أيضًا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في كتاب: الطهارة، باب: نجاسة البول، والأمر بالتنزه منه، رقم (460 و 462)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: نجاسة الأبوال والأرواث، رقم (4147)، وقال: (لا يصح في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء)، وقال ابن حجر: (ضعيف جدًا). التلخيص (1/ 103). (¬2) في الأصل: زناد، والتصويب من سنن الدارقطني، والبيهقي. ومحارب هو: ابن دثار السدوسي، الكوفي، القاضي، قال ابن حجر: (ثقة إمام زاهد)، توفي سنة 116 هـ. ينظر: التقريب ص 580. (¬3) في سنن الدارقطني، والبيهقي عن جابر - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه الدارقطني في كتاب: الطهارة، باب: نجاسة البول، والأمر بالتنزه منه، رقم (461)، وقال: (عمرو بن الحصين ويحيى بن العلاء ضعيفان)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: نجاسة الأبوال والأرواث، رقم (4148) وقال: (لا يصح في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء)، وقال ابن حجر: (ضعيف جدًا). التلخيص (1/ 103). (¬5) مضى التنبيه على عدم ضعف مطرف - رحمه الله -، ولعله يقصد: عمرو بن الحصين العقيلي الوارد في سند حديث جابر - رضي الله عنه -، فهو متروك، كما ذكره ابن حجر في التقريب ص 461.

قيل له: هذا لا يكفي في رد الحديث حتى تبين وجه ضعفه، وترك حديثه. فإن قيل: فليس فيه دلالة على طهارته. قيل له: قوله: "فلا بأس" يدل على طهارته؛ لأن من قال: هو نجس، يقول: إذا صلى فيه، ففيه بأس، والخبر يمنع من ذلك. فإن قيل: نحمل هذا على حال الضرورة، أنه لا بأس بشربه، على عادة العرب في شرب أبوال الإبل. قيل له: لا بأس يعمُّ سائر الأحوال. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن مكحول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وعِنانُ فرسه في ذراعه، وعليه جبةٌ من صوف، فبال الفرس، فانتضحَ عليه من بوله، فلم ينصرف لذلك (¬1). فإن قيل: [لعله] أن لا يكون علم بذلك. قيل له: قوله: "فلم ينصرف لذلك" لا يقتضى إلا أن يكون علم بذلك، وإلا، لم يكن في نقله فائدة؛ لأن الراوي نقل الخبر وبيان الحكم، وأن ذلك البول لا يمنع الصلاة. وجواب آخر: وهو أنه لو كان عدم علمه، لبيَّنه الراوي؛ لأنه ذكر ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في المتفق والمفترق (3/ 1626) رقم (1105)، وفيه بقية بن الوليد، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، وقد عنعن، ومكحول قد أرسله. ينظر: التقريب ص 100.

احتجاجًا على طهارته، وروى زيد بن علي (¬1) عن أبان (¬2)، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم، وكل شيء يحل لك أكلُ لحمه، أصابه، أو أصاب الثوب" (¬3). ولأن المسألة إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن بكير بن الأشج (¬4) قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلون، وخُرُوءُ البعير في ثيابهم (¬5)، وهذا إشارة إلى جميعهم. وروى عاصم (¬6) ................................... ¬

_ (¬1) ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أبو الحسين المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، قتل سنة 122 هـ، ينظر: التقريب ص 213. (¬2) في الأصل: أبانه. وأبان هو: ابن عثمان بن عفان الأموي، أبو سعيد المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 105 هـ. ينظر: التقريب ص 56. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) هو: بكير بن عبد الله بن الأشج، مولى بني مخزوم، أبو عبد الله المدني، نزيل مصر، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 102. (¬5) لم أقف عليه، وقد ذكره الهاشمي في رؤوس المسائل (1/ 177)، وابن تيمية في شرح العمدة (1/ 113). والخُرْء: العذرة، والجمع خروء. ينظر: لسان العرب (خرأ). (¬6) ابن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي بعد سنة 140 هـ. ينظر: التقريب ص 294.

عن أبي عثمان (¬1) قال: كنا مع عبد الله إذ وقع عليه خُرْءُ عصفور، فقال بيده هكذا: فنفضه (¬2). وروى ابن كيسان (¬3) قال: خَرِئَت على ابن عمر - رضي الله عنهما - حمامة، فأخذ عصاة من الأرض، فمسح بها رأسه، وصلى (¬4). والقياس: أنه مائع ورد الشرع بإباحة شربه، فكان طاهرًا، دليله: اللبن. وقد دل على إباحة شربه: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - في أن ناسًا من عرينة (¬5) قدموا المدينة، فاجْتَوَوْها، فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في إبل الصدقة، فقال: "اشربوا من أبوالها وألبانها" (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: عاصم، وهو خطأ، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة. وأبو عثمان هو: عبد الرحمن بن ملّ، أبو عثمان النهدي، مخضرم، قال ابن حجر: (ثقة ثبت عابد)، توفي سنة 95 هـ. ينظر: التقريب ص 378. (¬2) أخرجه مالك في المدونة (1/ 6 و 7)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (1261)، وسنده صحيح. (¬3) طاوس، وقد مضت ترجمته. (¬4) لم أجده، ولعل كلمة: (عصاة) كما في الأصل، تصحيف من (حصاة). ينظر: المبسوط (1/ 171). (¬5) في الأصل: عرنة. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم، رقم (233)، ومسلم في كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين، رقم (1671). =

وإن شئت قلت: متحلِّل معتاد من حيوان يؤكل لحمه، فكان طاهرًا، دليله: اللبن، ولا يلزم عليه الدم لأنه غير معتاد تحلله، ولا يلزم عليه بول ما لا يؤكل لحمه؛ لقولنا: من حيوان يؤكل لحمه. فإن قيل: لبن المرأة طاهر، وبولها نجس. قيل: لأن الشرع سوى بين لبن الإبل وأبوالها، وفرق بينهما في المرأة؛ ولأنه بولٌ، فكان تابعًا للحم، دليله: بول الآدمي، وما لا يؤكل لحمه، لما كان اللحم محرمًا، ولما كان لحم ما يؤكل لحمه مباحًا، كان البول مباحًا، ولأنه رَجيعُ حيوان يؤكل لحمه، فكان طاهرًا، دليله: رجيع الحمام، والعصافير، وهذا يخص أبا حنيفة - رحمه الله -. فإن قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يغسل المسجد منه، وليس كذلك غيره من الرجيع؛ لأنه يغسل المسجد منه. الثاني: أن ذلك لا يستحيل إلى نتن وفساد، وهذا معدوم في غيرها من الأرواث. قيل: أما غسل المسجد من ذلك، فلا يجب، كما لا يجب في رجيع الحمام، والعصافير. وأما قوله: إن ذلك لا يستحيل إلى نتن، فغير صحيح؛ لأن ذَرق العصافير منتن، ألا ترى أن روائح أبراجها في غاية النتن؟ وعلى أن هذا ¬

_ = والجوى: كل داء يأخذ في الباطن لا يُسْتمرأُ معه الطعام، واجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه. ينظر: لسان العرب (جوا).

يبطل ببعر الشاة، والظباء؛ فإنه لا رائحة له، وقد قيل: بأن بعر الظباء يكون رائحته طيبة، ومع هذا، فإنه نجس عنده، فبطل هذا المعنى. وعند أبي حنيفة أيضًا: ما لا يجب غسله إذا كان قدر الدرهم، جاز أن لا يجب إذا زاد عليه؛ كالبصاق، ولا يلزم عليه الدم؛ لأنه يجوز أن لا يجب فيما زاد على قدر الدرهم إذا لم يكن فاحشًا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66]، فذكر أنه يخرج من بين نجسين - دم وفرث - لبنًا. والجواب: أن موضع الاعتبار لا يرجع إلى أنه أُخرج طاهر من بين نجسين، وإنما رجع إلى أنه أخرج لبنًا سائغًا من بين فرث متغير الرائحة، واللون، كريه المطعم، ودم يجري مجراه، وأنه ساغ شربه، غير ممتزج بشيء من ذلك، فيمنع شربه. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أكثرُ عذاب القبر من البول" (¬1). وروي: أنه مر بقبرين وهما يعذَّبان، فقال: "وما يعذَّبان بكبير؛ كان أحدُهما لا يستتر من البول" (¬2)، وهذا عام في سائر الأبوال. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 520). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، رقم (216)، ومسلم في كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول، رقم (292).

59 - مسألة: إذا أصاب أسفل الخف نجاسة، فمسحه بالأرض، وصلى، لم تجزئه في أصح الروايات

والجواب: أنه قد روي في بعض الألفاظ: "أنه كان لا يستنزه من بوله" (¬1)، فنص على بول الإنسان، وذلك نجس، وعلى أن الخبر محمول على ذلك؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأنه بول، فكان نجسًا، دليله: بول ما لا يؤكل لحمه، وكل ما خرج من الآدمي كان نجسًا، فإذا خرج من غيره، كالدم. والجواب: أن ما لا يؤكل لحمه لما حكم بتحريم لحمه، حكم بنجاسة بوله، وهذا لما حكم بإباحة لحمه، يجب أن يحكموا على إباحة بوله، وأما الدم، فهو أغلظ تحريمًا، ألا ترى أن دم الصبي الذي لم يطعم يجب غسله، ويرش على بوله؟ وكذلك دم العصافير والحمام نجس، وبولها وروثها طاهر، فبان الفرق بينهما. ولأن أبا حنيفة - رحمه الله - قد قال: في بول ما يؤكل لحمه: يصلى فيه ما لم يكن كثيرًا متفاحشًا (¬2)، ولم يقل مثل هذا في الدم، والله أعلم. * * * 59 - مَسْألَة: إذا أصاب أسفلَ الخفِّ نجاسةٌ، فمسحه بالأرض، وصلى، لم تجزئه في أصح الروايات: ¬

_ (¬1) ينظر: ما مضى في حاشية (2) في الصفحة السابقة. (¬2) ينظر: مختصر الطحاوي ص 31، والهداية (1/ 37).

نص عليه في رواية الفضل بن زياد (¬1): فيمن وطئ بنعله على فأرة، فتبين أثرها: عليه غسلُه، قيل له: فمسحه؟ قال: لا. وكذلك نقل عبد الله عنه (¬2): إذا كان السرجين رطبًا من بغل أو حمار، فيعجبني غسله. وظاهر هذا: أن حكمها لا يزول بالمسح، وروى عبد الله عنه: أنه سئل عن البول في النعل والخف هو بمنزلة الثوب (¬3)؟ فقال: أرجو أن يكون أخفَّ (¬4). فظاهر هذا: أنه يزول بالمسح. ونقل ابن منصور عنه (¬5): في الأرض يطهر بعضها بعضًا سوى البول والعذرة الرطبة. فظاهر هذا: أن البول، والعذرة لا يزول حكمها إلا بالغسل، ويزول حكم غيره من النجاسة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إن كانت النجاسة لها جِرْمٌ قائم؛ كالعذرة ونحوِها، وجفّت، فمسحه بالأرض وصلى فيه، أجزأه، وإن كانت رطبة، أو أصابه بول، .......................... ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 153). (¬2) في مسائله رقم (33)، وينظر: مسائل ابن هانئ رقم (131). (¬3) في الأصل: البول، وهو خطأ، والتصويب من مسائل عبد الله، والروايتين (1/ 153). (¬4) في مسائله رقم (296). (¬5) في مسائله رقم (52)، وينظر: مسائل عبد الله رقم (36)، والروايتين (1/ 154).

لم يجزئه إلا الغسل (¬1). وللشافعي - رحمه الله - قولان: أحدهما هو القديم: تجوز الصلاة فيه، والثاني: وهو القول الجديد: لا تجوز الصلاة فيه (¬2). فالدلالة على أنه لا يجوز الصلاة فيه قبل الغسل: هو ملبوس نجس، فلم تجز الصلاة فيه إلا بعد الغسل، دليله: الثوب. وإن شئت قلت: فلم يقم مسحه مقام غسله، ، دليله: الثوب. ولأنه لو لم تصبه إلا الرطوبة، لم يجزئه إلا الغسل، كذلك إذا كان معها جِرْم؛ كما لو كانت النجاسة رطبة، لم يجزئه إلا الغسل، كذلك إذا جفت، كما لو لم يكن لها جُرم، وكما لو أصابت الثوب. واحتج المخالف: بما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وطئ أحدُكم الأذى بنعليه، فإن طهورهما التراب" (¬3). وروى أبو عبد الله بن بطة في سننه عن عائشة - رضي الله ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 130)، والهداية (1/ 36). (¬2) ينظر: المهذب (1/ 173)، والبيان (1/ 448). وذهبت المالكية: إلى أنه لا يصلي فيه حتى يغسله. ينظر: المدونة (1/ 19)، والمعونة (1/ 121). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الأذى يصيب النعل، رقم (386)، وابن خزيمة في صحيحه، جماع أبواب تطهير الثياب، باب: ذكر وطء الأذى اليابس بالخف والنعل، رقم (292)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: طهارة الخف والنعل، رقم (4246)، قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 107): =

عنها - قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطأ بنعليه الخَبَث، ثم يصلي فيهما؟ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الترابُ لها طَهور" (¬1)، والخبث إذا أطلق، انصرف إلى النجاسة. والجواب: أن الأذى ها هنا محمول على ما يُستقذر من الأشياء؛ كالمخاط، والبزاق، والطين، وقد يسمى ذلك طهارة؛ لأن الطهارة في اللغة: النظافة، والنزاهة من الأشياء. واحتج: بأن أسفل الخف محل يتكرر ملاقاته للنجاسة، فزال حكمه بالمسح، دليله: السبيل. والجواب: أنا لا نسلم أنه يتكرر ملاقاته للنجاسة؛ لأن عامة الأرض طاهرة، ولهذا نقول: ما يلحق ثوبه من طين أو بلل، يُحكم بطهارته، وإنما المواضع النجسة منها قليلة يمكن الاحترازُ منها، بل الأصل المقيس عليه يتكرر ملاقاته للنجاسة في اليوم والليلة، فجاز أن يخفف فيه، فيقوم المسح مقام الغسل. واحتج: بأنه حكم لو تعلق بالرِّجل، كان فرضه الغسل، فإذا تعلق بالخف، جاز المسح فيه، كالطهارة عن الحدث. ¬

_ = (حديث مضطرب الإسناد لا يثبت)، وينظر: علل الدارقطني (8/ 159). (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الأذى يصيب النعل، رقم (387)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: طهارة الخف والنعل، رقم (4248)، قال الدارقطني: (ومدار الحديث على ابن سمعان، وهو ضعيف). ينظر: العلل (14/ 338).

والجواب: أن الطهارة عن الحدث أوسع، ألا ترى أنها لو عمت سائر البدن، غسلَ أربعةَ أعضاء، ويقدِّم غسلَ النجاسة عليها عند عدم الماء، وليس لها بدل، والطهارة عن الحدث لها بدل. واحتج: بأن جِرْم الخفِّ مستحصفٌ كثيف، وجِرم النجاسة متحلل سخيف، فإذا جفت، نشفت الرطوبة التي فيها إلى نفسها فهي أزيلت، فالحك والمسح زال الجرم (¬1)، والرطوبة التي حصلت فيه، ولم يبق في الخف من أجزاء النجاسة إلا شيء يسير مثلها لو انفرد، لم يمنع جواز الصلاة، ولا يلزم عليه إذا كانت رطبة؛ لأن الجرم إذا أزيل بالحك والمسح، يثبت الرطوبة التي كانت معه تلاقيه لتجف، كأنه لم يصبه غيرها، ولا يلزم عليه البول؛ لأنه ليس له جرم ينشف الرطوبة إلى نفسه، فإذا مسحه بالأرض، علمنا أن أجزاء النجاسة باقية في الخف كما كانت، ولا يزيل تلك الأجزاء إلا الغسل، ولا يلزم عليه الثوبُ إذا أصابته نجاسة، فجفت أو لم تجف، كان لها جِرمٌ أو لم يكن، لا يجزئه إلا الغسل؛ لأن الثوب متحللٌ يتداخله [أجزاء] (¬2) النجاسة، فلا يزيله الحك. والجواب: أن في حال الملاقاة قد نجس الخف، وجفاف النجاسة لا يجذب تلك الرطوبة التي لاقت الخف؛ بدليل: أنه لو وقع ذلك الخف بعد مسحه في ماء يسير، أو مسحه بخرقة رطبة، نَجَّس الثوبَ والماء، فلو كان جفافُ النجاسة قد جذب الرطوبة إلى نفسه، لوجب أن يحكم بطهارة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد تكون: فبالحك والمسح ... (¬2) في الأصل: آخر، والصواب المثبت.

60 - مسألة: يرش على بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، والرش: أن يكاثر بالماء حتى يغمره، وإن لم يتقاطر الماء منه

المحل، ولما لم يحكم بذلك، دل على بطلان هذا، والله أعلم. * * * 60 - مَسْألَة: يُرَشُّ على بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، والرشُّ: أن يُكاثَر بالماء حتى يغمُرَه، وإن لم يتقاطر الماء منه: نص على هذا في رواية صالح (¬1)، وأبي طالب (¬2)، وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4)، ومالك (¬5) - رحمهما الله -: بول الغلام والجارية سواء يجب غسلُهما. دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬6) قال: نا عبد الصمد بن عبد الوارث (¬7) قال: .................................... ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (75). (¬2) لم أقف على رواية أبي طالب، وقد نقل الرواية كذلك: أبو داود في مسائله رقم (151)، والكوسج في مسائله رقم (37)، وينظر: المغني (2/ 495). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 248)، والمهذب (1/ 170). (¬4) ينظر: الآثار (1/ 53)، ومختصر الطحاوي ص 31. (¬5) ينظر: المدونة (1/ 24)، والإشراف (1/ 282). (¬6) رقم (563). (¬7) ابن سعيد العنبري مولاهم، التنّوري، أبو سهل البصري، قال ابن =

نا هشام (¬1) عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود (¬2)، عن أبيه (¬3)، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بولُ الغلام يُنْضَح، وبولُ الجارية يُغْسَل" (¬4). قال قتادة: هذا إذا لم يَطْعَما (¬5) الطعام، ......................... ¬

_ = حجر: (صدوق ثبت في شعبة)، توفي سنة 207 هـ. ينظر: التقريب ص 385. (¬1) ابن أبي عبد الله: سنبر الدستوائي، أبو بكر البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 154 هـ. ينظر: التقريب ص 640. (¬2) الديلي البصري، قيل: اسمه: محجن، وقيل: عطاء، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 108 هـ. ينظر: التقريب ص 698. (¬3) هو: أبو الأسود الديلي، ويقال: الدُّؤلي، البصري، واسمه: ظالم بن عمرو بن سفيان، قال ابن حجر: (ثقة فاضل)، توفي سنة 69 هـ. ينظر: التقريب ص 690. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، رقم (377)، والترمذي في كتاب: الجمعة، باب: ما ذكر في: نضح بول الغلام الرضيع، رقم (610) وقال: (حديث حسن صحيح. رفع هشام الدستوائي هذا الحديث عن قتادة، وأوقفه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ولم يرفعه)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، رقم (525)، قال ابن حجر: (وإسناده صحيح. ورواه سعيد عن قتادة فوقفه، وليس ذلك بعلة قادحة). ينظر: فتح الباري (1/ 425)، والتلخيص (1/ 88). (¬5) في الأصل: يطعمها، والتصويب من المسند.

فإذا طَعِما، غسل بولهما (¬1). وروى أبو داود بإسناده (¬2) عن أم قيس بنت محصن - رضي الله عنها -، - حديث أم قيس في الصحيحين - (¬3): أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حِجْره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. وروى أبو داود بإسناده (¬4) عن لُبابة (¬5) بنتِ الحارث قالت: كان الحسين بن علي - رضي الله عنهما - في حِجْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال عليه، فقلت: البس ثوبًا، وأعطِني إزارك حتى أغسله لك، قال: "إنما يُغسل من بول الأنثى، ويُنضح من بول الذكر" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده بعد الحديث. (¬2) في سننه، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، رقم (374). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: بول الصبيان، رقم (223)، ومسلم في كتاب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل الرضيع، رقم (287). (¬4) في سننه، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، رقم (375). (¬5) في الأصل: ابانة، والتصويب من سنن أبي داود. (¬6) أخرجه الإمام أحمد في المسند، رقم (26875)، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، رقم (522)، وابن خزيمة في صحيحه، جماع أبواب تطهير الثياب، باب: غسل بول الصبية، رقم (282)، قال البوصيري: (هو صحيح إن سلم من الانقطاع، قال المزي في التهذيب والأطراف: [روى قابوس عن أبيه عن أم الفضل]). ينظر: مصباح الزجاجة (2/ 280)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

وروى أبو داود بإسناده (¬1) عن أبي السمح - رضي الله عنه - قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل، قال: "ولِّني"، فأُولِّيه قَفاي، فأستره به، فأُتي بحسن أو حسين - رضي الله عنهما -، فبال على صدره، فجئت أغسلُه، فقال: "يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام" (¬2). فإن قيل: غاير بين اللفظين، وأراد بهما جميعًا معنى واحدًا، وهو الغسل، وهذا شائع في الكلام، ألا ترى إلى قول الشاعر (¬3): . . . . . . . . . . . . . ... فألفَى قَوْلَها كَذِبًا ومَيْنَا ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، رقم (376). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب: الطهارة، باب: بول الجارية، رقم (304)، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، رقم (526)، والدارقطني باب: الحكم في بول الصبي والصبية ما لم يأكلا الطعام، رقم (470)، ونقل النووي، وابن الملقن، وابن حجر: قول البخاري: (حديث أبي السمح هذا حديث حسن). ينظر: المجموع (2/ 420)، والبدر المنير (1/ 532)، والتلخيص (1/ 87). (¬3) هو: عدي بن زيد بن حماد التميمي النصراني، شاعر جاهلي، من فحول الشعراء، كان يسكن بالحيرة، وصدر البيت: وقدَّمتِ الأَديمَ لِراهِشِيه وقيل: وقدَّدت الأديمَ لراهشيه ينظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 130، وسير أعلام النبلاء (5/ 110).

فغاير بين اللفظين، ومعناهما واحد (¬1)، ومنه يقال: بعير ناضح: إذا كان يسقي الماء ويصبه (¬2). قيل له: هذا لا يصح؛ لأن في خبر أم قيس: فنضحه، ولم يغسله، فنفت الغسل. وفي خبر لبابةَ (¬3) بنتِ الحارث: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر"، ففرق بين الذكر والأنثى في الصفة، وكذلك في حديث أبي السمح: "يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام"، وفي حديث علي - رضي الله عنه -: "يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام"، وهذا كله يقتضي الفرق. ولأن كل ما لم يجب غسله إذا كان قدر الدرهم، جاز أن لا يجب ما زاد عليه، دليله: البزاق، ولا يلزم عليه الدم؛ لأنه قد يجوز أن لا يجب في الزيادة غسل إذا لم يفحش. ولأن الأبوال على ضربين: بول آدمي، وبول بهيمة، ثم ثبت أن من أبوال البهائم ما ينفرد بشيء يزول به حكمه من بين جنسه، وهو بول الكلب، والخنزير بزوال حكمهما بالغسل سبعًا، وغيرها لا اعتبار بالعدد فيه عندهم، وكذلك أبوال الآدميين، وليس إلا في مسألتنا، والعلة فيه: أنه أحد نوعي الأبوال. ¬

_ (¬1) ينظر: لسان العرب (ميْن). (¬2) ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 31). (¬3) في الأصل: ابانه.

واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يُغسل من الدم والبول والمني" (¬1). والجواب: أن هذا محمول على غير مسألتنا؛ بما ذكرنا. واحتج: بأنه يجب غسلُه بعد أن يأكل، فيجب غسله قبل أن يأكل، دليله: بول الجارية؛ ولأنه بول نجس، فلا يطهر بالرش؛ قياسًا على بول الجارية. والجواب: أن هذا قياس يعارض النص، فلا يجب قبوله، وعلى أنه لا يمتنع أن يتفق بولُه، وبولُ الصبيةِ، والكبيرِ في النجاسة، ويختلفان (¬2) في باب الإزالة؛ كالمني والبول يتفقان في النجاسة عنده، ويختلفان في الإزالة؛ لأن المني إذا كان يابسًا، يجزئه الفرك، والبول لا يجزئه إلا الغسل، وكذلك النجاسة التي لها جِرْم قائم، فإذا جفت في أسفل الخف، يجزئها الجفاف والمسح، والبول لا يجزئه إلا الغسل، كذلك ها هنا، ووجدت بخط أبي بكر الكبشي من أصحابنا (¬3) قال: وسألته - ويغلب ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني بنحوه، باب: نجاسة البول، والأمر بالتنزه منه من حديث عمار - رضي الله عنه -، رقم (458) وقال: (لم يروه غير ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدًا)، قال ابن الملقن: (هذا الحديث باطل، لا يحل الاحتجاج به). ينظر: البدر المنير (1/ 493). (¬2) كذا في الأصل، ولعل الأصوب: يختلفا. (¬3) هو: أحمد بن عثمان بن علّان بن الحسن الكبشي، يعرف بـ (ابن شَكَاثَا)، أبو بكر الحنبلي، صحب ابن شاقلا، وابن بطة، وغيرهما. ينظر: =

على ظني: أنه يعني بالسؤال: أبا إسحاق بن شاقلا؛ لأنه قدَّم قبل هذا الكلام سؤالًا (¬1) في مسألة ذكر فيها أبا إسحاق: ما يقول في رجل صلى في ثوب بال عليه صبي لم يطعم، ولم يرش عليه ماء؟ قال: يعيد الصلاة، وإن كان طاهرًا، كما روي عن أبي عبد الله: إذا صلى في ثوب فيه مني، ولم يغسله، ولم يفركه، يعيد، وإن كان طاهرًا (¬2). وظاهر هذا القول: أن بول الصبي طاهر، وهذا بعيد؛ لأن أحمد - رحمه الله - قال (¬3) في رواية أبي داود: في قطيفة صبي وقعت في بئر، قال: إذا كان يبول فيها، فإنها تُنزح (¬4). وهذا ظاهر في تنجسه، ولم يفرق بين أن [يكون] قد طعم، أم لم يطعم؛ ولأنه لو كان طاهرًا، لم يحتج إلى الرش؛ كالمخاط، والبصاق، يابسًا (¬5) أجزأ فيه الفرك. * * * ¬

_ = طبقات الحنابلة (3/ 301)، والمقصد الأرشد (1/ 141). (¬1) في الأصل: سؤال. (¬2) ينظر: المغني (2/ 495)، وشرح الزركشي (2/ 42)، والإنصاف (2/ 310). (¬3) كررت في الأصل مرتين. (¬4) في مسائله رقم (6). (¬5) كذا في الأصل، ولعل الكلام يستقيم: إذا كان يابسًا.

61 - مسألة: إذا جبر بعظم نجس، فانجبر، ونبت عليه اللحم، لم يخرج منه

61 - مَسْألَة: إذا جبر بعظم نجس، فانجبر، ونبت عليه اللحم، لم يخرج منه: قياس المذهب (¬1)؛ لأن أحمد - رحمه الله - قد قال: إذا كان يستضر باستعمال الماء خوفَ الزيادة في المرض والتباطُؤ في البرء، جاز التيمم (¬2)، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬3). قال أبو بكر في كتاب: الصلاة من "الشافي": يُجبر على إخراجه منه ما لم يخف التلفَ (¬4)، وقد أومأ أحمد في رواية ابن إبراهيم: إذا وقع ضرسه، فأعاده، ثم انقلع، يعيد الصلاة (¬5). فلولا أنه كان يلزمه قلعه، لم يأمره بالإعادة. وقال الشافعي - رحمه الله -: إن لم يخش من قلعه التلف، لزمه قلعُه، فإن امتنع منه، أجبره السلطان عليه، فإن مات قبل، لم يجب قلعه؛ لأن جميعه صار ميتًا، والله حسيبهُ فيما صلى من الصلوات مع النجاسة، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: على قياس المذهب. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 92)، والتمام (1/ 218)، والفروع (2/ 103). (¬3) ينظر: التجريد (2/ 752)، ورؤوس المسائل للزمخشري ص 171. وهو قول المالكية. ينظر: الإشراف (1/ 284)، والذخيرة (1/ 454). (¬4) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 178)، والتمام (1/ 218). (¬5) في مسائله رقم (272)، وينظر: الروايتين (1/ 202)، وبنحوها نقل المروذي. ينظر: الروايتين (1/ 202).

وإن خيف من قلعه التلف، فقد اختلف أصحابه، فمنهم قال: لا يقلع؛ لأن حكم النجاسة سقط لأجل الضرورة، كما نقول في دم الاستحاضة، وسلسِ البول، ودمِ البراغيث، ومنهم من قال: يُقلع، وإن مات، فالحق قتله؛ كمن (¬1) يشرب الخمر، فيقام عليه الحد، فإن مات، فالحق قتله (¬2). دليلنا: أنه يستضر بقلعه، فلم يلزمه؛ كما لو خاف التلف، ولهم على هذا الأصل كلام مذكور في مسألة الطهارة: إذا خاف الزيادة في المرض، هل يجوز له التيمم؟ ولأن النجاسة إذا كانت في باطن البدن، فإنه لا يجب إخراجها، أصله: الدم في العروق. فإن قيل: العروق لا تنقل (¬3) عن الدم، فيسقط حكمه، ولا يجب إخراجه منها للضرورة. وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لا ضرورة به إلى ترك العظم النجس في بدنه. قيل له: إذا انجبر ساقه، ونبت عليه اللحم، كان ضرورة إلى تركه؛ لأن في إخراجه ضررًا، أو في خوف التلف، ولأنها نجاسة حصلت في باطن بدنه، فلا يجب إخراجها، أصله: إذا شرب خمرًا، أو أكل ميتة؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: كما. (¬2) ينظر: المهذب (1/ 206)، وحلية العلماء (1/ 160)، والمجموع (3/ 102). (¬3) هكذا في الأصل.

لأنه لا يجب عليه أن يستقيء حتى تخرج النجاسة. فإن قيل: من أصحابنا من قال: يلزمه أن يستقيء، كما رُوي عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أنه شرب لبنًا، فقيل له: من نَعَم الصدقة، فاستقاء (¬1). قيل: هذا قول لم يقل به أحد من الأئمة، وما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - لا يدل على أنه كان يراه واجبًا. فإن قيل: المعدة معدن النجاسات، وإذا حصلت فيها، لم يجب إخراجها، وليس كذلك سائر البدن. قيل له: المعدة ليست معدنا لإيصال النجاسات إليها؛ لاتفاقهم على أنه لا يجوز شرب الخمر، ولا أكل الميتة، وإنما يوصل إليها الأشياء الطاهرة، ثم تتغير فيها، وتستحيل نجاسة، ومع هذا، إذا حصلت فيها نجاسة من خارج، لم يجب إخراجها، كذلك في مسألتنا. فإن قيل: إذا جاز أن يتغير الشيء فيها، فيستحيل نجاسة، ولا يجب إخراجها، جاز أن يحصل فيها نجاسة من خارج، ولا يجب إخراجها، ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور بإسناده، كما ذكر إسناده الحافظ ابن حجر في التلخيص (5/ 2140) عن ابن المنكدر: أن أبا بكر - رضي الله عنه - ... (ولم أجده في سنن سعيد المطبوع)، وابن المنكدر لم يدرك أبا بكر، وأخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 35) بإسناده عن زيد بن أسلم: أن أبا بكر - رضي الله عنه -، مرسلًا، وقد صح الأثر عن عمر - رضي الله عنه - كما قاله ابن الملقن في البدر المنير (7/ 396)، وأثر عمر - رضي الله عنه - رواه مالك في الموطأ في كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها، رقم (924).

ليس كذلك ما تنازعنا فيه. قيل له: فرق بينهما؛ لأنه قد توجد النجاسة في الموضع الذي يحصل فيه العظم النجس، فلا يجب إخراجها؛ كالدم ونحوه، فيجب لهذا المعنى إذا حصلت فيه نجاسة من خارج أن لا يجب إخراجها. وأيضًا: لو خاط جرحه بخيط غصب، وكان يستضر بقلعه، لم يُجبر على ذلك، كذلك إذا جبره (¬1) بنجس. فإن قيل: الخيط له بدل يرجع إليه، وهو القيمة، وهذه النجاسة لا بدل لها ينتقل لها. قيل له: دم الاستحاضة لا بدل له، ويعيد، وعلى أنه لا يمتنع أن نقول: يتيمم، كذلك لغيره من النجاسات، وعلى أنه لو غصب ساجة (¬2)، وبنى عليها، أُجبر على إزالتها، وإن كان لها بدل. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، والعظم نجس رجز، فوجب هجرانه. والجواب: أن هذا مخصوص؛ بدلالة ما قدمنا. واحتج: بأنه أوصل النجاسة إلى موضع لا يحيلها، فوجب أن يلزمه قلعها عند عدم الضرورة؛ قياسًا على ما ذكرنا. والجواب: أن المعنى في الأصل: أن النجاسة لم تحصل في باطن ¬

_ (¬1) في الأصل: خبره. (¬2) الساج: خشب يجلب من الهند، واحدته ساجة. ينظر: لسان العرب (سوج).

62 - مسألة: مني الآدميين طاهر في أصح الروايتين

البدن، وإنما حصلت في ظاهره، والنجاسة إذا كانت في ظاهر البدن، فإنه يجب إزالتها، وإذا كانت في باطنه، لم يجب؛ بدلالة سائر النجاسات، والله أعلم. * * * 62 - مَسْألَة: منيُّ الآدميين طاهر في أصح الروايتين: نص عليها في رواية خطاب بن بشر (¬1)، فقال: يفركه، أو يغسله. ولو كان نجسًا، ما كان الفرك يطهره، وبه قال الشافعي - رحمه الله - (¬2)، وداود (¬3). وفيه رواية أخرى: أنه نجس (¬4)، فإن كان رطبًا، غُسل، وإن كان يابسًا، فُرك، نص على هذا في رواية عبد الله (¬5): إن كان فاحشًا، أعاد، وإن فرك الثوب، أجزأت صلاته. وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد عنه (¬6): أنه إن كان فاحشًا رطبًا، أو يابسًا، أعاد الصلاة، وإن مسحه وهو رطب، لم يعد الصلاة. فقد نص على نجاسته، وفرّق بين يسيره وكثيره؛ كالدم، ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 155)، والانتصار (1/ 543). (¬2) ينظر: الأم (2/ 119)، والبيان (1/ 419). (¬3) ينظر: المحلى (1/ 158). (¬4) ينظر: الانتصار (1/ 543)، والمغني (2/ 497). (¬5) في مسائله رقم (56 و 293). (¬6) ينظر: الروايتين (1/ 156).

وأجاز فركه، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬1). وقال مالك - رحمه الله -: هو نجس، إلا أنه لا بد من غسله، رطبًا كان أو يابسًا (¬2). وجه الرواية الأولة في طهارته: ما روى أبو بكر النجاد في كتاب: الطهارة، بإسناده عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب؟ قال: "إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إِذْخِرَة" (¬3)، فمن هذا الخبر دليلان: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَمِطْه بإِذخره"، وهذا صفة المني الرطب؛ لأن اليابس لا تصح إماطته، وعندهم: يجب غسله إذا كان رطبًا. والثاني: شبهه بالمخاط، والبصاق، وذلك يقتضي طهارته. فإن قيل: الصحيح من هذا الخبر: أنه موقوف على ابن عباس - رضي الله عنهما -، هكذا قال أحمد - رحمه الله - في رواية صالح (¬4)، وحنبل، ورُوي عن ابن ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر الطحاوي ص 31، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 133). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 21)، والمعونة (1/ 120). (¬3) أخرجه الدارقطني، باب: ما ورد في طهارة المني، رقم (447)، وأشار إلى وقفه على ابن عباس، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: المني يصيب الثوب، رقم (4176)، وبيّن أن المرفوع لا يصح، وأنه صحيح من قول ابن عباس - رضي الله عنهما - كما ذكر المؤلف، قال ابن تيمية: (هذه الفتيا ... ثابتة عن ابن عباس ... وأما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنكر باطل لا أصل له). ينظر: الفتاوى (21/ 590). (¬4) في مسائله رقم (1030).

عباس - رضي الله عنهما -: أنه سَهَّلَ فيه. قيل له: قد رواه أبو بكر النجاد مسندًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروى عن إبراهيم الحربي عن سعيد بن يحيى بن أزهر (¬1) قال: نا إسحاق بن يوسف (¬2) قال: نا شريك (¬3)، ومحمد بن عبد الرحمن (¬4) عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث، وإذا ثبت مسندًا أو موقوفًا، كان أثبتَ له؛ لأن الصحابي إذا كان عنده توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أفتى به، فينقل عنه مرة موقوفًا، ومرة مسندًا. فإن قيل: قال أبو بكر الرازي (¬5): سمعت عبد الباقي بن قانع (¬6) يقول: ¬

_ (¬1) ابن نجيح الواسطي، أبو عثمان، ينسب إلى جده، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 243 هـ. ينظر: التقريب ص 236. (¬2) ابن مرداس المخزومي الواسطي، المعروف بـ (الأزرق)، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 195 هـ. ينظر: التقريب ص 75. (¬3) ابن عبد الله النخعي، مضت ترجمته. (¬4) ابن أبي ليلى الأنصاري، الكوفي، القاضي، أبو عبد الرحمن، قال ابن حجر: (صدوق سيئ الحفظ جدًا)، توفي سنة 148 هـ. ينظر: التقريب ص 549. (¬5) هو الجصاص، مضت ترجمته. (¬6) ابن مرزوق الأموي مولاهم، أبو الحسين الحافظ، قال الدارقطني: (كان يحفظ، لكنه يخطئ ويصر)، قال الخطيب البغدادي: (قد كان عبد الباقي من أهل العلم والدراية والفهم، ورأيت عامة شيوخنا يوثقونه)، توفي سنة 351 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (11/ 88)، والميزان (2/ 532).

هذا حديث يرويه سريع الخادم (¬1) عن إسحاق الأزرق عن شريك، وسريعٌ (¬2) ليس بشيء. قيل له: قول عبد الباقي: إن سريعًا (¬3) ليس بشيء، لا يقدح في روايته، على أنا قد بينا إسناده عن إبراهيم الحربي عن سعيد بن يحيى بن أزهر، عن إسحاق، عن شريك، وليس فيه سريع، وكذلك رواه الدارقطني بهذا الإسناد. فإن قيل: قوله: "أمطه" يقتضي الإماطة، وإذا وجبت الإماطة، ثبتت نجاسته؛ لأن حكمه بطهارته لا يوجبها. قيل له: لما أمر بإماطته بالإذخر، دل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب؛ لأن أحدًا لا يوجب إماطته بالإذخرة. فإن قيل: تشبيهه بالمخاط لا دلالة فيه؛ لأنه لم يقل: كمخاط (¬4) في الطهارة. قيل له: تشبيهه عامٌّ في الطهارة وفي غيرها، ولأنه لا يخلو إما أن ¬

_ (¬1) في الأصل: شريع، والتصويب من سنن البيهقي. وسريع هو: ابن عبد الله الواسطي، الجمّال، شيخ للنسائي، قال الذهبي عنه: (صدوق)، ينظر: الميزان (2/ 117)، وتنقيح التحقيق (1/ 136). (¬2) في الأصل: شريك، وهو خطأ؛ بدلالة ما بعده، وينظر: الانتصار (2/ 544)، والتحقيق (1/ 161). (¬3) في الأصل: شريع. (¬4) في الأصل: لمخاط.

يريد تشبيهه في طهارته، أو في صفته، ولا يجوز أن يكون المراد به في الصفة؛ لأن ذلك مدرَك بالحس والمشاهدة، فعلم أنه أراد تشبيهه في الطهارة التي تخفى. وأيضًا: ما روى ميمون بن مهران (¬1) عن (سليمان بن يسار) (¬2)، عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: كنت أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فيه (¬3)، وهذا حديث صحيح، ولو كان نجسًا، لم تنعقد صلاتُه بفركه. فإن (¬4). قيل له: لو كان الكثير يخالف القليل، لبينته عائشة - رضي الله عنها -؛ لأنها ذكرت احتجاجًا على طهارته، فلو كان يختلف، لبينته. ¬

_ (¬1) الجزري، أبو أيوب، قال ابن حجر: (ثقة فقيه ... وكان يرسل)، توفي سنة 117 هـ. التقريب ص 622. (¬2) في الأصل: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن عائشة - رضي الله عنها -، والتصويب من صحيح البخاري. وسليمان هو: ابن يسار الهلالي، مضت ترجمته في (1/ 258). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: غسل المني وفركه، رقم (229 و 230)، ومسلم في كتاب: الطهارة، باب: حكم المني، رقم (288 و 289). (¬4) كذا في الأصل، وهو يدل على سقط، ويوضح الساقط ما جاء في الانتصار (2/ 545): (فإن قيل: فلعله قال ذلك في مني دون الدرهم، وعندنا يجزئ في ذلك المسح).

والقياس: أنه خارج من حيوان طاهر يُخلق منه مثلُ أصله، فوجب أن يكون طاهرًا؛ قياسًا على البيض، وقولنا: (خارج من حيوان) يحترز به من الدود المتولد من العذرة، فقد قيل: إنه طاهر؛ لأنه ليس بخارج من حيوان، وعلى أنا لا نعلم أن السرجين يخلق منه الدود، بل يجوز أن يخلق فيه مبتدأ لا منه، وقولنا: (طاهر) يحتزر به إذا خرج من حيوان نجس؛ كالكلب، والخنزير ونحوه، وقولنا: (يخلق منه مثلُ أصله) يحترز به من البول؛ لأنه خارج من حيوان طاهر، وهو نجس، وكذلك الحيض، والاستحاضة. فإن قيل: المعنى في البيض: أنه يجوز الانتفاع به من جهة الأكل قبل موت الحيوان، وبعد موته، وهذا المعنى بخلافه. قيل له: بيض الطيور التي لا يحل أكلها؛ كالباز، والصقر، والرخم، والنسر وغيره طاهرٌ عندك، وإن لم يحل الانتفاع بها بالأكل، فبطل هذا، وعلى أنه إنما لم يحل أكله؛ لأن ما يتولد منه من الحيوان لا يحل أكله، وهو الآدمي، والبيض يحل أكل ما يتولد منه من الحيوان، وهو الدجاج، فحل أكله، فعلى هذا لما كان ما يتولد منه من الحيوان طاهر يجب أن يكون هو أيضًا طاهر؛ اعتبارًا بالأكل. فإن قيل: هذا منتقض بالعلقة؛ فإنها يخلق منها طاهر، وهي نجسة. قيل له: ابتداء الخلق من المني، وإنما تتغير أحواله بالعلقة، والمضغة، كما أن البيض ابتداؤه طاهر، ثم يتغير في الثاني. وقياس آخر: وهو أن ما لا يجب غسله إذا كان يابسًا، لا يجب

غسله إذا كان رطبًا، دليله: البصاق، والمخاط. ولأنه مائع ينشر الحرمة، فكان طاهرًا؛ كاللبن من آدمية، ونشر الحرمة به ما ينعقد منه من البنوة، ولأنه مبتدأ خلق البشر، فكان طاهرًا، دليله: التراب مبتدأ خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] , والصلصال: الطين اليابس الذي إذا نقرته (¬1)، صَلَّ، وهذا قبل أن تمسه النار، فإذا مسته، فهو فخار (¬2)، والحمأ: جمع حَمْأَة، وقوله: {مَسْنُونٍ} قد قيل: مصبوب، من قولهم: سنيت الماء؛ أي: صبيته، وقيل: متغير، قال الله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]: لم يتغير (¬3). فإن قيل: آدم من البشر، ولم يخلق من المني، وولد آدم من البشر، ولم يخلق من التراب، وإنما خلقوا من المني. قيل له: يصح أن يقال: ما خُلق منه آدم، فهو أصل لأولاده، والمني فهو أصل لهم، فيصح أن يقال: إنه مبتدأ خلقهم، على أنا لم ندع أن الصلصال [ابتداء] خلق كل بشر، ولا المني ابتداء خلق كل بشر، بل ادعينا أن كل واحد منهما ابتداءُ خلق بشر، وهذا مسلَّم، وقد قال بعضهم: مبتدأ خلق آدمي، فهو كالصلصال، وهذا غير صحيح؛ لأن التراب أصلُ آدم، والمني أصل ولده، وليس آدم بآدمي، وإنما ذلك اسمٌ لولده، والصحيح ¬

_ (¬1) في الأصل: تقر صل، والتصويب من تفسير الطبري، وزاد المسير. (¬2) ينظر: تفسير الطبري (14/ 57)، وزاد المسير (4/ 397). (¬3) ينظر: تفسير الطبري (14/ 60)، وزاد المسير (4/ 398).

هو الأول؛ لأن البشر اسمٌ له ولولده، قال الله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33]. ولأن الخارج من مخرج الحدث على ضربين: مائع، وجامد، ثم الجامد منه ما هو طاهر، وهو الولد، والحصاة الخارجة من الدبر، ومنه النجس، وهو [الغائط] (¬1)، كذلك المائع وجب أن يكون منه طاهر، وليس إلا المنى. واحتج: بما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغسل المني من الثوب إذا كان رطبًا، وبفركه إذا كان يابسًا (¬2)، وأمرُه على الوجوب، وإذا وجب غسلُه، ثبتت نجاسته؛ لأن أحدًا لا يقول: إنه طاهر، ويجب غسله. والجواب: أنا نحمل ذلك على طريق الاستحباب؛ بدليل: ما روينا ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة، ويدل على المثبت: ما في (2/ 40). (¬2) ولفظه: (إذا وجدتِ المني رطبًا، فاغسليه، وإذا وجدتيه يابسًا، فحتيه)، قال ابن الجوزي: (هذا الحديث لا يعرف، وإنما المنقول: أنها هي كانت تفعل ذلك من غير أن يكون أمرها)، قال الذهبي في التنقيح (1/ 161): (وهذا لا شيء؛ لأنه بلا سند)، ونقل كلام ابن الجوزي، وأقره ابن عبد الهادي، والزيلعي، وابن حجر، قال الزيلعي: (غريب). ينظر: التحقيق (1/ 162)، والتنقيح (1/ 136)، ونصب الراية (1/ 209)، والتلخيص الحبير (1/ 72). وفعل عائشة - رضي الله عنها - في فرك المني إن كان يابسًا، وغسله إن كان رطبًا، أخرجه الدارقطني في سننه، باب: ما ورد في طهارة المني، رقم (449)، قال الذهبي: (سنده قوي). ينظر: التنقيح (1/ 162).

عن عائشة، وابن عباس - رضي الله عنهم -. واحتج: بما رُوي عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: مَرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أسقي راحلتي، وتنخَّمت، فأصابتني نُخامتي، فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نُخامَتُك ودموعُ عينيك إلا بمنزلة واحدة، إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول، والمني والدم والقيء" (¬1). والجواب: أنا نحمل قوله على طريق الاستحباب. واحتج: بأن خروجه يوجب الغسل، فأشبه دم الحيض. والجواب: أن نجاسة الشيء غير متعلقة بكونه موجبًا للغسل، بدليل: الاستحاضة، والبول، والمذي، وعلى أنه ينتقض بخروج الولد، وليس معه نفاس، فإنه يوجب الغسل، وليس بنجس، وعلى أن المعنى في الحيض. أنه يجب غسله يابسًا، فكان نجسًا، والمني لا يجب غسله يابسًا، فلم يكن نجسًا؛ كالبزاق؛ ولأن الحيض خارج لا يُخلق منه طاهر، فكان نجسًا، وهذا يخلق منه طاهر، فهو بالبيض أشبه. واحتج: بأنه مائع ينقض الوضوء، أشبهَ البولَ، والمذيَ. والجواب: أن كونه مائعًا لا تأثير له في النجاسة؛ بدليل: الغائط، والبول هما سواء في التنجيس، وإن كان أحدهما جامدًا، وعلى أن المعنى في ذلك: ما تقدم، وهو أنه يجب غسله يابسًا، وهذا بخلافه، ولأن ذلك لا يخلق منه طاهر، وهذا بخلافه، فهو كالبيض. ¬

_ (¬1) مضى جزء من الحديث وتخريجه في (2/ 36).

فصل

واحتج: بأن المذي من أجزاء المني؛ بدلالة: أنه يخرج للشهوة كما يخرج المني، ثم المذي نجس، كذلك المني. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أن المذي يجب غسلُ نجاسته، ولا يخلق منه طاهر، وهذا بخلافه، وعلى أنه قد منع قوم كونَ المذي من أجزاء المني، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب: الطهارة. واحتج: بأن المني - وإن كان طاهرًا -، فهو يخرج من مخرج الحدث، فيتنجس حالَ خروجه. والجواب: أنه قد قيل: إن مجراهما في الباطن مختلف، وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية بكر بن محمد (¬1) - وقد سأله عن المذي أشد أو المني؟ -، قال: هما سواء، ليسا من مخرج البول، إنما هو من الصلب والترائب. وعلى أن نجاسة الباطن لا حكم لها؛ لأنه لا ينفك منها، ولأن الله تعالى قال: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66]، وذلك اللبن ليس بنجس، ويوضح هذا: أنه يجوز الاقتصار على فركه، والفرك لا يجوز في البول، فدل على أن نجاسة الباطن لا حكم لها. * فصل: والدلالة على أنه يجزيء فيه الفرك إذا كان يابسًا، إذا قلنا: إنه ¬

_ (¬1) جعل الموفق بن قدامة صاحبَ هذه الرواية محمدَ بن الحكم. ينظر: المغني (2/ 490).

نجس؛ خلافًا لمالك - رحمه الله -: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬1) قال: نا عفان (¬2) قال: نا حماد بن سلمة، عن حماد (¬3)، عن إبراهيم (¬4)، عن الأسود (¬5)، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يذهب فيصلي فيه (¬6)، وهذا دليل على جواز فركه يابسًا. واحتج المخالف: بما تقدم (¬7) من حديث عمار قوله: "إنما يُغسل الثوب من الدم والمني والبول". والجواب: أنا نحمل ذلك على الرطب؛ بدلالة ما تقدم. واحتج: بأنه نجس، فوجب أن لا يجوز الاقتصار فيه على فركه؛ كسائر النجاسات. والجواب: أن القياس يقتضي هذا، وأنه لا يجوز الاقتصار على ¬

_ (¬1) رقم (24936). (¬2) ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، أبو عثمان الصفار، البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 220 هـ. ينظر: التقريب ص 433. (¬3) هو: ابن أبي سليمان، مضت ترجمته. (¬4) النخعي، مضت ترجمته. (¬5) ابن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو، قال ابن حجر: (ثقة مكثر فقيه)، توفي سنة 74 هـ. ينظر: التقريب ص 84. (¬6) مضى تخريجه في (2/ 39). (¬7) في (2/ 35، 40).

63 - مسألة: إذا أصاب الأرض بول، فصب عليه الماء حتى غمره، وزال طعمه، ولونه، وريحه، فقد طهر الموضع، والماء الذي خالط البول طاهر

الفرك، وإنما أجزناه؛ للأثر، وعلى أن نجاسته لا يمنع جواز الاقتصار على الفرك؛ كالنجو في موضع الاستنجاء: أنه نجس، ويجوز الاقتصار على مسحه بالأحجار، والله أعلم. * * * 63 - مَسْألَة: إذا أصاب الأرضَ بولٌ، فصب عليه الماء حتى غمره، وزال طعمه، ولونه، وريحه، فقد طَهُر الموضع، والماءُ الذي خالطَ البولَ طاهر: نص عليه في رواية أبي طالب (¬1): في البول في المسجد يُصب عليه الماء، فيقوم الماء في المسجد، وهو بقدر دلو، فهو طاهر، والماء أيضًا طاهر. وبهذا قال مالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رحمهما الله -. ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (1/ 517)، وبنحوها نقل الكوسج في مسائله رقم (50)، وأبو داود في مسائله رقم (145)، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 179)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 258)، والتمام (1/ 137)، والمستوعب (1/ 348)، والمغني (2/ 499). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 182)، وبداية المجتهد (1/ 51 و 52). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 257)، ونهاية المطلب (2/ 321)، والمجموع (2/ 422).

وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يطهر الموضع حتى ينتقل البول عنه إلى موضع آخر، فإذا انتقل البول عنه إلى موضع آخر، فقد طهر الموضع الذي كان أصابه، ونجس الموضع الذي انتقل إليه، والماء الذي دفعه عن موضعه ونقله نجسٌ أيضًا (¬1). دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده في كتابه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أعرابيًا دخل المسجد، ورسولُ الله - رضي الله عنه - جالس، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تَحَجَّرْتَ واسعًا"، ثم [لم] (¬2) يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناسُ إليه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إنما بُعثتم ميسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين، صُبُّوا على بوله سَجْلًا من ماء"، أو قال: "ذَنوبًا من ماء" (¬3). فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُصب عليه الذَّنوب لإزالة النجاسة، فلو كانت النجاسة لا تزول به، ولا يطهُر الموضع، وينجُس الماء الذي يجتمع، لما أمر أن يُصب الذنوب عليه؛ لأن في ذلك تكثير [اً] للنجاسة، وليس فيه إزالتها. ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر الطحاوي ص 31، وتحفة الفقهاء (1/ 145). (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد، رقم (220)، وكتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، رقم (6010)، ومسلم في كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، رقم (284).

فإن قيل: روي أن الأعرابي بال عند عتبة المسجد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُصب عليه ذنوبٌ من ماء، فيحتمل أن يكون قد جرى الماء إلى خارج المسجد (¬1). قيل له: لا يجري حتى يختلط بالبول، فإذا جرى إلى خارج المسجد، زاد موضع النجاسة، وكان الموضع بحاله، وكلُّ ما ورد الماء عليه، صار بملاقاة النجاسة نجسًا. فإن قيل: روي في خبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يُحفر مكانه (¬2)، وعندكم: لا يتغير حفر المكان، ونحن نقول: إذا حفر، وغسل الموضع، فإنه يطهر، وقد روي في بعض الأخبار: أنه قال: "خذوا ما بال [عليه] من التراب، وألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" (¬3). قيل: قد روى بكر بن محمد عن أبيه (¬4)، عن أحمد - رحمه الله -: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه الدارقطني في كتاب: الطهارة، باب: في طهارة الأرض من البول، رقم (477). قال أبو زرعة: (هذا حديث ليس بالقوي)، وقال: (منكر). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 145)، والجرح والتعديل (4/ 316)، وسيأتي نقل المؤلف عن الإمام أحمد تضعيفه له. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: الأرض يصيبها البول، رقم (381)، وقال: (وهو مرسل، ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وأخرجه في المراسيل رقم (11)، وقال: (روي متصلًا، ولا يصح). (¬4) ذكرها بنصها المغلطاي في شرحه لسنن ابن ماجه (2/ 567)، ونسب إخراجها إلى الخلال في علله.

أنه قيل له: يروى في حديث الأعرابي عن ابن عياش (¬1)، عن سمعان (¬2)، عن أبي وائل (¬3)، عن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "فأمر به، فحفر"، وقال: ما أعرف سمعان، وهذا حديث منكر (¬4)، وقال أبو داود: يرويه عبد الله بن معقل (¬5) بن مقرن (¬6)، وهو لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7). وعلى أنه لو صح هذا، لم يدل على ما يذهبون إليه، بل يُحمل على أنه قصد تخفيف النجاسة، فألقى بعض التراب الذي أصابه البول، ثم صب الماء عليه، كما أمر بالحتّ والقرص من دم الحيض. فإن قيل: يحتمل أن تكون أرض المسجد رخوة تشرب الماء، فانحط البول إلى جوف الأرض، وطهر وجهها. قيل: الموضع طهر بالماء الذي ورد عليه، ولا يجري حتى يختلط ¬

_ (¬1) هو: أبو بكر بن عياش، مضت ترجمته. (¬2) ابن مالك الأسدي، ليس بالقوي، بل قيل: مجهول. ينظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 316)، وميزان الاعتدال (2/ 234). (¬3) شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة مخضرم)، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز. ينظر: التقريب ص 273. (¬4) ينظر: التحقيق (1/ 103)، والبدر المنير (1/ 527). (¬5) في الأصل: مغفل، والتصويب من سنن أبي داود. (¬6) المزني، أبو الوليد الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 88 هـ. ينظر: التقريب ص 343. (¬7) ينظر: حاشية رقم (3) من الصفحة الماضية.

بالبول، فيتعدى إلى الموضع، وقد نجس. وتبنى المسألة على أن الماء المزال به النجاسة طاهر، إذا لم يكن متغيرًا، وقد حكم بطهارته. والدليل عليه: أن الأجزاء التي تبقى في الثوب من جملة الماء المزال به النجاسة، ألا ترى أنه كلما زيد في عصر الثوب، خرج الماء منه أكثر، فلو كان المنفصل نجسًا، لكان الباقي في الثوب نجسًا، وكان يجب أن لا يطهر الثوب بحال، وقد أجمعنا على طهارة الثوب، فثبت أن الماء المنفصل أيضًا طاهر، وقد أومأ أحمد - رحمه الله - إلى طهارة الماء المنفصل من الثوب في رواية علي بن سعيد (¬1): في الثوب يمسه البول: يغسل سبع مرات، فإن نقعه في إجّانة (¬2) حتى يغمره الماء، فأرجو أن يجزئه، إن لم يمكنه أن يصب عليه الماء. وظاهر هذا: أن المنفصل طاهر؛ لأنه لو كان نجسًا، لم يطهر الثوب بحصوله فيه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وقد نقل نحوها: عبد الله، وصالح، وحنبل، والميموني، وابن هانئ، وأبو طالب، وأحمد الحلواني. ينظر: مسائل عبد الله رقم (40)، ومسائل صالح رقم (52)، ومسائل ابن هانئ رقم (137)، والروايتين (1/ 63)، والانتصار (1/ 485)، وطبقات الحنابلة في ترجمة الحلواني (1/ 208). (¬2) الإجّانة - بالتشديد -: إناء يغسل فيه الثياب، والجمع أجاجين. ينظر: المصباح المنير (أجن).

فإن قيل: أكثر الذي يبقى في الثوب إنما كان طاهرًا؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. قيل له: لا يمكن الاحتراز من نجاسته أيضًا؛ لأن العادة أن النجاسة إنما تغسل بماء يسير، وليس العادة أنها تُحمل إلى المياه الكثيرة، والجارية، فلو قلنا: إنها تنجس بالملاقاة، كان فيه مشقة، فلا فرق بينهما. فإن قيل: البلل إنما كان طاهرًا؛ لأنه لم يلاق النجاسة، وإنما لاقى ما جاور النجاسة، وهو الماء الذي أزيل به النجاسة، ومن أصلنا: أن ما نجس بالمجاورة، لم ينجس ما جاوره، والدليل على ذلك: الفأرة إذا وقعت في السمن المائع: أن ما لاقى الفأرة نجس، وما جاور ذلك الموضع طاهر؛ لأنه جاور ما نجس بمجاورة النجاسة. قيل: هذا لا يصح؛ لأن البلل هو من جملة الماء الذي لاقى النجاسة، فكان يجب أن يكون نجسًا على قولك؛ لأنه لاقى النجاسة، ولم يلاق ما جاور النجاسة، وقد أجمعنا على طهارته، عُلِم أن المعنى ما ذكرنا، ولا يشبه هذا السمن إذا كان جامدًا، فوقعت فيه فأرة: أنه تنجس ما جاور الفأرة حسب؛ لأن ما جاور مكان النجاسة هو جامد، ولم تلاقه النجاسة، وإنما لاقت محلها حسب، والجامدات إنما تنجس بملاقاة النجاسة، فلهذا لم يكن نجسًا، وما اختلفنا فيه من الماء المزال به النجاسة مائع، والبلل بعضه، فلما كان البلل طاهرًا (¬1)، وجب أن يكون نفسه طاهرًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: طاهر.

64 - مسألة: إذا احترقت النجاسة، وصارت رمادا، لم تطهر

واحتج المخالف: بأن كل ما تنجس بملاقاته للنجاسة، فإنه لا يختلف بأن يَرِد على النجاسة، أو تَرِدَ النجاسةُ عليه؛ بدلالة المائعات كلها، واتفقنا على أن البول لو ورد على الماء، لنجَّسه، فإذا ورد الماء عليه، يجب أيضًا أن ينجِّسه؛ ولأنه ما تبقى فيه جزء من النجاسة، ولا يتوصل إلى جزء منه إلا بجزء من النجاسة، فيجب أن يحكم بنجاسته؛ كما لو وردت النجاسة عليه. والجواب: أن ورود الماء على النجاسة يطهِّر المحل، وما طهر لا يجوز أن يكون نجسًا، وليس كذلك ورودها على الماء؛ لأنها تؤثر في طهارته، ولا يؤثر في طهارتها، فجاز أن يفرق بينهما؛ ولأنه لو نجس بوروده على النجاسة، لم يكن لنا سبيل إلى طهارة النجس، وليس كذلك إذا وردت على الماء؛ لأن لنا سبيلًا إلى صيانة الماء عنه؛ ولأنه ينتقض بالبلل الذي في الثوب، قد تيقنا حصول النجاسة فيه، وهو طاهر، والله أعلم. * * * 64 - مَسْألَة: إذا احترقت النجاسة، وصارت رمادًا، لم تطهُر: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حمدان بن علي (¬1) - وقد سئل عن حمّام يوقد بالعذرة، هل يغتسل منه؟ -، فقال: كيف يصنع ببخاره؟ ¬

_ (¬1) الوراق، مضت ترجمته.

فكأنه كرهه. وكذلك في رواية محمد بن (¬1): يكره الغسل من ماء الحمام الذي يوقد بالعذرة (¬2). وإنما كره ذلك؛ خوفًا أن يحصل من رمادها في الماء، وقال أيضًا في رواية المروذي: في تنور شُوي فيه خنزير: لا يُخبز فيه حتى يُغسل ويُقلَع ما فيه (¬3). وهذا كله يدل على أن النجاسة لم تطهر بالنار، وبه قال مالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة: يطهر (¬6)، وكذلك الخلاف في الخنزير إذا وقع في ملّاحة (¬7)، فصار (¬8) ملحًا، عندنا: لا يطهر، وعنده: يطهر. دليلنا: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، ¬

_ (¬1) في الأصل بياض بمقدار كلمة، ولعلها [بكر]. (¬2) لم أقف على روايتيهما، وينظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 409)، والفروع (1/ 64 و 324)، والإنصاف (2/ 299)، ومسألة الغسل من ماء الحمام يراجع فيها مسائل عبد الله رقم (24)، ومسائل الكوسج رقم (48)، ومسائل صالح رقم (558)، ومسائل ابن هانئ رقم (12)، والمغني (1/ 307). (¬3) ينظر: حاشية ابن قندس على الفروع (1/ 325)، ونقل نهي الإمام أحمد - رحمه الله - بلا تصريح بصاحب الرواية ابنُ قدامة في المغني (1/ 97). (¬4) ينظر: الكافي ص 19، ومواهب الجليل (1/ 152). (¬5) ينظر: المهذب (1/ 166)، والبيان (1/ 428). (¬6) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 442)، وتبيين الحقائق (1/ 76). (¬7) الملّاحة: منبت الملح. المصباح المنير (ملح). (¬8) في الأصل: فصا.

وقال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، فمنه دليلان: أحدهما: أنه وصف الماء بهذه الصفة، فدل على أن غيره حكمُه بخلافه. والثاني: أنه امتنَّ علينا بأن جعل الماء مطهِّرًا لنا، فلو شاركه غيره، لبطل الامتنان في هذا المعنى؛ ولأن ما لم ينجس بالاستحالة، لا يطهر بالاستحالة. دليله: الدم، وعكسه الخمر، لما نجس بالاستحالة، طهر بالاستحالة، ولا يلزم عليه الطعام، والشراب الذي يصل إلى الجوف؛ لأن نجاسة ذلك توصله إلى الجوف لا بالاستحالة، ألا ترى أنه لو تقيأه في الحال قبل الاستحالة كان نجسًا. واحتج المخالف: بأن المعنى الموجب لنجاسة هذه الأشياء وجودها على ضرب من الاستحالة، فإذا احترقت، وصارت رمادًا، زالت تلك الاستحالة، فوجب أن تزول النجاسة، ألا ترى أن العصير إذا صار خمرًا، فإنه تنجس لوجوده على ضرب من الاستحالة، فإذا صار خلًا، زالت تلك الاستحالة، وكذلك البيض يستحيل دمًا، فتنجس، ثم يصير فرخًا، فيطهر؛ لزوال الاستحالة الموجبة للتنجيس، كذلك ها هنا. والجواب: أن هذا يبطل بالدبس النجس إذا عُقد ناطفًا (¬1)، أو لحم ¬

_ (¬1) أي: خمرًا. ينظر: لسان العرب (نطف).

65 - مسألة: إذا أصابت الأرض نجاسة، فيبست، وذهب أثرها، لم تجز الصلاة فيها

الميتة إذا طبخ، أو قُدِّدَ (¬1) بالملح، فإن الاستحالة موجودة، ولا يطهر، على أن المعنى في العصير إذا صار خمرًا، أو في البيض إذا صار دمًا لمّا نجس بالاستحالة، طهر بالاستحالة؛ لزوال المعنى الذي أوجب نجاسته، وليس كذلك ها هنا؛ لأن هذه النجاسة لم تنجس بالاستحالة، بل أعيانها نجسة، فلم تطهر بالاستحالة؛ كالدم، وأما العلقة، فليست بنجسة؛ لأنه ليس بدم مسفوح، فهو كالكبد. والجواب: أن الماء لم يكن مطهرًا لكونه محيلًا، وإنما عندنا: للشرع، والتوقيف، وعندهم: لكونه طاهرًا، وهذا المعنى معدوم في النار. * * * 65 - مَسْألَة: إذا أصابت الأرضَ نجاسةٌ، فيبست، وذهب أثرها، لم تجز الصلاة فيها (¬2): نص عليه في رواية الأثرم، فقال: لا يطهر المكان النجس بالشمس إذا طلعت عليه (¬3). ¬

_ (¬1) القديد: اللحم المملوح المجفف في الشمس. ينظر: لسان العرب (قدد). (¬2) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 179)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 261)، والمغني (2/ 502)، والفروع (1/ 324)، والإنصاف (2/ 297). (¬3) لم أجدها.

وبهذا قال مالك (¬1)، والشافعي (¬2) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تجوز الصلاة فيها، ولا يتيمم منها (¬3). دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صبوا عليه ذَنوبًا من ماء" (¬4)، فالظاهر: أن البول لا يطهر إلا بصبِّ الماء عليه، ولأنه محلٌّ نجس، فلم يطهر بالشمس إلى أن ذهب لونها وريحها. وإن شئت قلت: محلٌّ نجس، فلم يزُل المنعُ بجفافه، دليله: ما ذكرنا؛ ولأن كل بقعة لم يجز التيمم بترابها لأجل النجاسة، لم تجز الصلاة عليها. دليله: إذا كانت أعيان النجاسة باقية لم تجف، وفيه احتراز من الأرض الرملة، والنَّورة (¬5). فإن قيل: إنما لم يجز؛ لأنه إذا تيمم، ضرب على الأرض، فيثير التراب النجس. قيل له: عندكم: لا يفتقر التيمم إلى هذا؛ لأنه لو وضع [يده] على ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 36)، والإشراف (1/ 284). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 259)، والمهذب (1/ 172). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 133)، مختصر القدوري ص 59. (¬4) مضى تخريجه (2/ 43). (¬5) نوع من الحجر يحرق، ويسوّى منه ما يحلق به شعر العانة. ينظر: لسان العرب (نور).

الأرض، ولم يعلق بها شيء، أجزأه. فإن قيل: إنما لم يجز التيمم؛ لأنا نتيقن أن الأرض أحالت جميع أجزاء النجاسة إلى طبعها، ويجوز أن يكون قد ذهب أثرها، وهناك أجزاء نجسة باقية، وقد تيقنا أنها خففت حكمها حتى صيّرتها بمنزلة النجاسة اليسيرة، ويسيرُ النجاسة لا يمنع جواز الصلاة، ويمنع جوازَ الطهارة، فلذلك منعنا جواز التيمم، ولم نمنع جواز الصلاة. قيل له: قولك: إنا قد تيقنا أنها خففت حكمها حتى صيّرتها بمنزلة النجاسة اليسيرة، لا نسلِّم لك هذا، بل هي على حالها، ولكنها خفت كما خفت على البساط، والثوب. ولأن النجاسة إذا كانت منبسطة، فكل جزء أشرنا إليه من البقعة كان محكومًا بنجاسته، بدلالة امتناع جواز التيمم به، وإذا كان كذلك، حصلت النجاسة أكثر من قدر الدرهم، وذلك يمنع جواز الصلاة. واحتج المخالف: بأن من شأن الأرض أن تقلب الأشياء إلى طبعها، فيصيرها أرضًا، قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]، فأخبر أن ما على الأرض يجعله أرضًا، فإذا كان من شأن الأرض ما ذكرنا، دل ذهابُ أثرها، على أن الأرض أحالتها إلى طبعها، فيصيرها أرضًا، ويوجب ذلك تخفيف حكمها، وكونها بمنزلة النجاسة اليسيرة التي لا تمنع جواز الصلاة، وليس كذلك البساط إذا أصابته نجاسة، وجفت وذهب أثرها: أن الصلاة لا تجزئ عليها؛ لأنه ليس من شأن البساط أن يقلب الأشياء إلى طبعه، فذهاب أثره لا يوجب تخفيف حكمها.

والجواب: أنا لا نسلم أن الأرض تقلب الأشياء إلى طبعها، وإنما تشرب الرطوبة، وتنشفها الشمس، والهواء، وتجففه، كما يكون البساط، ولا فرق بينهما. والذي يبين صحة هذا: أن الذهب، والفضة، والحديد، والخشب يبقى في الأرض، ولا يصير أرضًا، وكذلك أصول الشجر وعروقها، والزروع (¬1)، وغير ذلك يبقى في الأرض الزمان الطويل، ولا يصير أرضًا، وأما قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]، فإن الأرض الجزر: التي لا تُنبت، يقال: أرض جرز، وأرض أجراز (¬2)، ومعنى الآية: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاعل الأرض: الخلفاء، والعلماء، والأمراء (¬3). وقال مجاهد: الرجال (¬4)، وقال بعضهم: أنواع الأشجار، والثمار، والأموال، ثم ذم لهم الدنيا، وأخبرهم بفنائها، وأنها تصير إلى التراب والبلى، وقيل: إنها تأكل بنيها أكلًا. والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: والزوع. (¬2) ينظر: معاني القرآن للزجاج (3/ 122). (¬3) ينظر: تفسير الطبري (15/ 153)، ومعاني القرآن للنحاس (4/ 216)، وزاد المسير (5/ 105). (¬4) الذي روي عن مجاهد: بلقعًا. والرجال مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ينظر: تفسير الطبري (15/ 153)، وزاد المسير (5/ 106).

66 - مسألة: إذا وقع شيء من بدن المصلي على شيء نجس، لم تصح صلاته

66 - مَسْألَة: إذا وقع شيء من بدن المصلِّي على شيء نجس، لم تصح صلاته (¬1): نص عليه في رواية صالح (¬2): في الرجل يكون موضعُ سجوده، أو موضعُ قدميه قذر [اً]؟ فأنكر قول من قال: لا يضره إلا أن يكون موضع سجوده، وقال: هذا كله مكروه. وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة: إذا كانت النجاسة في موضع ركبتيه، أو كفيه، جازت صلاته، وإن كانت في موضع قدامه، وهو أكثر من قدر الدرهم، لم تجزئه، فإن كانت في موضع سجوده، فإن (¬4) على مقدار الدرهم أو مادون، أجزأته صلاته، وإن سجد على أكثر من قدر الدرهم، ففيه روايتان (¬5). دليلنا: أنه لو كان موضع عليه نجاسة، لم تصح صلاته، فإذا وضعه ¬

_ (¬1) ينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 261)، والإنصاف (3/ 279). (¬2) في مسائله رقم (1032). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 264)، ونهاية المطلب (2/ 327). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: الإشراف (1/ 281)، والكافي ص 64. (¬4) هكذا في الأصل، ولعلها زائدة من النساخ. (¬5) ينظر: مختصر الطحاوي ص 31، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 261).

على نجاسة، يجب أن لا تصح صلاته؛ قياسًا على موضع (¬1) القدمين، ولأنه محل نجس يلاقي بدنَ المصلي، فوجب أن لا يسقط فرضُه، أصله: موضع القدمين. واحتج المخالف: بأن موضع الركبتين والقدمين ليس بفرض، فإذا وضعهما على موضع نجس، لم يعد (¬2) بوضعهما على (¬3)، وصار كأنه لم يفعله، وليس كذلك إذا كانت النجاسة موضعَ قيامه؛ لأن القيام فرض، فإذا حصل في موضع نجس، لم يحصل وجوده، فتفسد صلاته. والجواب: أنا لا نسلم أن موضع الركبتين واليدين ليس بفرض، وقد دللنا على وجوب ذلك فيما تقدم، على أنه لا فرق في اعتبار الطهارة بين ما يجب وضعُه، وبين ما لا يجب وضعه، ألا ترى أن النجاسة لو كانت على الكفين، أو الركبتين، لم تصح صلاته؛ كما لو كانت على القدمين؟ وكذلك النجاسة على سترة، وهي فرض في الصلاة يمنع من صحتها، كما لو كانت على سترة ليس بفرض (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: موضعين، وهو خطأ. (¬2) في الأصل: يعيد. (¬3) بياض في الأصل بمقدار كلمة، ولعلها: النجاسة. وينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 262). (¬4) المراد: لو كانت النجاسة على سترة واجبة، يستر بها المصلي عورته، فإن الحكم لا يختلف لو كانت النجاسة على سترة ليست واجبة؛ كالعمامة مثلًا، فكذلك موضع القدمين، وموضع الركبتين واليدين في منع صحة الصلاة للنجاسة فيها واحد.

67 - مسألة: أنفحة الميتة، واللبن الذي في ضرعها بعد موتها نجس في أصح الروايتين

فإن قيل: هو - وإن كان كذلك -، فإنه يصير مستعملًا للنجاسة في صلاته. قيل له: وإذا لاقى شيئًا (¬1) من النجاسة، فهو مجاور للنجاسة، متصلٌ بها، فلا فرق بينهما، والله أعلم. * * * 67 - مَسْألَة: أَنْفِحَةُ المَيْتَة (¬2)، واللبنُ الذي في ضَرْعها بعدَ موتها نجسٌ في أصح الروايتين: نص على ذلك في رواية الميموني (¬3)، ومثنى (¬4)، وابن منصور (¬5)، وفرق بين اللبن وبين البيض، وقال: اللبن سائل مختلط (¬6)، وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل: شيء. (¬2) الأنفحة: شيء يخرج من بطن الجدي أصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن. ينظر: لسان العرب (نفح). (¬3) ينظر: الروايتين (3/ 31). (¬4) لم أقف عليها. وينظر: المغني (1/ 100)، والفروع (1/ 118)، والإنصاف (1/ 175). (¬5) في مسائله رقم (2873). (¬6) ينظر: الروايتين (3/ 31). (¬7) ينظر: البيان (1/ 79)، وروضة الطالبين (1/ 16 و 17). =

وروى حنبل عنه (¬1): أنفحة الميتة طاهرة؛ لأن اللبن لا يموت. وهذا نص على طهارتها، وعلّل بأنه لا يحلُّه الموت، وهذا موجود في اللبن. وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬2). وجه الرواية الأولى، وهي أصح: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" (¬3)، والأنفحةُ شيء من الميتة؛ لأنها جلدة فيها مثلُ الشحم الرقيق؛ ¬

_ = وإليه ذهبت المالكية. ينظر: التلقين ص 51، والكافي ص 188. (¬1) ينظر: الروايتين (3/ 31). (¬2) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 99)، وبدائع الصنائع (1/ 371). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: من روى أنه لا ينتفع بإهاب الميتة، رقم (4127)، والترمذي في كتاب: اللباس، باب: ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، رقم (1729)، وقال: (كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث ... ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده)، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 105): (هكذا روى الترمذي عن أحمد، وهو خلاف المشهور المستفيض عنه)، وأخرجه النسائي في الكبرى، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: النهي عن أن ينتفع من الميتة بشيء، رقم (4561)، واللفظ له، وابن ماجه في كتاب: اللباس، باب: من قال: لا ينتفع من الميتة لا بإهاب ولا عصب، رقم (3613) من حديث عبد الله بن عكيم، قال أبو حاتم: (لم يسمع عبد الله بن عكيم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كتابه)، وكذا قال أبو زرعة. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 185)، والمراسيل له ص 104، قال ابن تيمية: (وأما حديث ابن عكيم، فقد طعن بعض الناس =

كالمخ الذي يكون في العظم، ويكون في جوف الجدي (¬1) الرضيع، ولا يمكن إخراجها في حياة الجدي، فلا يجوز الانتفاعُ بها بظاهر الخبر. فإن قيل: ليس ذلك من الميتة؛ لأنه لا يَحُلُّها الموت. قيل له: قد بينا أنها جلدة فيها مثلُ المخ، وما هذا صفته، فهو من الميتة؛ ولأن المخ في العظم نجس، فأولى أن تكون الأنفحة؛ لأن العظم مختلَف في نجاسته، وهذا ليس متفقًا على نجاسته، فهو بالتنجيس أشبه؛ ولأنه ليس محلوبًا فيما لا يحل أكله لا لحرمته، فوجب أن يكون نجسًا ما ذكرنا، ولا تأثير لذلك اللبن؛ لأن اللبن، والدهن، وسائر المائعات في النجاسة بحصوله في الوعاء النجس سواء، ولكن يقال: مائع من غير جنس الماء لاقى (¬2) نجاسة، فوجب أن ينجس، أصله: إذا حلت في إناء نجس. ¬

_ = فيه بكون حامله مجهولًا، ونحو ذلك، مما لا يسوغ رد الحديث به). الفتاوى (21/ 93)، وقد ذهب إليه الإمام أحمد في مسائل عبد الله رقم (43)، بل قال في مسائل ابن هانئ رقم (109): (وأما حديث ابن عكيم، فهو الذي أذهب إليه؛ لأنه آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -)، ونقل ابن قدامة في المغني (1/ 91)، والكافي (1/ 40): أن الإمام أحمد قال: (إسناد جيد)، وقال: (ما أصلح إسناده! )، ونقل كلام الإمام أحمد ابنُ تيمية في الفتاوى (21/ 93)، وابنُ عبد الهادي في التنقيح (1/ 104). وينظر: شرح علل ابن أبي حاتم لابن عبد الهادي ص 73. (¬1) في الأصل: الجوف الجدي. (¬2) في الأصل: الملاقا.

وقولنا: (مائع) احترازٌ من: جامد لاقى نجاسة يابسة. وقولنا: (من غير جنس الماء) احتراز من: الماء الكثير؛ فإنه لا يتنجس بملاقاة النجاسة؛ لكونه ماء. واحتج المخالف: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزوة الطائف (¬1) بجبنة، فقال: أين يصنع هذا؟ قالوا: بأرض فارس، قال: اذكروا اسم الله، وكلوا" (¬2)، ومعلوم أن ذبائح المجوس ميتة، وقد أباح أكلها، مع العلم أنها من صنعتهم، والمجوس يصنعون الجبن من أنفحة الميتة، فلو كانت نجسة، لما أباح لهم الجبن الذي يصنع منها. والجواب: أنه ليس بمعلوم أنه مصنوع من أنفحة الميتة، ويجوز أن يكون من أنفحة المذكاة؛ لأنه قد كان فيهم اليهود والنصارى، وكانت لهم ذبائح، وكان المجوس لا يرون الذبح، والأصل الطهارة، فلم يجب تحريمه إلا بيقين. واحتج: بما روي: أن رجلًا أتى عليًا - رضي الله عنه -، [فقال] (¬3): إنا بالجبل تموت لنا السخلة، فنأخذ من أنفحتها، ونجعل ذلك في اللبن، فينعقد، ¬

_ (¬1) في الأصل: بعرت بالطائف، والتصويب من المعجم الكبير للطبراني. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (2755)، والطبراني في الكبير (11/ 303) رقم (11807)، قال الإمام أحمد: (حديث منكر)، وقال أبو حاتم: (ليس بصحيح، وهو منكر). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 385)، وجامع العلوم والحكم ص 535. (¬3) ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.

أفيجوز أكلها؟ فقال علي - رضي الله عنه -: سَمِّ الله، وكُلْ (¬1). ولأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، و- رضي الله عنهم - فتحوا بلاد المجوس، ولم يكونوا يمتنعون من أكل الجبن الذي يصنعونه، مع علمهم بأنهم يصنعونه من أنفحة الميتة. والجواب: أن المروي عن علي - رضي الله عنه - لا يُعرف، وقد روى ابن المنذر (¬2) ما يدلُّ على ضعفه: أنه سئل عن الدجاجة، وفي جوفها بيضة، أيحل أكلها؟ فقال: لا يحل أكلها، ومنع من أكل البيض، فلا يجوز أن يبيح الأنفحة من الميتة. وأما الذي روي عن الصحابة - رضوان الله عليهم -: أنهم فتحوا بلاد المجوس، ولم يمتنعوا من أكل الجبن، فقد أجبنا عنه، وبيّنا أنه غير معلوم أنه كان من ذبح المجوس؛ ولأن المجوس ما كانوا يذبحون، وكانت اليهود والنصارى تذبح. واحتج: بأنه يجوز أخذُها في حال حياة الحيوان، والانتفاع بها، فيجب أن تكون بعد موتها، كحالها في حال الحياة؛ كالبيض. والجواب: أن هذا كلام من لا يعرف الأنفحة؛ لأنا قد بيّنا أنها ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وسيأتي كلام المؤلف أنه لا يعرف. (¬2) في الأوسط (2/ 290). وفي سنده أبو الصهباء البكري (مقبول)، وأبو معاوية البجلي، قال ابن حجر عنه: إنه: مجهول إلا أن يكون عمارًا الدّهني، فهو: صدوق يتشيع. ينظر: التقريب ص 284 و 449 و 725.

جلدة فيها مثل الشحم الرقيق؛ كالمخ يكون في جوف العظم، وتكون في جوف الجدي، وهذه لا يمكن إخراجها في حياة الجنين (¬1)، وأما البيض، فإن لم يكن صلبًا قشره عليه، فلا يجوز أكلُه من الميتة، وإن كان قد صلب قشره الأبيض، فإنه يحل؛ لأن ما فيه لا ينجس بمجاورة النجاسة؛ لأن قشره يمنع وصول النجاسة إليه. واحتج: بأن ملاقاة اللبن لضرع ميت إنما هو ملاقاة لنجاسة الباطن، ونجاسة الباطن لا حكم لها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا} [النحل: 66]، فأخبر أنه يخرج من هذين وهو طاهر، وكذلك المني لا ينجس بجريانه في مجرى البول؛ لأنه باطن، كذلك ها هنا. والجواب: أن الآية لا تدل على أن اللبن ملاقٍ للفرث والدم، وإنما أخبر الله تعالى شربه، ويكون ملاقيًا لهما، وبينه وبينهما حُجب في الخِلقة، وقد قيل في السيرة: إن الطعام يحصل منه الفرث في الكرش، والدم في العروق، واللبن في الضرع، فتخلص منه ثلاثة ألوان مختلفة بقدرة الله تعالى، وأما المني، فقد قيل أيضًا: إن مجراه غير مجرى البول، وعلى أنه لو كان مجراهما واحد [اً]، فإنما لم ينجس؛ لأنه لا مجرى له غيره، فلا ينفك عنه، فجرى فيه العفو، وليس كذلك لبنُ الميتة؛ لأن موت الشاة وفي ضرعها لبن ليس مما يكثر ويدوم، ولبنها طولَ عمرها غيرُ ملاقٍ للنجاسة، وإنما ذلك يحصل وقت الموت، فلم تدعُ الضرورة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها في حياة الجدي.

68 - مسألة: يجوز للجنب أن يمر في المسجد، ولا يقعد فيه

إلى إسقاط حكمه، على أنهم قالوا في لبن الميتة: هو طاهر، فلم يجعلوا للنجاسة الباطنة حكمًا، وقالوا في المني: إنه نجس، فجعلوا للنجاسة الباطنة حكمًا (¬1)، وهذا تناقض منهم، وعلى أن النجاسة الباطنة تؤثر؛ بدليل: أن من أكل طعامًا، ثم تقيأه في الحال، نجس؛ لأجل حصوله في الباطن. * * * 68 - مَسْألَة: يجوز للجُنُب أن يمرَّ في المسجد، ولا يقعد فيه: نص على هذا في رواية صالح (¬2)، وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4)، ومالك (¬5) - رحمهما الله -: لا يجوز للجنب أن يمر فيه. وقال داود (¬6): يجوز للجنب والحائض المكثُ في المسجد. ¬

_ (¬1) في الأصل: حكم. (¬2) لم أجدها في مسائله، ونقل نحوها ابنُ هانئ في مسائله رقم (339)، وينظر: المغني (1/ 200)، والإنصاف (2/ 112)، وفتح الباري (1/ 322). (¬3) ينظر: الأم (2/ 114)، والحاوي (2/ 265). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 149)، والتجريد (2/ 765). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 32)، والمعونة (1/ 115). (¬6) ينظر: المحلى (2/ 116 و 5/ 136).

دليلنا: قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، فاسم الصلاة يعبَّر به (¬1) عن موضع الصلاة، قال الله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، وأراد به: موضع الصلاة؛ بدلالة قوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}؛ يعني: المجتاز؛ لأن العبور على فعل الصلاة لا يمكن، وإنما يحصل ذلك في موضع الصلاة، فيصير تقدير الآية: لا تقربوا موضع الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل، فاستثنى المجتاز من جملة النهي. فإن قيل: الصلاة اسم لهذه الأفعال المخصوصة حقيقة، فيجب أن نحمله عليها. قيل له: وقد يستعمل ذلك في بيوت الصلاة ومكانها، وهي المساجد، فحذف المضاف، وذلك لغة مستعملة، ومجاز متأوَّل مشهور في لغتهم يجرى مجرى الحقيقة؛ لكثرة استعماله، وفي القرآن الكريم نحو من ألف موضع، قال الله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]؛ يعني: أهل القرية، وقال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]؛ يعني: حب العجل، وقال تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]؛ أي: بيوت الصلوات، وقال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110]؛ أي: بقراءة صلاتك، وقال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]؛ أي: صاحب قول الحق، وقال ¬

_ (¬1) في الأصل: بعبرته، ينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 263).

تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]؛ أي: وقت الحج. فإن قيل: فالآية الكريمة نزلت على قوم سكروا، فصلَّوا وغيّروا، وهذا يدل على أن المراد بالآية: الفعلُ دون الموضع. قيل: اللفظ أعمُّ من السبب، فلا يجب حملُه عليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فشرط في حال قربه الصلاة علم ما يقول، وقرب موضع الصلاة لا يحتاج إلى القول حتى يكون علمه به في جواز قربه، والصلاة تحتاج إلى القول، فيجوز أن يكون علمه به شرطًا في جواز قربها. قيل له: لم يشترط القول، وإنما شرط العلم بما يقولونه؛ ليميز بين ما يصلح في المسجد، وما لا يصلح فيه؛ لأن القبيح والهُجْر من الكلام لا يجوز في المسجد. وجواب آخر: وهو أن قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أراد به: فعل الصلاة، وقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] أراد به: موضع الصلاة، فيكون تقديره: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، ولا تقربوا موضع الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل، وأراد بالصلاة في السكران: هو الفعل، وفي الجنب: هو المسجد، وإنما عطفه الجنب على السكران على اللفظ، وإن كان معناهما مختلفًا، وهذا جائز في اللغة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، فعطف الملائكة على نفسه - جل وعلا - في لفظ الصلاة دون معناها؛ لأن الصلاة من الله الرحمة والمغفرة، ومن

الملائكة الدعاء والاستغفار. فإن قيل: قوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي} معناه: إلا أن يكونوا مسافرين؛ بدليل: أنه إذا (¬1) فلان عابر سبيل، لا يعقل من إطلاقه مسكنه في المسجد أو نحو ذلك، وإنما يعقل من كونه مسافرًا، فيصير تقدير الآية: لا تصلوا وأنتم سكارى، ولا تصلوا وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين، فيجوز أن تصلوا في حال عدم الماء بالتيمم وأنتم جنب؛ لأن التيمم لا يرفع الجنابة، ولأنه قرن العبور بالسبيل، والسبيل هو الطريق، والمسجد لا يستطرق، فعلم أنه أراد المسافر. قيل له: لا يصح حمله على المسافر من وجوه: أحدها: أن أبا بكر بن المنذر روى بإسناده (¬2) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]: إلا وأنت مار (¬3). وروى بإسناده (¬4) ..................................... ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الكلام يتم بإضافة لفظة: قيل. (¬2) في الأوسط (2/ 106) و (5/ 132). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 55)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب؛ الجنب يمر في المسجد، رقم (4325)، قال ابن التركماني في الجوهر النقي (2/ 621): (في سنده أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي، قال أبو زرعة: يهم كثيرًا). (¬4) في الأوسط (2/ 107) و (5/ 132).

عن أبي عبيدة بن عبد الله [عن] (¬1) ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازًا، ويقول: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] (¬2). وروي: أن عمر - رضي الله عنه - كان يمنع الجنب من التيمم (¬3)، وهذا يدل على أن معنى الآية عنده ما ذكرنا. وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: كان أحدنا يمر في المسجد مجتازًا (¬4). وجواب ثانٍ: أن المسافر لا يسمَّى عابرَ سبيل، وإنما ذلك اسم للمجتاز من موضع إلى موضع، فأما المسافر الذي يتصل سيره، ويطول ¬

_ (¬1) ليست في المخطوط، وموجودة في الأوسط، وبها يستقيم المسند. وأبو عبيدة ابنٌ لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقد مضت ترجمته. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (1613)، والطبري في تفسيره (7/ 54)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: الجنب يمر في المسجد، رقم (4327)، قال ابن التركماني في الجوهر النقي (2/ 621): (أبو عبيدة لم يدرك أباه)، قال ابن حجر: (الراجح: أنه لا يصح سماعه من أبيه). ينظر: التقريب ص 713. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الحيض، باب: التيمم، رقم (368). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة رقم (1560)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 106)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1331)، وفي سنده أبو الزبير (صدوق مدلّس)، وقد عنعن، وفي رد روايته إذا عنعن نزاع، ولذا قال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (2/ 286): (إسناده ضعيف لعنعنة أبي الزبير؛ فإنه مدلس! ).

ضربه في الأرض، فلا يسمَّى عابرَ سبيل، ولهذا لا يسمَّى من سار في طول دجلة عابرَ سبيل، ومن سار في عرضها يسمى عابر [اً]؛ لأنه يخف، ولا يطول، وتقول العرب: يوم عابر، وليلة عابرة: إذا لم تكن مطيرة (¬1)، والعامة تسمي المطر الذي لا يلبث ولا يستقر: عابورة، وإذا كان كذلك، امتنع أن يسمى المسافر بذلك، وعلم أنه إنما يقال: عابر سبيل، في هذا المكان، أو في هذا البلد إذا كان لا يقيم، وإنما مجتازًا. وجواب ثالث: وهو أنا إذا حملنا الآية على المكان، لم نحتج فيه إلى إضمار، وإذا حملوه على فعل الصلاة في السفر، احتاج إلى إضمارين: أحدهما: عدم الماء، والثاني: فعل التيمم، ومن استعمل ظاهر اللفظ كان أولى. وجواب رابع: وهو أنا إذا حملناه على العبور، لم يشاركه غيره في حكمه، وهو المقيم الجريح أو القريح؛ لأنه إذا أجنب، تيمم وصلى، كما يتيمم المسافر ويصلي، فيجب أن يكون ما ذكرناه أولى؛ ليكون لتخصيصه بالذكر فائدة. وجواب خامس: وهو أن إباحة الصلاة للجنب بالتيمم مستفاد [ة] بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فيجب أن نحمل هذه الآية على فائدة أخرى، وهو: العبور في المسجد. وجواب سادس: وهو أن المراد بقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي ¬

_ (¬1) في الأصل: نطير.

سَبِيلٍ}: الجنب الذي لا يستبيح فعل الصلاة بالتيمم، فوجب أن يكون المراد بقوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ}: الجنب الذي لا يستبيح فعل الصلاة بالتيمم؛ لأنه استثناء، والاستثناء يكون من جنس المستثنى منه. والقياس: أنه مكلف أمن تلويث المسجد من غير تنجيس، فوجب أن لا يمنع من دخوله، والاجتياز فيه، أصله: الطاهر (¬1). وقولنا: (مكلف) (¬2) احتراز من: الصبي والمجنون، وقولنا: (أمن من تلويث المسجد) احتراز من: الحائض إذا لم تستوثق من نفسها بالشد، وقولنا: (من غير تنجيس) احتراز منه إذا كان عليه نجاسة. فإن قيل: نقلبه (¬3)، فنقول: وجب أن يستوي فيه العبور، والقعود فيه؛ كالطاهر (¬4). قيل: لا يحتاج إلى هذه الأوصاف التي ذكرناها؛ لأن الحكم استقلَّ عندك ببعضها، أو على أنه لا يجب أن يستوي حكم العبور والقعود؛ كما لم يجب استواؤهما (¬5) في طريق المسلمين؛ ولأن الجنابة لا تمنع العبور في المسجد، دليله: ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) في الحاوي للماوردي (2/ 266)، والتجريد للقدوري (2/ 770): (المحدث) بدلًا من الطاهر. (¬2) في الأصل: مخلف. (¬3) في الأصل: دعلده. (¬4) في التجريد للقدوري (2/ 770): (المحدث) بدلًا من الطاهر. (¬5) في الأصل: اسواهما.

فإن قيل: المانع من الكون في مسألتنا موجود في حال الدخول، فيمنع من دخوله العبور فيه، كما قلنا في الدار المغصوبة، وهو إذا حصل (¬1) في دار غيره بإذن صاحبها، ثم غصبها منه، منع من القعود فيها، ولم يمنع من الاجتياز للخروج منها؛ لأن المانع من الكون فيها حصل وهو في الدار، فلو كان المانع موجودًا في الابتداء، لم يمنع حكم الدخول للقعود فيها، والاجتياز. قيل له: يجوز أن يُفرّق في الدار المغصوبة بين أن يوجد سبب المنع فيها، أو خارجًا منها في باب المنع، ويستوي بينهما في المسجد في باب الجواز؛ لأنه لو كان ممنوعًا من الاجتياز فيه لأجل الحدث، لكان ممنوعًا من اللبث فيه على صفة يؤدي إلى الحدث، وهو الإطالة فيه بالنوم، والقعود الكثير، فلما لم يمنع، دل على التسوية بينهما. فإن قيل: فقد يمنعه من الاجتياز حتى يتيمم ثم يعبر. قيل له: فإذا تيمم، جاز له المرور، ولا يجوز له اللبثُ والقعود بذلك التيمم، فالكلام لازم، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حرب (¬2): في الرجل ينام في المسجد، فتصيبه الجنابة: فإن قدر أن يغتسل، خرج، وإلا، بات في المسجد، قيل له: فإن تيمم؟ قال: لم يبلغني. فلم يوجب عليه التيمم لأجل البيتوتة. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد تكون: دخل. (¬2) في الأصل: الحرب. ينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 321).

وأيضًا: لو كان الجنب ممنوعًا من العبور في المسجد، لكان ممنوعًا من المبيت فيه؛ لجواز أن يحتلم فيه، فلما اتفقوا على جواز المبيت فيه، دل على أن الجنابة لا تمنع دخول المسجد، ألا ترى أن إنزال المني في الصوم لما كان محرمًا، كانت القُبلة للشباب محرمة؛ لأنها تؤدي إلى الإنزال في الغالب؟ فإن قيل: ليس الغالب من حال من يبيت في المسجد أن يحتلم. قيل له: المدة المتطاولة من الشاب، الغالب فيها الاحتلام، فيجب أن يمنع منها، ولما لم يمنع، دل على ما ذكرنا. واحتج المخالف: بما روت جسرة بنت دجاجة (¬1) عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "سُدُّوا هذه الأبواب؛ فإني لا أُحِلُّ (¬2) المسجدَ لحائضٍ، ولا جُنُب" (¬3)، وهذا عام في الاجتياز والقعود جميعًا. والجواب: أن أبا بكر بن المنذر ............................. ¬

_ (¬1) العامرية، الكوفية، قال ابن حجر: (مقبولة). ينظر: التقريب ص 762. (¬2) في الأصل: واي لاجل، والمثبت من الحديث. (¬3) أخرجه بنحوه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يدخل المسجد، رقم (232)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في اجتناب الحائض المسجد، رقم (645) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، وهو حديث ضعيف - كما سيأتي من نقل المؤلف -. وينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 324)، و (2/ 449).

قال في كتابه (¬1): هذا الحديث غير ثابت. ولو صح، فلفظه متروك؛ لأن المُحرَّم فعلُنا وتصرفُنا فيه، وليس له ذكرٌ، وإنما هو مضمَر، فليس حملُه على الدخول بأولى من حمله على اللبث، فوجب التوقيف؛ لأن المضمر لا يُدّعى فيه العموم، على أنا نحمله على اللبث؛ بما ذكرنا. واحتج: بأنه منهي عن دخوله للقعود فيه، فوجب أن يكون منهيًا عن دخوله جنبًا لغير ضرورة؛ قياسًا على دخوله للقعود. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الاجتياز بالقعود؛ بدليل: الطريق، يجوز الاجتياز فيه، ولا يجوز القعود فيه، وكذلك إذا أجنب في المسجد يجوز له الاجتياز فيه، ولا يجوز له اللبثُ فيه، وأما دار الغير، فعلة المنع فيها: عدمُ الإذن من المالك، وهذا المعنى موجود في الاجتياز، والقعود، والمالك ها هنا قد أباح الاجتياز بنص الآية، ومنع اللبث، فلهذا فرقنا بينهما. فإن قيل: فما تقولون في الحائض هل يجوز لها العبور فيه؟ وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬2) - وقد سأله عن الجنب، والحائض يمران في المسجد -، فقال: يمران ولا يقعدان. ¬

_ (¬1) في الأوسط (2/ 110)، وقال بعده: (لأن أفلت - الراوي عن جسرة - مجهول لا يجوز الاحتجاج بحديثه)، وذكره بإسناده في (5/ 135). (¬2) في مسائله رقم (339)، ونص الجواب: (يمران مجتازين في المسجد، والمجتاز يمر ولا يقعد).

فصل

وإن قاسوا على عبور الكافر في المسجد، فالفرقُ بينهما من وجهين: أحدهما: من جهة الظاهر، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ} [التوبة: 28]، وقال (¬1) ها هنا: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]. والثاني: أن الكافر يرى الاستخفاف بحرمته، فمنعناه جملة. * فصل: والدلالة على أنه لا يجوز المكث للجنب في المسجد: ما تقدم من قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ} [النساء: 43]، فمنع قربان المسجد حال الجنابة، واستثنى العبور فقط، ويدل عليه: ما تقدم من حديث عائشة - رضي الله عنها - (¬2). واحتج المخالف: بأن المنع من دخولها في حق الجنب والحائض حكم شرعي، فلا يجوز إثباته إلا بالشرع. والجواب: أنا قد بينا ذلك من طريق الشرع، فسقط هذا، والله أعلم. * * * 69 - مَسْألَة: إذا توضأ الجنب، جاز له اللبث في المسجد: ¬

_ (¬1) في الأصل: وقال وها هنا. (¬2) في (2/ 75).

نص عليه في رواية صالح (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2)، ومالك (¬3)، والشافعي (¬4) - رضي الله عنهم -: لا يجوز له اللبث قبل رفع الجنابة. دليلنا: ما روى حنبل (¬5) قال: نا أبو نعيم (¬6) قال: نا هشام بن سعد (¬7) عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل [يكون] (¬8) جنبًا، فيتوضأ، ثم يدخل المسجد، فيتحدث (¬9). ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، ونقلها عن الإمام أحمد - رحمه الله - الكوسج في مسائله رقم (86)، وينظر: المغني (1/ 200)، والإنصاف (2/ 115). (¬2) ينظر: التجريد (2/ 765)، وشرح فتح القدير (1/ 115). (¬3) ينظر: الإشراف (1/ 286)، وبداية المجتهد (1/ 83). (¬4) ينظر: البيان (1/ 250)، والمجموع (2/ 128). (¬5) ابن إسحاق، مضت ترجمته. (¬6) هو: الفضل بن دُكين الكوفي، أبو نعيم الملائي، مشهور بكنيته، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 218 هـ. ينظر: التقريب ص 495. (¬7) في الأصل: سعيد، وهو خطأ. وهشام هو: ابن سعد المدني، أبو عباد، قال ابن حجر: (صدوق له أوهام)، توفي سنة 160 هـ. ينظر: التقريب ص 639. (¬8) ساقطة من الأصل، وهي موجودة في الأثر. (¬9) ذكره المجد في المنتقى عن حنبل بالسند الذي ذكره المؤلف في كتاب: =

وهذا إشارة إلى جماعتهم، فصارت المسألة إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. وأيضًا: قد وجد منه إحدى الطهارتين، فجاز له اللبثُ في المسجد، دليله: الطهارة الكبرى، ولا يلزم عليه إذا كان عليه نجاسة؛ لأنه يستوي فيه الأصل، والفرع. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه قد ارتفع حدث الجنابة، فلهذا جاز له اللبث. قيل له: علة الأصل تبطل إذا كان عليه نجاسة قد ارتفعت (¬1)، ويمنع من اللبث، وعلة الفرع تبطل بالمسافر إذا عدم الماء وتيمم؛ فإن حدثه لم يرتفع، ويجوز له اللبث في المسجد. فإن قيل: المتيمم في حكم المتطهر؛ بدليل جواز الصلاة في حقه، وهذا لا يجوز له الصلاة بهذه الطهارة. قيل له: المحدث الأصغر لا يجوز له الصلاة، ومع هذا يجوز له اللبث في المسجد، وعلى أن المتيمم لا يكون في حكم المتطهر بالماء؛ ¬

_ = الطهارة، باب: الرخصة في اجتياز الجنب المسجد ص 101، وابن تيمية في شرح العمدة (1/ 391)، وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (1567) عن زيد بن أسلم، وهشام ضعّفه الإمام أحمد، وابن معين، والنسائي، قال أبو حاتم: (يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وذهب أبو داود إلى أنه أثبت الناس في زيد بن أسلم. ينظر: تهذيب الكمال (30/ 204)، وتفسير ابن كثير (4/ 71)، ونيل الأوطار (1/ 326). (¬1) في الأصل: ارتفع، والصواب المثبت.

لأن عند الشافعي - رضي الله عنه - (¬1): يستبيح (¬2) به صلاة واحدة مفروضة، ويستبيح (2) اللبث في المسجد على الدوام. وأيضًا: فإن الجنب ممنوع من الدخول إلى المسجد حتى يحدث طهارة، كالمُحِلَّ ممنوع من الدخول إلى الحرم حتى يُحدث إحرامًا، ثم لو أحرم بعمرة، جاز له الدخول، وإن كانت العمرة أصغر النسكين، كذلك إذا توضأ الجنب، جاز له الدخول، وإن كانت أصغر الطهارتين، تبين صحة هذا: أنه لا يستفيد بإحرام العمرة ما يستفيده بإحرام الحج من الوقوف، والرمي، والمبيت، وطواف القدوم، ومثله في الطهارة الصغرى لا يستفيد بها ما يستفيده بالكبرى من الصلاة، والقراءة، والوطء للحائض، بل يستفيد بعضها، وهو جواز النوم، والأكل؛ فإن المستحب أن ينام ويأكل على طهارة (¬3)، وتقوم الطهارة الصغرى مقام الكبرى في الاستحباب. فإن قيل: إحرام العمرة إحرام تام، ألا تراه يَحْرُم به جميع ما يَحْرُم بإحرام الحج؟ والطهارة الصغرى ليست بتامة، ألا تراه لا يستبيح بها ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 99)، والبيان (1/ 314). (¬2) في الأصل: تسبيح. (¬3) أخرج مسلم في صحيحه، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له، وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، رقم (305) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنبًا، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة.

ما يستبيح بالغسل؟ قيل: قد بيّنا أنه لا يستبيح بإحرام العمرة ما يستبيح بإحرام الحج، وكذلك التيمم لا يستبيح به من الصلوات المفروضات، ما يستبيح المتطهر بالماء، ويستبيح به اللبث في المسجد، وكذلك يستبيح بهذه الطهارة أكل الطعام، والنوم، وإن لم يستبح غيره من الأشياء، كذلك ها هنا، ولأن إحرام الحج يحرم الأشياء، ثم التحلل الأول يبيح بعض المحظورات، وهو ما عدا الوطء مع بقاء الإحرام، كذلك حدث الجنابة يمنع أشياء، فجاز أن تُبيح الطهارة الصغرى بعض المحظورات، وهو اللبث. واحتج المخالف: بأن كل معنى مُنِع الجنب منه قبل الوضوء، مُنع منه بعد الوضوء، دليله: الصلاة، والقراءة، ومس المصحف، والوطء. والجواب: أنه يبطل بالأكل، والنوم يمنع منه على طريق الكراهة قبل الوضوء، ولا يمنع منه بعد الوضوء؛ ولأنه لا يمنع من الصلاة، ولا يمنع من اللبث؛ كالمحدِث الحدثَ الأصغر، وكذلك لا يمنع من حمل المصحف، ولا يمنع من اللبث، وأما قراءة القرآن، فإنما منع منها؛ لأن حرمتها أغلظ وآكدُ؛ بدليل: أن الحدث الأصغر يمنع من حمل المصحف؛ لحرمة القرآن، ولا يمنع من اللبث في المسجد، وأما تحريم الوطء، وهو آكد من غيره؛ بدليل: أن الحائض إذا أمنت تلويث المسجد، جاز لها الاجتياز فيه، ولم يجز وطؤها (¬1) في تلك الحال، ولأن التحلل ¬

_ (¬1) في الأصل: وطئها.

70 - مسألة: لا يجوز للمشرك دخول المسجد الحرام، ولا الحرم

الأول يبيح محظورات الإحرام، ولا يبيح الوطء، كذلك لا يمنع أن يبيح الوضوء محظورَ اللبث، ولا يبيح غيره. واحتج: بأنه غسل بعض بدنه، أشبهَ إذا غسلَ غير مواضع الوضوء. والجواب: أن المحدِث الحدثَ الأصغر جميعُ بدنه محدث، فلو غسل غير مواضع الوضوء، لم تجز له الصلاة، ولو غسل مواضع الوضوء، جاز له أن يصلي، كذلك ها هنا، وإن قاسوا على الحائض إذا انقطع دمها فتوضأت (¬1)، لم يمنع أن نقول فيها ما نقول في الجنب سواء، كما سوينا بينهما في الاجتياز. واحتج: بأن حدث الجنابة لم يزل، أشبه إذا لم يتوضأ. والجواب: أنه إذا تحلل التحلل الأول، لم يزل إحرامه، ومع هذا، فقد أبيح له المحظورات سوى الوطء، ولأنه لا يجوز اعتبار الطهارة الصغرى بعدمها؛ كالمحدث الحدث الأصغر جميعُ بدنه محدِث، ولو توضأ، جاز له الصلاة، ولو لم يتوضأ، لم يجز له، كذلك ها هنا، ولأنه إذا توضأ، جاز له النوم، والأكل من غير كراهة، والله أعلم. * * * 70 - مَسْألَة: لا يجوز للمشرك دخولُ المسجد الحرام، ولا الحَرَم: ¬

_ (¬1) في الأصل: فتوضأ، ثم بياض بمقدار حرف. وهو المثبت.

نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية ابن منصور (¬1)، وهو قول مالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يجوز دخولُهم (¬4). دليلنا: قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وهذا نهي، والنهي يقتضي التحريم. فإن قيل: الظاهر يقتضي نهيهم عن القرب منه، وهذا مُطَّرَح بالإجماع، وإنما الخلاف في الدخول. قيل له: قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا} يقتضي: لا يدخلوا، ولا يتلبسوا به، وليس ذلك قولهم: قرب من الشيء: إذا دنا منه، وقربه قربانًا: إذا دخله، وتلبس به، وبهذا قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43]، {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، وأراد به: الدخول والتلبس، على أن القرب منه أيضًا حرام عندنا؛ لأنه يجوز له دخول الحرم. فإن قيل: معناه: لا تقربوه للحج؛ بدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (3350)، وينظر: أحكام أهل الملل ص 56، والروايتين (2/ 386)، والأحكام السلطانية ص 195، والإنصاف (10/ 466). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 286)، والجامع لأحكام القرآن (10/ 154). (¬3) ينظر: الأم (2/ 114)، والحاوي (2/ 268). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 174)، وبدائع الصنائع (6/ 510).

عليًا - رضي الله عنه - ليقرأ سورة براءة، فأمر عليٌّ أبا هريرة - رضي الله عنه - بأن ينادي والمشركون حضور: ألا لا يحج بعد عامهم هذا مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين الله عهد، فعهدُه إلى مدته (¬1)، فنهاهم عن الحج بعد تلك السنة، فعلم أنهم عن قربه للحج (¬2)، ويدل عليه قوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فحصر العام بالذكر؛ لأن الحج يُفعل في العام مرة، ولو كان المراد النهيَ عن دخوله على الإطلاق، لما خص العام بالذكر. قيل له: قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، وهذا يقتضي أن يكون المنع من دخول المسجد الذي أمر بتطهيره بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، ولأنه لو أراد النهي عن الحج، لذكر الوقوف الذي هو معظم الحج، ويكون مدركًا للحج لإدراكه، ولهذا خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر، فقال: "الحج عرفة، من أدرك عرفة، فقد أدرك الحج" (¬3)، ولما خص المسجد الذي يفعل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند رقم (594)، والبخاري في كتاب: التفسير، باب: قوله؛ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، رقم (4655)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك، رقم (1347) بدون ذكر لعلي - رضي الله عنه -، والذي بعث أبا هريرة وأمره، هو: أبو بكر - رضي الله عنهما -. (¬2) كذا في الأصل، وقد تكون: فعلم أنهم منهيون عن قربه للحج. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، رقم (1949) بنحوه، والترمذي في كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، رقم (889) ونقل عن سفيان بن عيينة: أنه قال: =

فيه ركنٌ من أركان الحج ليس ذلك بشرط في إدراكه، والأمن من فواته (¬1)، علم أنه لم يقصد الحج، وإنما قصد المسجد. وأما قولهم: إنه خص العام بالذكر؛ لأن الحج يُفعل في ذلك، فغير صحيح؛ لأنه لم يخصه بالعام، وإنما نهى بعد ذلك العام، ولم يخص بعده وقتًا دون وقت، وزمانًا (¬2) دون زمان، ويدل عليه: أنه قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}؛ أي: فقرًا بانقطاع الحمل للتجارات (¬3)، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} عن حملهم وجلبهم، فدل على أن ذلك منع من دخولهم للحج وغيره؛ إذ لو كان منعًا من الدخول للحج وحدَه، لكان لا يخاف منه الفقر بانقطاع الجلب، وأما إنفاذ علي - رضي الله عنه - ليُنادي (¬4)، فإنه خاص في المنع من الحج، وليس بتفسير لهذه الآية، فلا ¬

_ = (هذا أجود حديث رواه سفيان الثوري)، وأخرجه النسائي في كتاب: الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، رقم (3016)، وابن ماجه في كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، رقم (3015)، ونقل عن محمد بن يحيى: أنه قال: (ما أرى للثوري حديثًا أشرف منه)، وصححه جمع من أهل العلم. ينظر: البدر المنير (6/ 230). (¬1) في الأصل: الأمر من فواته. (¬2) في الأصل: وزمان. (¬3) ينظر: تفسير الطبري (11/ 399). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، رقم (4655)، وباب قوله: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ}، رقم (4656).

يكون فيه دلالة على ما ذكرنا من التأويل، وأيضًا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج، ولا لمشرك أن يدخل المسجد الحرام" (¬1)، وهذا يدل على أن المشرك ممنوع من دخول المسجد الحرام. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن دخل المسجد، فهو آمن، ومن تعلق بأستار الكعبة، فهو آمن" (¬2)، فأباح لهم دخول المسجد الحرام، وأمَّنهم إذا دخلوه. ¬

_ (¬1) ذكره بلاغًا: الشافعي في الأم (5/ 418)، ونقله عنه البيهقي في السنن (9/ 235)، وفي المعرفة (13/ 337 و 392)، وأسند الطبري نحوه في تفسيره (11/ 352) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عند قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، والبيهقي في المعرفة (13/ 337) بلفظ: (لا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام، ولا يعطي المسلم الجزية)، وفي سنده الحسن بن عطية العوفي يرويه عن أبيه عطية، قال أبو حاتم: (ضعيف الحديث)، وأبوه عطية ضعّفه الإمام أحمد، والنسائي، وغيرهما. ينظر: العلل ومعرفة الرجال (1/ 548)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 382)، وتهذيب الكمال (6/ 211)، وميزان الاعتدال (3/ 79). (¬2) أخرج الجملة الأولى مسلم في صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، رقم (1780)، والجملة الثانية أخرجها أبو داود في كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في خبر مكة، رقم (3022)، وحسّنها الألباني في صحيح أبي داود، أما جملة: (ومن تعلق بأستار الكعبة، فهو آمن)، فلم أقف عليها مسندة، وقد ذكرها على أنها من الحديث: الماوردي في كتابيه: الحاوي (8/ 409)، والأحكام السلطانية ص 286.

71 - مسألة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في دخول أهل الذمة في سائر المساجد غير المسجد الحرام

والجواب: أن هذا قاله عام الفتح، ومكةُ دار المشركين، وهو سنة ثمان، ثم نزل في سنة تسع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28]، فكان المتأخر ناسخًا للمتقدم. واحتج: بأن لهم أن يدخلوا سائر المساجد، فلهم أن يدخلوا المسجد الحرام، دليله: أهل الإسلام. والجواب: أنه لا نجوّز لهم أن يدخلوا سائر المساجد على الصحيح من الروايتين، فلا نسلم الوصف، ثم لا يجوز اعتبار [المسلم] (¬1) بالكافر في جواز الدخول، كما لم يجز اعتبار الطاهر بالجنب، والحائض في جواز الدخول، وهما سواء؛ لأن الحائض، والجنب منعا؛ تعظيمًا لحرمة المكان، وهما أقرب إلى الطهارة، والإباحة، فالكافر بالمنع أولى، والله أعلم. * * * 71 - مَسْألَة: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في دخول أهل الذمة في سائر المساجد غير المسجد الحرام: فنقل أبو طالب عنه (¬2): في اليهودي والنصراني والمجوسي ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، والسياق يقتضيها. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 160 و 2/ 386)، وكشاف القناع (7/ 272)، والفتح لابن رجب (2/ 563).

لا يدخلوا المسجد، لا ينبغي لهم أن يدخلوا. فظاهرُ هذا المنع. وهو قول مالك - رحمه الله - (¬1). ونقل الأثرم عنه (¬2) - وقد سئل: هل يتركون (¬3) أهل الذمة يدخلون المسجد؟ -، فقال: ينبغي أن يتوقى ذلك، قيل له: فإن رأى رجل ذميًا، أيخرجه؟ قال: قد روي في هذا حديث وفد ثقيف أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزلهم المسجد (¬4)، وعمرُ - رضي الله عنه - كرهه (¬5). فظاهر هذا: جوازُ ذلك، وهو قول أبي حنيفة (¬6)، والشافعي (¬7) - رحمهما الله -. ¬

_ (¬1) ينظر: الإشراف (1/ 286)، والجامع لأحكام القرآن (10/ 154). (¬2) أي: الإمام أحمد - رحمه الله -. ينظر: الروايتين (1/ 160 و 2/ 386)، والأحكام السلطانية ص 195. (¬3) كذا في الأصل، وهي لغة، والأفصح: يترك. (¬4) أخرجه أحمد في المسند رقم (17913)، وأبو داود في كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في خبر الطائف، رقم (3026)، وفي المراسيل رقم (17)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 13)، وحسّن إسناده ابنُ الملقن، وقال ابن حجر: (اختلف فيه على الحسن). ينظر: البدر المنير (4/ 207)، والتلخيص (2/ 826)، والسلسلة الضعيفة رقم (4319). (¬5) سيأتي في قصته مع أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم -. (¬6) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 174)، والتجريد (2/ 772). (¬7) ينظر: الأم (2/ 114)، والحاوي (2/ 268).

فوجهُ المنع: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة: 114]، وجميع الكفار يريدون قتالنا، ويعتقدون منعنا عن ذكر الله تعالى في مساجدنا، فوجب أن يكونوا ممنوعين بقوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} إخبارٌ عن حالهم: أنهم متى دخلوها، خافوا أن يوقع بهم. فإن قيل: هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، فيجعل حكمها مقصورًا عليهم (¬1). قيل له: اللفظ أعمُّ من السبب، فلا يجب قصره عليه، وروى ابن شاهين في كتاب المناهي لإسناده عن راشد - يعني: ابن سعيد - رضي الله عنه -، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل المجوس المساجد" (¬2). ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: رُوي أن أبا موسى قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، ومعه كاتب له يرفع (¬3) حسابه، فأعجب عمر، وجاء عمر كتاب، فقال لأبي موسى: أين كاتبك حتى يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال أبو موسى: لا يدخل (¬4) المسجد، قال: لم؟ قال: لأنه نصراني (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير الطبري (2/ 443)، والدر المنثور (1/ 562). (¬2) لم أقف عليه، وقد ذكره الهاشمي في رؤوس المسائل (1/ 182). (¬3) في الأصل: رقع حسابه. (¬4) في الأصل: لا يدخلوا. والتصويب من سنن البيهقي. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن، كتاب: الجزية، باب: لا يدخلون مسجدًا بغير =

ورُوي: أن عليًا - رضي الله عنه - كان على المنبر، فبصر بمجوسي، فنزل فضربه حتى أخرجه من أبواب كندة (¬1)؛ ولأنه لما منع الجنب والحائض تعظيمًا لحرمته، وهما أقربُ إلى الطهارة، والإباحة، وحسنِ الاعتقاد من الكافر، فكان الكافر بأن يُمنع منه أَولى، ولأنه بيت الله تعالى منع الكافر منه، دليله: المسجد الحرام؛ فإن الشافعي - رضي الله عنه - قد وافق أنه لا يجوز دخوله (¬2). فإن قيل: لا يجوز اعتبار المسجد الحرام بسائر المساجد، بأنه (¬3) جُعل قبلة المصلين، ومطافًا للطائفين، ومحلًا للمحْرِمين، وخصه بأن منع من قتل الصيد حواليه، ومن دخله بغير إحرام. ¬

_ = إذن، رقم (18727)، وفي سنده عمرو بن حماد القنّاد، قال ابن حجر: (صدوق، رمي بالرفض) يرويه عن أسباط بن نصر، ضعّفه أبو نعيم، قال النسائي: (ليس بالقوي)، وقال ابن حجر: (صدوق كثير الخطأ يُغْرِب)، يرويه عن سماك بن حرب، قال ابن حجر عنه: (صدوق ... ربما تلقّن)، وقد نسب رواية هذا الأثر للإمام أحمد - رحمه الله - ابنُ مفلح، فقال: (روى الإمام أحمد بإسناد صحيح)، ثم ذكره، ولم أقف عليه. ينظر: الآداب الشرعية (3/ 100)، وتهذيب الكمال (2/ 357)، والتقريب ص 70 و 256 و 462. (¬1) لم أقف عليه مسندًا، ونسب تخريجه إلى الأثرم ابنُ رجب في الفتح (2/ 563)، وذكره الموفق في الكافي (5/ 606)، وأن راويته عن علي - رضي الله عنه - يقال لها: أم غراب، قال ابن حجر: (لا يعرف حالها). التقريب ص 766. (¬2) مضى قوله في (2/ 83). (¬3) كذا في الأصل، ولعل الأقرب: لأنه.

قيل له: هذه المعاني لا يوجب الفرق بينهما في حق الكافر، كما لم يوجب الفرق بينهما في حق الحائض، والجنب، وإن كانا يختلفان من تلك الوجوه. وأيضًا: فإن المشركين الجنب من الرجال والنساء، والحائض والنفساء من النساء، والطهارة لا تصح منهم، ولا ترتفع أحداثهم عندنا، وعند الشافعي - رحمه الله -، فيجب أن يمنعوا من الدخول؛ كالمسلم الجنب إذا لم يغتسل، والمسلمة (¬1) الحائض، والنفساء إذا لم تغتسل. فإن قيل: المشركون لا يعتقدون تعظيم المساجد، ولم يعتبر في حقهم الدخول على صفة التعظيم، والمسلمون يعتقدون تعظيمها، فاعتبر دخولهم على وجه التعظيم. قيل: فكان يجب أن يجوز دخولهم المسجد الحرام للمعنى الذي ذكرت، وقد اتفقنا، والشافعي - رحمه الله - على منع الدخول، ولأنهم لا يعتقدون التوحيد، وتصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وتعظيم القرآن، ثم لا نقرهم على إظهار كلمة الشرك، وسبِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن. وأيضًا: لو جاز لهم الدخول، لم يقف على أذن رجل من المسلمين، كأحد المسلمين، ولما لم يجز دخولهم بغير إذن، لم يجز مع الإذن؛ كالجنب، والحائض إذا لحق في الدخول غير متعين برجل ¬

_ (¬1) في الأصل: للمسلمة.

بعينه، فيعتبر بإذنه. فإن قيل: لا يمنع اعتبار الإذن في الدخول، كما قلنا في دخول الحربي إلى دار الإسلام. قيل: كان يجب أن يعتبر هذا المعنى في دخول الجنب، والحائض. قيل (¬1): وعلى أنه إنما اعتبر الإذن في دخولهم دار الإسلام خوف الخيانة منهم؛ لئلا يخفى على الإمام، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا. واحتج المخالف: بما رُوي: أن أبا سفيان - رضي الله عنه - (¬2) - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليجدد العهد بينه وبين قريش، فدخل عليه المسجد، ولم يمنعه عن ذلك (¬3). وروي: أنه قدم عليه وفد ثقيف، فأنزلهم في المسجد، فقيل له: إنهم أنجاس؟ فقال: "ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاسهم على أنفسهم" (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها زائدة. (¬2) في الأصل: عنهم. (¬3) أما مجيء أبي سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 79) بإسناده عن الزهري مرسلًا، وضعفه الألباني في فقه السيرة ص 405، أما دخوله المسجد، فقد أخرجه أبو داود في مراسيله بلفظ: (كان - يعني: أبا سفيان - يدخل المسجد بالمدينة وهو كافر). (¬4) مضى تخريجه في (2/ 88)، وهذا لفظ الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 13).

ورُوي، أن صفوان بن أمية بن خلف واطأ عُمير بن وَهْب الجمحيَّ على أن يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أباه أميةَ بنَ خلف قُتل يوم بدر، فخرج عمير من مكة، وجاء إلى المدينة، ودخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، وفي يده سيف، وقعد بين يديه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جئت لكذا وكذا، وقد واطأك عليه صفوان"، فأسلم عمير بن وهب - رضي الله عنه -، وقال: لم يجر هذا إلا بيني وبينه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله (¬1). فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه دخول المسجد، وكان كافرًا وقت دخوله، وإنما أسلم بعد ذلك. والجواب: أن هذا كان في ابتداء الإسلام، فأذن لهم في الدخول، وأنزلهم في المسجد ليستمعوا الذكر، فترق قلوبهم بسماع الذكر، ويرجو إسلامهم، وقد روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: نا حماد بن سلمة عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: أن وفد ثقيف قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزلهم المسجد ليكون أرقَّ لقلوبهم، فاشترطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وذكر الخبر. واحتج: بأن كل بقعة جاز للمسلم دخولُها جاز للكافر، دليله: سائر البقاع. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 58)، قال في المجمع (8/ 286): (رواه الطبراني مرسلًا، وإسناده جيد). (¬2) رقم (17913). (¬3) مضى تخريجه في (2/ 88).

72 - مسألة: يجوز قضاء الفوائت في الأوقات المنهي عن صلاة التطوع فيها

والجواب: أنه يبطل بدخول المسجد الحرام، ولأن المسلم يجلس في صدور المجالس، وسروات (¬1) الطرق، ويُمنع الكافر ذلك، ولأن المسلم يعتقد تعظيمها، والكافر بخلافه، والله أعلم. * * * 72 - مَسْألَة: يجوز قضاء الفوائت في الأوقات المنهيِّ عن صلاة التطوع فيها: نص على هذا في رواية الحسن بن ثواب، فقال: أما الفريضة، فليصلِّها أيَّ وقت شاء (¬2). وكذلك قال في رواية حنبل (¬3)، وصالح (¬4)، وقال: يصلي إذا ذكر فائتة في الساعات التي نهي عنهن فيها (¬5)، وبهذا قال مالك (¬6)، والشافعي (¬7) - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) سروات الطريق: أي: وسط الطريق ومعظمه وظهره. ينظر: لسان العرب (سرا). (¬2) لم أقف على الرواية، وينظر: المغني (2/ 515)، وفتح الباري لابن رجب (3/ 332). (¬3) لم أقف على روايته، وينظر: الإنصاف (3/ 182). (¬4) في مسائله رقم (278 و 669). (¬5) هذه رواية الكوسج عن الإمام أحمد في مسائله رقم (122). (¬6) ينظر: المدونة (1/ 130)، والإشراف (1/ 287). (¬7) ينظر: الأم (2/ 171)، والحاوي (2/ 274).

وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: لا يجوز قضاؤها في ثلاثة أوقات: عند طلوع [الشمس]، وعند الزوال، وعند الغروب، ويجوز قضاؤها عنده بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر (¬1). دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من نسي صلاة، فليصلِّها إذا ذكرها، لا كفارةَ لها إلا ذلك" (¬2)، قال: ثم سمعته بعد ذلك يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (¬3). وروى أيضًا بإسناده في لفظ آخر عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها" (2)، فعمَّ ولم يخصَّ، فهو على عمومه في سائر الأوقات إلا ما خصه الدليل، ولأنه وقت لذكر الفائتة، فجاز أن يكون وقت لجواز فعلها، أصله: ما عدا الأوقات الثلاثة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لا يكره فعلُ التطوع فيها، وهذه يُكره فعلُ التطوع فيها. قيل: هذا يبطل بما بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر؛ فإنه يكره فعلُ التطوع فيها، وهذه يكره فعل التطوع فيها، ولا يكره فعل الفائتة، وكذلك عصر يومه يجوز عند غروب الشمس، ولا يجوز التطوع في ذلك الوقت؛ ولأن وقت الغروب تجوز عصر يومه فيه، فجاز قضاء ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر الطحاوي ص 24، ومختصر القدوري ص 84. (¬2) مضى تخريجه في (1/ 358). (¬3) والآية التي في الحديث هي: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]

فرضه فيه، أصله: وقت العصر، ولأنها صلاة مفروضة، فجاز أداؤها في حال غروب الشمس عصرَ يومه. فإن قيل: إنما جاز عصر يومه في ذلك الوقت؛ لأنه وقت لوجوبه، ألا ترى أن الكافر إذا أسلم في ذلك الوقت، لزمه الصلاة؟ وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنها صلاة فائتة. قيل له: لا فرق بينهما؛ لأن هذا الوقت أيضًا وقتٌ لوجوب الفائتة، لأنها في ذمته، وما كان في الذمة، فجميع الأوقات وقتٌ لوجوبه. واحتج المخالف: بما روي في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتحرى أحدُكم فيصلِّي عند طلوع الشمس، وعند غروبها؛ فإنها تطلُع بين قرنَي الشيطان" (¬1). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي في ثلاث ساعات، وأن نقبر فيهن موتانا: عند طلوع الشمس، وعند الزوال، وعند الغروب" (¬2). وعن عمرو بن عَبَسَة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! هل في ساعات الليل والنهار ساعة منهي عن الصلاة فيها؟ فقال: "أما الليل، فالصلاة فيه مقبولة مشهودة حتى تصلي الفجر، ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، رقم (585)، وبنحوه في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، رقم (3273)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها (828). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها (831).

ثم اجتنب الصلاة حتى ترتفع الشمس وتبيضَّ؛ فإن الشمس تطلُع بين قرنَي شيطان، فإذا ابيضَّت، فالصلاة مقبولة مشهودة حتى ينتصف النهار، فإذا مالت، فالصلاة مقبولة محضورة حتى تصفرَّ الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان" (¬1). والجواب: أن هذه الأخبار كلها محمولة على صلاة التطوع؛ بدليل ما ذكرنا من حديث أنس - رضي الله عنه -، وحديث أنس خاص في الفائتة، وهذه الأخبار عامة في الفائتة، والنافلة، فيجب أن يقضى بالخاص على العام. فإن قيل: فأخبارنا خاصة في الأوقات الثلاثة، وخبركم عام في جمع الأوقات. قيل له: كل واحد من الخبرين خاص من وجه، وعام من وجه، فتساويا في الظاهر، ويجب طلبُ الترجيح لأحدهما على الآخر، والترجيح معنا من وجهين: أحدهما: أن خبرنا قد قضى على خبرهم في عصر يومه، فيجب أن يقضى عليه في موضع الخلاف. الثاني: أن تخصيص الصلاة أولى من تخصيص الوقت؛ لأن المقصود هو الصلاة. واحتج: بأن كل وقت نُهي عن أداء التنفل فيه لأجل الوقت، نُهي عن قضاء الفوائت فيه، أصله: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: إسلام عمرو بن عبسة، رقم (832).

ولا يلزم عليه عصرُ يومه؛ لأنه غير فائت، ولا يلزمه عليه بعد صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لم ينه عن النفل فيهما لأجل الوقت، بل لأداء فرض الوقت، ألا ترى أن له يتنفل قبل أن يصلي الفرض؟ والجواب: أن المنع من التطوع في هذا الوقت لا يدل على المنع من الفرض، كما نقول: بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، وكما قالوا: في عصر يومه عند غروب الشمس يجوز، وإن لم يجز التطوع به، كذلك في مسألتنا لا يمتنع أداء القضاء في هذه الأوقات، وإن لم يجز أداء النفل فيها، وبهذا المعنى يفارق الصوم؛ لأنه ليس من جنسه ما يجوز فعله في الوقت المنهي عنه، وهو يوم الفطر، وأيام التشريق، ومن جنس الفرض ما يجوز فعله في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وهو ما ذكرنا، فبان الفرق بينهما، وعلى أن مهنَّا قال (¬1): سألت أحمد - رحمه الله -: عن رجل كان عليه صومُ يومٍ من رمضان، فصام يومَ الفطر؟ فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الفطر (¬2)، فقلت: ترى عليه إعادة ذلك اليوم؟ قال: إن صام، لم يضره. ولم يقل: عليه إعادة، فظاهر هذا: أنه يعتد (¬3) ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (5/ 108)، وشرح الزركشي (2/ 633)، والإنصاف (7/ 542). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الفطر، رقم (1991)، ومسلم في كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، رقم (827). (¬3) في الأصل: يعيد.

73 - مسألة: فإن نذر صلاة مطلقة، أو في وقت، وفات الوقت

بالقضاء في يوم العيد، وإن كان منهيًا عنه، والوجه فيها: أنها عبادة يصح قضاؤها في غير الوقت المنهي عنه، فصح في الوقت المنهي عنه. دليله: الصلاة، والله أعلم. * * * 73 - مَسْألَة: فإن نذر صلاة مطلقة، أو في وقت، وفات الوقت: فقياسُ المذهب: أنه يجوز فعلُها في الأوقات المنهي عن الصلاة [فيها]؛ لأن أحمد - رحمه الله - قد أجاز صيام النذر في أيام التشريق في إحدى الروايتين، مع تأكيد الصيام، فقال في رواية صالح (¬1): في رجل نذر أن يصوم سنة، فصام أيام التشريق: أرجو أن لا يكون به بأس، ولو أفطر، وكفّر، رجوت أن يكون ذلك مذهبًا؛ فقد أجاز صومها عن النذر، فكذلك في الصلاة. وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). وقال أبو حنيفة: لا يجوز فعلُها في الأوقات الثلاثة: حين طلوع الشمس، وحين قيامها، وحين غروبها، كما لا يجوز قضاء الفوائت ¬

_ (¬1) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: الفروع (2/ 416)، وفي الروايتين (1/ 265) نسبها لعبد الله بن الإمام أحمد - رحمهما الله -. (¬2) ينظر: نهاية المطلب (2/ 342)، والمجموع (4/ 61).

عنده، ولا يجوز فعلُها في الوقتين اللذين (¬1) يجوز فيهما قضاء الفوائت عنده، وهي: بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر (¬2)، وفرق بينها وبين الفوائت، فقال: الفوائت وجبت عليه بالشرع، وليس كذلك المنذورة، ولأن سبب وجوبها من جهته، فهو يجري مجرى النوافل، سبب وجوبها من جهته؛ لأنها تجب بالدخول فيها عنده، كما أنه لا يجوز فعل النوافل في هذه الأوقات، كذلك المنذورة. دليلنا: أنه صلاة واجبة، فلا يصح من فعلها صلاة الصبح وصلاة العصر (¬3)، دليله: صلاة الجنازة، وقضاء فريضة فائتة، ويبين صحة هذا: أن صلاة الجنازة يسقط وجوبها عنه بفعل غيره؛ لأنها فرض على الكفاية، إذا قام بها قوم، سقط عن الباقين، وصلاة النذر لا تسقط عنه بفعل غيره، فإذا جاز أداء صلاة الجنازة، فأولى أن تجوز المنذورة؛ لأنه وقت يجوز فيه قضاء فريضة فائتة، فجاز فعل صلاة منذورة فيه كغيره من الأوقات. فأما قوله: إن الفوائت تجب لا بفعله، وهذه تجب بفعله، فهو كالنوافل، فعلَّة الأصل والفرع منتقضة، أما علة الأصل، فتبطل بركعتي الطواف، فإنهما واجبتان عنده، ووجوبهما من جهة الله تعالى، إلا أن ¬

_ (¬1) في الأصل: التي. (¬2) ينظر: المبسوط (1/ 305)، والهداية (1/ 42). وذهب الإمام مالك إلى المنع من إيفاء النذر باداء الصلاة في أوقات النهي. ينظر: المدونة (1/ 214)، والفواكة الدواني (1/ 641). (¬3) كذا في الأصل.

74 - مسألة: لا يجوز فعل النوافل التي لا سبب لها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

إيجاب الحج من جهة الله تعالى، والطواف من فرضه، وركعتا الطواف إذا كانتا واجبتين، فيجب أن يكون وقتهما من عند الله، وأما علة الفرع: فإنها تنتقض بسجود التلاوة، فإن وجوبه متعلق بسبب هو تلاوة القرآن، ومع هذا، فإنه لا يكره بعد الصلاتين، ويجوز فعلها عنده. فإن قيل: سجود التلاوة لا يتعلق وجوبه بالتلاوة؛ لأن المستمع يجب عليه أن يسجد، كما يجب على القارئ. قيل: الاستماع إلى القارئ فعل من جهته، فلا بد من التلاوة، ومن الاستماع إليه، فإنه لا يمكن أن يقال: إنه لا يتعلق وجوبه بالتلاوة؛ لأن السجود مضاف إليها. فيقال: سجود التلاوة، وهذا يدل على أنها سبب له، وأما صلاة التطوع، فلا تجب عندنا بالدخول فيها، والله أعلم. * * * 74 - مَسْألَة: لا يجوز فعل النوافل التي لا سبب لها في الأوقات المنهيِّ عن الصلاة فيها (¬1): واختلفت الرواية في التي لها سبب؛ مثل: تحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وقضاء الفوائت الراتبة؛ مثل: الوتر، وركعتي الفجر، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) ينظر: الجامع الصغير ص 49، والمغني (2/ 527).

فروى عنه مهنَّا (¬1): في سجود التلاوة بعد صلاة الفجر: يجوز. وكذلك نقل عنه إسماعيل بن سعيد (1): جواز صلاة الخسوف في هذه الأوقات. وكذلك نقل المروذي عنه (1): في الوتر يقضيها بعد طلوع الفجر، وكذلك نقل الأثرم (¬2)، وأحمد بن الحسن (¬3) الترمذي (¬4): يصلي ركعتي الفجر إذا طلعت الشمس، وإن صلاها بعد ما يفرغ من صلاة الغداة، فقد جاء فيه، ويجزئه، وظاهر هذا كله يقتضي جواز فعلها في الأوقات المنهي عنها، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬5). وروى عنه الأثرم (¬6): سجود التلاوة لا يسجدها بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر، وكذا نقل بكر بن محمد عن أبيه عنه (¬7): لا يصلي ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 160). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 160)، والمغني (2/ 529). (¬3) في الأصل: الحسين، وهو خطأ. (¬4) لم أقف على روايته، وينظر: الروايتين (1/ 161). وأحمد هو: ابن الحسن بن جنيدب الترمذي، أبو الحسن، قال الذهبي عنه: (الإمام الحافظ المجود الفقيه)، له مسائل كثيرة عن الإمام أحمد، توفي بعد سنة 242 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 76)، وتهذيب الكمال (1/ 290)، وسير أعلام النبلاء (12/ 156). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 274)، والمجموع (4/ 57). (¬6) ينظر: الروايتين (1/ 161). (¬7) ينظر: الروايتين (1/ 160).

الكسوف بعد العصر، وكذلك نقل الميموني عنه (¬1): أن ركعتي الفجر إذا فاتت لا تُقضى حتى تطلع الشمس، وكذلك نقل المروذي عنه (¬2): في تحية المسجد: يصلي إلا أن يكون وقتًا لا تجوز فيه الصلاة، وظاهر هذا كله المنعُ، وهو قول أبي حنيفة (¬3)، ومالك (¬4) - رحمهما الله -. والدلالة عليه: ما تقدم (¬5) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتحرى أحدُكم فيصلَّي عند طلوع الشمس، وعند غروبها؛ فإنها تطلع بين قرنَي شيطان". وعن عقبةَ بن عامر - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلِّي في ثلاث ساعات، وأن نقبر فيهن موتانا: عند طلوع الشمس، وعند الزوال، وعند الغروب" (¬6). وعن عمرو بن عَبَسَة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! هل في [ساعات] الليل والنهار ساعة يُنهى عن الصلاة فيها؟ فقال: "أما الليل، فالصلاة فيه مقبولة مشهودة حتى تصلي الفجر، ........................... ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: الروايتين (1/ 161)، وفتح الباري لابن رجب (3/ 321). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 160 و 161). (¬3) ينظر: مختصر الطحاوي ص 24، والمبسوط (1/ 305). (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 287)، والكافي ص 36. (¬5) في (2/ 96). (¬6) مضى تخريجه في (2/ 96).

ثم اجتنب الصلاة حتى (¬1) ترتفع الشمس؛ فإن الشمس تطلع بين قرنَي شيطان، فإذا ابيضت، فالصلاة مقبولة مشهودة حتى ينتصف النهار، فإذا مالت، فالصلاة مقبولة محضورة حتى تصفر الشمس؛ فإنها تغرُب بين قرنَي شيطان". وروى أبو سعيد، ومعاذ بن عفراء - رضي الله عنهما - (¬2)، [وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -] (¬3) قال: حدثني رجال مرضيّون، وأرضاهم عندي عمرُ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب" (¬4)، ................................................ ¬

_ (¬1) في الأصل: ثم. (¬2) كذا في الأصل، ولعل ثمة سقطًا، هو لفظ: (نحوه)، فتكون الجملة: وروى أبو سعيد، ومعاذ بن عفراء - رضي الله عنهما - نحوه. وحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، رقم (586)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (827)، وحديث معاذ بن عفراء - رضي الله عنه - أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (17926)، والنسائي في كتاب: المواقيت، باب: من أدرك ركعتين من العصر، رقم (518)، وإسناده ضعيف، قاله الألباني؛ كما في ضعيف سنن النسائي. (¬3) إضافة لا بد منها، ففي الأصل: وروى أبو سعيد، ومعاذ بن عفراء - رضي الله عنهما - قال: حدثني ... ، ولا يستقيم إلا بالمثبت، والإضافة من صحيح البخاري. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، رقم (581)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: =

فهذه الأخبار تدل على العموم (¬1) على المنع؛ ولأنها نوع نافلة، فلم يجز أداؤها في هذه الأوقات، دليله: المبتدأة، ولا يلزم عليه قضاء الفوائت؛ لقولنا: نافلة، وكذلك لا يلزم صلاة الجنازة بعد الفجر، وبعد العصر؛ لأنها واجبة في الجملة، ولا يلزم عليه ركعتا الطواف، وإعادة الصلاة في جماعة؛ لأن القياس لنوع النافلة لها سبب، فلا يلزم عليه أعيان المسائل. وإن شئت قلت: ما له سبب أحد نوعي صلاة النافلة، فجاز أن يؤثر في منعه النهي لأجل الوقت، دليله: النوع الثاني، وهو: ما لا سبب له، ولا يلزم عليه ركعتا الطواف، وإعادة الصلاة في جماعة؛ لأننا عللنا لجملة النوع، وعلقنا الحكم على الجواز، فلا يلزم عليه أعيان المسائل، ولأنه وقت يكره فيه فعلُ النافلة التي لا سبب لها، فجاز أن تكره النافلة التي لها سبب من جنسها، أصله: الصوم في يوم النحر، نمنع من صوم التطوع الذي لا سبب له، ونمنع من الصوم الذي له سبب؛ مثل: يوم الاثنين والخميس إذا صادف يوم العيد، فإنه لا يُصام، وإن كان مندوبًا إلى صيامه، ولا يلزم عليه ركعتا الطواف، وإعادة الصلاة في جماعة؛ لأن التعليل للجواز، وكذلك إذا دخل والإمام يخطب. فإن قيل: يوم النحر لا يجوز أن يُصام (¬2) ..................... ¬

_ = الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (826). (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: تدل بالعموم على المنع. (¬2) في الأصل: يصاف.

فيه صوم واجب (¬1) من نذر أو قضاء، كذلك لا يجوز أن ينفل (¬2)، وليس كذلك هذا الوقت؛ لأنه يجوز أن يصلي فيه صلاة واجبة، فجاز أن يصلي غير الواجبة. قيل: ليس إذا جاز فعلُ الواجب جاز فعلُ النفل؛ بدليل: النوافل التي لا سبب لها، على أن مهنا (¬3) قد نقل عن أحمد - رحمه الله -: فيمن عليه قضاء من رمضان، فصام يوم العيد، لم يضره، ولم يرد عليه إعادة، وهذا يدل على أنه يجوز أن يصام فيه صوم واجب (¬4). واحتج المخالف: بما روى [جابر بن] (¬5) يزيد (¬6) بن الأسود عن أبيه - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح في مسجد الخَيْف، فرأى رجلين لم يصليا معه، فقال: "عليّ بهما"، فأُتي بهما ترعد فَرائِصُهما، فقال: "ألستما (¬7) مسلمين؟ "، قالا: نعم، قال: "فما منعكما أن تصليا معنا؟ "، قالا: يا رسول الله! كنا قد صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما ¬

_ (¬1) في الأصل: صومًا واجبًا. (¬2) هكذا في الأصل. (¬3) مضت روايته في (2/ 98). (¬4) في الأصل: صومًا واجبًا. (¬5) ساقطة من الأصل، والتصويب من سنن أبي داود - رحمه الله -. (¬6) في الأصل: بريد. (¬7) في الأصل: (لستما)، والتصويب من سنن البيهقي، كتاب: الصلاة، باب: الرجل يصلي وحده، رقم (3640).

في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم؛ فإنها لكم نافلة" (¬1). والجواب: أن هذا الخبر وارد في إعادة الصلاة في جماعة، ونحن نقول بموجبه في هذه الصلاة، ولا يلزم الاحتجاج به في غيره من النوافل. فإن قيل: إذا جاز فعل هذه النافلة، جاز فعل غيرها؛ لأن أحدًا لم يفرق. قيل له: ليس الأمر على هذا؛ لأننا نحن نفرق، ونجيز هذه النافلة، وإن لم يجز غيرها. فإن قيل: ففي الخبر تنبيه؛ لأنه إذا دل على جواز هذه النافلة، دل على جواز غيرها من النوافل. قيل له: ليس في هذا تنبيه على غيرها من النوافل؛ لأن هذه النافلة آكد، ألا ترى أنها استُحِب فيها الجماعة، ولأن من الناس من قال: إنها فرضه، ولأن في تركها إلحاقَ تهمة به، وأنه لا يرى الجماعة، وإلحاق التهمة بالإمام، وأنه ممن لا يرى الصلاة معه؟ وهذه المعاني كلها معدومة في غيرها، فلا يكون جواز فعلها دلالة على غيرها. وقد أجاب عن هذا الخبر قوم بجوابين: أحدهما: أن قوله: "فصليا معهم" معناه: في غير هذين الوقتين، وهذا لا يصح؛ لأن الخبر ورد على سبب، وهو صلاة الفجر، ولا بد أن يكون للسبب حظ في الخطاب. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 255).

والجواب الثاني: أن هذا منسوخ بخبر النهي، وهذا أيضًا (¬1)؛ لأنه متأخر؛ لأنه كان في حجة الوداع، ولأنه لا يجوز حمله على النسخ مع إمكان الجمع بينهما. واحتج: بما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة الفجر، فرأى قيسًا يصلي، فلما فرغ، قال له: "ما هذه الصلاة؟ "، قال: ركعتا الفجر فلم ينكر عليه (¬2). والجواب: أن ليس معنى أن قيسًا كان صلى الفجر، فلا يلزمنا. فإن قيل: روي عن قيس بن قَهد (¬3) - رضي الله عنه -: أنه قال: صليت مع ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفيه سقط، وتتمة الكلام - فيما يظهر - هو: وهذا أيضًا لا يصح. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من فاتته متى يقضيها؟ رقم (1267)، والترمذي في كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما جاء فيمن تفوته الركعتان قبل الفجر يصليهما بعد صلاة الصبح، رقم (422)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر متى يقضيهما؟ رقم (1154)، ومال الإمام أحمد - رحمه الله - إلى أنه ليس بمتصل، كما في مسائل أي داود رقم (1881)، ونقل ابن رجب في الفتح (3/ 318) عنه تضعيفه للحديث، قال الترمذي بعد إخراجه للحديث: (وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل)، وقال النووي في المجموع (4/ 57): (إسناده ضعيف فيه انقطاع ... وكيف كان، فمتن الحديث ضعيف عند أهل الحديث). (¬3) في الأصل: فهد، والصواب المثبت، وذكر ابن حجر: أن قهدًا لقب عمرو =

النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح، فلما فرغت، قمت وصليت ركعتي الصبح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟ "، فقال: ركعتا الصبح، فلم ينكر عليه. قيل: لا نعرف هذا، ولو ثبت، احتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أنه صلى معه صلاة الصبح، وظن أنه لم يدرك معه الفرض، وجاء بعد الفراغ من الصلاة. وقد أجاب أبو عبد الله بن بطة (¬1) عن هذا بأجوبة في النهي عن صلاة النافلة بعد العصر والفجر، فذكر إسناده: حماد بن سلمة عن قيس بن سعد (¬2)، عن عطاء - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هاتان الركعتان؟ "، فقال له: لم أكن صليتهما، فسكت عنه، وعطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسَل، والمرسل عندهم ليس بحجة. ورواه محمد بن إبراهيم بن الحارث (¬3) التيمي عن قيس جد سعد، قال: انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي ركعتين بعد الصبح، فقال: "ما هاتان ¬

_ = والد قيس. ينظر: الإصابة (9/ 143)، والتلخيص (2/ 527)، والحديث مضى تخريجه في الحاشية الماضية. (¬1) مضت ترجمته، ولم أقف على ما نقله المؤلف عنه. (¬2) المكي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 119 هـ. ينظر: التقريب ص 511. (¬3) في الأصل: الحرث. ومحمد هو: ابن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، أبو عبد الله المدني، قال ابن حجر: (ثقة له أفراد)، توفي سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 521.

الركعتان يا قيس؟ "، فقلت: يا رسول الله! لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان، فسكت، ومحمد بن إبراهيم ضعيف (¬1)، وهو مرسل. سمعتُ أبا حفص عمر بنَ محمد بن رجاء (¬2) يقول: سمعت أبا نصر بنَ أبي عصمةَ (¬3) يقول: نا أبو إسماعيل محمدُ بن إسماعيل ¬

_ (¬1) هذا محل تأمل! فإن محمدًا روى له الجماعة، كما في تهذيب الكمال (24/ 301)، فلعل ثمة نقصًا يبينه ما في التحقيق لابن الجوزي، حيث بيّن أن الضعيف هو الراوي عن محمد بن إبراهيم، وهو: سعد بن سعيد، ضعّفه الإمام أحمد - رحمه الله -، وغيره، على أن رواية محمد عن قيس مرسلة، فلم يسمع منه، قاله الترمذي. ينظر: الجامع للترمذي ص 115، والتحقيق (3/ 263). (¬2) أبو حفص العكبري، قال الخطيب البغدادي عنه: (كان عبدًا صالحًا دينًا صدوقًا)، حدث عن جماعة، منهم: ابن أبي عصمة، توفي سنة 339 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (11/ 239)، وطبقات الحنابلة (3/ 106). (¬3) هو: عصمة بن أبي عصمة العكبري، قال الخلال: (كان صالحًا، صحب أبا عبد الله قديمًا إلى أن مات)، حدث عنه جماعة، منهم: أبو حفص عمر بن رجاء، توفي سنة 244 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 174)، والمقصد الأرشد (2/ 282). تنبيه: أظن - وبعض الظن ليس بإثم -: أن في تاريخ وفاته خطأ؛ إذ أن عمر بن رجاء توفي سنة 339 هـ، وهو الراوي عن ابن أبي عصمة المتوفى سنة 244 هـ، وهذا فيه بُعدٌ، لا سيما إذا كان ابن أبي عصمة حدّث عن أبي إسماعيل الترمذي المتوفى سنة 280 هـ. وكنت أظن أن ابن أبي عصمة الذي ترجم له ابن أبي يعلى في الطبقات مختلف =

الترمذي (¬1) يومًا بحديث قيس بن عمرو هذا في مسجدنا بعكبر، ثم قال لنا بعَقِبِه: إن قيس بن عمرو كان يقرُّ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنفاق (¬2)، ومحمد بن إبراهيم ليس بحجة، ولا ثقة في الحديث، وحديثه هذا مرسَل. وجواب آخر: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الإنكار عليه غيظًا؛ ليكون السكوت عنه أكثر، أو أنه كان من المنافقين، يبين صحة هذا: ما حكيناه عن الترمذي، ويعضده: ما بلغني عن محمد بن عمر (¬3) الواقدي (¬4) في ¬

_ = عمن في السند؛ حيث كنّاه في الطبقات بأبي طالب، وهنا بأبي نصر، لكن ضعف هذا الظن؛ لأن صاحب الطبقات ذكر في ترجمة ابن أبي عصمة: أن ممن حدّث عنه: أبا حفص عمر بن رجاء، وفي ترجمة عمر بن رجاء ذكر أنه حدّث عن: عصمة بن أبي عصمة. ينظر: الطبقات (2/ 176 و 3/ 107). (¬1) ابن يوسف السلمي، أبو إسماعيل الترمذي، قال الخلال: (صاحبنا، وقد سمعنا منه حديثا كثيرًا، وكان عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حسان ... وهو رجل معروف، ثقة، كثير العلم)، توفي سنة 280 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 260)، وتهذيب الكمال (24/ 489). (¬2) أشار إلى ذلك ابنُ هشام في السيرة النبوية (2/ 163) في قصة إخراج المنافقين من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: (وكان قيس غلامًا شابًا، وكان لا يُعلم في المنافقين شابٌّ غيرُه)، قال ابن حجر: (وعدَّ الواقدي قيس بن عمرو بن سهل في المنافقين، فلعل ذلك كان منه في أول الأمر، وقد بقي في الإسلام دهرًا، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). ينظر: الإصابة (9/ 135). (¬3) في الأصل: عمير. (¬4) هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، الواقدي، المدني، قال ابن حجر: =

تسمية من كان يحضر صلاة الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مخافَة أن يلحقه الوعيد بتحريق بيته، ومن يعرفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيماهم، وفي لحن القول، فذكر جماعة، قال فيهم: وقيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة بن الحارث (¬1) الذي ركع بعد صلاة الفجر، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: ركعتا الفجر لم أكن صليتهما، فسكت عنه. ويبين صحة هذا: ما حدثني به (¬2) أبو القاسم حفص بن عمر (¬3) بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صليت الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقمت أصلي الركعتين، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أتصلي الفجر أربعًا؟ ! " (¬4). ¬

_ = (متروك مع سعة علمه)، توفي سنة 207 هـ. ينظر: التقريب ص 555. ولم أقف على كلامه هذا، إلا ما نقله ابن حجر في الإصابة (9/ 135). (¬1) في الأصل: الحرب. (¬2) ما زال الحديث لعبيد الله بن بطة العكبري. (¬3) الأَردُبِيلي، قال الذهبي: (الإمام الحافظ المفيد)، توفي سنة 339 هـ. ينظر: التدوين في أخبار قزوين (2/ 466)، وسير أعلام النبلاء (15/ 433). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: صلاة التطوع، رقم (1154)، وقال: (حديث صحيح على شرط مسلم)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: كراهية الاشتغال بهما بعد ما أقيمت الصلاة، رقم (4545)، وفي سنده صالح بن رستم، أبو عامر الخزاز، قال ابن حجر: (صدوق كثير الخطأ). ينظر: التقريب ص 277، وينظر: فتح الباري لابن رجب (3/ 321)، وبنحو الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، رقم (711) من حديث ابن بحينة - رضي الله عنه -.

وجواب ثالث: أنه لو حمله متأول على أنه كان ذلك من فعل قيس قبل النهي، لأشبه (¬1)؛ لأن النهي لا يكاد أن يكون إلا عن شيء قد كان يفعل ظاهرًا منتشرًا. واحتج: بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي بعد العصر إلا صلى ركعتين" (¬2). والجواب: أنه حديث مضطرب؛ وذلك أن أحمد - رحمه الله - قد روى في المسند (¬3) عن محمد بن جعفر (¬4) قال: نا شعبة عن يزيد بن أبي زياد (¬5) قال: سألت عبد الله بن الحارث (¬6) عن الركعتين بعد العصر؟ فقال: كنا عند معاوية، فحدَّث ابن الزبير عن عائشة - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ¬

_ (¬1) أي: لكان أشبه. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت وغيرها، رقم (593)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، رقم (835). (¬3) رقم (26651). (¬4) هو: غندر، وقد مضت ترجمته. (¬5) الهاشمي مولاهم، الكوفي، قال ابن حجر: (ضعيف، كبر فتغيّر، وصار يتلقن، وكان شيعيًا)، توفي سنة 136 هـ. ينظر: التقريب ص 673. (¬6) في الأصل: الحرب، والتصويب من المسند. وعبد الله هو: ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، أبو محمد المدني، أجمعوا على ثقته، توفي سنة 79 هـ، وقيل: 84 هـ. ينظر: التقريب ص 311.

يصليهما، فأرسل معاوية إلى عائشة - رضي الله عنهما - وأنا فيهم، فسألناها، فقالت: لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن حدثتني أم سلمة - رضي الله عنها -، فسألناها (¬1)، فحدَّثت أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، ثم أُتي بشيء، فجعل يقسمه حتى حضرت صلاة العصر، ثم قام فصلى العصر، ثم صلى بعدها ركعتين، فلما صلاهما (¬2)، قال: "هاتان الركعتان كنتُ أُصلِّيهما بعد الظهر"، قالت أم سلمة: ولقد حدَّثتُها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها (¬3)، قال: فأتيتُ معاوية، فأخبرته بذلك، فقال ابن الزبير: أليس قد صلاهما؟ لا أزال أصليهما، فقال له معاوية: إنك لمخالف، لا تزال تحب الخلاف ما بقيتَ (¬4). فهذا يدل على اضطراب الحديث؛ لأنه روي في بعض الأخبار: أنها قالت: ما دخل بيتي قط بعد العصر إلا صلى ركعتين (¬5)، وفي بعضها: أنها أحالت على أم سلمة (¬6)، وعلى أنه لو صح ذلك، احتمل أن يكون ¬

_ (¬1) في المسند: فسألتُها. (¬2) في المسند: صلاها. (¬3) في المسند: عنهما. (¬4) في سنده ابن أبي زياد، ضعيف لا يحتج به. ينظر: فتح الباري لابن رجب (3/ 301). (¬5) مضى تخريجه في (2/ 113). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب: السهو، باب: إذا كُلِّم وهو يصلي فأشار بيده، رقم (1233)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، رقم (834).

النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصًا بوجوب الركعتين، وجائز عندنا فعل الواجب بعد العصر. وما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - دلالة لنا؛ لأنها قالت: ولقد حدثتها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، وهذا يدل على النهي عن الصلاة بعد العصر. وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬1) عن يزيد (¬2) قال: نا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس (¬3)، عن ذكوان (¬4)، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر، ثم دخل بيتي، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله! لم تكن تصليها، فقال: "قدم عليَّ مال، فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن"، قلت: يا رسول الله! أفنقضيهما إذا فاتتنا؟ قال: "لا" (¬5). وهذا يدل على النهي عن الصلاة بعد العصر، وأنه كان مخصوصًا ¬

_ (¬1) رقم (26678). (¬2) هو: ابن هارون، مضت ترجمته. (¬3) الحارثي البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي بعد سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 69. (¬4) في الأصل: ذكران. وذكوان هو: أبو صالح السمان، مضت ترجمته. (¬5) أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: قضاء الفوائت، رقم (2653)، قال ابن رجب: (إسناده جيد). ينظر: فتح الباري (3/ 305).

بذلك، على أنه في أخبارنا حظر، وفي خبرهم إباحة، والحاظر أولى. وقد أجاب ابن بطة عن هذا الحديث بنحو ما أجبنا به، وإن كان مخصوصًا من وجهين: أحدهما: ما تقدم من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، وقولها: أفنصليهما إذا فاتتنا؟ قال: "لا". والثاني: حيث (¬1) يتنفّل بها من غير أن يكون لها سبب؛ لأنها أخبرت عن دوام فعله، وما لا سبب له لا يجوز له لا يجوز لغيره. وفي لفظ آخر بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال (¬2)، وبين من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {نَافِلَةً لَكَ}، فيكون ما يتنفل به غيره جبرانًا لفريضته، وتمامًا لنقصه، وما يتنفل به هو - صلى الله عليه وسلم - فضل له على مفترضه، وعلو في درجته، وكما خُصَّ - عليه السلام - بالموهوبة (¬3)، وبعدد الزوجات، وغير ذلك. واحتج: بما روى جبير بن مطعِم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يا بني ¬

_ (¬1) في الأصل: حديث. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من رخَّص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، رقم (1280)، وفي سنده محمد بن إسحاق: مدلّس، وقد عنعن، وقال الألباني عن الحديث: (منكر). ينظر: السلسلة الضعيفة رقم (945). (¬3) مستفاد من قوله تعالى في سورة الأحزاب، آية 50: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.

عبد مناف! من وليَ منكم من أمر الناس شيئًا، فلا يمنع أحدًا طاف بهذا البيت وصلى ساعة من ليل أو نهار" (¬1). والجواب: أن هذا محمول على ركعتي الطواف بما ذكرنا. فإن قيل: إذا دل على ركعتي الطواف، نبه بها على غيرها. قيل له: هذا لا يصح؛ لأن ركعتي الطواف تابعة للطواف، والطواف يجوز في جميع النهار، فجاز أيضًا ما هو تابعها، وهذا المعنى معدوم في بقية الصلوات، وهذا لا يلزم عليه السنن الراتبة؛ مثل: ركعتي الفجر تابعة للفجر، ولا يجوز فعلها في وقت الفجر، وهو حال طلوع الشمس، ولكن يقال: إن تلك آكدُ؛ بدليل: أن من الناس من قال: هي واجبة؛ ولأنها تختص ببقعة، ولذلك تأثير في الجواز، ولذلك قال أصحاب الشافعي - رضي الله عنهم -: يجوز التنفل بمكة في الأوقات المنهي عنه؛ لأنها تبع ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: الطواف بعد العصر، رقم (1894)، والترمذي في كتاب: الحج، باب: ما جاء في الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح لمن يطوف، رقم (868)، والنسائي في كتاب: مناسك الحج، باب: إباحة الطواف في كل الأوقات، رقم (2924)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، رقم (1254)، والحديث صححه الترمذي في جامعه، وابن حبان، وابن الملقن، قال البيهقي: (إسناده موصول). ينظر: صحيح ابن حبان رقم (1553)، ومعرفة السنن والآثار (3/ 432)، والبدر المنير (3/ 279).

لفروض الطواف، ونفله، فلما جاز متبوعه - مع كونه نفلًا - كذلك التبع (¬1). واحتج: بأنها صلاة لا سبب لها، فجاز فعلها في الأوقات المنهي [عنها] (¬2)، دليله: القضاء، والنذر، وصلاة الجنازة، وركعتا الطواف، وإعادة الصلاة في جماعة، وتحية المسجد والإمام يخطب، وصوم عرفة إذا صادف جمعة. والجواب: أن الفوائت، والنذر واجبات (¬3)، ولا يمنع أن يجوز الواجب، وإن لم يجز التطوع؛ بدليل: النوافل المبتدأة، وأما صلاة الجنازة، فلا تجوز في ثلاث ساعات: حين طلوع الشمس، وحين غروبها، وحين قيامها، وتجوز بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تأخذ في الغروب، وقد نص على هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬4) - وقد سئل عن الصلاة على الميت بعد العصر وبعد الصبح -، قال: نعم ما لم تطْفُل (¬5) الشمس للغروب، فإذا بدأ حاجب الشمس يغيب، ليس لك أن تصلي حتى تصلي المغرب، ثم تصلي عليها، وكذلك نقل أبو ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 273)، والمهذب (1/ 302). (¬2) ما بين قوسين ساقط من الأصل. (¬3) كذا في الأصل، ولعل الأصوب: واجبان. (¬4) في مسائله بنحوها رقم (945)، ورواها الكوسج في مسائله رقم (121). (¬5) طفلت الشمس؛ أي: همت بالوجوب، ودنت للغروب. ينظر: لسان العرب (طفل).

طالب (¬1) - وقد سأله عن الساعات التي تكره الصلاة فيها على الميت -، فقال: يصلَّى عليها، فإذا أرادت الغروب، لم يصلَّ (¬2) حتى تغرب. وإنما أجاز الصلاة بعد العصر، وبعد الفجر عليها (¬3)؛ لأنها صلاة واجبة، فهي كالنذر؛ ولأن هذين الوقتين يطول بقاؤهما، فيخشى على الميت، وليس كذلك حين طلوع الشمس وغروبها؛ لأنه لا يطول بقاؤهما، فلا يخشى على الميت، فلهذا لم يصلَّ عليها (¬4). ولأن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقبر فيهن موتانا، أو نصلي فيهن: حين تطلع الشمس، ونصف النهار، وحين تغرب الشمس (¬5). وأما إعادة الصلاة في جماعة، فهو جائز بعد الفجر، وبعد العصر، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة (¬6)، وذكرنا الفرق بين النافلة وبين غيرها، وهو أنه شرع لها الجماعة، ومن الناس من يقول: هي فرضه؛ ولأنه متى لم يصل معهم، لحقته تهمة في حقه، وتهمة في حق الإمام، وهذا معدوم في غيرها، ................................. ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وقد نقل نحوها أبو داود في مسائله رقم (1034 و 1035)، والكوسج في مسائله رقم (828). (¬2) في الأصل: يصلي. (¬3) أي: الجنازة. (¬4) في الأصل: عليهما. (¬5) مضى تخريجه في (2/ 96). (¬6) في (2/ 106).

وأما ركعتا (¬1) الطواف، فقد نص على جوازها في رواية عبد الله (¬2)، فقال: إذا طاف بعد العصر وبعد الفجر، فلا بأس أن يصلي ركعتين. واحتج: بأن حسن وحسين - رضي الله عنهما - طافا بعد العصر، وصليا (¬3)، و [رأى] ابن أبي مليكة ابن عباس (¬4) - رضي الله عنهم - طاف بالبيت بعد العصر، وصلى (¬5)، فقد نص على جواز ذلك، وقد ذكرنا المعنى في ذلك، وأنها مختلف في وجوبها، وأنها تختص ببقعة، وهذا المعنى معدوم في بقية النوافل، وقد روى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه طاف بعد العصر، وصلى ركعتين (¬6)، ..................................... ¬

_ (¬1) في الأصل: ركعتي. (¬2) في مسائله رقم (965)، وروى الكوسج نحوها في مسائله رقم (1544). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة رقم (13413 و 37599)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأمكنة دون بعض، رقم (4422)، واحتج به الإمام أحمد - رحمه الله - كما في مسائل عبد الله رقم (966). (¬4) في الأصل: وابن أبي مليكة وابن عباس - رضي الله عنهم -، والتصويب من سنن البيهقي. (¬5) أخرجه البيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأمكنة دون بعض، رقم (4423)، واحتج به الإمام أحمد - رحمه الله - كما في مسائل عبد الله رقم (966)، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن أبي أوفى: أنه رأى ابن عباس - رضي الله عنهما - ... وذكره. ينظر: المصنف رقم (9005)، والعلل ومعرفة الرجال (2/ 186)، رقم (1949). (¬6) لم أقف عليه من طريق حنظلة، وأخرجه أبو عوانة في مستخرجه رقم (2112) =

وبإسناده حنظلة [السدوسي] (¬1) قال: رأيت عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - يطوف بعد العصر، ويصلي (¬2)، وروى: أن خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، كانوا يطوفون بعد الصبح وبعد العصر، ويركعون بعدهما. وأما تحية المسجد في حال الخطبة، فإنما جازت؛ لأن المنع من الصلاة هناك لم يختص الصلاة، ألا ترى أنه يمنع من قراءة القرآن، ومن الكلام؟ وإذا كان كذلك، فهو أخف، والنهي ها هنا اختص الصلاة، فهو ¬

_ = عن عبد العزيز بن رُفيع قال: رأيت عبد الله بن الزبير يطوف بعد العصر، ويصلي ركعتين. ورجاله ثقات غير عبيدة بن حميد، قال ابن حجر: (صدوق نحوي ربما أخطأ). ينظر: التقريب ص 414. وينحوه أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (13418 و 37602) عن عطاء: أنه رأى ابن الزبير طاف بالبيت قبل صلاة الفجر، ثم صلى ركعتين قبل طلوع الشمس. (¬1) طمس في الأصل، والمثبت من الهامش. وحنظلة هو: أبو عبد الرحيم السدوسي، قال ابن حجر: (ضعيف). ينظر: التقريب ص 169. (¬2) لم أقف عليه من طريق حنظلة، وأخرجه أبو عوانة في مستخرجه رقم (2112) عن عبد العزيز بن رُفيع قال: رأيت عبد الله بن الزبير يطوف بعد العصر ويصلي ركعتين. ورجاله ثقات غير عبيدة بن حميد، قال ابن حجر: (صدوق نحوي ربما أخطأ). ينظر: التقريب ص 414. وبنحوه أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (13418 و 37602) عن عطاء: أنه رأى ابن الزبير طاف بالبيت قبل صلاة الفجر، ثم صلى ركعتين قبل طلوع الشمس.

آكد، ولأن القياس هناك يمنع أيضًا، ولكن تركناه لحديث سليك (¬1)، والكلامُ عليه يأتي. وأما صوم يوم عرفة إذا صادف يوم جمعة، وكان من عادته صيامه، فقد نص على جوازه، فقال في رواية الأثرم (¬2): في رجل كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فوقع فطره يوم الخميس، وصومه يوم الجمعة، وفطره يوم السبت، فصام يوم عرفة مفردًا، فهذا لم يتعمد صومه خاصة، إنما كره أن يتعمد الجمعة. وكذلك نقل أبو طالب (¬3): إذا كان يوم عرفة يوم جمعة، ولم يكن صام قبله يومًا (¬4)، يصوم يوم الجمعة. وكذلك قال في رواية أبي الحارث (¬5): ما أحب لرجل أن يعمد الحلوى واللحم بمكان النيروز (¬6)؛ لأنه من رأي الأعاجم، إلا من يوافق ذلك وقتًا كان يفعل ذلك. وإنما ¬

_ (¬1) في الأصل: شليك. (¬2) ينظر: المغني (4/ 427)، وزاد المعاد (1/ 416)، والفروع (8/ 374). (¬3) ينظر: الفروع (8/ 374). (¬4) في الأصل: يوم. (¬5) في الأصل: الحرث، ينظر: الفروع (8/ 374)، ونصها: (ما أحب لرجل أن يتعمد الحلواء واللحم لمكان النيروز؛ لأنه من (رأي) الأعاجم، إلا أن يوافق ذلك وقتًا كان يفعل هذا فيه، قال القاضي: إنما جاز ذلك؛ لأنه إنما منع من فضل النفقة ... ). وقد تصحفت في المطبوع (رأي) إلى (زي). (¬6) النيروز: عيد من أعياد الكفار. ينظر: المطلع على أبواب المقنع ص 155.

جاز ذلك؛ لأنه إنما منع من فضل النفقة في يوم النيروز؛ لئلا يؤدي إلى تعظيم ذلك اليوم، فإذا وافق عادة، لم يوجد ذلك، فلهذا جاز، ومثله ها هنا منع من صوم يوم الجمعة منفردًا، تشبيهًا بيوم العيد، فإذا صادف عادة، لم يوجد ذلك المعنى، ولا يلزم على هذا يومي العيد، وأيام التشريق أنها لا تصام، وإن وافق عادة؛ لأنها لا تقبل الصوم، ألا ترى أنه لا يصح فيها فرض ولا نفل، فهو كزمان الليل، والحيض، وليس كذلك يوم الجمعة؛ لأنه يقبل الصوم، وهو الفرض، ولأن الشرع قد ورد بأن الصوم إذا وافق عادة، جاز فيه، وإن كان الوقت منهيًا عن الصوم فيه؛ بدليل: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقدِّموا هلال رمضان بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه" رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - (¬1). واحتج: بأنه وقت لا يكره فيه قضاء الفوائت، والصلاة على الجنازة، وركعتا الطواف، فلا يكره فيه النوافل التي لها سبب، دليله: سائر الأوقات. والجواب: أنا نقول: وجب أن يستوي حكم التي لها سبب، والتي لا سبب لها؛ قياسًا على سائر الأوقات، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، رقم (1914)، ومسلم في كتاب: الصيام، باب: لا يتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، رقم (1082).

75 - مسألة: لا فرق بين مسجد مكة وبين سائر المساجد في امتناع أداء النوافل فيه في الأوقات الخمس سوى ركعتي الطواف

75 - مَسْألَة: لا فرق بين مسجد مكة وبين سائر المساجد في امتناع أداء النوافل فيه في الأوقات الخمس سوى ركعتي الطواف: نص عليه في رواية حنبل (¬1)، وصالح (¬2)، فقال: لا صلاة بعد العصر إلا فائتة، أو بمكة، إذا طاف، صلى بعد العصر، وبعد الفجر الركعتين، أو على جنازة إلى أن تطفل الشمس للغروب، وإذا ذكر فائتة. وقد أطلق القول في رواية حرب (¬3) - وقد سئل عن الصلاة بمكة -، فلم ير بها بأسًا، وكرهها بغير مكة جدًا، وإنما أراد بالصلاة بعد العصر بمكة: ركعتي الطواف. وقال أبو حنيفة (¬4) - رحمه الله -: هما سواء في ركعتي الطواف وغيرهما. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها من روايته، وبنحوها ذكر عبد الله في مسائله رقم (965)، والكوسج في مسائله رقم (121 و 1544)، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 183)، والمغني (2/ 535)، والفروع (2/ 415). (¬2) لم أقف عليها في مسائله، وينظر: مسائل الكوسج رقم (121 و 1544). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: الفروع (2/ 411). (¬4) في الأصل: وبه قال أبو حنيفة ... ، والصواب المثبت؛ لأن مذهب أبي حنيفة المنع من صلاة ركعتي الطواف مطلقًا في وقت النهي، وإليه ذهبت المالكية. ينظر: مختصر الطحاوي ص 24، ومختصر القدوري ص 84، والمعونة (1/ 175)، والكافي ص 37.

وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يجوز أداء النوافل كلها في جميع الأوقات في مسجد مكة (¬1). دليلنا: ما تقدم من الأخبار في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات من غير تخصيص مسجد (¬2)، ولأن الفساد من جهة الوقت أحد نوعي الفساد، فاستوى فيه المسجد الحرام، وغيره من المساجد. دليله: الفساد بعدم الشرائط من الطهارة، والستارة، وغير ذلك. واحتج المخالف: بما روى الشافعي - رضي الله عنه - (¬3) عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلُع الشمس، إلا بمكة ثلاثًا" (¬4). وروى جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يا بني عبد مناف! ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 273)، والبيان (2/ 359). (¬2) في (2/ 96). (¬3) لم أجده في مسند الشافعي، ولا في كتابه الأم، وقد رواه عن الشافعي بسنده تلميذُه المزني في مختصره ص 32. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (21462)، والدارقطني، باب: جواز النافلة عند البيت، رقم (1571)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأمكنة، رقم (4414) وقال: (هذا الحديث يُعدُّ في أفراد عبد الله بن المؤمل، وعبد الله بن المؤمل ضعيف ... ومجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر)، وضعّفه ابن الجوزي، والنووي، ونقل النووي تضعيف البيهقي له. ينظر: التحقيق (3/ 265)، والمجموع (4/ 60).

من وليَ منكم من أمر الناس شيئًا، فلا ينهي أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" (¬1). وروى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحدًا يطوف بالبيت ويصلي؛ فإنه لا صلاة بعد الصبح حتي تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتي تغرب الشمس، إلا عند هذا البيت يطوفون ويصلون" (¬2). والجواب: أن هذا كله محمول علي ركعتي الطواف؛ بدليل: ما ذكرنا من الأخبار، وعلى أنه قد قيل في قوله: "لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر إلا بمكة" معناه: ولا بمكة؛ كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] معناه: ولا خطأً. فإن قيل: لا يصح حمله: ولا بمكة؛ لأن الزجاج (¬3) قال: العرب ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 117). (¬2) أخرجه الدارقطني، باب: جواز النافلة عند البيت، رقم (1575)، وفي سنده رجاء بن الحارث، المكنى: بأبي سعيد المكي، ضعّفه ابن معين، وأشار لضعف الحديث: ابنُ حجر في الدراية (1/ 109). ينظر: الجرح والتعديل (3/ 501)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 373). (¬3) هو: أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن السّري الزجاج البغدادي، قال الذهبي عنه: (الإمام، نحوي زمانه)، له مصنفات عديدة، منها: معاني القرآن، والعروض، والنوادر، وغيرها، توفي سنة 311 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 360).

العرب تضع (إلا) بمعني الواو، و (إلا) بمعني (ولا) وأنشده: وكلُّ أخٍ مفارقُهُ أخوهُ ... لَعَمْرُو أَبيك إلَّا الفرقَدانِ (¬1) ومعناه: والفرقدان يفترقان أيضًا، فتكون (إلا) بمعني (الواو) فقط (¬2)، قال: وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} معناه: والذين ظلموا منهم، فلا تخشوهم، واخشوني (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} معناه: إلا أن يقتل خطأ، فكفارته (¬4)، ولا يجوز: ولا خطأ؛ لأنه لا يدخل في النهي. قيل له: فيكون معناه: إلا بمكة ومكة، كما قلت. واحتج: بأنها تتعلق بالبيت، فوجب أن يجوز فعلها فيه في جميع الأوقات؛ دليله: الطواف (¬5). والجواب: أن الطواف يختص بالمسجد الحرام، ولا يصح منه إلا فيه، فلهذا جاز فعله في جميع الأوقات، وما تنازعنا فيه أحد نوعي الفساد، فاستوى فيه المسجد الحرام وغيره؛ دليله: ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) مضى في (1/ 257). (¬2) مضى ذكرها في (1/ 257)، وينظر: جمهرة أشعار العرب (1/ 13)، ولسان العرب (إلا). (¬3) معاني القرآن (1/ 178). (¬4) معاني القرآن (2/ 53). (¬5) في الأصل: الطواب، والمثبت هو الصواب.

فصل

وإن قاسوا على ركعتي الطواف. والجواب عنه (¬1): أن ركعتي الطواف مختلَف في وجوبها، فلها مزية، والثاني: أن لها سببًا، وللسبب عند مخالفينا تأثير في الجواز، يجوز فيها الصلاة التي لها سبب، ولا يجوز فيها ما لا سبب له، ولأن تلك تابعة للطواف النفل والفرض، فلما جاز متبوعه في هذه الأوقات، جاز التبع، وليس كذلك النفل الذي له سبب؛ لأنها متبوعة في نفسها، فلم يجز في الوقت المنهي كالتي لا سبب لها. واحتج: بأن الطواف صلاة، وقد أبيح فعلُه في جميع الأوقات، كذلك الصلاة. والجواب: أن الصلاة التي تتبعه تجوز في سائر الأوقات، على أن الطواف ليس بصلاة في الحقيقة، ألا ترى أنه أبيح فيه الكلام، والأكل، وهو مبني على المبني، فهو كالسعي، وما اختلفنا فيه صلاة حقيقة، فلما لم يجز في هذه الأوقات في غيره من المساجد، كذلك في هذا المسجد. * فصل: والدلالة علي أبي حنيفة - رحمه الله - في جواز ركعتي الطواف: ما تقدم من الأخبار (¬2)، وكل وقت جاز فيه فعل ركعتي الطواف؛ دليله: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الأصوب أن يقال: فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن ركعتي الطواف ... (¬2) في (2/ 126).

76 - مسألة: لا يجوز أداء النوافل وقت الزوال في يوم الجمعة، ولا في سائر الأيام

سائر الأوقات، تبين صحة هذا: أن الركعتين تابعة للطواف، فلما جاز المتبوع، جاز التبع، وبهذا المعنى يفارق سائر النوافل؛ لأنها غير تابعة للطواف، والله أعلم. * * * 76 - مَسْألَة: لا يجوز أداء النوافل وقت الزوال في يوم الجمعة، ولا في سائر الأيام: نص عليه في رواية صالح (¬1)، وابن منصور (¬2)، وأبي طالب (¬3): وقد سأله: هل تكره الصلاة في نصف النهار في الشتاء، والصيف؟ قال: نعم، في الجمعة وغيرها. وبهذا قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، وينظر في المذهب: الهداية ص 93، والمغني (2/ 535)، والفروع (2/ 410)، والإنصاف (4/ 239). (¬2) في مسائله رقم (120 و 510 و 539)، والرواية التي ذكرها المؤلف هي نص رواية الكوسج. (¬3) لم أقف عليها، وقد نقل ابن هانئ في مسائله رقم (179) نحوها، ونقل ابن بدينا أن الإمام أحمد - رحمه الله - كان يمسك في يوم الجمعة عن الصلاة إذا انتصف النهار. ينظر: الطبقات (2/ 282). (¬4) ينظر: التجريد (2/ 789)، وتحفة الفقهاء (1/ 187).

وقال الشافعي - رحمه الله -: يجوز أداؤها في يوم الجمعة خاصة (¬1). دليلنا: ما روينا (¬2) من الأخبار في النهي عن الصلاة في وقت الزوال من غير تخصيص؛ ولأنه وقتٌ نُهِي عن التطوع فيه في غير يوم الجمعة، فوجب أن يكون منهيًا في يوم الجمعة، أصله: حال الغروب، وحال الطلوع. فإن قيل: من أصحابنا من قال: لا يجوز أداؤها في يوم الجمعة في جميع الأوقات. قيل: هذا قول يخالف إجماعًا تقدم، فلا نلتفت إليه، على أن المذهب: أن وقت الزوال مخصوص بذلك، وأنه خاص لمن حضر الجامع دون من لم يحضر، فيصح ما ذكرنا؛ ولأنه فعل صلاة نافلة في وقت الزوال لغير طواف، فوجب أن يكره؛ دليله: سائر الأيام (¬3). فإن قيل: الفرق بينه وبين سائر الأيام: أن الناس قد ندبوا إلى أن ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 398)، والبيان (2/ 358). أما المالكية، فليس عندهم أن هذا وقت نهي، لا في يوم الجمعة، ولا غيره من الأيام. ينظر: المدونة (1/ 107)، والكافي ص 36. (¬2) في (2/ 96، 105). (¬3) ينظر: الفروع (2/ 410)، وشرح الزركشي (2/ 55)، والإنصاف (4/ 236)، وينظر هذا القول عند الشافعية: نهاية المطلب (2/ 340)، وحلية العلماء (1/ 220).

يبكروا إلى الجمعة، ويتقربوا إلي الله تعالى بالصلاة، فلو أُمِروا (¬1) بأن يراعوا وقت الزوال، ويمتنعوا من الصلاة، لشقَّ عليهم، ولعل ذلك يخفى علي أكثرهم، ولاحتاجوا إلى أن يستظهروا، فيؤدي إلى أن يفوتهم بعض ما (¬2) ندبوا إليه من الصلاة، وربما غلبهم النوم أيضًا، فأدى إلى انتقاض طهارتهم، وفي تجديد الطهارة في ذلك الوقت مشقة غليظة، فإذا كان كذلك، أبيح لهم أن يصلوا إلى أن يخرج الإمام، وهذا المعنى معدوم في سائر الأيام. قيل له: الوقت الذي تزول فيه الشمس، وإن كان يخفى على أكثر الناس، فإن الامتناع فيه من الصلاة لا يتعذر؛ لأن كل أحد يعلم أنه قد قرب الوقت الذي تزول فيه الشمس، فيستظهر بترك الصلاة ساعة بمقدار ما يعلم أنها قد زالت، وحلت الصلاة، كما نقول في سائر الأيام. وقولهم: إن ذلك يؤدي إلى انتقاض طهارتهم، غلطٌ؛ لأنه ليس الغالب من أمر الناس في الجامع في ذلك الوقت الاشتغال بالصلاة؛ ولأنهم ينامون فيه. واحتج المخالف: بما روى الشافعي بإسناده (¬3) عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) في الأصل: أخدوا. (¬2) في الأصل: بعد ما، والمثبت هو الصواب. (¬3) في مسنده رقم (212)، وفي الأم (2/ 397) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أما حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، فلم أقف عليه عند الشافعي، وقد ذكره المزني في مختصره ص 32، وأسنده البيهقي في المعرفة عن أبي سعيد، وأبي =

الخدري - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة (¬1). والجواب: أن أخبارنا مشهورة متفق على استعمالها، وهذا الخبر مختلَف في استعماله، والمتفَق على استعماله يقضي على المختلَف في استعماله، وعلى أنه يجوز أن يقال: إن قوله: "إلا يوم الجمعة" معناه: ويوم الجمعة؛ كما ذكرنا فيما تقدم (¬2). واحتج من جهة النظر: بما ذكرنا من الفرق بين يوم الجمعة، وغيره، وقد أجبنا عنه. آخر الجزء الخامس عشر من أجزاء المصنف - رحمه الله -. * * * ¬

_ = هريرة، وقال: (رواية أبي هريرة، وأبي سعيد في إسنادهما من لا يحتج به). ينظر: المعرفة (3/ 438). (¬1) أخرجه البيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأيام دون بعض، رقم (4433) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال: (وروي في ذلك عن أبي سعيد الخدري ... )، وضعّفه ابن رجب. ينظر: الفتح (3/ 291). وأخرج نحوه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، رقم (1083) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -، وقال: (وهو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة). (¬2) في (2/ 131).

77 - مسألة: إذا طلع الفجر الثاني، حرمت النوافل سوى ركعتي الفجر

77 - مَسْألَة: إذا طلع الفجر الثاني، حرمت النوافل سوى ركعتي الفجر: نص عليه في رواية حرب (¬1)، فقال: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، وكذلك نقل أبو داود (¬2). خلافًا لأكثرهم في قولهم: لا تحرم النوافل إلا بعد صلاة الفجر (¬3). دليلنا: ما روى الدارقطني بإسناده (¬4) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ............................................ ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وبنحوها نقلها ابن رجب من رواية حرب في فتح الباري (3/ 337)، وينظر: الجامع الصغير ص 49، والمغني (2/ 525)، ومختصر ابن تميم (2/ 249)، والفروع (2/ 410)، والإنصاف (4/ 237). (¬2) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، ووجدت أنه نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه سئل عمن أصبح ولم يوتر؟ قال: يوتر ما لم يصلِّ الغداة، ما أقلّ ما اختلف الناس فيه! رقم المسألة (490). (¬3) عند الحنفية، والمالكية: يكره التنفل بعد طلوع الفجر. ينظر: مختصر القدوري ص 85، والهداية (1/ 42)، والمدونة (1/ 125)، والكافي ص 37. أما عند الشافعية، فوجهان، الأكثر علي عدم الكراهة؛ لأن وقت النهي يدخل بالدخول في صلاة الفجر، لا بطلوع الفجر، وهذا الذي صححه النووي - رحمه الله -. ينظر: المهذب (1/ 300)، والبيان (2/ 357)، والمجموع (4/ 56). (¬4) في سننه: كتاب: الصلاة، باب: النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر، رقم (965).

"لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين" (¬1). وروى الدارقطني بإسناده (¬2) عن يسار مولى ابن عمر (¬3) - رضي الله عنهما - قال: رآني ابن عمر أصلي، فحَصَبَني، وقال: يا يسار! كم صليتَ؟ قلت: لا أدري، قال: لا دَرَيْتَ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة، فتغيَّظَ علينا تغيُّظًا شديدًا، ثم قال: "يبلغ شاهدُكم غائبكم أنْ لا صلاةَ بعد الفجر إلا سجدتين" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4757)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7446)، ذكر ابن المنذر أن في إسناده مقالًا، ففي سنده عبد الرحمن الإفريقي، قال ابن حجر: (ضعيف في حفظه). ينظر: الأوسط (2/ 399)، والتلخيص (2/ 534)، والتقريب ص 362. (¬2) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين، رقم (1549). (¬3) هو: يسار المدني، قيل: يسار بن نمير، مولى لابن عمر - رضي الله عنهما -. قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: تهذيب الكمال (32/ 296)، والتقريب ص 679. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، رقم (1278)، والترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين"، رقم (419)، وقال: (حديث ابن عمر حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث قدامة بن موسى)، وابن ماجه، باب: من بلغ علمًا، رقم (235) بدون ذكره للشاهد من الحديث، قال النووي: (إسناده حسن، إلا أن فيه رجلًا مستورًا)، وقال ابن رجب: (له طرق متعددة عن ابن عمر)، وضعّف الحديث ابنُ حزم في المحلى (3/ 28).

وروى أبو حفص العكبري في كتابه بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طلع الفجر، فلا صلاة إلا ركعتي الفجر" (¬1). وروى أبو حفص البرمكي فيما خرجه عن زاذان (¬2) قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "لا صلاة بعد طلوع الفجر، وهما أدبار النجوم" (¬3). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين" (¬4). وعن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -: أنه رأي رجلًا صلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، فنهاه، فقال: أترى الله يعذبني على الصلاة؟ ! قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 249)، رقم (816)، قال في المجمع (2/ 218): (فيه إسماعيل بن قيس، وهو ضعيف). (¬2) أبو عمر الكندي، ويكنى بأبي عبد الله أيضًا، قال ابن حجر: (صدوق يرسل، وفيه شيعية)، توفي سنة 82 هـ. ينظر: التقريب ص 200. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ إلا عند السمرقندي في كتابه بحر العلوم (3/ 338) عن سعيد بن جبير، عن زاذان، عن عمر - رضي الله عنه -، ولم أقف على من روى عن سعيد، وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8846) عن زاذان عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنهما -، ورجاله ثقات ما عدا زاذان. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (7447)، وفي سنده حجاج بن أرطاة، مضت ترجمته، والإشارة لضعفه في (1/ 403). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4755)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من لم يصل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر، رقم (4445)، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (2/ 236).

ولأن صلاة الفجر لا تجمع بما قبلها، فيقْدُمها وقتٌ منهي عن الصلاة؛ كالظهر يتقدمها النهي حالَ قيام الشمس، ولأنه أحد طرفي النهار، فتعلق به النهي؛ دليله: آخر النهار، وحال الغروب؛ ولأن صلاة الفجر صلاة لا تُقصَر، فتقدمها وقت منهي عن الصلاة؛ كالمغرب؛ ولأن صلاة الفجر تفعل بين صلاتين، للفجر تأثير في إحداهما، وهي صلاة العشاء، يخرج وقتها بطلوعه، فيقدمها وقت منهي؛ دليله: صلاة الظهر تُفعل بين صلاتين للفجر تأثير في إحداهما، وهي صلاة الفجر، فخرج وقتها بطلوع الفجر (¬1)، ثم ثبت أنه يتقدمها وقت منهي عنه، وهو حال قيام الشمس، لذلك (¬2) الفجرُ جاز أن يتقدمها وقت منهي بعد الطلوع. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد صلاة الفجر" (¬3)، فنهى عن الصلاة بعد صلاة الفجر. والجواب: أنه محمول على وقت صلاة الفجر؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأنها صلاة لا يجوز التطوعُ بعدها، فجاز التطوع قبلها؛ كالعصر. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل صوابه: صلاة الظهر تفعل بين صلاتين، للظهر تأثير في إحداهما، وهي صلاة الفجر، فخرج وقتها بطلوع الشمس، ثم ثبت أنه يتقدمها وقت منهي عنه، وهو حال قيام الشمس، كذلك الفجر ... (¬2) كذا في الأصل. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، رقم (586)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (827) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

78 - مسألة: إذا دخل في صلاة الصبح، ثم طلعت الشمس، أتم صلاته، ولم تبطل بطلوع الشمس

والجواب: أن العصر تُجمع بما قبلها، فلهذا لم يتقدمها وقت منهي عن الصلاة فيه، وليس كذلك الفجر؛ فإنها لا تجمع بما قبلها، فتقدمها وقت منهي عنه. دليله: صلاة الظهر، والله أعلم. * * * 78 - مَسْألَة: إذا دخل في صلاة الصبح، ثم طلعت الشمس، أتمَّ صلاته، ولم تبطل بطلوع الشمس: نص على هذا في رواية عبد الله (¬1): فيمن صلى ركعة من صلاة الفجر، ثم طلعت الشمس في الثانية: يتم صلاته. واحتج: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك من صلاة الغداة ركعة" (¬2)، وكذلك نقل أبو طالب عنه (¬3): أنه قيل له: إنهم يقولون: إذا صلى ركعة ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (234). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الفجر ركعة، رقم (579)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك تلك الصلاة، رقم (608). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 184)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 270)، والمغني (2/ 30 و 516)، وفتح الباري لابن رجب (3/ 243).

قبل طلوع الشمس، فسدت صلاته؟ فقال: كيف يكون هذا؟ يجوز في أولها، ولا يجوز في آخرها. وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬1). وقال أبو حنيفة: تبطل صلاته (¬2). دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬3) قال: نا عبد الصمد قال: نا همام (¬4) قال: نا قتادة عن (¬5) النضر بن أنس (¬6) عن بشير بن نَهِيك (¬7)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى من الصبح ركعة، ثم طلعت الشمس، فليصل إليها أخرى" (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 165)، والحاوي (2/ 32). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: الكافي ص 35، ومواهب الجليل (2/ 45). (¬2) ينظر: التجريد (1/ 451)، والمبسوط (1/ 304). (¬3) رقم (10751). (¬4) ابن يحيى بن دينار العَوْذي، أبو عبد الله البصري، قال ابن حجر: (ثقة ربما وهم)، توفي سنة 164 هـ. ينظر: التقريب ص 643. (¬5) في الأصل: أبي النضر، والتصويب من المسند. (¬6) ابن مالك الأنصاري، أبو مالك البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي في سنة بضع ومئة. ينظر: التقريب ص 629. (¬7) السّدوسي، ويقال: السّلولي، أبو الشعثاء البصري، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 99. (¬8) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (986)، وصحح إسناده أبو حاتم. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 233)، رقم (228).

وروى أحمد (¬1) - فيما ذكره أبو بكر في كتابه - قال: نا بهز (¬2) قال: همام قال: نا قتادة عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال همام: وجدته في كتابي (¬3) عن بشير بن نهيك، ولا أظنه إلا عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك (¬4): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى ركعة من (¬5) الصبح، ثم طلعت الشمس، فليتم صلاته" (¬6)، وهذا نص. ولأنها صلاة صح الإحرامُ بها في وقتها، فلم تبطل بخروجه، كسائر الصلوات إذا خرج وقتها، ولا يلزم عليه الجمعة؛ لأنها لا تبطل بخروج وقتها، بل يُبنى عليها جمعة على قولنا؛ ولأن غروب الشمس يخرج به وقت العصر، كما أن طلوعها يخرج به وقت الصبح، ثم لو استفتح العصر، ثم غربت الشمس، لم تبطل صلاته، كذلك إذا استفتح الصبح، ثم طلعت الشمس، والعلة فيه: أن الصلاة إذا فات وقتها بمعنى ¬

_ (¬1) في المسند رقم (8056). (¬2) هو: بهز بن أسد العمِّيّ، أبو الأسود البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، مات بعد المئتين. ينظر: التقريب ص 103. (¬3) في الأصل: كتاب، والتصويب من المسند. (¬4) في المسند: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) في الأصل: [قبل]، والتصويب من المسند. (¬6) أخرجه الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: قضاء الصلاة بعد وقتها، رقم (1434)، وهو بمعنى الحديث الأول. ينظر: فتح الباري لابن رجب (3/ 245).

يحدث بالشمس، لم تبطل بحدوث ذلك المعنى؛ دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف: بما تقدم (¬1) من حديث عقبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الصلاة حين طلوع الشمس، والنهي يدل علي فساد المنهي عنه. والجواب: أن هذا عام في النوافل، وخبرنا خاص في الفرض، فهي أولى. واحتج: بأنه فَعَل ما يسمى صلاة حين طلوع الشمس، فلم يصح؛ كالنافلة. والجواب: أنها تبطل عندكم، سواء كان ما بقي قدرًا يسمى صلاة، أو لا يسمى، وهو دون الركعة، علي أنه ليس إذا لم يجز فعلُ النافلة في هذا الوقت، لم يجز إتمام الفريضة فيه، ألا ترى أنه يحرم النفل عند اصفرار الشمس، ولا يمنع ذلك إتمام الفرض؟ كذلك ها هنا. واحتج: بأنها عبادة يبطلها الحدث، فكان من جنسها ما يبطل بمضي الزمان؛ كالطهارة تبطل بانقضاء مدة المسح على الخفين. والجواب: أنا نشاركهم في الاحتجاج في الأصل، فنقول: لما كانت الصلاة عبادة تبطل بالحدث، فالشروع في الكامل من جنسها لا يبطل بمضي الوقت؛ قياسًا على الطهارة، وقد قيل: إن الصلاة لا تفسد بالحدث، وإنما تبطل الطهارة بالحدث، وبفساد الطهارة تبطل الصلاة. * * * ¬

_ (¬1) في (2/ 96).

79 - مسألة: النوافل المرتبة مع الفرائض إذا فاتت، فإنها تقضى

79 - مَسْألَة: النوافل المرتبة مع الفرائض إذا فاتت، فإنها تُقضى: نص على هذا في رواية المروذي (¬1)، فقال: ويقضي الوتر بعد طلوع الفجر، وكذلك نقل حرب عنه (¬2): فيمن نسي الركعتين قبل صلاة الفجر، فذكرهما بعد يوم أو يومين: يصليهما. وروى مهنا عنه (¬3): في رجل عليه قضاء صلوات: يعيد ركعتي الفجر، ولا يعيد الوتر. فظاهر هذا: أنه فرَّق بين الوتر، وبين ركعتي الفجر، وأسقط القضاء في الوتر، وكذلك نقل عبد الله عنه (¬4): أنه سئل ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 160). (¬2) لم أقف عليها، وروى نحوها الأثرم، والكوسج، وابن هانئ. ينظر: مسائل الكوسج رقم (275 و 302)، ومسائل ابن هانئ رقم (515 و 522)، والروايتين (1/ 160). (¬3) ينظر: الفروع (1/ 439)، والمبدع (1/ 356)، والإنصاف (3/ 187)، غير أن الذي في المطبوع من الإنصاف ذكر رواية مهنا: وأنه يقضي سنة الفجر، والوتر، وأظن أن ذلك خطأ لأمرين: 1 - أن سياق الكلام في الإنصاف يقتضي أن الرواية: يقضي سنة الفجر، ولا يقضي الوتر؛ لذكره التعليل بعدها، وأنه أقل استحبابًا من سنة الفجر. 2 - أن ما في التعليق الكبير هنا، والفروع، والمبدع، مخالف لما ورد في الإنصاف. (¬4) في مسائله رقم (437 و 438).

عمن (¬1) نسي الوتر حتى أصبح، هل عليه القضاء؟ قال: إن قضى، لم يضره، وما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى شيئًا من التطوع إلا ركعتي الفجر (¬2)، ويقال: إنه شغل عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما (¬3). والمذهب: أنه يقضي الوتر كما يقضي غيرها من النوافل المرتبة (¬4)، نص عليه في رواية المروذي في قضاء الوتر (¬5)، وكذلك نقل يوسف بن موسى، وأحمد بن الحسين (¬6) في الرجل يفجؤه الصبح ولم يوتر؟ قال: يوتر بواحدة (¬7)، وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة: في رجل فاتته صلوات: يعيد الوتر (¬8). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا فاتته دون الفرائض، فلا يقضيها، ¬

_ (¬1) في الأصل: (عن من). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة، رقم (680). (¬3) مضى تخريجه في (2/ 115). (¬4) ينظر: مختصر ابن تميم (2/ 196)، والفروع (1/ 439)، والإنصاف (3/ 187). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 160). (¬6) هو: أحمد بن الحسين بن حسان، من أهل سُرَّ مَنْ رأى، روى عن الإمام أحمد مسائل عديدة. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 80)، والمقصد الأرشد (2/ 89). (¬7) بدائع الفوائد (4/ 1500)، وينظر: المغني (2/ 600)، والفروع (2/ 361)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 199). (¬8) لم أقف عليها، وينظر: ما مضى.

وإن فاتته مع الفرائض، قضاها (¬1). وللشافعي - رضي الله عنه - قولان (¬2): أحدهما: مثلُ قولنا، وأنه يقضي. والثاني: لا يقضي، وهو قول مالك - رحمه الله - (¬3)، ولا فرق عندهما بين أن تفوت مع الفرائض، أو منفردة. دليلنا: ما روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يصلِّ ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس، فليصلِّهما". رواه ابن خزيمة في كتابه (¬4)، وابن المنذر (¬5)، وجابر بن المرجا ¬

_ (¬1) الذي وقفت عليه عند الحنفية: أنها لا تقضي إذا فاتت إلا سنة الفجر؛ فإنها تقضى إن فاتت مع الفريضة. ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 314)، والاختيار لتعليل المختار (1/ 90). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 287)، ونهاية المطلب (2/ 344)، والبيان (2/ 280). (¬3) ينظر: الإشراف (1/ 287)، والكافي ص 75. (¬4) الصحيح رقم (986، 1117)، ومضى تخريجه في (2/ 138). (¬5) لم أقف عليه عند ابن المنذر، وأخرجه أيضًا الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: قضاء الصلاة بعد وقتها، رقم (1436)، والحاكم في مستدركه، كتاب: الصلاة، باب: التأمين، رقم (1015)، وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين)، وبنحوه أخرجه الترمذي في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس، رقم (423).

الحافظ (¬1)، وهذا نص. فإن قيل: يحتمل أن يريد: إذا لم تصل ركعتي الفجر مع صلاة الفجر. قيل: لو كان المراد به: إذا فاتت مع الفرائض، لم يخصها بالذكر؛ لأنها تابعة، ولكان يخص الفرض بالذكر؛ لأنه المتبوع. وأيضًا [روى] (¬2) أبو بكر بإسناده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن الوتر، أو نسيه، فليصل إذا ذكره، أو استيقظ" (¬3)، وهذا يخص مالكًا، والشافعي - رضي الله عنهما -. فأما أبو حنيفة - رحمه الله -، فإنه يقول بظاهره؛ لأن عنده أن الوتر يُقضى؛ لأنها واجبة عنده؛ ولأنها نافلة مؤقتة، فاستُحِب قضاؤها بعد فوات وقتها؛ قياسًا عليها إذا فاتته مع الفرض، وفيه احتراز من الكسوف، والاستسقاء؛ لأنها غير مؤقتة. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولم أقف على أحد بهذا الاسم، ولعل صوابه: رجاء بن المرجا، وقد مضت ترجمته. (¬2) مضافة ليستقيم الكلام. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الدعاء بعد الوتر، رقم (1431)، والترمذي في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينساه، رقم (465)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: من نام عن وتره أو نسيه، رقم (1188)، قال ابن عبد الهادي: (إسناد أبي داود لا بأس به). ينظر: المحرر ص 140.

فإن قيل: لا يجوز اعتبار فواتها بفواتها مع الفرض، ألا ترى أنه لو فاته الأذان والإقامة مع الفرض، أتي بهما بعد فوات الوقت، ولو فاتا دون الفرض، لم يقضهما؟ قيل: الأذان والإقامة غير مقصودين، ألا ترى [أنه] لا يتطوع بهما منفردين؟ والصلاة النافلة مقصودة في نفسها، ألا ترى أنه يتطوع بها منفردة، فجاز أن تقضى؛ ولأنها صلاة مؤقتة، فلم تسقط لفوات وقتها إلي غير قضاء؛ قياسًا على الوتر، وفيه احتراز من الجمعة، فإنها تسقط بفوات وقتها إلى قضاء، وهو الظهر، وفيه احتراز من صلاة الخسوف، والاستسقاء؛ لأنها غير مؤقتة، وإنما تُصلي لأجل عارض، وكل صلاة تقضى إذا فاتت مع غيرها، قضيت إذا فاتت وحدها؛ قياسًا على الوتر. فإن قيل: المعنى في الوتر: أنها واجبة. قيل: لا نسلم لك هذا، بل هي تطوع عندنا. واحتج المخالف: بما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيت أم سلمة - رضي الله عنها - ركعتين بعد العصر، فقالت: ما هاتان الركعتان يا رسول الله؟ قال: "ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، شغلني عنهما مال أتاني، فقسمته". فقالت: أفنقضيهما إذا فاتتنا؟ قال: "لا" (¬1)، فنهى عن قضائهما، وعندكم: أنها تقضى. والجواب: أن هذا حجة لنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاهما، فلولا أن ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 115).

القضاء جائز، لم يقضه، على أننا نحمل قوله: "لا تقضى" على الوجه الذي كان يقضيه هو في حقه، وهو أنه - عليه السلام - كان يداوم على القضاء فيما يفوته، وفي غيره، وهو مخير بين المداومة وغيرها. واحتج: بأنها من سنن هذه الفرائض، فإذا فاتت على الانفراد، لم تُقض، أصله: الأذان، والإقامة. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أن الأذان غير مقصود في نفسه، ولهذا لا يتطوع بمثله منفردًا، وهذه مقصودة في نفسها، ويتطوع بمثلها منفردًا، فبان الفرق. واحتج: بأنه إذا قام من اثنتين من الظهر، لم يعد؛ لأن القعود فيها مسنون، فإذا فاته عن موضعه دون الفرض، لم يقضه، كذلك هذا. والجواب: أن التشهد، والاستفتاح لا يسقط لفوات محله، وإنما يسقط بالانتقال إلى الفرض المقصود الذي بعده، ألا ترى أنه إذا لم يعتدل قائمًا، ولم يشرع في القراءة، رجع؛ لأنه لم يحصل في ركن مقصود؟ واحتج: بأن هذه صلاة تطوع، فيجب أن لا تقضى بعد فواتها عن موضعها؛ دليله: صلاة الكسوف، والخسوف. والجواب: إن تلك ليس لها وقت راتب، وهذه لها وقت راتب، فهي كالوتر، وكما لو فاتت مع الفرض. واحتج: بأنا لو أمرناه بقضائها، لأثبتناها في ذمته، وذلك يخرجها من حد النوافل، ويخلصها في حد الواجبات.

80 - مسألة: إذا أدرك الناس في صلاة الصبح، ولم يصل ركعتي الفجر، فإنه يصلي معهم المكتوبة، ولا يتشاغل بها

والجواب: أن هذا يبطل به إذا فاتته ركعتا الفجر مع صلاة الفجر، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 80 - مَسْألَة: إذا أدركَ الناسَ في صلاة الصبح، ولم يصلِّ ركعتي الفجر، فإنه يصلي معهم المكتوبة، ولا يتشاغل بها: نص عليه في رواية أبي طالب (¬1): إذا سمع الإقامة وهو في بيته، فلا يصلي ركعتي الفجر، بيته والمسجدُ سواء، وقال أيضًا في رواية الأثرم (¬2): إذا دخل المسجد، والإمامُ في صلاة الصبح، ولم يركع الركعتين، يدخل معهم في الصلاة؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقيمت الصلاة، فلا صلاةَ إلا المكتوبة" (¬3)، ويقضيها من الضحى. وبهذا قال الشافعي (¬4) - رحمه الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إن رجا أن يدرك مع الإمام ركعة، ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (2/ 24)، والإنصاف (4/ 290). (¬2) لم أقف عليها، ونقل نحوها الكوسجُ في مسائله رقم (275 و 439 و 470)، وعبد الله في مسائله رقم (492)، وابن هانئ في مسائله رقم (517). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، رقم (710). (¬4) ينظر: الحاوي (2/ 288)، ونهاية المطلب (2/ 342).

صلى ركعتي الفجر عند باب المسجد، وإن خشي فوات الركعتين جميعًا، ترك ركعتي الفجر، وصلى مع الإمام (¬1). دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا الصلاة التي أُقيمت". وروى في لفظ آخر (¬3)، رواه عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬4). وروى سويد بن غَفَلة (¬5) قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضرب على صلاة بعد الإقامة (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية (1/ 71)، وحاشية ابن عابدين (4/ 403). وعند المالكية: إن وجد الناس في الصلاة، فليدخل معهم، وإن صلاهما خارج المسجد، عالمًا بأنه لا يفوته الركوع مع الإمام في الركعة الثانية، فحسن، وإلا، فلا. ينظر: الكافي ص 75، وبداية المجتهد (1/ 283). (¬2) رقم (8623)، وفيه أبو تميم الزهري، مجهول، مع أنه تفرد بهذا اللفظ ابن لهيعة، كما ذكر ذلك ابن حجر. ينظر: تعجيل المنفعة (2/ 421). (¬3) في المسند رقم (9873، 10698). (¬4) مضى تخريجه في الصفحة الماضية. (¬5) أبو أمية الجعفي، مخضرم، قدم المدينة يوم دُفِن النبي - صلى الله عليه وسلم -، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 80 هـ. ينظر: التقريب ص 261. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (3988)، وابن المنذر في الأوسط =

ولأنه أدرك الإمام في المكتوبة، فلا يستحب ترك اتباعه فيها لصلاة (¬1) التطوع؛ دليله: ما ذكرنا؛ ولأنه يكره أن يصلي في المسجد إذا خاف الفوات، فيجب أن يكره أن يصلي على باب المسجد. واحتج المخالف: بأنه إذا دخل مع الإمام في الحال، فاتته ركعتا الفجر، وإذا فاتتاه، لم يقضهما عندنا، فإن رجا أن يدرك مع الإمام ركعة، يجب أن يصلي ركعتي الفجر، ثم يدخل مع الإمام؛ لأنه يمكنه إدراك فضيلة الجماعة من غير فوات المسنون، فيجب أن يأتي بهما، ألا ترى أنه إذا أمكنه فعل الركعتين، وأدرك جميع الصلاة، لزمه فعلهما؟ والجواب: أنه يبطل به إذا أمكنه أن يدرك الإمام في المكتوبة بعد الركوع في الركعة الثانية، فإنه يدرك فضيلة الجماعة بإدراك جزء من صلاة الإمام، يدل عليه: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ما أدركتم، فصلُّوا" (¬2)، ولم يخصه، ومع هذا، فإنه يقول: يتبعه، ولا يتشاغل بالركعتين، وإن كان يدرك الجماعة. فإن قيل: إنما يكون مدركًا للفضيلة بإدراك ركعة، يدل عليه: قول ¬

_ = (5/ 230)، وفي سنده جابر بن يزيد الجعفي، ضعيف رافضي، يرويه عن الحسن بن مسافر، ولم أجد من ترجم له. ينظر: التقريب ص 113. (¬1) في الأصل: بالصلاة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: لا يسعى إلى الصلاة، وليأت بالسكينة والوقار، رقم (636)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (602).

81 - مسألة: الأفضل في النوافل أن يسلم من كل ركعتين، بالليل والنهار

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدركها" (¬1)، فعلق الإدراك بركعة. قيل: هذا محمول على صلاة الجمعة، وعلى أنا لا نسلِّم لك أن بمتابعة الإمام تفوته الركعتان؛ لأنه يصليهما بعد الفراغ من الفرض، فسقط هذا، والله أعلم. * * * 81 - مَسْألَة: الأفضل في النوافل أن يسلِّم من كل ركعتين، بالليل والنهار: نص عليه في رواية الفضل بن زياد، وأبي بكر بن حماد المقرئ (¬2)، وأحمد بن أصرم المزني (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (7594)، والبخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الصلاة ركعة، رقم (580)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك تلك الصلاة، رقم (607)، واللفظ لأحمد - رحمه الله -. (¬2) هو: محمد بن حماد بن بكر بن حماد، أبو بكر المقرئ، كان الإمام أحمد يجله ويكرمه، ويصلي خلفه في شهر رمضان وغيره، له مسائل عن الإمام أحمد، توفي سنة 267 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 288)، والمقصد الأرشد (2/ 297). (¬3) لم أقف على رواياتهم، ونقل الرواية عن الإمام أحمد ابنُه عبدُ الله في مسائله رقم (414 و 415)، وأبو داود في مسائله رقم (496 و 497)، والكوسج =

وهو قول مالك (¬1)، والشافعي (¬2) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: في صلاة الليل إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أربعًا، وإن شاء ستًا، وإن شاء ثمانيًا، ولا يزيد على ذلك بتسليمة واحدة، وفي صلاة النهار إن شاء أربعًا، وإن شاء ركعتين بسلام، ولا يزيد على الأربع بسلام واحد (¬3). دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - (¬4) - ذكره أبو بكر في كتابه - قال: نا غير واحد، وجَوَّده (¬5) غُندر، قال: نا شعبة عن يعلى بن عطاء (¬6): [أنه سمع] (¬7) عليًا الأزدي (¬8) ..................................... ¬

_ = في مسائله رقم (356)، وينظر: الجمع الصغير ص 50، والهداية ص 88، والمغني (2/ 537). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 99)، والإشراف (1/ 290). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 289)، والبيان (2/ 283). (¬3) ينظر: مختصر الطحاوي ص 36، ومختصر القدوري ص 85. (¬4) في المسند رقم (5122)، ولفظه بهذا السند: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". (¬5) كذا في الأصل، وقد تكون: وأجوده عن غندر. (¬6) العامري، الطائفي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 120 هـ، أو بعدها. ينظر: التقريب ص 683. (¬7) في الأصل: بن علي، وهو خطأ، والتصويب من المسند. (¬8) هو: أبو عبد الله علي بن عبد الله البارقي الأزدي، قال ابن حجر: (صدوق ربما أخطأ). ينظر: التقريب ص 443.

[يحدث: أنه] (¬1) سمع ابن عمر - رضي الله عنهما -: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "صلاة الليل مثنى مثنى" (¬2). وروى أحمد (¬3) - وذكره أبو بكر - قال: نا أبو أحمد الزبيري (¬4) قال: نا عبد العزيز بن أبي رَوَّاد (¬5) عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله عن صلاة الليل؟ فقال: "صلاة الليل مثنى مثنى، تسلم في كل ركعتين، فإذا خِفْتَ الصبحَ، فصلِّ ركعة توتر لك ما قبلَها" (¬6). وروى أبو بكر من طريق آخر عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مضافة من المسند؛ ليستقيم الكلام. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، رقم (993)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (749). (¬3) في المسند رقم (5103). (¬4) هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي، أبو أحمد الزبيري، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري)، توفي سنة 203 هـ. ينظر: التقريب ص 544. (¬5) قال ابن حجر: (صدوق عابد، ربما وَهِم)، توفي سنة 159 هـ. ينظر: التقريب ص 386. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، رقم (990)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (749).

عن صلاة الليل؟ فقال: "مثنى مثنى، فإذا خفتَ الصبحَ، فأوتر بركعة" (¬1). فإن قيل: المراد: الجلوس في كل ركعتين. قيل له: هذا لا يصح من وجوه: أحدها: أنه يسلم في كل ركعتين، وهذا يجب أن يُحمل على السلام المعهود الذي يخرج به من الصلوات. والثاني: لو أراد هذا، لبيَّن مقدار الركعات التي يسلم فيها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فلما لم يبين، دل على أنه أراد: أن يسلم من كل مثنى. الثالث: أنه إنما يقال: صلى مثنى مثنى: إذا سلم من كل ركعتين، فأما إذا جمع بين ركعات بإحرام واحد، لا يجوز أن يقال: صلى مثنى مثنى، ولهذا لم يقل أحد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر مثنى مثنى، وصلى العصر مثنى مثنى، وصلى العشاء الآخرة مثنى. الرابع: أن هشام بن عروة يقول: حدثني أبي: أن عائشة - رضي الله عنها - حدثته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد، فإذا استيقظ، صلى ثماني ركعات، يجلس في كل ركعتين، ويسلم (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في أبواب التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ رقم (1137)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (749). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (24921)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من أوتر بخمس أو بثلاث، رقم (4801)، وصحح إسناده الألباني في صلاة التراويح ص 102.

وهذا يدل على أن المراد بقوله: "مثنى مثنى": بتسليمه من كل ثنتين (¬1). وروى الزهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ثنتين، ويوتر بواحدة (¬2). ولا يجوز أن يكون فعله مخالفًا لقوله، فدل على أن المراد به: مثنى مثنى بالتسليم. والقياس: أنها صلاة تطوع مشفوعة، فالأفضل أن تكون ركعتين؛ قياسًا على ركعتي الفجر، وتحية المسجد، وصلاة التراويح. فإن قيل: ركعتا الفجر ثبت في الأصل كذلك، فلم تجز الزيادة عليها، وما اختلفنا فيه تطوع مبتدأ، فالأفضل المتابعة فيه. قيل له: فلهذا المعنى قسنا، وهو أنه ثبت في الأصل على هذا الوجه، وهي نافلة، فيجب أن تُحمل بقية النوافل على ذلك. فإن قيل: ليس من حيث كان بعض النوافل ركعتين يجب أن يكون جميعها كذلك؛ كالفروض. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ثنتي)، والصواب المثبت. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (24537)، واللفظ له، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، رقم (736).

قيل له: لا يمتنع أن تختلف الفروض، وتتفق النوافل؛ بدليل: أن المغرب ثلاث، والنفل لا يكون ثلاثًا. واحتج المخالف: بما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد العشاء أربع ركعات، لا تسلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، لا تسلْ عن حسنهن وطولهن" (¬1)، وظاهره: أنه كان يصلي أربعًا بتسليمة واحدة؛ ولأنه لو كان يسلم في كل ركعتين، لقالت: كان يصلي ركعتين. والجواب: أنه يجوز أن يكون المراد به: أربع ركعات بتسليمتين، ثم ينام، ثم يقوم ويأتي بأربع ركعات بتسليمتين، ثم يوتر بثلاث، يدل عليه: ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: بتُّ في بيت خالتي ميمونةَ بنتِ الحارث، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم جاء فصلى أربعًا، ثم نام، ثم قام فصلى (¬2)، ويحتمل أن يكون صلى أربعًا بتسليمتين، ثم إنه كان يسلم من كل ركعتين. واحتج: بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل ثمان ركعات، لا يجلس إلا في آخرهن، ثم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في أبواب التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، رقم (1147)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، رقم (738). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: حفظ العلم، رقم (117)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل، رقم (763).

يصلي ركعة أخرى (¬1)، ومعلوم أنها أرادت: الجلوسَ للسلام لا يفارق الجميع، على أن مِن السنة الجلوسَ في كل ركعتين. والجواب: أن المخالف لا يجوز أن يحتج به؛ لأنه لا يجوز الوتر عنده هكذا، ولا يجوز أن يزاد على ثلاث ركعات، وعنده: أن الأفضل أن يجلس في كل ركعتين، فإن يسلم، فلم يكن فيه حجة، ولأن ظاهر الخبر أنه كان يسرد الركعات الثمانية من غير جلوس في كل ركعتين، وهذا غير مستحب، فعلم أنه قصد بهذا بيان الجواز، وأن الأفضل غيره، وقد نص أحمد - رحمه الله - على جواز هذا، فقال في رواية أبي طالب: من صلى خمسًا أو سبعًا، لم يجلس إلا في آخرهن (¬2)، وكذلك نقل جعفر بن محمد عنه: أنه قال: إذا كان يوتر بتسع، لم يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم إلا في التاسعة (2). واحتج في رواية أبي طالب: بحديث عائشة - رضي الله عنها -: أوتر خمسًا لم يجلس إلا في آخرهن (¬3)، ...................... ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم بنحوه في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل، رقم (746). (¬2) لم أقف عليها، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (440 و 441)، وينظر: المغني (2/ 589)، ومختصر ابن تميم (2/ 175)، والفروع (2/ 359)، والإنصاف (4/ 116 و 117)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 201). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، رقم (737).

وبتسع جلس في الثامنة (¬1). فإن قيل: فإذا كان قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يصلي بالليل ثماني ركعات لا يجلس إلا في آخرهن، فلِمَ كَرِهَ أحمد أن يتنفل بالليل بأربع بسلام واحد، ولم يكره ذلك بالنهار، حتى قال: إذا نهض إلى ثالثة في صلاة الليل، رجع فجلس (¬2)؟ قيل: أما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني ركعات بسلام واحد، فإنما أوترها، فجاز ذلك اتباعًا (¬3) لفعله - عليه السلام -، فأما التطوع الذي لا يقصد به الوتر، فإنما كره الجمع بسلام واحد؛ بخلاف نوافل النهار؛ لأن الأخبار لم تختلف في نوافل الليل أنها مثنى، إلا ما جاء في الوتر، واختلف في نوافل النهار في الأربع قبل الظهر بسلام واحد، وبما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهم -: أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، وبالنهار أربعًا أربعًا، ويسلِّم (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل، رقم (746). (¬2) ينظر: الفروع (2/ 397)، والمبدع (1/ 505). (¬3) كررت مرتين في الأصل. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4226)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6698)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 236)، وذكره الترمذي في جامعه في كتاب: الجمعة، باب: أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وصححه زين الدين العرقي. ينظر: طرح التثريب (3/ 67).

واحتج: بما روي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: من صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات، كُنَّ كمثلهن من ليلة القدر (¬1)، ومقادير أبواب الأعمال لا تُعلم إلا من طريق التوقيف، فصار كأنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. والجواب عنه: أنه ليس فيه أربع (¬2) بسلام واحد، ويحتمل أن يكون بسلامين؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بما روى وكيع عن عبيدة بن معتب (¬3) عن إبراهيم (¬4)، عن سهم بن منجاب (¬5)، .......................................... ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من قول عمر - رضي الله عنه -، وأخرجه ابن أبي شيبة بنحوه من قول عبد الله بن عمرو، وابن مسعود - رضي الله عنهم - في مصنفه رقم (7351 و 7353)، وذكره ابن نصر في: "قيام الليل" من قول عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. ينظر: مختصر قيام الليل ص 92. وجاء عند الطبراني في الأوسط رقم (6332) مرفوعًا من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف، قال في المجمع (2/ 221): (وفيه ناهض بن سالم الباهلي وغيره، ولم أجد من ذكرهم). (¬2) في الأصل: أربعًا. (¬3) في الأصل: عبيد بن المعتب. وعبيدة هو: ابن معتب الضبي، أبو عبد الكريم الكوفي، قال الإمام أحمد: (ترك الناس حديث عبيدة الضبي)، وضعّف حديثه أبو حاتم. ينظر: تهذيب الكمال (19/ 273). (¬4) النخعي. (¬5) ابن راشد الضبي، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 260.

عن قزعة (¬1)، عن قرثع الضَّبِّي (¬2)، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعًا قبل الظهر إذا زالت الشمس، يقرأ فيهن، لا يفصل بينهن بتسليم، وقال: "إن أبواب السماء تفتح ... " (¬3)، وظاهره يقتضي: أنه كان يصلي بتسليمة واحدة؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لوجب أن يقول الراوي: كان يصلي ركعتين. والجواب: أن هذا خبر ضعيف، طَعَن في رجاله أحمد - رحمه الله -، وغيره، ثم أئمة أصحاب الحديث (¬4)، فقال أحمد بن أصرم المزني: سمعت أحمد بن خازم المعروف بأبي جعفر الإمام (¬5) - وكان من أصحاب أحمد المتقدمين - قال: رأيت أبا عبد الله يومًا وإسحاق بن أبي إسرائيل (¬6) ¬

_ (¬1) ابن يحيى البصري، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 509. (¬2) في الأصل: القرتع الصبي. وقَرْثَع هو: الضبي الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 508. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها، رقم (1270)، وأشار لضعفه، والترمذي في الشمائل المحمدية رقم (294)، وابن ماجه في: المساجد والجماعة، باب: في الأربع الركعات قبل الظهر، رقم (1157)، واللفظ له، وضعفه ابن خزيمة في صحيحه (2/ 221). (¬4) كذا في الأصل، وقد تكون: من أئمة أصحاب الحديث، أو من أئمة أصحاب الحديث بعده. (¬5) لم أقف على ترجمته. (¬6) هو: إسحاق بن إبراهيم بن كامَجْرا، أبو يعقوب المروزي، قال ابن حجر: =

قائمًا في المسجد، جاءا جميعًا قبل الصلاة، فصلى أبو عبد الله قبل الصلاة عشر ركعات، ركعتين، ركعتين، وصلى إسحاق ثماني ركعات، أربعًا، أربعًا (¬1)، لم يفصل بينهن بسلام، فقلت لإسحاق: صليت أربعًا؟ ! فقال: حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يصلي قبل الظهر أربعًا لا يفصل بينهن بتسليمة واحدة. قال: فجئت إلي أبي عبد الله، فقلت له: رأيتك صليت قبل الجمعة عشر ركعات، ركعتين، ركعتين؟ ! فقال: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" (¬2)، فقلت له: حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأربع؟ فقال: هذا رواه قرثع، وقزعة، مَن قرثع؟ ومَن قزعة؟ (¬3). وقال ابن خزيمة: عبيدة بن معتب (¬4) لا يحتج به (¬5). قال أبو داود: قال يحيى بن سعيد القطان: لو حدثت عن عبيدة بن المعتب بشيء (¬6)، لحدثت عنه بهذا الحديث (¬7) ........................................ ¬

_ = (صدوق تُكلِّم فيه لوقفه في القرآن)، توفي سنة 245 هـ. ينظر: التقريب ص 71. (¬1) في الأصل: أربع أربع. (¬2) مضى في (2/ 152). (¬3) ينظر: التحقيق (3/ 292)، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/ 395). (¬4) في الأصل: عبيدة بن المغيث، والتصويب من صحيح ابن خزيمة. (¬5) ينظر: صحيح ابن خزيمة (2/ 222). (¬6) في الأصل: شيء، والتصويب من سنن أبي داود. (¬7) في سننه بعد إخراجه للحديث رقم (1270).

قال ابن خزيمة: سمعت أبا قلابة (¬1) [يحكي عن] (¬2) هلال بن يحيى (¬3)، قال: سمعت يوسف بن خالد السمتي (¬4) يقول: قلت لعبيدة بن معتب: هذا الحديث ترويه عن إبراهيم سمعتَه كلَّه؟ قال: منه ما سمعتُه، ومنه ما أقيس عليه. قال: قلت: حدثْني بما سمعتَ؛ فإني أعلمُ بالقياس منك (¬5). وعلى أنه لو صحَّ، فليس فيه أنه صلاها بسلام واحد، وهذا كما روت أم هانئ - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الضحى ثماني ركعات (¬6)، ولا يدل على أنها كانت بتسليمة واحدة، كذلك ها هنا، وقد قال أحمد - رحمه الله - (¬7) في رواية أبي جعفر محمد بن موسى ¬

_ (¬1) هو: عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي، أبو قلابة البصري، قال ابن حجر: (صدوق يخطئ)، توفي سنة 276 هـ. ينظر: التقريب ص 397. (¬2) ساقطة من الأصل: وهي مستدركة من صحيح ابن خزيمة. (¬3) الطائي، المعروف بـ (عيسى بن أبي عيسى) الحمصي، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 487. (¬4) أبو خالد البصري، قال ابن حجر: (تركوه، وكذّبه ابن معين)، توفي سنة 189 هـ. ينظر: التقريب ص 683. (¬5) ينظر: صحيح ابن خزيمة (2/ 222). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، رقم (357)، ومسلم في كتاب: الحيض، باب: تستّر المغتسل بثوب ونحوه، رقم (336). (¬7) ينظر: شرح الزركشي (2/ 66)، فقد ذكر نص الإمام أحمد - رحمه الله - =

البرار (¬1)، وذكر قول أبي حنيفة - رحمه الله -: لو أن رجلًا صلى ثماني ركعات، لم يسلم إلا في آخرها، كان مصيبًا؛ لحديث (¬2) أم هانئ - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ثماني ركعات لم يسلم إلا في آخرهن، قيل (¬3) لأبي حنيفة: ليس في الحديث: لم يسلِّم. وعلي أنه لو كان فيه أنها بسلام واحد، فالخبر يدل على فضيلة هذه الصلاة في نفسها، ولا يدل على أنها أفضل من غيرها، ونحن لا نمنع فضلها، وإنما خلافنا فيما هو أفضل منها. واحتج: بما روت أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حافظ على أربعِ ركعات قبل الظهر، وأربعِ ركعات بعدها، حُرِّم على النار" (¬4). ¬

_ = بدون ذكر الراوي عنه. (¬1) كذا في الأصل، ومحمد بن موسى هو: ابن مشيش - فيما ظهر لي - فكنيته: أبو جعفر، كما في طبقات الحنابلة (3/ 315)، وقد مضت ترجمته. (¬2) في الأصل: حديث، والتصويب من شرح الزركشي (2/ 66). (¬3) في الأصل: وبل، والتصويب من شرح الزركشي (2/ 66). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها، رقم (1269)، والترمذي في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما جاء في الركعتين بعد الظهر، رقم (428)، وقال: (حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه)، والنسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة، رقم (1816)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء فيمن صلى قبل الظهر أربعًا، رقم =

وروت أيضًا أم حبيبة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له بيتًا في الجنة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد صلاة المغرب، وركعتين بعد صلاة العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح" (¬1). والجواب عنه: ما تقدم، وأنه لا دلالة فيه على أنها بسلام واحد أم سلامين، كما لم يدل حديث أم هانئ في صلاة الضحى أنه بسلام واحد. واحتج: بأن المتابعة بين المغرب صفة زائدة فيها قربة، ألا ترى أن الله تعالى أمر بصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار، وكفارة القتل، فلولا أن التتابع في صوم الشهرين قُربة، لما أمر به، وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، لم يكن له أن يصليها بتسليمتين، ولو قال: بتسليمتين، جاز له أن يصليها بتسليمة، ولو قال: لله عليَّ أن أصوم أربعة أيامٍ متتابعات، لم يكن له أن يفرقه، ولو قال: متفرقًا، جاز له أن يتابعه، فإذا ثبت أن التتابع في الفرض أفضلُ من التفريق، وجب أن يكون أربعُ ركعات بتسليمة، أفضلَ منها بتسليمتين. والجواب عن قولهم: إن المتابعة صفة في القربة، فتبطل بالزيادة ¬

_ = (1160)، وصححه النووي. ينظر: شرح صحيح مسلم (6/ 251). (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، رقم (728)، والترمذي في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، رقم (415)، واللفظ له.

على أربع ركعات بتسليمة واحدة بالنهار، وعلي ثماني ركعات بتسليمة واحدة بالليل، وأما الصوم، فإن التتابع فيه لا يختص بعدد محصور، ويخالف الصلاة؛ لأنه لا يختص عند المخالف بأربع بالنهار، وبالثماني ركعات بالليل، فافترقا، وأما النذر، فينظر، فإن نذر أن يصليهما بتسليمة واحدة، احتمل أن يجوز أن يصليهما بتسليمتين؛ كما إذا نذر أن يحج ويعتمر قِرانًا، جاز أن يفرد إحداهما عن الأخرى؛ لأن الإفراد عندنا أفضل من القران. ثم نقول للمخالف: ما تقول إذا نذر أن يصلي عشر ركعات بتسليمة واحدة، هل يجوز أن يفرق، أم لا؟ وكل جواب له، فهو جوابنا عما قاله. واحتج: بأنه إذا لم يسلم في الثنتين، كان قيامه إلي الثالثة من أفعال الصلاة، وإذا سلم، لم يكن القيام بعد السلام من أفعالها، وأفعال الصلاة أفضلُ من غيرها. والجواب: أنه يلزمهم - على هذا - الزيادةُ على ثماني ركعات، وعلى أنه إذا سلم في الثنتين، حصل له زيادة تسليم، وتكبير، ودعاء في التشهد. واحتج: بأن في فرائض النهار أربعًا، فجاز أن يكون في التطوع أربع بحذائها الفروض. والجواب: أن في فرائض الليل ثلاثًا، وليس في تطوع ثلاثٌ، فبطل اعتبار أحدهما بالآخر، والله أعلم. * * *

82 - مسألة: الوتر سنة مؤكدة، وليست بواجبة

82 - مَسْألَة: الوتر سنة مؤكدة، وليست بواجبة: نص على هذا في رواية ابن القاسم (¬1)، ومحمد بن عبد الملك (¬2) الدقيقي (¬3)، واللفظ لابن القاسم، قال: قيل لأبي عبد الله: أليس يروون (¬4): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "زادكم الله صلاة، وهي الوتر" (¬5)، فقال أحمد - رحمه الله -: الفرض إذًا ست صلوات، الوتر سنةٌ، عملَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون. فقد صرح بالقول: إنها سنة غير واجبة، وقد علَّق القول في رواية صالح (¬6)، ................................................. ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 488). (¬2) في الأصل: محمد بن الملك. (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 488). والدقيقي هو: محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الواسطي، أبو جعفر الدقيقي، نقل عن الإمام أحمد مسائل، وثقه الدارقطني، توفي سنة 266 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 326)، وتهذيب الكمال (26/ 24). (¬4) في الأصل: يرووا، وفي الانتصار: أليس تروى. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في المسند بلفظ: "إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر" من حديث أبي بصرة - رضي الله عنه -، رقم (23851)، وجوّد إسناده ابن رجب في الفتح (6/ 235). (¬6) في مسائله رقم (159 و 235).

والفضل بن زياد (¬1)، وجعفر بن محمد (¬2)، واللفظ لجعفر: في رجل يترك الوتر متعمدًا، فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل شهادته؛ فإنه لا شهادة له. فظاهر هذا: أنه واجب، وليس هذا على ظاهره، وإنما قال هذا: فيمن يداوم [على] ترك الوتر طول عمره، أو أكثره؛ فإنه يفسق بذلك، وكذلك جميع السنن إذا داوم على تركها؛ لأنه بالمداومة يحصل (¬3) راغبًا عن السنة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رغب عن سنتي، فليس مني" (¬4)، ولأنه إذا داوم على تركها، لحقته التهمة في أنه غير معتقد لكونها سنةً، وهذا (¬5) ممنوع، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا بريءٌ من كل مسلم بين ظهرانَي المشركين لا تراءى نارهم" (¬6)، وإنما قال ذلك؛ لأنه متهم في أنه يُكَثِّر ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وقد نقل نحوها: أبو طالب. ينظر: الفروع (11/ 329)، والمبدع (10/ 220)، والإنصاف (29/ 339 و 340)، وبدائع الفوائد (4/ 1499). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 489)، وفتح الباري (6/ 212). (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: يصير، أو أنها: يحصل رغبة عن السنة. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، رقم (5063)، ومسلم في كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه، رقم (1401). (¬5) في الأصل: ولهذا ممنوع. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، رقم (2645)، والترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في =

جمعهم، ويقصد نصرَهم، ويرغب في دينهم، فكلام أحمد خرج على هذا، وأنه يمنع من المداومة على تركها، وإلا، فهو في الأصل سنة غير واجب، وبه قال مالك (¬1)، والشافعي (¬2)، وداود (¬3) - رحمهم الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: الوتر واجب (¬4). دليلنا: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] يعني: العصر عندنا (¬5)، وعندهم (¬6)، فلو كان الوتر واجبًا، لصارت الصلوات ستًا، ولم يكن لها وسطى؛ لأن الست لا وسط لها. وأيضًا: روى طلحة بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، تسمع دويَّ صوته، ولا تفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسُ صلواتٍ ¬

_ = كراهية المقام بين أظهر المشركين، رقم (1604)، وذكر عن البخاري: أن الصحيح من الحديث هو المرسل، وكذا قاله أبو حاتم، وصوب الإرسالَ الدارقطني. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 140)، وعلل الدارقطني (13/ 464). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 127)، والإشراف (1/ 288). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 278)، والبيان (2/ 265). (¬3) ينظر: المحلى (2/ 143). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 224)، والتجريد (2/ 792). (¬5) ينظر: المغني (2/ 18)، والمبدع (1/ 340). (¬6) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/ 496).

كتبهن الله على عباده في اليوم والليلة"، قال: هل عليَّ غيرُهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوَعَّ" ... إلى أن قال: واللهِ! لا أزيد على هذا، ولا أنقص، فقال: "أفلح إن صدق" (¬1)، وروي: "أفلح - والله - إن صدق" (¬2)، وروي: "دخل الجنة - والله - إن صدق" (¬3)، ففي هذا الخبر دليلٌ على نفي وجوب الوتر من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده"، فدل على أن السادسة غير مكتوبة عليهم، والثاني: أن غيرها تطوع، والثالث: أن الأعرابي لما قال: لا أزيد عليها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح - والله - إن صدق"، فلو كان الوتر واجبًا، لزمه أن يزيد عليها. فإن قيل: الخبر ينفي كونَ الوتر مكتوبة، ونحن نقول: إنه ليس بمكتوبة، فلا يلزمنا. قيل له: الكتابة عبارة عن الثبوت، وما يأثم بتأخيره، ويجب فعله، والذي يدل عليه مكتوب في اللوح، ومنه قوله: "جرى القلم بما هو كائن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام، رقم (46)، ومسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، رقم (11). (¬2) ذكرها ابن عبد البر في التمهيد (14/ 367)، من رواية إسماعيل بن جعفر. (¬3) أخرجها البخاري بدون القسم، في كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان، رقم (1891)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن لا فرض في اليوم والليلة من الصلوات أكثر من خمس، رقم (4446)، واللفظ له.

إلي يوم القيامة" (¬1)، وما هو مكتوب في اللوح فهو يعمُّ الفرض، وغيرَه، فيجب أن يكون قوله: "لم يكتب عليكم" نفيًا في مقابلة ذلك الإثبات، فيعم النفي جميع المكتوب، والذي يبين صحة هذا: قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثٍ" (¬2)، ومعناه: رفع الواجب، والفرض. كذلك قوله: "ولم يكتب" نفيٌ للثبوت، فهو عام في نفي كل ثابت، ولأن معنى الكتابة في اللغة: هو الثبوت، فيحصل معنى: يثبت علي، ولم يثبت عليكم. فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا الخبر قبل إيجاب الوتر، ثم أوجب الوتر بعد ذلك بقوله: "إن الله زادكم صلاة"، قالوا: وهذا الجواب يمنع الاحتجاج به من الوجوه الثلاثة. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (22705) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، ونقل ابن القطان وأقره عن البزار قوله: (إسناده حسن، ذكر ذلك علي بن المديني). ينظر: بيان الوهم (3/ 610). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الحدود، باب: في المجنون يسرق، رقم (4398)، والترمذي في كتاب: الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، رقم (1423)، والنسائي في كتاب: الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج، رقم (3432)، واللفظ له، وابن ماجه في كتاب: الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم، رقم (2041)، قال ابن المنذر: (ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ... )، وذكر ابن رجب عن جمع من أئمة الحديث: أن الحديث حسن محفوظ. ينظر: الأوسط (4/ 15 و 387)، والفتح (5/ 294).

قيل له: لا نسلم لك أن ها هنا ما يدل على إيجاب الوتر، بل عندنا أنها غير واجبة، وما تذكره من الأخبار التي تعتقد أنها على الوجوب، فنحن نتكلم عليها - إن شاء الله تعالى -. وأيضًا: ما روى أبو بكر بإسناده، وأبو داود أيضًا (¬1) عن ابن محيريز (¬2): أن رجلًا من كنانة - يُدعى المُخْدِجي (¬3) - سمع رجلًا بالشام - يُدعى أبا محمد (¬4) - يقول: (الوتر واجب)، فقال المخدجي: فَرُحْت إلى عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، فأخبرته، فقال: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد، فمن جابهن لم يُضيِّع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند الله عهدٌ (¬5) أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، رقم (1420). (¬2) هو: عبد الله بن مُحيريز بن جنادة بن وهب الجُمحي، قال ابن حجر: (ثقة عابد)، توفي سنة 99 هـ. ينظر: التقريب ص 341. (¬3) هو: أبو رفيع المخدجي، الكناني الفلسطيني، قيل: اسمه: رفيع، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: تهذيب الكمال (33/ 315)، والتقريب ص 703. (¬4) هو: مسعود بن زيد بن سبيع من بني النجار، أبو محمد الأنصاري، صحابي جليل - رضي الله عنه وأرضاه -، قيل: إنه شهد بدرًا. ينظر: تهذيب الكمال (34/ 259). (¬5) في الأصل: عهدًا.

وإن شاء أدخله [الجنة] (¬1) " (¬2). وهذا يدل على أن الوتر لا يجب. وأيضًا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬3) قال: نا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، عن أبي بكر بن عمر (¬4)، عن سعيد بن يسار (¬5)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر على البعير (¬6)، وعند المخالف لا يجوز فعله على الراحلة؛ لكونه واجبًا، فدل على أنه غير واجب. وروى أبو بكر النجاد قال: نا محمد بن عبد الله (¬7) قال: نا محمد ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) أخرجه النسائي في كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على الصلوات الخمس، رقم (461)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات والسنة فيها، باب: ما جاء في فرض الصلوات الخمس، رقم (1401)، قال ابن عبد البر: (حديث صحيح ثابت)، وصححه كذلك ابنُ الملقن، ينظر: التمهيد (23/ 288)، والبدر المنير (5/ 389). (¬3) رقم (4519). (¬4) ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، القرشي العدوي المدني، قال أبو حاتم: (لا بأس به). ينظر: تهذيب الكمال (33/ 126). (¬5) هو: أبو الحُباب المدني، قال ابن حجر: (ثقة متقن)، توفي سنة 117 هـ. ينظر: التقريب ص 237. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: الوتر على الدابة، رقم (999)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر، رقم (700). (¬7) ابن سليمان، أبو جعفر الحضرمي، المعروف بـ (مُطَيْن)، له مسائل عن =

ابن العلاء (¬1) قال: نا خالد بن مخلد (¬2) عن العمري (¬3)، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على راحلته (¬4)، وهذا إخبار عن دوام الفعل. فإن قيل: يقابل هذا بما روى جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الراحلة حيثما توجهت به، فإذا أراد المكتوبة، أو الوتر، نزل (¬5). ¬

_ = الإمام أحمد، قال الذهبي: (مطين وثقه الناس)، توفي سنة 297 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 309)، وميزان الاعتدال (3/ 607). (¬1) في الأصل: محمد بن عبد العلاء. وهو خطأ، ينظر: تهذيب الكمال (8/ 165) في أسماء الرواة عن خالد بن مخلد. ومحمد هو: ابن العلاء بن كريب الهمداني، المشهور بـ (أبي كريب)، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 247 هـ. ينظر: التقريب ص 557. (¬2) القطواني، أبو الهيثم البجلي مولاهم، الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق يتشيع)، توفي سنة 213 هـ. ينظر: التقريب ص 177. (¬3) هو: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، أبو عبد الرحمن العمري، المدني، قال ابن حجر: (ضعيف عابد)، توفي سنة 171 هـ. ينظر: التقريب ص 331. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: الوتر في السفر، رقم (1000)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر، رقم (700). (¬5) أخرجه ابن خزيمة بنحوه في صحيحه رقم (1263)، وذكر النزول للوتر في الحديث ضعيف كما أفاده ابن رجب في الفتح (6/ 266)؛ لتفرد محمد بن مصعب بها، لا سيما وأنه ليس بشيء؛ كما قال ابن معين. ينظر: =

قيل: نحن نقول بهما جميعًا، فنقول: يجوز على الراحلة، ويجوز نازلًا عنها. وروى ابن المنذر بإسناده (¬1) عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر حق وليس بواجب، فمن أحب أن يوتر بخمس، فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث، فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة، فليفعل" (¬2)، وهذا نص. وروى أبو بكر النجاد في كتابه قال: نا محمد بن عبد الله قال: نا محمد بن حرب (¬3) قال: ............................ ¬

_ = تهذيب الكمال (26/ 462). (¬1) في الأوسط (5/ 188)، بلفظ: "الوتر حق ليس بواجب ... ". (¬2) أخرجه أبو داود بنحوه في كتاب: الصلاة، باب: كم الوتر؟ رقم (1422)، والنسائي في كتاب: قيام الليل، باب: ذكر الاختلاف على الزهري في حديث أبي أيوب في الوتر، رقم (1710)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع، رقم (1190)، قال الدارقطني: (قوله: "واجب" ليس بمحفوظ)، قال أبو حاتم عن الحديث: (هو من كلام أبي أيوب - رضي الله عنه -). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 353)، وسنن الدارقطني (2/ 340). (¬3) كذا في الأصل، ولم أهتد لمعرفته، ولم أجد - أحدًا ممن يروي عن شجاع - بهذا الاسم، ولعله: محمد بن خلف؛ كما في سنن الدارقطني (2/ 337) في كتاب: الوتر. ومحمد بن خلف هو: الحدادي، أبو بكر البغدادي المقرئ، قال ابن حجر: =

نا شجاع بن الوليد (¬1)، عن أبي جناب (¬2)، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث هنَّ عليَّ فريضة، وهنَّ لكم تطوعٌ: الوتر، والتهجد، وركعتا الفجر" (¬3)، فسماها تطوعًا في حقنا، وعندهم: أنها واجبة، والتطوع لا يعبر به عن الواجب. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. وروى أبو بكر بإسناده عن عاصم بن ضمرة (¬4) عن علي - رضي الله عنه - قال: ¬

_ = (ثقة فاضل)، توفي سنة 261 هـ. ينظر: التقريب ص 533. (¬1) ابن قيس السكوني، أبو بدر الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق ورع له أوهام)، توفي سنة 204 هـ. ينظر: التقريب ص 266. (¬2) في الأصل: حباب. وأبو جناب هو: يحيى بن أبي حية، الكلبي، قال ابن حجر: (ضعّفوه لكثرة تدليسه)، توفي سنة 150 هـ. ينظر: التقريب ص 659. (¬3) أخرجه أحمد في المسند بسنده عن شجاع كما ساقه المؤلف رقم (2050) بلفظ: "ثلاث هن علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى"، والدارقطني في سننه، كتاب: الوتر، باب: صفة الوتر، رقم (1631) وفي روايته: (ركعتا الفجر) بدلًا من (صلاة الضحى)، وهو حديث ضعيف؛ لضعف أبي جناب، كما نقل ابن حجر في التلخيص (2/ 877) عن جماعة من أهل العلم تضعيفهم للحديث. (¬4) في الأصل: صخره. وعاصم هو: ابن ضمرة السلولي، الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق)، توفي سنة 74 هـ. التقريب ص 295.

الوتر ليس بحتم، ولكن سنة سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أنه سئل عن الوتر؟ فقال: حسن (¬2) جميل، قد عمل به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، [والمسلمون من] (¬3) بعده، وليس عليكم بواجب (¬4). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن يحيى بن سعيد (¬5): أن رجلًا سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن الوتر، أواجب هو؟ قال: فقال ابن عمر: قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كثر عليه، قال: أواجب هو! أواجب هو! (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن الوتر ليس بحتم، رقم (453 و 454)، وحسّنه، والنسائي في كتاب: إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: الأمر بالوتر، رقم (1676)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: ما جاء في الوتر، رقم (1169)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي. (¬2) في الأصل: خمس، والتصويب من صحيح ابن خزيمة. (¬3) ساقطة من الأصل، ومستدركة من صحيح ابن خزيمة. (¬4) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1068)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الوتر، رقم (1117)، وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ذكر بيان أن لا فرض في اليوم والليلة من الصلوات أكثر من خمس، رقم (4452). (¬5) الذي وقفت عليه: أن الذي يرويه هو نافع؛ كما في مسند الإمام أحمد. (¬6) في الأصل: طمس بمقدار كلمتين. =

والقياس: أنها صلاة لم يشرع لها الإقامة، فلم تكن واجبة على الأعيان، أصله: ركعتا الفجر، وعكسه: سائر الصلوات الواجبة على الأعيان، وفيه احتراز من صلاة الجنازة؛ لأنها لا تجب (¬1) على الأعيان، وإنما هي فرض على الكفاية، وفيه احتراز عن الصلاة المنذورة؛ لأنها ليست على الأعيان، وإنما تجب على الناذر. فإن قيل: يؤذن ويقيم للعشاء وللوتر جميعًا؛ لأنهما صلاتان جمعهما وقت واحد؛ كصلاتي عرفة، ومزدلفة. قيل له: هذا لا يصح؛ لأنه لو جاز أن يقال هذا في الوتر، لجاز أن يقال في الركعتين بعد المغرب، وبعد الظهر: إن الأذان لها وللفرض؛ لأنها تابعة للفرض، وتفعل في وقتها، ولأن الوتر قد يؤخر عن نصف الليل، ويفعل في آخر الليل، ولا يجوز تأخير العشاء إلى ذلك الوقت، فكيف يقال: بأن هذا أذان للصلاة، ويفعل في وقت آخر. وقد قيل: هي صلاة ليست بفرض، فلم تكن واجبة على الأعيان؛ كسائر الصلوات، ولأن الوتر أحد نوعي الصلاة المرتبة، فكان منه تطوع، أصله: الشفع، ولأن الفرائض لما انقسمت إلى: شفع، ووتر، كذلك ¬

_ = والأثر: رواه الإمام أحمد في المسند رقم (5216)، قال: حدثنا وكيع: حدثنا سفيان عن عمر بن محمد، عن نافع: (سأل رجل ابن عمر عن الوتر، أواجب هو؟ فقال: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون)، وإسناده كلهم ثقات. (¬1) في الأصل: لا تجب إلا على الأعيان، والصواب المثبت، ينظر: الانتصار (2/ 498).

يجب أن تنقسم النوافل، ولا يجب وتر (¬1) في النوافل إلا هذا؛ بعلة أنها أحد نوعي الصلاة. فإن قيل: يقابل هذا بمثله، فيقول: لما كانت صلاة النهار ثلاثًا، يجب أن تكون صلاة الليل ثلاثًا، وليس ها هنا ثالثة إلا الوتر. قيل: هذا لا يصح على أصلك؛ لأنك فرقت بين الليل، والنهار فيما يرجع إلى النوافل، وقلت في نوافل الليل: إن شاء أربعًا، وإن شاء ستًا، وإن شاء ثمانيًا بسلام واحد، وفي نوافل النهار بخلافه؛ ولأنك فرقت بينهما فيما يرجع إلى الفرض، فقلت: في النهار ثلاث فرائض، وفي الليل فرضان، ولأن الوتر عنده ليس بفرض، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أوتروا يا أهل القرآن" (¬2)، وهذا أمر، وأمره على الوجوب. والجواب: أنا نحمله على أمر الاستحباب، لا الإيجاب؛ بدليل: ما ذكرنا، وقد قال في ركعتي الفجر ما هو آكدُ من هذا، رواه أبو داود ¬

_ (¬1) في الأصل: وترًا. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: استحباب الوتر، رقم (1416)، والترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن الوتر ليس بحتم، رقم (453)، والنسائي في كتاب: إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: الأمر بالوتر، رقم (1675)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: ما جاء في الوتر، رقم (1170)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

بإسناده (¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدعوهما ولو طردَتْكُم الخيل" (¬2)، وفي لفظ آخر رواه النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدعْ ركعتي الفجر وإن كان الخيلُ في طلبك" (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها" (¬4). وروى بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدعوا ركعتي الفجر؛ فإن فيهما الرغائب" (¬5)، وكان ذلك على سبيل ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: في تخفيفهما، رقم (1258). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (9253)، والحديث ضعيف؛ فيه ابن سيلان، لا يعرف. ينظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 386)، وميزان الاعتدال (2/ 547). (¬3) لم أقف عليه مرفوعًا مسندًا إلا في كتاب "التدوين في أخبار قزوين" (4/ 20)، وفي سنده المنذر بن زياد، قال الدارقطني: (متروك). ينظر: ميزان الاعتدال (4/ 181). وجاء موقوفًا على أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه عند ابن أبي شيبة في المصنف رقم (6382)، وفي سنده عبد ربه، وهو ابن سيلان، مقبول. ينظر: التقريب ص 112. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي الفجر، رقم (725). (¬5) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (13502) قال الهيثمي في المجمع (2/ 218): (رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الرحيم بن يحيى، وهو ضعيف). =

الحث، والاستحباب. واحتج: بما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نام عن الوتر، أو نسيه، فليصلِّه إذا ذكره" (¬1)، وهذا أمر. والجواب: أنه أمر استحباب؛ كما قال: "من لم يصلِّ ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس، فليصلِّهما" (¬2). واحتج: بما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يوتر، فليس منا" (¬3)، وهذا خارج مخرجَ الذمِّ على ترك الوتر، والذمُّ لا يستحق إلا بترك الواجب، وهذا كما قال: "من غَشَّنا فليس منا" (¬4)، ودل ذلك على وجوب تركه. والجواب: أن المراد به: ليس من أخيارنا؛ كما قال: "من لم يرحمْ صغيرنا، ..................................... ¬

_ = والرغائب: ما يرغب فيه من الثواب العظيم. ينظر: لسان العرب (رغب). (¬1) مضى في (2/ 144). (¬2) مضى في (2/ 143). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (9717)، واللفظ له، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، رقم (1419)، وهو حديث ضعيف. ينظر: تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/ 406)، والبدر المنير (4/ 347)، والتلخيص الحبير (2/ 886). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غشنا فليس منا، رقم (101).

ولم يوقِّرْ كبيرنا، فليس منا" (¬1). واحتج: بما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله قد زادكم صلاة هي خيرٌ لكم من حُمْر النَّعَم: الوتر، وهي لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" (¬2)، والزيادة تقع على الواجبات، لأن النوافل لا غاية [لها]، فتقع الزيادة عليها (¬3). واحتج: أنه ليس بفرض، فلا يجوز أن تكون على الفرائض، وعلى أنه تحمل هذه الزيادة على النوافل المرتبة، وهي محصورة. واحتج: بما روى أبو داود بإسناده (¬4) عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ............................. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الرحمة، رقم (4943)، والترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في رحمة الصبيان، رقم (1919)، وصححه ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 27)، وينظر: نصب الراية (4/ 26). (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (7975)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 235)، وقال: (غريب من حديث قرة، لم يروه عنه إلا سويد)، وسويد هو: ابن عبد العزيز، قال الهيثمي: (متروك). ينظر: المجمع (2/ 240). (¬3) كذا في الأصل، ولعل صوابها: (فلا تقع الزيادة عليها)، وفي الانتصار (2/ 502): (والزيادة إنما تكون على الواجب المحصور، فأما على النفل، فلا؛ لأن النفل لا ينحصر). (¬4) في سننه، في كتاب: الصلاة، باب: كم الوتر؟ رقم (1422).

"الوتر حقٌّ على كل مسلم" (¬1)، وليس في ألفاظ الوجوب آكد من قوله: "حقٌّ عليه"، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا على أن لفلان على فلان كذا وكذا حق، قُبلت شهادتُهما، مع أن الشهادة لا يقبل فيها الألفاظ المختلفة المعاني؟ والجواب: أنه أراد: أن فعله حق على كل مسلم ندبًا واستحبابًا، وهذا كما روى طاوس عن أبي هريرة - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "حق على كل مسلم أن يغتسل كل سبعة أيام، وأن يمس طيبًا إن وجده" (¬2)، وهذا استحباب، ويدل عليه: أن أبا بكر بن المنذر روى (¬3) من طريق بكر بن وائل (¬4) عن الزهري، ............................ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، في كتاب: الصلاة، باب: الوتر بركعة واحدة، رقم (4776)، وقد اختلف في رفعه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. (2/ 173)، وقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه موقوفًا على أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - رقم (4633). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 353)، ومعرفة السنن والآثار (4/ 62). (¬2) أخرجه البخاري بنحوه في كتاب: الجمعة، باب: هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟ رقم (897)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، رقم (849)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: الأمر بالتطيب يوم الجمعة، رقم (1761)، واللفظ له. (¬3) في الأوسط (5/ 188). (¬4) ابن داود التيمي الكوفي، روى له الجماعة إلا البخاري. ينظر: تهذيب الكمال (4/ 230).

عن عطاء بن يزيد الليثي (¬1)، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر حق، وليس بواجب، فمن أحب أن يوتر (¬2) بخمس، فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث، فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة، فليفعل" (¬3). واحتج: بأن الكرخي روى عن أبي أيوب الأنصاري: أنه قال: "الوتر حق واجب، فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة، ومن غلب إلى أن يومئ، فليومئ" (¬4)، قالوا: وهذا فيه دلالة على وجوبه من وجوه: أحدها: قوله: "حق". والثاني: قوله: "واجب". ¬

_ (¬1) المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 105 هـ. ينظر: التقريب ص 431. (¬2) في الأصل: أوتر، والتصويب من الحديث. (¬3) مضى تخريجه في (2/ 173). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 291) بلفظ: "الوتر حق أو واجب ... "، موقوفًا كما ذكر المؤلف، وأخرجه المروزي في كتابه "صلاة الوتر" مرفوعًا ص 62، والدارقطني في سننه، وسيذكره المؤلف بلفظ: "الوتر حق واجب، فمن شاء أن يوتر بثلاث، فليوتر، ومن شاء أن يوتر بواحدة، فليوتر بواحدة" مرفوعًا، بدون ذكر الإيماء، وقال: (قوله: "واجب" ليس بمحفوظ)، وقد مضى في (2/ 173)، الإشارة إلى أن الصواب وقفه على أبي أيوب - رضي الله عنه -، وينظر: مصنف ابن أبي شيبة رقم (6930).

والثالث: قوله: "فليومئ"، وهذا أمر. والرابع: أنه نقل إلى الإيماء عند العجز، وأجراه مجرى سائر الواجبات التي لا تسقط بالعجز عن القيام. والجواب: أن أبا الحسن الدارقطني ذكره في كتابه (¬1) من طريق محمد بن حسان الأزرق (¬2)، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال (¬3): ولا أعلم أحدًا قال هذه الكلمة (¬4) غير محمد بن حسان الأزرق. ولا تحفظ عن الزهري، ولا عن ابن عيينة، ولو صح، حملنا قوله: "حق على كل مسلم" ندبًا، واستحبابًا على ما تقدم تأويله، وكذلك قوله: "واجبًا" وجوب استحباب، كما روى أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "غُسل الجمعة واجب على كل محتلم" (¬5)، وقد قيل في الواجب عن جميع الأخبار التي ذكروها: إن الوتر مما تعم به البلوى، وما هذا طريقه يجب ¬

_ (¬1) السنن، كتاب: الوتر، باب: الوتر بخمس أو بثلاث أو بواحدة، رقم (1640) (2/ 340). (¬2) ابن فيروز الشيباني الأزرق، أبو جعفر البغدادي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 257 هـ. ينظر: التقريب ص 529. (¬3) يعني: الدارقطني. (¬4) وهي: (واجب). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة، رقم (879)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال، رقم (846).

بيانه عامًا، ولو بيّنه عامًا، نقل نقلًا عامًا، وأخبارهم نقلت نقلًا خاصًا، وهذا لا يثبت عندهم به حكم تعم به البلوى. واحتج: بأنها صلاة، وهي وتر، فوجب أن تكون واجبة؛ دليله: المغرب. والجواب: أن المغرب لم تكن واجبة لأنها صلاة وتر؛ لأن عشاء الآخرة واجبة، ولم تشرع وترًا، وكذلك الظهر، والعصر، فامتنع أن يكون علة الأصل ما ذكروا، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من تشبيه الوتر بالمغرب، وهي ما روى أبو سلمة والأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُشبِّهوا الوتر بصلاة المغرب" (¬1)، وإذا امتنع من التشبيه، لم يجز القياس عليها، وعلى أن المعنى في المغرب: أنه قد سُن لها الإقامة، وليس كذلك ها هنا. واحتج: بأن الوتر يستحب تأخيره إلى بعد نصف الليل، ويكره تأخير العشاء إلى ذلك الوقت، فلما اختص بوقت لا يشاركه غيره فيه من الصلوات، وجب أن يكون واجبًا كسائر الصلوات. والجواب: أن جميع الليل في الاستحباب سواء، فلا نسلم ما ادعاه، ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه الدارقطني في كتاب: الوتر، باب: لا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب، رقم (1650)، وقال - يعني: رواةَ الحديث -: (كلهم ثقات)، قال ابن حجر في التلخيص (2/ 865): (ولا يضره وقف من أوقفه)، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من أوتر بثلاث موصولات بتشهدين وتسليم، رقم (4815).

والذي يدل عليه: ما روى أبو بكر بإسناده عن علي قال: من كلِّ الليل أوترَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ من أوله، ووسطه، وآخره، وانتهى وتره إلى السحر (¬1). وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) بإسناده عن سعد بن أبي وقاص: أنه كان يصلي العشاء الآخرة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يوتر بواحدة لا يزيد عليها، فيقال [له] (¬3): أتوتر (¬4) بواحدة لا تزيد (¬5) عليها؟ فيقول: نعم، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الذي لا ينام حتى يوتر حازم" (¬6). ورُوي عن أبي قتادة قال: تذاكرَ أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - بالوتر عند ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (653 و 1152)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، والسنة فيها، باب: ما جاء في الوتر آخر الليل، رقم (1186)، قال علي بن المديني: (هو إسناد كوفي حسن). ينظر: فتح الباري لابن رجب (6/ 231)، وأخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: ساعات الوتر، رقم (996)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، رقم (745) من قول عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رقم (1461). (¬3) ساقطة من الأصل، وهي في المسند. (¬4) في الأصل: يوتر، والتصويب من المسند. (¬5) في الأصل: يزيد، والتصويب من المسند. (¬6) ذكر ابن رجب: أنَّ في إسناده انقطاعًا. ينظر: فتح الباري (6/ 228).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أما أنا، فأوتر أول الليل، فإذا استيقظت، صليت، قال عمر - رضي الله عنه -: أما أنا، فأوتر آخر الليل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "أخذت بالحزم"، وقال لعمر: "أخذت بالقوة" (¬1)، فلو كان مستحبًا تأخيره، لما قدمه أبو بكر - رضي الله عنه -. وروى أبو هريرة (¬2)، وأبو ذر (¬3) - رضي الله عنهما -: أوصاني خليلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، وقال أبو ذر: أوصاني حِبِّي بثلاث: بركعتي الصبح، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم. وهذا كله يدل على أنه سواء في الاستحباب، وقد قال أحمد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الوتر قبل النوم، رقم (1434)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1084)، وقال: (هذا عند أصحابنا عن حماد مرسل ليس فيه أبو قتادة)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الاختيار في وقت الوتر، وما ورد من الاحتياط في ذلك، رقم (4839)، قال ابن رجب: (إسناده ثقات، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ: عن ابن رباح مرسلًا)، وصحح إسناده ابنُ الملقن. ينظر: البدر المنير (4/ 318). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صيام أيام البيض رقم (1981)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، رقم (721). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (21518)، والنسائي في كتاب: الصيام، باب: صوم ثلاثة أيام من الشهر، رقم (2404)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 170)، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (2/ 212).

83 - مسألة: أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة، وإن كان الوتر بثلاث بسلام واحد، جاز، إلا أنه يجلس عقيب الثانية، ويقوم إلى الثالثة، وإن كان الوتر بخمس أو سبع بسلام واحد، لم يجلس إلا في الأخيرة، وإن أوتر بتسع بسلام، جلس عقيب الثامنة، ثم يقوم فيأتي بالركعة، ويسلم

- رحمه الله - في رواية حنبل: إن كان يصلي بالليل، أوتر من آخر الليل؛ لأن آخره أفضلُ لمن قدر على ذلك، فإن لم يقدر على آخر الليل، فأوله، ولا ينام إلا على وتر (¬1)، ونحو ذلك نقل الفضل بن زياد (¬2). وجواب آخر، وهو: أنه، وإن أخر إلى نصف الليل، فإنه على وجه التبع للعشاء الآخرة، لا أنه وقت يختصه، ألا ترى أنه لا يجوز فعله في ذلك الوقت، إلا أن يتقدمه عشاء الآخرة، وأما سائر الصلوات، فقد أجبنا عنها، والله أعلم. * * * 83 - مَسْألَة: أقلُّ الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، يسلِّم من كل ركعتين، ويوتر بركعة، وإن كان الوتر بثلاث بسلام واحد، جاز، إلا أنه يجلس عقيب الثانية، ويقوم إلى الثالثة، وإن كان الوتر بخمس أو سبع بسلام واحد، لم يجلس إلا في الأخيرة، وإن أوتر بتسع بسلام، جلس عقيب الثامنة، ثم يقوم فيأتي بالركعة، ويسلم: ¬

_ (¬1) ذكرها في الانتصار (2/ 505)، ولم يذكر راويها عن الإمام أحمد - رحمه الله -، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (464 و 465)، وينظر: بدائع الفوائد (4/ 1501). (¬2) ينظر: بدائع الفوائد (4/ 1501).

نص على هذا في مواضع، فقال في رواية عبد الله (¬1): لا يعجبني الوتر بواحدة إلا أن يكون قبلها صلاة، إما أربع، أو ركعتان، أو ست، والذي أذهب إليه، وآخذ به: يسلم في ركعتين، ويوتر بواحدة، وكذلك نقل يوسف بن موسى: لا تعجبني واحدة (¬2)، قيل له: فكم؟ قال: ثلاث، ويسلِّم في الثنتين (¬3). فقد بين أن المختار ثلاث يسلِّم من اثنتين. ونقل أبو طالب عنه (¬4): لا يجلس في الخمس والسبع إلا في آخرهن، وذكر حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنه صلى خمسًا لم يفصل بينهن (¬5)، وذلك إذا عمد إلى الوتر، لم يفصل بينهن، وكذلك نقل أبو داود عنه (¬6): إذا أوتر بتسع، فلا يقعد إلا في الثامنة، وكذلك نقل ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (440). (¬2) في الأصل: واحد. (¬3) لم أقف على رواية موسى، ونقل نحوها الكوسج في مسائله رقم (297 و 408)، وأبو داود في مسائله رقم (459)، وابن هانئ في مسائله رقم (495 و 502)، والروايتين (1/ 161). (¬4) لم أقف عليها، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (440 و 441)، وينظر: المغني (2/ 589)، ومختصر ابن تميم (2/ 175)، والفروع (2/ 359)، والإنصاف (4/ 116 و 117)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 201). (¬5) مضى تخريجه في (2/ 156). (¬6) في مسائله رقم (461).

جعفر بن محمد (¬1): إذا أوتر بتسع، فلا يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم إلا في التاسعة. فقد بين جواز الوتر بأكثر من ثلاث بسلام واحد. وقال في رواية علي بن سعيد (¬2): أما أنا، فأوتر بركعة إذا صليت قبلها عشر ركعات. وهذا يدل على أن الأفضل هذا، ونقل حنبل عنه (¬3): لا بأس أن يوتر الرجل بركعة إذا كان قبلها صلاة متقدمة، وإن أوتر بركعة على ما فعل سعد (¬4)، كان جائزًا. وكذلك نقل يوسف، وأحمد بن الحسين عنه (¬5): في الرجل يفجؤه الصبح، ولم يكن صلى بعد العتمة شيئًا، ولا أوتر؟ قال: يوتر بواحدة. قيل له: ولا يصلي قبلها شيئًا؟ قال: لا. فقد بين جواز الوتر بركعة واحدة، وليس قبلها صلاة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: الوتر ثلاث ركعات، لا يسلِّم إلا في آخرهن، لا يزيد عليهن، ولا ينقص منهن (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: مختصر ابن تميم (2/ 175)، والفروع (2/ 359)، والإنصاف (4/ 116). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: المغني (2/ 579). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 160). (¬4) جاء في صحيح البخاري: أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أوتر بركعة. ينظر: كتاب: الدعوات، باب: الدعاء للصبيان بالبركة، رقم (6356). (¬5) ينظر: بدائع الفوائد (4/ 1500)، وقد مضت هذه الرواية. (¬6) ينظر: الآثار (1/ 337)، ومختصر الطحاوي ص 28.

وقال مالك - رحمه الله -: الوتر ثلاث يسلم في الركعتين (¬1). وقال الشافعي - رضي الله عنه -: الذي أختاره: أن يُصلي إحدى عشرة (¬2) ركعة، يسلِّم من كل ركعتين، ويوتر بركعة (¬3). فالدلالة على جواز الوتر بركعة منفردة، وعلى جوازه بأكثر من ثلاث، خلافًا لأبي حنيفة: ما روى أحمد - رحمهما الله -، وذكره أبو بكر في كتابه: قال: نا أحمد الزبيري قال: نا عبد العزيز بن أبي رَوَّاد عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن صلاة الليل، فقال: "صلاة الليل مثنى مثنى، يسلِّم في كل ركعتين، فإذا خفتَ الصبحَ، فصلِّ (¬4) ركعة توتِرُ لك ما قبلها" (¬5)، وهذا نص في أنه يكون ركعة منفردة. فإن قيل: نحمل قوله: "يسلِّم في كل ركعتين" على أن المراد به: التشهد في كل ثنتين؛ كما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "وفي كل ركعتين فسلم" (¬6)؛ يعني: فتشهد، يبين صحة هذا: قوله: "توتر [لك] ما قبلها"، ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 126)، والإشراف (1/ 289). (¬2) في الأصل: أحد عشر ركعة. (¬3) ينظر: الأم (8/ 554)، والحاوي (2/ 293). (¬4) في الأصل: صل، والتصويب من المسند. (¬5) مضى تخريجه في (2/ 152). (¬6) أخرجه الدارقطني في سننه، باب: صلاة الإمام وهو جنب أو محدث، رقم (1377)، وفي سنده أبو حنيفة، وأبو سفيان طريف بن شهاب، =

وإنما يصح هذا إذا كانت متصلة بما قبلها. قيل له: أما حملُه على أن المراد بالسلام: التشهد في كل ثنتين، فلا يصح؛ لأن السلام إذا أُطلق، عقل منه: الذي يُتحلل به من الصلاة، ألا ترى أنه قال: "تحليلها التسليم" (¬1)؟ فعُقل منه السلام المعهود، وهو الذي يقع به التحلل منها، فمن حمله على غير ذلك، أزاله عن ظاهره، وأما قوله: "توتر ما قبلها"، فكذا نقول؛ لأنه لا يصح إلا أن ينوي بالثلاثة وترًا عند الاستفتاح، فأما إن صلى ركعتين من صلاة الليل، وينوي بالثالثة (¬2) الوتر، فلا، وقد تكون صلاة واحدة تفصل بعضها عن بعض بسلام، ألا ترى أن التراويح عشرون ركعة، ويسلم من كل ركعتين، واسم التراويح يقع على الجميع، كما أن اسم الوتر يقع على الجميع. وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬3) قال: نا حسين بن محمد (¬4) قال: ثنا ابن أبي ذئب عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ما بين العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ................................... ¬

_ = وهو ضعيف. ينظر: التقريب ص 289. (¬1) مضى في (1/ 424). (¬2) في الأصل: الثالث، والصواب المثبت. (¬3) رقم (24461). (¬4) ابن بَهْرام التميمي، أبو أحمد أو أبو علي المروذي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 213 هـ. ينظر: التقريب ص 151.

يسلّم في كل اثنتين ويوتر بواحدة (¬1). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بواحدة (¬2). وروى أبو بكر النجاد قال: نا إبراهيم بن عبد الله (¬3) قال: نا محمد بن كثير (¬4) قال: نا همام عن قتادة: عن أبي مجلز (¬5) قال: سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن الوتر؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ركعة من آخر الليل" (¬6)، وسألت ابن عباس - رضي الله عنهما -، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 154). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه، في كتاب: الوتر، باب: ما يقرأ في ركعات الوتر، رقم (1672)، ورواته ثقات، قاله أبو الطيب آبادي في التعليق المغني (2/ 359). (¬3) أبو مسلم الكجِّي، البصري صاحب السنن، قال الذهبي عنه: (الشيخ، الإمام، الحافظ، المعمر)، توفي سنة 292 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 423)، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 295. (¬4) العبدي، البصري، قال ابن حجر: (ثقة لم يصب مَنْ ضعَّفه)، توفي سنة 223 هـ. ينظر: التقريب ص 561. (¬5) هو: لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي، البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 106 هـ. ينظر: التقريب ص 655. (¬6) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (752).

"ركعة من آخر الليل" (¬1). وروى النجاد قال: نا عبيد بن شريك (¬2) قال: نا ابن أبي مريم (¬3) قال: نا يحيى بن أيوب (¬4) عن إسحاق بن أسيد (¬5)، عن عبد الكريم بن أبي المخارق (¬6)، عن الحسن بن أبي الحسن (¬7) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوتروا بثلاث، افصلوا بين الركعتين والوتر" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (753). (¬2) هو: عبيد بن عبد الواحد بن شريك، أبو محمد البزار، قال عنه الدارقطني: (صدوق)، توفي سنة 285 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 385). (¬3) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجُمَحي بالولاء، أبو محمد البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت فقيه)، توفي سنة 224 هـ. ينظر: التقريب ص 224. (¬4) الغافقي، أبو العباس المصري، قال ابن حجر: (صدوق ربما أخطأ)، توفي سنة 168 هـ. ينظر: التقريب ص 657. (¬5) الأنصاري، أبو عبد الرحمن الخراساني، قال ابن حجر: (فيه ضعف). ينظر: التقريب ص 72. (¬6) أبو أمية المعلِّم، البصري، قال ابن حجر: (ضعيف)، توفي سنة 126 هـ. ينظر: التقريب ص 391. (¬7) هو: الحسن البصري، مضت ترجمته. (¬8) لم أقف على من أخرجه، وسنده ضعيف؛ لإرسال الحسن، ولضعف عبد الكريم بن أبي مخارق.

وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس، فليوتر، ومن أحب أن يوتر بثلاث، فليوتر، ومن أحب أن يوتر بواحدة، فليفعل" (¬1)، وهذه الأخبار تدل على جواز الوتر بركعة منفردة. وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: نا عبد الرزاق قال: نا معمر عن قتادة، عن زُرارة بن أَوفى (¬3): أن سعد بن هشام بن عامر (¬4) - وكان جارًا له - أخبره: أنه دخل على عائشة - رضي الله عنها -، فذكرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يصلي تسع ركعات، لا يقعد فيهن إلا عند الثامنة، فيحمد الله، ويذكره، ويدعو (¬5)، ثم ينهض لا يسلِّم، ثم يصلي التاسعة، فيقعد يحمد الله ويذكره ويدعو (5) ثم يسلم تسليمًا يُسمعنا (¬6) ثم يصلي ركعتين وهو قاعد (¬7). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 181). (¬2) رقم (25347). (¬3) العامري، الحَرَشي، أبو حاجب البصري، قال ابن حجر: (ثقة عابد)، توفي سنة 93 هـ. ينظر: التقريب ص 202. (¬4) الأنصاري، المدني، قال: (ثقة). ينظر: التقريب ص 221. (¬5) في الأصل: يدعوا. (¬6) في الأصل: سبعًا، والتصويب من المسند. (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل، رقم (746).

وروى أحمد (¬1) - وذكره أبو بكر - قال: نا عبد الرزاق قال: نا سفيان (¬2) عن منصور (¬3)، عن الحكم (¬4)، عن مقسم (¬5)، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بخمس أو سبع، لا يفصل بينهن بكلام ولا تسليم (¬6). وروى أبو بكر بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمس، لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة، فيسلم (¬7). وهذه الأخبار تدل على جواز الوتر بأكثر من ثلاث بسلام واحد، ¬

_ (¬1) في المسند رقم (26641). (¬2) الثوري، مضت ترجمته. (¬3) ابن المعتمر، مضت ترجمته في (1/ 338). (¬4) ابن عُتيبة، أبو محمد الكندي الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت فقيه، إلا أنه ربما دلّس)، توفي سنة 113 هـ. ينظر: التقريب ص 159. (¬5) ابن بُجرة، ويقال: نجدة، أبو القاسم، قال ابن حجر: (وكان يرسل)، أخرج له البخاري، توفي سنة 101 هـ. ينظر: التقريب ص 609. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4668)، قال الألباني: (وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير مقسم، فهو من رجال البخاري، ولكنه لم يسمع من أم سلمة، كما قال هو وغيره من الأئمة. لكن صح حديثها من حديث عائشة من طريق آخر). ينظر: السلسلة الصحيحة (6/ 460). (¬7) مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، رقم (737).

وأنه إذا كان الوتر بخمس أو سبع، سرد الركعات، ولم يجلس إلا في آخرهن، وإن كان بتسع، جلس في الثامنة، وقام، ثم سلم في التاسعة. فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا في الوقت الذي كان يتنفل بالوتر، فلما وجب، قصر على الثلاث، ويحتمل أن يكون المراد بالخبر: كان يُصلي إحدى عشرة، وتسع، وسبع، وخمس فيهن الوتر. قيل له: أما قولك: كان في الوقت الذي يتنفل به، فلا نسلم لك هذا، ولأن الوتر كان على صفة واحدة نفلًا، ولم يكن له حالة كان فيها مسنونًا، ثم وجب، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة، وأما قوله: يحتمل أن يكون يُصلي إحدى عشرة، وتسع، وسبع، وخمس، فيهن الوتر، لا يصح؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قد ذكرت في حديث: كان يُصلي ما (¬1) بين عشاء الآخر [ة] إلى الفجر إحدى عشرة (¬2) ركعة، يسلِّم في كل اثنتين، ويوتر بواحدة (¬3)، وهذا يقتضي واحدة منفردة، وفي حديث أم سلمة - رضي الله عنها - (¬4): يوتر بخمس وسبع، لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام. وبتسع لا يقعد فيهن إلا عند الثامنة (¬5)، وهذا يُسقط ما قالوه. ¬

_ (¬1) في الأصل: بنا، والتصويب من المسند، رقم الحديث (24461)، وفي صحيح مسلم: فيما. (¬2) في الأصل: أحد عشر. (¬3) مضى تخريجه في (2/ 154). (¬4) مضى في (2/ 195). (¬5) مضى في (2/ 156).

ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: فروى أحمد - رحمه الله - (¬1)، - ذكر [هـ] أبو بكر - قال: نا يحيى بن سعيد عن عبد الله (¬2)، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يسلم من ركعتين من الوتر، ويأمر بحاجته، ثم يوتر بركعة (¬3)، قال أحمد - رحمه الله - في رواية زياد بن أيوب (¬4): كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يسلم من اثنتين، ثم يقضي حاجته، ثم يقوم فيوتر بواحدة، وهو عندنا ثبت، ونأخذ به. وروى النجاد بإسناده عن عطاء قال: قال لي ابن عباس - رضي الله عنهما -: ألا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من رواية الإمام أحمد - رحمه الله -. (¬2) ابن عمر، المعروف بـ (العمري)، مضت ترجمته. (¬3) أخرج عبد الرزاق نحوه في مصنفه رقم (4670)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 140)، رقم (1074)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 178 و 188)، وعلقه البخاري في صحيحه جازمًا به في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، رقم (991): عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته، وقد رواه مالك في الموطأ عن نافع: أن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وذكره. ينظر: الموطأ، كتاب: صلاة الليل، باب: الأمر بالوتر. (¬4) ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 421). وزياد هو: ابن أيوب بن زياد، أبو هاشم، طوسي الأصل، المعروف بـ (دِلُّوْيَه)، قال عنه الإمام أحمد: (اكتبوا عن زياد بن أيوب؛ فإنه شعبة الصغير)، توفي سنة 252 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 419)، والمقصد الأرشد (1/ 402).

أعلمك كيف توتر؟ قال: قلت: بلى، فقام فصلى ركعة، فأوترها (¬1). وروى أيضًا النجاد بإسناده عن ابن [أبي] مليكة (¬2) قال: قدم علينا معاوية حاجًا، فصلى بنا العشاء، فأوتر بركعة، فعابوا عليه، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: عابوا على أمير المؤمنين بركعة! وإنما الوتر ركعة (¬3). وروى بإسناده عن عطاء الخرساني (¬4): أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان يوتر بواحدة (¬5). وروى بإسناده عن السائب بن يزيد: أن عثمان صلى خلف المقام، فأوتر بركعة (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الوتر بركعة واحدة، رقم (4792)، وفي سنده عِسْل بن سفيان التميمي، ضعيف، ينظر: التقريب ص 427. وقد مضى قول ابن عباس - رضي الله عنهما - لأبي مجلز - الذي رواه مسلم - في جواز الوتر بركعة، وينظر: مسائل صالح رقم (238). (¬2) في الأصل: ابن مليكة. (¬3) أخرجه البخاري بنحوه في كتاب: فضائل الصحابة، باب: ذكر معاوية - رضي الله عنه -، رقم (3764 و 3765). (¬4) هو: عطاء بن أبي مسلم، أبو عثمان الخرساني، قال ابن حجر: (صدوق يهم كثيرًا، ويرسل ويدلس)، توفي سنة 135 هـ. ينظر: التقريب ص 431. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) أخرجه ابن نصر في "صلاة الليل" ص 49، وينظر: مختصر قيام الليل ص 286، وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة عن نائلة بنة فرافصة - زوجة عثمان - رضي الله عنهما - في مصنفه رقم (6884)، وأخرجه الدارقطني في كتاب: الوتر، =

وروى بإسناده عن عبد الله بن سَلِمة (¬1) قال: أمَّنا سعد - رضي الله عنه - في العشاء ثم تنحى، فصلى ركعة، فأتيته، فأخذت بيده فقلت: ما هذه؟ قال: وترٌ أنام عليها (¬2). وروى بإسناده عن سعد بن مالك - رضي الله عنه -: كان يصلي العشاء، ثم يصلي ما شاء الله، ثم ينقلب إلى منزله، فإذا كان في السحر، ركع (¬3) ركعة أوترها (¬4). وهذا إجماع منهم على جواز الوتر بركعة. والقياس: أن الصلاة شفع ووتر، فلما جاز أن يكون الشفع صلاة ¬

_ = باب: ما يقرأ في ركعات الوتر، رقم (1673) عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الوتر بركعة واحدة، رقم (4782 و 4783)، وأخرجه في معرفة السنن والآثار (4/ 60)، وقال في كنز العمال (13/ 15) رقم (36168): (سنده حسن)، وحسّن إسناده المباركفوري في تحفة الأحوذي (2/ 456). (¬1) المرادي، الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق، تغير حفظه). ينظر: التقريب ص 321. (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 295) بلفظ: (وتر أنام عليه)، وحسّن إسناده المباركفوري في تحفة الأحوذي (2/ 456)، ومضى سابقًا احتجاجُ الإمام أحمد في رواية حنبل بفعله - رضي الله عنه -، وقد ثبت ذلك عنه - وقد مضى تخريجه - كما في صحيح البخاري. (¬3) في الأصل: ركعة. (¬4) لم أقف عليه.

صحيحة، كذلك أقل الوتر يجوز أن يكون صلاة صحيحة. وأيضًا: فإن ما جاز أن يقع بين جلستين من الركعات، جاز أن يكون صلاة صحيحة بحال؛ كالركعتين، وقد يقدر أن ركعة واحدة يجوز أن تقع بين جلستين، وهي (¬1) الركعة الثالثة من صلاة المغرب، فجاز أن يكون صلاة صحيحة؛ كالركعتين، وأيضًا: فإنه إذا أوتر بثلاث ركعات، فإنه يجهر بالقراءة في جميعها، ولم نجد الجهر في الصلوات في أكثر من ركعتين، فلما اتفقنا على أن المستحب الجهر بالقراءة في الجميع، وجب أن يكون الأفضل أن يفصل الثالثة عن الركعتين. فإن قيل: إنما كان الجهر مسنونًا بالقراءة في الركعتين؛ لأن القراءة فرض فيهما، والصلاة مما يجهر بالقراءة فيها، وأما الوتر، فالقراءة واجبة في جميع ركعاته، وهو من الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فكان الجهر بها في جميع ركعاته مسنونًا. قيل له: السؤال باقٍ، وذلك أن القراءة عندك لا تجب في صلاة المغرب إلا في الركعتين الأوليين، ولا تجب في الثالثة، فلما أوجبت القراءة في الجميع، وجب أن يفصل بينهما؛ لتساوي (¬2) سائر الصلوات في الحكم. فإن قيل: لا يمتنع أن يخالف بينها، وبين سائر الصلوات فيما ¬

_ (¬1) في الأصل: وهو. (¬2) في الأصل: ليساوي.

ذكرت، كما خالفت أنت بينها، وبين سائر الصلوات، وقلت: بأن الجميع صلاة واحدة، ولم نجد صلاة واحدة يفصل بعضها عن بعض بسلام. قيل له: قد وجدنا هذا في النوافل، والوتر عندنا نافلة، ألا ترى أن التراويح عشرون ركعة، ويسلم من كل ركعتين، واسم التراويح يقع على الجميع، كما أن اسم الوتر يقع على الجميع. واحتج المخالف: بما روى أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، لا يسلِّم حتى ينصرف (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسلِّم في ركعتي الوتر (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أُبيّ بن كعب في الوتر، رقم (1699)، والدارقطني في كتاب: الوتر، باب: ما يقرأ في ركعات الوتر، رقم (1659)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يقنت في الوتر قبل الركوع، رقم (4864)، واللفظ له، قال صاحب المهذب: (حديث أبي بن كعب غير ثابت عند أهل النقل)، وأقره النووي، وضعّف الحديث ابنُ الملقن. ينظر: المهذب (1/ 273)، والمجموع (3/ 350)، والبدر المنير (4/ 330)، وسيأتي تضعيف المؤلف له. (¬2) أخرجه النسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: كيف الوتر بثلاث؟ رقم (1698)، وضعّف إسناده الإمام أحمد. ينظر: المنتقى، كتاب: الصلاة، باب: الوتر بركعة، وبثلاث، رقم (926)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 421).

وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل أربعًا أربعًا، ثم ثلاثًا (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أوتر النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث (¬2). وعن علي - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث ركعات (¬3). وفعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأوصافُها، وأعدادُ (¬4) ركعاتها يَرِدُ على وجه البيان لجملة واجبة في القرآن، فيجب أن يكون على الوجوب، فلا يجوز الزيادة على العدد، ولا النقصان منه. والجواب عن حديث أُبيّ، وأنه كان لا يسلم، فغير محفوظ؛ لأن أبا داود (¬5)، .................................... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بنحوه في أبواب التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، رقم (1147)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، رقم (738). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل، رقم (763). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (685)، والترمذي في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر بثلاث، رقم (460)، وفي سنده الحارث بن عبد الله الأعور، قال ابن حجر عنه: (في حديثه ضعف)، وضعف الحديث ابنُ الجوزي، والذهبي. ينظر: التحقيق (3/ 315)، والتنقيح (3/ 313)، والتقريب ص 125. (¬4) في الأصل: واعتداد، والصواب المثبت؛ كما يتبين مما بعده. (¬5) ينظر: السنن، كتاب: الصلاة، باب: القنوت في الوتر.

وأبا بكر بن المنذر (¬1)، وأبا الحسن الدارقطني (¬2) استقصوا على ألفاظه، ولم يذكروا هذا اللفظ، ولو صح، حُمل على أنه قصد بذلك: بيان الجواز دون الفضيلة، ونحن نجيز ذلك، ويكون الفضل فيما ذهبنا إليه؛ لمداومته عليه، ولاشتهاره في الرواية، وعمل الأئمة به. وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية الأثرم (¬3)، وإبراهيم بن الحارث (2): فيمن أخر وتره حتى أصبح: فيعجبني أنه يوتر بركعة ليس قبلها صلاة، وإن أوتر بثلاث لم يسلم بينهن، لم يضق عندي (¬4)، فقد نص على جواز ذلك. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسلم في كل ركعتين، فالمشهور عنها: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند: وأنه كان يصلي ما بين العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلِّم في كل اثنتين، ويوتر بركعة (¬5). وروى النجاد عنها - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بواحدة (¬6). وقد ضعَّف أحمد - رحمه الله - ........................ ¬

_ (¬1) ينظر: الأوسط (5/ 203). (¬2) ينظر: السنن، كتاب: الوتر، باب: ما يقرأ في ركعات الوتر. (¬3) نقل الرواية بدون ذكر راويها صاحبُ المغني (2/ 588)، والشرح الكبير (4/ 121)، والكافي (1/ 339)، والإنصاف (4/ 120). (¬4) في المغني، والإنصاف: (لم يضيّق عليه عندي). (¬5) مضى تخريجه في (2/ 154). (¬6) مضى تخريجه في (2/ 193).

ما رووه (¬1)، فقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بثلاث؟ فقال: هذا خطأ، إنما هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس في الثانية، ولا يسلم، وروى أيضًا محمد بن أصرم المزني: أن أبا عبد الله سئل عن حديث عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسلم من ركعتين من الوتر؟ فضعفه من قِبَل سعيد بن أبي عروبة (¬2)، قال في رواية عبد الله (¬3): كان سعيد اختلط في حديثه أخيرًا (¬4)، وعلى أنا نحمل ما روته على الجواز؛ بدليل ما ذكرنا. وأما حديث علي، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بثلاث، فليس فيه بيان هل كان بسلام واحد، أو بسلامين، وقد روينا فيه بيانًا، وأنه فصل بينها بسلام. واحتج: بما روى محمد بن كعب القرظي (¬5) - رحمه الله -: أن ¬

_ (¬1) ينظر: المنتقى، كتاب: الصلاة، باب: الوتر بركعة، وبثلاث، رقم (926)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 421). (¬2) اسمه: مهران اليشكري مولاهم، أبو النضر البصري، قال ابن حجر: (ثقة حافظ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط)، توفي سنة 156 هـ. ينظر: التقريب ص 230. (¬3) في الأصل: في رواية أبي عبد الله، والصواب المثبت. (¬4) ينظر: العلل ومعرفة الرجال (1/ 164 و 484). (¬5) ابن سليم بن أسد، أبو حمزة القرظي، المدني، قال ابن حجر: (ثقة عالم)، توفي سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 561.

النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء (¬1)، وهو أن يوتر الرجل بركعة ليس فيها صلاة تتقدمها. وهذا كما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت تقول: الوتر سبع وخمس، والثلاث بتراء (¬2). واحتج: بما رُوي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أنه قال: ما أجزأت ركعة قَطُّ (¬3). والجواب: أنا لا نعرف هذا، ولو صح، حُمل على الفرض؛ لأن ¬

_ (¬1) في الأصل: البتراء. والحديث ذكر ابن رجب: أن سعيد بن منصور أخرجه من حديث محمد بن كعب مرسلًا، ولم أقف عليه، وضعف الحديثَ: النووي، والزيلعي، وقال: (لم أجده). ينظر: المجموع (3/ 359)، ونصب الراية (2/ 173)، وفتح الباري (6/ 200). ورواه ابن عبد البر بإسناده مرفوعًا من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وأشار لضعفه، بل قال ابن القطان: (والحديث من شاذ الحديث الذي لا يعرج على رواته ما لم تعرف عدالتهم)، أقره الذهبي. ينظر: التمهيد (13/ 254)، وبيان الوهم (3/ 154)، وميزان الاعتدال (3/ 53)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 199). (¬2) أخرجه ابن المنذر في الأوسط (5/ 183)، وذكر الشوكاني: أن إسناده صحيح. ينظر: نيل الأوطار (2/ 291). (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير، رقم (9422)، قال النووي في الخلاصة (1/ 557): (موقوف ضعيف).

ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يقول: صلاة الحضر أربع، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة (¬1)، فقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما أجزأت ركعة قط (¬2). وعلى أن محمد بن نصر المروزي روى بإسناده (¬3) عن إبراهيم عن الأسود: أن عبد الله بن مسعود - رضي الله [عنه] (¬4) - كان يوتر بسبع، وبخمس (¬5)، وهذا خلاف مذهبهم، فلم يكن فيما رووه عنه حجة. واحتج: بأنها صلاة هي وتر، فوجب أن يكون (¬6) ثلاثًا بتسليمة واحدة؛ كالمغرب. والجواب: أنه لو كانت كالمغرب، لوجب أن لا يتعدى الجهر من المثنى إلى الثلاث، ولا يتعدى وجوب القراءة عندك إلى الثلاث؛ كالمغرب، فإن قلت: بأن الجهر، ووجوبَ القراءة يتعدى إلى الثالثة، دل على أنها غير موصولة. واحتج: بأن الوتر لا يخلو إما أن يكون نفلًا، أو واجبًا، فإن كان ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم بنحوه في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين، رقم (687). (¬2) لم أقف عليه في سياق الرد على قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، وينظر: المجموع (3/ 359). (¬3) ينظر: صلاة الوتر ص 62، ومختصر قيام الليل ص 293. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) لم أقف على بقية سنده، ولا من أخرجه. (¬6) كذا في الأصل، ولعلها: تكون.

نفلًا، فيجب أن (¬1) أنه الفروض، وليس في الفروض ركعة مفردة صلاة، وإن كان واجبًا، لم يجز الاقتصار على ركعة واحدة؛ كسائر الصلوات، ولأن كل من يقول: إنه واجب، فإنه يقول: ثلاث ركعات بتسليمة واحدة. والجواب: أنه نفل، وقد دللنا عليه فيما تقدم، وإذا كان نفلًا، كان التسليم من كل مثنى أولى؛ كما قلنا في سائر النوافل، وقد ذكرنا أن الأصل أن يسلم من كل ركعتين، وليس في النوافل التسليم بثلاث، فسقط هذا. واحتج: بأنها صلاة وتر، فلم يُفصل عما قبلها؛ دليله: إذا كان الوتر بخمس، أو سبع، أو تسع، أو بإحدى عشرة، فإنه لا يُفصل بينه وبين ما قبله، كذلك إذا كان بثلاث. والجواب: أن الأفضل هنا: أن (¬2) يسلم من كل ركعتين، ولكن إذا لم يفصل، جاز، ومثله نقول: إذا كان الوتر ثلاثًا، الأفضلُ أن يفصل بينهما بسلام، فإن لم يفعل، جاز، فلا فرق بينهما. ¬

_ (¬1) كلمة لم أهتد لقراءتها [. . . . . .]، ويفسرها ما جاء في نصب الراية (2/ 121): (الوتر لا يخلو إما أن يكون فرضًا، أو سنة، فإن كان فرضًا، فالفرض ليس إلا ركعتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا، وكلهم أجمعوا أن الوتر لا يكون اثنتين، ولا أربعًا، فثبت أنه ثلاث، وإن كان سنة، فإنا لم نجد سنة، إلا ولها مِثْلٌ في الفرض منه أخذ، والفرضُ لم نجد منه وترًا إلا المغرب، وهو ثلاث، فثبت أن الوتر ثلاث). (¬2) في الأصل: كان.

84 - مسألة: القنوت مسنون في الوتر في سائر السنة

واحتج: بأن أقل صلاة النفل ركعتان، وهذه الوتر نافلة، فكان يجب أن يصله بما قبله. والجواب: أن الركعة الواحدة هل تكون صلاة صحيحة؟ فيها روايتان: إحداهما: تكون صلاة، نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد (¬1): إذا نذر أن يصلي نافلة ركعة، فلولا أنها صلاة مجزئة، لم تجزئه، فعلى هذا لا يصح القياس. والثانية: لا تكون صلاة، نص عليه في رواية أحمد بن هشام (¬2): في رجل صلى ركعة تطوعًا، ثم سلم يظن أنها اثنتان، ثم ذكر؟ قال: يُصلي أخرى، ثم يسجد سجدتي السهو بعد السلام، وهذا يمنع أن تكون الركعة صلاة، فعلى هذا الفرق بينهما: أن الركعة ليس قبلها صلاة، فتكون تابعة لها، وليس كذلك الوتر؛ لأنها، وإن كانت منفصلة بسلام، فهي تابعة لما قبلها، والجميع وتر، والله أعلم. * * * 84 - مَسْألَة: القنوت مسنون في الوتر في سائر السَّنة: ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (3/ 70)، والمغني (13/ 634)، والشرح الكبير (28/ 231). (¬2) لم أقف عليها.

نص على هذا في رواية خطاب بن بشر (¬1)، فقال: كنت أذهب إلى أن أقنت في النصف من رمضان، ثم رأيت أن لا يُضيَّق على الناس، ليقنتِ السنةَ كلَّها، ويرفعْ يديه، ويقنتْ بعد الركوع (¬2). وقد أطلق القول في رواية أبي طالب (¬3)، وأبي الحارث (¬4)، فقال: أذهبُ إلى أن أقنت في النصف الأخير من رمضان، وقال في رواية مهنا (¬5): أما أنا، فلا أقنت إلا في النصف من شهر رمضان. وقال في رواية أبي جعفر بن عبد الله الوراق (¬6) - وقيل له: يقنت الرجل السنة كلها؟ -، قال: إن قنت، فما بأس، لا يضره، أما أنا، فما نقنت إلا في النصف ¬

_ (¬1) في الأصل: بسر. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 163)، والفروع (1/ 111)، والمبدع (1/ 73)، والإنصاف (4/ 124)، وكشاف القناع (1/ 98)، ونقل نحوها ابنُ هانئ في مسائله رقم (497 و 500)، والمروذي. ينظر: المغني (2/ 580)، والشرح الكبير (4/ 125). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 163). (¬4) في الأصل: الحرب، وينظر في رواية أبي الحارث: الروايتين (1/ 163). (¬5) لم أقف على رواية مهنا، وقد نقلها عنه صالح في مسائله رقم (233 و 354)، وعبد الله في مسائله رقم (467)، وأبو داود في مسائله رقم (470)، والكوسج في مسائله رقم (437 و 3416). (¬6) لم أقف على روايته، لكنها هي رواية الجماعة عن الإمام أحمد - رحمه الله -، ينظر: الحاشية الماضية، والفروع (1/ 111)، والمبدع (1/ 73)، والإنصاف (4/ 124)، وكشاف القناع (1/ 98).

الأخير من شهر رمضان. وقال مثنى بن جامع (¬1): سألته عن القنوت، فأكثرُ علمي أنه لم يره في السنة كلها، وأجازه لمن فعله. فظاهر هذا: أنه مسنون في النصف الأخير، ولا يستحب ذلك في كل ليلة، وعندنا (¬2): أنه قد رجع عن هذا القول؛ لأنه قد صرح بذلك في رواية خطاب، وبهذا قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬3). وقال مالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهما الله -: يقنت في النصف الأخير من رمضان. دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬6) قال: نا وكيع قال: نا يونس بن أبي إسحاق (¬7) ................................ ¬

_ (¬1) لم أقف عليها من رواية مثنى، ونقلها صالح في مسائله رقم (233 و 354)، وعبد الله في مسائله رقم (418 و 453 و 467)، وينظر: ما مضى من المراجع، والمستوعب (2/ 199)، ومختصر ابن تميم (2/ 177). (¬2) في الأصل: وعند. ينظر: الفروع (1/ 111)، والإنصاف (4/ 124)، وكشاف القناع (1/ 98). (¬3) ينظر: مختصر الطحاوي ص 28، ومختصر القدوري ص 75. (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 291)، والكافي ص 74، لكن القول الصحيح عندهم: أنه لا يقنت مطلقًا. ينظر: المدونة (1/ 224 و 225)، والكافي ص 74. (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 291)، والبيان (2/ 268). (¬6) رقم (1718). (¬7) السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق يهم قليلًا)، توفي سنة 152 هـ. ينظر: التقريب ص 686.

عن بريد (¬1) بن أبي مريم السلولي (¬2)، عن أبي الحوراء (¬3)، عن الحسن قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: "اللهمَّ اهدِني فيمَنْ هديت، وعافِني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت؛ فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذلُّ مَنْ والَيْت، تبارَكْتَ [رَبَّنا] (¬4) وتعالَيْت" (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: يزيد، والتصويب من المسند. (¬2) هو: بريد بن مالك بن ربيعة السلولي، البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 144 هـ. ينظر: التقريب ص 95. (¬3) في الأصل: أبي الجوزاء، والتصويب من سند الحديث. وأبو الحوراء هو: ربيعة بن شيبان السعدي، البصري، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 194. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: القنوت في الوتر، رقم (1425)، والترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في قنوت الوتر، رقم (464)، وقال: (حديث حسن ... لا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئًا أحسن من هذا)، والنسائي في كتاب: قيام الليل، باب: الدعاء في الوتر، رقم (1745)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في قنوت الوتر، رقم (1178)، وصحح الحديث جمعٌ من أهل العلم، قال ابن عبد البر: (هذا يرويه الحسن بن علي من طرق ثابتة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الدعاء يقنت به في الصلاة). ينظر: الاستذكار (6/ 203)، والبدر المنير (3/ 630)، وتلخيص الحبير (2/ 705)، ومال ابن خزيمة إلى ضعف لفظة: (في قنوت الوتر). ينظر: صحيح ابن خزيمة (2/ 151).

وروى أبو بكر النجاد في كتابه بإسناده، وأبو بكر عبد العزيز بإسناده عن أبي الحوراء، عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: علمني جدي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذلُّ من واليت، تباركت [ربنا] وتعاليت" (¬1). وروى إبراهيم الحربي بإسناده (¬2) في لفظ آخر هذا الدعاء، وزاد فيه: يقول، أو تقول في القنوت في الوتر، وهذا إشارة إلى كل وتر. فإن قيل: هذا الحديث ضعيف؛ لأن محمد بن إسحاق بن خزيمة ذكر في مختصر المختصر (¬3): روى شعبة قال: حدثني ابن أبي مريم عن أبي الجوزاء قال: سألت الحسن، أو قال: قلت للحسن بن علي - رضي الله عنهما -: ما تذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان يعلمنا هذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت ... إلى آخره، فقال ابن خزيمة: شعبةُ أحفظ من أبي إسحاق، ومن عدد مثل أبي إسحاق، فقد أنكروا هذا الحديث. قيل له: هذا حديث ثابت، قد روى أبو بكر النجاد، وأبو بكر عبد العزيز - رحمهما الله - من طريق، ويجوز أن لا يقع لشعبة، وقد قال ¬

_ (¬1) ينظر: حاشية رقم (5) من الصفحة الماضية. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) ينظر: صحيح ابن خزيمة (2/ 152).

أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل (¬1): يدعو بدعاء ابن مسعود: اللهم إنا نستعينك (¬2)، فإذا فرغ من ذلك، فدعاء الحسين بن علي - رضي الله عنهما -. قال الخلال: وَهِمَ حنبل في قول ابن مسعود، إنما هو عمر (¬3)، وهذا يدل على صحة الحديث عن الحسن، لأن أحمد أخذ به. فإن قيل: فأحمدُ قد ضعفه؛ لأن الميموني قال لأحمد: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيء؟ فرأيته منكرًا للقنوت، فقلت له: شعبة وسفيان يرويه، فقال: إنما قال: كان يدعو، ولم يقل: يقنت (¬4)، وكذلك ابن مشيش (¬5)، فقال: ذكر أبو عبد الله حديث القنوت، فقال: هو ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية حنبل، ونقلها عنه الفضل بن زياد. ينظر: بدائع الفوائد (4/ 1411)، وينظر: الهداية ص 88، والإنصاف (4/ 127). (¬2) أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ابنُ أبي شيبة في مصنفه رقم (6965) قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: علمنا ابن مسعود أن نقرأ في القنوت ... فذكره، وأبو عبد الرحمن هو: السّلمي، وابن فضيل قال ابن حجر عنه: (صدوق). ينظر: التقريب ص 560. (¬3) أثر عمر - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4968)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (7100)، والبيهقي في سننه، كتاب: الصلاة، باب: دعاء القنوت، رقم (3143)، وقال: (روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيحًا موصولًا). (¬4) لم أقف على رواية الميموني، وينظر: العلل ومعرفة الرجال (3/ 154 و 218)، وزاد المعاد (1/ 334). (¬5) في الأصل: مسس، ولم أقف على روايته.

صحيح، إنما يقول: علَّمَني دعاء، ولم يقل: دعاء القنوت. قيل: لم ينكر أحمد أصل الحديث في الدعاء، وإنما أنكر لفظ القنوت، وقد قال في رواية الميموني في موضع آخر (¬1) - وقد سأله: هل يعرف قنوتًا في الوتر؟ -، قال: لا، إلا ما علم الحسن من ذلك الكلام، وهذا يدل على تصحيحه له. وروى أبو بكر بإسناده عن الحارث (¬2) عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في وتره: "اللهمَّ إني أعوذُ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أَثنيتَ على نفسك" (¬3). وقوله: كان يقول في وتره إخبارٌ عن دوام الفعل، وهذا هو القنوت، ¬

_ (¬1) لم أقف عليها. (¬2) في الأصل: (الحرث). والحارث مضت ترجمته، وفي حديثه ضعف. ينظر: التقريب ص 125. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: القنوت في الوتر، رقم (1427)، والترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في دعاء الوتر، رقم (3566)، وقال: (حديث حسن، غريب من حديث علي، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، والنسائي في كتاب: قيام الليل، باب: الدعاء في الوتر، رقم (1747)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في القنوت في الوتر، رقم (1179)، قال ابن تيمية: (في هذا الحديث نظر). ينظر: مجموع الفتاوى (9/ 298)، وينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 281)، وعلل الدارقطني (4/ 14).

ولأنه ذكر مسنون في هذه الصلاة، فوجب أن لا يختص بزمان دون زمان، أو لا يختص النصف الأخير من رمضان؛ قياسًا على سائر الأذكار. فإن قيل: لمَّا اختصَّ فعلُه بالجماعة في رمضان دون سائر السنة، جاز أن يختص بعض أذكاره بزمان دون زمان. قيل له: ولِمَ وجب ذلك؟ ثم يقال له: أليس لم يختص فعله جماعة في النصف من رمضان، بل يفعل في جميع رمضان، فيجب أيضًا أن لا يختص القنوت بالنصف الأخير. واحتج المخالف: بما روى أبو داود بإسناده (¬1): أن أُبي بن كعب أمّهم في رمضان، فكان يقنت في النصف الأخير، وروى: كان لا يقنت بهم إلا في النصف الأخير (¬2)، ومعلوم أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانت تجتمع لذلك، ولم ينقل عن أحد خلافه. وروى الحارث عن علي - رضي الله عنه - قال: كان يقنت في النصف من رمضان (¬3). ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: القنوت في الوتر، رقم (1428 و 1429)، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان، رقم (4629)، وهو أثر ضعيف؛ لجهالة في سنده. ينظر: الجوهر النقي لابن التركماني (2/ 701)، والبدر المنير (4/ 367). (¬2) في الهامش عبارة [صحته: الثاني]، يعني: بدلًا من الأخير. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7007)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: =

ونافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان لا يقنت إلا في النصف من رمضان (¬1). والجواب: أن إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: نا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة، عن حماد (¬2)، عن إبراهيم، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان يقنت في السنة كلها في الوتر قبل الركوع (¬3)، وهذا خلاف ما ذكروه عن أُبيّ، وعلى أنه يحتمل أن يكون لم يصلِّ بهم الوترَ إلا في النصف الأخير من رمضان، وصلَّى قبل ذلك لنفسه في بيته، وعلى أن أبا حفص البرمكي روى في مجموع له بإسناده عن أبي عبد الرحمن (¬4): أن عليًا كان يقنت في الوتر السنةَ كلَّها، ......................... ¬

_ = الصلاة، باب: من قال: لا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان، رقم (4631)، والحارث مضت ترجمته، وفي حديثه ضعف. ينظر: التقريب ص 125. (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7005)، وعبد الله في مسائله رقم (454)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان، رقم (4633)، وإسناده صحيح، لكن ينظر: الاستذكار (5/ 175). (¬2) ابن أبي سليمان، مضت ترجمته، وأنه صدوق له أوهام. (¬3) أخرجه محمد بن الحسن في الآثار (1/ 569)، وفي الحجة (1/ 138)، قال المباركفوري: (سنده منقطع). ينظر: تحفة الأحوذي (2/ 461)، وفي سنده أبو حنيفة، وابن أبي سليمان. (¬4) هو السّلمي، مضت ترجمته.

85 - مسألة: يقنت بعد الركوع

في شهر رمضان وغيرِه (¬1). وعلى أن ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى مما رُوي عن أبيّ بن كعب. واحتج: بأنه لا يستحب فعلُه في جماعة، فلا يستحب فيه القنوت، دليله: سائر الصلوات. والجواب: أنه يستحب فعله في جماعة في النصف الأول، ولا يستحب القنوت عندك، فلا معنى لهذا، ولأن القنوت في سائر الصلوات لا يستحب في النصف الثاني، فلم يستحب فيما قبله، وهذا بخلافه. والله أعلم، وله الحمد والمنة، وهو حسبي ونعم الوكيل. * * * 85 - مَسْألَة: يقنت بعد الركوع: نص عليه في رواية الأثرم (¬2)، فقال: أذهبُ إلى أنه بعد الركوع، وإن قنت قبل الركوع، فلا بأس، وقال أيضًا في رواية الفضل بن زياد (¬3) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه مسندًا، وقد ذكره ابن نصر في كتابه "صلاة الوتر" ص 92. (¬2) ينظر: المغني (2/ 582)، وكتاب "الصلاة" لابن القيم ص 212، ونقل عنه هذه الرواية عبدُ الله في مسائله رقم (420 و 421)، وابن هانئ في مسائله رقم (499). (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (4/ 1411).

- وقد سئل عن القنوت قبل الركوع، أو بعده؟ -، فقال: كلٌّ حسن، إلا أني أختار بعد الركوع. فقد نص على أنه يجوز قبل الركوع، ولكن المستحب بعده، وهو قول الشافعي (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2)، ومالك (¬3) - رحمهما الله -: يقنت قبل الركوع، إلا أن أبا حنيفة يكبر بعد فراغه من القراءة، ثم يقنت (2). دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع (¬4). ورواه أيضًا بإسناده عن خفاف بن إيماء (¬5) - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 154)، ونهاية المطلب (2/ 185). (¬2) ينظر: الحجة (1/ 137)، ومختصر الطحاوي ص 28. (¬3) ينظر: المدونة (1/ 102)، والإشراف (1/ 256)، والتلقين ص 82، على التخيير قبل الركوع، وبعده، والإمام مالك - رحمه الله - مال إلى ما قبل الركوع من غير تضييق. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: القنوت قبل الركوع وبعده، رقم (1001 و 1002)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، رقم (677). (¬5) في الأصل: حفاف بن يمان، والتصويب من صحيح مسلم. (¬6) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، رقم (679).

وروى النجاد قال: نا محمد بن يونس (¬1) قال: نا روح (¬2) قال: نا صالح (¬3) قال: نا ابن شهاب (¬4) عن سعيد بن المسيب: أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت بعد الركوع (¬5)، وقوله: كان، إخبارٌ عن دوام الفعل، ولا يداوم على ترك الفضل. وأيضًا: روى أحمد - رحمه الله - (¬6) ذكره أبو بكر، قال: نا هشيم: ثنا منصور (¬7) عن الحارث، عن إبراهيم، عن الأسود: أن عمر - رضي الله عنه - قنت ¬

_ (¬1) ابن موسى بن سليمان الكُدَيْمي، أبو العباس السامي، البصري، قال ابن حجر: (ضعيف)، توفي سنة 286 هـ. ينظر: التقريب ص 574. (¬2) ابن عبادة بن العلاء بن حسان القيسي، أبو محمد البصري، قال ابن حجر: (ثقة فاضل)، توفي سنة 205 هـ. ينظر: التقريب ص 198. (¬3) ابن أبي الأخضر اليمامي، قال ابن حجر: (ضعيف يعتبر به)، توفي بعد سنة 140 هـ. ينظر: التقريب ص 276. (¬4) الزهري، مضت ترجمته. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه من طريقه عن الزهري كما ذكره المؤلف، في كتاب: التفسير، باب: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، رقم (4556)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، رقم (675). (¬6) لم أجده، وأشار إليه الإمام أحمد في مسائل ابنه عبد الله رقم (428)، وأخرجه بالسند الذي ذكره المؤلف ابنُ أبي شيبة في مصنفه رقم (6972) بلفظ: (قنت في الوتر قبل الركوع)، ورجاله كلهم ثقات، وينظر: إرواء الغليل (2/ 165). (¬7) ابن زاذان الواسطي، أبو المغيرة الثقفي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت عابد)، توفي سنة 129 هـ. ينظر: التقريب ص 612.

في الوتر بعد الركوع (¬1). وروى أبو بكر النجاد قال: قُرِئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع قال: نا قريش بن أنس (¬2) قال: نا العوام بن حمزة (¬3) قال: سألت أبا عثمان (¬4) عن القنوت بعد الركوع، أو قبل الركوع؟ قال: صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان، وذكر رابعًا (¬5) - رضي الله عنهم - قنتوا بعد الركوع (¬6). ولا تكبيرة مفعولة بعد الفراغ من القراءة، فالمستحب أن يدخل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه بسنده في كتاب: الصلاة، باب: دعاء القنوت، رقم (3133)، وصححه عنه، بلفظ: (كان يقنت بعد الركوع). (¬2) الأنصاري، أبو أنس البصري، قال ابن حجر: (صدوق تغير بأَخَرة)، توفي سنة 208 هـ. ينظر: التقريب ص 509. (¬3) المازني، البصري، قال ابن حجر: (صدوق ربما وهم). ينظر: التقريب ص 479. (¬4) يعني: النهدي، مضت ترجمته. (¬5) في الأصل: وذكر أربعًا. (¬6) أخرجه البيهقي بإسناده في السنن، كتاب: الصلاة، باب: الدليل على أنه لم يترك أصل القنوت في صلاة الصبح، رقم (3108)، وكذلك أخرجه في المعرفة (3/ 124)، وقال: (هذا إسناد حسن)، وتعقبه التركماني بأن العوام بن حمزة عنده مناكير، فكيف يكون حسنًا؟ ينظر: الجوهر النقي (2/ 288)، قال الأثرم: قال لي أبو عبد الله: يحفظ عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي بكر وعمر؟ قلت: لا أعرف إلا حديث العوام بن حمزة في القنوت؛ يعني: قال: فإني استغربته، وافق هذا الشيخ. يعني: وافق عاصمًا الأحول. ينظر: تنقيح التحقيق للذهبي (3/ 367).

بها في الركوع؛ قياسًا على التكبير في الركعة الأولى، وعند أبي حنيفة: يكبر، ويدخل في القنوت. ولأن القراءة المشروعة في الصلاة لا يستحب قطعُها إلا بفعل مفروض، وهو الركوع؛ قياسًا على الركعة الأولى، ولأنه دعاء أُخِّر عن القراءة، فكان فعله بعد الركوع أولى؛ لأنه يكون عقيب الدعاء، وهو قول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. واحتج المخالف: بما رُوي في حديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث لا يسلِّم إلا في آخرهن، ويقنت في الثالثة قبل الركوع (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2) قال: ......................... ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (2/ 201)، وأخرج الجزء من الحديث أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: القنوت في الوتر، رقم (1427)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده، رقم (1182)، ومضى تضعيفه، وسيشير المؤلف إلى ضعفه. (¬2) كذا في الأصل، ولعل صوابه: ابن مسعود - رضي الله عنه -؛ لأمرين: 1 - أن المؤلف في جوابه لدليل المخالف ناقش حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وذكر أن الدارقطني رواه، والذي وجدته في سنن الدارقطني هو حديث ابن مسعود، لا حديث ابن عباس - رضي الله عنهم -. 2 - أن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - لم أقف عليه. وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الوتر، باب: =

رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر قبل الركوع. والجواب: أن أحمد - رحمه الله - قال في رواية حنبل (¬1): كل ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القنوت بعد الركوع، وقال أيضًا في رواية عبد الله (¬2): كل حديث رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في القنوت، إنما هو في الفجر، لما رفع رأسه من الركوع. وهذا يدل على أن ما رُوي في القنوت قبل الركوع غيرُ ثابت، وقد تكلم أبو داود (¬3) في كتابه (¬4) على حديث أُبيّ، وقال: ذكرُ القنوت فيه وهمٌ، قال: لأنه روى سليمان الأعمش، وشعبة، وعبد الملك بن أبي سليمان، وجرير بن حازم، كلهم عن زُبَيْد (¬5)، لم يذكر أحد منهم القنوت. ¬

_ = ما يقرأ في ركعات الوتر والقنوت فيه، رقم (1662 و 1663)، وأشار لضعفه، كما سيذكره المؤلف. (¬1) لم أقف عليها، وينظر: صلاة الوتر لابن نصر ص 100، وزاد المعاد (1/ 334). (¬2) في مسائله رقم (428). (¬3) في الأصل: ابن داود. (¬4) السنن، في كتاب الصلاة، باب: القنوت في الوتر، رقم (1427). (¬5) في الأصل: رييد. وزبيد هو: ابن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب اليامي، أبو عبد الرحمن الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت عابد)، توفي سنة 122 هـ. ينظر: التقريب ص 200.

وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال (¬1) الدارقطني - رواه في كتابه (¬2) -، وقال: رواه أبان بن أبي عياش (¬3) عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، وأبان متروك الحديث. وعلى أنا نحمل ذلك على الجواز، وما رويناه على الاستحباب والفضل؛ لأن الأئمة عملت علته (¬4). واحتج: بأنه ذكرٌ مفعول في حال الاستقرار من القيام، فوجب أن يكون موضعه قبل الركوع؛ قياسًا على ذكر الاستفتاح، والقراءة. والجواب: أن ذكر الاستفتاح، وتكبيرات العيد يتقدم على القراءة، وليس كذلك هذا؛ لأنه مؤخَّر عن القراءة، فكان مؤخرًا عن مقام القراءة؛ كقوله: ربنا ولك الحمد، وأما القراءة، فإنما تقدمت الركوع؛ لأن القيام محل لها، ألا ترى يتعذر بها (¬5)، فلم يجز أن تتأخر القراءة عنه؛ لأنه محل لها، وغير القراءة من الأذكار لما لم يكن القيام محله، جاز أن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: فإن الدارقطني رواه ... (¬2) السنن، كتاب: الوتر، باب: ما يقرأ في ركعات الوتر والقنوت فيه، رقم (1662 و 1663). (¬3) فيروز البصري، أبو إسماعيل العبدي، قال ابن حجر: (متروك)، توفي في حدود 140 هـ. ينظر: التقريب ص 56. (¬4) كذا في الأصل، وقد تكون: علمت علته. (¬5) في الأصل: يتعدر بها، ولعل المثبت هو الصواب.

86 - مسألة: المستحب أن يقرأ في الشفع بـ {سبح} [الأعلى: 1]، {قل ياأيها الكافرون} [الكافرون: 1]، وفي الوتر بالإخلاص

يتأخر عن القيام. واحتج: بأن مدرِك الإمام في هذه الحال لا يكون مدرِكًا للركعة، فوجب أن لا يكون ذلك موضعًا للقنوت؛ قياسًا على ما بعد السجود. والجواب: أنا نعارضه بمثله، فنقول: موضع يدرك الركعة بإدراكه، فلا يستحب فيه القنوت، أصله: قبل القراءة، والله أعلم. * * * 86 - مَسْألَة: المستحب أن يقرأ في الشفع بـ {سَبِّحِ} [الأعلى: 1]، {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الوتر بالإخلاص: نص عليه في رواية عبد الله (¬1)، وأبي طالب (¬2)، ونقل أبو داود عنه (¬3): أنه سئل: يقرأ المعوذتين في الوتر؟ فقال: ولِمَ لا يقرأ؟ وهذا منه على طريق الاستحباب؛ لأن أبا داود (¬4) نقل قبل هذه المسألة: أنه قيل لأحمد - رحمه الله -: تختار أن يقرأ في الوتر {سَبِّحِ}، ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (419 و 422). (¬2) لم أقف على روايته، ونقلها عن الإمام أحمد - رحمه الله - ابنُ هانئ في مسائله رقم (503)، وينظر: الإرشاد ص 61، والهداية ص 88. (¬3) في مسائله رقم (458). (¬4) في الأصل: أبا دواد.

و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؟ قال: نعم (¬1). وهذا يدل على أن ما زاد على ذلك غيرُ مستحب، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬2). وقال مالك (¬3)، والشافعي (¬4) - رحمهما الله -: يقرأ في الثالثة بالإخلاص والمعوذتين. دليلنا: ما روى عبد الله في المسند (¬5) قال: حدثني ابن أبي شيبة (¬6) قال: نا أبو حفص الأبَّار (¬7) عن الأعمش، عن طلحة (¬8)، وزبيد عن ¬

_ (¬1) في مسائل أبي داود رقم (456). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 229)، وتحفة الفقهاء (1/ 323)، ونصوا - أي: الحنفية - على ترك المواظبة عليها. (¬3) ينظر: المدونة (1/ 126)، والإشراف (1/ 290). (¬4) ينظر: الحاوي (2/ 296)، والبيان (2/ 267). (¬5) رقم (21141). (¬6) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة حافظ شهير، وله أوهام)، توفي سنة 239 هـ. ينظر: التقريب ص 421. (¬7) هو: عمر بن عبد الرحمن بن قيس الأبّار، الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق، وكان يحفظ، وقد عَمِي). ينظر: التقريب ص 456. (¬8) ابن مُصرَّف بن عمرو بن كعب اليامي، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة قارئ فاضل)، توفي سنة 112 هـ. ينظر: التقريب ص 291.

ذر (¬1)، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى (¬2)، عن أبيه (¬3)، عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬4). وروى أبو بكر النجاد، وأبو بكر عبد العزيز عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬5)، وبهذا الحديث احتج أحمد - رحمه الله -. ¬

_ (¬1) ابن عبد الله المُرْهِبيّ، قال ابن حجر: (ثقة عابد، رمي بالإرجاء)، توفي قبل المئة. ينظر: التقريب ص 190. (¬2) الخزاعي مولاهم، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 228. (¬3) عبد الرحمن بن أبزى، قال ابن حجر: (صحابي صغير). ينظر: التقريب ص 356. (¬4) مضى تخريجه (2/ 201)، حاشية رقم (1)، و (2/ 220). وينظر: التلخيص (2/ 879 و 881). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (15354)، وذكره بصيغة التمريض: الترمذيُّ في جامعه، كتاب: الوتر، باب: ما جاء ما يقرأ في الوتر، رقم (462)، وأخرجه النسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، نوع آخر من قراءة الوتر، رقم (1731 و 1732)، وجوّد إسناده ابنُ الملقن، وحسّنه ابن حجر. ينظر: البدر المنير (4/ 339)، والتلخيص (2/ 882).

ورواه النجاد بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1). ولأنها إحدى ركعات الوتر، فلم يستحب فيها جمع السور؛ كالأولى، والثانية. فإن قيل: الثالثة لمّا زِيد فيها الدعاء، جاز أن يزاد فيها القراءة. قيل: يبطل بالركعة الثانية من الفجر؛ فإن عندك: يزاد فيها بدعاء القنوت، ولا يزاد في القراءة. واحتج المخالف: بما روت (¬2) عَمْرَة (¬3) عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الأولى بـ: {سَبِّحِ}، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في كتاب: الوتر، باب: ما جاء ما يقرأ في الوتر، رقم (462)، والنسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر الاختلاف على أبي إسحاق في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس في الوتر، رقم (1702)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ في الوتر، رقم (1172)، وصحح إسناده ابنُ الملقن. ينظر: البدر المنير (4/ 338). (¬2) في الأصل: روى. (¬3) ابنة عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، قال ابن حجر: (ثقة)، توفيت قبل المئة. ينظر: التقريب ص 767.

والمعوذتين (¬1)، وذكر هذا الحديث علي بن سعيد النسوي في مسائله (¬2). والجواب: أن أحمد - رحمه الله - ضعفه، فقال الأثرم، قلت لأبي عبد الله: حديث عائشة الذي يرويه خصيف ذُكر فيه ثلاث: سورة، والمعوذتين؟ قال: نعم رووه عن عمرة عن عائشة، فقال: ويروى هذا حقًا، كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا، وأنكر حديث يحيى (¬3) خاصة، وعلى أن خبرنا أولى؛ لأنه أكثر رواة، يرويه أُبيّ، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وعن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في كتاب: الوتر، باب: ما يقرأ في ركعات الوتر والقنوت فيه، رقم (1675)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما يقرأ في الوتر بعد الفاتحة، رقم (4851)، قال ابن حجر: (تفرد به يحيى بن أيوب ... ، وفيه مقال، ولكنه صدوق). ينظر: التلخيص (2/ 880)، وأخرجه أبو داود عنها - رضي الله عنها - من طريق آخر في كتاب: الصلاة، باب: ما يقرأ في الوتر، رقم (1424)، والترمذي في كتاب: الوتر، باب: ما جاء ما يقرأ في الوتر، رقم (463)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء فيما يقرأ في الوتر، رقم (1172)، وحسّنه ابنُ الملقن على لين في إسناده. ينظر: بيان الوهم (3/ 383)، والبدر المنير (4/ 332)، والتلخيص (2/ 880). (¬2) مضت ترجمته، ولم أقف على مسائله. (¬3) ابن أيوب، وقد مضت ترجمته.

87 - مسألة: ويرفع يديه في دعاء الوتر

87 - مَسْألَة: ويرفع يديه في دعاء الوتر: نص عليه في رواية الأثرم (¬1)، وغيره (¬2)، واختلفت الرواية: هل يمر يديه على وجهه إذا فرغ من الدعاء؟ على روايتين، نقل الجماعة: أنه لا يمرها (¬3)، ونقل المروذي عنه في كتاب: الأدب (¬4): أنه كان إذا فرغ، مسح يده على وجهه (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (2/ 584). (¬2) كابنه عبد الله في مسائله رقم (417 و 427)، والكوسج في مسائله رقم (296)، وأبو داود في مسائله رقم (472)، والفضل بن زياد، ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 192)، والمغني (2/ 608)، وخطاب بن بشر، ينظر: الروايتين (1/ 163). (¬3) ينظر: مسائل عبد الله رقم (446)، وأبو داود في مسائله رقم (486)، والمروذي، ينظر: الروايتين (1/ 164)، وابن هانئ كما في الإنصاف (4/ 132)، ولم أجدها في المطبوع من مسائله، ونقل أنها رواية الجماعة صاحبُ الفروع (2/ 364)، وصاحب المبدع (2/ 12)، والمرداوي في الإنصاف (4/ 132)، وينظر: بدائع الفوائد (4/ 1504). (¬4) في الأصل: عنه في كتاب الأدب (عنه)، فحذفت ما بين القوسين ليستقيم الكلام. (¬5) لم أقف عليها، وذكر القاضي في كتابه الروايتين (1/ 164): أن المروذي روى عن الإمام أحمد - رحمه الله - منع المسح؛ لأنه عبث، وقد نهى عن ذلك في الصلاة، وينظر: المغني (2/ 585)، والفروع =

وقال أبو حنيفة: لا يرفعها، بل يرسلها (¬1). دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعوتَ، فادعُ ببطن كفيك، ولا تدعُ بظهورها، فإذا فرغت، فامسح بها وجهك" (¬2)، وهذا عام في الوتر، وغيره. وروى بعضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُرفع الأيدي إلا في سبع مواطن" (¬3). وذكر فيها: القنوت في الوتر. ¬

_ = (2/ 364)، والإنصاف (4/ 132). (¬1) ينظر: مختصر الطحاوي ص 28، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 225). وذهبت المالكية: إلى عدم الرفع لليدين. ينظر: المدونة (1/ 68)، وكفاية الطالب (1/ 343)، وهو الذي نسبه ابن قدامة للإمام مالك - رحمه الله -. ينظر: المغني (2/ 584). وأما الشافعية فالأكثر على عدم رفع اليدين. ينظر: نهاية المطلب (2/ 188)، والبيان (2/ 270)، والمجموع (3/ 332). (¬2) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: من رفع يديه في الدعاء ومسح بهما وجهه، رقم (1181)، وهو حديث لا يصح. ينظر: العلل المتناهية (2/ 480)، وأخرج أبو داود نحوه في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، رقم (1485)، وقال: (رُوي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، كلها واهية). (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 385) رقم (12072)، وذكر ابن الجوزي أنه حديث لا يعرف، وأقره ابن عبد الهادي. ينظر: التحقيق (3/ 24)، والتنقيح (2/ 134)، وفيه انقطاع؛ فإن الحكم لم يسمع من مقسم، ينظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/ 148)، وفيه علل أخرى، ولذا قال =

وروى ابن بطة بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله، فاسألوه ببطون (¬1) أَكُفِّكُم، ولا تسألوه بظُهورها، وامسحوا بها وجوهَكُم" (¬2). فإن قيل: ففي الخبر ما لا تقولون به، وهو أن يمسح يده على وجهه. قيل في ذلك: روايتان، نقل عبد الله عنه: أنه لا بأس بذلك (¬3)، فعلى هذا قد قلنا به، ونقل الجماعة (¬4): لا يفعله؛ لقيام الدليل على ذلك. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن عبد الرحمن بن الأسود (¬5) عن أبيه قال: كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفع يديه في قنوت الوتر (¬6). ¬

_ = الألباني - رحمه الله -: (باطل بهذا اللفظ)، ينظر: الضعيفة (3/ 166)، علمًا أني لم أجد في لفظ الحديث الذي ذكره المؤلف أن رفع اليدين في الوتر من المواطن السبعة. (¬1) في الأصل: ببطن، والتصويب من سنن أبي داود، والمعجم الكبير. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، رقم (1485)، وضعّفه، والطبراني في الكبير (10/ 319)، واللفظ له، رقم (10779)، قال أبو حاتم: (منكر). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (4/ 12) رقم (2571). (¬3) في مسائله رقم (446)، وينظر: الروايتين (1/ 164). (¬4) ينظر: الفروع (2/ 364)، والمبدع (2/ 12)، والإنصاف (4/ 132). (¬5) ابن يزيد النخعي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 99 هـ. ينظر: التقريب ص 357. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (7027)، وبنحوه أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في القنوت، رقم (4867)، =

وروى أيضًا بإسناده عن موسى بن وردان (¬1): أنه صلى مع أبي هريرة - رضي الله عنهما - في شهر رمضان على طنفسة (¬2)، فرأيته يرفع يديه في القنوت (¬3). ولأنه دعاء مسنون في حال القيام، وليس باستفتاح، بل أشبه الدعاء بعرفات، وعلى الصفا والمروة، وفي المقامين عند الجمرتين. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "كُفُّوا أيديَكُم في الصلاة" (¬4)، .................................. ¬

_ = وفي سنده ليث بن أبي سليم تُرِك حديثه. ينظر: التقريب ص 519، والإرواء (2/ 169)، والتكميل لما فات تخريجه من الإرواء ص 17. (¬1) العامري مولاهم، أبو عمر البصري، قال ابن حجر: (صدوق ربما أخطأ)، توفي سنة 117 هـ. ينظر: التقريب ص 620. (¬2) الطنفسة: البساط الذي له خمل رقيق، وجمعه طنافس. ينظر: النهاية في غريب الحديث (طنفس). (¬3) أخرجه بنحوه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في القنوت، رقم (4867)، وفي سنده ابن لهيعة (صدوق اختلط بعد احتراق كتبه)، وموسى ابن عامر (صدوق له أوهام)، وموسى بن وردان (صدوق ربما أخطأ). ينظر: التقريب ص 337، و 617 و 620. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمْسٍ ... " في كتاب: الصلاة، باب: الأمر بالسكون في الصلاة، رقم (430).

وقوله: "اسْكُنوا في الصلاة" (¬1). والجواب: أنا قد أجبنا عن هذا فيما تقدم في مسألة رفع اليدين في التكبير. واحتج: بما روى النجاد بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا عند الاستسقاء؛ فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى [بياض] (¬2) إبطيه (¬3). وروى أيضًا عن سليمان بن موسى (¬4) قال: لم نحفظ (¬5) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع يديه إلا في ثلاثة مواطن: الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة (¬6). ¬

_ (¬1) جزء من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: الأمر بالسكون في الصلاة، رقم (430). (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) في الأصل: إبطاه، والتصويب من صحيح البخاري، وصحيح مسلم. والحديث أخرجه البخاري، كتاب: الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده في الاستسقاء، رقم (1031)، ومسلم في كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء، رقم (895). (¬4) الأموي مولاهم، الدمشقي، قال ابن حجر: (صدوق فقيه، في حديثه بعضُ لين، خُولِط قبل موته بقليل). ينظر: التقريب ص 255. (¬5) في المراسيل: لم يُحفظ. (¬6) أخرجه أبو داود في مراسيله ص 153، رقم (148)، وقال الأرناؤوط في تخريجه له: (رجاله ثقات).

وروى ابن المظفر الحافظ (¬1) بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُرفع الأيدي إلا في سبع مواطن: في بدء الصلاة، وعلى الجنازة، وحين ترى البيت، وعند الصفا والمروة، وعشية عرفة، وغداة جَمْع، وعند رمي الجمار" (¬2). والجواب: أنا قد روينا عنه إثباتَ رفع اليد في ذلك (¬3)، والإثباتُ أولى من النفي. واحتج: بأنه دعاء مفعول في الصلاة، فوجب أن لا يرفع يديه فيه؛ قياسًا على الدعاء في آخر الصلاة. والجواب: أن ذلك يفعل في حال الجلوس، وهذا يفعل في حال القيام. واحتج: بأنه ذِكْر في الصلاة، أشبهَ سائر الأذكار المفعولة فيها. والجواب: أن تلك الأذكار من جنسها ما سُنَّ الرفع فيه، وهو ¬

_ (¬1) هو: أبو الحسين محمد بن المظفر بن موسى بن عيسى البغدادي، قال الذهبي: (محدث العراق ... أكثر الحفاظ عنه، مع الصدق والإتقان)، وهو من شيوخ الدارقطني، وابن شاهين، وغيرهما، توفي سنة 379 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 418). (¬2) مضى تخريجه في (2/ 230)، بدون لفظة: (على الجنازة)، فلم أجدها في ألفاظ الحديث. (¬3) ينظر: (2/ 231).

88 - مسألة: إذا صلى خلف من يقنت في صلاة الفجر، تابعه في القنوت

التكبير للإحرام، وللركوع، والرفع يجب أن يكون هذا النوع من الذكر منه ما يرفع فيه اليد. * * * 88 - مَسْألَة: إذا صلى خلف من يقنت في صلاة الفجر، تابعه في القنوت: أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية الأثرم (¬1) قال: إنا اخترنا القنوت في النصف الآخر، وإن صليت خلف إمام يقنت الشهر كلَّه، قنتُّ معه. وقال في رواية عبد الله أيضًا (¬2) - وقد سأله عن رجل صلى خلف إمام، قنت الإمام -، قال: يقنت معه، يتبع الإمام. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: مسائل الكوسج رقم (437 و 468)، والتمام (1/ 200)، وطبقات الحنابلة (1/ 328)، ومختصر ابن تميم (2/ 170)، والفروع (2/ 366)، والإنصاف (4/ 133). وذكر ابن قدامة - رحمه الله - في المغني (2/ 586) عن الأثرم: أنه قال: سمعت أبا عبد الله سئل عن القنوت في الفجر؟ فقال: إذا نزل بالمسلمين أمر، قنت الإمام، وأمَّن مَنْ خلفه. (¬2) لم أقف عليها بهذا اللفظ، وبنحوها في مسائله رقم (463) بلفظ: (لا بأس إذا قنت الإمام قنتوا).

ونقلت من حديث أبي الحسين بن بشران (¬1) - ولي منه إجازة (¬2) - عن أبي عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن السماك (¬3) قال: نا الحسن بن عبد الوهاب (¬4) قال: نا أبو جعفر المنقري (¬5) (¬6) قال: ¬

_ (¬1) هو: علي بن محمد بن عبد الله بن بشران بن محمد بن بشر، أبو الحسين الأموي، قال الخطيب عنه: (كان صدوقًا، ثقة ثبتًا، حسن الأخلاق، تام المروءة، ظاهر الديانة)، توفي سنة 415 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (12/ 98)، وسير أعلام النبلاء (17/ 311). (¬2) الإجازة: إذنُ الشيخ بالرواية عنه لمروياته ومؤلفاته. وهي أنواع. ينظر تفصيل ذلك في: مقدمة ابن الصلاح ص 106، والباعث الحثيث ص 118، ونزهة النظر ص 131. (¬3) البغدادي الدقاق، قال الذهبي عنه: (الشيخ الإمام المحدث المكثر الصادق، مسند العراق)، توفي سنة 344 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 444). (¬4) ابن أبي العنبر، أبو محمد، قال الخطيب عنه: (كان ثقة دينًا مشهورًا بالخير والسنة)، توفي سنة 296 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (7/ 339). (¬5) هو: محمد بن سليمان بن داود المنقري البصري، ينظر: تاريخ دمشق (53/ 119)، وثّقه ابن حزم في المحلى (12/ 59)، ولم أجد مزيدًا على هذا. (¬6) الذي يظهر: أن أبا جعفر يروي عن الإمام أحمد - رحمه الله - بواسطة كما في روايته لأصول السنة للإمام أحمد، رواها عن عبدوس بن مالك عن الإمام أحمد. ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للَّالكائي (1/ 176)، وطبقات الحنابلة (2/ 166)، يؤكد هذا ما يلي: =

سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله - فقلت: إني غريب من أهل البصرة، وبها قوم يقنتون، فكيف ترى في الصلاة خلف من يقنت؟ قال: قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنت، فإن زاد في القنوت حرفًا، فلا تصل، أو جهر بمثل: إنا نستعينك، أو: عذابك الجد، أو: نحفد (¬1)، فإن كنت في الصلاة، فاقطعها (¬2). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يسكت، ولا يتابعه (¬3). ¬

_ = 1 - أنه لم يُذكر أنه من تلاميذ الإمام أحمد - رحمه الله -، ولا من الرواة عنه، كما في تاريخ دمشق (53/ 119)، ولم يُترجم له في تراجم الحنابلة وطبقاتهم. 2 - أن ابن القيم - رحمه الله - ذكر الرواية بنصها - كما سيأتي في تخريج الرواية - عن عبدوس بن مالك العطار، وأنه هو السائل، وحين ذكر ابن مفلح الرواية في "الفروع" لم يصرح بأن أبا جعفر المنقري هو صاحب الرواية، بل نص أنه ناقل لها. 3 - أن أبا جعفر المنقري ممن يروي عن عبدوس، مما يشعر أنه قد سقط اسمه. (¬1) في الأصل: الحقد، والتصويب من كتاب "الصلاة" لابن القيم ص 212. (¬2) ينظر: كتاب "الصلاة" لابن القيم ص 212، والفروع (3/ 23). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 215)، والهداية (1/ 66). وذهبت المالكية، والشافعية إلى مشروعية القنوت في صلاة الفجر. ينظر: المدونة (1/ 102)، والإشراف (1/ 256)، والحاوي (2/ 151)، والبيان (2/ 252).

دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تختلفوا على إمامكم" (¬1)، وتركُ القنوت معه اختلاف عليه، ولأن القنوت مما يتابع فيه المأموم الإمام؛ بدلالة القنوت في الوتر، وهذا مما يسوغ فيه الاجتهاد، فوجب أن يتابع فيه الإمام، كما قال أبو حنيفة في تكبيرات العيد: إن المأموم يتابع الإمام فيها، ما لم يخرج عن أقاويل السلف (¬2). وهكذا قال أحمد: يتابع الإمام في التكبيرة الخامسة من صلاة الجنازة (¬3)؛ لما رُوي عن علي - رضي الله عنه -: أنه كبر على أبي قتادة سبعًا (¬4). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 470). (¬2) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 280). (¬3) نقلها الأثرم. ينظر: الروايتين (1/ 207)، والمغني (3/ 447)، والمبدع (2/ 256). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (11578)، وأبو داود في مسائله رقم (1018)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجنائز، باب: من ذهب في زيادة التكبير على الأربع، رقم (6943)، وقال: (هكذا روي، وهو غلط؛ لأن أبا قتادة - رضي الله عنه - بقي بعد علي - رضي الله عنه - مدة طويلة)، وقال في المعرفة (2/ 431): (وهو غلط، لإجماع أهل التواريخ على أن أبا قتادة الحارث بن ربعي بقي إلى سنة أربع وخمسين)، قال ابن حجر: (هذه علة غير قادحة؛ لأنه قد قيل: إن أبا قتادة قد مات في خلافة علي، وهذا هو الراجح). ينظر: التلخيص (3/ 1203)، وقد احتج به الإمام أحمد - رحمه الله -. ينظر: مسائل عبد الله رقم (657)، وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (4/ 59): (رجاله ثقات).

وعن بكر بن عبد الله (¬1) قال: لا ينقص من ثلاث، ولا يزيد على سبع (¬2)، كذلك ها هنا. فإن قيل: لا نسلم لكم في صلاة الجنازة أنه يتبع الإمام في الخامسة، وأما صلاة العيد، فإنه يتبعه، وكأن المعنى فيه: أن الأخبار متعارضة، وكلها جائزة، إلا أن الأصل ما ذهبنا إليه، وأما الأخبار الواردة في القنوت من الجواز، فإن بإزائها نصًا، فوجب نسخها، وهو حديث أم سلمة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القنوت في الصبح (¬3). وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: إن قنوتكم في الغداة بعد فراغ الإمام من القراءة بدعة (¬4)، وهذا لا يمكن تأويله، فهو ناسخ لما يروى من الجواز، ¬

_ (¬1) المزني، مضت ترجمته. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (11583). (¬3) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، رقم (1242)، والدارقطني في سننه، كتاب: الوتر، باب: صفة القنوت وبيان موضعه، رقم (1688)، وقال: (محمد بن يعلى، وعنبسة، وعبد الله بن نافع كلهم ضعفاء، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة). (¬4) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى مالك - في الموطأ - عن نافع: أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان لا يقنت في شيء من الصلاة. ينظر: الموطأ، كتاب: الصلاة، باب: القنوت في الصبح، رقم (48)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4952)، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7018) بلفظ: (أنه كان لا يقنت في الفجر، ولا في الوتر، فكان إذا سئل عن القنوت، قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن)، وروى البيهقي في الكبرى عن أبي مجلز قال: =

فيجب أن لا يعتبر حكم اختلاف الناس لما فيه من مخالفة النص، واتباع النص حجة، واختلاف الناس ليس حجة. قيل له: النصوص في النهي عن القنوت متأولة أيضًا؛ لأن نهيه عن القنوت محمول على الدعاء الذي كان يدعو به على العرب، وعندهم: أن ذلك الدعاء بذلك اللفظ منهي عنه، والنص المتأول لا يمتنع من اعتبار الاختلاف. فإن قيل: كيف تصح هذه المسألة على أصلكم، وقد نقل الجماعة عن أحمد - رحمه الله -: لا يقنتون مع الإمام، بل يؤمِّنون، قال: هذا في صلاة التي يجوز القنوت فيها، فأولى أن لا يقنتون بما لا يقنت فيه. قيل: في ذلك روايتان (¬1)، نقل أبو طالب، والفضل: جواز ذلك، فعلى هذا تصح المسألة، ونقل عنه: لا يقنتون، ولكن يؤمِّنون، فتقيد ¬

_ = صليت مع ابن عمر صلاة الصبح، فلم يقنت، فقلت لابن عمر: لا أراك تقنت! قال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا. ينظر: كتاب: الصلاة، باب: من لم ير القنوت في صلاة الصبح، رقم (3157)، وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن القنوت في صلاة الصبح بدعة. أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الوتر، باب: صفة القنوت وبيان موضعه، رقم (1704)، قال البيهقي: (لا يصح)، وفي سنده أبو ليلى متروك. ينظر: الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من لم ير القنوت في صلاة الصبح، رقم (3159). (¬1) في الأصل: روايتا، ولم أقف عليهما من رواية أبي طالب، والفضل بن زياد، وينظر: ما مضى، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 188)، والإنصاف (4/ 133).

89 - مسألة: صلاة الجماعة في غير الجمعة واجبة على الأعيان

التأمين ها هنا، وذهب المخالفون إلى السؤال الذي قبل هذا السؤال، وقد أجبنا عنه، والله أعلم. * * * 89 - مَسْألَة: صلاة الجماعة في غير الجمعة واجبة على الأعيان: نص على هذا في رواية حنبل (¬1)، فقال: إجابة الداعي إلى الصلاة فرض، ولو أن رجلًا قال: هي سنة، أصليها في بيتي مثل الوتر وغيره من التطوع، كان هذا خلاف السنَّةِ والحديثِ، وكان جائزًا، إلا أن إجابة الداعي عندي فريضة. فقد نص على إيجاب الجماعة، ولم يجعلها شرطًا في الصحة (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهم الله، و- رضي الله عنهم -: ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 476). (¬2) ينظر: الهداية ص 94، والمغني (3/ 5)، والفروع (2/ 417)، والإنصاف (4/ 265). (¬3) ينظر: مختصر القدوري ص 78، والهداية (1/ 56). (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 291)، وبداية المجتهد (1/ 202). (¬5) كأن الشافعي - رحمه الله - يذهب إلى أنها فرض كفاية، وقد يُحمل كلامه في الأم على أنها فرض عين. ينظر: الأم (2/ 290)، وينظر في تفصيل المذهب عند الشافعية: الحاوي (2/ 297)، والبيان (2/ 361).

صلاة الجماعة في غير الجمعة سنة، وليست بواجبة. وقال داود (¬1): هي واجبة، وهي شرط في صحتها. دليلنا: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]، وقوله: {فَلْتَقُمْ} أمر، وذلك يدل على الوجوب. وأيضًا: ما روى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء فلم يأتِ، فلا صلاة له إلا من عُذر"، قال: وما العذر؟ قال: "خوف، أو مرض، لم يقبل الله الصلاة التي صلى" (¬2). وروى أبو زرارة الأنصاري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "من سمع ¬

_ (¬1) ينظر: المحلى (4/ 122 و 127). (¬2) أخرجه أبو داود بنحوه في كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، رقم (551)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: حث جار المسجد على الصلاة فيه إلا من عذر، رقم (1557)، وفيه أبو جناب، ضعيف مدلس، ينظر: البدر المنير (4/ 415)، والتلخيص (2/ 918)، والتقريب ص 659، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة، رقم (793) بلفظ: "من سمع النداء، فلم يأته، فلا صلاة له، إلا من عذر"، قال ابن حجر: (إسناده صحيح)، وروي مرفوعًا، وموقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنهما -، والأكثر على وقفه، قال البيهقي: (الموقوف أصح). ينظر: معرفة السنن والآثار (4/ 105)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 458)، والتلخيص (2/ 918).

النداء ثلاثًا، فلم يُجب، كُتب من المنافقين" (¬1). وروى أبو رزين (¬2) عن ابن أم مكتوم - رضي الله عنهما - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني كبير ضرير شاسعُ الدار، لي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة؟ قال: "هل تسمعُ النداء؟ "، قال: قلت: نعم، قال: "فما أجدُ لك مِن رخصة" (¬3). وروى عبد الله بن شداد (¬4) ............................. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في الثقات (8/ 465)، قال ابن رجب: (إسناده صحيح)، لكن حصل الخلاف في أبي زرارة، هل هو معدود في الصحابة، أم لا؟ ينظر: فتح الباري (4/ 18)، والإصابة (12/ 260). (¬2) مسعود بن مالك، أبو رزين الأسدي، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة فاضل)، توفي سنة 85 هـ. التقريب ص 589. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، رقم (552)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة، رقم (792)، قال ابن رجب في فتح الباري (2/ 389): (وفي إسناده اختلاف)، وأخرج مسلم نحوه في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كتاب: المساجد، باب: يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، رقم (653). (¬4) في الأصل: سداد. وعبد الله هو: ابن شداد بن الهاد، أبو الوليد المدني، من كبار التابعين وثقاتهم، روى له الجماعة، توفي في ولاية الحجاج على العراق. ينظر: تهذيب الكمال (15/ 81).

[عن ابن أم مكتوم]- رضي الله عنه - (¬1): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل الناس في صلاة العشاء، فقال: "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة، فينادى بها (¬2)، ثم آتي أقوامًا في بيوتهم لم يشهدوا الصلاة، فأحرقها عليهم" (¬3)، روى هذه الأخبار أبو عبد الله بن بطة في مسألة صلاة الجماعة أنها واجبة، فلولا أنها واجبة، ما توعد عليها بالحريق، والنفاق، وإبطال الصلاة. فإن قيل: يحمل هذا على صلاة الجمعة. قيل: هذا عام في النداء إلى الجمعة، وغيرها من الصلوات، على أن في حديث عبد الله بن شداد: استقبل الناس في صلاة العشاء، وهذا نص فى غير الجمعة. فإن قيل: هذا الوعيد يُصرف إلى المنافقين. قيل له: بل انصرف إلى المسلمين، ألا ترى أنه قال: استقبل الناس ¬

_ (¬1) في الأصل: عبد الله بن شداد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والتصويب من مسند الإمام أحمد. (¬2) في الأصل: فيناديها، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة رقم (3491). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند بنحوه رقم (15491)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (3491)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب: الإمامة في الصلاة، باب: أمر العميان بشهود صلاة الجماعة، رقم (1479)، وأخرج البخاري نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، كتاب: الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة، رقم (644)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، رقم (651).

في صلاة العشاء، وهذا كناية عن المسلمين، ولأن ابن أم مكتوم لما قال له: "تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: "لا أجد لك عذرًا (¬1) ". وأيضًا: روى أبو بكر بإسناده عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هلاك أمتي في اللبن"، قيل: يا رسول الله! ما اللبن؟ [قال] (¬2): "يحبُّون [اللبن] (2)، ويَدَعون الجماعاتِ والجمعَ" (¬3). فلولا أن الجماعة واجبة، ما توعَّد عليها بالهلاك، ولم يمنع مني الإتيان لفعل مباح، وهو الخروج إلى شرب اللبن. وروى أبو بكر بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أَنطلق مع الرجال معهم حُزَمٌ الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (¬4). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 243). (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) أخرجه الإمام أحمد - رحمه الله - في المسند (17415) بلفظ: "هلاك أمتي في الكتاب واللبن؟ "، قالوا: يا رسول الله! ما الكتاب، واللبن؟ قال: "يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله - عز وجل -، ويحبون اللبن، فيدعون الجماعات والجمع، ويَبْدُون"، قال ابن رجب: (وفي إسناده: ابن لهيعة. وإن صحَّ، فيحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها، وهي مدة طويلة يدعون فيها الجمع والجماعات). ينظر: فتح الباري (1/ 108). (¬4) وأخرج البخاري في كتاب: الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة، رقم =

وهذا خاص في الجماعة دون الجمعة؛ لأنه قال: "آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أنطلق مع الرجال"، ولو كانت الجمعة، لم يتركها؛ لأنها تفوت، وإنما يجوز هذا في الجماعة؛ لأنه يمكنه إقامتها بنفسه. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. روى أبو بكر بإسناده عن الحسن عن علي - رضي الله عنهما -: أنه قال: "من سمع النداء فلم يأته، لا تُجاوز صلاتُه رأسَه إلا من عذر" (¬1). وروى بإسناده عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنه قال: "من سمع النداء فلم يُجب من غير عذر، فلا صلاة له" (¬2). وروى بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر، فلم يُرِدْ خيرًا، ولم يُرَدْ به" (¬3). ¬

_ = (644)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، رقم (651). (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (3489)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 136)، وصححه ابن القيم في كتاب الصلاة ص 126. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (3482)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 136)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: وجوب الجمعة على من كان خارج المصر، رقم (5589)، مرفوعًا وموقوفًا، قال في المعرفة (4/ 105): (والموقوف أصح). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (1917)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (3485)، وصالح ابن الإمام أحمد في مسائله رقم (457)، وابن المنذر =

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه قال: "من سره أن يلقى الله - عز وجل - مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات حين يُنادَى بهنَّ؛ فإنهن من سُنن الهدى، فإن الله - عز وجل - شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سُنَنَ الهدى، ولو صلَّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلِّفُ في بيته، لتركتم سنةَ نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركتم سنة نبيكم، لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، ولقد رأيتُ الرجل يؤتى به يُهادى (¬1) بين الرجلين حتى (¬2) يقوم في الصف" (¬3). وهذا إجماع منهم، ولأنها صلاة مفروضة، فكانت الجماعة فيها واجبة. دليله: صلاة الجمعة، ولا يلزم عليه النفلُ، والنذرُ؛ لقولنا: مفروضة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الجماعة شرط في صحتها، فلهذا كانت واجبة فيها، وليس كذلك ها هنا، بين الجماعة ليست بشرط في صحتها، فلم تكن واجبة فيها. ¬

_ = (4/ 137)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء من التشديد في ترك الجماعة من غير عذر، رقم (4941)، وصححه ابن القيم في كتاب الصلاة ص 126. (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة، والتتمة من صحيح مسلم. (¬2) في الأصل: حين، والتصويب من صحيح مسلم. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: المساجد، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى، رقم (654).

قيل له: الإحرام من الميقات واجب، وليس بشرط في صحة الحج، وكذلك رمي الجمار، والمبيت بالمزدلفة، وبمنى، وتركه لا يبطل الحج، وكذلك الإحداد في العدة واجب، وتركه لا يبطل، وكذلك حمل السلاح في صلاة الخوف واجب عند الشافعي - رحمه الله -، وتركه لا يبطلها (¬1)، وكذلك إباحة المكان الذي يُصلى فيه واجب؛ لأنه لا يجوز أن يصلي في مكان غصب، وإن صلى، فقد ترك الواجب، وتصح عندهم صلاته (¬2)، كذلك ها هنا. فإن قيل: فرق بين الجمعة وغيرها، ألا ترى أن الجمعة قد اختصت [بالعدد] (¬3)، وبالاستيطان، وبالخطبة، وبإذن الإمام، فجاز أن تختص بالجماعة لتأكيدها؟ قيل: أما الإمام، فليس بشرط في صحة الجمعة، كغيرها من الصلوات، وأما الاستيطان، فإنما شُرِط في الجمعة؛ لأن العدد قد لا يتفق في السفر، ويتفق في الحضر، وليس كذلك في العدد المعتبر في سائر الصلوات؛ لأنه لا يتعذر، ولأن اعتبار الاستيطان يدل (¬4) على ضعف الجمعة؛ لأنها تسقط في السفر، وغيرُها من الصلوات يجب سفرًا وحضرًا، وهذا يدل على تأكيدها، ثم الجمعةُ - مع ضعفها - قد وجب فيها الجماعة، ¬

_ (¬1) ينظر: البيان (2/ 524). (¬2) ينظر: المجموع (3/ 118). (¬3) ساقطة من في الأصل، والاستدراك من الانتصار (2/ 484). (¬4) في الأصل: بدل.

فأولى أن يجب في غيرها من الصلوات، وأما اختصاص الجمعة بالعدد، فلأنه قد لا يتعذر لها؛ لأن الجمعة تجب في الجمعة مرة، فلا يتعذر الاجتماع، وغيرها من الصلوات يتكرر دفعات، فيشق مثلُ ذلك العدد، وعلى أن هذا يوجب ضعف الجمعة؛ لأنه متى لم يكمل ذلك العدد، سقطت الجمعة، وغيرُها من الصلوات لا تسقط. وأما الخطبة، فإيجابها لا يدل على تأكيدها؛ لأنها عوض من الركعتين التي سقطت من الجمعة، فهي، وإن تأكدت الخطبة، فقد نقصت ركعتين، والظهرُ تأكدت بإيجاب أربع ركعات، فلا فرق بينهما. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "صلاة الجميع تفضل على صلاة الفَذِّ بخمس وعشرين درجة" (¬1)، فأثبت للفذِّ صلاة صحيحة. والجواب: أنا نقول له: صلاته صحيحة، إلا أنه يكون آثمًا عاصيًا بترك الجماعة، وليس في الخبر ما يدل على نفي الإثم. فإن قيل: ثبوتُ المفاضلة في صلاة المنفرد والجماعة يدل على أن كل واحد منهما أحرزَ فضلًا، وعندكم: لا فضل في صلاة الفذ. قيل: فقد تحصل المفاضلة بين شيئين، ولا خير في أحدهما (¬2)، قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، ومعلوم ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 469). (¬2) في الأصل: ولا في أحدهما، والمثبت من هامش المخطوط.

أنه لا خير في أهل النار، وقد خاير بينها، وكذلك قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221]، وقولهم: [الصدق خير من الكذب]، ولا خير في الكذب. ولأن قوله: "تفضل" معناه: أَفْضل على وزن أَفْعل، وقد ترد لفظة [أفعل] لأفراد أحدِ المذكورين بالوصف، ولا يراد المبالغة، والمفاضلة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، ولا خير فيما يشركون، وقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان: 15]، وقولهم: [محمد أصدق من مسيلمة]، وقال حسان: أَتهجوه ولَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ (¬1) ... فَشَرُّكُما لخيرِكُما الفداءُ (¬2) ولا خير في هاجي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شرَّ في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جمع بينهما. واحتج: بأنها صلاة ليس من شرطها الاستيطان، فلم تكن الجماعة واجبة فيها. دليله: النافلة، والفائتة، والمرأة (¬3). والجواب: أن النافلة غير واجبة، وهذه صلاة مفروضة، فهي ¬

_ (¬1) في الديوان: بكفء، وقد أورده غير واحد: بندٍّ. ينظر: الشعر والشعراء ص 190. (¬2) ينظر: ديوان حسان - رضي الله عنه - ص 17. (¬3) أي: صلاة المرأة.

90 - مسألة: لا بأس بحضور العجوز الجماعة

بالجمعة أشبهُ، وأما الفائتة، فليس إذا سقطت الجماعة فيها يجب أن تسقط حال الأداء؛ بدليل: أن الجمعة يجب فيها الجماعة، وإذا فاتت، وحصلت ظهرًا، لم تجب فيها الجماعة، ولأن الفائتة قد يتعذَّر فيها وجودُ الجماعة؛ لأنه لا يصح أداؤها خلف من هو مؤدٍّ، ونادر أن تتفق جماعة فاتتهم الصلاة، وأما المرأة، فليس إذا لم تجب عليها الجماعة، لم تجب على الرجال. واحتج: بأن ما كان واجبًا في الصلاة، فإن تركه يبطلها؛ كسائر الشرائط والأركان؛ كالطهارة، والستارة، والقراءة، والنية، ونحو ذلك، فلو كانت الجماعة واجبة، لوجب أن تبطل الصلاة بتركها. والجواب: أن الإحرام من الميقات واجب، وتركه لا يمنع صحة الحج، وكذلك إباحة المكان، وحمل السلاح، وكذلك على أصولنا إذا ترك التكبير عند تكبيرة الإحرام، والتسبيح في الركوع والسجود، وغير ذلك؛ فإن صلاته صحيحة، وإن كانت الأشياء واجبات، كذلك ها هنا، والله أعلم. * * * 90 - مَسْألَة: لا بأس بحضور العجوز الجماعة: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل (¬1) - وقد سئل: في ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (2/ 422)، ونقل نحوها صالح في مسائله رقم (402)، =

خروج النساء إلى العيد -، فقال: هؤلاء يفتنَّ الناس، إلا أن يكون امرأة قد طعنت في السن، وبهذا قال أبو يوسف (¬1). وقال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬2): يُكره خروجها إلى الفجر والعشاء والعيدين، ولا خلاف في الشابة أنه يكره لها ذلك. دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - (¬3)، وذكره أبو بكر الخلال في جامعه قال: نا وكيع قال: ثنا حنظلة الجمحي (¬4) عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد، فَأْذنوا لهنَّ" (¬5). ¬

_ = وعبد الله في مسائله رقم (618)، وينظر: التمام (1/ 246)، والمبدع (2/ 181)، والإنصاف (5/ 338). وإلى هذا ذهب المالكية، والشافعية. ينظر: المدونة (1/ 106)، والكافي ص 78، والمهذب (1/ 303)، والبيان (2/ 366). (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 231)، وبدائع الصنائع (2/ 238). (¬2) ينظر: الحجة (1/ 200)، والمبسوط (2/ 63)، وبدائع الصنائع (2/ 238). (¬3) في المسند رقم (5211). (¬4) ابن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية الجمحي، قال ابن حجر: (ثقة حجة)، توفي سنة 151 هـ. ينظر: التقريب ص 169. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، رقم (865)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، رقم (442).

قال أحمد - رحمه الله - في رواية الميموني: إسناده حسن (¬1). فلو كان الخروج مكروهًا، لم يحثهم على الإذن. وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استأذنت أحدَكُم امرأتُه إلى المسجد، فلا يمنعْها (¬2)، ولكن لا تأتيه متطيبةٌ، ولا متزينةً"، وهذا عام في جميع النساء، إلا أنه خرج منه الشباب بدليل، وبقي ما عداه على موجب الظاهر. ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى النساء عن الخروج، وقال: "إلا عجوزًا في مَنْقَليها (¬3) " (¬4). وروى أبو بكر الخلال موقوفًا على ابن مسعود - رضي الله عنه -، فقال: نا محمد ¬

_ (¬1) ينظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 306). (¬2) إلى هنا أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، رقم (865)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، رقم (442)، وجملة: (ولكن لا تأتيه متطيبة ولا متزينة) لم أقف عليها، وأخرج مسلم معناها رقم (443 و 444). (¬3) في الأصل: منقلبها، والمَنْقل: الخف. ينظر: النهاية في غريب الحديث (منقل). (¬4) لم أقف عليه مرفوعًا، قال ابن الملقن: (هذا الحديث لا يحضرني رفعه بعد البحث عنه)، قال ابن حجر: (لا أصل له). ينظر: البدر المنير (4/ 394)، والتلخيص (2/ 907)، وسيأتي أنه موقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه -.

ابن إسماعيل قال: نا وكيع عن سفيان، عن سلمة بن كهيل (¬1)، عن أبي عمرو الشيباني قال: قال عبد الله: ما صلت امرأة صلاةً أفضلَ من صلاتها في بيتها، إلا أن تصلي عند المسجد الحرام، إلا عجوزًا في منقليها. يعني: خُفَّيها (¬2) (¬3). فإن قيل: نحمل هذا على الفجر، والعشاء. قيل له: هذا تخصيص بغير دلالة، ولأنه لما جاز حضور الجماعة للعشاء والفجر، جاز للعصر والظهر؛ دليله: الرجل، ولأن لها أن تخرج للعيدين، فلها أن تخرج لسائر الصلوات كالرجل، ولأنه لا يخشى من حضورها الفتنة للرجل، وقياسًا على العشاء والفجر، وعكس هذا كله الشابة. واحتج المخالف: بما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: لو علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء بعدَه، لمنعهن المساجدَ كما ¬

_ (¬1) الحضرمي، أبو يحيى الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 245. (¬2) في الأصل: منقلبها. معني حقبها، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5117)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7696)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: خير مساجد النساء قعر بيوتهن، رقم (5364)، قال النووي: (حديث العجوز في منقليها غريب، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف موقوفًا على ابن مسعود). ينظر: المجموع (4/ 67).

مُنعت نساءُ بني إسرائيل (¬1). فأخبرتْ أن ما أحدث النساء بعدُ يُوجب منعهن من حضور المساجد، ولم تفرق بين العجوز والشابة. والجواب: أن هذا محمول على الشابة، وهو الظاهر؛ لأن الحدث (¬2) الذي يخاف منه الإنسان إنما يوجد منهن. واحتج: بأن العجوز تشبه الرجل من وجه، وهو: أنه لا يخشى وقوع الفتنة من حضورها، وللرجل مصافحتها، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حرب: كل شيء من المرأة عورة، قيل: فالوجه؟ قال: إذا كانت شابة تُشتهى، فإني أكره ذلك، وإن كانت عجوزًا، رجوت (¬3)، وقال أيضًا في رواية صالح (¬4)، وابن منصور (¬5): يسلم (¬6) على المرأة إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، رقم (869)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، رقم (445). (¬2) في الأصل: الحديث. (¬3) ينظر: الفروع (8/ 183)، والمبدع (7/ 9)، والإنصاف (20/ 43)، والآداب الشرعية (1/ 426). (¬4) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وقد ذكرها ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 426). (¬5) في مسائله رقم (3594). (¬6) في الأصل: تسلم، والتصويب من الآداب الشرعية.

كانت عجوزًا، فأما الشابة، فلا تستنطق. فظاهر هذا: أنه جعلها كالرجل من هذا الوجه، وتشبه المرأة من وجه، وهو: أنها مأمورة بالستر، ولا يحل لها أن تسافر بغير محرم، وصلاتها المكتوبة [في بيتها] (¬1) أفضلُ من صلاتها في المسجد، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية الميموني (¬2) - وقيل له: مالك (¬3) - رحمه الله - يقول: العجوز تخرج مع عجائز مثلها؛ يعني: إلى الحج -، فقال: ومن فرق بين العجوز والشابة، وهذا يمنع من الخروج بغير محرم، وروى المروذي عنه: في امرأة كبيرة، وليس لها محرم، وقد وجدت أقوامًا صالحين؟ فقال: إن تولت (¬4) هي النزول، ولم يأخذ رجل (¬5) بيدها، فأرجو (¬6). وظاهر هذا: جوازُ الخروج بغير محرَم، فلما أخذت الشبه من هذين الأصلين، أعطينا كل واحد من الأصلين حظه من الشبه، فقلنا: إنها تحضر صلاة العشاء، والفجر، والعيدين كالرجل، ولا تحضر سائر الصلوات كالنساء. ¬

_ (¬1) استدراك من هامش المخطوط. (¬2) لم أقف عليها، وينظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 309). (¬3) في الأصل: مالكًا. (¬4) في الأصل: اىولت، والتصويب من الفروع (5/ 244). (¬5) في الأصل: رجلًا. (¬6) ينظر: الفروع (5/ 244).

91 - مسألة

والجواب: أن هذا المعنى يوجب كراهة خروجها لصلاة العيدين، ومع هذا، لم يكره عندك، وعلى أن العلة في منع الشابة خوفُ الفتنة بها، يدل على صحة هذا: ما روى النجاد بإسناده عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله، وليخرجْنَ إذا خرجْنَ تَفِلاتٍ" (¬1)، يعني: غيرَ متطَيباتٍ (¬2). وقد صرح به في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر النساء! إذا خرجتنَّ لصلاة عشاء الآخرة، فلا تَمَسَّنَّ طيبًا" (¬3)، وإنما نهى عن الطيب؛ لأن الافتتان به يحصل، وهذا المعنى معدوم في العجوز، فيجب أن تزول الكراهة، والله أعلم. * * * 91 - مَسْألَة يستحب للنساء إذا اجتمعن أن يصلِّينَ فرائضهنَّ جماعة في ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (21674)، والجملة الأولى من الحديث مخرجة في صحيح البخاري، كتاب: الجمعة، باب (لم يسمه البخاري) رقم (900)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، رقم (442)، وصحح الحديث ابنُ الملقن. ينظر: البدر المنير (5/ 46). (¬2) ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 160)، ولسان العرب (تفل). (¬3) أخرجه مسلم من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما -، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، رقم (443).

أصح الروايتين (¬1): نقلها المروذي (¬2)، فقال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تؤم النساء في الفريضة؟ فقال: نعم، وتقوم في وسطهن، قيل: فالتطوع؟ قال: إذا كان في الفرض، فالتطوعُ أسهل. وكذلك نقل أبو طالب عنه (¬3): أنه سأله: تؤم المرأة النساء؟ قال: نعم، في الفرض (¬4)؟ نعم، واحتج بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها أمّت (¬5)، وأم سلمة (¬6)، ........... ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية ص 97، والمغني (3/ 37)، والمحرر (1/ 188)، والإنصاف (4/ 462). (¬2) لم أقف على روايته، وقد نقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (534)، وابن هانئ في مسائله رقم (360)، والكوسج في مسائله رقم (309). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: ما مضى، وشرح الزركشي (2/ 96 و 98). (¬4) كذا في الأصل، ولعلها: فقلت: في الفرض؟ قال: نعم. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5086)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (4990)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: صلاة النساء جماعة، رقم (1507)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: المرأة تؤم النساء، رقم (5355)، واحتج به الإمام أحمد - رحمه الله -، كما في مسائل ابن هانئ رقم (360) وصححه النووي في المجموع (4/ 69)، والخلاصة (2/ 680). (¬6) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5082)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (4988) والدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: صلاة النساء جماعة، رقم (1508)، واحتج به الإمام أحمد - رحمه الله - كما في مسائل ابن هانئ =

وأم ورقة (¬1) - رضي الله عنهن -. وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). وروى حنبل - وقد سأله: تؤم المرأة النساء؟ - قال: تقوم وسطهن، قيل: في المكتوبة؟ قال: لا، التطوع (¬3). فظاهر هذا: كراهةُ صلاة الفريضة في جماعة لهن. وهو قول أبي حنيفة (¬4)، ومالك (¬5) - رحمهما الله -. قال الخلال: أخطأ حنبل فيما حكى من قوله: أن تؤمهم (¬6)، ¬

_ = رقم (360)، وصححه النووي في المجموع (4/ 69)، والخلاصة (2/ 680). (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (27283)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: إمامة النساء، رقم (591 و 592)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: صلاة النساء جماعة، رقم (1506)، وفي سنده جهالة، قال الذهبي: (هذا لم يصح). ينظر: التنقيح (2/ 317)، والتلخيص (2/ 907)، وينظر: علل الدارقطني (15/ 416)، واحتج به بعض أهل العلم. ينظر: إعلام الموقعين (4/ 228). (¬2) ينظر: الأم (2/ 322)، والحاوي (2/ 356). (¬3) لم أقف عليها. (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 305)، والهداية (1/ 57). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 84)، والإشراف (1/ 296). (¬6) في الأصل: يؤمهم. والمراد: تؤمهنَّ في التطوع.

ولا تؤمهم الفرض (¬1)، والعمل على ما رواه الباقون (¬2). فالدلالة على أن ذلك مستحب: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفَذَّ بسبع وعشرين درجة" (¬3)، وهذا عامٌّ في الرجال والنساء إلا ما خصه الدليل. وروى النجاد بإسناده عن عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري (¬4) عن أم ورقة الأنصارية - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها، ويقول: "انطلقوا نزور الشهيدة"، وأمر أن يؤذن لها، ويقام، وأن تؤم دارها في الفرائض (¬5). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس على النساء أذان ولا إقامة، وتصلي معهن في الصف، ولا تقدمهنَّ" (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: تؤمهنَّ في الفرض. (¬2) في الأصل: رووا، لم أقف على كلام الخلال - رحمه الله -. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: فضل صلاة الجماعة رقم (645)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: فضل صلاة الجماعة رقم (650). (¬4) قال ابن حجر: (مجهول الحال). ينظر: التقريب ص 361. (¬5) مضى تخريجه. (¬6) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ليس على النساء أذان ولا إقامة، رقم (1921)، وقال: (رواه الحكم بن عبد الله الأيلي، وهو =

وروى النجاد بإسناده عن قتادة عن أم الحسن (¬1): أنها رأت أم سلمة - رضي الله عنها - تؤم النساء، تقوم معهن في صفهن (¬2). وروى بإسناده عن عطاء: أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تؤم النساء، تقوم معهن في الصف (¬3)، وفي لفظ آخر: كانت تؤم النساء في الفريضة (¬4)، وفي لفظ آخر عن زياد بن لاحق (¬5) قال: حدثتني جدتي (¬6) قالت: صلت بنا عائشة الظهر والعصر، تقوم بيننا في الصف (¬7). والقياس: أن النساء من أهل فرض الصلاة، فوجب أن يكنّ من أهل الجماعة؛ قياسًا على الرجال، ولا يلزم عليهن الحائض، والصبي، ¬

_ = ضعيف)، وينظر: التحقيق (2/ 316)، وجاء موقوفًا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عند البيهقي برقم (1920) بإسناد صحيح. ينظر: البدر المنير (3/ 421)، والتلخيص (2/ 592). (¬1) هي: خيرة، أم الحسن البصري، مولاة أم سلمة، قال ابن حزم: (ثقة مشهورة). ينظر: المحلى (3/ 82، و 4/ 142)، والتقريب ص 763. (¬2) مضى تخريجه في (2/ 258). (¬3) هذا لفظ ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4991). (¬4) هذا لفظ ابن أبي شيبة في المصنف رقم (4990). (¬5) المحاربي، ذكره ابن حبان في الثقات. ينظر: الجرح والتعديل (3/ 548)، والثقات (8/ 248). (¬6) لم أعثر على ترجمتها. (¬7) ينظر: سنن البيهقي، كتاب: الصلاة، باب: كراهية تأخير العصر، رقم (2097)، وقد مضى تخريج الأثر في (2/ 258).

والمجنون؛ لأنهم ليسوا من أهل الفرض، وإن شئت قلت: من كان من أهل فرض الصلاة، سُنَّت له الجماعة فيها كالرجال، ولأن المرأة والرجل في أحكام الصلاة سواء، إلا فيما فيه تكشُّف، وتركُ الستر، وليس في فعل الصلاة جماعة تركُ الستر، فوجب أن يكونا سواء. واحتج المخالف: بما روى النجاد بإسناده عن [ابن] (¬1) أبي ذئب عن مولًى لبني هاشم، عن علي قال: المرأة لا تؤمُّ، ولا تؤذِّن، ولا تُنْكِح، ولا تشهد النكاح (¬2). والجواب: أنا نحمل قوله: "لا تؤم" الرجالَ. واحتج: بأن النساء يُكره لهن الأذان، فوجب أن يكره لهن الجماعة. والجواب: أن الصلاة قد يستحب فيها الجماعة، وإن لم يستحب لها الأذان؛ كالتراويح، وصلاة العيدين، والاستسقاء، وصلاة الكسوف، وصلاة العشاء الآخرة بالمزدلفة، وصلاة العصر بعرفات، فلم يجز اعتبار الجماعة بالأذان واحتج: بأنه لو استحب لهن الجماعة، لوجب أن يكون في المسجد أفضل، كالرجال. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وموضع الشاهد منه في مصنف ابن أبي شيبة في مواضع متفرقة، ينظر رقم: (2334 و 4994)، وفيه رجل لم يسمّ، وينظر: مصنف عبد الرزاق رقم (15405).

92 - مسألة: المريض إذا لم يقدر أن يصلي قاعدا، فإنه ينام على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة، كما يوضع في اللحد، ويصلي نائما، وإن صلى مستلقيا على قفاه، ووجهه، ورجلاه إلى القبلة، جاز، إلا أن المستحب ذلك

والجواب: أن البروز من البيوت ترك للستر، فكان الجماعة في البيوت أفضل. والله أعلم. * * * 92 - مَسْألَة: المريض إذا لم يقدر أن يصلي قاعدًا، فإنه ينام على جنبه الأيمن، ووجْهُه إلى القبلة، كما يوضع في اللحد، ويصلي نائمًا، وإن صلى مستلقيًا على قفاه، ووجهه، ورجلاه إلى القبلة، جاز، إلا أن المستحب ذلك: نص على هذا في رواية الأثرم (¬1)، وإبراهيم بن الحارث (¬2)، فقال: إن شاء. كما قال ابن المسيب (¬3): رجلاه إلى القبلة وهو مستلقٍ، وإن شاء منحرفًا (¬4) على يمينه إلى القبلة، وكأنه إلى الانحراف أميل. ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (3/ 68)، والمبدع (2/ 100)، والإنصاف (5/ 12). (¬2) لم أقف على رواية إبراهيم، وينظر: مسائل أبي داود رقم (358)، ومسائل الكوسج رقم (319)، والجامع الصغير ص 51، والهداية ص 102، والمغني (2/ 573)، والفروع (3/ 68)، والمبدع (2/ 100)، والإنصاف (5/ 12). وإلى التخيير ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 77)، والكافي ص 62. (¬3) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة رقم (2829)، والمغني (2/ 573). (¬4) في الأصل: متحرفًا.

وقال أبو حنيفة (¬1): يصلي مستلقيًا على قفاه، ووجهُه ورجلاه إلى القبلة، ولم يخيره في ذلك. واختلف أصحاب الشافعي - رضي الله عنهم -، فمنهم من قال: يصلي مستلقيًا، ومنهم من قال: يصلي على جنبه، من غير تخيير (¬2). دليلنا: أنه متوجه إلى القبلة في الحالين جميعًا، أما إذا صلى على جنب، فإن وجهه وصدره إلى القبلة، وإذا جلس على الصفة التي هو عليها من غير تغيير، حصل مستقبلًا للقبلة، وكذلك إذا كان مستلقيًا؛ لأن وجهه يكون للقبلة (¬3)، ونظره يقع إليها، ألا ترى أنه لو نهض على هيئته تلك، لحصل متوجهًا إليها، وإن كان مستقبلًا لها في الموضعين، كان مخيرًا في أيهما شاء، وإنما اخترنا الكون على الجنب؛ لأن الشرع نطق به، وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع، فعلى جنبه، فإن لم يستطع، فالله أولى بالعذر" (¬4)، فنص على الجنب، ولأنها حالة يقصد فيها جهة القبلة، فأشبه حالة الدفن، وأجمعنا أنه يدفن على جنب، ويوجَّه إلى ¬

_ (¬1) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 305)، والهداية (1/ 76). (¬2) ينظر: المهذب (1/ 328)، والبيان (2/ 446). (¬3) في الأصل: القبلة، والمثبت يقتضيه الكلام. (¬4) أخرجه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 538)، والأصبهاني في تاريخ أصبهان (2/ 120)، قال ابن مفلح: (إسناده ضعيف). ينظر: الفروع (3/ 71)، وكشاف القناع (3/ 252).

93 - مسألة

القبلة، كذلك ها هنا. فإن قيل: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على جنب" الجنب: هو الضلع، فإذا صلى مستلقيًا، فهو على جنبه. قيل له: هذا خلاف اللغة؛ لأنه يقال: صلى [على] (¬1) جنبه، وصلى على ظهره. فإن قيل: إذا صلى على جنب، صار وجهه إلى المشرق، ووقع نظره وإيماؤه إليه، ألا ترى أنه لو نهض على هيئته، حصل متوجهًا إلى ناحية المشرق. قيل له: قد بيّنا أنه متوجه (¬2) إلى القبلة، فسقط هذا، ولو جاز أن يقال هذا في الجنب، جاز أن يقال في المستلقي: إنه مستقبل بوجهه إلى السماء، وليس تلك جهة القبلة، ولكن لما أجمعنا على فساد هذا، وقلنا: بل هو مستقبل للقبلة بالإيماء، كذلك في الجنب، ولا فرق بينهما، وعلى هذا يُوجب أن لا يكون المدفون في اللحد متوجهًا إلى القبلة؛ لأنه لو جلس، كان على غير القبلة، والله أعلم. * * * 93 - مَسْألَة لا يصح ائتمام القادر على القيام بالعاجز عنه إلا في موضع، ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وبها يتم الكلام. (¬2) في الأصل: متوجهًا.

وهو: إذا كان إمامَ الحيِّ، وكان عجزُه لعلة يُرجى زوالها، وأما إن كان غيرَ إمام الحيِّ، أو كان إمامَ الحيِّ، لكن عجزُه لعلة لا يُرجى زوالُها؛ مثل: الزَّمِن (¬1)، لم تصح إمامته بمن يقدر على القيام: نص على هذا في رواية صالح (¬2)، فقال: لا يؤمهم المقعَد إلا أن يكون كان يؤمهم، فمرض أيامًا؛ كما فعل جابر (¬3)، وأسيد (¬4)، إذا كان مثل الخليفة، أو مثل إمام يصلي جماعة، صلوا خلفه. وقال أبو حنيفة (¬5)، والشافعي (¬6) - رحمهما الله -: تجوز إمامة الجالس بمن يقدر على القيام بكل حال. ¬

(¬1) الزمانة: العاهة، رجل زَمِن: أي مبتلًى. ينظر: لسان العرب (زمن). (¬2) ينظر بمعناها في: مسائله رقم (1389)، ونص ما ذكره المؤلف في مسائل الكوسج رقم (336)، وينظر: مسائل ابن هانئ رقم (216)، والهداية ص 100، والمغني (3/ 60)، والإنصاف (4/ 376). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7215)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 206)، قال ابن حجر: (إسناد صحيح). ينظر: الفتح (2/ 229). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7219)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 206)، وصحح إسناده ابن رجب، وابن حجر. ينظر: الفتح لابن رجب (4/ 153)، ولابن حجر (2/ 228 و 229). (¬5) ينظر: الحجة (1/ 92)، والهداية (1/ 58). (¬6) ينظر: الأم (2/ 340)، والحاوي (2/ 306).

واختلفت الرواية عن مالك - رحمه الله - (¬1)، فرُوي عنه: الجوازُ على الإطلاق، مثل قولهما، ورُوي عنه: المنعُ على الإطلاق في إمام الحي، وغيره. فالدلالة على أنه لا يجوز إمامته على الوجه الذي ذكرنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه" (¬2)، ومن يجيز إمامة الجالس، يقول: يصلون خلفه قيامًا، وهذا اختلاف عليه. وروى أيضًا أبو بكر النجاد قال: نا عبد الله بن محمد (¬3) قال: حدثني علي بن الجعد (¬4) قال: أنا قيس (¬5) عن جابر، عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمّن أحدٌ بعدي جالسًا" (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 81)، والإشراف (1/ 292). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 241). (¬3) ابن عبيد بن سفيان القرشي مولاهم، المعروف بـ (أبي بكر بن أبي الدنيا)، قال ابن حجر: (صدوق حافظ)، توفي سنة 281 هـ. ينظر: التقريب ص 340. (¬4) ابن عبيد الجوهري البغدادي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت، رمي بالتشيع)، توفي سنة 230 هـ. ينظر: التقريب ص 439. (¬5) ابن الربيع الأسدي، أبو محمد الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق، تغير لما كبر ... )، توفي سنة بضع وستين ومئة. ينظر: التقريب ص 511. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4087)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: صلاة المريض جالسًا بالمأمومين، رقم (1485)، وقال: =

وروى الدارقطني أيضًا بإسناده بهذا اللفظ (¬1). قال أبو بكر النجاد: نا محمد بن غالب (¬2) قال: نا أبو حذيفة (¬3) قال: نا سفيان الثوري عن جابر، عن الشعبي - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يؤم الرجلُ جالسًا" (¬4). فإن قيل: جابر الجعفي ضعيف، والشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. قيل: جابر روى عنه الثوري، وذلك تعديل، والشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، والمرسَل عندنا حجة. ¬

_ = (لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة)، وكذا قال البيهقي بعد أن أخرجه في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما روي في النهي عن الإمامة جالسًا، وبيان ضعفه، رقم (5075)، قال ابن عبد البر: (منكر باطل، لا يصح من جهة النقل). ينظر: الاستذكار (5/ 400). (¬1) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: صلاة المريض جالسًا بالمأمومين، رقم (1485). (¬2) ابن حرب، الضبي البصري، التمار، أبو جعفر التمتام، قال الذهبي: (الإمام، المحدث، الحافظ، المتقن)، توفي سنة 283 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 391). (¬3) موسى بن مسعود النَّهدي، أبو حذيفة البصري، قال ابن حجر: (صدوق سيئ الحفظ، وكان يصحِّف)، توفي سنة 220 هـ. ينظر: التقريب ص 619. (¬4) لم أقف على من أخرجه، وهو ضعيف؛ لضعف جابر الجعفي، وللإرسال.

فإن قيل: يُحمل النهي على الصفة التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقته، وهو أنه صلى بهم جالسًا، وهم جلوسٌ، فيكون قوله: "لا يؤمن أحدٌ بعدي جالسًا" على تلك الصفة. قيل له: من حمل النهيَ على ظاهره وإطلاقِه أولى ممن أضمر فيه؛ لأن الإضمار تركُ حقيقة، ودخولٌ في المجاز، وعلى قولهم يحصل قوله: "لا يؤمن أحدٌ بعدي" قاعدًا بقعود، وعلى أن النهي انصرف إلى الإمام، وإذا حملوا الخبر على صلاة المأموم، حصل النهي منصرفًا إلى المأمومين؛ لأن الإمام غير مؤاخَذ بجلوسهم، وإنما ينصرف النهي إلى إمامته جالسًا بقيام. والقياس: القيام ركن من أركان الصلاة، جاز أن يمنع القادر من الاقتداء بالعاجز عنه؛ دليله: القارئ لا يجوز أن يقتدي بالأمي، أو نقول: فجاز أن يؤثر في منع الإمامة، ولا يلزم عليه إذًا اقتداء بإمام الحي؛ لأن التعليل للجواز، فلا يلزم عليه الأحوال، ولا يلزم عليه المتيمم إذا صلى بالمتطهرين أنه يجوز، وإن كان الإمام عاجزًا عنه؛ لقولنا: ركن، والطهارة لا توصف بأنها ركن، وإنما هي شرط لتقدمها على الصلاة. فإن قيل: لنا في الاقتداء بالأمي قولان: أحدهما: الجواز، فلا نسلم الأصل. قيل له: إنما قال في القديم: يصح، وفي الجديد: لا يصح، وهو الصحيح عنه (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: المهذب (1/ 317)، والبيان (2/ 405).

فإن قيل: إنما لم يصح اقتداء القارئ بالأمي؛ لأن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم على حسب اختلاف الناس، فعلى قولكم: يتحملها عن جميع الصلاة، وعلى قولنا: يتحملها إذا أدركه راكعًا، وإذا كان أميًا، فليس من أهل التحمل، فلهذا لم تصح إمامته، وليس كذلك القيام، فإنه لا يتحمله عن المأموم، فعجزُه عنه لا يمنع الاقتداءَ به. قيل له: قد يتحمل القيام عندك، وهو إذا أدركه راكعًا، فإنه يسقط عنه ذلك القيام بعد أن كان واجبًا عليه؛ بدليل: أنه لو أدركه قائمًا، لزمه القيام، ومع هذا، فقد تحمله في تلك الحال، وعلى أن هذا يؤكد ما نقول؛ لأن القراءة إذا كان التحمل يدخلها، دلَّ على ضعفها، ثم العجز عنها يمنع صحةَ الاقتداء، والركوعُ والسجود لا يدخله التحمل يدلُّ على تأكيده، فأولى أن يمنع العجزُ عنه صحةَ الاقتداء. وقياس آخر: وهو أنه غير قادر على القيام، فجاز أن لا يكون إمامًا للقادر عليه؛ دليله: المومئ؛ فإن أبا حنيفة - رحمه الله - قد قال: لا تصح إمامته (¬1)، والمربوط على خشبة، فإنه لا تصح إمامته عند الشافعي - رحمه الله - (¬2). فإن قيل: فيه وجهان. قيل: الصحيح: أنه لا يصح. ¬

_ (¬1) ينظر: التجريد (2/ 826)، والهداية (1/ 59). (¬2) ينظر: الحاوي (1/ 276)، وروضة الطالبين (1/ 349).

فإن قيل: إنما لم يصح هناك؛ لأن تلك الصلاة لا يُعتد بها، ألا ترى أنه يجب عليه الإعادة؟ وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يُعْتد بتلك الصلاة. قيل: لا نسلِّم لك في الأصل أنه لا يُعتد به، وعلى أن هذا يبطل بالمحدِث، فمانه لا يُعتد بصلاته، وقد صحت إمامته (¬1)، وأما في الفرع، فلا يمتنع أن يعتد به، ولا يصح الاقتداء؛ كالأمي يُعتد بصلاته، ولا تصح إمامته، وكالمرأة تصح صلاتها، ولا يصح اقتداءُ الرجل بها، وكالمستحاضة. فإن قيل: إنما لم يصح الاقتداء بالمومئ؛ لأن المومئ لا ركوع ولا سجود له، والركوع والسجود [لا يسقط] (¬2) في غير حال العذر بحال، فلم يصح اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه، وليس كذلك القيام؛ لأنه يسقط في غير حال العذر بحال، وهو في صلاة النافلة، فصح اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه. قيل له: القيام لا يسقط في صلاة الفرض في غير حال العذر بحال، كما لا يسقط الركوع، فلا فرق بينهما. فإن قيل: فالركوع والسجود من شرطه مشاركة المأموم الإمام فيه، ألا ترى أنه إذا أدركه وقد رفع، لم يُعتد بتلك الركعة؟ فلهذا لم يصح اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه؛ لأنه ليس له إمام يقتدي به فيما هو شرط في الاقتداء، وليس كذلك القيام؛ لأنه ليس من شرط صحة الاقتداء ¬

_ (¬1) في الأصل: إمامه، والصواب المثبت. (¬2) ليست موجودة في الأصل، ولا يستقيم الكلام إلا بالمثبت، ويدل عليه ما بعده.

مشاركة المأموم، ألا ترى أنه لو أدركه وقد ركع، صح اقتداؤه به، وكان مدركًا للركعة؟ فلهذا صح اقتداؤه به، وإن كان عاجزًا عنه. قيل له: إنما كان من شرط صحة الاقتداء في الركعة المشاركة في الركوع لا للمعنى الذي ذكرتموه، وهو أن الركوع آكدُ من القيام، لكن لأجل أنه يحصل بإدراك الركوع مدركًا لمعظم الركعة، وإذا [أدركه] (¬1) وقد رفع، فقد فاته معظم الركعة، فأما أن تكون العلة فيه أن الركوع آكدُ، فلا، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام قائمًا، لزمه متابعته فيه، ومتى ترك المتابعة مع الإدراك، لم تصح صلاته؟ واحتج المخالف: بما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: نا عباد بن عباد المهلبي (¬3) عن محمد بن عمرو (¬4)، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الإمام ليؤتَمَّ به، فإذا كَبَّر، فكبروا، وإذا ركع، فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعين" (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل بياض بمقدار كلمة، والمثبت يستقيم به الكلام. (¬2) رقم (7144). (¬3) ابن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو معاوية البصري، قال ابن حجر: (ثقة، ربما وَهِم)، توفي سنة 179 هـ. ينظر: التقريب ص 301. (¬4) ابن علقمة بن وقاص الليثي، المدني، قال ابن حجر: (صدوق له أوهام)، توفي سنة 145 هـ. ينظر: التقريب ص 556. (¬5) أخرج الحديث البخاري في كتاب: الأذان، باب: إقامة الصف من تمام =

وروى أيضًا في المسند (¬1) قال: نا أبو جعفر محمد بن جعفر المدائني (¬2) قال: نا ورقاء (¬3) عن منصور (¬4)، عن سالم بن أبي الجعد (¬5)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قال: وثئت (¬6) رِجْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلنا عليه، فخرج علينا (¬7) أو وجدناه في حجرته بين يدي غُرفة، فصلى جالسًا، وقمنا خلفه، فصلينا، فلما قضى الصلاة، قال: "إذا صليتُ جالسًا، فصلُّوا جلوسًا، وإذا صليتُ قائمًا، فصلوا قيامًا، ولا تقوموا كما تقوم فارس لجبابرتها، أو لملوكها" (¬8). ¬

_ = الصلاة رقم (722)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (414). (¬1) رقم (15251). (¬2) البزار، قال ابن حجر: (صدوق فيه لين)، توفي سنة 206 هـ. ينظر: التقريب ص 528. (¬3) ابن عمر اليشكري، أبو بشر الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق، في حديثه عن منصور لين). ينظر: التقريب ص 649. (¬4) ابن المعتمر، مضت ترجمته. (¬5) اسم والده: رافع الغطفاني الأشجعي مولاهم، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة، وكان يرسل كثيرًا)، توفي سنة 98 هـ. ينظر: التقريب ص 215. (¬6) في الأصل: وثبت، والتصويب من المسند. ومعنى وثبت: أن يصيب العظمَ وصم ووهن لا يبلغ الكسر. ينظر: الصحاح، والنهاية في الغريب (وثأ). (¬7) وفي المسند: إلينا. (¬8) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب: الإمامة في الصلاة، باب: صلاة =

وروى أيضًا في المسند (¬1) قال: نا يحيى (¬2) عن هشام بن عروة: حدثني أبي قال: حدثتني عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه الناس في مرضه يعودونه، فصلى بهم جالسًا، فجعلوا يصلون قيامًا، فأشار إليهم: أنِ اجلسوا، فلما فرغ، قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتَمَّ، فإذا ركع، فاركعوا، وإذا رفع، فارفعوا، وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا" (¬3). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرسًا، فصرع منه، فجُحِش شقُّه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتَمَّ به، فإذا صلى قائمًا، فصلُّوا قيامًا، وإذا ركع، فاركعوا، وإذا رفع، فارفعوا"، وفي لفظ آخر قال: "وإذا صلَّى قاعدًا، فصلُّوا قعودًا" (¬4). ¬

_ = المريض في منزله جماعة إذا لم يمكنه شهودها في المسجد لعلة حادثة، رقم (1487)، وذكر أنه: (خبر غريب غريب). (¬1) رقم (24250). (¬2) ابن سعيد القطان، مضت ترجمته. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، رقم (688)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (411 و 412). (¬4) مضى تخريجه (1/ 107)، واللفظ لمسلم.

وروى النجاد أيضًا بإسناده عن حصين (¬1) - من ولد سعد بن معاذ - عن أسيد بن حضير - رضي الله عنه -: أنه كان يؤمهم، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقالوا (¬2): يا رسول الله! إن إمامنا مريض، قال: "إذا صلَّى قاعدًا، فصلوا قعودًا" (¬3). وروى النجاد بإسناده عن القاسم بن محمد قال: حج معاوية - رضي الله عنه -، فقال على المنبر (¬4): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء بلال ليؤذنه بالصلاة، فقال: ¬

_ (¬1) ابن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ الأشهلي، أبو محمد المدني، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 153. (¬2) في الأصل: قال، والتصويب من سنن أبي داود. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، رقم (607)، وقال: (هذا الحديث ليس بمتصل)، وينظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 229). (¬4) لم أقف على هذا الحديث من رواية معاوية - رضي الله عنه -، ويظهر - والله أعلم -: أن ثمة سقطًا؛ لأمور: 1 - أن الكلام غير مستقيم: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال ليؤذنه ... ). 2 - لم أقف على من أخرجه أنه من حديث معاوية - رضي الله عنه -. 3 - أن ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7219) أخرج عن القاسم بن محمد: أن معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى الإمام جالسًا، فصلوا جلوسًا"، وأشار إليه الترمذي في جامعه في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما جاء إذا صلى الإمام قاعدًا، فصلوا قعودًا، رقم (361)، وصحح إسناده الألباني في الصحيحة (3/ 350) رقم (1363). =

"مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس"، فذكر الحديث، فصلى بالناس، فلما دخل يُهادى (¬1) بين رجلين، ورجلاه تَخُطَّان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر - رضي الله عنه - حِسَّه، ذهب ليتأخرَ، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أقم كما أنت، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر - رضي الله عنهم أجمعين (¬2) -. وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين جاء أخذ القراءة من موضع بلغ أبو بكر (¬3). ¬

_ = فيكون الأصل بعد التصحيح: عن القاسم بن محمد قال: حج معاوية - رضي الله عنه -، فقال على المنبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى الإمام جالسًا، فصلوا جلوسًا". وروي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: جاء بلال ليؤذنه بالصلاة ... الحديث. فبهذا يستقيم الكلام. (¬1) في الأصل: يهدا، والتصويب من الصحيحين. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، رقم (713)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، رقم (418) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (3330)، وأخرجه ابن ماجه، في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، رقم (1235) قال ابن حجر: (إسناده حسن). ينظر: فتح الباري (2/ 227)، وللفائدة ينظر: بيان الوهم والإيهام (2/ 437).

قالوا: فهذه الأخبار تدل على جواز إمامة العاجز عن القيام بالقادر عليه. والجواب: أنا نقول بهذه الأخبار كلها؛ لأن بعضها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان إمام وقته، ونحن نجيز لإمام الحيِّ مثلَ ذلك، وبعضُها قول، وهو قوله: "إذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا"، ونحن نحمل ذلك على إمام الحيّ، وخلافنا فيما وراء ذلك. واحتج: بأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، روى النجاد بإسناده عن كثير بن السائب (¬1): أن أسيد بن حضير كان وَجِعًا، فوجد خِفَّةً، فتحامل (¬2) إلى المسجد، فصلى بأصحابه، فأقعدهم قعودًا خلفه (¬3). وروى بإسناده عن قيس (¬4) قال: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: الأمير إمام، فإن صلى قائمًا، فصلُّوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا، فصلُّوا قعودًا (¬5). ¬

_ (¬1) المدني، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 514. (¬2) في الهامش: فمشى. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد مضى تخريج الأثر الوارد عن أسيد - رضي الله عنه - في (2/ 173). (¬4) ابن أبي حازم البجلي، أبو عبد الله الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة)، مات بعد التسعين من الهجرة. ينظر: التقريب ص 511. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7216)، وابن المنذر (4/ 206)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (2/ 229)، وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه مرفوعًا رقم (4083)، والصحيح الموقوف كما أفاده =

قال أحمد - رحمه الله - في رواية صالح (¬1): قد رُوي في ذلك عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن جابرًا صلى بهم وهو جالس، وهم جلوس، وأسيد بن حضير، وأبا هريرة - رضي الله عنهما -، قد ثبت هذا عن ثلاثة من الصحابة. والجواب: ما تقدم. واحتج: بأن العجز عن القيام لا يمنع صحة الاقتداء؛ دليله: إمام الحي. والجواب: أن القياس هنا يمنع أيضًا، لكن تركناه للأثر، وعلى أن إمام الحي له مزية، ألا تراه أحقَّ بالتقدم، ويمنع غيره من أن يؤذن، ويقيم، ويؤم في المسجد؟ فإن قلنا: لا يؤم إذا كان جالسًا، سقطت مزيته؛ لأنه يمنع الناس من الصلاة معه. واحتج: بأنه من لا يُرجى منه القيامُ أكثرُ ما فيه: أنه عاجز عن القيام، وهذا لا يمنع، ألا ترى أن من يرجى منه القيام تجوز إمامته، وإن كان عاجزًا في الحال؟ والجواب: أن القياس اقتضى المنع في الموضعين، وإنما أجزناه في أحدهما؛ للأثر، والأثرُ ورد في عجزٍ كان يُرجى معه القيام، وعلى أنا قد بيّنا أن لإمام الحي مزيةً، وأما الفرق بين أن يكون عجزه يرجى زواله، وبين أن لا يرجى، فهو أنه غير ممتنع أن يختلف الحكم عندنا ¬

_ = الدارقطني في العلل (9/ 26). (¬1) في مسائله رقم (1389).

فصل

باختلاف صفته، كما اختلف عندكم باختلاف الأركان، فقال الشافعي (¬1) - رحمه الله -: عجزه عن القراءة يمنع الائتمام به، وعجزه عن الركوع والسجود لا يمنع. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: عجزه عن القيام لا يمنع، وعجزه عن الركوع والسجود يمنع (¬2). واحتج: بأن من جاز أن يؤم الجالس، جاز أن يؤم القائم؛ دليله: القيام. والجواب: أنه ليس إذا جاز أن يؤم مثله، جاز أن يؤم من هو أكمل منه؛ بدليل: الأمّي، والمستحاضة، والمصلون تجوز إمامتهم لمثلهم، ولا تجوز لمن هو أكمل منهم، كذلك ها هنا. فإن قيل: لما جاز أن يؤم المتيمم للمتطهر مع نقص طهارته، جاز أن يؤم العاجز عن القيام بالقادر. قيل: المتيمم قد أتى ببدل الطهارة، والبدل يقوم مقام المبدل، وليس كذلك العاجز عن القيام؛ فإنه لم يأت ببدل عنه، والله أعلم. * فصل: والدلالة على مالك - رحمه الله - في قوله: لا تجوز إمامته بحال، وإن كان إمامَ الحيّ: ما تقدم من الأخبار (¬3): حديث أنس، وجابر، وأبي ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 326 و 341). (¬2) ينظر: مختصر القدوري ص 80. (¬3) في (2/ 273، 274، 275، 276، 277).

هريرة، وعائشة، وأسيد بن حضير، ومعاوية، وقصة أبي بكر - رضي الله عنهم أجمعين -، وهذا نص في جواز الاقتداء بإمام الحي في حال الجلوس. فإن قيل: خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُزل إمامةَ أبي بكر - رضي الله عنه -، بل كان أبو بكر على إمامته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأتمُّ به. قيل: هذا لا يصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على يسار أبي بكر، وأخذ القراءة من حيث بلغ، ولو كان مأمومًا، وقف على يمينه، ولم يأخذ القراءة منه، وعلى أن هذا التأويل لو صح على قصة أبي بكر - رضي الله عنه -، فلا يتوجه على بقية الأخبار؛ ولأن الصلاة تفتقر (¬1) إلى شرائط وأركان، ثم ثبت أن فقد بعض الشرائط - وهو الطهارة - لا يمنع الائتمام به لمن هو متطهر، كذلك الأركان. فإن احتجوا بما تقدم (¬2) من حديث الشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدٌ بعدي قاعدًا"، فهو محمول على غير إمام الحي، وإن قاسوا على غير إمام الحي بأنه عاجز عن القيام. فالجواب عنه: ما تقدم، وهو أن القياس اقتضى ما ذكرت، ولكن تركناه للسنة الظاهرة، والقياس يُطرح لمثل ذلك، وعلى أنا قد بيّنا أن لإمام الحي مزية. ¬

_ (¬1) في الأصل: تقتصر، والصواب المثبت. (¬2) في (2/ 267).

فصل

واحتج: بأن ما يمنع الائتمام من غير إمام الحي، يمنعه من إمام الحي؛ دليله: الحدث، والعجز عن الركوع والسجود، وعن القراءة. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق بين الإمام وغيره، وبين أن يُرجى (¬1)، كما فرقوا في الأركان، والله أعلم. * فصل: فإذا صلى بهم إمام الحي جالسًا، صلَّوا خلفه جلوسًا، نص على هذا في رواية صالح (¬2)، وحنبل (¬3)، والميموني (¬4)، وابن القاسم (3)، فإن صلَّوا قيامًا، فقال عمر بن بدر المغازلي (¬5)، فيما حكاه أبو حفص البرمكي عنه: الصلاة [صحيحة] (¬6)، قال: لأن أحمد - رحمه الله - قال في رواية ¬

_ (¬1) أي: زوال علته. (¬2) في مسائله رقم (1389). (¬3) لم أقف على روايته، وينظر: الهداية ص 100، والمغني (3/ 60)، ومختصر ابن تميم (2/ 308)، وشرح الزركشي (2/ 113)، والإنصاف (4/ 377)، وفتح الباري (4/ 151). (¬4) لم أقف على روايته، وينظر ما مضى، وقد ذكر ابن رجب: أن رواية الميموني في الإمام الأعظم خاصة. ينظر: فتح الباري (4/ 151). (¬5) ابن عبد الله، أبو حفص المغازلي، له تصانيف في المذهب، واختيارات. ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 227)، والمقصد الأرشد (2/ 297). (¬6) ساقطة من الأصل، والتصويب من التمام (1/ 226)، وينظر مع التمام: طبقات الحنابلة (3/ 227)، وشرح الزركشي (2/ 115).

ابن إبراهيم (¬1): إذا لم يكن إمام الحي، وكان يحضر مرة، ويغيب مرة، فإذا صلى جالسًا، صلَّى مَنْ خلفَه قيامًا. فجعل العلة في القعود كونَه إمام الحيّ، لا أنه قاعد. وقال أبو حنيفة (¬2)، والشافعي (2)، ومالك (2) - رحمهم الله -: في الرواية التي تجيز إمامة القاعد، وداود (¬3): يصلون قيامًا، فإن صلَّوا جلوسًا، بطلت صلاتهم. دليلنا: ما تقدم (¬4) من حديث أنس، وجابر، وعائشة، وأبي هريرة، ومعاوية، وأُسيد بن حُضير - رضي الله عنهم -، هؤلاء ستة رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا وقولًا: أنهم يصلون جلوسًا، وهو إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - روي عن ثلاثة: جابر، وأبي هريرة، وأسيد بن حضير - رضي الله عنهم -: أنهم فعلوا ذلك وقالوه، ولم يظهر عن أحد منهم خلافه، فدل على أن المسألة إجماع. فإن قيل: يحتمل أن تكون صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة. قيل: أجاب عنه أبو عبد الله محمد بن عقيل البلخي (¬5) في الرد على ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (216). (¬2) ينظر: (2/ 266). (¬3) محل نظر؛ فإن ابن حزم نقل عن داود - أبي سليمان - رحمهما الله -: أنه يذهب إلى أنهم يصلون وراءه قعودًا كلهم ولا بد. ينظر: المحلى (3/ 44). (¬4) في (2/ 273)، وما بعدها. (¬5) ابن الأزهر بن عقيل، أبو عبد الله البلخي، محدث بلخ، قال الذهبي عنه: (الحافظ الإمام، الثقة الأوحد، ... كان من أوعية الحديث)، له مصنفات =

الثلجي (¬1)؛ بأنه قد حدثنا ابن [أبي] (¬2) شيبة (¬3) قال: نا جعفر بن عون (¬4) قال: نا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر - رضي الله عنه - قال: صُرِع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فرس له بالمدينة على جذع نخلة، فانفك قدمه، فقعد في بيت عائشة - رضي الله عنها -، فأتيناه نعوده، فوجدناهُ يصلي تطوعًا قاعدًا ونحن ¬

_ = عديدة، منها: المسند، والتأريخ، توفي سنة 316 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 415). (¬1) هو: محمد بن شجاع، أبو عبد الله البغدادي الحنفي، المعروف بـ (ابن الثلجي)، فقيه أهل الرأي في وقته، كان سيئًا مع أهل السنة، يضع أحاديث في التشبيه، وينسبها إلى أصحاب الحديث يثلبهم بها، لذا أغلظ القول فيه الإمام أحمد - رحمه الله -، ونصح المتوكل أن لا يولِّيه القضاء، له كتاب في المناسك، توفي سنة 266 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 78)، وتهذيب الكمال (25/ 362)، وسير الأعلام (12/ 379). (¬2) ساقطة في الأصل. (¬3) في مصنفه رقم (7213)، لكنه رواه عن وكيع عن الأعمش، لا عن جعفر بن عون. (¬4) في الأصل: عوف، والذي يروي عنه ابن أبي شيبة هو: جعفر بن عون، وهو أحد الرواة عن الأعمش، أما ابن عوف، فلم أره يروي عن الأعمش. ينظر: تهذيب الكمال (12/ 76)، وسير أعلام النبلاء (6/ 226). وجعفر هو: ابن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث القرشي المخزومي، أبو عون الكوفي، روى له الجماعة، توفي سنة 206 هـ. ينظر: تهذيب الكمال (5/ 70).

قيام، ثم أتيناه فوجدناه يصلي صلاة مكتوبة، فقمنا خلفه، فأومأ إلينا، قال: فجلسنا، فلما قضى صلاته، قال: "ائتموا بالإمام، فإن صلى قاعدًا، فصلُّوا قعودًا، وإن صلى قائمًا، فصلُّوا قيامًا، ولا تفعلوا كما يفعل (¬1) فارس بعظمائهم" (¬2). وعلى أن قوله: "إذا صلى الإمام جالسًا"، ظاهر هذا ينصرف إلى الفرض؛ لأن العادة: أن الإمام إنما يصلي الفرض. فإن قيل: يحمل قوله: "إذا صلى قاعدًا، فصلوا قعودًا" يعني: إذا قعد للتشهد، فصلوا قعودًا. وأجاب عنه أبو عبد الله (¬3): بأنه قد رُوي مفسرًا، أنا: عبد الرزاق (¬4) أنا: معمر عن الزهري، عن أنس - رضي الله عنه - قال: سقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فرس، فجُحِش شِقُّه الأيمن، فدخلوا عليه، فصلى بهم جالسًا، وأشار إليهم: أن اجلسوا، فلما سلم، قال: "إنما جعل الإمام ليؤتَمَّ به"، وقال: ¬

_ (¬1) في الأصل: يفعلوا. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، رقم (602)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 202)، وقال: (الأخبار في هذا الباب ثابتة)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما روي في صلاة المأموم جالسًا إذا صلى الإمام جالسًا، رقم (5074)، والحديث أصله في صحيح مسلم، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (413). (¬3) ينظر: المسند رقم (12656). (¬4) ينظر: مصنف عبد الرزاق رقم (4078).

"إذا صلى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا" (¬1)، والتشهدُ لا يسمَّى صلاة، ألا ترى أنه لا يقال: صلى التشهد؟ فإن قيل: هذه الأخبار منسوخة بما تقدم (¬2) من حديث أبي بكر - رضي الله عنه -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلفه في مرض موته، فلما خرج، صلى جالسًا، وأبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا قيامًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام، وهذا في آخر الأمر منه. وبما تقدم (¬3) من حديث الشعبي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمَّنَّ أحدٌ بعدي قاعدًا"، ومعناه: بقعود. قيل: لا يجوز ادعاء النسخ مع إمكان التأويل والاستعمال، أما حديث الشعبي، فهو محمول على نهي إمامة القاعد في الجملة، لكن لغير إمام الحي، وأما قصة أبي بكر - رضي الله عنه -، فلا تنسخ ما تقدم من الأخبار؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - افتتح بهم الصلاة وهو قائم، ثم طَرَتْ إمامةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في أثناء الصلاة، وعندنا: إذا صلى بهم قائمًا، ثم اعتلَّ في أثناء الصلاة، وجلس، أتموا خلفه قيامًا، ولم يجز لهم الجلوس، فأحمد - رحمه الله - جمعَ بين الأخبار، واستعمل حديث جابر، وعائشة، وأنس - رضي الله عنهم - على ظاهره، في أنهم يصلون جلوسًا إذا صلى جالسًا من أول الصلاة، وحديث أبي بكر - رضي الله عنه - على ظاهره إذا صلى بهم قائمًا، ثم اعتل ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 107) و (2/ 274). (¬2) في (2/ 276). (¬3) في (2/ 267).

فجلس، فإنهم يصلون قيامًا، وإذا أمكن التأويل والاستعمال، لم يكن ادعاء النسخ. ولأن أركان الصلاة ضربان: أفعال، وأقوال، ثم ثبت أن من الأقوال ما يسقط بمتابعة الإمام مع إدراك محله، وهو: القراءة، جاز أن يكون من الأفعال ما يسقط بمتابعة الإمام مع إدراك محلَّه، إلا القيام. فإن قيل: القراءة قد أتى بها الإمام، فلهذا يحملها، وها هنا لم يأت به. قيل: لو صلى الإمام، وأدركه المأموم راكعًا، سقط عنه القيام، وإن لم يأت به الإمام، ولأنه لا يدرك إمامه قائمًا، فلم يلزمه القيام؛ دليله: إذا أدركه راكعًا. فإن قيل: هناك لم يدرك كل القيام، فلهذا سقط عنه. قيل له: كان يجب أن لا يعتد به؛ كما إذا أدركه وقد رفع من الركوع، لا يُعتد به، وإن لم يدرك محلَّه. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: "صلَّ قائمًا، فإن لم تطق، فنائمًا" (¬1)، وهذا قادر على القيام. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أشار بعض أهل العلم إلى أنه قد يكون في الحديث تصحيف. ينظر: معالم السنن (1/ 445)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، ولسان العرب (نوم)، والتلخيص (2/ 643)، وفي صحيح البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب: صلاة القاعد، رقم (1115): أن عمران - رضي الله عنه - سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعدًا، فقال: "إن صلى قائمًا، فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا، فله نصف أجر القائم، ومن صلى =

والجواب: أنه محمول على المنفرد؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بأنه مستطيع للقيام، فلم يجز له تركُه في صلاة الفرض؛ دليله: إذا كان الإمام قائمًا، أو كان منفردًا. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار المنفرد بالمأموم في القيام، كما لا يجوز اعتباره به في القراءة، ولأن الاقتداء قد يؤثر تخفيفًا لا يؤثره الانفراد؛ بدليل: أن فرض العبد والمرأةِ الظهرُ يومَ الجمعة، ولو اقتدوا بالإمام، تغير فرضهما فيما يرجع إلى التخفيف، وهو نقصان ركعتين، كذلك ها هنا، وأما إذا صلى الإمام قائمًا، لم يجز له الجلوس؛ لأن الإمام فعلها على وجه الكمال، فلم يجز له فعلها على وجه النقصان مع القدرة؛ كما لو نوى الإمام المسافر [الإتمام] (¬1)، لم يجز للمأموم المسافر أن ينوي القصر؛ لأن إمامه على حال الكمال. واحتج: بأن عجز الإمام عن القيام لا يسقط ذلك عن المأموم؛ دليله: لو ابتدأ بهم الصلاة قائمًا، ثم اعتلَّ وجلسَ، فإنهم يصلون قيامًا. والجواب: أنه لا يمتنع أن يلزمه إدراكُ بعضه، ولا يلزمه إذا لم يدرك بعضه، ألا ترى أنه لو أفاق في بعض اليوم، لزمه صيامه، ولو طبق به، لم يلزمه؟ ¬

_ = نائمًا، فله نصف أجر القاعد"، وأما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "صل قائمًا ... "، فمضى تخريجه في (1/ 171). (¬1) ليست موجودة في الأصل، وبها يستقيم الكلام.

وجواب آخر، وهو: أنه إذا أدركه قائمًا، فإن تحريمه وتحريم إمامه تضمنت وجوب القيام عليهما، فإذا عجز الإمام في أثنائها، فقد وجب في حقه عذرٌ أسقط القيام، ولم يوجد في حقهما، فلم يسقط عنهما، كما قلنا في المأموم إذا اقتدى بمقيم، ثم أحدث الإمام، فاستخلف مسبوقًا، وكان المستخلف مسافرًا، فإنه يُتِمّ بهم ما بقي عليهم من صلاة الإمام، ويبني هو على صلاة قصر؛ لأن العذر في حقه. واحتج: بأنه ركن من أركان الصلاة، فلا يسقط عنه بعجز الإمام؛ كالركوع. والجواب: أن عجز الإمام عن الركوع يمنع صحة الاقتداء به عندنا، وعلى أنا لا نقبل القياس في هذه المسألة؛ لأن السنة الظاهرة تعارضه، وتسقطه. واحتج: بأن صلاتهم جلوسًا لا يخلو إما أن يكون رخصة في حقهم، أو عزيمة، ولا يجوز أن يكون رخصة؛ لأنه لم يوجد سببُ الرخصة في حقهم؛ لأنهم قادرون على القيام، غيرُ عاجزين عنه، ولا يجوز أن يكون عزيمة؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب إذا تركوا الجلوس، وصلَّوا قيامًا، أن لا تصح صلاتهم، وقد قلتم: إن صلاتهم صحيحة. والجواب: أنا نقول: إن جلوسهم رخصة، وليس بعزيمة، وأنهم إذا صلوا قيامًا، صحت صلاتهم، وقد نص على هذا أبو حفص عمر بن بدر المغازلي (¬1)، وأفردها مسألة، وأكثر القول فيها، نقلتها من خط أبي ¬

_ (¬1) ينظر: (2/ 281).

حفص البرمكي، فاستدل على أنها رخصة: بأنه لما كان رخصة في حق الإمام، وليس بواجب؛ بدليل: أنه لو تحمل المشقة، وصلى قائمًا، صحت صلاته، كذلك المأموم إذا ترك الرخصة، وصلى قائمًا، أن تصح، ولأنه لو كان عزيمة، لاستوى فيه جميع الأئمة، إمامُ الحيِّ، وغيرُه، وإذا ابتدأ بهم قائمًا، أو جالسًا، ولما اختص ذلك بإمام مخصوص، وحالة مخصوصة، دل على أنه رخصة، ألا ترى أن متابعته في القيام لما كان واجبًا، استوى فيه جميع الأئمة؟ وقولهم: إن سبب الرخصة لم يوجد في حقه، غيرُ صحيح؛ لأن متابعة الإمام يجري مجرى العذر في باب الإسقاط؛ بدليل: القراءة عندنا في جميع الصلاة، وعند مخالفنا إذا أدركه راكعًا، وبدليل: سجود السهو يسقط بمتابعة الإمام، ويلزم بالانفراد. واحتج بعضهم: بأنه لما لم يسقط عن المقيمين بائتمامهم بالمسافرين الركعتان مع سقوطهما عن الإمام، كذلك في القيام. وأجاب عنه أبو عبد الله البلخي: بأن سقوط القيام أخف من سقوط عدد الركعات؛ بدليل: المريض، يسقط عنه القيام، ولا يخفف عنه في عدد الركعات، وكذلك الخائف، لا يسقط عنه العدد، ويسقط عنه القيام، ولو فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في السفر، أتمها أربعًا، ولو فاتته صلاة وهو صحيح، فقضاها (¬1) وهو مريض جالسًا، أجزأت عنه، فدل ¬

_ (¬1) في الأصل: فقاها، والصواب المثبت.

94 - مسألة: لا يجوز أن يأتم القادر على الركوع والسجود بالمومئ بحال، سواء كان إمام الحي، أو غيره

على الفرق بينهما، والله أعلم. * * * 94 - مَسْألَة: لا يجوز أن يأتم القادر على الركوع والسجود بالمومئ بحال، سواءٌ كان إمامَ الحيِّ، أو غيرَه (¬1): نص على هذا في رواية الميموني (¬2)، فقال: إذا صلى بهم من أول الصلاة جالسًا، صلَّوا جلوسًا، قيل له: فإن أومأ يومئون؟ قال: لا، ليس له معنى. وكذلك قال في رواية بكر بن محمد عن أبيه (¬3) عنه: في المقيَّدِ يؤم المُطْلَقين إذا أمكنه الركوع. وفي رواية أبي الحارث (3)، وصالح (¬4)، وإبراهيم (3)، ويعقوب (3): إن أمكنه التورك. فقد اعتبر القدرة على الركوع والسجود، وهو قول أبي ¬

_ (¬1) ينظر: الإرشاد ص 71، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 191)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 287)، والهداية ص 100، والمغني (3/ 65)، ومختصر ابن تميم (2/ 308)، والفروع (3/ 29)، والإنصاف (4/ 373)، والمنتهى (1/ 80). (¬2) لم أقف عليها، وقد نقلها عن الإمام أحمد - رحمه الله - ابنُ هانئ في مسائله رقم (304). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: ما مضى من مراجع في هذه المسألة. (¬4) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة.

حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3) - رضي الله عنه -: تجوز إمامة المومئ بمن يقدر على الركوع والسجود. دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه" (¬4)، وإذا كان المأموم يركع ويسجد، والإمام لا يركع ولا يسجد، فهو اختلاف عليه، فوجب بحق الظاهر أن لا تصح متابعته. وأيضًا ما تقدم (¬5) من حديث الشعبي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن أحدٌ بعدي قاعدًا"، أو: "لا يؤم الرجل جالسًا"، وإذا نهى عن إمامة القاعد، كان فيه تنبيه على المومئ؛ لأنه أضعف حالًا من الجالس. والقياس: أن الركوع والسجود ركنان (¬6) من أركان الصلاة، فجاز أن يُمنع القادرُ عليه من الائتمام بالعاجز عنه؛ دليله: القراءة، وله على ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر القدوري ص 80، والهداية (1/ 59). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 293)، ومواهب الجليل (2/ 420). (¬3) ينظر: الأم (2/ 341 و 342)، والبيان (2/ 404). تنبيه: سياق المؤلف يفهم منه: أن أبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي - رحمهم الله - يقولون بجواز إمامة المومئ للقادر، وهذا محل نظر؛ فإن أبا حنيفة، ومالكًا يمنعون ذلك، إنما هو قول الشافعي - رحمهم الله -، ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 191)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 287). (¬4) مضى تخريجه في (1/ 241). (¬5) في (2/ 267). (¬6) في الأصل: ركنين.

هذه العلة اعتراضات، وقد أجبنا عنها في المسألة التي قبلها، وإذا (¬1) أحرم بصلاة لا ركوع فيها ولا سجود، فلا يجوز أن يكون إمامًا لمن يصلي بركوع وسجود؛ دليله: إذا أحرم بصلاة الجنازة، والمربوط على خشبة، فإنه لا يصح أن يكون إمامًا لمن يقدر على الركوع، كذلك ها هنا، وإن شئت قلت: صلاة ليس لها ركوع وسجود، فلم يجز بناء صلاة الفرض التي لها ركوع وسجود على تحريمتها؛ دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: المعنى في الأصل، وهو: صلاة الجنازة، والمربوط: أنه ليس فيها ركوع، ولا ما يقوم مقام الركوع، وليس كذلك ها هنا، وإن لم يكن فيها ركوع، فإن فيها ما يقوم مقام الركوع، وهو الإيماء؛ فلهذا فرق (¬2) بينهما. قيل له: لا نسلم أن الإيماء يقوم مقام الركوع، ولا بدلٌ عنه، وإنما الإيماء بعض الركوع والسجود، وليس ببدل عنه، ولا يقوم مقامه، ألا ترى أنه من الإيماء يصير إلى الركوع؟ ويأتي الكلام على هذا الفصل. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3): "صلوا خلف من ¬

_ (¬1) في الأصل: ولا، والصواب المثبت. (¬2) في الأصل: فرقا. (¬3) حصل خطأ هنا حين ترميم المخطوط، فقدمت ألواح حقها التأخير، ففي الوجه الأول من لوح 119 تتمة مسألته في الوجه الثاني من لوح 121، ولذا فسوف ننسخه هنا، لتكون المسألة منضبطة، وما في الوجه الثاني من لوحة 119 سوف يأتي التنبيه عليه ضمن مسألة لاحقة.

قال: لا إله إلا الله" (¬1)، وقوله - عليه السلام -: "صلاة الجماعة تفضُل على صلاة الفَذَّ بخمس وعشرين درجة" (¬2)، ولم يفرق. والجواب: أن هذا كله محمول عليه إذا كان الإمام يركع ويسجد؛ بدليل ما تقدم. واحتج: بأن هذه حالة يجوز للمريض أن يصلي فيها، فجاز أن يكون إمامًا فيها؛ دليله: الصحيح الذي يقدر على الركوع والسجود، وكل من جاز أن يكون إمامًا لمن يُصلي بالإيماء، جاز أن يكون إمامًا لمن يصلي بالركوع والسجود؛ دليله: الصحيح. والجواب: أنه ليس إذا جازت صلاته لنفسه، أو جازت بمن هو في عذره، يجب أن تجوز بمن هو أكملُ منه؛ بدليل: الأمي، والمستحاضة، والمومئ، تصح في حقهم، ولا تصح في حق غيرهم ممن ليس مثلهم، وكذلك المرأة تصح صلاتها في حقها، ولا تصح بالرجال، وأما الأصل، فالمعنى فيه: أنه يأتي بالصلاة على كمال أركانها، فجاز أن تصح إمامته، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لا يأتي بأركانها المقصودة، فهو كالأمي، والمربوط، والمستحاضة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: العيدين، باب: صفة من تجوز الصلاة معه، رقم (1761)، وقال بعدها: (ليس فيها شيء يثبت)، قال ابن الملقن: (فالحاصل: أن هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت). البدر المنير (4/ 465)، وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 473). (¬2) مضى تخريجه (1/ 469).

واحتج: بأن الإيماء قائم مقام الركوع والسجود، وبدل عنه، فإذا صح الاقتداء به في الركوع والسجود، صح فيما قام مقامه؛ كالمتيمم يؤم المتوضئين؛ لأن التيمم يقوم مقام الوضوء. والجواب: أنا لا نسلِّم أن الإيماء قائم مقام الركوع والسجود، ولا بدلٌ عنه، وإنما هو بعضُه من الوجه الذي ذكرنا، وهو: أنه من الإيماء يصير إلى الركوع، وليس كذلك التيمم؛ لأنه بدلٌ عن الوضوء، فصار كالغاسل يقتدي بالماسح على الخفين. فإن قيل: فإذا كان بعض الشيء يقوم مقام الشيء، فبعض الشيء أولى. قيل له: ولم قلت هذا، وقد وجدنا في الأصول بعض الشيء لا يقوم مقام جميعه، وبدله يقوم مقامه، ألا ترى أن كسوة خمسة (¬1) مساكين لا تقوم مقام كسوة عشرة مساكين، وصوم ثلاثة أيام يقوم مقام كسوة العشرة أو إطعامهم؛ لأنه بدل عن الإطعام أو الكسوة؟ كذلك الإيماء إذا كان بعض الركوع لا يجب أن يقوم مقام الركوع. فإن قيل: أليس قد قام مقام الركوع والسجود في صحة صلاة المومئ، فلِمَ لا يقوم مقامها في صحة صلاة المأموم خلفه؟ قيل له: لا نقول: إن الإيماء قام مقام الركوع والسجود في صحة صلاة المومئ، وإنما نقول: إن صلاة المومئ صحيحة بغير ركوع ¬

_ (¬1) في الأصل: خمس.

وسجود، كما نقول: إن صلاة الأمّي صحيحة بغير قراءة، ولا يجب - من حيث قلنا: إن صلاة المومئ صحيحة - أن نقول: صلاة المأموم إذا كان يركع ويسجد صحيحة، كما لم يجب من حيث قلنا: إن صلاة القارئ خلفه صحيحة، وكذلك صلاة المرأة صحيحة، ولا يجب أن يكون صلاة الرجل خلفها صحيحة. فإن قيل: فالدليل على أن الإيماء يقوم مقام الركوع: أنه يقوم مقامه في محل الذكر الذي فيه، فيقول: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى، والمدرك للإيماء في موضع الركوع مدرك للركعة، ومن فاته الإيماء، فاتته الركعة، ولأنه لو كان جزءًا من الأصل، وإنما سقط عنه ما عجز عنه، لوجب أن يكون الإيماء بالركوع والسجود سواء (¬1)؛ لأنه يجب لكل واحد منهما أن يأتي بما يقدر عليه إلى أن يستوفيه، ولما أجمعنا على أنه يجعل السجود أخفض من الركوع، دل على أن الأدنى أقيم مقام السجود، والأعلى أقيم مقام الركوع. قيل له: إنما قام مقامه في محل الذكر، وفي إدراك الركعة بإدراك الإيماء، وفي أنه يختلف مقدار الإيماء؛ للمعنى الذي ذكرنا، وهو أنه بعض الركوع، فلهذا كان محل حكمه في محل الذكر، والإدراك، ونحوه، وهذا هو الدليل على أنه بعضٌ منه؛ لأنه وافقه في أحكامه، ولو كان بدلًا عنه، لخالفه في بعضها؛ كما خالف التيمم الماء. فإن قيل: فإذا قام مقامه في هذه الأحكام، يجب أن يقوم مقامه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

95 - مسألة: إذا صلى ركعة بإيماء، ثم صح، بنى على ما مضى

في صحة الاقتداء. قيل له: ولم كان ذلك، وبعضُ الفاتحة يقوم مقام جميعها في إسقاط الفرض، وغيره من الأحكام، ولا يقوم مقام جميعها في الاقتداء؟ وجواب آخر: عن أصل الدليل، وهو: أن الطهارة لا يقع فيها الاشتراك حتى يعتبر فيها المساواة، والأركان يعتبر فيها الاشتراك، ألا ترى أنه لو انفرد المأموم بالركوع قبل إمامه، لم يجز؛ لعدم متابعته له؟ فإن قيل: هلا قلتم: يجوز لإمام الحي أن يؤتم به، كما جاز إذا كان عاجزًا عن القيام. قيل: القياس يقتضي في العاجز عن القيام أن لا يؤم، لكن تركناه؛ للخبر، ولا خبر في المومئ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 95 - مَسْألَة: إذا صلى ركعة بإيماء، ثم صح، بنى على ما مضى: وقد قال في رواية صالح (¬1)، والفضل بن زياد (2)، وأبي الحارث (¬2): ¬

_ (¬1) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، وينظر في المسألة: مسائل عبد الله رقم (496)، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 191)، والمستوعب (2/ 383)، والمغني (2/ 577)، والمحرر (1/ 208)، ومختصر ابن تميم (2/ 339)، والفروع (3/ 78)، والمبدع (2/ 101)، والإنصاف (5/ 15). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: حاشية رقم (1).

في مريض صلى قاعدًا، ثم صار خِفًّا في بعض صلاته: يصير إلى ما يقدر عليه، وقد أجزأه ما مضى من صلاته؛ فقد نص على البناء في المصلي جالسًا، وحكمُ المومئ حكمُ الجالس عنده؛ لأن العجز عن القيام يمنع الإمام عنده، كالعجز عن الركوع والسجود، وبه قال الشافعي - رحمه الله - (¬1). وقال أبو حنيفة - رحمه الله - في الرواية المشهورة: [يستقبل] (¬2) الصلاة. دليلنا: أن كل حالة يجوز للمريض أن يصلي فيها، فإنه إذا صح، جاز له البناء عليها؛ قياسًا على المريض إذا صلى قاعدًا، ثم قدر على القيام: أنه يقوم ويبني، وإن شئت قلت له: أن يبتدئ عقيب زوال عذره، فجاز له البناء، وكذلك العريان إذا وجد السترة، وكانت بعيدة منه، لا يصح منه الابتداء بالصلاة، فلهذا لم يصح البناء. ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر المزني ص 36، والبيان (2/ 447)، وإلى هذا ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 76)، والإشراف (1/ 294). (¬2) ساقطة من الأصل، والزيادة من رؤوس المسائل لأبي يعلى، لوح 18، وبها يستقيم الكلام. تنبيه: لأبي حنيفة - رحمه الله - في هذه المسألة قولان: الأول: أنه يبني على صلاته - وهو الأشهر عنه -، وهو قول أبي يوسف. والثاني: أنه يستقبل الصلاة، وإليه ذهب محمد بن الحسن. ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 271)، ومختصر القدوري ص 94، وتحفة الفقهاء (1/ 310)، والهداية (1/ 77).

فإن قيل: اقتداء القائم بالقاعد جائز، كذلك إذا قدر القاعد على القيام، جاز أن يبني، وليس كذلك من يركع ويسجد؛ لأنه ليس له أن يبتدئ بالمومئ، وإذا قدر على الركوع والسجود، لم يجز له أن يبني. قيل له: علة لا نسلِّمها (¬1)؛ لأن عندنا: اقتداءُ القائم بالقاعد لا يجوز من الوجه الذي ذكرنا، وأما علةُ الفرع، فلا يمتنع أن يصح الاقتداء به في هذه الحال، ويصح البناء؛ بدليل: أن نفسين لو اختلفا في جهة القبلة، لم يجز لأحدهما أن يتبع صاحبه، ثم لو اختلف اجتهاد أحدهما إلى غير الجهة، جاز له أن يستدبر، ويبني فعل بعضه على بعض، وإن لم يجز لغيره البناء، وكذلك لو أحدث في أثناء الصلاة، جاز أن يتوضأ، ويبني على تحريمته، ولا يجوز للمأموم أن يبني عندك على تلك التحريمة، ولأن حالة الإمامة حالُ كمال، فجاز أن لا يبني المأموم صلاته على صلاة ناقصة، وليس كذلك في حق نفسه؛ لأنه لا يعتبر هذا المعنى، ألا ترى أن المرأة تصح صلاتها في حقها، وإن لم تصح إمامتها بالرجال؟ وكذلك العبد تصح صلاته في الجمعة مأمومًا، وإن لم تصح إمامته في الجمعة، كذلك ها هنا. فإن قيل: القاعد على هيئة من هيئات الصلاة، فإذا قدر على القيام، فقام، فقد انتقل من هيئة إلى هيئة، فلم تبطل صلاته، وليس المومئ على هيئة من هيئات الصلاة، فإذا قدر على ما هو هيئة، بطلت صلاته. ¬

_ (¬1) في الأصل: يسلمها.

قيل: القعود (¬1) ليس بهيئة في صلاة الفرض، وإنما هو هيئة في صلاة النفل، والإيماء هيئة في النفل أيضًا؛ لأنه يصلي راكبًا ويومئ. فإن قيل: القعود هيئة في التشهد. قيل: هو هيئة في غير محل القيام، وكلامنا فيه إذا أتى به في محل القيام، وأيضًا: زوالُ العذر إذا لم يورث زمنًا طويلًا في الصلاة، لم يمنع البناء عليها؛ قياسًا على القاعد إذا قدر على القيام، والأَمَة إذا أُعتقت في الصلاة: أنها تأخذ القناع، وتبني، وفيه احتراز من المستحاضة إذا برأت، وإذا وجد العريان ما يستر به عورته، وكان بعيدًا؛ لأن ذلك يورث عملًا طويلًا. فإن قيل: الأَمَة إذا أُعتقت وهي في الصلاة، فإنما جاز لها أن تبني؛ لأنه قد كان لها أن تبتدئ بالصلاة بغير قناع مع القدرة على السترة، فإذا أعتقت، لزمها فرضٌ في الحال، فجاز لها أن تبني، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن فرض الركوع والسجود لازم له في الأصل، وإنما يجوز له تركه؛ للعجز عنه، فإذا قدر عليه، لم يجز له أن يبني. قيل له: فالقيام لازم له في الأصل، وإنما يجوز تركه للعجز عنه، ثم إذا قدر عليه، جاز له البناء، وعلى أن الأمة إنما جاز لها أن تبتدئ الصلاة بغير قناع مع القدرة على السترة؛ لأن الستر غير لازم لها، والعاجز عن الركوع والسجود غير لازم له في حال عجزه، فلا فرق بينهما، ولأنه ¬

_ (¬1) في الأصل: العقود.

لو كان قائمًا، فعجز عنه، كان له أن يجلس، وهو انتقال من كمال إلى ما هو دونه، فإذا عجز عن الركوع والسجود، ثم قدر، أولى أن يبني؛ لأنه انتقال إلى كمال. واحتج المخالف: بأن من يركع ويسجد لا يقتدي بمن يومئ، لا يبني صلاة بركوع وسجود على تحريمة المومئ، كذلك إذا افتتحها بايماء، ثم قدر على الركوع والسجود، لم يجز له أن يبني؛ لهذه العلة. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه لا يمتنع أن لا يصح الاقتداء به في هذه الحال، ويصح البناء من الوجه الذي ذكرنا. واحتج: بأن الركوع فرض لا يجوز تركه إلا حالَ العجز عنه، ألا ترى أنه إذا كان قادرًا عليه، لم يجز له تركه، وإذا تركه للعجز، ثم قدر عليه، لم يجز له أن يبني، ولزمه أن يستقبل، كالمستحاضة إذا برأت في الصلاة. والجواب: أنه يبطل بالقاعد إذا قدر على القيام؛ لأن القيام لا يجوز تركُه في غير حال العجز في صلاة الفرض بحال، وإنما يجوز في صلاة النافلة، والركوع والسجود مثلُه لا يجوز تركُه في صلاة الفرض (¬1)، ويجوز تركُه في النافلة إذا صلى على الراحلة، فلا فرق بينهما، وأما المستحاضة إذا انقطع دمها، فذكر شيخنا أبو عبد الله (¬2) فيها وجهين؛ بناءً على المتيمم ¬

_ (¬1) كررت في الأصل مرتين. (¬2) هو: ابن حامد - رحمه الله -. ينظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 495)، =

96 - مسألة: العاري إذا وجد في صلاته ما يستر به عورته، وكان قريبا، ستر عورته، وبنى على صلاته

إذا رأى الماء في الصلاة، هل تبطل صلاته، أم لا؟ على روايتين، كذلك المستحاضة على وجهين: أحدهما: لا تبطل، وهو ظاهر كلام أحمد - رحمه الله - في رواية ابن القاسم (¬1)، وقيل له: هؤلاء يقولون: إذا توضأت، ثم انقطع الدم، فقال: لست أنظر إلى انقطاعه (¬2) حين توضأت، سال أو لم يَسِلْ، إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة، فتصلي بذلك الوضوء النفل، والصلاة الفائتة، حتى يدخل وقت صلاة أخرى. فظاهر هذا: أنه لم يمنع من البناء. والوجه الثاني (¬3): تبتدئ؛ لأن زوال عذرها يورث عملًا طويلًا، وليس كذلك المومئ؛ فإنه يبني من غير عمل طويل، فبان الفرق بينهما، والله أعلم. * * * 96 - مَسْألَة: العاري إذا وجد في صلاته ما يستر به عورته، وكان قريبًا، ستر عورته، وبنى على صلاته: ¬

_ = وشرح الزركشي (1/ 439). (¬1) ينظر: المغني (1/ 424)، والشرح الكبير (2/ 462)، وشرح العمدة لابن تيمية (1/ 497). (¬2) في الأصل: انقاطه. (¬3) ينظر: مختصر ابن تميم (1/ 430)، وشرح الزركشي (1/ 439).

وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية بكر بن محمد عن أبيه (¬1) - في الوليدة تعتق وهي تصلي -: تقنَّع، وتتمُّ ما بقي من صلاتها، ولا تعيد الصلاة، قيل له: يدخل على هذا المتيمم يرى الماء وهو في الصلاة؟ قال: ليس بمنزلته. وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬2). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تفسد صلاته (¬3). دليلنا: أن زوال (¬4) [العذر] (¬5) إذا لم يورث زمنًا طويلًا، لم تبطل الصلاة؛ قياسًا على القاعد إذا قدر على القيام، ولأن وجوب ستر العورة في الصلاة لا يبطل الصلاة، قياسًا على الأَمَة إذا دخلت في الصلاة مكشوفة الرأس، ثم عتقت فيها، فإنها تأخذ القناع، وتبني على صلاتها، وافق أبو حنيفة ها هنا، تبين صحة هذا: أن العريان افتتح الصلاة مكشوفَ ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر في المسألة: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 191)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 287)، والهداية ص 77، والمستوعب (2/ 85)، والمغني (2/ 334)، ومختصر ابن تميم (2/ 79)، والإنصاف (3/ 240). (¬2) ينظر: المهذب (1/ 222)، والبيان (2/ 128). وللمالكية قولان. ينظر: الكافي ص 64، والقوانين الفقهية ص 47، ومواهب الجليل (2/ 194). (¬3) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 357)، وحاشية ابن عابدين (4/ 31). (¬4) في الأصل إشارة بحرف (ط) الدال على سقط. (¬5) ساقطة من الأصل، ومستدرك من رؤوس المسائل للعكبري (1/ 288).

العورة للضرورة، والأَمَة افتتحت الصلاة مكشوفة لغير ضرورة، فإذا جاز للأمة أن تبني على صلاتها، فلأن يجوز للعريان أولى، ولأن القادر على الستر حالَ افتتاح الصلاة أولى بالتفريط، وأقربُ إليه من العاجز عنه، والأَمَة كانت قادرة عليه في حال افتتاح الصلاة، ولا يمنعها ذلك من البناء، فأولى أن لا يمنع ها هنا. واحتج المخالف: بأن المكتسي لا يقتدي بالعاري. لا تُبنى صلاة المكتسي على تحريمة العاري، كذلك إذا افتتحها عاريًا، ثم قدر على الستر، لا يبني؛ لهذه العلة. والجواب: أنا لا نعرف الرواية في إمامة العاري بالمكتسي، ولكن قياس المذهب: أنه لا يجوز؛ لأنه يصلي عندنا جالسًا، وإمامة الجالس بالقادر لا تجوز على الصفة التي ذكرنا، ولكن ليس يمتنع أن يصح الاقتداء به في هذه الحال، ويصح البناء من الوجه الذي ذكرنا. واحتج أيضًا: بأن ستر العورة فرض لا يجوز تركه إلا في حال العجز عنه، فإذا تركه للعجز عنه، ثم قدر عليه، لم يجز له أن يبني؛ كالمستحاضة إذا برأت في الصلاة. والجواب عنه: ما تقدم في المسألة التي قبلها، فلا وجه لإعادته، والله أعلم. * * *

97 - مسألة: من يقدر على القيام، ولا يقدر على الركوع والسجود، فإنه يصلي قائما، ويومئ إيماء بالركوع، وفي السجود يجلس فيومئ

97 - مَسْألَة: من يقدر على القيام، ولا يقدر على الركوع والسجود، فإنه يصلي قائمًا، ويومئ إيماءً بالركوع، وفي السجود يجلس فيومئ: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله (¬1)، وإسحاق بن إبراهيم (¬2)، وأبي طالب (¬3): في المريض يصلي قاعدًا إذا كان القيام يوهنه ويضعفه. فأسقط القيام عند العجز عنه، وظاهر هذا: أنه متى لم يكن عاجزًا لم يسقط عنه، لعجزه عن الركوع والسجود، وهو قول مالك (¬4)، والشافعي - رضي الله عنهما - (¬5). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يصلي قاعدًا يومئ إيماءً، فإن صلى قائمًا، أجزأه (¬6). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (497)، وينظر: الإنصاف (5/ 7). (¬2) في مسائله رقم (366 و 368). (¬3) لم أقف على روايته، وقد نقل نحوها الكوسج في مسائله رقم (318)، وينظر: المغني (2/ 570)، ومختصر ابن تميم (2/ 336)، والفروع (3/ 67)، والنكت على المحرر (1/ 205). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 76)، والإشراف (1/ 294). (¬5) ينظر: المهذب (1/ 327)، ونهاية المطلب (2/ 214). (¬6) ينظر: مختصر القدوري ص 93، والهداية (1/ 77).

دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع، فقاعدًا، فإن لم تستطع، فعلى جنب تومئ" (¬1)، وهذا مستطيع للقيام، فيجب أن يلزمه، ولأنه مستطيع للقيام في الصلاة المفروضة من غرِ مشقة، ولا متابعة، ولا كشف عورة، فلم يجز له تركُه؛ قياسًا على المستطيع للركوع والسجود، ولا يلزم عليه المريض؛ لقولنا: من غير مشقة، ولا صلاة النافلة؛ لقولنا: فريضة، ولا صلاة المأموم إذا صلى إمامه جالسًا؛ لقولنا: ولا متابعة، ولا العريان؛ لقولنا: ولا كشف عورة، وإن شئت قلت: مستطيع للقيام أشبهَ القادرَ على الركوع، ولا يلزم العريان، والمؤتمَ بالجالس؛ فإنه يستوي فيه الفرع والأصل، ولأن القيام ركن من أركان الصلاة، فلم يسقط بعجزه عن الركوع والسجود؛ قياسًا على القراءة وغيرها من الأركان. واحتج المخالف: بأن فرض القيام لم يثبت في الأصول إلا مع الركوع والسجود، فإذا سقط، سقط القيام؛ بدلالة: الراكب لما سقط عنه الركوع، سقط عنه القيام، ولأن الركوع آكدُ من القيام؛ بدليل: أنه يجب في موضع يسقط فيه القيام؛ كالتطوع، ثم اتفقنا على أن فرض الركوع ها هنا ساقط، ففرض القيام أولى. والجواب: أن صلاة الجنازة يسقط فيها الركوع، ولم يسقط فيها القيام، وعلى أن القيام لم يسقط في النافلة لسقوط الركوع، ألا ترى أنه ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 171)، دون ذكر الإيماء.

98 - مسألة: إذا عجز المريض عن الإيماء برأسه، أومأ بعينيه وحاجبيه أو قلبه، ولا يسقط عنه فرض الصلاة

قبل أن يركب الراحلة إذا صلى على الأرض، لا يجب عليه أن يقوم فيها، ويجوز أن يصلي قاعدًا؟ ولأنه لو كان الفرض إذا لم يجب فيه الركوع، لا يجب فيه القيام؛ اعتبارًا بالنافلة على الراحلة، لوجب أن لا يجب السجود؛ اعتبارًا بها، فلما وجب السجود، وخالف النوافل على الراحلة، ولأن المعنى المسقِطَ للركوع في صلاة النافلة على الراحلة موجود في القيام، وهو: تعذر القيام على الراحلة؛ كتعذر الركوع والسجود، وليس كذلك؛ لأن العجز يختص الركوع، ولا يتعداه إلى القيام، فيجب أن لا يسقط غيره. وقد روى مهنا (¬1) عن أحمد - رحمه الله - فيمن طعن دبره، ومتى سجد، خرجت منه الريح؟ قال: يسجد ولا يومئ. فقد أوجب السجود، ولم يسقطه لأجل الطهارة؛ لأنه حدث مستديم، فلا يسقط معه السجود؛ كالمستحاضة. * * * 98 - مَسْألَة: إذا عجز المريض عن الإيماء برأسه، أومأ بعينيه وحاجبيه أو قلبه، ولا يسقط عنه فرض الصلاة: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله (¬2): في مريض غلب ¬

_ (¬1) ينظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/ 304)، والإنصاف (3/ 241)، بدون ذكر لمهنا - رحمه الله -. (¬2) في مسائله رقم (242)، وينظر في المسألة: مسائل الكوسج رقم (419 =

على عقله؟ يعيد إذا أطاق الصلاة على قدر طاقته. وإذا ثبت من مذهبه أنه لا يسقط الفرض مع الإغماء، فأولى أن لا يسقط مع زواله. وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬1). وقال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬2): إذا عجز عن الإيماء برأسه، سقط عنه فرض الصلاة، ولم يجب عليه الإيماء بعينيه وحاجبيه. دليلنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: "صل قائمًا، فإن لم تستطع، فقاعدًا، فإن لم تستطع، فعلى جنب تومئ إيماء" (¬3)، ولم يفرق. وروى الساجي في كتابه اختلاف الفقهاء بإسناده عن جعفر بن محمد (¬4) عن أبيه (¬5)، عن علي بن الحسين (¬6) بن علي بن أبي طالب، [عن ¬

_ = و 499)، والجامع الصغير ص 52، والمحرر (1/ 206)، والفروع (3/ 70)، والإنصاف (5/ 14)، ومنتهى الإرادات (1/ 85). (¬1) ينظر: المهذب (1/ 328)، والبيان (2/ 446). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: الذخيرة (2/ 7)، والفواكه الدواني (1/ 377). (¬2) ينظر: مختصر القدوري ص 91 و 93، والهداية (1/ 77). (¬3) مضى تخريجه في (1/ 171)، دون ذكر الإيماء، فإني لم أقف عليه. (¬4) ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله، المعروف بـ (الصادق)، قال ابن حجر: (صدوق فقيه إمام)، توفي سنة 148 هـ. التقريب ص 119. (¬5) هو: محمد بن علي بن الحسين، مضت ترجمته. (¬6) المشهور بـ (زين العابدين)، قال ابن حجر: (ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور)، توفي سنة 93 هـ. ينظر: التقريب ص 440.

الحسين بن علي، عن علي] (¬1) - رضي الله عنهم وأرضاهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع، صلى جالسًا، فإن لم يستطع السجود، أومأ، وجعل السجودَ أخفضَ من الركوع، فإن لم يستطع، صلَّى على جنبه الأيمن مستقبلًا (¬2) القبلة، فإن لم يستطع، صلى على قفاه مستلقيًا، وجعل رجليه مستقبل القبلة، وأومأ بطرفه" (¬3)، وهذا نص. والقياس: أنه مرض لم يزل عقله، فوجب أن لا يسقط عنه فرض الصلاة، أصله: إذا كان قادرًا على الإيماء برأسه، وفيه احتراز من الجنون؛ لأن هناك زال عقله، ولأنه قادر على الصلاة بإيماء، فلزمه، دليله: إذا كان قادرًا على الإيماء برأسه، ولا يلزم عليه الإيماء بيديه أنه لا يمتنع أن يلزمه ذلك، وقد قال أحمد - رحمه الله - (¬4): يصلي مضطجعًا، ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والمثبت من سند الحديث كما رواه الدارقطني في سننه. (¬2) في الأصل: مستقبلة. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الوتر، باب: صلاة المريض ومن رعف في صلاته، رقم (1706)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما روي في كيفية الصلاة على الجنب أو الاستلقاء، وفيه نظر، رقم (3678)، قال الذهبي في الميزان (1/ 485): (حديث منكر)، وينظر: تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/ 121)، ونبّه ابنُ حجر إلى أن ذكر الإيماء لا وجود له في هذا الحديث الضعيف. ينظر: التلخيص (2/ 640)، قال ابن مفلح في الفروع (3/ 70): (ليس فيه "وأومأ بطرفه"، وإسناده ضعيف). (¬4) ينظر: الفروع (3/ 70)، والمبدع (2/ 101).

99 - مسألة: إذا كان بعينيه مرض، فقال الأطباء: إن صليت مستلقيا، زال، جاز له الاستلقاء

ويومئ إيماء، ولا يسجد على مِرفَقَة (¬1)، وعلى شيء يرفعه. فأوجب الإيماء على الإطلاق، ولم يخصه ببعض الأعضاء. واحتج المخالف: بأنه عاجز عن الإيماء برأسه، فلا ينتقل إلى الإيماء إلى غيره، كما لا ينتقل إلى يديه. والجواب: أنا قد بينا أنه لا يمتنع أنه يجب عليه ذلك، وعلى أن الطرْف من موضع (¬2) الإيماء، واليدان لا مدخل لهما في الإيماء بحال، فافترقا، والله أعلم. * * * 99 - مَسْألَة: إذا كان بعينيه مرض، فقال الأطباء: إن صليت مستلقيًا، زال، جاز له الاستلقاء (¬3): وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي جعفر أحمد بن الحسين ¬

_ (¬1) في الأصل: مروحه، ولعلها مصحّفة من لفظة: (مِرْفقة)، كما في كتاب الروايتين للمؤلف (1/ 180)، والمرفقة هي: كالوسادة، وأصله: من المرفق، كأنه استعمل مرفقه واتكأ عليه. ينظر: النهاية في غريب الحديث، ولسان العرب (رفق). (¬2) لعلها: مواضع. (¬3) ينظر: المغني (2/ 574)، والمحرر (1/ 208)، ومختصر ابن تميم (2/ 341)، والنكت على المحرر (1/ 209)، والإنصاف (5/ 17 و 18).

- ابن أخي حميد بن غلام -: [فيمن] (¬1) أصابه الفالج (¬2)، فوقع إحدى شقيه، وهو يعالج، وقد أدركه رمضان، وهو مستطيع الصوم، غير أن المعالِج ذكر أن الصوم مما يمكِّن العلة، ولا بد أن يسقيه دواء، فقال: يفطر ويطعم، فقد أجاز له الفطر بقول الطبيب (¬3). وقال الشافعي - رحمه الله -: لا يجوز أن يصلي مستلقيًا (¬4). دليلنا: أن القيام فرض من فروض الصلاة، فجاز تركه لخوف الضرر؛ كاستقبال القبلة، ولأن الصائم إذا خاف الضرر بالصوم، وكان يرجو الصحة بالفطر، جاز له الفطر لأجل الضرر، فإذا جاز ترك الصوم ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، ويقتضيها الكلام. (¬2) هو: داء معروف يرخي بعض البدن. ينظر: لسان العرب (فلج). (¬3) لم أقف على روايته، وينظر: الهداية ص 103، والفروع (3/ 79)، والمبدع (2/ 103)، ومنتهى الإرادات (1/ 86)، وكشاف القناع (3/ 256). وإلى هذا ذهبت الحنفية. ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 304)، والتجريد (2/ 636). (¬4) لم أجد للشافعي - رحمه الله - فيها نصًا، ولأصحابه وجهان، جمهورهم على الجواز. ينظر: نهاية المطلب (2/ 221)، والبيان (2/ 445)، والمهذب (1/ 328)، والمجموع (4/ 144). وذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى كراهة ذلك، وإعادة الصلاة. ينظر: المدونة (1/ 78)، والتاج والإكليل المطبوع مع المواهب (2/ 272)، وذهب بعض أصحابه إلى الجواز. ينظر: القوانين الفقهية ص 50، ومواهب الجليل (2/ 272).

لخوف الضرر، فترك قيامه (¬1) أولى. ولا يجوز أن يقال: إنه ينتقل إلى بدل كامل، وفي الصلاة إلى بدل ناقص؛ لأنه لا فرق بينهما، ألا ترى أن فعل الصوم في غير رمضان أنقصُ منه في رمضان؟ ولهذا يتعلق بالوطء في إحداهما الكفارة دون الأخرى (¬2). واحتج المخالف: بما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه لما كُفّ بصرُه، أتاه رجل فقال: إن صبرت سبعة أيام لم تصلِّ إلا مستلقيًا، رجوتُ أن تبرأ، فأرسل إلى أبي هريرة، وغيره من أصحاب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنهم، فكلهم قالوا: إن مت في هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة؟ فترك معالجة عينه (¬3). والجواب: أن ابن عباس إنما كان يرجو بحدوث العلاج عودَ بصره، فكرهوا له التعرض بما يحتاج إلى ترك القيام، والخلاف في ¬

_ (¬1) في الأصل: صيامه. (¬2) كذا في الأصل. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6343)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 383)، والحاكم في مستدركه، في كتاب: معرفة الصحابة، ذكر وفاة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، رقم (6319)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من وقع في عينيه الماء، رقم (3685)، وجوّد إسناد الحاكم ابنُ الملقن في البدر المنير (4/ 84)، وينظر: المجموع (4/ 145)، والتلخيص (2/ 645).

100 - مسألة: إذا صلى في سفينة سائرة صلاة الفرض قاعدا، وهو قادر على القيام، لم تجزئه صلاته

غير هذا الموضع، وهو: إذا فعل الذي يحتاج معه إلى ذلك يجوز ترك القيام، أم لا؟ وهذا لم ينقل عنه. ومحصول الجواب: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان قد ذهب بصره، فلا يرجى عودُه، فلا يجوز له تركُ القيام لأجله، وخلافنا فيمن لم يذهب بصره، لكنه كان يرجو عودَه بترك القيام. واحتج: بأنه يتمكن من القيام في صلاة الفرض، فوجب أن لا يجوز تركه لمن ليس بعينه رمد. والجواب: أنا لا نسلم أنه متمكن من القيام إذا لحقه به ضرر، واعتباره بمن لا رمد بعينه ليس بصحيح؛ لأن من لا ضرر به، لا يجوز له ترك الصوم، فلذلك لم يترك القيام، ولما جاز في مسألتنا ترك الصوم، كذلك ترك القيام، والله أعلم. * * * 100 - مَسْألَة: إذا صلى في سفينة سائرةٍ (¬1) صلاةَ الفرض قاعدًا، وهو قادر على القيام، لم تجزئه صلاته: نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية جعفر (¬2): في رجل صلى ¬

_ (¬1) في الأصل: سائر، والتصويب من رؤوس المسائل لأبي يعلى، لوح رقم (18)، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 192). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: الفروع (2/ 115)، والمبدع (2/ 103)، والإنصاف =

في السفينة قاعدًا، فعليه الإعادة، وقال في رواية أبي داود (¬1): أَحَبُّ إليّ أن يعيد. وقال مالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وأبو حنيفة (¬4) - رضي الله عنهم -: تجزئه صلاته، إلا أن تكون واقفة، فيجب عليه القيام، فإن صلى جالسًا، يعيد عنده. دليلنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: "فإن لم تستطع، فقاعدًا" (¬5)، وهذا عام في السفينة وغيرها. وروى أبو بكر من أصحابنا في كتابه بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يصلوا في السفينة قيامًا، إلا أن يخافوا الغرق (¬6). ¬

_ = (5/ 19)، وللفائدة ينظر: مسائل صالح رقم (1026)، ومسائل عبد الله رقم (311)، ومسائل الكوسج رقم (375)، ومسائل ابن هانئ رقم (412) والإرشاد ص 88، وبدائع الفوائد (4/ 1491). (¬1) في مسائله رقم (532). (¬2) كأن سياق المؤلف يوحي بأن الإمام مالكًا، والإمام الشافعي - رحمهما الله - موافقان لمذهب أبي حنيفة - رحمه الله -، وهذا محل نظر، فنصوصهما موافقة لقول الحنابلة. ينظر: المدونة (1/ 123)، ومواهب الجليل (3/ 480). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 381)، والبيان (2/ 440). (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 34، والمبسوط (2/ 3). (¬5) مضى تخريجه في (1/ 171). (¬6) أخرجه الدارقطني في سننه، باب: الصلاة في السفينة، رقم (1472)، وقالى: (حسين بن علوان متروك)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الصلاة، =

وروى الساجي، والدارقطني (¬1) عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -: أنهما قالا: لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى الحبشة، فقال: يا رسول الله! كيف أصلي في السفينة؟ قال: "صلِّ قائمًا، إلا أن تخاف الغرق" (¬2). وهذا نص. فإن قيل: يحمل هذا في حال وقوفها. قيل: لا يصح؛ لأنه أمره بالقيام إلا أن يخاف الغرق، وإنما يخاف الغرق في حال السير، فأما في حال وقوفها، فلا، والقياس: أنه مستطيع للقيام من غير مشقة، ولا متابعة، ولا كشف عورة في صلاة مفروضة، فلا يجوز له تركه، أصله: إذا لم يكن في السفينة، وفيه احتراز من المريض، وإذا خاف الغرق، ومن المأموم إذا صلى إمامه جالسًا، ومن العريان، وإن شئت قلت: مستطيع للقيام من غير مشقة، فلزمه، كما لو لم يكن فيها، ولا يلزم عليه العريان، والمؤتم بالقاعد؛ لأنه يستوي ¬

_ = باب: التأمين، رقم (1019)، وقال: (شاذ بمرة)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: القيام في الفريضة، وإن كان في السفينة مع القدرة، رقم (5489 و 5491)، وينظر: علل الدارقطني (13/ 475)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 117). (¬1) في سننه، باب: الصلاة في السفينة، رقم (1473 و 1474)، وأشار لضعفه. (¬2) وفي إسناده مقال. ينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 117).

فيه الأصل والفرع، وكل من لزمه فرض القيام في غير السفينة لزمه في السفينة؛ كما لو كانت (¬1) مربوطة، ولأنه فعل من أفعال الصلاة، فوجب أن لا يسقط بفعل الصلاة في سفينة سائرة؛ دليله: أفعال الصلاة. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" (¬2)، فأثبتها صلاة، ولم يفرق. والجواب: أن هذا محمول على صلاة النافلة؛ بدليل ما تقدم. واحتج: بما رُوي عن ابن سيرين (¬3) قال: خرجنا مع أنس بن مالك - رضي الله عنه - إلى يثق سيرين (¬4)، حتى إذا كنا بدجلة (¬5)، حضرت الصلاة، ¬

_ (¬1) في الأصل: طابت. (¬2) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب: صلاة القاعد، رقم (1115). (¬3) هو: أنس بن سيرين الأنصاري، أبو موسى البصري، أخو محمد، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 118 هـ. ينظر: التقريب ص 87. (¬4) كذا في الأصل، وفي شرح معاني الآثار (1/ 420): (شِقِّ سيرين). فالشق: اسم موضع. ينظر: النهاية، ولسان العرب (شقق)، وعند ابن أبي شيبة في مصنفه (إلى بني سيرين)، وعند الطبراني في الكبير (1/ 243): (بيثق سيرين)، وفي المحلى (5/ 8): (ببذق سيرين - وهي على رأس خمسة فراسخ -)، وذكر صاحب معجم البلدان (4/ 227): أن بفارس نهرًا يسمى: نهر سيرين، والسياق يرجح أنه اسم نهر. (¬5) في الأصل: ندخله، جاء في المعجم الكبير (1/ 243): (حتى إذا كنا بدجلة)، وفي المحلى (5/ 8): (وهي تجرى بنا في دجلة ... ).

فصلى بنا أنس قاعدًا على بساط السفينة، وإن السفينة لَتُجَرُّ جرًّا، ولو شئنا، لخرجنا إلى الجُدّ (¬1). وروى أبو يوسف عن حصين (¬2) بن عبد الرحمن (¬3)، عن مجاهد قال: كنا مع جُنادة (¬4) بن أبي أمية في البحر، فكنا نصلي قعودًا نتحرى ¬

_ (¬1) في الأصل: النجد، وهو خطأ، والجُدُّ: شاطئ النهر وضفّته. ينظر: غريب الحديث لابن قتيبة (2/ 618)، ولسان العرب (جدد). والأثر: أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (4546)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (6623)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 116)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 420)، والطبراني في الكبير (1/ 243) رقم الحديث (681)، وابن حزم في المحلى (5/ 8)، واحتج به مالك في المدونة (1/ 124)، وذكره ابن رجب في الفتح (2/ 245)، ولم يتكلم عليه، وإسناد عبد الرزاق صحيح، وكذا إسناد الطحاوي رجاله ثقات أثبات غير شيخه أبي بكرة بكار بن قتيبة، ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 152)، بل قال الذهبي في السير (12/ 599): (العلامة المحدث). (¬2) في الأصل: حصير. (¬3) السُّلَمي، أبو الهذيل الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة تغير حفظه في الآخر)، توفي سنة 136 هـ. ينظر: التقريب ص 153. (¬4) في الأصل: حبارة. وجنادة هو: ابن أبي أمية، أبو عبد الله الشامي، قال ابن حجر: (مختلف في صحبته ... ، والحق أنهما اثنان: صحابي، وتابعي، متفقان في الاسم وكنية الأب). ينظر: التقريب ص 121.

القبلة في السفينة (¬1) (¬2). والجواب: أنه يحتمل أن يكون خافوا الغرق، فصلوا جلوسًا، ونحن نجيز ذلك، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أحمد بن الحسين - رحمه الله - (¬3): يصلي في السفينة قائمًا إلا أن [لا] (¬4) يستطيع، أو لعل السفينة تكفأ. وأما حديث أنس - رضي الله عنه -، فظاهره يقتضي أنهم كانوا يأمنون ذلك؛ لأنه قال: كنا نجرُّها جرًا، ولكن يحتمل أن يكون صلى بهم صلاة النافلة. فإن قيل: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أن صلاة النافلة لا تصلى جماعة. ¬

_ (¬1) في الأصل: نتحرى القبلة في القبلة، والتصويب من مختصر اختلاف العلماء (1/ 354). (¬2) أخرجه بهذا السند الطحاوي في اختلاف العلماء، ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 354)، وأخرجه ابن أبي شيبة بإسناده في مصنفه رقم (6622)، قال البيهقي في المعرفة (4/ 281): (وفيه نظر)، وينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 246)، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه رقم (4555) عن مجاهد قال: كنا نصلي في السفينة قعودًا. (¬3) لم أقف عليها، ونقل نحوها: صالح في مسائله رقم (1026)، وعبد الله في مسائله رقم (311)، وأبو داود في مسائله رقم (533)، والكوسج في مسائله رقم (375). (¬4) ساقطة من الأصل، وبها يستقيم الكلام، وتوافق الروايات المنقولة عن الإمام أحمد - رحمه الله -.

والثاني: قال: (فلما حضرت الصلاة)، وهذا يقتضي الصلاة التي لها وقت، وهي صلاة الفرض. قيل: أما قولك: إن صلاة النافلة لا تصلى جماعة، فغير صحيح؛ لأن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وددت بأنك تأتيني فتصلي في بيتي مكانًا أتخذه مصلًّى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سأفعل"، فغدا عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بعد ما امتد النهار، فاستأذن عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: "أين تحب أن أصلي لك من بيتك؟ "، فأشرت إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكبر، وصففنا وراءه، فركع ركعتين، ثم سلَّم، وسلَّمنا حين سلَّم (¬1). وروى الدارقطني بإسناده (¬2) عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيته سُبْحَة (¬3) الضحى، فقاموا وراءه، فصلوا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت، رقم (425)، ومسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، رقم (33). (¬2) في سننه، باب: صلاة الضحى في جماعة، رقم (1853). (¬3) لفظ الدارقطني: (ساعة الضحى). (¬4) أشار إليه البخاري في صحيحه في أبواب التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر، بقوله: (قاله عتبان بن مالك: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (23773)، وابن خزيمة في صحيحه، أبواب التطوع، باب: صلاة الضحى في الجماعة، رقم (1231)، قال البغوي: (هذا حديث متفق =

وروى أبو بكر بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن جدته - رضي الله عنها - دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا فلنصلِّ بكم"، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ، فنضحته بماء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصففت أنا ويتيم من ورائه، والعجوز من ورائنا (¬1). وروى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه بات عند خالته ميمونة - رضي الله عنها -، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمتُ عن يساره، فأدارني عن يمينه (¬2). وأما قولهم: إن الخبر يقتضي صلاة لها [وقت] (¬3)، فلا يصح أيضًا؛ لأن من التطوع ما هو مؤقت، فإذا دخل وقتها، يقال: حضرت، ألا ترى أن صلاة الضحى لا تصلَّى إلا في الضحى، فإذا دخل وقتها، فقد حضرت صلاة الضحى. واحتج: بأن فرض القيام لم يثبت في الأصول إلا في حال الاستقرار، ألا ترى أن الراكب في الحال التي يجوز فيها الصلاة راكبًا، ليس عليه فيها فرض القيام؛ لأجل عدم الاستقرار؟ فلما جازت الصلاة ¬

_ = على صحته). ينظر: شرح السنة (4/ 136)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 235): (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح). (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على الحصير، رقم (380)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: جواز الجماعة في النافلة، والصلاة على حصير، رقم (658). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 502). (¬3) ساقطة من الأصل، يبينه ما مضى في (2/ 318).

في السفينة - وهي سائرة -، دل على أنه ليس فرض القيام إليها، وربما قالوا: كل صلاة جاز أداؤها في حال السير، فإن فرض القيام يسقط فيها في تلك الحال؛ دليله: الصلاة على الراحلة. والجواب: أنا لا نسلم أن القيام لم يثبت في الأصل إلا في حال الاستقرار، بل يثبت في حال القدرة من غير مشقة، ولا متابعة، ولا كشف عورة، والموضع الذي ذكروا من صلاة النافلة، فلم يسقط هناك القيام لعدم الاستقرار، لكن لعدم الفرض، ألا ترى أنه يسقط القيام فيها في حال الاستقرار؟ وها هنا هي صلاة مفروضة. واحتج: بأنه إذا قام في السفينة يدور رأسه، فيكون ذلك عذرًا في ترك القيام. والجواب: أن أبا حنيفة - رحمه الله - (¬1): لا يعتبر العذر، ولا دوران الرأس، وإنما نحن نعتبر العذر، فلم يصح ما قاله. واحتج: بأن القيام إنما يجب بالشرع، وقد أجمعنا على وجوبه في حال الاستقرار، واختلفنا على وجوبه في حال السير، وليس هناك شرع يوجبه، فلم يجز ادعاء وجوبه. والجواب: أن كل شرع ورد في وجوب القيام في الصلاة الفريضة، فهو عام في سائر الأحوال؛ من حال الاستقرار، وحال السير، فمن ادعى تخصيصه، فإنه يحتاج إلى إقامة دليل، ألا ترى أن وجوب القيام أُخِذَ ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 355).

101 - مسألة: لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر في أصح الروايتين

من قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -: "صل قائمًا، فإن لم تطق، فجالسًا" (¬1)، وهذا عام في سائر الأحوال، وعلى أنا قد دللنا على ذلك من وجوه الشرع بحديث جعفر بن محمد - رضي الله عنهما - (¬2)، وبالقياس، ثم نقابل هذا الاستصحاب بمثله، فنقول: أجمعنا على أن ذمته قد اشتغلت بفرض الصلاة، فإذا صلاها من قعود، فقد اختلفنا في براءة ذمته، فمن ادعى براءتها بعد اشتغالها وارتهانها، فعليه الدليل، والله أعلم. * * * 101 - مَسْألَة: لا يجوز اقتداء المفترِض بالمتنفِّل، ولا من يصلِّي الظهر بمن يصلِّي العصر في أصح الروايتين: نص عليها في رواية أبي الحارث (¬3): في إمام صلى بقوم، وهو ينوي النافلة، ومَنْ خلفَه يريد الفرض؟ لا تجزئهم صلاتهم، وإذا كان الإمام يصلي الظهر، وهو يريد العصر؟ يعيد الصلاة، ولا تجزئه. ونحو ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 171). (¬2) كذا في الأصل، ولعل المراد: جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فهو الذي استدل به المؤلف كما في (2/ 313، 314). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 171)، والانتصار (2/ 441)، والمغني (3/ 67)، والشرح الكبير (4/ 411)، والمبدع (2/ 80).

هذا نقل المروذي (¬1): إذا كان الإمام في صلاة التراويح، والمأموم في الفرض. وكذلك نقل حنبل (¬2)، ويوسف بن موسى (¬3)، وقال في رواية يوسف بن موسى - وقد ذكر له حديث معاذ - رضي الله عنه - (¬4) -، فقال: قد كنا نسهل فيه، وما يعجبنا، وهذا يدل على رجوعه عن القول بالجواز. وهو قول أبي حنيفة (¬5)، ومالك (¬6) - رحمهما الله -. وفيه رواية أخرى: يجوز، نص عليها في رواية إسماعيل بن سعيد (¬7): لا بأس أن يؤم الرجل القوم في صلاة قد صلاها، وإذا صلَّى ¬

_ (¬1) ينظر: تهذيب الأجوبة (2/ 894)، والروايتين (1/ 171)، والانتصار (2/ 441)، والمغني (3/ 69). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 171)، والانتصار (2/ 441)، والمغني (3/ 67)، والشرح الكبير (4/ 411)، والمبدع (2/ 80). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 171)، والانتصار (2/ 441)، ونقل إبراهيم الحربي عدم ذهاب الإمام أحمد - رحمه الله - للعمل بحديث معاذ - رضي الله عنه -. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 233)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 228). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إذا صلى، ثم أمَّ قومًا، رقم (711)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، رقم (465). (¬5) ينظر: مختصر القدوري ص 80، وتحفة الفقهاء (1/ 260). (¬6) ينظر: الإشراف (1/ 295)، والكافي ص 47. (¬7) ينظر: الروايتين (1/ 171)، والانتصار (2/ 441)، والمغني (3/ 68)، والشرح الكبير (4/ 411 و 413)، والمبدع (2/ 79)، وينظر: مسائل ابن هانئ رقم (302 و 316 و 363).

خلف إمام وهو ينوي العصر، والإمام ينوي الظهر، جاز، وقال: مما يقوي حديثَ معاذ: حديثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف، صلَّى بطائفتين ركعتين ركعتين (¬1)، ونحو ذلك نقل صالح (¬2)، قال: لا أعلم شيئًا يدفع حديثَ معاذ، وإن ذهب إليه ذاهب، لم أَعِبْه. وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬3). وجه الرواية الأولة: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬4)، والائتمام به: هو: أن يفعل ما يفعل الإمام، فإذا نوى المأموم فرضًا، والإمام نفلًا، فلم يفعل مثل ما فعل، فلا يكون مؤتمًا به. فإن قيل: أراد به: الائتمام في ظاهر أفعاله، ألا ترى أنه قال: "إذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا"؟ قيل له: ظاهره يقتضي الائتمام به في جميع أفعاله، وقوله: "إذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا" تخصيصُ بعضِ ما شمله العموم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري معلقًا في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، رقم (4136)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، رقم (843)، من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬2) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، وينظر: الروايتين (1/ 171)، والانتصار (2/ 441)، ونقل هذه الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - الكوسج في مسائله رقم (138)، وأبو داود في مسائله رقم (311). (¬3) ينظر: الأم (2/ 349)، والحاوي (2/ 316). (¬4) مضى تخريجه في (1/ 241).

وذلك لا يوجب تخصيصه. فإن قيل: كيف يلزم الائتمام به في النية، وهو لا يعلم بنيته؟ قيل له: المسألة [فيمن] قد علم أن إمامه متنفل، فنوى هو الفرض، واقتدى به، ويدل عليه أيضًا: قوله - عليه السلام -: "لا تختلفوا على إمامكم" (¬1)، وهذا قد اختلف عليه، فوجب أن لا يجزئه، والقياس: أن المصلي إذا افتتح النافلة، ثم ذكر أن عليه فريضة، لم يجز أن يبني عليها فريضة، كذلك إذا كان المأموم في فرض، والإمام في نفل، يجب أن لا يجوز الاقتداء به؛ لأنه يبني فرضًا على تحريمة النفل، وتبين صحة هذا على أصلنا: أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام، وتفسد بفسادها، فلم يصح هذا في حق الإمام، كذلك في حق المأموم، ولأن إمامه متنفل، فلم يصح أن يأتم به للفرض؛ دليله: إذا كان في صلاة الكسوف، واستسقاء، وكل من لم تصح صلاته بنية إمامه لم يصح الاقتداء به؛ دليله: إذا نوى صلاة الجمعة، فإنه لا يجوز أن يقتدي بمن يصلي الظهر؛ لأن نية الظهر لا يؤدى بها الجمعة، فإذا نوى الإمام الظهر، والمأموم الجمعة، لم يصح اقتداؤه، كذلك ها هنا, ولا يلزم عليه المتنفل إذا اقتدى بالمفترض؛ لأن نية الفرض تصح أن يؤدى بها النفل، ألا ترى أن من دخل في صلاة على أنها عليه، ثم تبين أنها ليست عليه، كان له أن يمضي فيها، وتكون له نافلة؟ وكذلك لو أحرم بصلاة الفرض منفردًا، ثم حضر جماعة، فقلبها نفلًا ليدخل في الجماعة، فإنها تكون نفلًا، وإن كان قد ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 470).

انعقد بنية الفرض (¬1)، وإذا كانت نية الإمام مما يصح أن يؤدى بها صلاة المأموم، صح اقتداؤه به، ولا يلزم عليه اقتداء المقيم بالمسافر أنه جائز على اختلاف الروايتين؛ لأن نية المسافر يجوز أن يؤدي بها صلاة المقيم، ألا ترى أنه لو دخل في صلاة مسافر، ثم نوى الإقامة، بنى عليها صلاة مقيم؟ ولو أن مسافرًا فاتته صلاة، فاقتدى فيها بمقيم، صح اقتداؤه به؛ لأن نية المقيم يجوز أن يُؤدي بها المسافر، ألا ترى أن المسافر لو صلى بنية التمام، صحت صلاته؟ ولا يلزم عليه إذا صلى الظهر خلف من يصلها قضاءً، فإن فيها روايتين: نقل ابن منصور - رحمه الله - (¬2): الجواز؛ لأنه قد تصح صلاته بنية إمامه على وجهٍ، وهو: إذا غلب على ظنه أن الوقت قد خرج، فأحرم بالصلاة ينوي القضاء، فبان أن الوقت باقٍ، فإنه يتم صلاته بتلك النية، ونقل صالح - رحمه الله - (¬3): المنع، وهو أصح؛ لأنه لا تصح صلاته بنية إمامه، وهو نية القضاء، ولا يلزم عليه المريض إذا [صلى] (¬4) بمرضى الظهر يوم الجمعة، ثم شهد الجمعة، ولم يشهد الجماعة (¬5)، كانت صلاته نفلًا له، وفرضًا للقوم؛ لأنها صارت نفلًا للإمام بعد الفراغ من الصلاة، فهو في حال الإمامة تصح صلاته بنية إمامه، ¬

_ (¬1) في الأصل: النفل. (¬2) في مسائله رقم (339 و 340). (¬3) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، وينظر: الروايتين (1/ 171)، والشرح الكبير (4/ 408)، والإنصاف (4/ 409). (¬4) بياض في الأصل، والمثبت من الانتصار (2/ 449). (¬5) أي: المرضى الذين صلوا معه صلاة الظهر.

ولا يلزم عليه إذا أدرك الإمام وهو في التشهد؛ لأن أصحابنا - رحمهم الله - اختلفوا في ذلك، فالخرقي - رحمه الله - قال (¬1): ينوي صلاة الظهر. فعلى هذا لا يدخل في العلة بقضاء. وقال أبو إسحاق بن شاقلا - رحمه الله -: ينوي الجمعة، وهو المذهب (¬2)، فعلى هذا: لا يلزم؛ لأنه تصح صلاته بنية إمامه؛ لأنه حين يدخل معه ينوي الجمعة، وإنما تصير ظهرًا فيما بعد ذلك من طريق الحكم، ولا يلزم عليه إذا أحرم بالجمعة مع الإمام، ثم زُحم عن الركعتين؛ لأن في ذلك روايتين (¬3): إحداهما: يبني عليها ظهرًا. والثانية، وهو اختيار أبي بكر الخلال، وأبي [بكر] (¬4) عبد العزيز - رحمهما الله -: يبني عليها جمعة. فإن قيل: من يصلي ركعتي الفجر يجوز أن يقتدي فيهما بمن (¬5) يصلي الفرض، وإن لم يصح أداؤهما بنية الفرض، فما أنكرتم أيضًا أن ¬

_ (¬1) في مختصره ص 60. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 186)، والانتصار (2/ 450). (¬3) ينظر: الإرشاد ص 101، والروايتين (1/ 184)، والانتصار (2/ 450)، والمغني (3/ 185 و 186)، علمًا أنه جعل الأولى اختيار أبي بكر عبد العزيز الغلام، والثانية: اختيار الخلال، وكذا صاحب الإنصاف (5/ 212)، وهو الموافق لما ذكره المؤلف في (3/ 171)، حين ذكر المسألة. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) في الأصل: من يصلي.

يصح اقتداء من يصلي الفرض بمن يصلي النفل، وإن لم يجز أداء الفرض بنية النفل. قيل له: ركعتا الفجر تطوع، ويجوز أداء التطوع بنية الفرض (¬1)، وقد بينا ذلك، فجاز اقتداء من يصلي ركعتي الفجر بمن يصلي الفرض، ونية النفل لا يصح أن يؤدّى بها الفرض بحال، فلا يجوز اقتداء من يصلي الفرض بمن يصلي النفل، على أن حنبل - رحمه الله - روى عنه: من صلى ركعتي الفجر في جماعة لا تجزئ صلاة الجماعة من ركعتي الفجر. فإن قيل: يجوز أن يُصلي المتطهر بالماء خلف المتيمم، وإن كانت طهارة الإمام لا تصلح لصلاة المأموم، ولا يؤدى بها، وكذلك صلاة القائم خلف القاعد، وإن كان القعود لا يؤدى به صلاة القادر على القيام، لذلك يجوز أن يصلي الفرض خلف المتنفل، وإن كانت نية صلاة الإمام لا تصلح لنية صلاة المأموم. قيل: لا يمتنع أن يختلفا في الطهارة، والقيام، ولا يختلفا في النية؛ بدليل: صلاة الجمعة، يجوز أن يكون الإمام فيها جالسًا (¬2)، والمأموم متوضئًا قائمًا، ولا يجوز أن يصلي الجمعة خلف من يصلي الظهر. فإن قيل: من شرط الجمعة أن تكون مع الإمام، ولا تجوز منفردًا، ¬

_ (¬1) يفسر هذا: ما ذكره صاحب الانتصار (2/ 451) بقوله: (سنة الفجر تطوع، وقد بيّنا أن نية الفرض تشمل النفل وتزيد). (¬2) في الانتصار (2/ 451): (يجوز أن يكون الإمام متيممًا وجالسًا، والمأموم متوضئًا وقائمًا).

فكان من شرطها أن يكون الإمام في صلاة الجمعة، وليس كذلك سائر الصلوات، فإنه ليس من شرط صحتها فعلُها مع الإمام، ويجوز فعلها منفردًا، فلم يكن من شرط صحتها اتفاق النيتين. قيل له: كون الجمعة شرطها إمام، والظهر ليس من شرطها إمام، لا يمنع بناء أحدهما على الآخر عندك، ألا ترى لو خرج وقت الظهر، وهو في الصلاة، بنى الظهر على الجمعة؟ وعلى أن هذا يبطل بصلاة الفرض خلف من يصلي الاستسقاء، والكسوف، لا يصح، وإن لم يكن من شرطها إمام. آخر الجزء السادس عشر من أجزاء المصنف - رحمة الله عليه، وعلى كاتبه ووالديه وجميع المسلمين يا رب العالمين -. واحتج المخالف: بما روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان يصلي بالناس ببطن نخل (¬1) صلاة الخوف، فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم" (¬2)، ¬

_ (¬1) في الأصل: ببطل النخل. وبطن النخل: مكان من نجد من أرض غطفان. ينظر: تهذيب الأسماء (3/ 35). (¬2) رواه الشافعي بإسناده في الأم (2/ 348)، واللفظ له، والبيهقي في المعرفة (5/ 31)، وفيه الحسن البصري عن جابر - رضي الله عنه -، وهو لم يسمع منه، ينظر: فتح الباري لابن رجب (6/ 33)، وأخرجه البخاري من طريق أخرى عن جابر - رضي الله عنه - نحوه معلقًا في صحيحه, كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات =

ومعلوم أن الركعتين الأخيرتين كانتا نفلًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفرضًا للطائفة الثانية، فهذا يدل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل. والجواب: أنه ليس في الخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نوى سفرًا تقصر فيه الصلاة، ويجوز أن يقال: إنه كان مقيمًا، وكان فرضه أربع ركعات فصلى بكل طائفة ركعتين، فكانت له أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، ثم قضت كل طائفة ركعتين. فإن قيل: ففي الخبر ما يمنع هذا التأويل، وهو أنه صلى بطائفة ركعتين وسلم، وبطائفة أخرى ركعتين وسلم. قيل: يحتمل أن يكون أراد بالسلام التشهد كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - "وفي كل ركعتين فسلم" (¬1) يعني: فتشهد. فإن قيل: لم يرو أن كل واحدة من الطائفتين قضت ركعتين، ولم ¬

_ = الرقاع، رقم (4136 و 4137)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، رقم (843). (¬1) أخرجه محمد بن الحسن في الآثار (1/ 8) بإسناده من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، والدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: صلاة الإمام وهو جنب، رقم (1377)، وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب ضعيف، ينظر: التعليق المغني (2/ 190)، والتقريب ص 289، وحديث عائشة - رضي الله عنها - لم أجده باللفظ الذي ذكره المؤلف، وأخرجه مسلم في صحيحه, كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، رقم (498)، ولفظه: "وكان يقول في كل ركعتين التحية".

ينقل كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف ركعتين، فكان لهم ركعة ركعة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين (¬1)، ومعلوم أن كل طائفة قضت، وإن لم ينقل إلينا، كذلك هذا، وعلى أنا لو سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مسافرًا، لم يكن في الخبر دلالةٌ على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك في وقت كان يعاد فيه الفرض مرتين في يوم واحد، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينوي بالصلاة الثانية فرضًا، والطائفة الثانية أيضًا كذلك. فإن قيل: لم يرو في شيء من الأخبار: أنه كان يعاد الفرض في وقت من الأوقات. قيل له: بلى رُوي في حديث عمرو بن شعيب عن خالد بن أيمن (¬2) - رضي الله عنهما - قال: كان أهل العوالي يصلون في منازلهم، ثم يصلون مع ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (3364)، والنسائي في كتاب: صلاة الخوف، رقم (1533)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: صلاة الخوف، باب: من قال: صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقضوا، رقم (6048)، ونقل تضعيف الشافعي له، وينظر: الأم (2/ 452)، وعلّق البخاري موضع مكان الصلاة من قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، رقم (4125)، وأشار إلى الحديث أبو داود في سننه، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعة، وصحح الحديث الإمام أحمد - رحمه الله -. ينظر: التحقيق (4/ 173)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 27). (¬2) المعافري، معدود في التابعين، وليس من الصحابة. ينظر: أسد الغابة (2/ 81)، والإصابة (3/ 357).

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاهم أن يعيدوا الصلاة في يوم مرتين، قال عمرو: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: صدق (¬1). ورُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تعاد صلاة في يوم مرتين (¬2). فإن قيل: فلو سلمنا لكم إعادة الفرض في ذلك الوقت، لكان السؤال عليكم قائمًا؛ لأن عندكم: أن الثانية كانت (¬3) تكون فريضة، والأولى تصير نفلًا، وهي للمأموم فريضة، وهذا يوجب جواز اقتداء المفترض بالمتنفل. قيل له: صلاته في حال اقتداء الفرض فيه كانت مؤداة بنية الفرض، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 139)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 320)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 317)، وحديثه مرسل، قال ابن حزم: (أما حديث خالد بن أيمن، فساقط؛ لأنه مرسل)، وقال ابن حجر: (تابعي أرسل حديثًا). ينظر: المحلى (4/ 151)، والإصابة (3/ 357). (¬2) أخرجه أحمد في المسند رقم (4689)، وأبو داود، كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى في جماعة، وأدرك جماعة، أيعيد؟ رقم (579)، والنسائي، كتاب: الإمامة، باب: سقوط الصلاة عمن صلى في المسجد جماعة، رقم (860)، والدارقطني، كتاب: الصلاة، باب: لا يصلى مكتوبة في يوم مرتين، رقم (1542)، وصحح الحديث ابنُ حزم في المحلى (4/ 151)، وينظر: البدر المنير (2/ 664). (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: زائدة من النساخ.

وإنما كانت تصير نفلًا بعد إعادتها، وذلك لا يغير حكم صلاة المأمومين، ألا ترى أنا نقول في المعذور إذا صلى بقوم الظهر يوم الجمعة، وهم معذورون، ثم شهد الجمعة، ولم يشهد القوم: إن صلاته تصير نفلًا، وصلاة القوم فريضة؟ ولا يغير ذلك حكم صلاة القوم؛ لأنهم حين اقتدوا به كانت صلاته مؤداة بنية الظهر، وإنما خرجت من أن تكون فرضًا له بعد ذلك، فلم يغير حكم صلاة القوم. واحتج أيضًا: بما روى الحسن عن أبي بكرة - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم المغربَ ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء آخرون، فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ست ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه, جماع أبواب صلاة الخوف، باب: صلاة الإمام المغرب بالمأمومين صلاة الخوف رقم (1368)، والدارقطني، باب: صلاة الخوف، رقم (1783)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: صلاة الخوف، باب: الإمام يصلي بكل طائفة ركعتين ويسلم، رقم (6038)، قال ابن حجر: (أعله ابن القطان بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة، وهذه ليست بعلة؛ فإنه يكون مرسل صحابي)، وقال ابن القيم: (وهذا الذي قاله - يعني: ابن القطان - لا ريب فيه، لكن مثل هذا ليس بعلة ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه؛ فإن أبا بكرة، وإن لم يشهد القصة، فإنه سمعها من صحابي غيره، وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من الصحابة، مع أن عامتها مرسلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينازع في ذلك اثنان من السلف وأهل الحديث والفقهاء. فالتعليل على هذا باطل). ينظر: بيان =

والجواب: أنه لو ثبت هذا الخبر، احتمل أن يكون في الوقت الذي كان يعاد فيه الفرض مرتين. واحتج: بما روى عمرو بن دينار عن جابر - رضي الله عنهما -: أن معاذًا - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم ينصرف إلى قومه، فيصلي بهم (¬1)، فهي له تطوع، ولهم فريضة. والجواب: أن معاذًا - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - النفل، ويصلي بقومه الفرض، والدليل على ذلك: أن قومه شكوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! إنا نظل في أعمالنا طول النهار، ثم نصلي خلف معاذ، فيقرأ بالبقرة وآل عمران، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفتانٌ أنت يا معاذ؟ ! إما أن تخفف بهم الصلاة، وإما أن تجعل صلاتك معنا" (¬2)، فأشار إلى صلاته المعهودة، وصلاته المعهودة هي صلاة الفريضة، فلو كان ما يفعله معاذ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة له، لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإما أن تجعل صلاتك معنا"؛ لأنه كان يجعل صلاته معهم، فدل هذا على صحة ما قلناه، وهو أنه كان يصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - نفلًا، ثم يصلي بقومه فرضًا. فإن قيل: قول جابر: ثم ينصرف إلى قومه، فيصلي بهم، وهو له ¬

_ = الوهم (2/ 475)، والتلخيص (3/ 1056)، وتهذيب السنن (2/ 72). (¬1) مضى تخريجه في (2/ 322). (¬2) أخرجه بنحوه الإمام أحمد في المسند رقم (20699)، قال ابن رجب: (مرسل)، بل قال ابن عبد البر: (لفظ منكر لا يصح عن أحد يحتج بنقله). ينظر: الاستذكار (5/ 389)، والفتح (4/ 231).

تطوع، ولهم فريضة (¬1)، يُبطل ما ذكرت. قيل له: هذه الزيادة غير صحيحة؛ لأن أحمد - رحمه الله - قال في رواية يوسف بن موسى (¬2): حديث معاذ أخشى أن لا يكون محفوظًا؛ لأن ابن عيينة يزيد فيه كلامًا لا يقوله أحد (¬3)، وعلى أنه يجوز أن يكون جابر قال ذلك ظنًا منه. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: ذكر صلاة المفترض خلف المتنفل، رقم (1075 و 1076)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: الفريضة خلف من يصلي النافلة، رقم (5105)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 254): (حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج)؛ يعني: بالسماع، وقد أعلت بتفرد ابن جريج بها. ينظر: شرح معاني الآثار (1/ 409)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 230). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 445). (¬3) قال ابن رجب: (وقد ظن بعض فقهاء أصحابنا هذه الزيادة هي التي أنكرها أحمد على سفيان بن عيينة، وهذا وهم فاحش؛ فإن هذه الزيادة تفرد بها ابن جريج، لا ابن عيينة). الفتح (4/ 230)، وأما ما أنكره الإمام أحمد - رحمه الله - على ابن عيينة، فهو ما ذكره ابن رجب من قوله: (أن من روى صلاة معاذ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجوعه إلى قومه لم يذكر أحد منهم قصة التطويل والشكوى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ابن عيينة ... ومن ذكر شكوى معاذ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الثقات الحفاظ لم يذكروا فيه أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمهم). الفتح (4/ 228). وينظر: مسائل ابن هانئ رقم (316)، وشرح سنن ابن ماجه للمغلطاي (5/ 1637)، وعمدة القاري (5/ 237).

فإن قيل: كيف يجوز أن يظن بمعاذ: أنه كان يترك فضيلة أداء الفرض خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤدي خلفه النفلَ، ومع قومه [الفرضَ] (¬1). قيل له: يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يؤم قومه، ويصلي بهم الفرض، فكان امتثاله لأمره أفضل من أداء فرضه معه، وعلى أنه لو ثبت أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الفرض، ثم يصلي بقومه بعد ذلك، لم يكن في الخبر دلالة على موضع الخلاف؛ لأنه ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، فأقره عليه، وفعلُ الصحابي لا يثبت به حجة، إلا أن يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقره عليه، ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - قال لرفاعة بن رافع حين أخبره أنهم كانوا يجامعون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يغتسلون إلا بعد الإنزال: أفأخبرتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فرضيَه (¬2)؟ فأخبر أن فعلهم ليس بحجة إلا بعد إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورُوي عن سعد بن وقاص - رضي الله عنه -: أنه قال: كان منا من يرمي بست، ومنا من يرمي بسبع (¬3). ولم يكن ذلك حجة؛ لأنه لم يقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار كلمة، والكلام يستقيم بالمثبت، وينظر: الانتصار (2/ 445). (¬2) أخرج نحوه الإمام أحمد في المسند رقم (21096)، والطبراني في الكبير رقم (4537)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 266): (رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات، إلا أن ابن إسحاق مدلس، وهو ثقة، وفي الصحيح طرف منه). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (1439)، والنسائي في كتاب: مناسك =

عليه، وعلى أنه يحتمل أن يكون ذلك في وقت كان يعاد فيه الفرض مرتين، وهذا جواب شيخنا أبي إسحاق، ذكره في تعاليقه على كتاب العلل. واحتج: بأنهما صلاتان متفقتان في الأفعال، يجوز الانفراد بكل واحد منهما، فجاز أن يؤدي إحداهما خلف الأخرى؛ قياسًا على فرضين متفقتين (¬1)، أو نفل خلف فرض، وفيه احتراز عن الجمعة خلف من يصلي الفرض؛ لأن الانفراد لا يجوز، ومن الظهر خلف من يصلي صلاة الكسوف، أو صلاة الجنازة؛ لأنهما مختلفتان في الأفعال. والجواب: أن الاتفاق (¬2) في الأفعال الظاهرة لا يدل على صحة الاقتداء؛ بدليل: أن صلاة المرأة توافق صلاة الرجل في الأفعال، ولا يدل ذلك على جواز الاقتداء، وكذلك المومئ عندك يؤم القادر على الركوع والسجود، وإن كانا لا يتفقان في الأفعال الظاهرة، وإذا كان الإمام في صلاة المغرب أو الفجر، والمأموم في صلاة العصر، صح عنده، وإن اختلفا في الأفعال، وأما إذا كان الإمام في فرض، والمأموم في نفل، ¬

_ = الحج، باب: عدد الحصى التي يرمي بها الجمار، رقم (3077)، واللفظ له، وهو عن مجاهد يرويه عن سعد - رضي الله عنه -، قال أبو حاتم: (مجاهد لم يدرك سعدًا). ينظر: المراسيل لابن أبي حاتم ص 205، وبيان الوهم والإيهام (2/ 559). (¬1) كذا في الأصل. (¬2) في الأصل: الإتقان.

فالمعنى فيه: أنه بنى أنقص الصلاتين على أكملهما, وليس كذلك ها هنا؛ لأنه بنى أكمل الصلوات على أنقصهما، فلم يجز؛ كما لو أحرم بالنفل لنفسه، ثم نوى الفرض، ولأن النفل قد يصح أداؤها بنية الفرض، وهذا معدوم في مسألتنا؛ لأن نية الإمام لا تصح أن يؤدَّى بها صلاة المأموم، فأشبه من يصلي الجمعة خلف من يصلي الظهر، ومن يصلي الظهر خلف من يصلي الكسوف. واحتج: بأنه لو سجد الإمام سجدة، ثم قدم مسبوقًا بركعة: أن المقدَّم يفعل هذه السجدة نفلًا، والمأموم فرضًا. والجواب: أنه يفعلها فرضًا بحكم المتابعة، ولو تركها، فسدت صلاته. واحتج: بأنه لو صلى بقوم الظهر يوم الجمعة، ثم شهد الجمعة، ولم يشهد القوم، كانت صلاته نفلًا، وفرضًا للقوم. والجواب: أنا قد أجبنا عن هذا، وهو: أنها إنما صارت نفلًا للإمام بعد الفراغ من الصلاة، وخروجه عن حال الإمامة، وما يطرأ على الإمام بعد الفراغ، وخروجه عن حال الإمامة، مما لو كان موجودًا في حال أدائها، منعَ صحتها، وجوازَ الاقتداء به فيها، فإنه لا يؤثر في صلاة القوم بمشاركتها في حال الاقتداء في الفرض. فإن قيل: فما تقولون في المسبوق إذا أدرك الإمام في الركعة الخامسة، وكان الإمام قد سهى، فصلى خمسًا، هل يعتد بها ركعة؟ .

102 - مسألة: لا تصح إمامة الصبي في الفرض، رواية واحدة، وفي النفل على روايتين

قيل له: لا يعتد بها على فرضه؛ لأنه نافلة في حقه، وقد نص أحمد - رحمه الله - في رواية المروذي (¬1): في رجل دخل مع الإمام، وقد فاتته ركعة من الظهر، فصلى الإمام خمس ركعات ساهيًا: لا يجزئ هذا الذي فاتته ركعة صلاته، يعيد الصلاة. فقد نص على أنه لا يعتد بالركعة مع الإمام، وقوله: يعيد الصلاة، يعني به: إذا لم يقض هذه الركعة حتى تطاول الفصل، والله أعلم. * * * 102 - مَسْألَة: لا تصح إمامة الصبي في الفرض، رواية واحدة (¬2)، وفي النفل على روايتين: إحداهما: لا تصح أيضًا، وهو أصح: نص عليه في رواية أبي طالب (¬3): في غلام لم يحتلم لا يصلي بهم، قيل له: ولا التطوع؟ قال: ولا التطوع، هي صلاة لا يصلي بهم غلام لم يحتلم إلا بإحدى ثلاث، وكذلك نقل جعفر بن محمد (¬4) - وقد سئل: ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 456). (¬2) ينظر: الإرشاد ص 67، والجامع الصغير ص 52، والانتصار (2/ 457)، والهداية ص 98، والمغني (3/ 70)، والإنصاف (4/ 387). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 172)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 172). (¬4) لم أقف على روايته، وينظر: مسائل عبد الله رقم (520 و 533)، ومسائل =

يصلي بهم تطوعا؟ -، قال: لا، حتى يحتلم. والثانية: تصح إمامته في التطوع: نص عليه في رواية حنبل: لا يعجبني أن يصلي بهم الفرض، قال: وكنتُ أصلي بأبي عبد الله في شهر رمضان التراويح، وأنا غلام مراهق، وكان هو يصلي بهم المكتوبة (¬1)، وبهذا قال مالك - رحمه الله - (¬2). وقال أصحاب أبي حنيفة - رحمهم الله -: لا يؤم في الفرض، ولا في التطوع (¬3). وقال أصحاب الشافعي - رحمهم الله -: يؤم في الفرض والتطوع (¬4). فالدلالة على أنه لا تصح إمامته في الفرض: ما رواه أبو بكر النجاد في كتابه قال: نا محمد بن يحيى (¬5) قال: ............. ¬

_ = أبي داود رقم (294). (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 172). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 295)، والكافي ص 47، علمًا أن الإمام مالك - رحمه الله- قال: (لا يؤم الصبي في النافلة، لا الرجال ولا النساء). ينظر: المدونة (1/ 84). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 237)، وتحفة الفقهاء (1/ 361). (¬4) ينظر: الأم (2/ 326)، والبيان (2/ 391). (¬5) ابن محمد بن كثير الحراني، الكلبي، لقبه: لؤلؤ، قال ابن حجر: (ثقة صاحب حديث)، توفي سنة 267 هـ. ينظر: التقريب ص 573.

نا ضرار بن صرد (¬1) قال: حدثني يحيى بن يعلى (¬2) عن عبد الله بن زيد (¬3)، عن حرملة بن موسى (¬4)، عن عبد العزيز بن عبد الله القرشي (¬5)، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقَدِّموا صبيانكم في صلاتكم، ولا على جنائزكم (¬6)؛ فإنهم وُفودُكُم إلى الله - عز وجل -" (¬7). وروى أبو بكر الأثرم بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان ¬

_ (¬1) التيمي، أبو نعيم الطحان، الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق له أوهام وخطأ)، توفي سنة 229 هـ. ينظر: التقريب ص 287. (¬2) الأسلمي، الكوفي، قال ابن حجر: (ضعيف شيعي). ينظر: التقريب ص 670. (¬3) في زهر الفردوس (4/ 177) أن اسمه: عبد الواحد بن زيد. ولم أهتد لمعرفته. (¬4) كذا في الأصل، ولم أقف على رجل من رجال السند بهذا الاسم، علمًا أن في زهر الفردوس (4/ 177) (عن) بدلًا من (ابن)، فيكون حرملة عن موسى، ولم أهتد لا إلى حرملة، ولا إلى موسى، وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 469): أن عبد الله بن زيد يرويه عن حرملة بن عمر ... (¬5) في زهر الفردوس (4/ 177) عبد العزيز بن عبيد الله القرشي، ولم أجد أحدًا يروي عن علي - رضي الله عنه - بهذا الاسم. (¬6) في الأصل: (حابركم)، والتصويب من الحديث. (¬7) أخرجه الديلمي في الفردوس رقم (7310)، قال ابن عبد الهادي: (هذا حديث لا يصح، ولا يعرف له إسناد صحيح، بل روي بعضه بإسناد مظلم). ينظر: التنقيح (2/ 469).

يقول: لا يؤم الغلام حتى يحتلم (¬1). وروى الأثرم بإسناده عن أبي هاشم الرُّمّاني (¬2) قال: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود (¬3). فإن قيل: يعارض هذا بما روى عكرمة عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: كنا نأخذ الصبيان من [الكُتّاب] (¬4)، فنقدمهم، فيصلون لنا (¬5). قيل: هذا وارد في صلاة النفل، وعلى إحدى الروايتين يجوز ما رويناه عن ابن عباس، وابن مسعود - رضي الله عنهم - عامٌّ في الفرض والنفل، وعلى أنه يحتمل أن يكون أراد بالصبيان، يعني: قريبي العهد بالبلوغ، فسمتهم ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (1872 و 3847)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 152)، قال ابن حجر: (إسناده ضعيف). ينظر: الفتح (2/ 240). (¬2) الواسطي، اسمه: يحيى بن دينار، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 122 هـ. ينظر: التقريب ص 729. (¬3) قال ابن رجب: (خرّجه الأثرم ... بإسناد منقطع). ينظر: الفتح (4/ 171)، فأبو هاشم الرماني لم يدرك ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولم يكن من الرواة عنه. ينظر: تهذيب الكمال (34/ 362). (¬4) طمس في الأصل، والتصحيح من الأوسط لابن المنذر. (¬5) أخرجه ابن المنذر في الأوسط (4/ 151)، والبيهقي في الكبرى, كتاب: الصلاة، باب: من زعم أنها بالجماعة أفضل لمن لا يكون حافظًا للقرآن، رقم (4613)، وفي إسناد البيهقي عمر بن حفص العدني، ليس بثقة. ينظر: ميزان الاعتدال (1/ 560)، وابن المنذر أَبْهم من حدّثه.

صبيانًا؛ لقرب عهدهم، ولأن صلاة الصبي تقع نافلة، والمتنفل لا يؤم المفترض على أصلنا، وهذا مبني على ذلك الأصل، ولأن الصغر نقص يؤثر في الشهادة، فأثَّر في الإمامة؛ دليله: الرق يمنع صحة الإمامة في الجمعة، ونقص الأنوثية يمنع صحة الإمامة بالرجال، كذلك يجب أن يؤثر هذا النقص في الإمامة، بل هذا النقص آكد؛ لأنه يمنع التكليف، ونقص الرق، والأنوثية لا يمنع التكليف. واحتج المخالف: بما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله" (¬1)، ولم يفرق بين الصبي والبالغ. والجواب: أنه محمول على البالغ. واحتج: بما رُوي عن عمرو بن سلمة - رضي الله عنه -: أنه قال: كنت غلامًا حافظًا، فحفظت من ذلك قرآنًا كثيرًا، فانطلق أبي وافدًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة، فقال: "يؤمكم أقرؤكم"، وكنت أقرأَهم، فقدموني، فكنت أؤمهم، وعليّ بردةٌ صغيرة، فكنت إذا سجدت، تنكشف عني، فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورةَ قارئكم، فاشتروا لي قميصًا، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (673)، من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، أما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، فلفظه: "وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (672).

ابن سبع سنين، أو ثمان سنين (¬1)، وروى أبو داود (¬2) هذا الحديث، وزاد فيه: قال: فما شَهِدْتُ مَجْمعًا من جَرْم إلا كنتُ إمامَهم، وكنت أُصلِّي على جنائزهم إلى يومنا هذا. والجواب: أن أبا بكر النجاد ذكر في كتابه: قال أحمد - رحمه الله- في إمامة الغلام: لا أقول شيئًا، قيل له: فحديث عمرو بن سلمة؟ قال: دعه، ليس بشيء (¬3). وظاهر هذا: أنه حديث ضعيف، ولا يلزم قبوله، وأجاب عنه أحمد - رحمه الله - في حديث (¬4) جعفر بن محمد، فقال: كان هذا في أول الإسلام من ضرورة (¬5). وجواب آخر: وهو أنه ليس في الخبر أنهم قدموه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو علم بذلك، وأقرَّهم، وفعلُهم ذلك لا حجة فيه؛ لأنه ليس معناه أنهم كانوا ممن يُعتد بفعلهم، ولو كانوا أصحابه، لم يكن في فعلهم حجة؛ لأن فعل الصحابي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصير حجة إلا أن يقره النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 150). (¬2) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (585 و 587)، وإسناده صحيح. ينظر: أحكام الجنائز للألباني ص 103. (¬3) ينظر: مسائل الكوسج رقم (250). (¬4) كذا في الأصل، ولعلها رواية جعفر. (¬5) ينظر: الانتصار (2/ 459)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 172)، وقال في رواية أبي داود: (لعله كان في بدء الإسلام). ينظر: مسائل أبي داود رقم (294).

فصل

فإن قيل: لا يجوز أن يخفى هذا على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم صلوا خلفه سائر صلاتهم، ولأنه (¬1) قال: ما شهدتُ مجمعًا من جرم إلا كنت إمامهم. قيل له: ويجوز أن لا يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ لأنهم لم يكونوا معه في المدينة، وإنما كانوا في ناحية منها، وفي بلد آخر، ويحتمل أن يكونوا قدموه في صلاة النفل. واحتج: بأن من صحت إمامته في النفل، صحت إمامته في الفرض؛ دليله: البالغ. والجواب: أنه ليس إذا جاز في النفل جاز في الفرض، ألا ترى أن النفل يجوز ترك القيام فيه، ولا يجوز ذلك في الفرض؟ ولأن النفل غير واجب على البالغ، فجاز أن يكون إمامًا فيه، وليس كذلك ها هنا؛ لأنها صلاة مفروضة، والصبي ليس من أهل الفرض، وإنما هو متطوع بها، وقد بينا أن المتطوع لا يؤم المفترض، ولأن البالغ مفترض، فجاز أن يؤم المفترض، وهذا بخلافه. * فصل: والدلالة على صحة إمامته في النفل خلاف أبي حنيفة - رحمه الله -: أن المسألة مبنية على أن للصبي صلاة صحيحة، ويدل عليه ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر" (¬2)، ¬

_ (¬1) في الأصل: ولأنهم. (¬2) مضى تخريجه في (1/ 139).

103 - مسألة: إذا صلى أمي بقارئ، فسدت صلاة القارئ، ولم تفسد صلاة الأمي

ولا يجوز أن يؤمر بالصلاة، وهي باطلة، وأيضًا: فإنا قد روينا للمخالف حديث عمرو بن سلمة، وحديث عائشة - رضي الله عنها -، ولا وجه له إلا النفل، ولأنه تصح طهارته، فصحت صلاته كالبالغ، ولأنه لو وقف بالغٌ إلى (¬1) جنب صبية في الصلاة، بطلت صلاته، وبنى المخالف هذا على أنه ليست له صلاة صحيحة، ودل عليه بأنه غير مكلف، فأشبه المجنون. والجواب: أن المجنون لا تصح طهارته، ولأن المجنونة إذا كانت صبية، فوقفت إلى جنب رجل في الصلاة، لم تبطل صلاة الرجل، والصغيرة إذا وقفت، بطلت صلاته. والله أعلم. * * * 103 - مَسْألَة: إذا صلى أميّ بقارئ، فسدت صلاة القارئ، ولم تفسد صلاة الأمي: ذكر الخرقي هذا في مختصره (¬2)، فقال: وإن أمّ أميٌّ أميًّا وقارئًا، أعاد القارئ وحدَه، وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي، ويوسف بن موسى: إذا كان يصلي بقوم، ويلحن لحنًا فاحشًا، لا يُصلى خلفه (¬3)، ¬

_ (¬1) في الأصل: على. (¬2) في ص 56، وينظر للفائدة: تهذيب الأجوبة (2/ 903). (¬3) لم أقف على روايتهما، وينظر: الإرشاد ص 71، والجامع الصغير ص 52، =

وبه قال مالك - رحمه الله - (¬1). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تبطل صلاة الأمي، والقارئ جميعًا (¬2). وقال الشافعي - رحمه الله -: صلاة الأمي صحيحة، وصلاة القارئ قولان: في الجديد: قال: تبطل، وفي القديم: هي (¬3) صحيحة (¬4). فالدلالة على أن صلاة القارئ باطلة خلافًا للشافعي في أحد القولين: ما روى أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله - عز وجل -" (¬5)، فأمر بتقديم الأقرأ، فإذا قدم الأمي، خولف الأمر، ودخل تحت النهي، والنهي يقتضي الفساد. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن الزهري - رضي الله عنه - (¬6) قال: مضت السنَّة: أنه لا يؤم الناسَ من ليس معه (¬7) ............................... ¬

_ = ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 194)، والهداية ص 99، والمغني (3/ 29)، ومختصر ابن تميم (2/ 304)، والفروع (3/ 30)، والإنصاف (4/ 395). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 83 و 84)، والإشراف (1/ 296). (¬2) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 318)، والهداية (1/ 59). (¬3) في الأصل: وهي. (¬4) ينظر: الأم (2/ 326)، والحاوي (2/ 330)، والبيان (2/ 405). (¬5) مضى تخريجه في (2/ 342). (¬6) في الأصل: عنهما. (¬7) طمس في الأصل، والتصويب من شرح الزركشي (2/ 93).

من القرآن شيء (¬1)، فظاهر هذا: أنه أراد سنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة، على حسب اختلاف الناس في ذلك، فعند أحمد (¬2)، ومالك (¬3)، وأبي حنيفة (¬4) - رحمهم الله -: يتحمل عنهم في جميع الصلوات، وعند الشافعي - رحمه الله - (¬5) في القول القديم (¬6): في الصلاة التي يجهر فيها، وفي القول الجديد: إذا أدركه راكعًا، فإن كان أميًا، فليس من أهل التحمل، فلم تصح إمامته، كما أن الحكم لما كان القصد منه الفصل بين الخصوم، والنظر في أحوال الشهود وتزكيتهم، فإذا لم يكن الحاكم من أهل هذه الأشياء، لم ينعقد له الحكم. فإن قيل: أليس لو ائتم بجُنب، ولم يعلم بحاله، فإن ائتمامه يصح، وإن لم يكن من أهل القراءة. قيل له: القياس عندنا: أنه إذا صلى بقوم، وهو محدِث، وذكر بعد فراغه: أن صلاتهم باطلة، ولكن تركنا القياس هناك للأثر، وما استُثني من القياس لا يُلزم بقضاء، ولهذا نقول: لو علم بحدث الإمام في أثناء ¬

_ (¬1) لم أجد من أخرجه، وقد ذكره الزركشي في شرحه على الخرقي (2/ 93)، والبهوتي في شرح منتهى الإرادات (1/ 569). (¬2) ينظر: المغني (3/ 30). (¬3) ينظر: الإشراف (1/ 297). (¬4) ينظر: المبسوط (2/ 146). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 330). (¬6) في الأصل: قول القديم.

الصلاة: إن صلاتهم باطلة. وأجاب عن هذا قوم، فقالوا: الجنب من أهل القراءة في الجملة، وإن لم توجد منه القراءة، فصح الائتمام به؛ كما لو ائتم بقارئ ولم يقرأ، والأمي ليس من أهل القراءة بحال، فلم يصح الائتمام به، وهذا لا يجيء على أصلنا؛ لأن القارئ إذا لم يقرأ، لا تصح إمامته، وإن كان من أهلها، نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية [ابن] مشيش (¬1): فيمن صلى بقوم ولم يقرأ؟ يعيد ويعيدون، فإن كان جنبًا، يعيد ولا يعيدون، ويمكن أن نجيب نحن بهذا الجواب على وجه آخر: أن الجنب من أهل القراءة في الجملة، وقد أتى بها في هذه الحالة، وإن لم يكن من أهلها، فوجب أن يعتد بها؛ كما قلنا في الجنب إذا خطب، وقرأ في خطبته، فإنه يعتد بذلك، وإن كان ممنوعًا من القراءة في هذه الحال، وأيضًا: فإن القراءة شرط من شرائط الصلاة، فلم يصح اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه؛ دليله: الطهارة، لا يصح اقتداء المتطهر بمن به حدث لا يرقأ؛ كالمستحاضة، ومن به سلس البول، والريح، وقد نص أحمد على هذا في رواية أبي حامد الخفّاف (¬2): في الذي يسيل منه الدم الفاحش لا يضبطه: لا يعجبني ¬

_ (¬1) في الأصل: مسيس، ولفظة (ابن) ساقطة من الأصل، وينظر: الروايتين (1/ 141)، ونقلها صالح عن الإمام أحمد - رحمه الله - في مسائله رقم (600 و 611). (¬2) في الأصل: الحفاف. وأبو حامد: أحمد بن نصر بن إبراهيم الخفاف، ويكنى أيضًا: بأبي عمرو، =

أن يؤم الناس، إنما يعذر من نفسه. فإن قيل: المستحاضة، ومن به سلس البول عليه نجاسة، لم يأت ببدل يقوم مقام إزالتها. قيل له: والأمي لم يأت ببدل يقوم مقام القراءة في باب التحمل، وعلى أن هذا المعنى يوجب عليه إعادة الصلاة إذا زال العذر بعد الفراغ من الصلاة، ولا خلاف أنه لا إعادة عليها، فكان يجب أن نقول: تصح إمامتها؛ لصحة الصلاة في حقها، وهذه المسألة مبنية على أن العاجز عن القيام، والركوع، والسجود، والستارة لا تصح إمامته بمن هو قادر عليها. واحتج المخالف: بأن القاعد يؤم القائم، والمتيمم يؤم المتطهر، كذلك لا يمتنع أن يؤم الأمي للقارئ. والجواب: أن القاعد لا يؤم القائم إلا في موضع، وهو إمام الحي إذا كان يرجى برؤه استحسانًا. والقياس: أنه مثل مسألتنا أنه لا يصح، على أن القراءة آكد؛ بدليل: أنها لا تسقط في صلاة النفل، ويسقط القيام فيها، وأما المتيمم، فقد أتى ببدل عن الطهارة، وبدلُ الشيء يقوم مقامه، وهذا لم يأت ببدل الصلاة، ولأن الطهارة لا يتحملها، والقراءة يتحملها, ولأن هذا يلزم عليه من به سلس البول. ¬

_ = روى عن الإمام أحمد مسائل حسانًا، توفي سنة 299 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 204)، وسير أعلام النبلاء (13/ 560).

فصل

فإن قيل: فيجب عليه إذا أتى الأمي ببدل القراءة، وهو: سبحان الله، والحمد لله، أن يصح الاقتداء به، كما يصح اقتداء المتوضئ بالمتيمم؛ لأن البدل يقوم مقامه. قيل: الطهارة لا يتحمل، والقراءة يتحمل. * فصل: والدلالة على أن صلاة الأمي لا تبطل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬1)، فيجب أن تحصل للأمي صلاته التي نواها أن يأتم بغيره، والقياس: أن كل من لو ائتم بغيره صحت صلاته، فإذا أمَّه يجب أن يصح؛ كالأمي إذا أمّ أميًّا، والقارئ إذا أمّ قارئًا، والمرأة إذا أمّت امرأة، ولا يلزم عليه المرأة إذا أمت الرجال في صلاة الجمعة، فإن صلاتها تبطل؛ لأنه لا يصح أن يأتم بغيرها في هذه الصلاة، ألا ترى أنه لو تم العدد بامرأة، لم تصح صلاتها؟ فلو صح أن تكون مأمومة في هذه الصلاة، لصحت صلاتها في هذه الحال؛ كسائر الصلوات المفروضات يصح أن تأتم بالرجل، وإنما صحت صلاتها إذا كمل العدد على طريق التبع للرجال، ولأن كل من صحت صلاته إذا صلى منفردًا، فإذا أمّ من لا يجوز أن يكون إمامًا، لم تبطل صلاته بذلك؛ كالمرأة إذا أمت الرجال، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي؟ رقم (1) واللفظ له، ومسلم في كتاب: الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، رقم (1907).

ولأنه لو بطلت صلاته إذا علم بالقارئ خلفه، بطلت، وإن لم يعلم؛ كما لو ترك قراءة نفسه ناسيًا، وقد قال أبو بكر الرازي (¬1): لا يجب عليه أن يتبع المساجد، كما لا يجب عليه طلب الماء، ولكن إن علم أن معه في المسجد قارئًا، بطلت صلاته، وإن لم يعلم، لم تبطل؛ كما لا تبطل بنسيان الماء في رحله، وقد كان يجب أن يعتبر هذا بقراءة نفسه؛ لأنه نظيره، وفي حكمه، ويدل عليه: أنه لا يجب عليه أن يصلي خلف غيره، إذا كان عالمًا به: بما روى إبراهيم السكسكي (¬2) عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فعلَّمه خمسَ كلمات، فقال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (¬3)، ولم يأمره أن يصلي خلف القارئ، ¬

_ (¬1) لم أقف على كلامه، وأشار إليه القدوري. ينظر: التجريد (2/ 845)، وشرح فتح القدير (1/ 266). (¬2) في الأصل: السلسلي. وإبراهيم هو: ابن عبد الرحمن السكسكي، أبو إسماعيل الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق ضعيف الحفظ). ينظر: التقريب ص 61. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، رقم (832)، والنسائي في كتاب: الافتتاح، باب: ما يجزى من القراءة لمن لا يحسن القرآن، رقم (924)، والحديث ضعفه بعض أهل العلم؛ لأجل السكسكي. ينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 233)، =

فدل على أنه لا يجب ذلك. واحتج المخالف: بأن الأمي يمكنه أن يقتدي بقارئ، فيؤدي صلاته بقراءة؛ لأن قراءة الإمام قراءة له، فإذا أمكنه ذلك، فلم يفعل، لي تصح صلاته، وإذا لم تصح صلاته، لم تصح للمأموم (¬1). والجواب: أن هذا تبطل به إذا وجد جماعة في مسجد آخر؛ فإنه قادر على أن يؤدي صلاته بقراءة، ومع هذا، لا يلزمه ذلك، ولأن طهارة الإمام شرط في صحة صلاة المأموم، كما أن قراءة الإمام شرط في صحة صلاة المأموم، فكان يجب على المتوضئ أن يصلي خلف متوضئ؛ لأنه يمكنه ذلك، وقد قال: لا يلزمه، كذلك في مسألتنا. واحتج: بأن القارئ يصح له الدخول في صلاة الأمي؛ لأنهما متساويان في حال الدخول فيها؛ لأن حال الدخول لا يحتاج إلى القراءة، فإذا صح دخوله (¬2) في صلاته، لزم الإمامَ حينئذ أن يتحمل القراءة عن القارئ من طريق الحكم، فإذا لم يتحملها، فسدت صلاته؛ كالقارئ إذا ترك القراءة في صلاته، فإذا فسدت صلاته، فسدت صلاة المأموم القارئ. ¬

_ = والتلخيص الحبير (2/ 670)، وحسنه العلامة ابن باز، والألباني. ينظر: فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (29/ 273)، وإرواء الغليل (2/ 12). (¬1) في الأصل: المأموم، ولو كانت العبارة: [لم تصح صلاة المأموم]، لكانت أظهر للقارئ. (¬2) كررت في الأصل مرتين.

104 - مسألة

الجواب: أنه لا يصح أن يلزمه تحمل القراءة عن المأموم، وهو غير قادر عليها, ولا يصح أن يؤمر بها، وإذا لم يلزمه التحمل، لم تبطل صلاته، فلم يترك شيئًا واجبًا. فإن قيل: لا يمتنع أن يكون حكم التكليف قائمًا عليه في فساد صلاته بتركها، وإن لم يصح (¬1) أن يؤمر بها في هذء الحال؛ كالناسي للقراءة لا يؤمر بها في حال نسيانه، وحكمُ الفرض قائم عليه في باب فساد صلاته بتركها، وكذلك الناسي للركوع والسجود. قيل له: يجوز أن يكون حكم التكليف قائمًا في حال النسيان، ويسقط (¬2) في حال العجز؛ بدلالة المصلي في نفسه، أو نسي القراءة، لم يسقط فرضها, ولو عجز عنها، سقط فرضها، وأجزأه، كذلك لا يمتنع أن لا يسقط حكم التكليف في النسيان في حق غيره، ويسقط حكمه في حال العجز، والله أعلم. * * * 104 - مَسْألَة إذا أحسَّ (¬3) الإمام برجل، وهو راكع، استُحِبَّ له انتظارُه، ¬

_ (¬1) في الأصل: تصح. (¬2) في الأصل: تسقط. (¬3) مطموسة في الأصل بمقدار كلمتين، والمثبت من رؤوس المسائل للمؤلف لوح رقم (18).

ما لم يطل على المأمومين: نص على هذا في رواية أبي داود (¬1)، والأثرم (2)، وإبراهيم بن الحارث (¬2)، فقال: ينتظره ما لم يشق على من خلفه، وقد صرح بالاستحباب في رواية عبد الله - وقد سأله (¬3): ينتظرهم أحبُّ إليك أم لا يزيد على ركوعه؟ -، فقال: ينتظرهم ما لم يشق على من خلفه. وللشافعي - رضي الله عنه - قولان حكاهما (¬4): أحدهما: مثل هذا. والثاني: يكره ذلك (¬5). وهو قول أبي حنيفة (¬6)، ومالك (¬7) - رحمهما الله -. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (247). (¬2) لم أقف على روايته، وقد نقل مثلها ابن هانئ في مسائله رقم (299)، والكوسج في مسائله رقم (252)، وينظر: المغني (3/ 78)، والمحرر (1/ 176)، والإنصاف (4/ 330). (¬3) في مسائله رقم (526). (¬4) في الأصل بعض الطمس، والسواد على موضع الكلمة حال دون قراءتها، لكن يظهر أن المراد هو: المزني؛ فقد نقل القولين عن الشافعي - رحمه الله -. ينظر: مختصر المزني ص 36. (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 320)، والبيان (2/ 384). (¬6) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 248)، وبدائع الصنائع (2/ 54). (¬7) ينظر: الإشراف (1/ 296)، ومواهب الجليل (2/ 404).

دليلنا: ما رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر في صلاة الخوف (¬1)؛ لأجل إدراك الناس فضيلة الجماعة، وهذا تنبيه على غيره. فإن قيل: صلاة الخوف لم تسن في الأصل إلا هكذا. قيل: لا نسلم لك أنه غير مسنون في غيرها من الصلوات، بل هو مشروع لانتظار المأموم ليلحق الجماعة؛ كما هو في صلاة الخوف. فإن قيل: الخبر وارد في صلاة الخوف، ونحن نقول بموجبه فيما ورد فيه، وخلافنا في غيره. قيل: ورود الخبر في صلاة الخوف تنبيهٌ على غيره من الصلوات؛ إذ لا فرق بينهما؛ لأنه - عليه السلام - إنما انتظر في صلاة الخوف؛ ليحصل لهم فضيلة الجماعة، وهذا موجود في غيرها. وأيضًا: روى عصمة بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، وقعد في المسجد، إذ دخل رجل يصلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا رجلٌ يقوم فيتصدَّقُ على هذا، فيصلي معه؟ " (¬2)، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبب إدراكه فضيلةَ الجماعة صدقةً يستحق بها الثواب، ولم يجز أن يقال: إن ¬

_ (¬1) ينظر: صحيح البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، رقم (4129)، وصحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، رقم (842). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: إعادة الصلاة في جماعة، رقم (1082)، والحديث ضعيف. ينظر: التحقيق (4/ 74)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 510).

القائم إلى الصلاة معه لم يبتغِ بذلك وجه الله تعالى، وإنما ابتغى حقَّ الآدمي، بل كان جامعًا بين أجر العبادة، وأجرِ إدراك أخيه المسلم فضيلةَ الجماعة؛ كذلك الإمام الذي هو في الصلاة، يجوز أن ينتظر أخاه المسلم؛ ليدرك فضيلة الجماعة معه. فإن قيل: هذا الخبر منسوخ؛ لأنه يقتضي إعادة الجماعة في المسجد بعد أن صلِّي فيه الفرض، فهو محمول على الوقت الذي كان يعاد (¬1) فيه الفرض مرتين. قيل له: لا نسلم أن هذا منسوخ، بل هو جائز، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية الحسين بن حسان (¬2): في قوم جاؤوا إلى المسجد، ولم يجمَّع فيه: ليس لهم أن يجمِّعوا، فإن كان أهله قد جمَّعوا فيه، يجمِّعون، إلا مسجدين: مسجد الحرام، ومسجد المدينة. فقد نص على أن المسجد إذا كان له إمام راتب، كُره عقد الجماعة فيه قبل صلاة الإمام؛ لأنه يؤدي إلى تفريق الكلمة على إمام المسجد، وأن يتحلل الجماعة عنه، ولا يكره ذلك بعد صلاته؛ لأن هذا المعنى معدوم، وكره ذلك في ¬

_ (¬1) في الأصل: بعاد. (¬2) صوابه: أحمد بن الحسين بن حسان؛ فإني لم أقف على من أحد الرواة عن الإمام أحمد - رحمه الله - اسمه: الحسين بن حسان، سوى ما جاء في الفروع (1/ 44)، وهو خطأ من النساخ؛ لأن من ذكر الرواية نفسها؛ كابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 992)، ذكر اسمه الصحيح، وقد مضت ترجمته في (2/ 142).

المسجد الحرام، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الروايتين (¬1)؛ لئلا تتفرق الجماعات، والفضيلة تُحصل في توفيرها؛ لأن أهل مكة والمدينة يتوفرون للصلاة في هذين المسجدين دون غيرهما من الأماكن طلبًا لفضيلتهما، والفضلُ في توفر الجماعة الواحدة، وكثرة الجمع فيها، فلو أجزنا تكرر الجماعة، أدى ذلك إلى تقليل الجمع، وتفريقه، فيؤدي إلى فوات تلك الفضيلة، وهذا المعنى لا يوجد في سائر البلاد؛ لأنهم لا يتوفرون على مسجد واحد، وإنما قلنا: إن توفر الجماعة تحصل به فضيلة؛ لما روى أُبَيُّ بن كعب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة المرء مع الرجل أزكى من صلاته وحدَه، وصلاة المرء مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل (¬2)، وما كَثُر، فهو أحبُّ إلى الله - عز وجل -" (¬3)، ولأن كلما كثر الجمع، كان أكثر في التضرع والابتهال والدعاء، ويكون أرجى للإجابة، وإذا كان كذلك، لم يعلم ما ادعوه من النسخ. وأيضًا: بما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬4) بإسناده عن ¬

_ (¬1) ينظر: مسائل أبي داود رقم (336). (¬2) في الأصل: الرجلين، والتصحيح من سنن أبي داود. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في فضل صلاة الجماعة، رقم (554)، والنسائي في كتاب: الإمامة، باب: الجماعة إذا كانوا اثنين، رقم (843)، قال علي بن المديني: (ما أراه إلا صحيحًا). ينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 583). (¬4) رقم (19146).

عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وَقْعَ قدم (¬1)، وهذا دليل على جواز الانتظار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوِّل الركعة الأولى (¬2)؛ ليدرك الناس فضيلة الجماعة. فإن قيل: هذا الخبر متروك؛ لأن السنةَ التسويةُ بين الركعة الأولى، والثانية. قيل: ليس كذلك، بل عند أحمد - رحمه الله - (¬3): أن السنة أن يُطيل الأولى من الظهر؛ كما يُطيل في الأولى من الفجر انتظارًا لامرئ يجيء، فلو عرض الانتظار في الركعة الثانية، انتظر كما ينتظر في الأولى، ووجدت في جملة أخبار جمعها (¬4) أبو بكر الروشناني (¬5) عن جابر بن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في الظهر، رقم (802)، والحديث ضعيف. ينظر: المجموع (4/ 91)، والبدر المنير (4/ 410). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: يُطوّل في الركعة الأولى، رقم (779)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر، رقم (451). (¬3) ينظر: مسائل أبي داود رقم (266)، والإنصاف (4/ 328)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 418). (¬4) في الأصل: جمعا. (¬5) هو: أحمد بن موسى بن عبد الله بن إسحاق، أبو بكر الزاهد، المعروف بـ (الروشناني)، قال عنه الخطيب البغدادي: (نعم العبد كان، فضلًا وديانة وصلاحًا وعبادة)، توفي سنة 411 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (5/ 149).

عبد الله - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع، فسمع حِسًّا خلفه، لم يرفع رأسه حتى لا يسمع حسًا (¬1)، وهذا نص، وذكر أبو بكر النجاد في كتابه قال: نا أحمد بن يحيى (¬2) قال: نا يحيى بن عبد الحميد (¬3) قال: نا شريك عن أبي إسحاق قال: أدركتُ أئمة المساجد من الفقهاء وغيرهم من أصحاب عبد الله، وأصحاب علي - رضي الله عنهم -، إذا سمعوا خفق نعل رجل، والإمامُ راكع، انتظروه (¬4). وهذا يدل على إجماعهم، ولأنه انتظار على المأموم لإدراك الركعة في ذلك، فلم يكره؛ دليله: انتظاره على الطائفة الثانية في صلاة الخوف، ولأن في ذلك رفقًا بالداخلين، ومعرفةً لحقهم من غير إضرار بالباقين، فلم يكره. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - رضي الله عنه -: "إما أن تخفف بهم الصلاة، وإما أن تجعل الصلاة معنا" (¬5)، وإطالةُ الركوع لأجل الداخل ضد التخفيف. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ابن إسحاق، أبو جعفر البجلي الحلواني، نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - بعض المسائل، توفي سنة 276 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (5/ 212)، وطبقات الحنابلة (1/ 208). (¬3) ابن عبد الرحمن بن بشْمين، الحمَّاني الكوفي، قال ابن حجر: (حافظ، إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث)، توفي سنة 228 هـ. ينظر: التقريب ص 664. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) مضى تخريجه في (2/ 333).

والجواب: أن هذا محمول على الإطالة التي تلحق فيها المشتقة، نحو ما فعل معاذ - رضي الله عنه -؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأنه لو لم يكن للداخل، لكان يرفع، فإذا طوّل، فقد فعل جزءًا من الركوع لأجله، وهذا لا يجوز، ولهذا قال أبو حنيفة - رحمه الله- (¬1): أخاف أن يكون شركًا؛ أي: يكون قد شرك بين الخالق والمخلوق في العبادة. والجواب: أن الركوع لله تعالى، وإن كان يقصد به إدراك المأموم الركعة، وهذا كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل أن يصلي مع الذي فاتته الجماعة، فكانت صلاته لله تعالى، وإن كان يقصد أن يدرك صاحبه الجماعة، وكذلك الإمام يرفع صوته إذا كثرت الصفوف واتصلت؛ مثلما يكون يوم الجمعة في الجوامع، ولا يكون شرطًا، وإن كان قصد به الإعلام، كذلك ها هنا، وقد رُوي عن أحمد - رحمه الله - ما يشهد لهذا - ذكره أبو إسحاق في تعاليق كتاب العلل بإسناده - عن أبي بكر المروذي قال: قلت لأحمد: الرجل يدخل [المسجد] (¬2)، فيصلي، فيرى فيه قومًا، فيحسن صلاته، هل عليه في ذلك شيء؟ قال: لا، تلك بركة المسلم على المسلم (¬3). واحتج: بأن إطالة الركوع لأجل الداخل، فوجب أن يكره، كما لو ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 248). (¬2) ساقطة من الأصل، والاستدراك من الفروع (2/ 298). (¬3) ينظر: الفروع (2/ 298).

105 - مسألة: إذا صلى الكافر، حكم بإسلامه، سواء كان في جماعة، أو فرادى

أطال على الحاضرين، ولحقهم المشقة. والجواب: أنه إنما يكره ذلك؛ لما فيه من إلحاق الضرر، وها هنا لا ضرر عليهم، وفيه مراعاة لحقه، وتحصيل الجماعة له. واحتج: بأنه لما لم ينتظر في السجود، كذلك في الركوع وما قبله. والجواب: أنه لا فائدة للمأموم في الانتظار في السجود؛ لأنه لا يحتسب به غير فرضه، والله أعلم. * * * 105 - مَسْألَة: إذا صلى الكافر، حُكم بإسلامه، سواء كان في جماعة، أو فرادى: نص على هذا في رواية ابن مشيش (¬1)، والأثرم (¬2)، وبكر بن محمد (¬3)، - واللفظ لبكر -: في يهودي صلى بقوم وهم لا يعلمون: يُجْبر (¬4) اليهودي على الإسلام؛ لأنه قد صلى، فإن أبى، استتبته ثلاثًا، فإن تاب، وإلا، ضربت عنقه. فقد حكم بإسلامه، وعلل بأنه قد صلى، ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 506). (¬2) لم أقف على روايته، وينظر: مختصر ابن تميم (2/ 10)، والفروع (1/ 406)، والإنصاف (3/ 16). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 506). (¬4) في الأصل: بخبر، والتصويب من الانتصار (2/ 506).

وهذا التعليل يعم الجماعة والفرادى، وقال أيضًا في رواية أحمد بن نصر (¬1): إذا صلى، وشهد، أجبر على الإسلام (¬2). وظاهر هذا: أنه يجبر على ذلك، سواء صلى في جماعة، أو فرادى. وقال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬3): إن صلى بجماعة، أو في جماعة، حكم بإسلامه، وإن صلى فرادى، لم يحكم بإسلامه. وقال مالك (¬4)، والشافعي (¬5)، وداود (¬6) - رحمهم الله -: لا يحكم بإسلامه، سواء صلى بجماعة، أو فرادى. فالدلالة على أنه يحكم بإسلامه: ما ذكره شيخنا في كتابه عن المعتمر بن سليمان (¬7) عن أبيه (¬8)، ........................ ¬

_ (¬1) هو: أبو حامد الخفاف، مضت ترجمته. (¬2) ينظر: السنة للخلال (3/ 568). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 320)، وشرح فتح القدير (1/ 346). (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 297)، والتاج والإكليل (2/ 412). (¬5) ينظر: الأم (2/ 330)، والحاوي (2/ 333). (¬6) ينظر: الانتصار (2/ 507). (¬7) ابن طَرْخان التيمي، أبو محمد البصري، يلقب: (بالطفيل)، لم يكن من بني تيم، وإنما نزل والده فيهم، فنسب إليهم، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 187 هـ. ينظر: تهذيب الكمال (28/ 250)، والتقريب ص 601. (¬8) هو: سليمان بن طَرْخان التيمي، أبو المعتمر البصري، لم يكن من بني تيم، وإنما نزل فيهم، قال ابن حجر: (ثقة عابد)، توفي سنة 143 هـ. ينظر: =

عن الحضرمي (¬1)، عن أبي السوار (¬2)، عن جندب - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، [وأكل ذبيحتنا] (¬3) فهو المسلم، له ذمةُ الله وذمة رسوله" (¬4)، وروي في لفظ آخر: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، له مالنا، وعليه ما علينا" (¬5). فإن قيل: هذا لم يصلِّ صلاتنا؛ لأن صلاتنا أن يتقدمها في اعتقاد الإسلام. ¬

_ = تهذيب الكمال (12/ 5)، والتقريب ص 249. (¬1) ابن لاحق التميمي، اليماني، قال ابن حجر: (لا بأس به). ينظر: التقريب ص 155. (¬2) هو: حسان بن حُرَيث، أبو السوار العدوي، البصري، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 708. (¬3) ساقطة من الأصل، والاستدراك من المعجم الكبير. (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (1669)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 28): (رواه الطبراني في الكبير، وعبيد بن عبيدة التمار، لم أقف له على ترجمة)، وعبيد التمار، ثقة بصري يُغْرب. ينظر: علل الدارقطني (11/ 296)، ومعرفة علوم الحديث ص 230، والحديث أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، رقم (391) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬5) لم أجده بلفظ: (له مالنا، وعليه ما علينا)، وأخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، رقم (393) من قول أنس - رضي الله عنه - بلفظ: ( ... له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم).

قيل له: قول - عليه السلام -: "من صلى صلاتنا"، معناه: من صلى مثلَ صلاتنا في الهيئات، والأفعال؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لم يكن للخبر فائدة؛ لأنه إذا تقدمها الإسلام، كان مسلمًا قبل أن يصلي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم له بالإسلام إذا صلى، ولأنه لو كان كذلك، لصار تقدير الخبر كأنه قال: "من صلى صلاتنا وهو مسلم"، وهذا لغو في الكلام. فإن قيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم بإسلامه بالصلاة، وأكلِ الذبيحة جميعًا، وأنتم تعلقونه بفعل الصلاة، ولا تعتبرون الآخر. قيل له: لو خُلِّينا وظاهرَ الخبر، لجعلناهما شرطًا، إلا أنهم لما أجمعوا على سقوط اعتبار أحدهما، أسقطناه، واعتبرنا الآخر، ولم تقم الدلالة على سقوط اعتباره، ومن جهة النظر أنه فعل ما يختص به أهل الإسلام، فوجب أن يكون ظاهره دلالةً على الإسلام؛ كالشهادتين، والتبري من كل دين سوى دين الإسلام، ولا تجب عليه الزكاة، والصيام؛ لأنه لا يختص به أهل الإسلام؛ لأن أهل الذمة يزكون ويتصدقون كما يتصدق المسلمون، ويصومون كما يصوم المسلمون، ولا يلزم عليه الحج؛ لأنا لا نعرف الرواية عن أصحابنا - رحمة الله عليهم -، ولكن إن رأيناه يتجرد في إحرامه كما يتجرد المسلمون، ويطوف بالبيت، فذلك إسلام، وإن رأيناه كذلك في سوق أو غيره، فليس بإسلام؛ لأن هذا الفعل لا يختص به أهل الإسلام، والطواف بالبيت يختص به أهل الإسلام، وكذلك لو أذن في مئذنة، أو حيث يؤذن المسلمون للصلاة، فهو إسلام، وإن كان بحيث لا يؤذن للصلاة، احتمل أن لا يكون إسلامًا؛ لجواز أن

يكون مستهزئًا (¬1)، أو حاكيًا؛ كما رُوي أن أبا محذورة - رضي الله عنه - وأصحابه أذَّنوا في طريق حُنين على طريق الحكاية لمؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) فلم يجعل ذلك إسلامًا منهم. فإن قيل: الصلاة لا تختص شرعنا؛ لأنهم يصلون. قيل له: لا يصلونها على الصفات التي نصليها من ركوع واحد، وسجودين في كل ركعة، والأركان المشروعة فيها، والقبلة التي يتوجه إليها, ولأنه كافر صلى مثل صلاتنا، فوجب أن نحكم بإسلامه؛ كالمرتد إذا صلى في دار الحرب. فإن قيل: لا احتمال هناك، وفي دار الإسلام احتمال أن يكون فعلها تقيَّة. قيل: يبطل بالشهادتين، إذا فعلها في دارنا، يحتمل أن تكون تقية، ونحكم بإسلامه بفعلها، وأيضًا: فإن السِّيما (¬3) قد ثبت له حكم في الأصول، ألا ترى أنا إذا رأينا رجلًا عليه زُنَّارًا (¬4) ............... ¬

_ (¬1) في الأصل: مسترئًا. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (15376)، والنسائي في كتاب: الأذان، باب: كيف الأذان؟ رقم (632)، وابن ماجه في كتاب: الأذان، باب: الترجيح في الأذان، رقم (708)، والحديث حسنه الزيلعي في نصب الراية (1/ 223)، وصححه الألباني في صحيح النسائي. (¬3) هي: العلامة. ينظر: لسان العرب (سوم). (¬4) الزنار: ما يلبسه الذمي يشده على وسطه. ينظر: لسان العرب (زنر).

أو عسليًا (¬1)، فإنا نحكم بكفره في الظاهر، وكذلك قال أحمد - رحمه الله - في رواية علي بن سعيد (¬2): في الرجل يوجد مقتولًا في أرض العدو، وقد قطع رأسه، ولا يُدرى من المسلمين أم من العدو، يستدل عليه بالختان والثياب، فإن لم يعرف، لا يصلى عليه. فثبت أن للسيما حكمًا في هذه المواضع في باب الحكم بالإسلام والكفر، كذلك في مسألتنا، وبعضهم ينكر هذا, ولا يسلّمه (¬3). واحتج المخالف: بما رُوي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبي بكر - رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" (¬4)؟ وهذا لم يقل، فوجب أن يكون قتاله مباحًا. وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويصلوا صلاتنا، ويستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، فإذا فعلوا ذلك، حرمت ¬

_ (¬1) العسلي: لباس اليهود، وهو المائل إلى الصفرة كالعسل. الحاوي (14/ 326). (¬2) ينظر: قواعد ابن رجب (3/ 186). (¬3) في الأصل: ينكرا هذا, ولا نسلمه. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، رقم (1399)، ومسلم في كتاب: الإيمان, باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، رقم (20).

علينا أموالهم ودماؤهم إلا بحقها, ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين" (¬1). ورُوي: أن [ابن] (2) عمر - رضي الله عنه - قال: [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2): "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابُهم على الله تعالى" (¬3). وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرُم عليَّ دماؤهم وأموالهم، وحسابُهم على الله تعالى" (¬4)، فدل هذا على أن من شرط الإسلام تقديم الشهادتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، رقم (392)، وأبو داود في سننه، كتاب: الجهاد، باب: على ما يقاتل المشركون؟ رقم (2641)، واللفظ له. (¬2) ساقطة من الأصل، والاستدراك من صحيح البخاري. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان, باب: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} رقم (25)، ومسلم في كتاب: الإيمان, باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، رقم (22). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (8544)، واللفظ له، والبخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم (2946)، ومسلم في كتاب: الإيمان, باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، رقم (21).

والجواب: أن معناه: حتى يقولوا: لا إله إلا الله، أو ما يقوم مقامه؛ بدلالة ما قدمناه. واحتج: بأنه كافر لم يأت بالشهادتين، فلم نحكم بإسلامه بنفسه، أصله: إذا صام وزكّى، وفيه احتراز من الصبي، إذا حكم بإسلام أحد أبويه؛ لأنه تابع، ولم نحكم بإسلامه بنفسه، وإن شئت قلت: الصلاة من فروع الإسلام؛ لأنه لا تجب إلا بعد الإسلام، فلم نحكم بإسلامه بفعله؛ دليله: ما ذكرنا، وفيه احتراز من الشهادتين؛ لأنها أصل الدين. والجواب: أنه منتقض بما ذكره الشافعي - رحمه الله - في المرتد المكره (¬1)، وهو أنه قال (¬2): إذا شهد شاهدان على رجل أنهما سمعاه يرتد، وقالا: ارتد مُخَلًّى آمِنًا حين ارتد، [كانت] (¬3) تلك ردةً، وغُنم ماله إذا مات، وإن قال ورثته: [إنه] (¬4) رجع إلى الإسلام، لم يُقبل منهم إلا ببينة، فإن أقاموها أنهم رأوه بعد هذه الشهادة عليه بالردة يصلي صلاة المسلمين، قبلتُ ذلك منهم، وورثتهم ماله، فإن كان هذا في بلاد الإسلام، والمرتد ليس في حال ضرورة، لم أقبل هذا منهم حتى يشهد شاهدان بالتوبة بعد الردة؛ فقد صرح بأن صلاة المرتد في دار الحرب ¬

_ (¬1) في الأصل: الكثير، والتصويب من الأم (7/ 405). (¬2) ينظر كلام الإمام الشافعي - رحمه الله - في: الأم (7/ 406). (¬3) ساقطة من الأصل، والاستدراك من الأم (7/ 406). (¬4) في الأصل: ما، وبه يختل المراد، والتصويب من الأم (7/ 406).

يحكم بإسلامه بها، وإن صلى في دار الإسلام، لا يحكم بإسلامه، فإذا كان كذلك، كانت العلل منتقضة، وقد قال أبو الطيب (¬1) الطبري (¬2): الصحيح عندي: أنه يجب أن يكون الكافر الأصلي في دار الحرب مثل المرتد، ولا فرق بينهما، فإن احترزوا عن هذا، وقالوا: مقيم في دار الإسلام لم يأت بالشهادتين، فلم يحكم بإسلامه؛ كما لو صام وزكَّى، انتقض بمن لا يُعرف منه كفر متقدم، وقد رأيناه يصلي، فإنه يحكم بإسلامه، وعلى أنه لا تأثير لقولهم: في دار الإسلام في الأصل؛ لأنه لو صام أو زكى في دار الحرب، لم يحكم بإسلامه، فلا معنى لهذا، ثم المعنى في الأصل ما ذكرناه، وهو أنه لا يختص شرعنا، وهذا يختص شرعنا، فهو كالشهادتين. واحتج: بأن الصلاة دلالة على الإسلام، وليس بصريح في الإسلام، وإذا كان في دار الإسلام، احتمل أن يكون قد فعل للتقية، واحتمل أن يكون قد فعل تقربًا وتوددًا إلى المسلمين؛ كما كان أهل الذمة يصومون معهم شهر رمضان تقربًا إليهم، ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أشبه ذلك، ¬

_ (¬1) في الأصل: أبو طالب. (¬2) هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري الشافعي، قال الذهبي عنه: (الإمام، العلامة، شيخ الإسلام)، له كتب كثيرة، منها: شرح على مختصر المزني، توفي سنة 450 هـ، وقد جاء في ترجمته: أن من غرائبه: أن الكافر إذا صلى في دار الحرب، كانت صلاته إسلامًا. ينظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 528)، وسير أعلام النبلاء (17/ 668).

وهذا كما يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل فعلًا لا يدل على الوجوب، احتمل أن يكون فعله ندبًا، أو واجبًا، أو مباحًا، ويخالف هذا: إذا صلى في دار الكفر؛ لأنه قد زال عنه وجوه الاحتمال؛ لأنه لا يحتمل أن يكون تقية، ولا أن يكون تقربًا إلى المسلمين، فاستدل على إسلامه، واعتقاده له، ولا يلزم عليه الشهادتان؛ لأنها صريح، وليست بكناية، فهو كصريح الطلاق وكنايته. والجواب: أنه لا فرق بين الصلاة، وبين الشهادتين؛ لأن الشهادتين إنما هي دلالة على اعتقاده للإيمان؛ لأن الإيمان يحصل باعتقاده، والشهادة دلالة عليه، والصلاة بهذه المثابة دلالة على إيمانه، وقولهم: إن الشهادة صريح، ليس بصحيح من الوجوه التي ذكرنا. فإن قيل: فيقولون (¬1): إن هذه الصلاة صحيحة أم باطلة؟ قيل: في ظاهر الحكم نحكم بصحتها؛ لأننا قد بينا أنها يستدل بها على إسلام سابق؛ كما قالوا هم في الصلاة في دار الحرب في حق المرتد، ويحمل أمره على الصحة، وأن الإسلام قد سبق، وإن أخبرنا عن حاله، وقال: لم يتقدم هذه الصلاة إسلام، قلنا: هي باطلة؛ لعدم شرطها الذي هو الإيمان, ولكن يلزمه الإيمان, كما قلنا في صلاة المرتد في دار الحرب، إذا قال: لم يسبق مني إيمان، حكم ببطلانها، وحكم بإسلامه، لأننا لا نصدقه في ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: فتقولون.

فصل

واحتج: بأن كلَّ ما لا يكفر بتركه، لم يحكم بإسلامه بفعله؛ كالطهارة. والجواب: أنا لا نسلم الوصف؛ لأن عندنا: يكفر بتركها, ولا ينتقض بالشهادتين؛ لأنه لا يتركها، وإنما يكفر بجحدها، ويحكم بإسلامه بفعلها، وعلى أن الطهارة لا تختص شرعنا؛ لأن كل أحد يتطهر، ويتنظف، ولأن الطهارة من موانع العبادات. * فصل: والدلالة على أنه إذا صلى منفردًا في غير المسجد، أنه يحكم بإسلامه؛ خلافًا لأبي حنيفة: ما تقدم (¬1) من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى صلاتنا، فهو مسلم"، ولم يفرق بين أن يصليها منفردًا في غير المسجد، وفي جماعة، ولأن كل صلاة لو صلاها في جماعة، حكم بإسلامه بها، فإذا صلاها منفردًا، حكم بإسلامه. دليله: إذا صلاها في المسجد منفردًا، أو في جماعة (¬2). فإن قيل: إذا صلى منفردًا، لم يختص شرعنا؛ لأن أهل الذمة يصلون أيضًا، فأما الصلاة في جماعة، أو في مسجد، فإنه يختص شرعنا. قيل له: إذا صلى منفردًا، صلى كل ركعة منها بسجدتين على قبلتنا، فإن هذا يختص شرعنا، فيجب أن يحكم بإسلامه، وذهب المخالف إلى ¬

_ (¬1) في (2/ 363). (¬2) في الهامش مكتوب: [دليله: إذا صلى في المسجد منفردًا، قالوا: يحكم بإسلامه، ولأنه لو صلى مثل صلاتنا في الشرائط، فحكم بإسلامه، صح].

106 - مسألة: لا تصح إمامة الفاسق، سواء كان فسقه في اعتقاده، أو في أفعاله في أصح الروايتين

هذا السؤال، وقد أجبنا عنه، والله أعلم. * * * 106 - مَسْألَة: لا تصح إمامة الفاسق، سواء كان فسقه في اعتقاده، أو في أفعاله في أصح الروايتين: وقد نص على المنع من الصلاة خلف الفاسق في عدة مواضع، وصرح بالإعادة في رواية أبي الحارث (¬1)، فقال: لا تصلِّ (¬2) خلف الفاجر، ولا خلف مبتدع، ولا مرجئ، ولا رافضي، ولا فاسق، إلا أن تخافهم (¬3)، فتصلي، ثم أعد صلاتك. وقال أيضًا في رواية يعقوب بن بختان (¬4): إذا صليت خلف المبتدع، فأعد، قيل له: فتعيد أنت يوم الجمعة؟ قال: نعم. وقال أيضًا في رواية أبي داود (¬5) - وقد سئل: إذا صلى خلف رجل، ثم علم أنه يسكر؟ -، قال: يعيد، قال: أيهما صلاته؟ قال: التي صلَّى وحده. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 172)، والانتصار (2/ 465)، والمغني (3/ 18). (¬2) في الأصل: يصلي، والمثبت هو الصواب؛ لدلالة آخر الكلام عليه. (¬3) في الأصل: يخافهم. (¬4) ينظر: الانتصار (2/ 465). (¬5) في مسائله رقم (300).

فقد صرح بالإعادة، وبهذا قال مالك - رحمه الله - (¬1). وقال في كتاب السنة (¬2) فيما رواه حرب: والصلاة خلف كل بر وفاجر (¬3)، وقال أيضًا في رواية أبي الحارث (¬4) - وقد سئل عمن يغتاب الناس هل يصلَّى خلفه؟ -، فقال: لو كان كل من عصى الله لا يصلَّى خلفه، متى كان يقوم الناس (¬5) على هذا؟ وظاهر هذا: جواز إمامته، وهو قول أبي حنيفة (¬6)، والشافعي (¬7) - رحمهما الله -. ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 84)، والتلقين ص 89. (¬2) لم أجد رواية حرب في الكتاب المطبوع من السنة للخلال، وقد جاء فيه من رواية يوسف بن موسى (1/ 77)، وينظر: طبقات الحنابلة (1/ 389)؛ حيث نقل رواية حرب عن الإمام أحمد - رحمه الله - بالمنع من الصلاة خلف من يقدم عليًّا على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم -. (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 172)، والانتصار (2/ 466)، وشرح الزركشي (2/ 85)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 187). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 172)، والانتصار (2/ 466). (¬5) في الأصل: الساعة، والتصويب من الروايتين (1/ 172)، والانتصار (2/ 466)، وشرح الزركشي (2/ 85)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 187). وفي الروايتين (1/ 172)، وشرح الزركشي (2/ 85) جاءت الرواية بلفظ: (لو كان كل من عصى الله لا يصلَّى خلفه، من يؤم الناس؟ ). (¬6) ينظر: مختصر القدوري ص 78، وتحفة الفقهاء (1/ 361). (¬7) ينظر: الأم (2/ 326)، والحاوي (2/ 328).

والرواية الأولة: أصح، وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر عبد العزيز (¬1)، فقال الخرقي (¬2): ومن صلى خلف من يعلن ببدعة، أو بسكر (¬3)، أعاد، وقال أبو بكر: وإذا منع العلم أفعاله، بطلت الصلاة خلفه. والدلالة على أنه لا تصح إمامته: قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، فنفى المساواة بينهما، وهذا عام في الإمامة، وغيرها، إلا ما خصه الدليل. فإن قيل: المراد بهذا: الكافر. قيل له: هو عام في الكافر، والمسلم الفاسق، إلا ما خصه الدليل. وأيضًا: روى أبو بكر النجاد في كتابه بإسناده عن مرثد بن عبد الله الغنوي - رضي الله عنه -، - وكان بدريًا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن سرَّكم (¬4) أن تقبل صلاتُكم، فليؤمَّكم خيارُكم؛ فإنهم وفدُكم فيما بينكم (¬5) وبين ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 465). (¬2) في مختصره ص 56. (¬3) كذا في الأصل، وفي المختصر، وقد قال الزركشي في شرحه (2/ 90): (يجوز أن يكون بالباء الموحدة، عطفًا على: ببدعة. ويجوز أن يكون بالياء المثناة، ويكون من باب قولهم: الخطيب يشرب ويطرب؛ أي: هذا دأبه وسجيته، وظاهر كلام أبي محمد - يعني: الموفق -: أنه بالمثناة). (¬4) في الأصل: يسركم، والتصحيح من الحديث. (¬5) بياض في الأصل، والمثبت من سنن الدارقطني.

ربكم - عز وجل -" (¬1) وروى النجاد بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله القرشي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقدِّموا سفهاءكم في صلاتكم، ولا على جنائزكم؛ فإنهم وفدكم إلى الله - عز وجل -" (¬2). وروى النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليؤمَّكم خيارُكم، وليؤذِّنْ لكم قُرَّاؤكم" (¬3). وروى أبو بكر، وشيخنا بإسناده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر: "يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا إليه بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وبكثرة الصدقة في السر والعلانية، تُرزقوا وتُنصروا وتُجبروا ... " وذكر الخبر إلى أن قال: "ولا تؤمُّ المرأة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 328)، رقم (777)، والدارقطني في سننه، باب: نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه، رقم (1882)، وقال: (إسناد غير ثابت، وعبد الله بن موسى ضعيف). (¬2) مضى تخريجه في (2/ 340). (¬3) لم أجده بهذا اللفظ، وقد ذكر الجملة الأولى ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 231، وجاء عند أبي داود في سننه بلفظ: "ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم قرّاؤكم"، كتاب: الصلاة، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (590)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الأذان، باب: فضل الأذان، رقم (726)، وهو حديث ضعيف. ينظر: فتح الباري لابن رجب (3/ 473)، وتهذيب التهذيب (1/ 434).

رجلًا، ولا يؤمّن فاجر بَرًّا"، وفي لفظ آخر: "فاسق مؤمنًا، ولا أعرابي مهاجرًا، إلا أن يخاف سيفَه أو سوطه" (¬1)، فوجه الدلالة: قوله: "لا يؤمّن فاجر برًا"، وفي لفظ آخر: "فاسق مؤمنًا"، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. والقياس: أنه لا تصح شهادته لمعنى في دينه، فلا تصح إمامته، دليله: الكافر، وإن شئت قلت: لأنه فاسق في دينه أشبهَ الكافر. فإن قيل: ليس له صلاة صحيحة، وليس كذلك الفاسق؛ لأن له صلاة صحيحة. قيل له: ليس إذا صحت صلاته يجب أن تصح إمامته؛ كالمرأة تصح صلاتها، ولا تصح إمامتها للرجال، والعبد تصح صلاته، ولا تصح إمامته في الجمعة، والأمي تصح صلاته، ولا تصح إمامته، ولأنه نقص (¬2) يؤثر في الشهادة مع قدرته على التحمل، فأثر في الإمامة (¬3)؛ دليله: نقص الأنوثية، والرق، ويؤثر في إمامة الرجال، وفي إمامة الجمعة؛ ولا يلزم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: في فرض الجمعة، رقم (1081)، والطبراني في الأوسط (2/ 64)، رقم (1261)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، رقم (5570)، وذكر أن في سنده عبد الله بن محمد العدوي، منكر الحديث، وينظر: العلل للدارقطني (13/ 357)، والتلخيص (3/ 990). (¬2) في الأصل: بعض. (¬3) في الأصل: الإماه.

عليه العمى؛ لقولنا: مع قدرته على التحمل، ولأن الإمامة يتعدى حكمها إلى غيره، ولا تصح من الكافر، فكان من شرطها العدالة؛ كالشهادة، ولا يلزم عليه في حق نفسه؛ لأنها لا يتعدى حكمها، ولا يلزم عليه البيع، والوكالة؛ لأنه من الكافر تصح. فإن قيل: إنما لم تصح شهادة الفاسق؛ لأنه متهم في الشهادة بالزور ليجر إلى نفسه نفعًا بذلك، فهو غير متهم في باب الإمامة؛ لأنه لا يقع له في أن يصلي بغير طهارة، فلهذا المعنى لم يؤثر في إمامته ذلك. قيل له: يبطل بأخبار الديانات، والشهادة على رؤية الهلال، فإن الفسق ينافيهما، وإن لم تلحق التهمة، ولأنه قد يُتهم، يصلي بالناس ليستر على نفسه الفسق لتقبل شهادته، ويظن الناس قد رجع عما كان عليه، ولأنه يقصد إفساد صلاة غيره؛ لعلمه أنهم يردون شهادته وإمامته، ولأن من لا ينزع (¬1) عن الزنا وشرب الخمر لا ينزع عن أن يكون الخمر في ثيابه وفي فمه (¬2)، فالتهمة تلحقه في ذلك، فلا فرق بينهما، ولأنها إحدى الإمامتين، فنافاها الفسق؛ دليله: إمامة الكبرى، وليس لهم أن يقولوا: بل أكمل، ألا ترى أنه يعتبر فيها النسب، والذكورية، والحرية، والفقه؟ لأنه ليس يمتنع أن لا تعتبر هذه الشرائط في الإمامة في الصلاة، ويعتبر فيها العدالة؛ كالشهادة لا يعتبر فيها هذه الأشياء، ويعتبر فيها ¬

_ (¬1) في الأصل: يزع. (¬2) في الأصل: في فهمه.

العدالة، وكذلك أخبار الديانات، ولأنه ائتم بفاسق، فلم يصح الاقتداء به، كما لو لم يقرأ خلفه، وليس لهم أن يقولوا به لو كان عدلًا لم يصح الاقتداء به إذا لم يقرأ؛ لأنا لا نسلم لهم هذا، بل نقول: يصح الاقتداء به، فسقط هذا، ولا يلزم على هذا إذا ائتم فاسق بفاسق؛ لأنا لا نعرف الرواية، ولا يمتنع أن نقول: لا يصح؛ بخلاف الأمي يصح أن يؤم أميًا مثله، وكذلك المحدِث؛ لأن الأمي والمحدث لا يمكنه رفع ما هو عليه من النقص، والفاسق يمكنه رفع فسقه في الحال بالتوبة (¬1)، ولهذا المعنى قلنا: لا يجوز للمسافر سفر معصية أن يأكل الميتة، وإن كان سبب إباحتها الضرورة، وليس ذلك بمعصية؛ لأن السفر سبب في تلك الضرورة، ويمكنه قطعه بفسخ النية. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" (¬2)، وهذا عام في العدل، والفاسق. والجواب: أن الفاسق لا يدخل تحت هذا؛ لأن الكلام خرج من النبي - صلى الله عليه وسلم - مخرج الحث، والترغيب في الفضل، ومعلوم أن الفاسق لا يجب على أحد تقديمه، ولا يُرغب فيه؛ لأن عندهم تكره إمامته. واحتج: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬3)، والائتمام ممكن، فيجب أن تصح إمامته. ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 472)، وشرح الزركشي (2/ 90). (¬2) مضى تخريجه في (2/ 342). (¬3) مضى تخريجه في (1/ 241).

والجواب: أن المراد بهذا الخبر: بيان تلك الاختلاف (¬1) على الإمام، ألا ترى أنه قال: "إذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (¬2)، ولم يقصد بيان من تجوز إمامته؟ وعلى أنا نحمله على العدل؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بما روى أبو بكر في كتاب الجمعة بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله" (¬3). والجواب: أنا نحمل ذلك على العدل منهم، أو نحمل قوله: "صلوا خلف من قال"، بمعنى: صلوا على من قال: لا إله إلا الله؛ لأن حروف الصفات ينوب بعضها عن بعض، وقد ورد هذا مفسرًا في حديث آخر، فروى أبو بكر في كتاب الجنائز بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: الاختلافات. (¬2) مضى تخريج الجملة الأولى من الحديث في (2/ 272)، أما الجملة الثانية منه، فقد أخرجها مسلم في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، رقم (404)، قال البيهقي في معرفة السنن (3/ 75): (أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث، وأنها ليست بمحفوظة)، وينظر: علل ابن أبي حاتم (1/ 338)، والإلزامات والتتبع للدارقطني ص 239. (¬3) مضى تخريجه في (2/ 293، 294). (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: العيدين، باب: صفة من تجوز الصلاة معه، رقم (1761 و 1762)، وقال بعدها: (ليس فيها شيء يثبت)، وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 477).

واحتج: بما روى الدارقطني بإسناده (¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره (¬2)، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا فيما وافق الحق، وصلوا وراءهم". والجواب: أن هذا لا يصح، وقد قال يعقوب بن بختان: سئل أحمد - رحمه الله - عن هذا الحديث: "الصلاة خلف كل بر وفاجر" (¬3)، فقال: ما سمعنا بهذا (¬4). ولو صح، فتأويله ما تقدم من أن المراد به: صلِّ على [كل] (¬5) بر وفاجر، وقد قيل: المراد به: صلاة الجمعة، ويعيد الصلاة. واحتج: بأنه إجماع الصحابة، والتابعين - رضي الله عنهم -، فروي عن ابن عمر، وأنس - رضي الله عنهم -: أنهم كانوا يصلون خلف الحجاج (¬6). ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: العيدين، باب: صفة من تجوز الصلاة معه، رقم (1759)، والحديث ضعيف، في سنده عبد الله بن محمد بن يحيى، وهو متروك. ينظر: التحقيق (4/ 36)، والبدر المنير (4/ 458). (¬2) في الأصل: ببر، والتصويب من سنن الدارقطني. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: العيدين، باب: صفة من تجوز الصلاة معه، رقم (1765)، وقال بعدها: (ليس فيها شيء يثبت)، وقد ذكر المؤلف استنكار الإمام أحمد - رحمه الله - له. (¬4) ينظر: الانتصار (2/ 469)، والتحقيق (4/ 39)، وشرح الزركشي (2/ 88)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 184). (¬5) في الأصل: صلي على بر وفاجر. (¬6) أما أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - في صلاته خلف الحجاج، فقد كان بعرفة كما ذكره =

وروى جعفر بن محمد [عن أبيه] (¬1): أن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - كانا يصليان خلف مروان (¬2)، قال: فقالا: ما كانا يصليان إذا رجعا إلى منازلهما، فقال: لا والله! ما كانا يزيدان على صلاة الأئمة (¬3). والجواب: أنه قد رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن صلى خلف ¬

_ = البخاري في صحيحه في كتاب: الحج، باب: التهجير بالرواح يوم عرفة، وباب: الجمع بين الصلاتين بعرفة، وباب: قصر الخطبة بعرفة، رقم (1660 و 1662 و 1663)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7641)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة خلف من لا يحمد فعله، رقم (5301). أما أثر أنس - رضي الله عنه - في الصلاة خلف الحجاج، فقد أخرجه عمر بن شبة في كتاب: أدب السلطان، بإسناده عن عمرو بن هرم قال: كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يأتي الحجاج، فيصلي معه الجمعة، ذكر ذلك ابن رجب في الفتح (5/ 427)، ولم أقف على كتاب ابن شبة، ولا على إسناده، وعمرو (ثقة)، ولم يدرك أنسًا. ينظر: تهذيب الكمال (22/ 276). (¬1) ساقطة من الأصل، وجعفر هو: ابن محمد بن علي بن الحسين، مضت ترجمته. (¬2) ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الملك الأموي، ولي الخلافة سنة 64 هـ، توفي سنة 65 هـ. ينظر: التقريب ص 585. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (3801)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7642)، واللفظ له، والبيهقي في الكبرى، في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة خلف من لا يحمد فعله، رقم (5303)، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (2/ 304).

الحجاج، وأعاد (¬1). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن حبيب بن عمر (¬2) قال: حدثني أبي (¬3) قال: سألت واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - عن الصلاة خلف القدري؟ فقال: لا تصل خلفه، ولو صليتُ خلفه، أعدتُ صلاتي (¬4). وإذا كان كذلك، احتمل أن تكون صلاتهم تقية، وأعادوها، ويبين صحة هذا: أنه قيل للقاسم بن محمد - رحمه الله -: أنت تنهى عن الصلاة خلفهم وتصلي؟ فقال: أنا إذا تأخرت، قيل: تأخر القاسم، وأنت فلا تعرف (¬5). وهذا يدل على أن حضوره كان تقية، وتأولوا في ذلك ما روى أبو ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (7678) عن علي الأزدي قال: أخّر الحجاج الصلاة بعرفة، فصلى ابن عمر في رحله، وثَمّ ناسٌ وُقُفٌ، قال: فأمر به الحجاج، فنُخِسَ به. (¬2) الأنصاري، قال أبو حاتم: (ضعيف الحديث مجهول). ينظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 105)، والعلل للدارقطني (2/ 71)، وميزان الاعتدال (1/ 455). (¬3) عمر الأنصاري، قال الهيثمي في المجمع (2/ 67): (عمر لم أعرفه). (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 53) رقم (124)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 807)، وهو أثر ضعيف. ينظر: فتح الباري لابن رجب (4/ 185). (¬5) لم أقف عليه.

ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر! كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة؟ "، قال: قلت: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال: "تصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصلها، فإنها لك نافلة" (¬1)، وقد تأول أحمد - رحمه الله - هذا الحديث في حضور الجمعة في رواية المروذي (¬2)، وقد سئل: إيش الحجة في يوم الجمعة أن أحضر وأنا أعتقد أن أعيد؟ فاحتج: بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يكون عليكم أمراء" (1). واحتج: بأن كل من صحت صلاته صحت إمامته؛ كالعدل. والجواب: أنه لا يمتنع أن تصح صلاته، ولا تصح إمامته؛ كالمرأة تصح صلاتها، ولا تصح إمامتها؛ كالمرأة بالرجل، والعبد تصح صلاته الجمعة مأمومًا، ولا تصح إمامًا، وكذلك الأمي، وكذلك الفاسق يصح أن يلي في ماله، ولا يصح أن يلي في مال غيره، وكذلك يقبل في النكاح لنفسه، ولا يزوج غيره، وأما العدل، فتصح شهادته، وليس كذلك ها هنا، لا (¬3) تصح شهادته لمعنى في دينه، أشبه الكافر. واحتج: بأن كل من انعقدت به الجمعة، صحت إمامته؛ كالعدل، ومعناه: أنه لو كان واحدًا من العدد فاسقًا، صحت الجمعة، كذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: المساجد، باب: كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار، وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام، رقم (648). (¬2) ينظر: الفروع (3/ 20)، وشرح الزركشي (2/ 88). (¬3) في الأصل: لا لا.

إذا كان إمامًا. والجواب: أنه ليس إذا انعقدت به الجمعة جاز أن يكون إمامًا؛ بدليل: أن المرأة تنعقد بها جماعة الرجل، وكذلك الأمي تنعقد به الجمعة، ومع هذا، فلا يصح أن يكون إمامًا فيها، وأما العدل، فقد أجبنا عنه. واحتج: بأن من جاز أن يكون إمامًا في الجمعة، جاز أن يكون إمامًا في غيرها؛ دليله: العدل. [والجواب] (¬1): أن في ذلك روايتين: إحداهما: تنعقد، نص عليه في رسالته (¬2) التي رواها عبدوس بن مالك العطار، فقال: ودفع الصدقات إليهم جائزة، برًا كان أو فاجرًا، وصلاة الجمعة خلفه جائزة، ومن أعادها، فهو مبتدع (¬3). وفيه رواية أخرى: لا تنعقد إمامته في الجمعة، بل يتبع فيها، ويعقد الصلاة (¬4)، وقد نص أحمد على هذا في مواضع: في رواية يعقوب بن بختان (¬5)، والمروذي (¬6)، وغير ذلك. وقال في رواية بكر بن محمد ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من الأصل، وبه يستقيم الكلام. (¬2) المشهورة باسم: أصول السنة. (¬3) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 176)، وطبقات الحنابلة (2/ 170 و 171). (¬4) أي: يعيدها. (¬5) ينظر: الانتصار (2/ 465 و 475). (¬6) ينظر: الانتصار (2/ 475)، والفروع (3/ 20)، وشرح الزركشي (2/ 88).

عن أبيه (¬1) عنه: أنا أصلي الجمعة، ثم أقوم فأصلي الظهر أربعًا، فإن كانت تلك الصلاة فرضًا، فلا تضر صلاتي، وإن لم تكن، كان تلك الصلاة ظهرًا أربعًا، وكذلك روى عنه أبو طالب (¬2) - وقد سأله: أيما أحبُّ إليك: أصلي قبل الصلاة، أو بعدها؟ -، فقال: بعد الصلاة، ولا أُصلي قبل. وقال أيضًا في رواية الفضل بن زياد (¬3): لا يصلَّى خلف الجهمي، إلا أن تكون الجمعة، فإذا صليت خلفه، فأعد الصلاة. فقد نص على اتباعهم؛ للخبر الذي رواه أبو ذر - رضي الله عنه - (¬4). ولأن الجمعة من أعلام الدين الظاهرة، وتختص بإمام، فلم يتركها؛ لئلا يؤدي إلى تعطيلها، ويعيد الصلاة؛ لأن الفرض لم يسقط بها، ويفعل الظهر بعد صلاة الجمعة، إلا أنه إذا صلى الظهر قبل الجمعة، وقع الفرض مختلفًا في صحته؛ لأن من الناس [من] يرى جواز إمامة الفاسق، فيؤدي إلى أن يصلي الظهر مع قدرته على الجمعة، فإذا صلى الفوات، خرج من الخلاف، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * ¬

_ (¬1) محمد بن الحكم، ينظر في روايته: الفروع (3/ 21)، والإنصاف (4/ 360). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 475)، والفروع (3/ 21)، والإنصاف (4/ 360). (¬3) ينظر: شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين ص 29. (¬4) مضى في (2/ 383).

107 - مسألة: القارئ أولى بالإمامة من الفقيه، وهو أن يكون أحدهما يحسن جميع القرآن، ومن الفقه ما يتعلق بأحكام الصلاة، والآخر يحسن من القرآن ما يجزئ به الصلاة، ومن الفقه شيئا كثيرا

107 - مَسْألَة: القارئ أولى بالإمامة من الفقيه، وهو أن يكون أحدهما يحسن جميع القرآن، ومن الفقه ما يتعلق بأحكام الصلاة، والآخر يحسن من القرآن ما يجزئ به الصلاة، ومن الفقه شيئًا كثيرًا: نص عليه في رواية صالح (¬1)، وعبد الله (¬2): في رجلين: أحدُهما: حافظ القرآن، ولا فقه له، والآخر ليس بحافظ، وهو فقيه؟ قال: يؤمهم أقرؤهم للقرآن (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4)، ومالك (¬5)، والشافعي (¬6) - رضي الله عنهم -: الفقيه أولى. دليلنا: ما روى أبو بكر في كتابه باسناده عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله - عز وجل -، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمُهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء، فأقدَمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأكبرُهم سنًا" (¬7)، وهذا نص. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (536). (¬2) في مسائله رقم (525). (¬3) ينظر: تهذيب الأجوبة (2/ 882)، والهداية ص 97، والإنصاف (4/ 335). (¬4) ينظر: مختصر القدوري ص 78، والهداية (1/ 56 و 57). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 83)، والتلقين (1/ 181). (¬6) ينظر: مختصر المزني ص 38، والحاوي (2/ 352). (¬7) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (673).

فإن قيل: محمول على أنهم تساووا في الفقه، وانفرد بعضهم بالقرآن؛ لأن القوم كانوا يتعلمون القرآن بأحكامه. قيل له: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أن هذا الكلام لم يخرج مخرج المواجهة للصحابة - رضي الله عنهم -، وإنما هو خطاب عامٌّ لهم ولغيرهم. والثاني: أنه رتب، فقال - عليه السلام -: "فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة"، فعلم أن أول الخبر لم يقتض مساواتهم في الفقه. وأيضًا: روى أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليؤذِّنْ لكم خيارُكم، وليؤمَّكُم أقرؤكم" (¬1). وروى أيضًا باسناده عن عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - قال: كنا بحاضر يمرُّ بنا الناس إذا أتوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا إذا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كذا، وكنت غلامًا حافظًا، فحفظت من ذلك قرآنًا كثيرًا، فانطلق أبي وافدًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه، فعلَّمهم الصلاة، وقال: "يؤمُّكم أقرؤكم"، فكنت أقرأهم؛ لما كنت أحفظ، فقدَّموني، فكنت أؤمهم وعليَّ بردةٌ ... الخبر (¬2). وروى أيضًا بإسناده عن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانوا ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 375). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 150).

ثلاثة، فليؤمَّهم أحدُهم، وأحقُّهم بالإمامة أقرؤهم" (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله - عز وجل -" (¬2). ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. روى النجاد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين، وأصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار - رضي الله عنهم - في مسجد قباء، منهم (¬3): أبو بكر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة - رضي الله عنهم - (¬4). وروى بإسناده في لفظ آخر عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قال: لما قدم المهاجرون، نزلوا العقبة قبل مقدَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم (¬5) قرآنًا، وفيهم عمر بن الخطاب، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (672). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (3810) بلفظ: "لا يؤم القوم إلا أقرؤهم"، وأخرجه أحمد في المسند رقم (12665) بلفظ: "يؤم القوم أقرؤهم للقرآن"، وفي إسناده عبد الملك شيخ ابن جريج، قال أبو حاتم: (مجهول). ينظر: العلل لابن أبي حاتم رقم (476). (¬3) كذا في الأصل، وفي صحيح البخاري: (فيهم). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: استقضاء الموالي واستعمالهم، رقم (7175). (¬5) في الأصل: أكثر، والتصويب من صحيح البخاري.

وأبو سلمة بن عبد الأسد (¬1) - رضي الله عنهم - (¬2). وأيضًا: فإن القارئ ساوى الفقيه في معرفة ما يلزم فعله من أركان الصلاة، وانفرد بزيادة القراءة، وتلك الزيادة يؤتى بها في الصلاة على وجه الاستحباب؛ لأن ما زاد على القادر مستحب، والفقيه انفرد بمعرفة أحكام السهو إذا طرأ عليه، وذلك المعنى غير متحقق وجوده؛ لأنه يمكنه أن يتحفظ منه، وكثير ممن لا يسهو، فيجب أن يحمل أمره على السلامة، فكانت مزية القارئ أولى؛ لأنه قد يحتاج إليها لا محالة، وتلك المزية لا يحتاج إليها، فعلى هذا: إذا كان أقرأ من غيره، قُدِّم، سواء كان يختم القرآن، أو لا يختمه بعد أن يزيد على غيره في الحفظ، ولأن الفقه ليس بشرط في صحة الصلاة، فلا يتقدم على القارئ، أصله: الشرف، والسن. واحتج المخالف: بما روى النجاد بإسناده عن عقبة بن عامر (¬3) - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليؤم القومَ أعلمُهم بالسنة، فإن كانوا في السنة ¬

_ (¬1) في الأصل: عبد الله الأسد، والتصويب من سنن أبي داود. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إمامة العبد والمولى، رقم (692)، وأبو داود في سننه، أبواب الإمامة، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (588)، واللفظ له، وينظر: حاشية رقم (4) من الصفحة الماضية؛ حيث إن البخاري ذكر بعض أسماء الصحابة الذين أمَّهم سالم - رضي الله عنهم -، ومنهم: عمر، وأبو سلمة. (¬3) كذا في الأصل، ولعله: عقبة بن عمرو، وهو اسم الصحابي الجليل: أبو مسعود - رضي الله عنه -.

سواء، فأقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا سواء، فأقدمهم سنًا، ولا يؤم أحدًا في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه" (¬1). والجواب: أن أبا بكر عبد العزيز روى بإسناده عن عقبة بن عامر (¬2) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن، وأقرؤكم لكتاب الله، فإن كانت القراءة واحدة، فأقدمكم هجرة، فإن كانت الهجرة واحدة، فأقدمكم سنًا" (2)، وإذا اختلف لفظ الحديث، كان ما رويناه أولى؛ لأنه يعضده حديث أبي مسعود، وغيره من الأخبار التي ذكرناها، ويعضده إجماع الصحابة. واحتج: بأن الصلاة تنوب فيها أحوال من ترك مفروض، ومسنون، ومستحب، وسهو، فيحتاج الإمام أن يكون فقيهًا؛ ليعرف كيف يتخلص من ذلك. والجواب: أنا قد بينا أن ما يطرأ من السهو مظنون، وفضيلة القراءة ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وقد أخرج الطبراني في الكبير رقم (617)، (17/ 224)، والدارقطني في سننه، باب: من أحق بالإمامة؟ رقم (1085) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم الناس أقدمهم هجرة، وإن كانوا في الهجرة سواء، فأفقههم في الدين، وإن كانوا في الدين سواء، فأقرؤهم للقرآن، ولا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه"، قال ابن حجر: (فيه ضعف). ينظر: الدراية (1/ 168)، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (606 و 619)، (17/ 220 و 224).

108 - مسألة: إذا افتتح الصلاة منفردا، ثم ائتم بغيره، فسدت صلاته في أصح الروايتين

متحققة، فكان المتحقق أولى، والله أعلم. * * * 108 - مَسْألَة: إذا افتتح الصلاة منفردًا، ثم ائتم بغيره، فسدت صلاته في أصح الروايتين: نص عليها في رواية حنبل (¬1): في رجل دخل المسجد، فصلى ركعتين أو ثلاثًا ينوي الظهر أو العصر، ثم جاء مؤذن فأذن وأقام: لم يدخل معهم، فإن دخل معهم في الصلاة، لم تجزئه حتى ينوي بها الصلاة مع الإمام ابتداء الفرض (¬2). وبهذا قال أبو حنيفة (¬3)، ومالك - رحمهما الله - (¬4). وعنه رواية أخرى: تجزئه، وتصح صلاته، نص عليه في رواية بكر بن محمد عن أبيه، عنه (¬5): إذا صلى ركعتين من فرض، ثم أقيمت الصلاة، فإن شاء دخل مع الإمام، فإذا صلى ركعتين، سلم، وأعجبُ ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 175). (¬2) ينظر: الهداية ص 95، والمغني (3/ 75)، والفروع (2/ 144)، والإنصاف (3/ 376)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 74). (¬3) ينظر: التجريد (2/ 855)، وبدائع الصنائع (1/ 612). (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 298)، ومواهب الجليل (2/ 458). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 176)، وبدائع الفوائد (3/ 957).

إليَّ أن يقطع الصلاة، ويدخل (¬1) مع الإمام (¬2). فظاهر هذا جوازُ ذلك. واختلف أصحاب الشافعي في تحصيل مذهبه (¬3)، فقال المزني (¬4): إن ائتم به قبل أن يركع، أجزأه، وإن ائتم به بعد أن ركع، لم يجزئه، ومنهم من قال: قبل الركوع قولان، وبعد الركوع قول واحد: لا يجوز. دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تختلفوا على إمامكم" (¬5)، وهذا قد اختلف عليه حين كبّر قبله، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولأن تحريمته سبقت تحريمة الإمام، فلم يصح ائتمامه به؛ كما لو أراد أن يدخل مع الإمام في الصلاة، فكبر قبله، وقال لي أبو بكر الشامي (¬6): في هذا الأصل قولان كمسألتنا، ولا فرق بينهما، وقال: هذا منصوص ¬

_ (¬1) في الأصل: يدل، والتصويب من الروايتين (1/ 176)، والبدائع (3/ 957). (¬2) ينظر: مختصر ابن تميم (2/ 262)، والإنصاف (3/ 376). (¬3) ينظر: الأم (2/ 345)، والحاوي (2/ 337)، والمهذب (1/ 306)، ونهاية المطلب (2/ 389)، والبيان (2/ 375). (¬4) لم أجده، وينظر قريب منه من كلام الشافعي في: مختصر المزني ص 37. (¬5) مضى تخريجه في (1/ 470). (¬6) هو: محمد بن المظفر بن بكران بن عبد الصمد الحَمَوي، المعروف بـ (أبي بكر الشامي)، قال الذهبي: (الإمام المفتي، شيخ الشافعية)، من مؤلفاته: البيان في أصول الدين، توفي سنة 488 هـ. ينظر: الأنساب (2/ 267)، وسير أعلام النبلاء (19/ 85)، وتبصير المنتبه لابن حجر (2/ 801).

لنا، وعلى أنه ينتقض بالمسبوق بثلاث ركعات إذا استخلف، فإنه يصلي بهم ما بقي عليهم، وإن كان تحريم المأمومين قد سبقت تحريمته، ولأنه ركن سبق به الإمام، فلم يعتد له به من غير عذر، أصله: من فرغ من ركوعه قبل إمامه، تبين صحة هذا: أن التكبير آكد؛ لأنه يدخل به في الصلاة، والركوع يدخل في إثباتها، ولا يلزم عليه إذا استخلف مسبوقًا أنه يصير إمامًا له وقد سبقه بأركان، هناك عُذر في الاستخلاف. وقيل: إن صلاة المنفرد مخالفة لصلاة المأموم؛ لأن المنفرد يلزمه حكم سهوه، والمأموم لا يلزمه حكم سهوه، ويلزمه حكم سهو غيره، والمنفرد لا يلحق فساد صلاته من جهة غيره، والمأموم تلحق فساد صلاته تارة من جهته، وتارة من جهة غيره - وهو الإمام - أخرى، وإذا ثبت اختلاف الصلاتين، قلنا: إذا افتتح الصلاة منفردًا، فقد انعقدت صلاته على صفة من الصفات، وجهة من الجهات، فلم يجز له أن يصرفها بنية إلى جهة أخرى مخالفة لها؛ كما لو افتتح صلاة الجمعة، لم يجز له أن يصرفها بنيته إلى الظهر، وكذلك لو افتتح الظهر، لم يجز له أن يصرفها إلى الجمعة، والنفل إلى الفرض، وهذا ينتقض على أصلنا بالمسافر، له أن يصرف صلاته من الجهة التي انعقدت عليها إلى جهة أخرى مخالفة لها؛ بأن يجعلها صلاة مقيم، وإن كانا مختلفين، وكذلك المستخلف يصرف صلاته عن الجهة التي انعقدت، وهي كونه مأمومًا إلى جهة أخرى مخالفة لها، وهي كونه إمامه، وكذلك المفترض له صرفها إلى النفل - وهي جهة أخرى - إذا حضرت جماعة، وكان قد أحرم بها منفردًا،

يصيّرها نافلة، ويسلِّم؛ ليدخل معهم في الفرض، ولكن يمكن أن يقال: أحرم بالصلاة الفرض منفردًا، فلم يجز له صرفها إلى الجماعة، أو نقول: فلم يصح أن يصير مأمومًا فيها؛ دليله: إذا أحرم منفردًا، ثم قلبها إلى الجمعة، فصار مأمومًا. فإن قيل: إنما لم يصح ذلك في الجمعة؛ لأن من شرط الإحرام وجودَ الجماعة في عدد مخصوص، وهذا معدوم في غيرها. قيل له: الظهر والعصر ليس من سر الإحرام بها الجماعة، ولا يصح بناء إحداهما على الأخرى، وعلى أن كون الجماعة شرطًا لا يمنع أن يكون منفردًا في بعضها؛ كآخرها، وهو المسبوق بركعة. فإن قيل: إنما لم يجز أن يبني الظهر على صلاة الجمعة؛ لأنه ينقل الكاملة - وهي الظهر - إلى الناقصة في عدد الركعات - وهي الجمعة -، فلهذا لم يجز، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه ينقل الناقصة - وهي الانفراد - إلى الكاملة - وهي الجماعة -، فلهذا جاز، ألا ترى أن المسافر: يجوز له أن ينقل صلاة السفر - وهي الناقصة - إلى التامة - وهي صلاة الحضر -، ولا يجوز له نقل الإتمام إلى القصر؛ لنقصانها، ولهذا نقول في العبد، والمرأة، والمسافر: إذا أحرموا بالجمعة خلف الإمام، جاز لهم نقلها إلى الظهر؛ لأنه نقل من نقصان إلى تمام، وأما الظهر، والعصر، فإنهما صلاتان مختلفتان، فلهذا لم يجز صرف إحداهما إلى الأخرى، وليس كذلك ها هنا؛ لأنها صلاة واحدة، فلهذا جاز بناء إحداهما على الأخرى.

قيل له: فإذا بنى الفرض على نية النفل، نقل الناقص - وهي النفل - إلى الكامل - وهي الفرض -، ولا يجوز، وكذلك إذا بنى الجمعة على نية الظهر مع بقاء الوقت، لم يجز، وإن كان قد نقل الناقصة في عدد الركعات إلى الكاملة، وهي الظهر، ولأنه لو بنى الظهر على العصر، أو العصر على الظهر، لم يجز، وإن كانا سواء في الكمال، فلم يصح هذا، وأما قوله: إن الظهر والعصر صلاتان مختلفتان، فقد بينا أن الجماعة، والانفراد مختلفان في الأحكام أيضًا، فلا فرق بينهما. فإن قيل: إحدى الصلاتين لا يجوز أداؤها بنية الأخرى، فإذا صرف إحداهما إلى الأخرى، بطلت نية الأولى، ولم تحصل نية الأخرى، ومن شرط النية: أن تحصل من أولها، فتبطل صلاته، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن نية الجماعة والانفراد واحدة، فلم يضره أن يبتدئها جماعة، ثم ينفرد عنها. قيل له: قد يجوز أداء النافلة بنية الفرض، ألا ترى أنه لو دخل في صلاة على أنها عليه، ثم تبين أنها ليست عليه، صارت تطوعًا، وله أن يؤديها بتلك النية؟ وكذلك يجوز أداء الظهر بنية الجمعة عند مخالفنا؛ مثل: أن يخرج الوقت وهو في الجمعة: أنه يصلي الظهر بتلك النية، فبطل ما قاله. واحتج المخالف: بما رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح بالناس الصلاة، ثم ذكر أنه جنب، فقال: "على رِسْلِكم"، ودخل منزله فاغتسل، ثم خرج

ورأسه يقطر ماء، وصلى بهم (¬1)، فوجه الدلالة منه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح بهم الصلاة وهو جنب، فلم تنعقد، وانعقدت صلاةُ القوم، وكانوا منفردين، ثم جاء واستأنف التكبير، وصلى بهم. والجواب: أنا قد بينا - فيما تقدم - (¬2) أن القوم لم يكونوا قد كبروا، على أن مخالفنا يقول: إذا كان الإمام حاضرًا، وكبر القوم، واقتدوا به، ثم كبر الإمام بعد ذلك: أنه لا يصح اقتداؤهم به؛ لأنهم قد اقتدوا بمن ليس في الصلاة، فكيف يحتج بهذا الخبر في مسألتنا؟ واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر - رضي الله عنه - ليصلي بالناس، فتقدَّم وكَبَّر، ثم وجد خفَّة، فخرج وتقدم، فصار النبي - صلى الله عليه وسلم - إمامًا، [و] أبو بكر - رضي الله عنه - مأمومًا (¬3)، وكذلك القوم، وقد كان سبق تكبيرُهم تكبيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك، فقد اقتدوا به. والجواب: أن القوم كبروا بتكبير الإمام، ثم خرج الإمام عن الإمامة بعذر، وهو خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاز لأبي بكر - رضي الله عنه - والقوم أن يقتدوا؛ كما نقول في الإمام إذا افتتح بالناس الصلاة، ثم سبقه الحدث، فاستخلف رجلًا من القوم: أن لهم أن يقتدوا به على إحدى الروايتين، فإذا كان كذلك، قلنا بموجبه، ولم يكن فيه دلالة على موضع الخلاف. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 491). (¬2) في (1/ 492). (¬3) مضى تخريجه في (1/ 502).

فإن قيل: فأي عذر هناك، وقد كان يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي وراء أمته، وقد صلى وراء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (¬1)؟ قيل له: العذر كان في حق أبي بكر - رضي الله عنه - الذي كان إمامًا، ولم نقل: إن العذر في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عذرًا في حق أبي بكر، وهو امتناعه من التقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال: لم يكن لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (¬2). واحتج: بأن للصلاة طرفين: الابتداء، والانتهاء، ثم جاز أن تكون صلاته في الطرف الأول في جماعة، وفي الطرف الثاني منفردًا، وهو أن يفتتح الصلاة خلف الإمام، وقد سبقه بركعة، ففرغ الإمام قبله: أنه يقضي الركعة وحده، كذلك يجوز أن يكون في الطرف الآخر، وهو الأول: منفردًا، وفي الثاني: جماعة. والجواب: أنا نسوي بين الطرف الثاني، وبين الطرف الأول في الحكم الذي تنازعنا فيه؛ لأن الخلاف فيمن افتتح (¬3) الصلاة منفردًا، ثم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، ولم يخافوا مفسدة بالتقديم، رقم (274). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: من دخل ليؤم الناس، فجاء الإمام الأول، فتأخر الأول أو لم يتأخر، جازت صلاته، رقم (684)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم، رقم (421). (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: يفتتح.

يصرفها بنيته عن الجماعة التي انعقدت عليها، فينفرد بها عن الإمام لغير عذر: أن صلاته تفسد أيضًا، فأما إذا كان مسبوقًا بركعة، فصار منفردًا بعد فراغ الإمام، فليست هذه من مسألتنا في شيء؛ لأن صلاته انقلبت في الثاني عن الجهة التي انعقدت في الابتداء إلى جهة أخرى مخالفة لها من طريق الحكم، وهذا لا يدل على جواز نقلها بنيته عن الجهة التي انعقدت إلى جهة أخرى مخالفة لها من طريق الحكم، ألا ترى أن من افتتح الجمعة جاز أن تصير صلاته في الثاني ظهرًا عند مخالفنا من طريق الحكم، وهو أن يخرج الوقت، فيبني الظهر على تحريمة الجمعة؟ ولو أراد أن ينقل صلاته بنيته إلى الجمعة، أو الجمعة إلى الظهر، لم يصح، وكذلك من دخل في الظهر، جاز أن تصير صلاته نفلًا من طريق الحكم، وهو أن يتبين له بعد ما دخل فيها بنية الظهر أنه كان صلاها: أنها تصير نافلة، ويجوز له أن يبنيها على تحريمة الفرض، ولو افتتح صلاة نافلة، ثم [أراد] (¬1) أن يصرفها بنيته إلى الفرض، أو الفرض إلى النافلة لغير عذر، لم يصح. وجواب آخر، وهو أصح، : أنه إنما صار منفردًا في آخر الصلاة لعذر، وهو خروج الإمام من صلاته، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا، وللعذر تأثير على ما نبينه فيما بعد - إن شاء الله تعالى -. واحتج: بأنها صلاة واحدة خير في فعلها بين صفتين لا تختلفان ¬

_ (¬1) ليست موجودة في الأصل، وبها يستقيم الكلام.

109 - مسألة: فإن افتتح الصلاة منفردا، ثم صار إماما، فسدت صلاته في أصح الروايتين

في العدد، إذا أحرم بها على إحدى الصفتين، جاز له نقلها إلى الأخرى، أصله: إذا أحرم بصلاة التطوع قائمًا، وصلى ركعة، جاز له أن يصلي الأخرى قاعدًا، وإن أحرم بها قاعدًا، وصلى ركعة، جاز له يصلي الركعة الأخرى قائمًا، وفيه احتزار من القصر، والإتمام؛ لأنهما يختلفان في عدد الركعات. والجواب: أن أحكام صلاة القائم والقاعد أحكام واحدة غير مختلفة، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنهما مختلفان في الأحكام من الوجه الذي ذكرنا، والله أعلم. * * * 109 - مَسْألَة: فإن افتتح الصلاة منفردًا، ثم صار إمامًا، فسدت صلاته في أصح الروايتين: نص عليها في رواية حمدان بن علي الوارق (¬1)، والفضل بن عبد الله ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: الروايتين (1/ 176)، والجامع الصغير ص 53، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 197)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 296)، والهداية ص 95، والمستوعب (2/ 302)، والمغني (3/ 73)، والمحرر (1/ 168)، ومختصر ابن تميم (2/ 262)، والفروع (2/ 150)، والمبدع (1/ 421)، والإنصاف (3/ 377)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 199).

الأصبهاني (¬1) (¬2)، وابن القاسم (1)، وإبراهيم بن الحارث (1)، وأبي طالب (1)، بألفاظ مختلفة: فيمن أحرم بالصلاة منفردًا لا ينوي أن يؤم أحدًا، فجاء رجل يأتم به، فلا يعجبني، وفي لفظ آخر: لا يجزئه ذلك في الفرائض، وأما في التطوع، فلا بأس، إلا أن يكون إمامَ حيٍّ يؤذن ويقيم، فإنه قد دعا إلى الناس. فقد منع من ذلك في الفرض، وأجازه في النفل، وقوله: إلا أن يكون إمام حي، يعني به: إذا علم حين دخوله في الصلاة أن هناك من يأتم به، فنوى الإمامة، فيجوز؛ لأن تحريمته انعقدت على الإمامة، فأما إن لم يعلم أن هناك من يأتم به، لم تصح نيته، وقد تبين هذا في رواية أبي طالب، فقال (1): إذا أذن وأقام، ثم جاء رجل فوقف إلى جنبه، جاز، فإن صلى وحده، ولم يكن مؤذنًا ولا إمامًا، فجاء رجل فصلى معه، لم يجزئه؛ لأنه قد دخل في الصلاة وهو لا ينوي أن يؤم أحدًا، قيل ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: الروايتين (1/ 176)، والجامع الصغير ص 53، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 197)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 296)، والهداية ص 95، والمستوعب (2/ 302)، والمغني (3/ 73)، والمحرر (1/ 168)، ومختصر ابن تميم (2/ 262)، والفروع (2/ 150)، والمبدع (1/ 421)، والإنصاف (3/ 377)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 199). (¬2) كذا في الأصل، ولم أقف على أحد من الرواة عن الإمام أحمد - رحمه الله - بهذا الاسم، فلعله تصحيف من اسم: الفضل بن عبد الصمد الأصبهاني، صاحب طرسوس، أبو يحيى، له مسائل عديدة رواها عن الإمام أحمد، مات في الأسر - رحمه الله -. ينظر: الطبقات (2/ 196)، والمقصد الأرشد (2/ 315).

له: فإن نوى وهو يصلي، فإن جاء إنسان، أمَّه؟ قال: لا أدري. ويتخرج رواية أخرى (¬1): جواز ذلك بناءً على إحدى الروايتين في المسألة التي قبلها، وهو إذا أحرم منفردًا، ثم ائتم بغيره: أنه يجزئه على رواية بكر بن محمد، كذلك ها هنا (¬2). وبهذا قال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رضي الله عنهم -. والدلالة على أنه لا يجزئه: أنه أحرم بالصلاة الفرض منفردًا، فإذا صار إمامًا في أثنائها، لم يجزئه؛ دليله: إذا أحرم منفردًا، ثم صار إمامًا في صلاة الجمعة، فإنه لا يجزئ، كذلك ها هنا، تبين صحة هذا: أن نية الجمعة يجب أن تقارن التحريمة، وكذلك عندنا نية الإمامة يجب أن تقارن التحريمة، وقد تأخرت عنها، فيجب أن لا تجزئه. فإن قيل: إذا أتوا الجمعة، فقد نقل الصلاة من التمام إلى النقصان، وها هنا نقلها من نقصان إلى تمام. قيل له: قد أجبنا عنه فيما تقدم (¬6). فإن قيل: إن كان القياس عليه إذا أحرم بالجمعة منفردًا، ثم صار ¬

_ (¬1) ينظر: حاشية رقم (1) صفحة 399. (¬2) ينظر: (2/ 391). (¬3) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 588)، والبحر الرائق (1/ 299). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 86)، والإشراف (1/ 302). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 337)، وروضة الطالبين (1/ 367). (¬6) في (2/ 335، 395).

إمامًا، لم تنعقد له تحريمة، فلهذا لم يبن عليها جماعة، وإن كان القياس عليه إذا أحرم بالظهر منفردًا، ثم صار إمامًا في الجمعة، فإنما لم يجز ذلك؛ لأن الظهر والجمعة صلاتان مختلفتان، فلهذا لم يبن إحداهما على الأخرى، وما اختلفنا فيه صلاة واحدة. قيل له: اختلافهما لا يمنع البناء ها هنا، كما لا يمنع البناء عندك إذا خرج وقت الظهر، وهو في صلاة الجمعة، فعندهم: يبني عليها ظهرًا، ولأن صلاة الإمام مخالفة لصلاة المنفردين؛ لأن الإمام سُن له الجهر بالقراءة، والمنفرد لم يسن له عندنا، وعند أبي حنيفة - رحمه الله - (¬1)، وقد حكينا كلام أحمد - رحمه الله - فيما تقدم (¬2) في رواية حرب: في رجل فاتته صلاة يجهر فيها بالقراءة في الجماعة، فصلى وحده، فإن شاء، لم يجهر؛ لأن الجهر في الجماعة، وكذلك لو فاتته صلاة بالليل مما يُجهر فيها بالقراءة، فصلاها وحده بالنهار، ونحو ذلك نقل الأثرم (¬3)، ولأن الإمام يتحمل القراءة والسهوَ عن المأموم، والمأموم لا يتحمل القراءة والسهوَ عن غيره، والمنفرد لا تبطل صلاته من جهة غيره والإمام قد تبطل صلاته من جهة غيره، عند أبي حنيفة - رحمه الله -، وهو: إذا نوى إمامة المرأة، ووقفت بجنبه، بطلت صلاته (¬4)، وإذا اختلفا في الأحكام ¬

_ (¬1) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 224). (¬2) في (1/ 247). (¬3) ينظر: (1/ 247). (¬4) ينظر: (1/ 263، 264).

من هذا الوجه، لم يصح بناء إحداهما على الأخرى، كما قال أبو حنيفة، ومالك - رحمهما الله -: إذا أحرم بالصلاة منفردًا، ثم ائتم بغيره (¬1)، وكما قالوا جميعًا (¬2): إذا أحرم بالظهر، ثم نوى بها العصر، أو الظهر، فنوى بها الجمعة، فإنه لا يصح، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بتُّ عند خالتي ميمونة - رضي الله عنها -، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل، فقمت فوقفت على يساره، فأدارني عن يمينه (¬3)، فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أحرم بالصلاة منفردًا، ثم صار إمامًا. والجواب: أن تلك الصلاة كانت نافلة من صلاة الليل، ونحن نجيز ذلك، وخلافنا في صلاة الفرض. واحتج: بأنها صلاة افتتحها فرادى، ثم صار فيها إمامًا، فصحت؛ دليله: صلاة النافلة. والجواب: أنه يبطل به إذا أحرم بالظهر منفردًا، ثم صار إمامًا في الجمعة، وعلى أن القياس في النفل كان يقتضي أن لا يجوز، لكن تركنا ¬

_ (¬1) في الأصل: بغير. (¬2) عند الحنفية لا تأثير لتغيير النية. ينظر: التجريد (1/ 462)، والهداية (1/ 63). وهو عند المالكية، والشافعية كما ذكر المؤلف. ينظر: التلقين ص 87، والقوانين الفقهية ص 45، والأم (2/ 224)، والمهذب (1/ 233). (¬3) مضى تخريجه في (1/ 502).

القياس هناك لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، ولأن صلاة النفل تفارق صلاة الفرض فيما يرجع إلى الانتقال من النقصان إلى الكمال، ألا ترى أنه يجوز أن يحرم بالصلاة جالسًا نافلة، ثم يقوم فينتقل من نقصان إلى كمال، ولا يجوز مثل هذا في الفرض؟ فبان لهذا: أن حكم النفل أوسعُ في بابه من الفرض. واحتج: بأن صلاة الإمام والمنفرد سواء، فيما يرجع إلى الواجبات، بل الإمام أكمل، فيجب أن يصح بناء الأكمل على الأنقص؛ كالإتمام على القصر. والجواب عن هذا: ما تقدم في المسألة التي قبلها، وعلى أن الظهر والعصر سواء فيما يرجع إلى الواجبات، ولا يجوز بناء إحداهما على الأخرى، والفرض أكمل من النفل، ولا يجوز بناء الفرض على نية النفل، فبطل ما قاله. فإن قيل: فما تقولون فيه إذا صلى منفردًا، ونوى أنه إمام في أول صلاته، وليس معه أحد يؤمه؟ قيل: لا تجزئه صلاته، نص عليه (¬1) في رواية مهنا (¬2): في رجلين ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (3/ 73)، والنكت على المحرر (1/ 190)، والمبدع (1/ 419)، وبدائع الفوائد (4/ 1465). (¬2) لم أقف على روايته، وقد رواها عن الإمام أحمد: الكوسج في مسائله رقم (337).

110 - مسألة

أمَّ كلُّ واحد منهما صاحبه: ما أشبه أن تكون صلاتهما فاسدة. فقد نص على فساد صلاتهما؛ لأن كل واحد منهما نوى الإمامة، ولأن معه من يأتم به. فإن قيل: فما تقولون إذا نوى الإمامة (¬1) من يأتم به، ثم نوى الانفراد. قيل: لا نعرف الرواية في ذلك، وقياس المذهب: أن صلاته لا تصح؛ للاختلاف الذي ذكرنا، والله أعلم. * * * 110 - مَسْألَة فإن اقتدى بالإمام، ثم انفرد بصلاة نفسه بعذر، صحت صلاته (¬2)؛ مثل: أن يكون مدافعًا للأخبثين، أو على باب المسجد له دابة يخاف ضياعها، أو سمع حريقًا في داره، وإن كان لغير عذر، فإنه يُخرّج على روايتين هما على المسألتين اللتين قبلها، وهو إذا أحرم منفردًا، ثم ائتم بغيره، وإذا أحرم منفردًا، ثم صار إمامًا، فإن في تلك الروايتين، كذلك ها هنا يخرج على ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة، ولعلها: فذهب. (¬2) ينظر: الهداية ص 95، والمستوعب (2/ 303)، والمغني (3/ 75)، والإنصاف (3/ 380).

روايتين (¬1): إحداهما: تفسد، وهو أصح. الثانية: تصح. وقد نص أحمد - رحمه الله - على صحة ذلك في العذر في صلاة الخوف؛ فإن الطائفة الأولى تسلِّم قبل إمامها، ونص أيضًا فيه: إذا أحدث الإمام وخرج، إن شاؤوا استخلفوا، وإن شاؤوا أتموا لأنفسهم وحدانًا (¬2)، فحكم بصحة صلاتهم في حال الانفراد، نص عليه في رواية عبد الله (¬3)، فقال: إن استخلف الإمام، فقد استخلف عمر (¬4)، وعلي (4) - رضي الله عنهما -، وإن لم يستخلف كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا بأس (¬5)، وإن صلوا وحدانًا، فقد طُعن معاوية (5)، وصلى الناس وحدانًا من حيث طعن أتموا صلاتهم. فقد حكم بصحة صلاتهم، وإن كانوا منفردين لأجل العذر. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا انفرد بصلاة نفسه، بطلت صلاته، سواء كان لعذر، أو غيره (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 176)، والمغني (3/ 75)، والمبدع (1/ 421)، والإنصاف (3/ 382). (¬2) ينظر: (1/ 498). (¬3) في مسائله رقم (521). (¬4) مضى تخريجه في (1/ 499). (¬5) مضى تخريجه في (1/ 492). (¬6) ينظر: المبسوط (1/ 411)، وتبيين الحقائق (1/ 142). وبه قالت المالكية. ينظر: الإشراف (1/ 302)، ومواهب الجليل (2/ 212).

وقال الشافعي - رحمه الله -: إن كان الانفراد لعذر، صحت، وإن كان لغير عذر، فعلى قولين: أصحهما عنده: أن الصلاة صحيحة (¬1). فالدلالة على أن الصلاة تبطل إذا كان لغير عذر: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تختلفوا على إمامكم" (¬2)، فإذا انفرد بصلاة نفسه، فصار يركع قبل الإمام، فقد اختلف عليه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولأن صلاة المنفرد (¬3) مخالفة لصلاة المأموم؛ بدلالة ما قدمناه في المسألة التي قبلها، فإذا كان كذلك، قلنا: إذا افتتح الصلاة في جماعة، فقد انعقدت صلاته على صفة من الصفات، وجهةٍ من الجهات، فلا يجوز صرفها بنيته إلى جهة أخرى مخالفة لها؛ كما لو افتتح صلاة الجمعة، لم يجز أن يصرفها بنيته إلى الظهر، وكذلك الظهر إلى الجمعة، والعصر إلى الظهر، والنفل إلى الفرض، ولأنه التزم الجماعة، فإذا انفرد بنيته، جاز أن تبطل صلاته؛ كما لو أحرم بالجمعة، ثم انفرد، ولا يلزم عليه حال العذر؛ لأن التعليل للجواز. فإن قيل: إنما لم يصح ذلك في الجمعة؛ لأن من شرطها صحة هذا الجماعة (¬4). قيل له: لا يمتنع أن تكون الجماعة شرطًا في صحتها، ثم الانتقال ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 350)، والمهذب (1/ 313)، والبيان (2/ 388). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 470). (¬3) في الأصل: المنفردة. (¬4) كذا في الأصل، ولعلها: صحة هذا في الجماعة.

عنها إلى صلاة أخرى مخالفة لها في الحكم يُبطلها؛ كما لو نوى بها نفلًا، أو نوى بالظهر عصرًا، أو العصر ظهرًا؛ لأن المسبوق بركعة في الجمعة ينفرد، وتصح. واحتج المخالف: بما رُوي: أن معاذًا - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم، فأخّر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذاتَ ليلة، فصلى معاذ معه، ثم رجع فأمَّ قومه، فابتدأ بسورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده، فقال: نافقتَ، فقال: لا، ولكني آتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه فقال: يا رسول الله! إنك أخرت العشاء، وإن معاذًا صلى معك، ثم رجع فأمنا، فافتتح بسورة البقرة، فلما رأيت ذلك، تأخرت فصليت، وإنما نحن أصحاب [نواضح] (¬1) نعمل بأيدينا، فأقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ فقال: "أفتان أنت يا معاذ؟ ! اقرأ بسورة كذا وكذا" (¬2)، ولم يأمر الرجل بإعادة الصلاة. والجواب: أنه يحتمل أن يكون الرجل خرج عن صلاة الإمام، وقطعَها، واستأنف الصلاة منفردًا، وليس في الخبر أنه بنى على التحريمة الأولى، وإذا احتمل ما ذكرنا، سقط التعلق (¬3) به. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والمثبت من صحيح مسلم. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا، رقم (6106)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، رقم (465). (¬3) في الأصل: التعليق.

واحتج: بأن ما لا تبطل الجماعة إذا فعله لعذر، لم يبطلها إذا فعله لغير عذر؛ قياسًا على العمل القليل. والجواب: أن للعذر تأثيرًا (¬1)، ألا ترى أن في صلاة الخوف يجوز ترك القبلة، والعمل الكثير، ولا يجوز في غير ذلك؟ وأما الخطوة والخطوتان، فلا يمكن الاحتراز منها، ولأن الإمام لو كان صحيحًا، والمأموم مريضًا، صلى جالسًا، فإنه يخالف إمامه في الأفعال الظاهرة لأجل العذر، كذلك ها هنا. واحتج: بأنها لو بطلت إذا خرج لغير عذر، لبطلت بالعذر؛ كما لو خرج من صلاة الجمعة بعذر، وكما لو خرج بأكل في الصيام (¬2) لعذر. والجواب: أنا قد بينا أن للعذر تأثيرًا (¬3)؛ بدليل: صلاة الخوف، وله أيضًا تأثير عندهم في الجمعة، وهو إذا خرج الوقت، بنى على ظهر، ولا يجوز مثل ذلك مع بقاء الوقت. واحتج: بأنه لما جاز أن يدخل في صلاة الجماعة، وهو يعلم أنه يصير منفردًا في آخر صلاته، وهو إذا سبقه الإمام بركعة، فلو لم يجز الخروج من صلاة الإمام، لم يجز أن يدخل في صلاة إمام، وهو يعلم أنه يصير منفردًا في آخرها، ألا ترى أن صوم الشهرين لما وجب فيه ¬

_ (¬1) في الأصل: تأثير. (¬2) في الأصل: خرج أكل في الصيام. (¬3) في الأصل: تأثير.

فصل

التتابع، لم يجز أن يدخل فيهما في وقت يعلم أنه يخرج منهما قبل إتمامهما؛ مثل: أن يدخل فيهما في شعبان، أو ذي القعدة، فإنه يحتاج أن يخرج لصوم رمضان، أو لفطره في يوم النحر، وأيام التشريق. والجواب: أنه يجوز له عندنا الدخول في صوم الشهرين في وقت يعلم أنه يتخللهما ما يقطعهما، فدخوله مع الإمام - مع علمه أنه يصير منفردًا - بمثابة دخوله في صيام يعلم أنه يتخلله ما يقطعه، فلا فرق بينهما، على أن هذا يبطل به إذا بقي من وقت الجمعة مقدار ركعة؛ فإنه يجوز الدخول فيها، وإن كان يعلم أنه يتخللها ما يقطعها، وهو خروج الوقت؛ لأن عنده يبني عليها ظهرًا. واحتج: بأن الائتمام أفاد الفضيلة دون جواز؛ بدلالة: أنه لو صلى منفردًا، صحت صلاته، فانفراده بصلاة نفسه يسلبه الفضيلة التي استفادها دون الجواز. الجواب: أن الائتمام يكسبه الفضيلة، وأحكامًا أُخرَ مخالفةً لصلاة المنفرد، وقد بينا ذلك، فإذا انفرد بصلاة نفسه، فقد نقلها من الجهة التي انعقدت إلى جهة أخرى مخالفة لها في الأحكام، فصار بمنزلة من افتتح الجمعة، ثم نقلها إلى الظهر، أو افتتح الظهر، ثم نقلها إلى الجمعة. * فصل: والدلالة على أنه إذا كان خروجه لعذر لا تبطل صلاته: ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بذات الرقاع (¬1)، فصلى بطائفة ركعة، ¬

_ (¬1) سميت بذلك: لأنهم شدُّوا الخِرق على أرجلهم من شدة الحر؛ لفقد =

وانتظرهم حتى أتموا، ثم مضوا ووقفوا في وجه العدو (¬1)، وهذه الطائفة فارقت الإمام، ولم تبطل صلاتها بذلك؛ لأنه لعذر، ولأن الإمام لما جاز له أن يخرج من الإمامة لعذر؛ كخروج أبي بكر - رضي الله عنه -، وخروج المحدِث، جاز للمأموم أيضًا أن يخرج للعذر؛ لأن صلاة الجماعة تفتقر إلى كل واحد منهما، ولأن المسبوق بركعة إذا استخلفه الإمام، فصلى ثلاث ركعات، فإن صلاة المأمومين قد تمت، ويبقى عليه ركعة، فيفارقه المأموم، ولا تبطل صلاته؛ لأنها مفارقة لعذر، كذلك ها هنا. فإن قيل: تلك المفارقة لا من جهة النية. قيل له: بل تلك من جهة النية؛ لأنه يُسلّم، ويعتقد المفارقة بالسلام، وقد كان يمكنهم انتظاره في التشهد حتى يسلم بهم، وذهب المخالف إلى الأسْوِلة (¬2) التي تقدمت، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية، والله أعلم. * * * ¬

_ = النعال. ينظر: الصحيح: كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، والمصباح المنير (ر ق ع). (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، رقم (4129)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، رقم (842) عن صالح بن خوّات - رحمه الله -. (¬2) لغة في الأسئلة. ينظر: لسان العرب (سول).

111 - مسألة: إذا تعمد المأموم سبق الإمام بركن، بطلت صلاته

111 - مَسْألَة: إذا تعمد المأموم سَبْقَ الإمام بركن، بطلت صلاته (¬1): أومأ إليه في كتاب الرسالة إلى من أساء في صلاته (¬2)، فقال (¬3): ليس لمن سبقَ الإمامَ صلاة. بذلك جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: بعده في موضع آخر: احذروا - يرحمنا الله وإياكم - سَبْقَ الإمام؛ فإنه لا صلاة لمن سَبْقَ الإمام؛ ومن ركع مع الإمام، وسجد معه، وخفض معه، فصلاته ناقصة غير تامة، وقال بعض العلماء: لا صلاة له، وإنما تمام الصلاة: أن يكون الركوع بعد الإمام، والسجود بعده. فقد بيّن أن السبق يُبطل الصلاة، والركوع والسجود معه لا يُبطلها، لكن ينقص فضلها، وقال بعده في موضع آخر (¬4): ينبغي له أن لا يعجل بالتسبيح؛ فإنه إذا عجل بالتسبيح، وبادر به، لم يدرك من خلفه التسبيح، وصاروا مبادرين إذا بادر، وسابقوه، ففسدت (¬5) صلاتهم، وكان عليه مثلُ وزرهم جميعًا. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 169)، والمغني (2/ 211)، والإنصاف (4/ 317)، والقواعد لابن رجب (1/ 489)، وفتح الباري له (4/ 143). (¬2) المشهورة بكتاب الصلاة للإمام أحمد - رحمه الله - نقلها عنه مهنا الشامي، ونصها موجود في طبقات الحنابلة (2/ 437)، وقد طبعت مفردة أكثر من مرة. (¬3) ينظر: الطبقات (2/ 437 - 475). (¬4) ينظر: الطبقات (2/ 451). (¬5) في الأصل: فسدت، والتصويب من الطبقات (2/ 452).

خلافًا لأصحاب الشافعي - رحمه الله - في قولهم: لا تبطل (¬1). دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تختلفوا عليه" (¬2)، وهذا اختلاف، والنهي يدل على الفساد. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ركع فاركعوا" (¬3)، أمر بالركوع بعده، والأمر يقتضي الوجوب. وأيضًا: ما احتج به أحمد - رحمه الله - من الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه نظر إلى من سبق الإمام، فقال له: [لا وحدَكَ صليتَ، ولا بإمامك اقتديتَ] (¬4)، والذي يصلي وحده (¬5)، ولم يقتد بإمامه: فذلك لا صلاة له (¬6). ولأنه ترك المتابعةَ في ركن وجب عليه متابعتُه فيه، فبطلت صلاته؛ ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 343)، والبيان (2/ 387). وإليه ذهبت الحنفية، والمالكية. ينظر: الهداية (1/ 72)، وفتح القدير (1/ 344)، والقوانين الفقهية ص 56، ومواهب الجليل (2/ 467). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 241). (¬3) مضى تخريجه في (2/ 272). (¬4) ورد في رسالة الصلاة للإمام أحمد كما في طبقات الحنابلة (2/ 438)، ولم أجد مزيدًا على هذا، وقد جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في صحيح البخاري معلقًا، في كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به: أنه قال: إذا رفع قبل الإمام، يعود، فيمكث بقدر ما رفع، ثم يتبع الإمام. (¬5) كذا في الأصل، وفي الطبقات (2/ 438): (والذي لم يصل وحده ... ). (¬6) ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 438).

112 - مسألة

دليله: لو سبقه بركنين. واحتج المخالف: بما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعُسْفان (¬1)، فصفهم صفين، فكبر بهم، وركع بهم وسجد بأحد الصفين، ووقف الصف الآخر حتى رفعوا، ثم سجد وقام فلحقهم (¬2)، فقد سبق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أهل (¬3) الصف الآخر بالسجود، والسجدتان ركن واحد؛ لأن فعلهما متقارب، ولا فرق بين سبق الإمام للمأموم، وبين سبق المأموم للإمام؛ لأن فيه ترك المتابعة في الحالين. والجواب: أن ذلك السبق كان لعذر، وضرورة، وبهذا لما صلى بهم بذات الرقاع، فارقوه بركعة، وسلَّموا قبله؛ لأنها حال ضرورة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 112 - مَسْألَة إذا كان الأمام في المسجد، والمأموم خارج المسجد، وبينه ¬

_ (¬1) عسفان: من عسفت المفازة يعسفها، وهو قطعها بلا هداية ولا قصد، وهو موضع بين مكة والمدينة، على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. ينظر: معجم البلدان (4/ 121 و 122). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، رقم (840) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬3) في الأصل: لأهل الصف.

وبين الإمام طريق أو نهر، لم تجزئه صلاته، وإن كانت الصفوف متصلة، فصلاته جائزة (¬1): نص عليه في رواية أبي الحارث (¬2): في قوم يصلون، وبينهم وبين الإمام نهر يجري؟ فقال: إن كان تجري فيه السفن، فهو طريق، وإن كان صغيرًا، فلا بأس. وقال أيضًا - في رواية أبي طالب - (¬3): في رجل يصلي فوق السطح بصلاة الإمام: فإن كان بينهما طريق أو نهر، فلا. قيل له: فأنس صلى يوم الجمعة في غرفة بعد ما كبر (¬4)؟ فقال: يوم الجمعة لا يكون طريقًا للناس، فقال له أبو طالب: فإن الناس يصلون خلفي في رمضان فوق سطح بيتهم؟ قال: ذلك تطوع. فقد نص على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 157)، التمام (1/ 219)، والمغني (3/ 46)، والنكت على المحرر (1/ 202)، والفروع (2/ 108)، والإنصاف (4/ 448). (¬2) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 968). (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 969)، وشرح الزركشي (2/ 103)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 227). (¬4) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في المصنف رقم (4887)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (6214)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 120)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: المأموم يصلي خارج المسجد بصلاة الإمام، رقم (5247)، وقد احتج به الإمام أحمد كما في رواية حرب الآتية، وينظر: الحاشية رقم (3)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 226).

وهو قول أبي حنيفة (¬1). وقال مالك (¬2): إذا كان بينهم نهر، أو طريق قريب لا يمنعهم الصفوف، وسماع التكبير، جاز، ولم يمنع ذلك الائتمام. وقد رُوي (¬3) عن أحمد - رحمه الله - نحوُ هذا، فنقل حرب (¬4) عنه: في امرأة تصلي فوق بيت بصلاة الإمام، وبينها وبين الإمام طريق: أرجو أن لا يكون به بأس (¬5)، وذكر حديث أنس - رضي الله عنه -. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: إذا كان بينه وبين الإمام ثلاث مئة ذراع أو دونها، فصلاته جائزة في الحالين جميعًا، سواء اتصلت الصفوف، أو لم تتصل (¬6). دليلنا: ما روى أبو بكر في كتابه بإسناده عن نعيم بن أبي هند (¬7) قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من صلى وبينه وبين الإمام نهر، أو جدار، أو طريق، ....................................... ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 237)، وبدائع الصنائع (1/ 628). (¬2) ينظر: المدونة (1/ 82)، والإشراف (1/ 301). (¬3) في الأصل: أحمد عن أحمد. (¬4) في الأصل: حرث. (¬5) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 968)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 227). (¬6) ينظر: مختصر المزني ص 38، والبيان (2/ 435). (¬7) هو: نعيم بن النعمان بن أشيم الأشجعي، المعروف بـ (نعيم بن أبي هند)، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 110 هـ. ينظر: التقريب ص 633.

فلم يصل مع الإمام (¬1). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي عبد الرحمن (¬2) عن علي - رضي الله عنه -: أنه رآهم في الرحبة، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: ضعفة الناس، قال: لا صلاة إلا في المسجد (¬3). وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لا جمعة لمن صلى في رحبة (¬4) المسجد (¬5). وروى أيضًا بإسناده ............................... ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4880)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6211)، وعلقه ابن حزم في المحلى (4/ 40 - 5/ 55)، وفي سند ابن أبي شيبة: ليث بن أبي سليم، تُرِك حديثه، وسند عبد الرزاق صحيح، لكنْ نعيم لم يدرك عمر - رضي الله عنه -. ينظر: التقريب ص 519. (¬2) السلمي، مضت ترجمته. (¬3) لم أجده، وقد ذكره ابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 202)، وأشار إلى أن في صحته نظرًا، وذكره الزركشي في شرحه على مختصر الخرقي (2/ 102). (¬4) رحبة المسجد: ساحته ومتسعه، وسميت الرحبة بذلك؛ لسعتها. ينظر: لسان العرب (رحب). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بنحوه رقم (5544 و 5548)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 119)، وابن حزم في المحلى (5/ 55) وصحح إسناده، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (5453) لكن جُعل أبو قتادة، بدلًا من أبي هريرة - رضي الله عنهما -.

عن عقبة بن صُهْبان (¬1)، عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أنه رأى قومًا يصلون في رحبة المسجد يوم الجمعة، فقال: لا جمعة لهم (¬2). ومعلوم أن الصفوف إذا كانت متصلة، فإن الصلاة في الرحبة جائزة، فعلم أنهم أرادوا به: إذا كان بينه وبين الإمام طريق، فقد ثبت هذا عن أريعة من الصحابة: عمر، وعلي، وأبي هريرة، وأبي بكرة - رضي الله عنهم -، ولا نعرف لهم مخالفًا، فدل على أنه إجماع. فإن قيل: فقد خالفهم أنس - رضي الله عنه -، فروى أبو بكر بإسناده عن عطاء بن أبي ميمونة (¬3) قال: كنت مع أنس بن مالك يوم الجمعة، قال: فلم نستطع أن نزاحم على أبواب المسجد، فقال: اذهب إلى عبد ربه بن مخارق (¬4)، فقل له: إن أبا حمزة يقول لك: أتأذن لنا أن نصلي في دارك؟ فقال: نعم، قال: فدخل، فصلى بصلاة الإمام (¬5). ¬

_ (¬1) الأزدي، بصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي بعد السبعين للهجرة. ينظر: التقريب ص 435. (¬2) ذكره ابن حزم في المحلى (5/ 55)، قال ابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 203): (هذه الآثار في صحتها نظر، والأصل عدم ثبوتها). (¬3) البصري، أبو معاذ، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 131 هـ. ينظر: التقريب ص 431. (¬4) لم أجده، إلا أن يكون في الاسم تصحيف، فينظر: تعجيل المنفعة (1/ 785). (¬5) أخرجه الأثرم كما قاله ابن رجب في الفتح (4/ 277)، وأخرج البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: المأموم يصلي خارج المسجد بصلاة =

قيل: يحتمل أن تكون الصفوف متصلة، وإلى هذا المعنى أشار أحمد في رواية أبي طالب (¬1)، وقد روى بعض من نصر هذه المسألة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من صلى في الرحبة يوم الجمعة، فلا صلاة له" (¬2). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان بينه وبين الإمام طريق، فليس مع الإمام" (2)، ولا نعرف هذا متصلًا، وإنما هو موقوف على عمر (¬3)، وأبي هريرة (¬4) - رضي الله عنهما -. والقياس: إن كان بينه وبين الإمام طريق، والصفوف غير متصلة، فأشبه إذا كان بينه وبين الإمام أكثر من ثلاث مئة ذراع، وإذا صلى في داره بصلاة الإمام. فإن قيل: ذكر أبو علي (¬5) في الإفصاح (¬6): إذا صلى في داره بصلاة ¬

_ = الإمام، رقم (5248) نحوه، وينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 226). (¬1) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 969)، وشرح الزركشي (2/ 103)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 227). (¬2) لم أجده مرفوعًا. (¬3) مضى في (2/ 416، 417). (¬4) مضى في (2/ 417). (¬5) هو: الحسن بن القاسم، أبو علي الطبري، قال الذهبي عنه: (الإمام، شيخ الشافعية)، له مصنفات عديدة، منها: المحرر في النظر، والإفصاح ... ، وله تأليف في الجدل، توفي سنة 350 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 62). (¬6) في الأصل: الإيضاح، وهو خطأ، وينظر: العدة لأبي يعلى (5/ 1469).

الإمام، فصلاته صحيحة إذا كان بينهما ثلاث مئة ذراع فما دونها؛ كما إذا وقف في الصحراء (¬1). قيل له: قد حُكي عن الشافعي - رضي الله عنه -: أنه قال: إذا صلى في سطح داره، والإمام في المسجد، لم تصح (¬2). فإن قيل: فإن سلمنا لكم ذلك، فالفرق بينهما: أن الدار لم تبن لأداء الصلاة فيها بصلاة الإمام، فلم يجز أن يصلي فيها بصلاة الإمام، وليس كذلك الطريق؛ لأنه جعل لمنافع المسلمين، ومن منافع المسلمين الصلاةُ فيها. قيل له: فيجب أن لا يُصلي في داره بصلاة الإمام الذي في المسجد، وإن كانت الصفوف متصلة؛ للمعنى الذي ذكرت، وهو أن داره لم تبن لأداء الصلاة فيها بصلاة الإمام. فإن قيل: الثلاث مئة ذراع فما دونها في حد القرب؛ لأنه مقدار رمية سهم الذي يحتاج المسلمون إليه إذا صلوا في حال الخوف من المشركين، فلهذا جعل في حد القرب، وما زاد عليه في حد البعد، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر؛ لأنه لا بد من حد فاصل بين القريب والبعيد. قيل له: لم كان الثلاث مئة ذراع في حد القريب بأولى من أن تكون ¬

_ (¬1) ينظر: حلية العلماء (1/ 236)؛ فقد قال: (قال أبو علي في الإفصاح: لا فرق بين الدار والصحراء في اعتبار القرب والبعد في الجميع)، وينظر: البيان (2/ 437). (¬2) ينظر: مختصر المزني ص 38.

الثلاثة أذرع في حد القريب، وقد وجدنا أن خيار الشرط يقدر بالثلاث عندهم، وجعلوه في حد القريب، وكذلك عندهم مدة الإقامة في حق المسافر، وأقل الجمع، وخيار المُصَرَّاة، ونحو ذلك. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا" (¬1)، ولم يفرق. والجواب: إنا نحمله على من لم يكن بينه وبين الإمام طريق؛ بدلالة ما قدمنا. واحتج: بأن الطريق تصح الصلاة فيه، فوجب أن لا يكون حائلًا؛ قياسًا على غير الطريق من صحن المسجد. والجواب: أن هذا باطل به إذا صلى في داره بصلاة الإمام الذي في المسجد، وإذا كان بينهما أكثر من ثلاث مئة ذراع، فإن هذا المعنى موجود، ولا تصح الصلاة. واحتج: بأن الصفوف لو اتصلت، لصحت صلاتهم بالإجماع، وبين الصفين طريق. والجواب: أن ما بين الصفين بهم حاجة إليه للركوع والسجود، فعفي عنه، وهذا المعنى معدوم فيما زاد على ذلك. واحتج: بأن المكان النجس ليس بحائل، فالطريق الطاهر أولى بذلك. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 241) و (2/ 272).

113 - مسألة: فإن كان المأموم في سفينة، والإمام في أخرى، لم يصح ائتمامه به، وكان الماء حائلا وطريقا

والجواب: أن هذا يوجب صحة صلاته إذا [صلى في] (¬1) داره بصلاة الإمام، أو كان بينهما أكثر من ثلاث مئة ذراع. واحتج: بأن البئر ليست بحائل، كذلك النهر. والجواب: أن البئر في العادة يمنع الاستطراق، وليس كذلك النهر؛ فإنه لا يمنع الاستطراق في السفن. واحتج: بأن بينهما مسافة قريبة، وليس هناك حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، فصح ائتمامه به؛ كما لو لم يكن طريق، أو اتصلت الصفوف. والجواب: أن قوله: بينهما مسافة قريبة، لا تأثير له في الأصل؛ لأنه إذا لم يكن طريق هناك، أو كانت الصفوف متصلة، فلا فرق بين قرب المسافة وبعدها، وعلى أنه يبطل به إذا صلى [في] (¬2) سطح داره، والإمام في المسجد، وهو يراه، والله أعلم. * * * 113 - مَسْألَة: فإن كان المأموم في سفينة، والإمام في أخرى، لم يصح ائتمامه به (¬3)، وكان الماء حائلًا وطريقًا: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، وبها يستقيم الكلام. (¬2) ليست في الأصل. (¬3) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 198)، والمغني (3/ 46)، ومختصر ابن تميم (2/ 326).

114 - مسألة

نص عليه في رواية أبي جعفر محمد بن يحيى المتطبب (¬1)، وقد سئل: هل يكون [في] سفينتين واحد؟ قال: لا (¬2)، وبهذا قال أبو حنيفة (¬3). وقال الشافعي - رحمه الله -: يجوز (¬4). دليلنا: ما تقدم في المسألة التي قبلها، وهو أن الماء طريق، والصفوف غير متصلة، فأشبه إذا كان بينهما أكثر من ثلاث مئة ذراع، وتبين صحة هذا: أن الماء قد يراد للحائل، فكان حائلًا في الإمامة؛ كالحائط. وذهب المخالف إلى ما تقدم ذكره في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه. * * * 114 - مَسْألَة إذا صلى في بيته بصلاة الإمام في المسجد، وهو لا يرى ¬

_ (¬1) هو: محمد بن يحيى الكحّال، أبو جعفر البغدادي، المتطبب، قال الخلال: (عنده عن أبي عبد الله مسائل كثيرة ... وكان من كبار أصحاب أبي عبد الله). ينظر: الطبقات (2/ 384)، والمقصد الأرشد (2/ 536). (¬2) ينظر: الإنصاف (4/ 449). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 237)، وبدائع الصنائع (1/ 628). (¬4) ينظر: الحاوي (2/ 347)، والبيان (2/ 441). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 82)، والتاج والإكليل (2/ 450).

الإمام، ولا مَنْ خلفه، وهو أن يحول بينهما حائط المسجد، لم تصح صلاته: نص عليه في رواية أبي طالب (¬1)، والمروذي (¬2)، وإسحاق بن إبراهيم (¬3)، واللفظ لأبي طالب: في قوم كانوا في دار في الرحبة، وأغلق عليهم الباب، وهم يسمعون التكبير: يعيدون الصلاة أربعًا، ولو كان الباب مفتوحًا يرون الناس، كان جائزًا (¬4). وكذلك نقل أبو الحارث (¬5): في الذين يصلون خارج المسجد في الطريق إذا لم يكن بينهم باب يغلق، فلا بأس. وكذلك [نقل] (¬6) جعفر بن محمد (¬7): في الحوانيت إذا لم يغلق بينهم بابه، فلا بأس، كان أنس - رضي الله عنه - يصلي فوق غرفة يوم الجمعة بصلاة الإمام (¬8)، قيل له: فترى أن تصلي فوق السطح بصلاة الإمام؟ قال: ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 969)، وشرح الزركشي (2/ 103)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 227). (¬2) لم أقف عليها. (¬3) في مسائله رقم (462). (¬4) ينظر: المغني (3/ 251)، ومختصر ابن تميم (2/ 324)، والإنصاف (4/ 450). (¬5) في الأصل: أبو الحرث، وينظر: بدائع الفوائد (3/ 968). (¬6) طمس في الأصل بمقدار كلمة، وبالمثبت يستقيم الكلام. (¬7) لم أقف عليها، ونقل نحوها الكوسج في مسائله رقم (269). (¬8) مضى تخريجه في (2/ 418).

نعم. فقد نص على المنع إذا كان هناك حائلٌ، وأجازه مع عدم الحائل إذا لم يكن هناك طريق. وقد أطلق القول في رواية حنبل (¬1)، فقال: إذا [صلى الرجل] (¬2) وهو يسمع قراءة الإمام في داره، أو فوق سطح بيته، كان ذلك مجزئًا عنه. وهذا محمول على أنه يشاهد الإمام، أو مَنْ خلفَه. وقال أيضًا في رواية أبي داود (¬3): إذا صلى يوم الجمعة خارج المسجد، وأبوابُ المسجد مغلقة، أرجو أن لا يكون به بأس. وهذا أيضًا محمول على أنهم شاهدوا الإمام، أو مَنْ خلفه من شُباك هناك، ويحتمل أنه لم يجعل سور المسجد حائلًا؛ كالأساطين، والسواري، وبهذا قال مالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يجوز الائتمام به ما لم يكن بينهم وبينه طريق (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 968)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 279). (¬2) ساقطة من الأصل، والمثبت من فتح الباري لابن رجب (4/ 279). (¬3) في مسائله رقم (415)، وينظر: المغني (3/ 45). (¬4) عند المالكية: تجوز الصلاة غير الجمعة إذا كانوا يرون الإمام، أو يسمعون تكبيره. ينظر: المدونة (1/ 82)، والإشراف (1/ 301)، والتاج والإكليل (2/ 433). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 345)، والمهذب (1/ 326). (¬6) ينظر: الحجة (1/ 190)، والمبسوط (1/ 373).

دليلنا: ما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: أن نساء كُنَّ يصلينَ في حجرتها، فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام؛ فإنكن دونه في حجاب (¬1)، ذكره شيخنا في كتابه. ولأنه على خارج المسجد، وبينه وبين الإمام ومن يأتم به حائل يمنع المشاهدة، فلم يصح ائتمامه به؛ دليله: إذا كان بينه وبين المسجد طريق، وقولنا: صلى خارج المسجد، احتراز منه إذا كان في المسجد، أو من وراء حائل؛ فإنه يصح على اختلاف الروايتين؛ لأنه قال في رواية أبي طالب: إذا صلوا في دار في الرحبة، وأغلق عليهم الباب، وهم يسمعون، لم يصح، وحكمُ الرحبة حكمُ المسجد، وقد منع من صحة الصلاة فيها من دون حائل اعتبارًا به إذا كان خارج المسجد، وقال في رواية أبي داود: إذا صلى يوم الجمعة خارج المسجد، والأبواب مغلقة، فلا بأس. فقد أجاز الصلاة خارج المسجد، ولم يعتبر أن يشاهد الإمام، فأولى أن يجيز في المسجد؛ لأن المسجد جُعل للجماعة الواحدة، والبقعة والواحدة، ولا يلزم عليه إذا كان الحائل شباكًا، وكان خارج المسجد؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في المعرفة بإسناده إلى عائشة - رضي الله عنها - (4/ 191) رقم (5849)، وفي السنن الكبرى أسنده إلى الشافعي - رحمه الله - عن عائشة - رضي الله عنها -، في كتاب: الصلاة، باب: المأموم يصلي خارج المسجد بصلاة الإمام، رقم (5246)، وضعّف إسناده ابن رجب في الفتح (4/ 278)، ففي إسناده: إبراهيم بن محمد الأسلمي، (متروك). ينظر: التقريب ص 63 و 64.

فإنه لا يمنع على ظاهر كلام أحمد - رحمه الله -؛ لأنه اعتبر المشاهدة، وهذا موجود في الشباك. فإن قيل: إذا كان هناك طريق أو ماء، فإنه يمنع الائتمام، سواء كان هناك حائل، أو لم يكن، فلا معنى لهذا في الأصل. قيل: تأثيره فيه إذا لم يكن هناك حائل، ولا طريق، وتأثيره أيضًا إذا اتصلت الصفوف في الطريق، وهناك حائل؛ فإنه يمنع، ولو لم يكن حائل، لم يمنع، وعلى أنه إذا كان هناك طريق، امتنع لعلتين، وها هنا لعلة. واحتج المخالف: بما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، والناس يأتمون به من وراء الحجرة يصلون بصلاته (¬1)، وفي حديث آخر قالت: كان لنا حصير (¬2) نبسطه بالليل يصلى إليه، فبات الناس يصلون بصلاته (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، رقم (729)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان، رقم (761)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الرجل يأتم بالإمام، وبينهما جدار، رقم (1126)، واللفظ له. (¬2) في الأصل: حديت، وعليها (ط)، والتصويب من الصحيحين. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: صلاة الليل، رقم (730)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، رقم (782).

والجواب: أن علي بن سعيد (¬1) قال: سألت - يعني: أحمد - عن حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الحجرة، والناس يأتمون به من وراء الحجرة، قال: كأنه على صلاة الليل، أو تطوع. فقد بين أحمد - رحمه الله -: أن هذا لم يكن في صلاة الفرض، ومن أصحابنا من أجاز ذلك في صلاة النفل (¬2)، والصحيح عندي: أن الفرض والنفل سواء، ويُحمل الخبر على أن باب الحجرة كان مفتوحًا؛ بحيث يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يشاهد من خلفه؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج أيضًا: بما روى أبو بكر بإسناده عن محمد بن عمرو بن عطاء (¬3) قال: صليت مع ابن عباس - رضي الله عنهما - في حجرة ميمونة زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الإمام يوم الجمعة (¬4). والجواب: أنه محمول على اتصال الصفوف. واحتج: بأنه ليس بينه وبين الإمام ما ليس بمحل للصلاة، فصح ائتمامه به؛ كما لو صلى خلف سارية، أو حائط في المسجد. والجواب: أنه باطل به إذا كان بينهما شارع؛ لأن الشارع محل ¬

_ (¬1) ينظر: الزركشي (2/ 105). (¬2) ينظر: الإنصاف (4/ 449). (¬3) القرشي العامري، المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي في حدود 120 هـ. ينظر: التقريب ص 556. (¬4) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (2/ 133)، قال ابن رجب: (رواه الأثرم بإسناده). ينظر: فتح الباري (4/ 277)، وفي إسناد الفاكهي من لم يسم.

115 - مسألة: يكره أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم

للصلاة، ألا ترى أن الصفوف إذا اتصلت به، صحت الصلاة؟ وعلى أن المعنى في السارية: أنها لم تُبْن للحائل، وحائط الحجرة بُني للحائل، فلهذا فرقنا بينهما، والله أعلم. * * * 115 - مَسْألَة: يكره أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم (¬1): نص عليه في رواية حنبل (¬2)، ويعقوب بن بختان (¬3)، واللفظ ليعقوب، وقد سئل: عن الإمام أرفع من موضع مَنْ خلفَه؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن يكون مَنْ خلفَه أرفعَ. وبهذا قال أبو حنيفة (¬4)، ومالك (¬5) - رحمهما الله -. وقال الشافعي - رضي الله عنه - (¬6): أختار للإمام الذي من خلفه الصلاة (¬7): أن يصلي على موضع مرتفع، فيراه من وراءه. ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية ص 101، والتمام (1/ 221)، والإنصاف (4/ 453). (¬2) ينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 236). (¬3) ينظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 236). (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 33، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 229). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 81)، والإشراف (1/ 300). (¬6) ينظر: الأم (2/ 343)، والحاوي (2/ 344). (¬7) في الأم (2/ 343): (الذي يُعلّم مَن خلفه أن يصلي ... ).

دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عدي بن ثابت قال: حدثني رجل: أنه كان مع عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، فقام على دكان يصلي، والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة - رضي الله عنه -، فأخذ على يديه، فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار (¬1) من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أم الرجل القوم، فلا يقوم مقامًا أرفعَ من مقامهم"؟ قال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذتَ على يدي (¬2)، فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ذلك، وأخذ بظاهر الخبر. فإن قيل: يحمل هذا النهي عليه إذا لم يقصد به تعليم مَنْ خلفه الصلاة. قيل له: النهي عام، فلم يجز تخصيصه إلا بدلالة، ولأن موضع الإمام أعلى من موضع المأموم، فوجب أن يكره ذلك، أصله: إذا لم يرد أن يعلِّم مَنْ خلفه، ولأنه إذا كان الإمام أعلى، لم يمكنه أن يقتدي به إلا بعد رفع رأسه إليه، وهو منهي عن ذلك. واحتج المخالف: بما روى سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن ¬

_ (¬1) نهاية الوجه الأول من لوح (146) وما بعده نقلًا من الوجه الثاني من لوح (119)؛ لأن في ترميم النسخة الأصلية من قبل دارة الملك عبد العزيز - رحمه الله - اختل الترتيب. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يقوم مكانًا أرفع من مكان القوم، رقم (598)، وإسناده ضعيف، قال الذهبي في التنقيح (4/ 58): (فيه مجهولان). وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 496).

النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بنا وهو على المنبر، فركع، ورجع القهقرى حتى نزل وسجد، ثم رقى، فلما فرغ قال: "إنما فعلتُ ذلك لتأتموا بي، ولتعلّموا (¬1) صلاتي" (¬2)، قال الشافعي: إنما نزل، لأنه لم يتمكن من السجود على المنبر، لتضايقه (¬3). والجواب: أن هذا الخبر أفادنا الجواز، والكراهية استفدناها بما روينا؛ كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخّر المغرب اليوم الثاني حين بَيَّنَ المواقيت (¬4)، فأفاد بذلك الجواز، وإن كان مَنْ أخرها إلى ذلك الوقت كان مؤدِّيًا لها في وقتها، واستفدنا كراهيةَ التأخير إلى ذلك الوقت بدلالة أخرى. فإن قيل: في الخبر ما يمنع من هذا، وهو قوله - عليه السلام -: "إنما فعلتُ ذلك، لتأتموا بي، ولتعلموا (1) صلاتي"، فامتنع أن يكون القصد به الجواز. قيل له: فالخبر أفاد الجواز في حق من أراد أن يعلِّم مَنْ خلفه، وأن ذلك جائز، واستفدنا جواز ذلك في حق من لم يرد التعليم من موضع آخر. ¬

_ (¬1) في الأصل: تعلموا، والتصويب من الصحيحين. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر، رقم (917)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، رقم (544). (¬3) ينظر: الأم (2/ 343). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس، رقم (614).

116 - مسألة: إذا وقف قدام الإمام، لم يصح اقتداؤه به

فإن قيل: فلا يصح حملُه على الجواز؛ لأن التعليم بالفعل المكروه لا يجوز؛ لأنه يكون قد فعل ما فيه إثم، وإنما يجوز ذلك بالقول. قيل له: ويجوز ذلك بالفعل أيضًا؛ كما بينا في تأخيره صلاة المغرب في اليوم الثاني. واحتج: بأن المأموم يكره له أن يرفع الصوت بالتكبير، فإذا أراد إعلامَ مَنْ وراءه من المأمومين ليقتدوا بالإمام، استحب له أن يرفع صوته بها لهذا المعنى، كذلك في الموقف. والجواب: أنا نقول له: ولم وجب هذا؟ وما العلة الجامعة بينهما؟ ثم يقال له: إذا أمكن القوم أن يعلموا صلاة الإمام يرفع صوته بالتكبيرات، أو رفع صوته بعض المأمومين (¬1)، ما الذي يُحْوِجه (¬2) إلى أن يقوم في موضع هو أعلى من موضع المأمومين؟ والله أعلم. * * * 116 - مَسْألَة: إذا وقف قدام الإمام، لم يصح اقتداؤه به: نص عليه في رواية أبي طالب (¬3): فيمن صلى بين يدي الإمام يوم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: يعلموا صلاة الإمام برفع صوته بالتكبيرات، أو برفع صوت بعض ... (¬2) في الأصل: الذي يحوجه ... (¬3) لم أقف عليها، وقد نقل نحوها الكوسج في مسائله رقم (400).

الجمعة: يُعيد، وكذلك نقل ابن إبراهيم (¬1): في رجل صلى بقوم، فصلى بعضهم قدامه: يعيدون، وكذلك نقل عبد الله (¬2). وبهذا قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬3). وقال مالك (¬4)، والشافعي - رحمهما الله - في القديم (¬5): تصح الصلاة. دليلنا: ما رُوي في حديث معاذ - رضي الله عنه -: أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما كنت أجدك على حال إلا أتابعك عليها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَنَّ لكم معاذ، وكذلك فافعلوا" (¬6)، فأمر باتباع الإمام، وإذا قام قدامه، لم يكن تابعًا له، بل يكون متبوعًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به" (¬7)، والائتمام: الاتباع، وكونه قدامَ إمامه يمنع أن يكون تابعًا، ويوجب أن يكون متبوعًا. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (326). (¬2) في مسائله رقم (538). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 236)، والمبسوط (1/ 146). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 81)، والإشراف (1/ 300). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 341)، والمهذب (1/ 325). (¬6) أخرجه أحمد في المسند رقم (22124)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان؟ رقم (506)، والراوي عن معاذ - رضي الله عنه - لم يسمع منه، فهو منقطع. ينظر: التلخيص (2/ 953). (¬7) مضى تخريجه في (1/ 241).

فإن قيل: الائتمام به أن يكون مقتديًا به، قاصدًا أن يفعل مثلَ فعله، وذلك لا يقتضي التأخر عنه؛ لأنه يجوز أن يكون متقدمًا عليه، ويفعل مثل فعله. قيل له: قد بينا أن الائتمام هو: الاتباع، وهذا يقتضي أن يكون تابعًا له في الأفعال، والمقام، وكونُه أمامَه يمنع أن يكون تابعًا، وأصله (¬1). وأيضًا: فإنه قد أخذ علينا اتباع الإمام في المقام، وفي الأفعال؛ لأنه قيل له: ليكن مقامك وراء الإمام، أو معه، وأفعالك بعد أفعاله، أو معه، ألا ترى أنه إذا تقدم، فقد أساء؟ ثم اتفقوا أنه لو تقدم الإمام في أفعال الصلاة؛ مثل: الركوع، والسجود، لم يصح، كذلك إذا تقدمه في المكان، وتحرير هذا أن نقول: تقدم الإمام فيما أُخذ (¬2) عليه اتباعه فيها يمنع صحة صلاته؛ كما لو سبقه بالركوع، والسجود، ونحو ذلك. فإن قيل: ليس إذا سبق الإمام فركع ثم ركع الإمام، وسجد ثم سجد الإمام، لم تبطل صلاته، ولم يفسد إلا هذا، وإن فعل ذلك في جميع أفعال الصلاة، كذلك ها هنا. قيل له: إنما افترقا من هذا الوجه؛ لأن هذا القدر من السبق لا يمكن الاحتراز منه؛ لأن العادة أن المأموم قد يسبق الإمام في القدر اليسير، فعفي عنه، وليس كذلك في التقدم في الموقف؛ لأنه يمكن الاحتراز منه، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: لأصله. (¬2) في الأصل: أحد.

فلا حاجة به إليه. واحتج المخالف: بأنه ليس في التقدم على الإمام أكثر من مخالفة الموقف المسنون، وهذا لا يمنع صحة الاقتداء، ألا ترى أن المأموم إذا وقف عن يسار الإمام، أو خلفَه فذًا خلف (¬1)، أو كانا اثنين، فوقفا مع الإمام، صح اقتداؤهم، أو وقفت امرأة إلى (¬2) جنب رجل؟ كذلك ها هنا. والجواب: أنه إذا وقف عن يسار الإمام، أو خلف الصف، فإن صلاته باطلة، وأما إذا وقف الإمام في وسطهم، أو وقف إلى جنب امرأة، فإنما لم تبطل؛ لأنه موقف مؤتم بحال، وهو إذا صلى بالعُراة، أو صلت امرأة بنساء، فإن الإمام يقف في وسطهم، وكذلك إذا كان الإمام رجلًا - وهو عريان -، والمأموم امرأة، فإنها تقف إلى جنبه، وعلى أنه قد تقدم الإمام فيما أُخذ (¬3) عليه اتباعه، وذلك يمنع صحة الاقتداء، كما قلنا في الأفعال. واحتج: بأنه لو استدار الناس حول الكعبة، وكان الإمام من البيت على ذراعين، والذين في مقابلته من الجانب الآخر على ذراع منه، صحت صلاتهم، وهم لا محالة قدام الإمام. والجواب: إنما يكونون قدامه إذا كانوا في الجانب الذي يكون فيه الإمام، وظهرُهم إليه، فأما إذا كانوا في الجانب الآخر، ووجوههم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والمراد بيّن، وهو: خلف الصف. (¬2) في الأصل: على. (¬3) في الأصل: أحد.

على وجه الإمام، فإنهم لا يكونون قدامه، وقد أومأ أحمد - رحمه الله - إلى جواز ذلك بمكة، قال أبو طالب (¬1): سألت أبا عبد الله عن الإمام يدورون حوله يصلي بهم؟ فقال: الأمصار غير مكة، فقيل له: إن أبا ثور (¬2) يقول: يصلون خلفه مثل البيت، فقال: هذا قول سوء، البيت قبلتهم. فإن قيل: أليس قد قال أحمد - رحمه الله - في رواية المروذي (¬3): في المرأة تؤم الرجل في شهر رمضان؟ إذا كان الرجل لا يحسن أن يقرأ في التراويح، يتقدم الرجل، وتقرأ هي من ورائه، وكذلك نقل أبو طالب عنه (¬4): يؤم الرجل المرأة، والمرأة تقرأ، فإذا قرأت، ركع وركعت، يكون هذا في التطوع، لا يكون في الفرض. قالوا: فقد نص على أن المرأة تكون إمامًا للرجل في صلاة النفل إذا كانت أقرأ منه، وتكون من ورائه، والرجل أمامها. قيل له: إنما جاز إمامتها في القراءة، لا في الصلاة؛ لأنه قد صرح بذلك في رواية أبي طالب، فقال: إذا قرأت، ركع وركعت، فقدَّم ركوعَ الرجل على ركوعها، وإذا كان الرجل هو الإمام في الصلاة، فلم يجئ ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (3/ 37)، والإنصاف (4/ 419). (¬2) هو: إبراهيم بن خالد الكلبي، البغدادي، أبو ثور، ويكنى بأبي عبد الله أيضًا، قال الذهبي: (الإمام، الحافظ، الحجة، المجتهد، مفتي العراق)، توفي سنة 240 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 72). (¬3) ينظر: الزركشي (2/ 96)، والإنصاف (4/ 385). (¬4) ينظر: الزركشي (2/ 96).

منه تقدم المأموم على الإمام في الصلاة، وإنما أجاز اقتداء الرجل بالمرأة في القراءة في صلاة النفل؛ لما روى أبو بكر المروذي بإسناده عن أبي خلاد الأنصاري قال: سألتْ أم ورقة - رضي الله عنها - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إني أصلي، ويصلي بصلاتي أهلُ داري ومواليَّ، وفيهم رجال (¬1) ونساء يصلون بقراءتي، وليس معهم قرآن؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قدِّمي الرجالَ أمامك، وقومي مع النساء، ويصلون بصلاتك" (¬2)، ولأنه لما جاز الإخلال بركن من أركان الصلاة في صلاة النفل - وهو القيام -، جاز الاقتداء بها بركن؛ إذ ليس الاقتداء بأضعف من تركه، ولأنه لما جاز أن يؤم الشخص في صلاة دون صلاة - وهو العبد -، جاز أن يؤم في ركن دون ركن. وأجودُ ما يجاب عن هذا: بأن القياس كان يقتضي أن تبطل صلاتهم، لكن تركنا ذلك لدليل هو أقوى منه، وهو الخبر، ولأنه غير ممتنع أن يختلف مقام الإمام لأجل المأمومين؛ بدليل: أن العراة يقوم في وسطهم، ويخالف مسنون الموقف في التقدم، وكذلك يقوم في وسطهم، وكان المعنى فيه: أنه أسترُ للإمام بوقوفه في وسطهم، ومثلُ هذا تأخرُ المرأة خلف الرجال أسترُ لها، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: رجا. (¬2) مضى تخريجه في (2/ 258، 259).

117 - مسألة: إذا أم رجلا أو امرأة، فمن شرط صحة الائتمام: أن ينوي إمامة من يؤمه

117 - مَسْألَة: إذا أَمَّ رجلًا أو امرأة، فمن (¬1) شرط صحة الائتمام: أن ينوي إمامة من يؤمُّه: نص عليه في رواية صالح (¬2)، وابن منصور (¬3): في رجل ائتم برجل، ولم ينو ذلك الرجل أن يكون إمامَه، تجزئ الإمامَ صلاتُه، ويعيد هو. وقال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬4): إن كان المأموم رجلًا، فلا حاجة به إلى النية، وإن كانت امرأة، فعليه أن ينوي ذلك. وقال الشافعي - رضي الله عنه - (¬5): ليس عليه ذلك، سواء كان المأموم رجلًا أو امرأة. دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما ¬

_ (¬1) في الأصل: فيمن، والتصويب من رؤوس المسائل لأبي يعلى - رحمه الله - لوح رقم 19. (¬2) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة. وينظر: الهداية ص 94 المغني (3/ 73)، والفروع (2/ 147)، والإنصاف (3/ 374)، وبدائع الفوائد (4/ 1464)، وفتح الباري لابن رجب (4/ 198). (¬3) في مسائله رقم (338). (¬4) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 588)، والهداية (1/ 58). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 349)، وروضة الطالبين (1/ 367). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 86)، والإشراف (1/ 302).

لامرئ ما نوى" (¬1)، وهذا الإمام لم ينو الإمامة، فيجب أن لا يحصل له ذلك، ولأن الجماعة تفتقر إلى إمام ومأموم، وأجمعنا على أن المأموم لا بد أن ينوي إمامة من يأتم به، يجب أيضًا في حق الإمام أن ينوي إمامة من يؤمه، والعلة فيه: أن الإمام أحدُ من تنعقد به الجماعة. فإن قيل: الفرق بينهما: أن المأموم يلزمه اتباع الإمام، فلا بد من أن يقصد ذلك، ولا يجب على الإمام اتباع المأمومين، فلا يجب عليه أن ينوي أن يكون إمامًا لهم. قيل له: كما يلزم المأمومَ نية المتابعة، كذلك يجب على الإمام نية التحمل لسجود السهو، والقراءة، وفساد صلاة الغير بفساد صلاته. وقياس آخر: وهو أنه إمام لم ينو إمامة من يؤمه، فلم يصح الاقتداء به؛ دليله: إذا أمَّ امرأة، فإن أبا حنيفة - رحمه الله - قد قال: من شرط الإمام أن ينوي أنه يؤمها، كذلك في الرجل. فإن قيل: الفرق بينهما: أن الإمام قد يلحقه فساد صلاته من جهة المرأة، وهو إذا وقفت بجنبه، فسدت صلاته، فلهذا لم يصح ائتمامها إلا بنية كالمأموم؛ لما لحقه فساد صلاته من جهة الإمام، لهذا افتقر إلى النية، وليس كذلك الرجل؛ لأنه لا يلحق الإمام فساد من جهته، فلهذا لم يفتقر إلى النية. قيل له: لا نسلم لك أن الإمام يلحقه فساد صلاته من جهة المرأة ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 350).

بوقوفها بجنبه، وقد مضى الكلام على ذلك (¬1)، وعلى أن المأموم قد يلحقه الفساد من جهة المرأة إذا وقفت بجنبه، ثم لا يعتبر نيته في صحة ائتمامها كالإمام، وكذلك الإمام في صلاة الجمعة تبطل صلاته بانفضاض المأمومين عنه قبل أن يتم الركعة، ولا يعتبر نية الإمام في اقتداء المأمومين به، كذلك الإمام إذا سبقه الحدث، ومضى ليتوضأ، فقدَّم (¬2) القوم رجلًا يصلي بهم قبل أن يخرج الإمام الذي سبقه الحدث عنده، وكذلك إذا سبقه الحدث، وليس معه إلا مأموم واحد، تعينت الخلافة فيه، وإن لم ينوه الإمام الأول، وإن شئت قلت: ما يعتبر في صحة ائتمام المرأة للرجل اعتبر في صحة ائتمام الرجل بالرجل؛ قياسًا على كون الإمام من أهل التحمل، وهو أن لا يكون أميًا، ولا يكون مستدام الحدث، وأن يكون من أهل الركوع والسجود، وعكسه: ما لا يعتبر في صحة ائتمام الرجل بالرجل؛ كالحرية، والرق، والعلم. واحتج المخالف: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت عند خالتي ميمونة - رضي الله عنها -، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام فتوضأ ووقف يصلي، فقمت وتوضأت، ثم جئت فوقفت على يساره، فأخذ بيدي فأدارني (¬3) ¬

_ (¬1) في (1/ 263). (¬2) نهاية النقل من الصفحة الأولى من لوح (121)، وينقل ما في الصفحة الثانية من لوح (146). (¬3) في الأصل: فاداني.

عن يمينه (¬1)، فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استفتح الصلاة بالليل، لم ينو أن يؤم غيره؛ لأنه كان وحده، فلما جاء ابن عباس - رضي الله عنهما - يأتم به، لم يمنعه، فدل على أن نية الإمامة (¬2) غير معتبرة في الإمامة. والجواب: أن هذا الخبر يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينو الإمامة حين دخوله في الصلاة، وليس فيه أنه لم يحدث نية عند دخول ابن عباس معه، ويجوز أن يكون قد أحدث نية الإمامة، ونحن نجيز مثل هذا في صلاة النفل، وقد نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية الجماعة (¬3)، منهم: حمدان بن علي الوراق: في الرجل يدخل في الصلاة، وهو لا ينوي أن يؤم أحدًا، فجاء رجل، فأتم به؟ قال: لا يعجبني في الفريضة، فأما في التطوع، فلا بأس، وذكر حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. فإن قيل: فلو كانت نية الإمام شرطًا في صحة الإمامة، لوجب اعتبارها من أول الصلاة. قيل له: نحن نعتبر ذلك من أول الصلاة في صلاة الفرض، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وقلنا: إذا أحرم بالصلاة منفردًا، لم يصح أن يكون إمامًا في الثاني، وإنما لا يعتبر ذلك في صلاة النفل، وقد بينا الفرق بينهما، يبين صحة الفرق: أن صوم النفل تتأخر النية فيه عن ابتدائه، كذلك ها هنا، وعلى أنه لا يمنع أن تكون نية الإمام شرطًا في صحة الإمامة، وإن ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 502). (¬2) في الأصل: الامة. (¬3) ينظر: (2/ 399، 400).

118 - مسألة: صلاة الفذ خلف الصف وحده باطلة

لم تعتبر في ابتداء الصلاة، كما قلتم في نية المأموم: هي شرط في صحة الائتمام، ويجوز أن يوجد في أثناء الصلاة، وهو إذا أحرم بالصلاة منفردًا، ثم ائتم بغيره، فإنه يجوز ذلك عند الشافعي (¬1)، كذلك ها هنا. فإن قيل: فالإمام لا يجب عليه اتباع المأمومين، فلا يجب عليه أن ينوي أن يكون إمامًا لهم، ويفارق المأموم؛ فإنه يلزمه اتباع الإمام، فلا بد من أن يقصد ذلك. قيل له: قد أجبنا عن هذا السؤال في أول المسألة بما فيه كفاية، والله أعلم. * * * 118 - مَسْألَة: صلاة الفَذِّ خلف الصف وحدَه باطلة: نص عليه في رواية الأثرم (¬2)، وعبد الله (¬3)، وأبي الحارث (4)، وحنبل (¬4)، ................................................. ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 337). (¬2) ينظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 28). (¬3) في مسائله رقم (539). (¬4) لم أقف على روايته، وقد نقل مثلها أبو داود في مسائله رقم (250 و 251)، وابن هانئ في مسائله رقم (431 و 433)، والكوسج في مسائله رقم (262 و 353)، وينظر: المغني (3/ 49).

وصالح (¬1)، وهكذا إذا وقف على يسار الإمام، وليس عن يمينه أحد، نص عليه أيضًا في رواية أبي طالب (¬2)، فقال: إذا صلى على يسار الإمام، يعيد الصلاة؛ لأنه خالف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رضي الله عنهم -: صلاته صحيحة. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن زياد بن أبي الجعد (¬6) عن وابصة بن معبد الأسدي - رضي الله عنه - قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة (¬7). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (364). (¬2) ينظر: الفروع (3/ 38)، والإنصاف (4/ 421)، وكشاف القناع (3/ 220). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 234)، وبدائع الصنائع (1/ 629). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 105)، والإشراف (1/ 299). (¬5) ينظر: الأم (2/ 345)، والحاوي (2/ 340). (¬6) اسم والده: رافع الكوفي، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 207. (¬7) أخرج الحديث: أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الرجل يصلي وحده خلف الصف، رقم (682)، والترمذي في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، رقم (230)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: صلاة الرجل خلف الصف وحده، رقم (1004)، قال ابن المنذر: (ثبَّت هذا الحديث أحمد، وإسحاق، وهما من معرفة الحديث بالموضع الذي لا يدفعان عنه). ينظر: الأوسط (4/ 184)، ونقله عنه ابن قدامة في المغني (3/ 50)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 347): (صححه أحمد)، وينظر: تهذيب السنن لابن القيم (1/ 336)، وفتح الباري =

وروى أيضًا بإسناده عن هلال بن يساف (¬1) عن وابصة (¬2) بن معبد قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل صلى خلف الصف وحده؟ قال: "يعيد الصلاة" (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن محمد بن الحنفية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا قد صلى وحده خلف الصفوف، فأمره أن يعيد (¬4). وروى أيضًا بإسناده عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان (¬5) عن أبيه قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجل قد صلى خلف الصف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استقبل صلاتك، لا صلاة لفرد خلف الصف" (¬6)، فمن ¬

_ = لابن رجب (5/ 23)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 497). (¬1) الأشجعي مولاهم، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 645. (¬2) في الأصل: وابه. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (18004)، وينظر: حاشية رقم (7) من الصفحة الماضية. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في الأصل: سنان. وعبد الرحمن هو: ابن علي بن شيبان الحنفي، اليمامي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 372. (¬6) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (16297)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: صلاة الرجل خلف الصف وحده، رقم (1003)، وصحح إسناده ابن القيم، وقواه ابن عبد الهادي. ينظر: إعلام الموقعين (4/ 185)، والتنقيح (2/ 499)، وللفائدة ينظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 25).

هذه الأخبار دليلان: أحدهما: أنه أمره بالإعادة، والأمر بذلك يدل على الفساد ووجوب الإعادة. والثاني: أنه علل في حديث علي بن شيبان (¬1)، فقال: "لا صلاة لفرد خلف الصف". فإن قيل: فقد روى الأثرم بإسناده عن علي بن شيبان عن أبيه - رضي الله عنهما -: أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانصرفَ ورجلٌ يصلي خلف الصف، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى انصرف الرجل، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استقبل صلاتك، فلا صلاة لفذ خلف الصف"، قالوا: فلولا أن الصلاة صحيحة، لم يقف عليه حتى يتمها. قيل له: يحتمل أن يكون وقوفه عليه حتى يفرغ القوم من ركوعهم، فيقع البيان لهم عامًا، لا لأن صلاته صحيحة، ويحتمل أن يكون انتظر حتى يفرغ؛ خوفًا أن لا يجيبه؛ كما رُوي أنه - عليه السلام - نادى أبا سعيد بن المعلى وهو يصلي، فلم يجبه (¬2). فإن قيل: يحتمل أن يكون أمره بالإعادة في الوقت الذي كان يعاد فيه الفرض مرتين. ¬

_ (¬1) في الأصل: سنان. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ما جاء في فاتحة الكتاب، رقم (4474).

قيل له: قوله - عليه السلام -: "فلا صلاة لفرد خلف الصف" تعليلٌ يقتضي أن الإعادة وجبت لكونك فذًا، وعلى ما قالوه وجبت الإعادة؛ لأن الفرض كان يعاد. فإن قيل: يحمل قوله: "لا صلاة" كاملة. قيل: يجب أن يحمل النفي على أصل الصلاة، لا على وصفها (¬1)؛ كقوله: لا رجل في الدار، يقتضي نفيه أصلًا، لا نفي صفاته، ومثله أجابوا عن قوله - عليه السلام -: "لا نكاح إلا بولي" (¬2)، ولأنه تأخر عن الإمام فيما أُخذ عليه متابعته فيه، فبطلت صلاته؛ كما لو تأخر عنه في المتابعة في الركوع والسجود، وذلك أنه مأمور بالوقف في الصف، أو عن يمينه، فإذا وقف فذًا، فقد تأخر عما أُمر به، ولأنه لو صلى قُدّام الإمام، لم تصح صلاته في قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي - رحمهما الله تعالى - (¬3)، ¬

_ (¬1) في الأصل: على صفها. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في الولي، رقم (2085)، والترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم (1101)، وابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، رقم (1880)، قال ابن حجر في التلخيص (5/ 2275): (اختلف في وصله وإرساله، قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، قال: وفي الباب عن علي، وابن عباس، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًا). وينظر: المستدرك، كتاب: النكاح، رقم (2717)، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 86). (¬3) مضى ذكر الأقوال في (2/ 433).

والمعنى فيه: فيما أخذ عليه التأخر فيه، فإذا صلى فذًا، يجب أن تبطل أيضًا؛ لأنه تأخر فيما أخذ عليه التقدُّم فيه، ولأنه صلى فذًا عن الصف، فيجب أن تبطل صلاته؛ دليله: لو لم يقرأ خلف الإمام، أو وقف إلى جنب امرأة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لو كان في الصف، بطلت صلاته، كذلك إذا كان فذًا. قيل له: لا نسلم هذا (¬1)، بل نقول: لو كان في الصف، لم تبطل صلاته بترك القراءة، لا بوقوفه إلى جنب امرأة، وأجودُ ما يقال في ذلك: أنه قام مقامًا لا يجوز أن يقومه مع اختصاصه بالنهي لأجل صلاته، ففسدت صلاته؛ دليله: إذا قام قدام الإمام، ولا يلزم عليه إذا وقف إلى جنب امرأة؛ لأنه غير مختص بالنهي، بل هما مشتركان (¬2) فيه، وكذلك إذا وقف الإمام في وسط الصف، هو غير مختص بالنهي، بل الجميع مشتركون في النهي، ولا يلزم عليه (¬3): إذا وقف الإمام خلف المأمومين أن صلاته لا تفسد؛ لأن ذلك النهي ليس لأجل صلاته، وإنما نهي لأجل غيره، وهو أن ذلك يفسد صلاة المأمومين؛ بدليل: أنه لو كان منفردًا، وقف حيث شاء، ولو حذفنا الوصف الثالث، جاز؛ لأنه إذا صلى ¬

_ (¬1) في الأصل: هل. (¬2) في الأصل: مشتركا. (¬3) في الأصل: عليه عليه.

خلفهم، أخرج نفسه من الإمامة، فتبطل. واحتج المخالف: بما روى أبو بكر بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن جدته - رضي الله عنها - دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا فلنصَلِّ بكم"، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس، فنضحْتُه بماء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا ويتيم، والعجوزُ من ورائنا، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم انصرف (¬1)، قالوا: فوجه الدلالة: أن الصبي مع الرجل ليس بصف، ومع هذا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقرهما على ذلك. والجواب: أن هذا كان في صلاة النافلة؛ لأنه - عليه السلام - صلى بهم في دارهم، ولأنه صلى بهم ركعتين، وقد أجاز أحمد - رحمه الله - موقف الرجل مع الصبي في صلاة النافلة، فقال في رواية صالح (¬2) - وقد سئل: أيصلي الرجل وخلفه رجل وغلام؟ -، فقال: أما الفريضة، فلا يصلي حتى يدرك، وأما التطوع، فلا بأس به. وإذا كان كذلك، فقد قلنا بظاهره، وعلى أنه يحتمل أن يكون اليتيم بالغًا، وقد كانت العرب تقول: يتيم أبي طالب؛ يعنون: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). واحتج: بما روى أبو بكر بإسناده عن الحسن عن أبي بكرة - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 271). (¬2) في مسائله رقم (324). (¬3) ينظر: مسند الإمام أحمد رقم (2849).

قال: أتيت المسجد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكعٌ، فركعت، ثم مشيت حتى دخلت الصف، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من فعل هذا؟ "، قال: أنا، قال: "زادك الله حرصًا، ولا تعد" (¬1)، فوجه الدليل: أنه صار فذًا في تكبيرة الإحرام، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. والجواب: أن أبا بكرة كان جاهلًا في حكم الفذ، وقد أجاز أحمد - رحمه الله - صلاة من جهل ذلك إذا كَبَّر دون الصف، ودخل في الصف، فقال في رواية مهنا (¬2) - وقد سئل عن رجل ركع ركعة، وسجد سجدتين دون الصف، ثم جاء الناس، فقاموا إلى جنبه في الثلاث ركعات؟ -، فقال: يعيد الصلاة كلها، ولو كان ركع وحدها، ولم يسجد السجدتين، لم يكن عليه إعادة، لأن أبا بكرة ركع دون الصف، ولم يسجد. وكذلك نقل إبراهيم بن الحارث (3): في رجل كبر خلف الصف وحده، ثم ركع الإمام، فركع معه، فلحقه رجل، فدخل معه قبل أن يرفع الإمام، تجزئه صلاته، ولو لحقه بعد ما رفع الإمام، أعاد الصلاة، وكذلك نقل بكر بن محمد عنه (¬3): في رجل كبر خلف الإمام وحده، ثم جاء آخر: يجزئه، إلا أن يكون الركوع؛ يعني: فلا يجزئه، فقد نص على أنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إذا ركع دون الصف، رقم (783). (¬2) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 971). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: المغني (3/ 76)، والإنصاف (4/ 439)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 29)، وينظر قريبًا من هذه المسألة: الروايتين (1/ 173)، وكتاب: الصلاة لابن القيم ص 122.

إن أكمل الركوع خلف الإمام، لم تصح صلاته، وإن لم يكمل الركوع، لكنه كبر ووقف، ثم دخل في الصف في حال الركوع: أنه يجزئه، وإذا كان كذلك، فقد قلنا بموجب الخبر. واحتج: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بتُّ عند خالتي ميمونةَ بنتِ الحارث - رضي الله عنها - ليلةً، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندها، فقام يصلي من الليل، فقمت عن يساره لأصلي بصلاته، فأخذ بذؤابة كانت لي، أو برأسي، حتى جعلني عن يمينه (¬1)، قالوا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم ببطلان صلاته، وقد كَبَّر عن يساره. والجواب: أن هذا الخبر لا حجة فيه، لأنه ليس فيه أنه كبر، وإنما قال: قمت عن يساره لأصلي، ويحتمل أن يكون لم يكبر، ولو ثبت أنه كبر، فإنها صلاة نافلة، وقد حكينا عن أحمد - رحمه الله -: أنه يقف في صلاة النفل خلف الإمام مع صبي، ولأنا قد بيّنا أن تكبيرة الإحرام خلف الصف لا تمنع البناء، فلم يكن في هذا حجة، وعلى أنه حجة لنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أداره عن يمينه، كان فيه نهيٌ عن الوقوف على يساره، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. واحتج: بأن هذا موقف مؤتم بحال، أشبهَ إذا وقف في الصف. والجواب: أنه، وإن كان موقف مؤتم بحال، وهو إذا وقف إلى جنبه رجل، فليس هو في هذه الحال موقف مؤتم، ويجب أن يساوي ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 502).

وقوفه قدام الإمام الذي ليس بموقف مؤتم بحال، ومثل هذا ما قلناه: إن العقد على المعتدة، والعقد على ذوات المحارم لا يصح، وهما سواء في فساد العقد، وإن كانا يفترقان في الجواز في حالة أخرى، وهو أن المعتدة تباح بحال، وهو بعد انقضاء العدة، وذوات المحارم لا تباح بحال، وكذلك لا يصح بيع الخمر، والبول؛ لأنهما نجسان (¬1) في الحال، وإن كان للخمر حالة يطهر فيها، وهو إذا زالت (¬2) الشدة، والبول ليس له حالة للتطهير، وكذلك قلنا نحن (¬3)، والشافعي (¬4) - رحمه الله -: إن الولد لا يلحق للمشرقي (¬5) من المغربية، وقسناه على زوجة الصبي إذا جاءت بولد يعلمه أنه لا يمكن أن يكون منه، وإن كنا نعلم أن الصبي ليس له فراش أصلًا، والمشرقي له فراش في الجملة، لكن لما اتفقا في هذه الحالة، تساويا في نفي النسب، كذلك الفذ قد ساوى المتقدم على الإمام في الحال، وإن اختلفا من الوجه الذي ذكرته، ولأن المعنى في الأصل: أنه لم يخالف مسنون الموقف، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه انفرد عن الصف، أو نقول: ليس كذلك ها هنا؛ لأنه لم يتأخر عن الإمام فيما أُخذ عليه التقدم فيه. ¬

_ (¬1) في الأصل: نجسين. (¬2) في الأصل: زال. (¬3) ينظر: المغني (11/ 236)، وزاد المعاد (5/ 421). (¬4) ينظر: الحاوي (11/ 160)، وروضة الطالبين (8/ 357). (¬5) في الأصل: من المشرقي من المغربية.

واحتج: بأن مخالفة مسنون الموقف لا يبطل، كما لو وقف إلى جنب امرأة، أو وقف الإمام في وسطهم. والجواب: أن الرجل لم ينفرد بالمخالفة، بل شاركته المرأة، ولم تبطل صلاتها، وكذلك أهل الصف لم يتفردوا بالمخالفة، بل شاركهم الإمام، ولا تبطل صلاته، وها هنا انفرد الفذ بالمخالفة والوقوف على يساره، فبطلت صلاته؛ كما لو وقف قدام الإمام. واحتج: بأن الركعة من الصلاة، فإذا صلى فذًا، لم تبطل صلاته؛ دليله: تكبيرة الإحرام؛ فإنه قد نص على جواز ذلك، وكما لو كانا نفسين خلف الصف، فكبر أحدهما قبل صاحبه، فإن الصلاة صحيحة، نص عليه في رواية الأثرم (¬1)، وإبراهيم بن الحارث: في رجلين وقفا خلف الإمام، فكبر أحدهما قبل صاحبه، يخاف أن يدخل في الصلاة خلف الصف؟ فقال: ليس هذا من ذاك، إنما ذاك في الصلاة بكمالها، أو ركعة كاملة، وما شابه ذلك. والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: إذا استدام الانفراد عن الصف، أبطل، وإذا كان يسيرًا، لم تبطل؛ كما قلنا في كثير العمل في الصلاة يبطله (¬2)، وقليله لا يبطل، ولأن هذا قياس المنصوص عليه، على المنصوص عليه وهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط أحد النصين، ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (3/ 54)، والشرح الكبير (4/ 434). (¬2) في الأصل: يسير العمل في الصلاة يبطله.

وذلك حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - يقتضي جواز التكبيرة، وحديث وابصة - رضي الله عنه - يقتضي ما زاد عليها، ففي صحة هذا القياس إبطال أحد النصين، وهذا لا يجوز. وجواب آخر: وهو: أنه إنما تصح صلاته إذا كان جاهلًا بالحكم، والجاهل كالناسي عند مخالفنا في النهي عنه في المنهي، جاز أن يكون حكمه عندنا حكم الناسي في العفو في المأمورات ما لم يمنع دليل، ولهذا قالوا: لو تكلم في الصلاة جاهلًا، أو أكل في الصيام جاهلًا بذلك، لم تبطل صلاته، ولا صيامه، كذلك عندنا ها هنا. واحتج بعضهم: بأنه لو وقف إلى جنبه غيره، صحت صلاته، فإذا وقف وحده، صحت؛ كالإمام، والمنفرد. والجواب: أنه ليس إذا انضم إليه صحت صلاته، يجب أن تصح إذا انفرد؛ بدليل: الشاهد الواحد إذا انضم إليه غيره، قبلت شهادته، ولو انفرد، لم تقبل، وكذلك الإيجاب إذا انضم إليه القبول، صح، ولو انفرد، لم يصح العقد، ثم المعنى في الأصل: أنه أصاب مسنون الموقف، وها هنا قام مقامًا لا يجوز أن يقومه مع اختصاصه بالنهي لأجل، فهو كما لو وقف قدامه. واحتج: بأنه لو وقف إلى جنب (¬1) صبي، صحت صلاته، والصبي ليس من أهل الصف، فدل على أن الفذ لا تبطل صلاته. ¬

_ (¬1) في الأصل: على جنب.

والجواب: أننا ننظر، فإن وقف إلى جنب صبي في صلاة الفرض، لم تصح صلاته، وإن وقف إلى جنبه في صلاة النفل، صحت، وكان المعنى فيه: أن الصبي لا يصح أن يكون إمامًا للرجل في الفرض، فلهذا لم يصافه؛ كالمرأة، وليس كذلك في صلاة النفل؛ لأنه يصح أن يكون إمامًا له فيها على إحدى الروايتين، فلهذا جاز أن يصافَّه، وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية صالح: في الرجل يصلي، وخلفه رجل وغلام؟ فقال: أما الفريضة، فلا يصلي حتى يدرك، وأما التطوع، فلا بأس به (¬1). وكذلك نقل أبو الحارث (¬2): إذا صلى رجل وغلام في الصف، لم يدرك الغلام؟ يعيد. وإذا ثبت أن الصبي لا يصاف الرجل في الفريضة، فاين يقوم الصبي؟ فيه روايتان: إحداهما: يقوم عن يسار الإمام، والرجل عن يمينه، نص عليه في رواية أبي طالب (¬3): في رجل صلى مع رجل، فجاء صبي لم يبلغ، فلا يقوم الرجل مع الصبي خلف الإمام، وليقُمْ عن يسار الإمام. والثانية: أنه مخير، إن شاء أقامه عن يساره، وإن شاء أقامه عن يمينه مع الرجل، نص عليه في رواية حرب (¬4): في إمام حضره رجل وغلام ابن عشر سنين، ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (324). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: المغني (3/ 40 و 53)، والإنصاف (4/ 435). (¬3) ينظر: الفروع (3/ 48). (¬4) لم أقف عليها، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (542)، وينظر: مسائل =

فإن قام في وسطهما، أو أقامهما عن يمينه، فلا بأس؛ فقد خير في ذلك. واحتج: بأنه لو صلى إلى جنب محدِث، وهو لا يعلم بحدث نفسه، ثم علم، فإن صلاة من صلى إلى جنبه صحيحة، وإن كان فذًا. والجواب: أن المذهب على هذا، وأن صلاته صحيحة، نص عليه في رواية العباس بن محمد بن موسى (¬1)، فقال: إذا كان أحدهما محدثًا، يعيد المحدث، وصلاة الآخر تجزئه (¬2)، وكان المعنى فيه: أنه يصح أن يكون إمامًا له على هذه الصفة، ولهذا جاز أن يصافه، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وأن المحدث إذا صلى بغيره، ولم يعلم بحدث نفسه: أن صلاة المأموم صحيحة، كذلك إذا صافه؛ لأن حال (¬3) الإمامة أكمل، وقد صحت كذلك ها هنا، ولهذا نقول: لو صلى إلى جنب كافر، وهو لا يعلم، ثم علم: أن صلاته باطلة؛ لأنه لا يصح أن يكون إمامًا له على هذه الصفة، وقد نص أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية المروذي (¬4): ¬

_ = أبي داود رقم (295)، والمغني (3/ 40)، وبدائع الفوائد (3/ 965). (¬1) الخلال، البغدادي، قال أبو بكر الخلال: (كان من أصحاب أبي عبد الله الأوّلين)، له مسائل عن الإمام أحمد - رحمهما الله -. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 163)، والمقصد الأرشد (2/ 279). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: المستوعب (2/ 371)، ومختصر ابن تميم (2/ 322)، والإنصاف (4/ 435). (¬3) كررت في الأصل مرتين. (¬4) لم أقف عليها، وينظر: شرح الزركشي (2/ 91)، والإنصاف (4/ 430).

إذا صلى إلى جنبه جهمي، فلم يعلم حتى فرغ: يعيد، إنما كان وحده. فإن قيل: أليس قد قال الخرقي (¬1): وإن أم أميًا وقارئًا، أعاد القارئ وحده، ومعلوم أنه إذا حكمنا ببطلان صلاة القارئ، حصل الأميّ فذًا، والفذ خلف الصف تبطل صلاته. قيل: المسألة محمولة على أن الأمي عن يمين الإمام، فإذا بطلت صلاة القارئ، لم تبطل صلاته، أو يحمل على أنهما خلفه، ومع الأمي أمي آخر، فإذا بطلت صلاة القارئ، لم تبطل صلاة الأمي. فإن قيل: فما تقولون فيه إذا صلى منفردًا عن الصف في صلاة النافلة؟ قيل له: صلاته باطلة كالفريضة، وقد نص أحمد - رحمه الله -: على أنه إذا وقف إلى جنب صبي في صلاة النفل، تصح صلاته؛ بخلاف الفرض، فيحتمل أن تجوز صلاة النفل فذًا؛ لأن النفل أخف، ولهذا يجوز على الراحلة. فإن (¬2) قيل: فقد روى مهنا عن أحمد - رحمه الله -: في رجل صلى يوم الجمعة مع الإمام ركعة وسجدتين في الصف، ثم زحموه، فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده: يعيد الركعة التي صلاها وحده (¬3). ¬

_ (¬1) في مختصره ص 56. (¬2) في الأصل: فاقيل. (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 971)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 28).

قالوا: وهذا يدل على أن صلاته فذًا لا تبطل الصلاة من أصلها، وإنما يمنع الاعتداد بها، ويبني على تحريمته. قيل له: قد صرح بالبطلان في رواية الأثرم (¬1)، وصالح (¬2)، وعبد الله (¬3)، وأبي الحارث (¬4)، وما نقله مهنا فهو محمول على أحد وجهين: أحدهما: ما أومأ إليه أبو بكر: وأن الصلاة في هذه الحال انعقدت في الصف، وإنما صار [فذًا] (¬5) في أثنائها، ولا يمتنع أن ينافي الابتداء، ولا ينافي الاستدامة؛ كالعدة، والردة، والإحرام في عقد النكاح، والرجعة. والوجه الثاني: أنه في هذا الحال صار فذًا بغير اختياره، وهو أنه ¬

_ (¬1) ينظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 28). (¬2) في مسائله رقم (364). (¬3) في مسائله رقم (539). (¬4) لم أقف على روايته، وقد نقل مثلها أبو داود في مسائله رقم (250 و 251)، وابن هانئ في مسائله رقم (431 و 433)، والكوسج في مسائله رقم (262 و 353)، وينظر: المغني (3/ 49). (¬5) ساقطة من الأصل، والتتمة من فتح الباري لابن رجب (5/ 28). تنبيه: في فتح الباري تحرف اسم مهنا إلى حنبل، وهو خطأ، فالصواب أنه مهنا؛ كما في هذا الكتاب الذي نقل عنه ابن رجب - رحمه الله -، وكما يفهم من السياق.

119 - مسألة: لا بأس بقتل القملة ودفنها في الصلاة

زُحم فيه؛ بحيث لا يمكنه المقام في الصف، ولا عن يمين الإمام، وليس يمكنه أن ينفرد بفعل هذه الصلاة، فكانت هذه حال ضرورة، فجاز أن نحكم بصحتها؛ كما جاز ذلك في حق المريض يصلي قاعدًا، أو العادم للماء يصلي متيممًا. واحتج: بأنه صلى فذًا، فلا تبطل صلاته؛ كالمرأة. والجواب: أننا ننظر، فإن انفردت عن صف النساء، بطلت صلاتها، وإن انفردت عن صف الرجال، لم تبطل؛ لأن ذلك مسنون موقفها؛ بدليل: أم سلمة - رضي الله عنها -، وليس كذلك الرجل؛ لأنه موقف لا يجوز أن يقفه بحال مع اختصاصه بالنهي، والله أعلم. * * * 119 - مَسْألَة: لا بأس بقتل القملة ودفنها في الصلاة: نص عليه في رواية حرب (¬1): في الرجل يكون في الصلاة، فيأخذ القملة، فإن قتلها، فلا بأس، وإن دفنها، فلا بأس. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وقد نقل مثلها: صالح في مسائله رقم (388)، وينظر: مسائل عبد الله رقم (478)، ومسائل ابن هانئ رقم (204)، ومسائل الكوسج رقم (276)، والمغني (3/ 399)، ومختصر ابن تميم (2/ 207)، والإنصاف (3/ 610).

وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬1). وقال أبو يوسف: قد أساء، وصلاته تامة (1). دليلنا: ما رُوي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه أخذ قملة في الصلاة، فدفنها، ثم قرأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26] (¬2). وأيضًا: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تسوية الحصى في الصلاة؟ فقال: "مرة واحدة، أو دع" (¬3)، فأباح تسوية الحصى في الصلاة مرة، وطرح القملة ¬

_ (¬1) ينظر: الآثار (1/ 410)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 316)، وتبيين الحقائق (1/ 167). وذهبت المالكية: إلى أنه لا يقتلها في الصلاة، ولا في المسجد، ولا يلقيها فيه، ولا بأس أن يطرحها خارج المسجد. ينظر: المدونة (1/ 102)، والتاج والإكليل (2/ 443). وقالت الشافعية: بتحريم قتلها في المسجد، وإلقائها فيه، ودمها نجس يعفى عن يسيره، فإن كثر، لم تصح الصلاة، وقد مضى ذلك. ينظر: المجموع (3/ 99)، والأشباه والنظائر (2/ 321). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (1747)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (7568)، والبيهقي في الكبرى، باب: من وجد في صلاته قملة، رقم (3609)، وفي سنده: مسلم الملائي، قال ابن حجر: (ضعيف). ينظر: التقريب ص 591. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (21446) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، وسيذكره المؤلف، قال الهيثمي في المجمع (2/ 87): (فيه محمد بن أبي ليلى، وفي حديثه ضعف)، وينظر: إرواء الغليل (2/ 98)، وقد جاء =

ليس بأكثر من تسوية مرة، وقد نص على هذا في رواية أبي طالب (¬1) - وقد سأله عن مسح الحصى في الصلاة؟ -، فقال: مرة واحدة، وأبو ذر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مسحة واحدة، أو دع". ولأنه لو حك بدنه، لم يكره له، كذلك إذا طرحها ليس بأكثر من حك البدن. واحتج المخالف: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفوا أيديكم في الصلاة" (¬2)، وقال: "اسكنوا في الصلاة" (2)، وقتل القملة ودفنها ينافي السكون، فوجب أن يكره له ذلك. والجواب: أنا نخص الخبرين، ونحملهما على غير هذه الحال؛ بدلالة ما قدَّمنا. واحتج: بما رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في النخامة في المسجد: "إنها خطيئة، وكفارتها دفنها" (¬3)، فجعل التنخم فيه خطيئة، والناس ينفرون من ¬

_ = نحوه في الصحيحين من حديث معيقيب - رضي الله عنه -. ينظر: صحيح البخاري، كتاب: العمل في الصلاة، باب: مسح الحصا في الصلاة، رقم (1207)، وصحيح مسلم، كتاب: المساجد، باب: كراهية مسح الحصى، رقم (546). (¬1) لم أقف عليها، وينظر: الفروع (2/ 277)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 391). (¬2) مضى تخريجه في (2/ 232). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: كفارة البزاق في المسجد، =

120 - مسألة: لا يكره عد الآي في صلاة الفرض والنفل

القمل أكثر مما ينفرون من النخامة، فلأن يصان عن قتل القمل فيه ودفنها أولى. والجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل دفن النخامة كفارة لها، فإذا دفنها، صار كأنه لم يتنخم، كذا إذا دفن القملة يجب أن يصير كأنه لم يفعل في صلاته شيئًا، وقد روى إسحاق (¬1) قال: رأيت أحمد - رحمه الله - في الجامع يبزق في التراب، ويدفنه. واحتج: بأن قتلها ودفنها اشتغال عن الصلاة بما ليس منها، فوجب أن يكون كالالتفات، والعبث في الثياب، ونحو ذلك (¬2). والجواب: أن هذا باطل بحك البدن، وقتل العقرب، والله أعلم. * * * 120 - مَسْألَة: لا يكره عدُّ الآي (¬3) في صلاة الفرض والنفل: ¬

_ = رقم (415)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: النهي عن البصاق في المسجد، رقم (552)، وابن حبان في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: المساجد: ذكر الزجر للمرء أن يتنخم في المسجد، رقم (1635)، واللفظ له. (¬1) في مسائله رقم (338)، والفروع (2/ 266)، وإسحاق هو: ابن هانئ. (¬2) في الأصل: ويجوز ذلك. (¬3) في الأصل: عدد الآي، والتصويب من رؤوس المسائل لأبي يعلى =

نص عليه في رواية الأثرم (¬1)، وإبراهيم بن الحارث (1)، وقد سئل: عن عدِّ الآي (¬2) في الصلاة؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأسٌ. وقال أبو حنيفة: يكره ذلك في الصلاة (¬3). ¬

_ = لوح 19، والجامع الصغير ص 54. والمراد بعدّ الآي: أن يعد ذلك بقلبه، ويضبط عدده في ضميره من غير أن يتلفظ؛ فإنه متى تلفظ به، فبان حرفان، بطلت صلاته، ذكره ابن نصر الله - رحمه الله -، وقال: (لم أجد من نبه على ذلك، ولا بد من التنبيه عليه). ينظر: حاشية العنقري على الروض المربع (1/ 188)، وحاشية ابن قاسم على الروض (2/ 104). والذي يترجح - والله أعلم - أن المراد هو: العدّ بالأصابع، والعقد بها، وما شابهه، نص على ذلك ابن تميم في مختصره (2/ 206)، وابن مفلح في الفروع (2/ 267)، وصاحب المبدع (1/ 482)، والمرداوي في الإنصاف (3/ 608)، والحجاوي في الإقناع (1/ 198)، والبهوتي في شرح المنتهى (1/ 431). (¬1) لم أقف عليها، ونقلها عنه: عبد الله في مسائله رقم (473)، وأبو داود في مسائله رقم (230)، والكوسج في مسائله رقم (285)، والمغني (2/ 397)، ومختصر ابن تميم (2/ 206)، والفروع (2/ 267)، والإنصاف (3/ 608). (¬2) في الأصل: عدد الآي، والتصويب من رؤوس المسائل لأبي يعلى لوح 19، والجامع الصغير ص 54. (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 206)، وتحفة الفقهاء (1/ 244).

وقال أبو يوسف: يكره في الفرض، لا في النفل (¬1). دليلنا: ما أخبرني الخطيب (¬2) بإسناده (¬3) عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عدُّ الآي في الفريضة والتطوع" (¬4)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ فاتحة الكتاب في صلاته، فعدَّها سبع آيات عد الأعراب (¬5). ¬

_ (¬1) اختلف النقل عن أبي يوسف - رحمه الله -، فمرة: كما ذكر المؤلف، ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 207)، وأخرى: أنه لا بأس به في الفريضة والتطوع. ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 244). وذهبت المالكية إلى جواز ذلك. ينظر: مواهب الجليل (2/ 265)، ونقله عن الإمام مالك - رحمه الله - ابنُ المنذر في الأوسط (3/ 271)، وينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 207). وذهب الشافعي - رحمه الله - إلى أن تركه أفضل. ينظر: البيان (2/ 320)، والمجموع (4/ 25). (¬2) هو: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، المشهور بـ: (الخطيب البغدادي)، قال الذهبي: (الإمام الأوحد، العلامة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت). ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 270)، وقد مضت ترجمته عند ذكر تلاميذ القاضي في المقدمة (1/ 36). (¬3) في تاريخ بغداد (3/ 356). (¬4) قال الألباني: (موضوع؛ آفته أبو سعيد الشامي - وهو عبد القدوس بن حبيب الوحاظي - وهو كذاب). ينظر: السلسلة الضعيفة (8/ 317)، رقم (3857). (¬5) أخرجه الدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: الجهر ببسم الله الرحمن =

وأيضًا: ما روى وكيع أبو بكر محمد بن خلف (¬1) في كتاب العدد (¬2) بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: قال: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يعقد الآي في الصلاة، قال: أنس وأنا أعقد الآي في الصلاة (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن أبي إمامة، وواثلة - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن عدد الآي في الصلاة؟ فلم ير به بأسًا في التطوع (¬4). ¬

_ = الرحيم، رقم (1175)، وفي سنده عمر بن هارون البلخي (متروك الحديث). ينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 172)، والتقريب ص 459. (¬1) هو: محمد بن خلف بن حيان، أبو بكر الضبي، القاضي، المعروف بـ (وكيع)، قال الخطيب البغدادي عنه: (كان عالمًا فاضلًا، عارفًا بالسير وأيام الناس وأخبارهم، وله مصنفات كثيرة، منها: كتاب الطريق، وكتاب الشريف، وكتاب عدد آي القرآن)، توفي سنة 306 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (5/ 236)، وسير أعلام النبلاء (14/ 237). (¬2) المراد به: كتاب عدد آي القرآن. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ، وقد روى ابن عدي في الكامل (2/ 371) بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعد الآي في الصلاة، قال الذهبي: (لم يصح). ينظر: التنقيح (3/ 113)، وأخرج أبو عمرو الداني بإسناده عن ثابت قال: رأيت أنس بن مالك يعد الآي في الصلاة. ينظر: البيان في عد آي القرآن ص 42. (¬4) أخرج نحوه أبو يعلى في مسنده رقم (7489) من حديث واثلة - رضي الله عنه -، قال =

وروى بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - كانت تعد الآي في الصلاة بخاتمها، تحوله في أصابعها (¬1). ولأنه لا يغير هيئة المصلي أشبهَ حكَّ البدن، وقتلَ العقرب، وقتل القملة، ولا يلزم عليه الالتفات، والعبث بالثياب؛ لأنه يغير هيئة المصلي، ولأنه قد يقصد ذلك في الصلاة ليعرف قدر القراءة المسنونة؛ فإنه قد رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الظهر بنحو (¬2) ثلاثين آية (¬3). واحتج المخالف: بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، والخشوع السكون، وعدُّ الآي ينافي السكون. ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "كفوا أيديكم في الصلاة" (¬4)، وقال: "اسكنوا في الصلاة" (4). ¬

_ = الهيثمي في المجمع (2/ 267): (رواه أبو يعلى، وفيه أبو يحيى التميمي الكوفي، وهو ضعيف). (¬1) أخرج نحوه أبو عمرو الداني بإسناده في كتابه البيان في عد آي القرآن ص 42 و 63. (¬2) في الأصل كررها مرتين. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر، رقم (452). (¬4) مضى تخريجه في (2/ 232).

والجواب: أن هذا محمول على غير هذه الحال؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بما روى وكيع بإسناده عن أبي أمامة، أو (¬1) واثلة - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنه؟ فكرهه في صلاة الفرض (¬2). والجواب: أنا قد روينا عن واثلة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عدُّ الآي في الفريضة والتطوع" (¬3). واحتج: بأنه فعلٌ في الصلاة ليس منها، فكان منهيًا عنه؛ كالعبث بالثياب واللحية. والجواب: أنه يبطل بقتل القملة، والعقرب، وحك البدن. فإن قيل: فما تقولون في عدّ (¬4) التسبيح؟ قيل: نقل إبراهيم بن الحارث (¬5) عن أحمد - رحمه الله -: أنه قال: أما عدّ (¬6) الآي، فقد سمعناه، وأما التسبيح، فما سمعناه، قال أبو بكر ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بالشك، وفي أعلى الصفحة بالواو. (¬2) ينظر: حاشية رقم (4) صفحة 464. (¬3) مضى تخريجه في (2/ 464). (¬4) في الأصل: عدد. (¬5) نقل الرواية، ولم يسم راويها ابنُ قدامة في المغني (2/ 398)، وينظر: الإنصاف (3/ 608). (¬6) في الأصل: والتصويب من المغني (2/ 398).

121 - مسألة: إذا كان الأنين في الصلاة من وجع، فإنه يقطع الصلاة، وإن كان من خوف الله تعالى، فإنه لا يقطع

عبد العزيز - رحمه الله -: لا بأس به؛ لأنه في معنى عدّ (¬1) الآي في الصلاة (¬2). والله أعلم. * * * 121 - مَسْألَة: إذا كان الأنين في الصلاة من وجع، فإنه يقطع الصلاة، وإن كان من خوف الله تعالى، فإنه لا يقطع (¬3): وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي الحارث (¬4) - وقد سأله عن الأنين في الصلاة؟ -، فقال: إذا كان عاليًا (¬5)، أكرهه. وهذا محمول على الأنين من وجع. ¬

_ (¬1) في الأصل: عدد، والتصويب من المغني (2/ 397). (¬2) ينظر: المغني (2/ 397)، والمبدع (1/ 483)، والإنصاف (3/ 608)، وتصحيح الفروع (2/ 267). (¬3) ينظر: المستوعب (2/ 231)، والمغني (3/ 253)، والمحرر (1/ 134)، والفروع (2/ 287)، والمبدع (1/ 517)، والإنصاف (4/ 44). (¬4) ينظر: فتح الباري لابن رجب (4/ 246)، وينظر: الفروع (2/ 288). (¬5) في فتح الباري: غالبًا، وكذا في الفروع (2/ 288)، قال ابن رجب: (وقال القاضي أبو يعلى: إنما أراد: إذا كان أنينه عاليًا؛ من العلو، أو رفع الصوت؛ لما يخشى من الرياء به، أو إظهار الضجر بالمرض ونحوه. وهذا الذي فسره تصحيف منه. والله أعلم). فتح الباري (4/ 246).

وقد قال في رواية محمد بن ماهان (¬1): في الرجل يقرأ في الصلاة، فيمر بالآية، فيغلبه البكاء حتى ينتحب؟ فقال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يُسمع نشيجُه (¬2) وهو في الصلاة (¬3)، فقيل له: صلاته تامة؟ قال: نعم، وهذا محمول على أنه من الخوف، ورأيت في تعاليق أبي حفص العكبري عن أبي عبد الله بن بطة: أنه قال (¬4) في الرجل يتأوه في الصلاة؟ فقال: إن تأوه من النار، فلا بأس، وإن تأوه لغير ذلك؛ مثل أن يصيبه حجر، فيقول: أوّه، وما أشبه هذا؛ فإنه يفسد صلاته، وبه قال أبو حنيفة (¬5). وقال أبو يوسف: لا يقطع، سواء كان من وجع، أو من خوف الله تعالى (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: ما مضى في حاشية رقم (3) في الصفحة السابقة. ومحمد هو: ابن ماهان النيسابوري، جليل القدر، له مسائل عن الإمام أحمد - رحمهما الله - حِسانٌ، توفي سنة 284 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 361)، والمقصد الأرشد (2/ 494). (¬2) النشيج: صوت معه توجع وبكاء. ينظر: النهاية في غريب الحديث (نشج). (¬3) أخرجه البخاري معلقًا جازمًا به في كتاب: الأذان، باب: إذا بكى الإمام في الصلاة. (¬4) ينظر: الجامع الصغير ص 54، والمستوعب (2/ 232)، والمغني (2/ 453). (¬5) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 309)، وبدائع الصنائع (2/ 129). وإلى هذا ذهبت المالكية. ينظر: الذخيرة (1/ 509)، ومواهب الجليل (2/ 316). (¬6) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 309)، والهداية (1/ 62).

وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يقطع الصلاة بكل حال (¬1). دليلنا: التأوه يقع على الهجاء، ويدل بنفسه على المعنى، فيصير كلامًا، والكلام إذا كان على غير وجه الذكر لله تعالى، يفسد الصلاة؛ بدلالة سائر كلام الناس، ولا يلزم عليه إذا كان من خوف الله تعالى؛ لأنه يصير ذكرًا لله تعالى، ألا ترى أنه قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]؟ رُوي في التفسير (¬2): أنه كان يتأوه من الخوف لله تعالى، فمدحه على ذلك، فدل على أنه إذا كان من خوف الله تعالى، يجري مجرى ذكر الله تعالى، فلا يفسد الصلاة، ويبين صحة هذا: ما احتج به أحمد - رحمه الله - من حديث عمر: كان يسمع نشيجه في الصلاة، ومعناه: يرفع الصوت بالبكاء في الصلاة حتى يُسمع، هكذا ذكره أبو عبيد (¬3)، ولا يلزم عليه التنحنح؛ لأنه لا يدل بنفسه على المعنى، وإنما يفهم به المراد إذا كان على وجه الجواب، أو قصد به الخطاب؛ كالتصفيق ونحوه، مع أنه قد رُوي في التنحنح روايتان، نقل أبو طالب عنه (¬4): لا يتنحنح؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نابكم شيء، فليسبح الرجال، ولتصفق النساء" (¬5)، هو من غير الصلاة مثل السلام، ونقل المروذي قال: كنت ¬

_ (¬1) ينظر: البيان (2/ 309)، والمجموع (4/ 10). (¬2) ينظر: تفسير الطبري (12/ 42). (¬3) في غريب الحديث (2/ 76). (¬4) ينظر: العدة في أصول الفقه (2/ 368). (¬5) مضى تخريجه في (1/ 114).

آتي أبا عبد الله وهو يصلي، فيتنحنح في صلاته؛ لأعلم أنه يصلي (¬1). ولا يلزم عليه النفخ؛ لأن فيه روايتين: نقل عبد الله (¬2)، وصالح (¬3)، وحنبل (¬4)، وأبو طالب (¬5): أنه إن نفخ، فسدت صلاته، وهو أصح؛ لأنه يقع على الهجاء، ويدل بنفسه على المعنى، ونقل ابن منصور (¬6): الكراهة، إلا أني أقول: لا يقطع الصلاة؛ كالنحنحة. واحتج أبو يوسف: بأنه بمنزلة التنحنح، وقد بينا الفرق بينهما. واحتج أصحاب الشافعي - رضي الله عنهم -: بقوله - عليه السلام -: "صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬7)، وهذا ليس بواحد منها. والجواب: أنا نقول: أو الأنين؛ بدليل ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (2/ 452)، والمبدع (1/ 517). (¬2) في مسائله رقم (476). (¬3) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: الروايتين (1/ 139)، ونصها: (لا أقول: يقطع صلاته؛ لأنه ليس بكلام)، فتكون هذه الرواية موافقة لرواية الكوسج. (¬4) لم أقف عليها، وقد نقل نحوها ابن هانئ في مسائله رقم (202 و 205). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 139). (¬6) في مسائله رقم (160)، وينظر: المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد - رحمه الله - رقم (10). (¬7) مضى تخريجه (1/ 199).

122 - مسألة: أقل السفر الذي يباح فيه القصر، والإفطار، والمسح ثلاثا: ستة عشر فرسخا، ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي

واحتج: بأنه ليس بذكر، أشبهَ خطابَ الآدمي. والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لما بيناه، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 122 - مَسْألَة: أقل السفر الذي يباح فيه القصر، والإفطار، والمسح ثلاثًا: ستة عشر فرسخًا (¬1)، ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي (¬2): نص عليه في رواية الأثرم (¬3)، والمروذي (4)، وحرب (¬4)، وهو قول ¬

_ (¬1) الفرسخ: المسافة المعلومة في الأرض، والفرسخ ثلاثة أميال، أو ستة، سمي بذلك؛ لأن صاحبه إذا مشى، قعد واستراح من ذلك؛ كأنه سكن، وهو واحد الفراسخ، فارسي معرب. ينظر: اللسان (فرسخ). (¬2) الميل الهاشمي، قال ابن مفلح: (الفرسخ ثلاثة أميال هاشمية، وبأميال بني أمية ميلان ونصف، والميل: اثنا عشر ألف قدم، ستة آلاف ذراع، أربع وعشرون أصبعًا). ينظر: الفروع (3/ 81). والهاشمي: نسبة إلى هاشم بن عبد مناف جد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي قدر أميال البادية. ينظر: الإيضاح والتبيان لابن الرفعة ص 78، وجلاء العينين للآلوسي ص 613. (¬3) ينظر: المغني (3/ 105)، وكشاف القناع (3/ 263). (¬4) لم أقف على روايته، ونقل نحوها أبو داود في مسائله رقم (514)، وصالح في مسائله رقم (15 و 933)، وعبد الله في مسائله رقم (546 و 549)، وابن هانئ في مسائله رقم (402 و 404)، وينظر: مختصر الخرقي ص 58، =

مالك (¬1)، والشافعي (¬2) - رضي الله عنهما -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: أقل مسيرة ثلاثة أيام سير الإبل، ومشي الأقدام (¬3). وقال داود: لا حدَّ له، ويقصر في قصير السفر وطويله (¬4). دليلنا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وظاهر هذا: أن كل ضرب في الأرض يجوز فيه القصر، إلا ما خصه الدليل. وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، هو عام في كل ما يسمى سفرًا. وأيضًا: ما روى أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب مختصر المختصر (¬5) عن عطاء بن رباح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أهل مكة! لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرُدٍ من ¬

_ = والإرشاد ص 92، والجامع الصغير ص 55، والهداية ص 103، والإنصاف (5/ 36)، وكشاف القناع (3/ 262). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 120)، والإشراف (1/ 305). (¬2) ينظر: مختصر المزني ص 39، والتنبيه ص 88. (¬3) ينظر: الحجة (1/ 117)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 355). (¬4) ينظر: المحلى (5/ 10). (¬5) لم أجده في صحيحه، ومختصر المختصر هو اسم لصحيح ابن خزيمة كما في أول كتابه ص 3.

مكة إلى عسفان" (¬1). وروى شيخنا في كتابه بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أهل مكة! لا تقصروا (¬2) في أدنى من أربعة بُرُد من مكة على عسفان" (¬3)، فوجه الدلالة: أنه منع من القصر فمِما دون أربعة برد، وأباحه في أربعة برد، والبريد: اثنا عشر ميلًا، وهي أربعة فراسخ، فتكون أربعة (¬4) برد: ستة عشر فرسخًا. فإن قيل: هذا احتجاج من دليل الخطاب؛ لأنه نهى عن القصر فيما دون أربعة برد، وهذا اتفاق، وليس فيه جواز القصر في أربعة برد، فهو موقوف على الدليل. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: قدر المسافة التي تقصر في مثلها صلاة، رقم (1447)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: السفر الذي لا يقصر في مثله الصلاة، رقم (5404)، وقال: (وهذا حديث ضعيف، إسماعيل بن عياش لا يحتج به، وعبد الوهاب بن مجاهد ضعيف بمرة)، وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 515). (¬2) ساقطة في الأصل، والمثبت في الحديث من سنن الدارقطني والبيهقي. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: قدر المسافة التي تقصر في مثلها صلاة، رقم (1447)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: السفر الذي لا يقصر في مثله الصلاة، رقم (5404)، وقال: (وهذا حديث ضعيف، إسماعيل بن عياش لا يحتج به، وعبد الوهاب بن مجاهد ضعيف بمرة)، وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 515). (¬4) في الأصل: أربع.

قيل له: نحن نقول بدليل الخطاب على أنه لا فائدة في تقدير المسافة بما ذكره إلا لبيان الحد؛ لأن العرب لا تقول ذلك، وهو يسوي بين الأربع وبين غيرها، ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، فروى أبو بكر النجاد بإسناده عن عطاء قال: سألت ابن عباس - رضي الله عنهما -: أقصر إلى مَرٍّ (¬1)؟ قال: لا، قلت: إلى منى؟ قال: لا، قلت: إلى الطائف؟ قال: نعم (¬2). وروى أيضًا بإسناده عن القعنبي (¬3) عن مالك: بلغه أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - كان يقول: تقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان (¬4)، ..................................... ¬

_ (¬1) مَرّ: قرية قرب مكة عند وادٍ يسمى: الظهران، وتضاف إليه، فيقال: مَرُّ الظهران, وهي على مرحلة من مكة. ينظر: معجم البلدان (4/ 63 - 5/ 104). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (8222)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: المسافر ينتهي إلى الموضع الذي يريد المقام به، رقم (5495)، وصحح إسناده ابن حجر، والألباني. ينظر: التلخيص (3/ 968)، والإرواء (3/ 18). (¬3) هو: عبد الله بن مسلمة بن قعنب، القعنبي الحارثي، أبو عبد الرحمن البصري، قال ابن حجر: (ثقة عابد)، توفي سنة 221 هـ. ينظر: التقريب ص 342. (¬4) ينظر: الموطأ، كتاب: قصر الصلاة في السفر، باب: ما يجب فيه قصر الصلاة، رقم (15)، ورواه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: السفر الذي تقصر في مثله الصلاة، رقم (5395)، قال ابن عبد البر: (هذا =

قال مالك: وذلك أربعة برد (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن عطاء بن رباح: أن عبد الله بن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم - كانا يصليان ركعتين، ويقصران في أربعة بُرد فما فوق ذلك (¬2). وروى شيخنا في كتابه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه قال: لا تقصروا في بواديكم، ولا مجشركم (¬3)، ولكن من إقليم الكوفة إلى المدائن (¬4). ¬

_ = عن ابن عباس معروف من نقل الثقات، متصل الإسناد عنه من وجوه). ينظر: الاستذكار (6/ 84). (¬1) ينظر: الموطأ (1/ 148). (¬2) أخرجه البخاري معلقًا جازمًا به في كتاب: تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ وابن المنذر في الأوسط (4/ 347)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: السفر الذي تقصر في مثله الصلاة، رقم (5397)، وصحح إسناده النووي في المجموع (4/ 150)، والألباني في الإرواء (3/ 17). (¬3) في الأصل: محاسكم. والتصويب من الأوسط (4/ 349)، وهي فيه (محشركم)، وهو خطأ. والجشر: مكان الرعي، قال أبو عبيد: هم القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى. ينظر: غريب الحديث (2/ 121). (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وأخرج نحوه ابنُ المنذر في الأوسط (4/ 349)، وينظر: مصنف عبد الرزاق رقم (4287)، ومصنف ابن أبي شيبة رقم (8234 و 8239)، والمعجم الكبير رقم (9456)، وأخرج ابن حزم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: "لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم؛ فإنه من مصركم"، وصححه. ينظر: المحلى (5/ 5).

وظاهر هذا منهم: أنه توقيف. والقياس: أنه سفر يجمع مشقة السير والحل والارتحال في العادة، فوجب أن يتعلق به إباحة مدة الرخص؛ قياسًا على سفر مدة ثلاثة أيام، ولا يلزم عليه إذا كان السفر مرحلة ونصفًا؛ لأن ما زاد ليس بمعتاد؛ لأن التكرار المعتاد أن يكون الثاني مثل الأول. فإن قيل: هذا موجود في خمسة عشر فرسخًا. قيل له: لا يمتنع أن يتقدر بستة عشر فرسخًا لهذه العلة، وإن وجدت فيما دون؛ كما يقدر عنده بثلاثة أيام، وكما تقدرت مدة الرضاع بالحولين، ونحو ذلك من المقدرات، وإن كان معانيها توجد فيما دون ذلك. وإن شئت قلت: سفر مقدر في العادة بإحدى مدتي المسح، فوجب أن يتعلق به الرخص؛ قياسًا على مدة ثلاثة أيام، وإن شئت قلت: مسافة تقطع في العادة في زمان يستوفي أوقات الصلوات الخمس على التكرار، فأشبه ما ذكرنا. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن" (¬1)، فخرج هذا الكلام مخرج البيان لحكم المسافر، ومن حكم البيان: أن يكون شاملًا لجميع ما أريد بيانه، فإذا كان كذلك، وجب أن يكون كل مسافر فمدة سفره ثلاثة أيام حتى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين، رقم (276) من حديث علي - رضي الله عنه -.

يمكن استيفاء المسح؛ لأنه أيام في السفر، ولأنه أدخلَ الألفَ واللامَ، فاستغرق جنس المسافرين؛ إذ ليس ها هنا معهود ينصرف الخبر إليه، فلا يبقى مسافر يتعلق بسفره حكم إلا وسفره ثلاثة أيام؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لكان قد بقي مسافر لم ينتظمه الخبر، ولم يتبين حكمه. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنا نقول بموجبه؛ لأن كل مسافر يمكنه (¬1) ثلاثة أيام، فإن كان من سفره ستة عشر فرسخًا، كان له أن يقطعها في ثلاثة أيام، وإذا كان كذلك، فهذه المدة ثابتة لكل مسافر. فإن قيل: فقد يمكنه قطعها في يومين. قيل له: وقد يمكنه أيضًا أن يقطع الثلاث في يومين، فلا يكون قد مسح ثلاثة أيام. والجواب الثاني: أن المقصود بهذا الخبر: بيانُ أكثر مدة المسح في السفر، دون بيان أقل مدة السفر، ألا ترى أنه - عليه السلام - قال: "والمقيم يومًا وليلة"، فبين أكثرَ المدة التي يمسح فيها المقيم، ولم يقصد به بيانَ أقل الإقامة؛ لأن عندنا: أقلُّها ما زاد على أربعة أيام، وعند أبي حنيفة: خمسة عشر يومًا. واحتج: بأن السفر الذي يباح فيه القصر هو الذي لا يجوز للمرأة أن تخرج فيه بغير مَحْرَم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ...................................... ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

إلا مع ذي محرم" (¬1)، فعلق هذا الحكم بالثلاث، وإذا ثبت ذلك في المرأة، ثبت في القصر، والإفطار؛ لأن أحدًا لا يفصل بينهما. والجواب: أن السفر الذي لا يجوز للمرأة أن تخرج فيه بغير محرم لا يتقدر عندنا بالثلاث، بل يُمنع فيما دون الثلاث، وقد أومأ أحمد - رحمه الله - إلى هذا في رواية الأثرم (¬2) - وقد قيل: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة يومًا" (¬3) -، فقال: قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة ثلاثًا، ويومين، ويومًا" (¬4)، وجاء: "لا تسافر سفرًا" (¬5)، وهذا كله سفر، ¬

_ (¬1) أخرج البخاري نحوه في كتاب: أبواب تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ رقم (1086)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1338). (¬2) لم أقف عليها، ونقل نحوها عبدُ الله في مسائله رقم (1038)، والكوسج في مسائله رقم (1379 و 2729). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ رقم (1088)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1339). (¬4) هذا الحديث مركب من عدة أحاديث أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب: أبواب تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ رقم (1086 و 1087 و 1088)، وكتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: مسجد بيت المقدس رقم (1197)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1338، وما بعده من أحاديث). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، =

وأقلُّ من يوم أيضًا يكون سفرًا، إلا أنه لا يقصر فيه الصلاة، وإذا كان السفر الذي يمنع (¬1) منه المرأة بغير محرم لا يتقدر بالثلاث، لم يصح ما قالوه. وأما الخبر، فقد اختلفت ألفاظه، فرواه النجاد بألفاظ، فروى عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام" (¬2)، ورواه ابن عمر - رضي الله عنهما - كذلك (¬3)، وروى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تسافر امرأة يومين من الدهر إلا معها ذو محرم منها، أو زوجها" (¬4)، وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة (¬5) ¬

_ = رقم (1340)، بلفظ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها". (¬1) كذا في الأصل. (¬2) لم أقف على حديث عدي - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ رقم (1086)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1338). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: مسجد بيت المقدس رقم (1197)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (827). (¬5) في الأصل: محرمة.

منها" (¬1)، وفي لفظ آخر (¬2): "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها". وإذا كانت الألفاظ في ذلك متعارضة، لم يمكن التعلق ببعضها، وعلى أن فيها حجة لنا؛ لأنه جعل اليوم سفرًا، ومنعها من الخروج بغير محرم، وعنده: ذلك ليس بسفر، وعلى أن هذا احتجاج بدليل الخطاب؛ لأن قوله: "لا تسافر ثلاثة أيام إلا مع زوج"؛ دليله: الجواز فيما دون الثلاث، وعندهم: أن دليل الخطاب ليس بحجة. فإن قيل: يحمل قوله: "لا تسافر يومين ويومًا إلا مع ذي محرم" إذا أرادت سفر ثلاثة أيام، فإنها لا تخرج يومًا أو يومين إلا مع ذي محرم، وفائدته: أن يظن ظان أنه يجوز أن تخرج مسيرة يوم بغير محرم. قيل له: قوله: "لا تسافر يومين، ولا تسافر يومًا" يقتضي أن حمله سفر لها ذلك. واحتج: بأنها مسافة تقطع في مدة لا يمكن استيفاء رخصة المسافر في المسح، فوجب أن لا يقصر فيه الصلاة، أصله: أقل من ستة عشر فرسخًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ رقم (1088)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1339). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1339).

والجواب: أن استيفاء مدة المسح يمكن فيها، على أن المعنى في الأصل: أنه لا يجمع مشقة السير والحل والارتحال في العادة، وهذا بخلافه. واحتج: بأن هذا الضرب من المقادير لا سبيل إلى إثباتها إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق، وقد حصل الاتفاق على أن مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن سفر، وما دونها مختلف فيه، وليس فيه توقيف ولا اتفاق، فلا نثبته سفرًا صحيحًا. والجواب: أنه قد رُوي: أن رجلًا سأل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - فقال: إني أسير من المدائن إلى الكوفة، وهي مسيرة ثلاثة أيام، أفأقصر الصلاة؟ قال: لا (¬1). فبطل دعوى الإجماع، وعلى أنهم - وإن أجمعوا على جواز القصر فيها -، فلم يجمعوا على أن ذلك حدٌّ، والكلام في إثباتها حدٌّ، ولأننا قد بينا التوقيف في ذلك، ولأن المخالف قد يثبت مقدار [اً] من غير توقيف ولا اتفاق؛ مثل: تقدير مسح الرأس بالربع، ومسح الخف بثلاث أصابع، وكذلك الخرق الذي يمنع من المسح، وتقدير العدد الذي تنعقد به الجماعة، .................................................... ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 424)، رقم (2281)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف مختصرًا رقم (9081)، وأخرجه ابن حزم في المحلى (5/ 5)، وقال: (أسانيد في غاية الصحة). وينظر: معرفة السنن والآثار (4/ 250).

وتقدير عدم (¬1) المقام بخمسة عشر يومًا، وتقدير النجاسة بالدرهم، وتقدير الرضاع بسنتين ونصف، وما أشبه ذلك، فبطل ما قالوه. واحتج: بأن الإتمام ثبت بأخبار متواترة، فلا يجوز إسقاطه بأخبار آحاد، وليس في إثبات هذه المدة التي تذهبون إليها أخبار متواترة. والجواب: أن هذا لا يصح على أصلكم؛ لأن عندكم: أن الأصل في الصلاة القصرُ، والتمامُ فرع له، وعلى أنا إذا بينا المدة التي ذكرناها، لم يلزمه إسقاط حكم التمام بكل حال، وإنما يخصه، ويحمله على غير هذه الحالة، ويجوز تخصيص ما ثبت بأخبار الآحاد، وما ذكرنا عن أبي حنيفة من حديث ابن عباس، وإجماع الصحابة - رضوان الله عنهم أجمعين - فهو حجة على داود؛ لأن الفرسخ والفرسخين لا تلحق فيه المشقة، فهو كالمشي في نواحي البلد. واحتج المخالف: بعموم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101]، وهذا ضارب. والجواب: أنه محمول على ما ذكرنا؛ بدليل ما تقدم، والله أعلم. آخر الجزء السابع [عشر] (¬2) من أصل المصنف - رحمه الله -. * * * ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد تكون: عدد. (¬2) ساقطة من الأصل.

123 - مسألة: القصر رخصة، وليس بعزيمة، والمسافر مخير بين الإتمام والقصر، فإن نوى القصر مع الإحرام، فصر، وإن لم ينو القصر، كان على أصل فرضه أربعا

123 - مَسْألَة: القصر رخصة، وليس بعزيمة، والمسافر مخير بين الإتمام والقصر، فإن نوى القصر مع الإحرام، فصر، وإن لم ينو القصر، كان على أصل فرضه (¬1) أربعًا: نص على هذا في رواية صالح (¬2)، وعبد الله (¬3)، وأبي طالب (¬4) - رحمهم الله -، فقال: التقصيرُ أعجبُ إليّ، وإن أتمَّ، فلا شيء عليه (¬5). وهو قول الشافعي (¬6)، وداود (¬7) - رضي الله عنهما -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -، وأصحابه (¬8): القصر عزيمة، وفرض ¬

_ (¬1) في الأصل: فريضة. (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 518)، ولم أجدها في المطبوع من مسائله، ونقل نحوها ابنُ هانئ في مسائله رقم (401). (¬3) في مسائله رقم (550). (¬4) ينظر: الانتصار (2/ 518). (¬5) ينظر: مختصر الخرقي ص 59، والجامع الصغير ص 55، والهداية ص 103، والمغني (3/ 125). (¬6) ينظر: الأم (2/ 356)، والحاوي (2/ 362). (¬7) ينظر: الانتصار (2/ 518)، والمجموع (4/ 155)، وذكر ابن حزم: أن من أتم في السفر، ولم يعمل بالقصر، وكان عالمًا، بطلت صلاته، فإن كان جاهلًا، سجد للسهو بعد السلام. ينظر: المحلى (4/ 173). (¬8) ينظر: مختصر الطحاوي ص 33، والهداية (1/ 80).

المسافر ركعتان. واختلف أصحاب مالك: فمنهم من يقول: مثل قولنا، ومنهم من يقول: مثل قول أبي حنيفة (¬1). دليلنا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (¬2) يستعمل في الإباحة؛ كقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234]، وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60]، وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236]، وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا} [البقرة: 230]، وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] , وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61]، فدل من هذا الوجه على أن القصر مباح، وليس بواجب. فإن قيل: هذه اللفظة قد تستعمل في الواجب؛ كقوله (¬3) تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، ولا خلاف أن السعي واجب. قيل له: رفع الجناح عاد إلى ما اعتقدته الصحابة - رضي الله عنهم - من التحرج ¬

_ (¬1) ينظر: الإشراف (1/ 305)، والكافي ص 67، وبداية المجتهد (1/ 235). (¬2) في الأصل: لا جناح. (¬3) في الأصل: إلى قوله.

لأجل الصنمين اللذين كانا هناك، وما فيه من التشبه بالجاهلية دون السعي، وذلك أن أحد الصنمين عند دار العباس، والآخر في موضع (¬1)، يسمى أحدهما: إساف، وقيل: يساف، وسمي الآخر: نائلة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان إساف رجلًا، وكانت نائلة امرأة، ومُسخا حجرين، فتحرجوا عن السعي بموضع ذلك دون السعي (¬2). وهذا كما لو كان في ثوبه نجاسة يسيرة، فقيل: لا جناح عليك أن تصلي في هذا الثوب؛ فإنه يرجع إلى إزالة الجناح في ترك النجاسة في ثوبه دون فعل الصلاة، كذلك ها هنا. فإن قيل: الله تعالى علق إباحة القصر بشرط الخوف، ولا خلاف أن القصر من جهة أعداد الركعات لا يتعلق بالخوف، فعلم أن المراد به: القصر من جهة الأفعال؛ مثل: الإيماء، ونحو ذلك. قيل له: الله تعالى علق إباحة القصر بشرط الضرب في الأرض، وهو السفر، ولا خلاف أن القصر من جهة الأفعال لا يتعلق بالسفر، فعلم أن المراد به: القصر من جهة أعداد الركعات؛ لأنه يتعلق بالسفر. وجواب آخر: وهو أن حمل الآية على ما ذكروه يخالف إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنهم عقلوا من ظاهر الآية قصرَ الركعات، ألا ترى أنه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولم يسم الموضع. (¬2) ينظر: صحيح البخاري، كتاب: الحج، باب: وجوب الصفا والمروة، رقم (1643)، وصحيح مسلم، كتاب: الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن، رقم (1277).

رُوي أن يعلى بن أمية - وقيل: يعلى (¬1) بن منية - سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، فقال: كيف نقصر وقد أَمِنَّا؟ فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ حتى سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، [فقال] (¬2): "صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬3)، فبين أن المراد بالآية: القصر من جهة أعداد الركعات، وأن حال الخوف والأمن سواء. ومن جهة السنة: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُتم الصلاة في السفر، ويَقْصر، ويؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء (¬4). فإن قيل: فقد قال عبد الله: سألت أبي [عن] (¬5) حديث المغيرة بن زياد (¬6) عن عطاء عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) في الأصل: وصل يعني، وينظر: الانتصار (2/ 520). ومنية: اسم أمه، وهو صحابي - رضي الله عنه -. ينظر: التقريب ص 682. (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، رقم (686). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (8271)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصيام في السفر، رقم (2299)، وفي إسناده: المغيرة بن زياد، قال الدارقطني: (ليس بالقوي). (¬5) ليست في الأصل، وهي موجودة في مسائل عبد الله رقم (558). (¬6) البجلي، أبو هشام الموصلي، قال ابن حجر: (صدوق له أوهام)، توفي سنة 152 هـ. ينظر: التقريب ص 605.

السفر، وأتم، وصام، وأفطر، يصح؟ فقال: [له] (¬1) أحاديث منكرة، وأنكر هذا الحديث (¬2). قيل له: يحتمل أن يكون قال ذلك مرة، ثم تبين صحتها فيما بعد ذلك؛ إذ لو لم يكن كذلك، لم يحتجَّ أصحابنا بهذه الأحاديث، ولم يبن مذهبه عليها. وروى عن عبد الرحمن بن الأسود بن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عُمرة في رمضان، فأفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصُمْتُ، وقَصر، وأتممتُ، فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! بأبي أنت وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ؟ قال: "أحسنتِ يا عائشة" (¬3). ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وهي موجودة في مسائل عبد الله رقم (558). (¬2) في مسائله رقم (558)، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 145). (¬3) أخرجه النسائي، كتاب: تقصير الصلاة في السفر، باب: المقام الذي يقصر بمثله الصلاة، رقم (1456)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصيام في السفر، رقم (2293)، وقال: (متصل، وإسناده حسن)، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القصر في السفر غير رغبة في السنة، رقم (5427)، والحديث منكر، قاله ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 520)، قال ابن تيمية: (هذا الحديث خطأ قطعًا ... معلوم باتفاق أهل العلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط، ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان)، مجموع الفتاوى (24/ 147)، وقد قال الدارقطني في العلل (14/ 258): (المرسل أشبه بالصواب).

وأيضًا: فهو إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا - معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسافر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، ومنا المتم، ومنا المقصر، فلم (¬1) يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر (¬2). وروى النجاد بإسناده عن علي بن ربيعة (¬3) عن رجل من أهله يقال له: ربيع بن نضلة (¬4): أنه صحب اثني عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ¬

_ (¬1) في الأصل: فليس، والتصويب من سنن البيهقي. (¬2) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القصر في السفر غير رغبة في السنة، رقم (5440)، قال ابن تيمية عن الحديث: (هو كذب بلا ريب، وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك، والثابت عن أنس إنما هو في الصوم). ينظر: مجموع الفتاوى (24/ 154)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 521)، حديث أنس - رضي الله عنه - في الصوم أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضهم على بعض في الصوم والإفطار، رقم (1947)، ومسلم في كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1118). (¬3) ابن نضلة الوالبي، أبو المغيرة الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 441. (¬4) في الأصل: نصلة. وقيل: ربيع بن نضيلة، الكوفي الأسدي، روى عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه -. ولم أجد مزيدًا على هذا. ينظر: الجرح والتعديل (3/ 470)، والتاريخ الكبير للبخاري (3/ 270).

في سفر، فلما حضرت الصلاة، قدَّموا رجلًا منهم، فصلى بهم أربعًا، فلما انصرف، قال سلمان: يا هذا! نصف المربوعة، نحن إلى التخفيف أفقر (¬1). فوجه الدلالة: أنهم لم يعيدوا الصلاة، وأتموا، ولكن أنكروا عليه تركَ فضيلة القصر. وروى النجاد بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال: بلغ عبدَ الله: أن عثمان - رضي الله عنهما - صلى أربع ركعات بمنى، فقال عبد الله: قد صليتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (¬2). وروى النجاد في لفظ آخر بإسناده عن الأسود: أنه أخبر ابن مسعود: أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - صلى في الحج أربع ركعات، قال: فقال: قد فعلها؟ ! إنا لله وإنا إليه راجعون، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، وصلى أبو بكر - رضي الله عنه - (¬3) ركعتين، وصلى عمر - رضي الله عنه - ركعتين، وصلى عثمان - رضي الله عنه - ست سنين من إمارته ركعتين، قال: ثم حضرت العصر، فقام فصلى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (8245)، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (6/ 281). (¬2) أخرجه البخاري في أبواب: تقصير الصلاة، باب: الصلاة بمنى، رقم (1084)، وفي كتاب: الحج، باب: الصلاة بمنى، رقم (1657)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: قصر الصلاة بمنى، رقم (695). (¬3) من الهامش.

أربعًا، قال: فقيل له: استرجعتَ، ثم صليتَ أربعَ ركعات؟ ! قال: الخلاف شرّ، الخلاف شرَّ (¬1). فوجه الدلالة: أن عثمان - رضي الله عنه - صلى بالناس أربع ركعات، واتبعوه، فدل على أن ذلك إجماع منهم. فإن قيل: فكيف يكون إجماعًا، وقد خالف ابن مسعود، وأبو بكر - رضي الله عنهما - فعله؟ قيل له: إنما أنكر عليه ترك فضيلة القصر، ولم ينكر الإتمام، والذي يدل على صحة هذا: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - لما صلى بهم العصر، لم يقصر، وصلى أربعًا، وقال: الخلاف شر. فإن قيل: إنما أتم عبد الله؛ لأنه يجوز أن يكون عثمان - رضي الله عنه - نوى الإقامة، فصار هو مقيمًا؛ لأنه كان ممن يأخذ العطاء (¬2)، وإذا أزمع على الإقامة، صار أتباعه مقيمين بإقامته، فلم يخرج من صلاته بالتجويز. قيل له: .................................................. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود نحوه في سننه، كتاب: المناسك، باب: الصلاة بمنى، رقم (1960)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القصر في السفر غير رغبة في السنة، رقم (5434)، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 394)، رقم (224). (¬2) أسند عبد الرزاق هذا القول عن الزهري - رحمه الله -، وأخرجه عنه أبو داود في سننه، كتاب: المناسك، باب: الصلاة بمنى، رقم (1961 و 1963)، والزهري لم يدرك عثمان - رضي الله عنه -. ينظر: السلسلة الضعيفة (14/ 998)، رقم (6926).

فلو كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يجوّزه (¬1) في حق عثمان - رضي الله [عنه] (¬2) -، لم ينكر فعله؛ لأن المقيم يجب عليه الإتمام، فلما أنكر عليه، وعلم أنه علم من حاله أنه كان على نية السفر. فإن قيل: فقد رُوي: أن عثمان - رضي الله عنه - اعتذر إلى ابن مسعود حين أنكر عليه بضرب من الاعتذارات، منها: أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من تأهل ببلد، فهو من أهله" (¬3)؛ فإني تأهلت بهذا البلد. ورُوي: أنه قال: يحج قوم طغام (¬4)، فخشيت أن يظنوا أن الصلاة في السفر والحضر ركعتان (¬5). ورُوي: أنه أتم؛ لأن مذهبه أن القصر لا يجوز إلا لمن حمل الزاد، ¬

_ (¬1) في الأصل: يجوز. (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (443)، قال ابن حجر: (الحديث لا يصح؛ لأنه منقطع، وفي رواته من لا يحتج به). ينظر: الفتح (2/ 736). (¬4) في الأصل: نحو يا قوم طعام. والطغام: من لا عقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد الناس وأراذلهم. النهاية في غريب الحديث (طغم). (¬5) أخرج نحوه أبو داود في سننه، كتاب: المناسك، باب: الصلاة بمنى، رقم (1964)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القصر في السفر غير رغبة في السنة، رقم (5437)، وقد قواه ابن حجر في الفتح (2/ 737).

والمزاد (¬1)، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، فلما اعتذر إليهم بهذه الاعتذارات، دل على أنه كان موافقًا لهم في وجوب القصر، لولا ذلك، لما اعتذر إليهم، ولقال لهم: فما عليكم إن أتممنا؟ ومن مذهبه التخيير. قيل له: يحتمل أن يكون هذا الاعتذار منه إليهم لترك فضيلة القصر، لا لأجل أن الإتمام لا يجوز. وأيضًا: روى أبو بكر النجاد بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -: كانت تصلي في السفر أربعًا، وتصوم (¬2)، وهذا إخبار عن دوام فعلها. فإن قيل: رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: من صلى في السفر [أربعًا] (¬3)، كان كمن صلى في الحضر ركعتين (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 426) رقم (2285)، وصحح إسناده ابن تيمية. ينظر: مجموع الفتاوى (24/ 86). (¬2) أخرجه البخاري مختصرًا في أبواب: تقصير الصلاة، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، رقم (1090)، ومسلم مختصرًا في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، رقم (685)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القصر في السفر غير رغبة في السنة، رقم (5430)، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 152). (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (2262)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 334)، قال ابن رجب: (إسناده منقطع). ينظر: الفتح (6/ 8)، فهو موقوف ضعيف. ينظر: المطالب العالية (5/ 94).

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه قال: صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة، فقد كفر (¬1). قالوا: وهذا يمنع ما ادعيتموه من الإجماع. قيل له: هذا كله محمول على ترك الفضيلة، والحث على ذلك؛ بدليل: ما روينا عن أنس، وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -: أنهم أتموا (¬2)، والقياس: أنه تخفيف يتعلق بالسفر، فوجب أن يكون رخصة، ولا يكون عزيمة؛ قياسًا على الفطر، والمسح على الخفين ثلاثًا، ولأنه لو كان فرض المسافر ركعتين، لم تجز الزيادة بالاقتداء؛ لأن الاقتداء لا يزيد في عدد الركعتين (¬3)، فلما قالوا: بأن المسافر إذا صلى خلف مقيم، صلى أربعًا، دل على أن الأصل هو الأربع. فإن قيل: لا يمتنع أن يتغير فرض الانفراد في حال الاقتداء، ألا ترى أن المرأة والعبد إذا صليا الظهر منفردين، صليا أربعًا، وإن صليا مع الإمام صلاة الجمعة، صليا ركعتين؟ كذلك ها هنا. قيل له: يجوز أن يتغير فرض الانفراد في حال الاقتداء في صلاة الجمعة، ولا يجوز في غيرها؛ لأن من شرط الجمعة: الجماعة، فأما سائر الصلوات، فإنه يجوز فعلها في حال الانفراد؛ كما يجوز في حال الجماعة على حد سواء، فوجب أن لا يتغير الفرض بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (4281)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 333)، وصحح إسناده ابن حجر. ينظر: المطالب العالية (5/ 99). (¬2) في (2/ 488). (¬3) في الأصل: الركعتان.

فإن قيل: أليس من أدرك الإمام ساجدًا، فدخل معه، فإنه يتبعه في السجود، ويتغير ترتيب صلاته بالاقتداء؟ كذلك ها هنا. قيل له: إلا أنه لا يجوز أن يزيد في عدد الركعات لأجل متابعة الإمام (¬1)، كذلك ها هنا، ولأن كل من جاز له إتمام الصلاة في جماعة، جاز له إتمامها منفردًا كالمقيم، ولأن صلاة الفرض عبادة تصح من فرد، فجاز أن تؤدى في السفر كما تؤدى في الحضر؛ كالصوم، وإن شئت قلت: الإتمام فعلٌ لا يتغير في الاستيطان، فجاز فعله في السفر؛ دليله: الصوم، ولا يلزم ذلك الجمعة أنها لا تصح في السفر؛ لأنها لا تصح من فرد، ولأنه يتغير فيها الاستيطان. واحتج المخالف: بما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر (¬2)، وهذا لا تقوله إلا توقيفًا، فكأنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورُوي عن عمر: أنه قال: صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفجر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: الإمامة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة؟ رقم (350)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، رقم (685). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (257)، والنسائي، كتاب: الجمعة، باب: عدد صلاة الجمعة، رقم (1420)، وقال: (عبد الرحمن بن أبي ليلى =

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: إن الله فرض عليكم على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - الصلاة للمقيم أربعًا، وللمسافر ركعتين (¬1). والجواب عما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها تقول قولها: أُقرت صلاة السفر، في جواز الاقتصار على ركعتين، وإسقاط الفرض بها، دون المنع من الزيادة، يدل ذلك: أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تصلي في السفر أربعًا، لا تختلف الرواية عنها في ذلك. وأما حديث عمر - رضي الله عنه -، فمعنى قوله: صلاة السفر ركعتين تخفيفًا ورخصة، وقوله: تمام غير قصر، معناه: ثوابًا وأجرًا؛ فإن القصر أفضل من الإتمام في السفر. وأما ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، فهو باجتهاد، ولم يروه، يدل عليه: أنه قال: وفي الخوف ركعة، وأنكر عليه ابن مسعود - رضي الله عنه -، فقال: ما أجزأت ركعة قَطُّ (¬2)، وعلى أنا نحمله على بيان أقلَّ الفرض الذي لا يجوز الاقتصار عنه، ......................................... ¬

_ = لم يسمع من عمر)، وابن ماجه، كتاب: إقامة الصلوات، باب: تقصير الصلاة في السفر، رقم (1063 و 1064)، والأثر ضعيف لانقطاعه. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 306)، رقم (381)، والعلل للدارقطني (2/ 115)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 522). (¬1) أخرج نحوه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، رقم (687). (¬2) مضى تخريجه في (2/ 205).

وهو ركعتان؛ بدليل: ما ذكرناه. واحتج: بأن المسافر له أن يترك الركعتين الأخيرتين لا إلى بدل، فوجب أن لا تكون واجبتين عليه في الأصل؛ دليله: النافلة. والجواب: أنه يبطل بالمرأة والعبد إذا صليا الجمعة ركعتين؛ فإنهما تركا الركعتين من أصل فرضهما إلى غير بدل، ومع هذا، فهما واجبتان عليهما في الأصل، وعلى أن المعنى في النفل: أنه يجوز تركه من غير عذر، وليس كذلك الركعتان؛ فإنه لا يجوز تركهما بغير عذر، فكانا واجبتين، يدل على هذا: أن فرض السترة يسقط إلى غير بدل، وفرض القيام والسجود على الأرض يسقط إلى غير بدل أيضًا عندهم، وذلك أن كله واجب؛ لأنه لا يسقط، ولا يجوز تركه إلا العذر. واحتج: بأن صلاة السفر ركعتان يسقط بهما فرض الوقت، فوجب أن لا تكون الزيادة عليهما واجبة في الأصل؛ دليله: الفجر، والجمعة، ولا يلزم عليه إذا دخل خلف مقيم؛ لأن الزيادة على الركعتين غير واجبة في الأصل، وإنما يجب بالدخول في صلاة المقيم. والجواب: أن ذلك النوع من التخفيف لا يتعلق بالعذر، وليس كذلك التخفيف في مسألتنا؛ فإنه يتعلق بالعذر، وهو السفر، فلم يكن فرضًا، أو نقول: لا يجوز الزيادة عليهما بالائتمام، فلهذا كان فرضه ركعتين، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يجوز الزيادة على ركعتين بالائتمام فيهما، فلا يجب أن يكون فرضه في الأصل إلا ركعتين، وعلى أنه لا يمتنع

أن يسقط الفرض به على الرخصة؛ كصلاة المريض، والتيمم، والمسح على الخفين، والله أعلم. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّعْلِيقُ الكَبِيرُ فِي المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الأَئِمَةِ [3]

دَارُ النَّوادِر المؤسس والمالك نُورُ الدِّين طَالِبُ مؤسسة ثقافية علمية تُعنى بالتراث العربي والإسلامي والدراسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة بالعلوم الشرعية واللغوية والإنسانية تأسست في دمشق سنة 1422 هـ - 2002 م، وأُشهرت سنة 1426 هـ - 2006 م. سوريا - دمشق - الحلبوني: ص. ب: 34306 00963112227001 00963112227011 00963933093783 00963933093784 00963933093785 Skype: dar.alnawader Twitter: daralnawader.com Facebook: daralnawader.com YouTube: daralnawader.com Instagram: daralnawader.com LinkedIn: daralnawader.com E-mail: [email protected] website: www.daralnawader.com جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة يُمنع طبع هذا الكتاب أو أي جزء منه بكافة طرق الطبع والتصوير والنقل والترجمة والتسجيل المرئي أو المسموع أو استخدامه حاسوبيًا بكافة أنواع الاستخدام وغير ذلك من الحقوق الفكرية والمادية إلا بإذن خطي من المؤسسة. الطَّبْعَةُ الأُولَى 1435 هـ - 2014 م شركات شقيقة دار النوادر اللبنانية - لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 4462 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) دار النوادر الكويتية - الكويت - ص. ب: 1008 - هاتف: 22453232 - فاكس: 22453323 (00965) دار النوادر التونسية - تونس - ص. ب: 106 (أربانة) - هاتف: 70725547 - فاكس: 70725547 (00216)

124 - مسألة: القصر أفضل من الإتمام

تَابِع [كِتابِ الصَّلَاةِ] 124 - مَسْألَة: القصر أفضل من الإتمام: نص عليه في رواية ابن إبراهيم (¬1)، وعلي بن [سعيد] (¬2)، وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا، والثاني: الإتمام أفضل (¬3). دليلنا: أنا أبو محمد الخلال في الإجازة بإسناده عن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أفضلُ أمتي الذين يعملون بالرخَص" (¬4)، ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (401). (¬2) في الأصل: يعيد، ولم أقف على روايته، وينظر: مسائل عبد الله رقم (550)، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 202)، والمغني (3/ 125)، ومختصر ابن تميم (2/ 346)، والإنصاف (5/ 48). وإليه ذهبت المالكية، والإشراف (1/ 307). وذهبت الحنفية إلى وجوب القصر؛ كما مضى، وينظر: التجريد (2/ 874). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 366)، والبيان (2/ 458). (¬4) أخرجه الديلمي في الفردوس (1/ 358) رقم (1443)، وإسناده ضعيف =

وما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن الله تعالى يحب أن يؤخَذ برُخصه كما يؤخذ بعزائمه" (¬1)، فجعلهما في المحبة على حدّ سواء، وعند المخالف: أن محبة العزيمة أكثرُ وأفضلُ. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، من ذلك: إنكار ابن مسعود - رضي الله عنه - على عثمان - رضي الله عنه - لما صلى في الحج أربع ركعات، فقال: قد فعلها؟ ! إنا لله وإنا إليه راجعون، صلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، وصلى أبو بكر - رضي الله عنه - ركعتين، وصلى عمر - رضي الله عنه - ركعتين (¬2)، فأنكر عليه تركَ الفضيلة. وكذلك قول سلمان - رضي الله عنه -: نحن إلى التخفيف أفقرُ (¬3) فأنكر على الإمام الإتمام. ¬

_ = جدًا، فيه عبد الملك بن عبد ربه، منكر الحديث. ينظر: السلسلة الضعيفة (6/ 22)، رقم (2514). (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم (6282)، واللفظ له، قال الهيثمي في المجمع (3/ 163): (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن عبيد ... وهو ضعيف)، وبنحوه أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (5866)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 73)، رقم (950)، قال ابن عبد البر: (ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله يحب أن تؤتى رخصه). التمهيد (24/ 67)، وينظر: إرواء الغليل (3/ 9). (¬2) مضى تخريجه في (2/ 489). (¬3) مضى تخريجه في (2/ 489).

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: من صلى في السفر أربعًا، كان كمن صلى في الحضر ركعتين (¬1). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه قال: صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة، فقد كفر (1)، ولأنه تخفيف يتعلق بالسفر، فكان فعله في السفر أفضل؛ دليله: صلاة التطوع في السفر على الراحلة. فإن قيل: التخفيف هناك يفضي [إلى] ترك العزيمة، وليس كذلك ها هنا، لأن ترك التخفيف لا يفضي إلى ترك العزيمة. قيل: يبطل بالمرأة، والعبد، والمسافر إذا صلوا الجمعة، لا أنه أفضل من الإتمام، وإن كان فعلُ الرخصة لا يفضي إلى ترك العزيمة، ولأن صلاة الجمعة عندهم بدلٌ عن الظهر، وفعلها أفضل من الظهر، مع كونها مقصورة عنها بركعتين، كذلك صلاة السفر. فإن قيل: القصر هناك واجب، فلهذا كان أفضل. قيل له: إذا قسنا على المرأة، والعبد، والمسافر، لم تصح هذه المعارضة؛ لأن القصر غير واجب في حقهم؛ لأن لهم أن يصلوا الجمعة، ولهم تركها، ولأن الناس اختلفوا؛ منهم من قال: لا يجوز الإتمام، ومنهم من قال: يجوز، وإن قصر، جاز، فإذا قصر، خرج من الخلاف، فكانت صلاته على وجه يقع الإجماع على صحتها أولى مما يختلفون فيها. واحتج المخالف: بأن الإتمام أكثر عملًا، فكان أفضل. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 493).

125 - مسألة: إذا نوى المسافر إقامة تزيد على أربعة أيام، أتم، وإن نوى إقامة أربعة أيام فما دونها، قصر، في أصح الروايتين

والجواب: أنه باطل بالجمعة؛ لأنها ركعتان على النصف من الظهر، ومع هذا، فهي أكثر ثوابًا من الظهر، وأفضل، وإن قاسوا على الصيام في السفر، وغسل الرجلين، وترك المسح، لم يُسلّم، بل الفطر في السفر أفضل، والمسح على الخفين أفضل، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 125 - مَسْألَة: إذا نوى المسافر إقامة تزيد على أربعة أيام، أتم، وإن نوى إقامة أربعة أيام فما دونها، قصر، في أصح الروايتين: نص عليها في رواية أبي داود (¬1)، وإسحاق بن إبراهيم (¬2)، فقال في رواية أبي داود: إذا أزمع على إقامة إحدى وعشرين، أتم الصلاة (1). وقال في رواية إسحاق: إذا نوى أن يقيم ببلد أربعة أيام، وزيادة صلاة إحدى وعشرين صلاة، أتم (2)، وبهذا قال داود (¬3). وفيه رواية أخرى: إن نوى إقامة اثنتين وعشرين فما دون، قصر، ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (519). (¬2) في مسائله رقم (403). (¬3) لم أقف على قوله، وقد قال ابن حزم: (من أقام في شيء عشرين يومًا بلياليها فأقل، فإنه يقصر، ولا بد، سواء نوى إقامتها، أو لم ينو إقامتها، فإن زاد على ذلك إقامة مدة صلاة واحدة فأكثر، أتم، ولا بد، هذا في الصلاة خاصة). ينظر: المحلى (5/ 18).

نص عليه في رواية عبد الله (¬1)، والأثرم (¬2)، وهو اختيار الخرقي (¬3)، و [أبي] (¬4) بكر عبد العزيز (¬5) - رضي الله عنهما -, ولا تختلف الرواية، يحتسب اليوم الذي يدخل فيه، واليوم الذي يخرج فيه من المدة، وقال أبو حنيفة: إن نوى إقامة خمسة عشر يومًا، أتم، وإن كان أقل، قصر (¬6). وقال مالك (¬7)، والشافعي - رضي الله عنهما -: إن نوى إقامة أربعة أيام، أتم، وإن كان أقل، قصر، إلا أن الشافعي - رحمه الله - لا يحتسب اليوم الذي [يدخل] فيه، واليوم الذي يخرج فيه من المدة (¬8). والدلالة على أبي حنيفة - رحمه الله -: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]؛ دليله: أن من ليس بضارب في الأرض، فليس له أن يقصر، وهذا ليس ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (556). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 178)، والمغني (3/ 148)، وبدائع الفوائد (4/ 1512). (¬3) في مختصره ص 59. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 202)، وشرح الزركشي (2/ 157)، والإنصاف (5/ 69). (¬6) ينظر: الحجة (1/ 118)، ومختصر القدوري ص 98. (¬7) ينظر: المدونة (1/ 119)، والإشراف (1/ 308). (¬8) ينظر: الأم (2/ 367)، والحاوي (2/ 371).

بضارب في الأرض. وأيضًا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن علي - رضي الله عنه - قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين (¬1)، وهذا يصلي في الحضر، فيجب أن يصلي أربعًا، ولأنه ليس له الجمع بين الصلاتين، فلم يكن له القصر؛ دليله: إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا، وعكسه إذا نوى إقامة أربعة أيام، فإن له الجمع. وإن شئت قلت: نوى إقامة تزيد على أكثر عدد اعتبر في الشهادات، فوجب أن يصير مقيمًا؛ دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف: بما روى أبو حنيفة - رحمه الله - عن عمر (¬2) بن [ذر] (¬3) عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة (¬4) ليلة، فأكملِ الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن، فاقصرها (¬5)، ولم يرو عن ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 329)، وفي إسناده ابن لهيعة، وقد مضى الكلام عليه. (¬2) في الأصل: عمرو، والتصويب من الحجة (1/ 120). وعمر هو: ابن ذر بن عبد الله الهمْداني، أبو ذر الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة، رمي بالإرجاء)، توفي سنة 153 هـ. ينظر: التقريب ص 453. (¬3) في الأصل: دينار، والتصويب من الحجة (1/ 120). (¬4) في الأصل: خمسة عشر ليلة. (¬5) أخرجه محمد بن الحسن في الحجة (1/ 120)، والجصاص في أحكام =

أحد من السلف خلافه. والجواب: أن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - قال: إذا أقام (¬1) عشرة أيام، أتم الصلاة، وإذا أقام اليوم وغدًا إلى شهر (¬2). وروى أيضًا: بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا عزم على إقامة ثنتي عشرة ليلة، أتم الصلاة (¬3). وروى أيضًا: بإسناده عن سعيد بن المسيب: أنه قال: من أجمع إقامة أربع ليال .......................................... ¬

_ = القرآن (2/ 321)، وفي مختصر اختلاف العلماء (1/ 359)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4343)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8301) من فعل ابن عمر - رضي الله عنهما -، وإسناد صحيح. وينظر: الأوسط (4/ 355). (¬1) في الأصل: قام. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4333) بلفظ: (إذا أقمتُ بأرض عشرًا، فأُتِمُّ، فإن قلتُ: أخرج اليوم أو غدًا، فأصلي ركعتين، وإذا أقمتُ شهرًا، فأصلي ركعتين)، وينظر: مصنف ابن أبي شيبة رقم (8297)، وذكره الترمذي معلقًا بصيغة التمريض في جامعه في كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في كم تقصر الصلاة؟ رقم (548). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4342)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 355)، وأثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - هذه الرواية، وذكره الترمذي معلقًا بصيغة التمريض في جامعه، كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في كم تقصر الصلاة؟ رقم (548).

وهو مسافر، أتم الصلاة (¬1). وإذا كان كذلك، حصلت المسألة خلافًا في الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، فلم يكن فيما ذكروه حجة. واحتج: بأنه نوى الإقامة في مدة تقصر على أقل مدة الطهر، فوجب أن لا يلزمه الإتمام؛ دليله: إذا نوى الإقامة أربعة [أيام] (¬2). والجواب: أن المعنى في الأربع: أنها تنقص عن أقل نصاب الإبل، أو عن الواجب في نصاب الوَرِق، أو عن ألفاظ اللعان، والخمسُ بخلاف ذلك. واحتج: بأن هذه الإقامة يتعلق بها لزوم الصلاة، فيجب أن يكون أقلها خمسة عشر، أصله: مدة الطهر. والجواب: أن هذا إثبات تقدير بالقياس، ولا نسلِّم بالأصل؛ لأن الطهر عندنا ثلاثة عشر، وإن سلمنا، فإنما يقدر أقل الطهر بذلك؛ لأنه أقل ما وجد في العادة، ولو وجد أقل منه، أثبتناه، وهذا المعنى متفق عليه؛ لأن أحدًا لا ينكر أن أقل الطهر إنما قدر بخمسة عشر؛ لاقتران ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: قصر الصلاة في السفر، باب: صلاة الإمام إذا أجمع مكثًا، وقال: (وذلك أحب ما سمعتُ إلي)، وبنحوه أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4346)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8303). (¬2) ما بين قوسين ليست في الأصل، وبها يتم الكلام.

العادة به، وتبين صحة هذا: أن أقل مدة النفاس ومدة أكثره (¬1) تخالف مدة أقل الحيض ومدة أكثره، وإن كان الجميع مضروبًا لترك الصلاة؛ لاختلاف العادة فيها، ومدة الطهر من الحيض والنفاس واحد؛ لاتفاق العادة، وإذا ثبت أن مدة أقل الطهر إنما رجع فيه إلى العادة، امتنع أن يكون معللًا بما ذكروه. واحتج: بأن هذا الضرب من المقادير لا سبيل إلى إثباتها إلا من طريق التوقيف (¬2)، أو الاتفاق، وقد حصل الاتفاق على أن خمسة عشر إقامة صحيحة، واختلفوا في غيرها (¬3)، وليس فيه توقيف ولا اتفاق، فلا يثبته إقامة صحيحة. والجواب: أنا قد بينا التوقيف فيه، وعلى أنه لا اتفاق في خمسة عشر؛ لأن النجاد روى بإسناده عن ليث (¬4) عن عامر (¬5) قال: جاورت (¬6) ابن عمر - رضي الله عنهما - ثمانية أشهر، أو عشرة أشهر بالمدينة، فسألته: كم أصلي؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: أكثر. (¬2) في الأصل: التوفيف. (¬3) في الأصل: واختلفوا فيها، والصواب المثبت. (¬4) لم أجد فيمن يروي عن عامر بن سعد من اسمه: ليث. ينظر: تهذيب الكمال (14/ 21). (¬5) ابن سعد بن أبي وقاص الزهري، المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 104 هـ. ينظر: التقريب ص 297. (¬6) في الأصل: حاورت.

فقال: إذا كنت وحدك، فركعتين، وإذا صليت بجماعة، فائتمَّ بصلاتهم، قال عامر: ولو أقمت أكثر من ذلك، ما زادني عليها (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن عبد الرحمن بن مسور - رضي الله عنه - (¬2): أنه أقام بسابور (¬3) سنتين يصلي بالناس ركعتين، ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين، ثم يسلم (¬4). وبإسناده عن سالم: ................................ ¬

_ (¬1) لم أجده، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه رقم (4364) عن أبي مجلز: أنه قال لابن عمر - رضي الله عنهما -: يا أبا عبد الرحمن! آتي المدينة طالب حاجة، فأقيم بها السبعة الأشهر، والثمانية الأشهر، كيف أصلي؟ قال: صل ركعتين ركعتين، وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (4/ 361). (¬2) لم أجد عن عبد الرحمن بن مسور - رحمه الله - إلا ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4350)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8284)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 360): أنه قال: أقمنا مع سعد بن مالك شهرين يقصر الصلاة، ونحن نتم، فقلنا له، فقال: نحن أعلم. وسيأتي في ص 23، 24، مما يدل على أن ثمة سقطًا هنا، وتداخلًا بين الآثار. يوضحه ما في ص 23، 24. (¬3) كذا في الأصل، وهي كذا في مصنف ابن أبي شيبة رقم (8288). والمراد بها: نيسابور، وقد قيل في سبب تسميتها: إن أحد الملوك، ويدعى: سابور مرّ بها. ينظر: معجم البلدان (5/ 331). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5141 و 8288)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 360)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 243) رقم (682) عن أنس - رضي الله عنه -، قال الهيثمي في المجمع (2/ 158): (رجاله موثقون).

فصل

أنه أقام ابن عمر - رضي الله عنهما - بأذربيجان (¬1) ستة أشهر يصلي ركعتين (¬2). وروى عن الليث بن سعد (¬3): أنه قدره بأكثر من خمسة عشر (¬4)، وقدره إسحاق بن راهويه بتسعة عشر (¬5). ثم لا نسلَّم هذا؛ فإنه يجوز إثباتها بالقياس عندنا، ولأننا قد بينا في غير هذا الموضع: أنهم قد أثبتوا ذلك بغير توقيف ولا اتفاق مقدارَ مسح الرأس، ومسح الخف، وقدر الخَرْق الذي يمنع المسح، وقدر مدة الرضاع. * فصل: والدلالة على أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام يقصر؛ خلافًا للشافعي ¬

_ (¬1) منطقة تقع في الشمال الغربي لبلاد فارس. ينظر: معجم البلدان (1/ 128). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4339)، والأثرم، وساق سنده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 142)، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يقصر أبدًا ما لم يجمع مكثًا، رقم (5476)، وفي المعرفة (4/ 274)، وصحح إسناده ابن الملقن، وابن حجر، والألباني. ينظر: البدر المنير (4/ 546)، والتلخيص (3/ 969)، والإرواء (3/ 28). (¬3) ابن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت فقيه إمام مشهور)، توفي سنة 175 هـ. ينظر: التقريب ص 519. (¬4) ينظر: الاستذكار (6/ 105)، والمغني (3/ 148)، والمجموع (4/ 172). (¬5) ينظر: جامع الترمذي، كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في كم تقصر الصلاة؟ رقم (548)، ومسائل الكوسج، رقم (545)، والأوسط (4/ 358 و 361).

- رحمه الله - هو: أنه نوى مدة لا تزيد على أكثر عدد اعتبر في الشهادة، فكان له القصر؛ دليله: الثلاث، وإن شئت قلت: نوى إقامة لا تزيد على مدتي المسح، ولأن الثلاث أحد مدتي المسح، فإذا نوى زيادة عليها يومًا، لم يمنع القصر؛ كاليوم، ولأنه نوى الإقامة في مدة تقصر عن أقل نصاب الإبل، وألفاظ اللعان، والواجب في نصاب الوَرِق، ولأنه نوى مدة تستغرق أوقات عشرين صلاة، فجاز له القصر؛ دليله: إذا نوى إقامة ثلاثة أيام غير اليوم الذي يدخل فيه، واليوم الذي يخرج فيه، تبنى المسألة: على أن اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فيه معتبر من مدة الإقامة، حكمٌ معتبر بالأيام، فاعتبر بالأبعاض؛ دليله: الحيض، والنفاس، والمسح على الخفين، أو نقول: الإقامة حكمٌ يتعلق بمدة، فاعتبر بابتداء المدة؛ دليله: المسح، والعدة، والحيض، ولأن الإقامة مؤثرة في وجوب الصلاة، فوجب اعتبار حكمها عقيب سببها؛ دليله: البلوغ، والإفاقة من الجنون، ولأن اليوم الذي يخرج فيه إلى السفر يعتد به من سفره؛ لوجود مشقة، كذلك اليوم الذي يقيم فيه يجب أن يعتد به من إقامته؛ لزوال هذه المشقة. فإن قيل: اليوم الأول يحتاج أن يشتغل بأموره، ويتأهب فيه، فتلحق المشقة أيضًا. قيل له: حكم الإقامة لا يتغير بما يلحقه من المشقة في أموره، وإنما يتغير بالنية، ألا ترى أن اليوم الثاني، والثالث لا يكون مقيمًا فيهما؛ لعدم

[النية] (¬1)، وإن لم يلحقه فيهما مشقة؟ وربما استدل أصحابنا فيه: بما رُوي عن ابن عباس (¬2)، وجابر (¬3) - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة، وخرج منها إلى منى يوم التروية بعد الزوال، وكان حاجًا، والحاج لا يخرج إلى منى قبل يوم التروية، فثبت أنه نوى الإقامة من وقت دخول مكة إلى وقت خروجه منها، وحصل له المقام بها أكثر من أربعة أيام، سوى اليوم الذي يدخل فيه إلى البلد، واليوم الذي يخرج منها، وإذا كان كذلك، حصلت إقامته على أصله أقل من أربعة أيام، فلم يلزمه الإتمام. واحتج المخالف: بما رُوي عن عثمان - رضي الله عنه -: أنه قال: من أجمع على إقامة أربع، أتم (¬4). ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (¬2) أخرجه البخاري في أبواب: تقصير الصلاة، باب: كم أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته؟ رقم (1085)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج، رقم (1240). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، رقم (1216)، وأشار إليه البخاري في أبواب: تقصير الصلاة، باب: كم أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته؟ رقم (1085). (¬4) ذكره المزني في مختصره ص 40، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من أجمع على إقامة أربع، أتم، وقال: (حديث عثمان - رضي الله عنه - لم أجد إسناده)، قلت: قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عن حديث رواه عبد الله بن نافع الصائغ عن عبد الله بن زياد بن درهم عن الحسن، عن عثمان، قال: من =

والجواب: أنا قد بينا خلاف الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - في ذلك، فرُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: خمسة عشر، ورُوي: اثني عشر (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - خلاف آخر (¬2)، وإذا كان كذلك، لم يكن الاحتجاج بقول بعضهم. واحتج: بأن المقام اليسير لا يخرجه من حكم السفر، والكثير يخرجه، فلم يكن بُدٌّ من حدٍّ فاصل بينهما، فكان أولى الحدود بالاعتبار: الثلاث (¬3)؛ لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما حرّم [على] المهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه، أرخصَ له في ثلاثة أيام (¬4)، يدل على أنه جعل الثلاث في حد السفر، وما زاد عليها في حد الإقامة، ويدل عليه: أن ¬

_ = قدم مصرًا، فأزمع على إقامة أربع، أتمَّ الصلاة. قال أبي: روى هذا الحديث المغيرةُ بن عبد الرحمن المخزومي، عن عبد الله بن زياد، عن عرفطة بن أبي الحارث، عن الحسن، عن عثمان. قال أبي: أدخل في الإسناد عرفطة، ولا يُدرى من عرفطة هذا، ولا عبد الله بن زياد؟ جميعًا مجهولون). ينظر: العلل (1/ 293)، رقم (356). (¬1) مضى في ص 10 و 11. (¬2) سيأتي تخريجه في ص 24. (¬3) في الأصل: الثلث. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه، رقم (3933)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: جواز الإقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ الحج والعمرة ثلاثة أيام، رقم (1352) من حديث العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه -.

عمر - رضي الله عنه - أجلى أهل الذمة من الحجاز، [ثم] (¬1) أَذِنَ لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم في غير الحرم ثلاثة أيام (¬2). وفيه (¬3): قوله تعالى في ناقة صالح: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 64، 65] , فجعل الثلاثة في حد القريب، وكذلك جعل لحبان بن منقِذٍ (¬4) - رضي الله عنه - في البيع خيارَ ثلاثة أيام (¬5)، وكذلك المُصَرَّاة (¬6). ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وهي واردة في الأثر. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من أجمع على إقامة أربع، أتم، رقم (5454)، وصحح إسناده النووي، وابن الملقن. ينظر: المجموع (4/ 169)، والبدر المنير (4/ 544)، وينظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 93) رقم (831). (¬3) كذا في الأصل. (¬4) في الأصل: معبد. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: البيوع، باب: الخراج بالضمان، رقم (3008)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: البيوع، باب: الدليل على أن لا يجوز شرط الخيار في البيع كثر من ثلاثة أيام، رقم (10458)، وأصل الحديث في الصحيحين، أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع، رقم (2117)، ومسلم في كتاب: البيوع، باب: من يخدع في البيع، رقم (1533)، وينظر: البدر المنير (6/ 537). (¬6) أخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: حكم المصراة، رقم (1524). =

126 - مسألة: إذا أقام المسافر في بلد لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، أو غدا أخرج، فله أن يقصر أبدا

والجواب: أنك لا تجعل الثلاث حدَّ الإقامة، وإنما تجعل الزيادة عليها حدًّا. تَدَّعي أن الثلاث في حد القلة، وما زاد عليها في حكم الكثرة، وهذا لا يصح؛ لأن الثلاث عندك قد جُعِلت في حكم الكثرة، ولهذا تقول في العمل في الصلاة: إن كان ثلاث خطوات، بطلت الصلاة، وإن نقص عن الثلاث، لم تبطل، فجعلتَ الثلاث في حكم الكثرة، وما زاد على الثلاث فهو أيضًا في حكم القلة في مواضع، منها: في أقل نصاب الإبل جعلت الأربع قليلة في إسقاط الزكاة، والخمس في حكم الكثرة في تعلق الزكاة بها، وكذلك في ألفاظ اللعان، وفي الرضاع، وفي المأخوذ عن نصاب الورق، ما دون الخمس في جميع ذلك قليل لا يتعلق به الحكم، والخَمْسُ كثير؛ مما كان يمتنع مثله ها هنا، والله أعلم. * * * 126 - مَسْألَة: إذا أقام المسافر في بلد لحاجة ينتظر قضاءها (¬1)، يقول: اليوم أخرج، أو غدًا أخرج، فله أن يقصر أبدًا: ¬

_ = والمصراة: أصل الصَّرّ: الجمعُ والشدُّ، فلا تُحلب المصراة أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضَرْعها. ينظر: النهاية في غريب الحديث (صرا)، ولسان العرب (صرر). (¬1) في الأصل: قضاها.

نص عليه في رواية محمد بن الحسن بن هارون (¬1) (2)، والمروذي (¬2): إذا قال: أخرجُ اليوم، أخرجُ غدًا، فأقام على ذلك شهرًا: يقصر. وبهذا قال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4) - رحمهما الله -. وللشافعي - رحمه الله - قولان: أحدهما: مثل هذا، والثاني: يقصر إلى سبعة عشر، أو ثمان عشرة، إلا أن ينوي الإقامة فيما دونه (¬5)، فيلزمه الإتمام (¬6). دليلنا: ما روى أبو بكر قال: نا محمد بن عثمان (¬7) قال: نا الحسن بن صالح (¬8) قال: نا عبد الرزاق قال: نا معمر عن يحيى بن أبي كثير، ¬

_ (¬1) هو: ابن بدينا، مضت ترجمته. (¬2) لم أقف على روايته، وينظر: مختصر الخرقي ص 59، والإرشاد ص 92، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 203)، والهداية ص 104، والمغني (3/ 153)، والمحرر (1/ 214)، ومختصر ابن تميم (2/ 362)، والإنصاف (5/ 75). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 364)، ومختصر القدوري ص 99. (¬4) ينظر: المدونة (1/ 122)، والإشراف (1/ 309). (¬5) كررها في الأصل مرتين. (¬6) ينظر: الأم (2/ 368)، ومختصر المزني ص 40، والمهذب (1/ 336). (¬7) ابن أبي شيبة، أبو جعفر العبسي الكوفي، قال الذهبي: (الإمام الحافظ المسند ... جمع وصنف، وله تاريخ كبير)، توفي سنة 297 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 21). (¬8) لم أقف على من يروي هذا الحديث عن عبد الرزاق باسم: الحسن بن صالح، =

عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر - رضي الله عنه - قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة (¬1). فان قيل: هذا مرسل؛ لأن أبا داود قال: غيرُ معمر يرسله عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أنه قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل له: قد رويناه متصلًا عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية جعفر بن محمد (¬2): أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وهذا يدل على صحة الحديث؛ لأن أحمد - رحمه الله - احتج به. فإن قيل: يحتمل أن يكون جابر احتسب اليوم الذي يدخل فيه إلى الموضع، واليوم الذي خرج منه، فيكون عشرين يومًا، ونحن لا نحسب هذين اليومين من المدة. ¬

_ = ولم أجد هذا الاسم ممن يروي عن عبد الرزاق. ينظر: تهذيب الكمال (18/ 52)، ولم أجد محمد بن أبي شيبة يروي عن أحد باسم: الحسن بن صالح. ينظر: تاريخ بغداد (3/ 42). فلعله خطأ. (¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (4335)، وأحمد في المسند رقم (14139)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: إذا أقام بأرض العدو يقصر، رقم (1235)، وقال: (غير معمر لا يسنده)، وأعله بتفرد معمر: البيهقيُّ، وقال: (غير محفوظ). ينظر: المعرفة (4/ 273)، والسنن الكبرى (3/ 217)، وينظر: العلل للدارقطني (12/ 225). (¬2) لم أقف عليها، وذكر نحوها الكوسج في مسائله رقم (1716).

قيل له: قوله: أقام عشرين، يقتضي عشرين يومًا كاملة، هذا هو الحقيقة، ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. روى النجاد بإسناده عن نافع: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ركعتين (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن ليث عن عامر - رضي الله عنه - قال: جاورت مع ابن عمر - رضي الله عنهما - ثمانية أشهر، أو عشرة بالمدينة، فسألته: كم أصلي؟ قال: إذا كنت وحدك، فصل ركعتين، وإذا صليت في جماعة، فائتمَّ بصلاتهم (¬2). وروى أيضًا بإسناده عن أنس - رضي الله عنه -: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاموا برامهرمز (¬3) تسعة أشهر يقصرون الصلاة (¬4). وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن مسور قال: كنا مع سعد بن مالك بالشام شهرين، فكان سعد - رضي الله عنه - يقصر الصلاة، ونحن نتم، فذكرنا ذلك له، ........................................... ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 15. (¬2) مضى تخريجه في ص 14. (¬3) معنى رام بالفارسية: المراد، والمقصود، وهرمز: أحد الأكاسرة، فكأن هذه اللفظة مركبة، معناها: مقصود هرمز، أو مراد هرمز، وهي مدينة مشهورة بنواحي خوزستان. ينظر: معجم البلدان (3/ 17). (¬4) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يقصر أبدًا ما لم يجمع مكثًا، رقم (5480)، وصحح إسناده ابن الملقن، والشنقيطي. ينظر: البدر المنير (4/ 548)، وأضواء البيان (1/ 442).

فقال: نحن أعلم (¬1). وبإسناده عن الحسن عن أنس - رضي الله عنهما -: أنه أقام بسابور سنتين يُصلي بالناس ركعتين، ثم يسلم (¬2). ورُوي: عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -: أنه أقام بسجستان (¬3) سنتين يقصر (¬4). وهذا إجماع منهم. فإن قيل: يجوز أن يكونوا هؤلاء ينتقلون من موضع إلى موضع من تلك الناحية. قيل له: قوله: جاورت مع ابن عمر - رضي الله عنهما - بالمدينة ثمانية أشهر، وهذا يقتضي نفس البلد؛ لأن غيرها لا يقع عليه هذا الاسم، وكذلك ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4350)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8284)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 360)، وإسناده صحيح غير حبيب بن أبي ثابت، قال ابن حجر: (ثقة فقيه ... كثير الإرسال والتدليس). التقريب ص 129، لكنه متابع كما عند البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يقصر أبدًا ما لم يجمع مكثًا، رقم (5481). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5141 و 8288)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 360)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 243) رقم (682)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 158): (رجاله موثقون). (¬3) بلد معروف في أطراف خراسان. ينظر: معجم البلدان (3/ 189). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4352)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8287)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 360)، وإسناده صحيح.

قوله: أقاموا برامهرمز تسعة أشهر؛ لأن ذلك اسم للبلد، وكذلك: أقاموا بسابور، وكابل، هذا اسم للبلد. فإن قيل: فقد رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: من أقام سبعة عشر، قصر، ومن أقام أكثر، أتم، هكذا رواه أبو داود (¬1)، وإذا كان كذلك، حصلت المسألة خلافًا في الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. قيل له: يحتمل أن يكون من مذهب ابن عباس: أن من عزم على إقامة سبعة عشر، قصر، وإن عزم على إقامة أكثر، أتم، وليس الخلاف فيمن نوى مدة بعينها، فخبرُ ابن عباس - رضي الله عنهما - محمول على ذلك، ولأنه مسافر لم يوطّأ منه نية الإقامة في مدة يصح أن يكون فيها مقيمًا، فله أن يقصر؛ قياسًا عليه إذا أقام ثمانية عشر يومًا، ولأن له أن يقصر سبعة عشر، أو ثمانية عشر، فله أن يقصر أكثر؛ دليله: إذا لم يكن مقيمًا في بلد، وكان ¬

_ (¬1) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: متى يتم المسافر؟ رقم (1230)، ولفظه: (من أقام سبع عشرة، قصر ... )، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8295)، وقال ابن الملقن: (إسناده على شرط البخاري)، ينظر: البدر المنير (4/ 534). وقد أخرجه البخاري بلفظ: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر، قصرنا، وإن زدنا، أتممنا) في أبواب: التقصير، باب: ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر؟ رقم (1080)، قال البيهقي: (اختلفت الروايات في تسع عشرة، وسبع عشرة، وأصحها عندي - والله أعلم - رواية من روى تسع عشرة، وهي الرواية التي أودعها محمد بن إسماعيل البخاري في "الجامع الصحيح"). ينظر: السنن الكبرى (3/ 151).

مسافرًا، ولم ينو الإقامة في بلد. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]. والجواب: أنه محمول على من عزم على الإقامة مدة بعينها؛ بدليل ما تقدم. واحتج: بأن الأصل الإتمام، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬1): أنه أقام بمكة ثمانية عشر يومًا، فكان يصلي ركعتين، وما زاد على ذلك، فيجب أن يكون باقيًا على الأصل؛ كما نقول في مدة المسح على الخفين. والجواب: أنا قد روينا عنه - عليه السلام -: أنه أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر (¬2)، وروينا عن (¬3) جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، .............. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في أبواب: التقصير، باب: ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر؟ رقم (1080)، بلفظ: (أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر)، وأما لفظ ثمانية عشر، فلم أجدها في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد جاءت في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -، أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: متى يتم المسافر؟ رقم (1229)، والبيهقي، كتاب: الصلاة: باب: المسافر يقصر ما لم يجمع مكثًا، رقم (5471)، وفي إسناده علي بن جدعان، ضعيف. ينظر: التلخيص (3/ 966). (¬2) مضى تخريجه في ص 22. (¬3) كررها في الأصل مرتين.

127 - مسألة: إذا دخل جيش المسلمين دار الحرب، ووطنوا أنفسهم على الإقامة بها مدة تزيد على أربعة أيام، أتم

على أن هذا قد انتقل عن الأصل، وصار فرضه القصر، فلم يلزمه الإتمام إلا بدليل. واحتج: بأن من ليس له الجمع بين الصلاتين ليس له أن يقصر؛ قياسًا على المقيم. والجواب: أنا لا نسلِّم هذا، بل له الجمع، وعلى أنه لا يجوز اعتبار من لم ينو الإقامة أصلًا بالمقيم، ألا ترى أن من لم ينو الإقامة فيما دون السبعة عشر، أو ثمانية عشر عنده، لا يجوز اعتباره بالمقيم؟ كذلك (¬1)، والله أعلم. * * * 127 - مَسْألَة: إذا دخل جيش المسلمين دار الحرب، ووَطَّنوا أنفسهم على الإقامة بها مدةً تزيد على أربعة أيام، أتمَّ: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية إسحاق بن منصور (¬2)، وجعفر بن محمد (¬3): ..................................................... ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعله سقطت كلمة: ها هنا. (¬2) في مسائله رقم (1716). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: المستوعب (2/ 393)، والمغني (3/ 150)، وشرح الزركشي (2/ 159)، وطبقات الحنابلة (3/ 228 و 229).

أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر يومًا [بمكة] (¬1) من الفتح لما أراد حنينًا، لم يكن ثم إجماع، وأقام بتبوك عشرين يومًا، ولم يكن ثم إجماع، ولكن إذا أجمع على زيادة أربعة أيام، أتم الصلاة؛ فقد تأول إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الحرب بتبوك وحنين على أنه لم يعزم على الإقامة، وقال: إذا عزم على الزيادة على أربعة أيام، أتم، وظاهر هذا: أنه لا فرق عنده بين دار الحرب، ودار الإسلام، وكذلك قال في رواية عبد الله (¬2): المسح في دار الحرب وغيره واحد؛ للمسافر ثلاثة (¬3) أيام، وللمقيم يوم وليلة. وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬4). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: له أن يقصر أبدًا ما دام مقيمًا في دار الحرب، وإن نوى الإقامة (¬5). دليلنا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وهذا غير ضارب في الأرض. ¬

_ (¬1) ما بين قوسين بياض في الأصل، والمثبت من مسائل الكوسج. (¬2) في مسائله رقم (148). (¬3) كررها في الأصل مرتين. (¬4) ينظر: الأم (2/ 364)، والبيان (2/ 473). (¬5) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 360)، ومختصر القدوري ص 99. وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 122)، والإشراف (1/ 309).

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لامرئ ما نوى" (¬1)، وهذا قد نوى الإقامة، فوجب أن تصح (¬2) نياتهم، ولأنهم نووا إقامة مدة الإقامة، فوجب أن تصح، أصله: غير دار الحرب. واحتج المخالف: بما تقدم (¬3) عن الصحابة - رضوان الله عليهم -، وأنهم أقاموا الشهور والسنين بدار الحرب يقصرون الصلاة. والجواب عنه: أنه لم يكن منهم نية الإقامة، وإنما كانت نيتهم (¬4)، فهو بمنزلة من كانت نيته قضاء حاجته ببلد، فإنه يقصر، وإن أقام شهرًا. واحتج: بأن الموضع الذي نووا الإقامة ليس بدار إقامة، فوجود النية منهم وعدمها بمنزلة [واحدة] (¬5)، كما لو نووا الإقامة في البادية في موضع لا ماء فيه ولا طعام. والجواب: أن نية المقام في البادية صحيحة عندنا، ويتعلق بها الإتمام؛ كما نقول في دار الحرب. واحتج: بأن إقامتهم في الموضع الذي نووا فيه الإقامة ليست ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 350). (¬2) في الأصل: يصح. (¬3) في ص 23، 24. (¬4) كلمة لم أهتد إلى قراءتها [. . . . . .]. (¬5) ما بين قوسين ليس في الأصل، وبها تتضح العبارة.

128 - مسألة

موقوفة على اختيارهم؛ لأنه ربما هزمهم العدو، فيحتاجون إلى أن يتأخروا، أو يهزموا العدو، فيحتاجون إلى أن يتقدموا، فيجب ألا يثبتوا لنيتهم حكمًا؛ كالعبد مع المولى إذا نوى الإقامة، لم يثبت لنيته حكم، وكذلك المرأة مع زوجها، والجيش مع الأمير. والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل نقول: نيتهم صحيحة، ويلزمهم الإتمام، وعلى أنه تنتقض نية صاحب الحاجة؛ فإن إقامته غيره على اختياره (¬1)، وإن قضاها، ربما تقدم، وربما تأخر، وربما اضطر إلى الخروج لما يعرض من الأمور؛ كما قال بعضهم (¬2): إذا أَذِنَ اللهُ في حاجةٍ ... أتاك النجاحُ بها يركُضُ وإن أَذِنَ اللهُ في غيرِها ... أتى عارضٌ دونَها يعرِضُ * * * 128 - مَسْألَة في الملَّاح (¬3) إذا كان يسافر بأهله، وليس لنيته في المقام ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: فإن إقامته على غير اختياره. (¬2) ينظر: ديوان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ص 117. (¬3) صاحب السفينة؛ لملازمته الماء الملح. ينظر: لسان العرب (ملح).

ببلد، والمكَاري (¬1) [الفَيْج] (¬2)، فإنهم لا يقصرون الصلاة: نص عليه في الملاح في رواية أبي داود (¬3)، والمروذي (4)، وإبراهيم (¬4)، وابن الحارث (4)، والأثرم (¬5)، واللفظ لإبراهيم: في الملاح تكون السفينة بيته أبدًا مع امرأته: لا يقصرون الصلاة، وكذلك إسحاق بن إبراهيم (¬6)، وأحمد بن الحسن (¬7)، ويوسف (¬8): في الراعي لا يقصر إذا كان مسكنه وأهله بها. ¬

_ (¬1) الذي يكري الدواب، والكراء: أجر المستأجر. ينظر: لسان العرب (كرا). (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة، والمثبت من الهامش. والفيج: رسول السلطان على رجله، فارسي معرب، والجمع فيوج، وهو الذي يسعى على رجليه بالكتب، ويحملها إلى البلدان. ينظر: لسان العرب (فيج). (¬3) في مسائله رقم (518). (¬4) لم أقف على روايته، ونقل نحوها صالح في مسائله رقم (1027)، وينظر: الجامع الصغير ص 55، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 204)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 309)، والهداية ص 104، والمغني (3/ 119)، ومختصر ابن تميم (2/ 364)، والفروع (3/ 102)، والنكت على المحرر (1/ 215)، والمبدع (2/ 116)، والإنصاف (5/ 83). (¬5) ينظر: المغني (3/ 118). (¬6) في مسائله رقم (437). (¬7) الترمذي، مضت ترجمته (2/ 102). (¬8) لعله: ابن موسى، وينظر: (1/ 110).

وقال في رواية الميموني (¬1): في الجمَّال يقصر، قد يأتي بيته، ويقيم فيه، فكان عنده: أن الجمَّال خلاف الملَّاح الذي تنورُه وأهلُه [معه] (¬2)، فصار من هذا فرق بين الجمال والملَّاح، ولا فرق بينهما في التحقيق؛ لأنه قد بيّن أن الجمال الذي يأتي أهله، فلهذا جاز له القصر؛ لأنه موطن يرجع إليه، ولو كان الملاح بهذه الصفة، لكان له القصر، فأما إذا تساويا في أن كل واحد منهما ليس له وطن يستقر به، فإن حكمهما سواء في ترك القصر، وبه قال الحسن (¬3)، وعطاء (¬4)، وأيوب (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6)، ............................................ ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، ونقل نحوها صالح في مسائله رقم (1027)، وينظر: الجامع الصغير ص 55، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 204)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 309)، والهداية ص 104، والمغني (3/ 119)، ومختصر ابن تميم (2/ 364)، والفروع (3/ 102)، والنكت على المحرر (1/ 215)، والمبدع (2/ 116)، والإنصاف (5/ 83). (¬2) ليست في الأصل، والعبارة تستقيم بها. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6642)، وينظر: مسائل صالح رقم (1027). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6641)، وينظر: العلل ومعرفة الرجال (2/ 275)، رقم (2233). (¬5) ابن كيسان السختياني المعروف بـ: (ابن أبي تميمة)، مضت ترجمته. ولم أقف على قوله. (¬6) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 356)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 321).

ومالك (¬1)، والشافعي (¬2) - رضي الله عنهم -: لهم القصر إذا نووا مسافة القصر. دليلنا: ما أنا أبو محمد عبد الله بن الضرير (¬3)، يخرج الدارقطني بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقصر الراعي" (¬4)، ولأنه لم يوجد انتقال عن موطنه، ولا العدول عن أهله، فلم يجز له القصر؛ دليله: إذا سافر في بلد من محلة إلى محلة، وإذا كان سفره ستة عشر فرسخًا، وإذا نوى الإقامة في بلد أربعة أيام. وإن شئت قلت: من لا يجوز له الجمعُ لا يجوز له القصر؛ دليله: ما ذكرنا، وهذا على أبي حنيفة، فإن مَنْ دأبُه السفر لا يرجع إلى وطن فهو في حكم المقيم، ألا ترى أنه لو طلق زوجته وهي معه على السفينة؛ بحيث لا يخلو بها، فإنها تقضي العدة على نحو ما تقضيها وهي مقيمة في البلد، وإن كانت سائرة متنقلة، وتبين صحة هذا: ما روى عثمان بن عفان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تزوج ببلد، فهو من أهله" (¬5)، فجعل ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 119)، ومواهب الجليل (2/ 496). (¬2) ينظر: الأم (2/ 370)، وروضة الطالبين (1/ 403)، والأفضل عند الشافعية أن يتم. (¬3) هو: عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الله، أبو محمد الضرير، قال الخطيب البغدادي: (كان فيه تساهل، وكان فيه صلاح، ولم يكن في الحديث بذاك)، توفي سنة 392 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (10/ 139). (¬4) سيذكر المؤلف الحديث بلفظ أتم، وبإسناده في ص 61. (¬5) مضى تخريجه في (2/ 491).

فصل

المقيم مع أهله في حكم المقيم، ولأن من يتكرر دخوله إلى مكة؛ كالحَشّاشة، والحَطّابة يسقط عنهم الإحرام إذا مروا على الميقات؛ لما عليه من المشقة، ويجب الإحرام على غيرهم؛ لعدم المشقة، كذلك رُخَص السفر تثبت في حق المسافر لأجل ما يلحقه من المشقة، وهذا يختص من لا يتكرر سفره، فأما من يتكرر سفره، لا مشقة عليه؛ لأنه قد صار ذلك إِلْفة. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وهذا عام. والجواب: أن هذا محمول على غير مسألتنا؛ بدليل: ما تقدم. واحتج: بأن المسافر إنما جاز له القصر؛ لما يلحقه من المشقة، وهذا المعنى يوجد في مسألتنا، فيجب أن يباح له القصر. والجواب: أن المشقة إنما تلحقه؛ لأن وطنه حصل على وجه تلحقه المشقة، فهو كأهل الصنائع الذين تلحقهم المشاق في بلادهم؛ فإن ذلك لا يبيح له القصر، كذلك ها هنا، ولأن كذلك من له بلد يرجع إليه؛ لأن وطنه يحصل له به رفاهة، فإذا انتقل عنه، جاز أن يترخص، وهذا وطنه حصل على صفة تلحقه المشقة، فلم يؤثر ذلك في باب الرخصة. * فصل: فإن قدم بلدًا، فتزوج فيه، ولم ينو إقامة أربعة أيام، لم يجز له القصر، وكذلك لو قدم على بلد له فيه أهل، نص على الأولى في رواية

الأثرم (¬1)، وأبي الحارث (1)، وصالح (¬2)، وأبي داود (¬3)، ونص على الثانية في رواية عبد الله (¬4)، وابن منصور (¬5)، وذكره أبو بكر الخلال في كتابه خلافًا (¬6) في قوله: لا يصير بذلك مقيمًا. دليلنا: ما روى الحميدي (¬7) [في كتابه] (¬8) بإسناده عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنه صلى بأهل منى أربعًا، فأنكر الناس عليه ذلك، فقال: يا أيها الناس! إني لما قدمتُ مكة، تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تأهل الرجل ببلد، فليصل به صلاةَ المقيم" (¬9)، فنُقل في الخبر حكم وسبب، فتعلق الحكم بالسبب، وعلى أن عثمان - رضي الله عنه - حمله على السبب المنقول، وهو التأهل. ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: مختصر ابن تميم (2/ 364)، والفروع (3/ 97)، وشرح الزركشي (2/ 159)، والإنصاف (5/ 77)، وكشاف القناع (3/ 272). (¬2) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: بدائع الفوائد (4/ 1512). (¬3) في مسائله رقم (521). (¬4) في مسائله رقم (555) و (860). (¬5) في مسائله رقم (359). (¬6) بياض في الأصل بما يقارب خمس كلمات. (¬7) في مسنده، أحاديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، رقم الحديث (36). (¬8) بياض في الأصل، والمثبت من هامش الأصل. (¬9) مضى تخريجه في (2/ 491).

وروى أحمد - رحمه الله - (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا قدمتَ على أهل، أو على ماشية، فأتمَّ (¬2). وأيضًا: فإن عقد النكاح يقتضي الإقامة، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمقام عند الثيب ثلاثًا، وعند البكر سبعًا (¬3)، عندنا وعندهم: مستحب، فإذا كان يقتضي الإقامة، فإن لم يوجد، يجب أن يصير شبهه في قطع نية السفر احتياطًا للعبادة، ولأنه لو خرج من بلده بنية السفر، ثم رجع إلى بلده لحاجة نسيها، لم يجز له القصر؛ لأنه عاد إلى وطنه، وإن لم ينو ¬

_ (¬1) لم أجده في المسند، وقد ذكره الإمام أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله، ورواية الكوسج، ورواية صالح. ينظر: مسائل عبد الله رقم (555 و 860)، ومسائل الكوسج رقم (359)، وبدائع الفوائد (4/ 1512). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4297)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8308)، وابن المنذر (4/ 364)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: المسافر ينتهي إلى الموضع الذي يريد المقام به، رقم (5494)، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (3/ 14). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، رقم (1460)، وجاء في الصحيحين من أن أنسًا - رضي الله عنه - قال: (من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا). ينظر: صحيح البخاري، كتاب: النكاح، باب: إذا تزوج البكر على الثيب، رقم (5213)، وصحيح مسلم، كتاب: الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، رقم (1461).

129 - مسألة: إذا ائتم المسافر بمقيم، لزمه الإتمام، ولا فرق بين أن يدرك مع المقيم ركعة، أو أقل؛ فإنه يلزمه التمام

الإقامة، كذلك إذا قدم بلدًا له فيه أهل. وأيضًا: فإن العادة أن عقد النكاح يقتضي الإقامة، فوجب أن تحمل نيته على مقتضى العادة، وإن لم يصرح به، وكذلك إذا دعا قومًا، وقدّم إليهم طعامًا، كان ذلك إذنًا، وكذلك قال أصحابنا: إذا دفع إلى قصار ثوبًا، وكان معروفًا بأخذ الأجرة، استحق الأجرة، وإن لم يصرح بها. وذهب المخالف: إلى (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - لما حج حجة الوداع، نزلوا مكة في ديارهم وضياعهم وأموالهم، وكانوا على القصر (¬2). والجواب: أن تلك الديار ملكت عليهم. واحتج: بأنه على سفر ما لم يفتتح، أو ينوِ الإقامة. والجواب: أنا نقول: أو يتزوج، أو يقدم على أهل، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 129 - مَسْألَة: إذا ائتم المسافر بمقيم، لزمه الإتمام، ولا فرق بين أن يدرك مع المقيم ركعة، أو أقل؛ فإنه يلزمه التمام: ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار كلمة، وفي الهامش: إلى. (¬2) مضى تخريجه في ص 17، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 42).

نص على هذا في رواية الجماعة، منهم: أبو طالب (¬1): في المسافر يصلي خلف المقيم، على حديث عمر - رضي الله عنه -: أتموا؛ فإنا قوم سَفْر (¬2). وقال أيضًا في رواية صالح (¬3): في مسافر أدرك مقيمين في التشهد في الرابعة: صلى بصلاتهم، وكذلك نقل ابن منصور (¬4)، وصالح (3): في مسافر انتهى إلى الإمام يوم الجمعة وهو جالس في آخر صلاته: يصلي أربعًا؛ لأنه قد دخل في صلاة المقيمين، وكذلك نقل الميموني (¬5): في مسافر دخل في صلاة الجمعة وهم في التشهد: يصلي أربعًا، فقيل له: ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وقد نقل مثلها عبدُ الله في مسائله رقم (565)، وابن هانئ في مسائله رقم (407)، والكوسج في مسائله رقم (163)، والأثرم نقلها عنه ابن قدامة في المغني (3/ 143)، وينظر: مختصر الخرقي ص 59، والهداية ص 104، والمستوعب (2/ 396)، ومختصر ابن تميم (2/ 357)، والإنصاف (5/ 55). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: قصر الصلاة، باب: صلاة المسافر إذا كان إمامًا، وعبد الرزاق في المصنف رقم (4369)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (3881)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 365)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الإمام المسافر يؤم المقيمين، رقم (5328)، وصحح إسناده ابن تيمية. ينظر: الفتاوى (24/ 118). (¬3) لم أجدها في مسائله المطبوعة، ونقل مثلها أبو داود في مسائله رقم (420). (¬4) في مسائله رقم (537). (¬5) لم أقف على روايته، وينظر: الإرشاد ص 94، والروايتين (1/ 186)، والمحرر (1/ 212)، ومختصر ابن تميم (2/ 357).

فالمقيم إذا دخل في التشهد، كان حكمه أن يصلي ركعتين؟ فقال: هذا يحتاط، يزيد ولا ينقص، فقد نص على ما ذكرنا. وبه قال أبو حنيفة (¬1)، والشافعي (¬2) - رحمهما الله -. وقال مالك - رحمه الله -: إن أدرك ركعة، لزمه الإتمام، وإن أدرك أقل، لم يلزمه (¬3). وقال داود: يجوز له القصر، ولا يجوز له الإتمام (¬4). فالدلالة على داود: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬5)، والائتمام الاتباع، فظاهره يقتضي المتابعة في جميع أفعال الصلاة بكل حال. وأيضًا: فإنه مؤتم بمقيم، فلم يجز له القصر؛ كما لو أراد أن يصلي الجمعة خلف من يصلي الظهر؛ فإنه يلزمه الإتمام أربعًا، أو صلى الظهر خلف مقيم يصلي الظهر. واحتج: بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وهذا ضارب، فجاز له القصر. ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 357)، ومختصر القدوري ص 99. (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 382)، والبيان (2/ 467). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 122)، والإشراف (1/ 311 و 312). (¬4) لم أجده، وبه قال ابن حزم في المحلى (5/ 24). (¬5) مضى تخريجه في (1/ 241).

والجواب: أن الآية تدل على جواز القصر في الجملة، فأما كيفيته وموضعه، فلا تدل (¬1) عليه. واحتج: بأنه مسافر، فجاز له القصر؛ كما لو صلى منفردًا. والجواب: أنه هناك غيرُ تابع لغيره، فلم يلزمه حكمُه، وإذا ائتم، فهو تابع لغيره، فلزمه متابعته. والدلالة على مالك - رحمه الله - هو: أنه مؤتم بمقيم، فلم يجز له القصر؛ كما لو أدرك معه ركعة، ولأن كل معنى لو وجد ابتداء الصلاة ووسطها، لزم به الإتمام، فإذا وجد في جزء منها، لزم الإتمام؛ كنية الإقامة. والجواب: أن هذا محمول على إدراك الوقت، ولم يقصد به إدراك حكمها. واحتج: بأنه مدرك لما دون الركعة، فلم يلزمه حكم تلك الصلاة؛ دليله: الجمعة. والجواب: أن فضيلة الجماعة تدرك بإدراك أقلَّ من ركعة، وليس اعتبار هذا بحال الجمعة بأولى من اعتبارها بالجماعة، ثم المعنى الذي يجعله مدركًا للجمعة بأقل من ركعة هو: تغليب للإتمام، وهذا موجود ها هنا، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: يدل.

130 - مسألة: إذا نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، صلاها صلاة حضر

130 - مَسْألَة: إذا نسي صلاةَ سفرٍ، فذكرها في الحضر، صلاها صلاةَ حَضَرٍ (¬1): نص على هذا [في] رواية عبد الله (¬2)، والأثرم (¬3)، والمروذي (¬4)، وعلل في رواية الأثرم: بأنها وجبت عليه الساعة؛ أي: وجبت عليه في الأصل صلاة تمام؛ لأن من أصلنا: أن القصر رخصة، وليس بعزيمة، فقوله: الساعة؛ أي: خاطب به المقيم. وهو قول الجديد للشافعي - رحمه الله - (¬5)، وبه قال داود (¬6). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يصلي صلاة سفر (¬7). واختلف أصحاب ............................................ ¬

_ (¬1) ينظر: مسائل أبي داود رقم (528)، ومسائل ابن هانئ رقم (418)، ومختصر الخرقي ص 59، والإرشاد ص 94، والعدة في أصول الفقه (1/ 293)، وشرح الزركشي (2/ 155)، والإنصاف (5/ 54). (¬2) في مسائله رقم (552). (¬3) ينظر: المغني (3/ 141)، والشرح الكبير (5/ 54). (¬4) ينظر: النكت على المحرر (1/ 212). (¬5) ينظر: الأم (2/ 361)، ومختصر المزني ص 40. (¬6) ينظر: المغني (3/ 141)، وبه قال ابن حزم في المحلى (5/ 23). (¬7) ينظر: الحجة (1/ 126 و 127)، ومختصر القدوري ص 100.

مالك - رحمه الله - (¬1): فمنهم من قال مثلَ قول أبي حنيفة، ومنهم من قال: هو مخير، إن شاء صلى أربعًا، وإن شاء ركعتين، وهو قول القديم للشافعي - رضي الله عنه - (¬2). دليلنا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وهذا ليس بضارب في الأرض، فلا يجوز له القصر. وأيضًا: ما تقدم من حديث علي - رضي الله عنه -: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الحضر أربعًا (¬3)، وهذا في الحضر. والقياس: أنه مقيم، فلم يجز له القصر؛ كما لو وجبت عليه الصلاة وهو مقيم، ولأنه تخفيف تعلق بالسفر، فإدراكُ السفر قبل وجود التخفيف (¬4)، وجب أن يزول التخفيف، أصله: إذا أحرم بالصلاة وهو في سفينة، فقدمت بلده قبل أن يسلِّم من الركعتين، فإنه يلزمه الإتمام، ولا يلزم عليه المسافر إذا دخل في الصوم، ثم دخل بلده قبل أن يفطر، فإنه لا يجوز له أن يفطر، ولا يلزم عليه إذا أفطر في السفر، ثم قدم، فإن فيه روايتين: إحداهما: لا يجوز أن يأكل في بقية نهاره، نص عليه في ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 118 و 119)، والإشراف (1/ 310)، ومواهب الجليل (2/ 496). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 378)، والمهذب (1/ 336). (¬3) في ص 10. (¬4) كذا في الأصل.

رواية حنبل، فقال: يُمسك (¬1). والثانية: له الأكل، أومأ إليه في رواية الأثرم (¬2)، وغيره (¬3)، فقال: أعجبُ إليَّ وأحبُّ أن يمسك، فعلى هذا: لا يلزم؛ لأنا قلنا: فإدراك السفر قبل وجود التخفيف، وها هنا قد وجد التخفيف في السفر، وهو الأكل، فأما استدامة حكم الأكل، والبقاء عليه، فليس من أحكام السفر. فإن قيل: لا نسلِّم أن القصر تخفيف، ولا نسلِّم أنه متعلق بالسفر؛ لأن الركعتين عندنا فرض الوقت. قيل له: هو تخفيف عما يجب على المقيم؛ لأن الركعتين أخف من الأربع، فلا يمكن إنكاره، وأما تعلقه بالسفر، فصحيح؛ لأنه إذا كان مسافرًا، صلى ركعتين، وإذا صار مقيمًا، صلى أربعًا، وإذا عاد إلى السفر، عاد إلى الركعتين، فثبت أنه متعلق بالسفر، وهو بمنزلة تخفيف الأركان المتعلق بالمرض؛ فإنه إذا مرض، ولحقته مشقة فادحة (¬4) من القيام، جاز له أن يصلي قاعدًا، وإذا زال المرض، وجب القيام، فدل ذلك على أنه متعلق بالمرض، كذلك ها هنا. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه قد طرت الإقامة على الصلاة قبل ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 262)، ونقل مثلها عبد الله في مسائله رقم (860). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 263). (¬3) ينظر: مسائل أبي داود رقم (658)، ومسائل ابن هانئ رقم (654). (¬4) في الأصل: قادحة.

استقرارها في ذمته، وليس كذلك ها هنا؛ لأنها قد استقرت في ذمته ركعتان، فلم يجز الزيادة عليها بما يطرأ بعد ذلك. قيل له: الفرض عندنا أربع ركعات، وهي المستقرة في الذمة، وإنما رخص في ترك الركعتين منها لأجل السفر، فإذا زال السفر، استقر الجميع، وعلى أن هذا باطل بمن دخل في الصلاة وهو في السفينة، وخرج وقت الصلاة قبل أن يسلم من الركعتين، ثم انتهت السفينة إلى بلده قبل أن يسلم منها، لزمه الإتمام، وقد استقرت هذه الصلاة في الذمة بخروج الوقت، ولأن صلاة السفر والحضر صلاتا وقت واحد، إحداهما تنقص عن الأخرى، فإذا زال شرط الناقصة، وجب أن يعود إلى الكاملة؛ دليله: الجمعة. فإن قيل: فرض الوقت يوم الجمعة هو الظهر، وإنما أمرنا بإسقاطها بالجمعة، فإذا فاتت الجمعة، وجب فرض الوقت، وليس كذلك السفر؛ لأن فرض الوقت عندنا ركعتان. قيل له: فرض الوقت عندنا أربع ركعات، وفرض الوقت في يوم الجمعة هو الجمعة؛ لأنه هو المخاطب بها، والمعاقب على تركها، ولأنها صلاة خففها لعذر، فإذا زال، وجب أن يزول التخفيف، أصله: إذا نسي صلاة في حال المرض، وأراد أن يقضيها في حال الصحة، لزمه القيام فيها، ولم يجز له ترك القيام كما فاتت، وكذلك لو فاتته صلاة وهو عريان، وأراد قضاءها وهو مكتسٍ، فإنه يلزمه ستر العورة، كذلك ها هنا.

فإن قيل: الاعتبار في تخفيف الأركان وتتميمها بحال الفعل، وليس كذلك الركعات؛ فإن الاعتبار فيها بحال الاستقرار في ذمته دون حال الفعل، ألا ترى أنه إذا نسي صلاة في حضر، فذكرها في سفر، لزمه أن يصليها أربعًا؟ قيل له: الذي استقر عندنا هو أربع ركعات، وإنما القصر رخصة، فإذا زال العذر، كان المستقر هو الأربع؛ كما يقول المخالف في الجمعة إذا فاتت. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسي صلاة، أو نام عنها، فليصلَّها إذا ذكرها" (¬1)، فأمر بقضاء المنسية، والتي نسيها ركعتان، فوجب أن يقضيها ركعتين. والجواب: أن الخبر اقتضى أمرًا بالقضاء، وليس فيه ما يدل على كيفية القضاء، فلا يدل على موضع الخلاف، على أنا لا نسلِّم أنها ركعتان، بل أربع. واحتج: بأنها صلاة تؤدى مرة، وتقضى أخرى، فوجب أن يكون قضاؤها في عدد ركعاتها مثلَ أدائها؛ دليله: إذا نسي صلاة في الحضر، ثم ذكرها في السفر، ولا يلزم عليه الجمعة؛ لأنها لا تقضى. والجواب: أنه قد قيل: إن الجمعة تقضى ظهرًا، فالقياس منتقض بها، ويدل عليه أنها تقضى: أنها قبل فواتها لا يجوز أن يصلوا الظهر، وإذا ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (1/ 358).

131 - مسألة إذا دخل المسافر في صلاة مقيم، ثم أفسدها، وأراد أن يصليها وحده، فإنه يتممها أربعا

فاتت الجمعة، لزمهم أن يصلوا الظهر، فدل على أنها قضاء للجمعة، وعلى أنه إذا نسي صلاة في الحضر، وذكرها في السفر، غلب حكم الحضر، كذلك في مسألتنا يجب أن يغلب حكم الحضر. واحتج: بأن فرض الوقت للمسافر ركعتان، وإذا ثبت هذا الأصل، قلنا: إن كل من كان فرضه في الوقت ركعتان، لم يلزمه أن يقضي بعد الفوات أكثر منها؛ دليله: المسافر والمقيم إذا فاتهما صلاة الفجر، ولا يلزم عليه الجمعة؛ لأن فرض الوقت يومَ الجمعة الظهرُ، فإذا فاتته الجمعة، صلى فرض الوقت - وهو الظهر - أربعًا. والجواب: أن فرض الوقت للمسافر أربع عندنا، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم، وأما صلاة الفجر، فالمعنى فيها: أن الركعتين لا يتعلقان بعذر، وليس كذلك ها هنا؛ لأن ركعتي السفر يتعلقان بعذر، فإذا زال العذر، زال التخفيف؛ كالمرض، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * 131 - مَسْألَة إذا دخل المسافر في صلاة مقيم، ثم أفسدها، وأراد أن يصليها وحده، فإنه يتممها أربعًا (¬1): ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (3/ 144)، ومختصر ابن تميم (2/ 359)، والفروع (3/ 91)، والإنصاف (5/ 58).

وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬1). وقال أبو حنيفة: يصلي ركعتين (¬2). دليلنا: أنها صلاة تعين عليه إتمامها، فلا يجوز له قصرها؛ دليله: إذا فاتته في الحضر، ثم سافر، فإنه لا يجوز له قصرها، ولأن العادة إذا وجبت عليه بالدخول فيها، لم تسقط بإفسادها (¬3) إذا أمكن قضاؤها؛ كمن أحرم بحجة التطوع، لزمه المضي فيها، بل هو بالخيار، إن شاء أتمهما، وإن شاء قطعهما، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن عليه أن يمضي فيها، ويتمها أربعًا. فإن قيل: هذا يبطل بمن افتتح صلاته في جماعة؛ فإنه يلزمه أن يصليها في جماعة، ثم إذا أفسدها، جاز له أن يستأنفها منفردًا على وجه، وهو إذا كان هناك عذر. واحتج المخالف: بما تقدم من الأخبار الواردة في قصر الصلاة في السفر. والجواب: أنها محمولة على غير مسألتنا. ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 361)، والبيان (2/ 468)، ولم أقف على قول المالكية في هذه المسألة. (¬2) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 363)، وبدائع الصنائع (1/ 467). (¬3) في الأصل: أنها صلاة تعينت عليه إتمامها، فلا يجوز له القصر ... ولأن العادة إذا وجب عليه بالدخول فيها، لم يسقط بإفسادها.

132 - مسألة: مسافر صلى بمسافرين ومقيمين، فأحدث الإمام قبل أن يستكمل ركعتين، فقدم مقيما ليصلي بقية الصلاة، وجب على المسافرين أن يتموا الصلاة أربعا

واحتج: بأنها صلاة وجبت عليه في حال السفر، فلا يلزمه أن يتمها أربعًا؛ كما لو لم يدخل في الابتداء خلف مقيم. والجواب: أن المعنى هناك: أنه لم يتعين عليه إتمامُها، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه قد تعين عليه إتمامها بالدخول فيها، فهو كما لو فاتته صلاة، فقضاها في السفر. واحتج: بأن فرض المسافر يتغير بدخوله في صلاة الإمام المقيم، فخروجه عن حال الائتمام يرده إلى فرضه في الأصل في حال الانفراد؛ كما لو دخل في صلاة الجمعة مع الإمام، ثم أفسدها: أنه يرجع إلى فرضه في الأصل، كذلك ها هنا. والجواب: أن الجمعة لا يمكن قضاؤها على صفتها في حال الانفراد، فألزمناه قضاءها على صفة الصلاة التي التزمها وأفسدها، والله أعلم، وله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة. * * * 132 - مَسْألَة: مسافر صلى بمسافرين ومقيمين، فأحدث الإمام قبل أن يستكمل ركعتين، فقدم مقيمًا ليصلي بقية الصلاة، وجب على المسافرين أن يُتموا الصلاة أربعًا: وهذا على الرواية التي تقول: إن صلاة الإمام لا تبطل بالحدث،

بل يبني عليها، ويجوز له الاستخلاف (¬1)، رواها عبد الله (¬2)، وصالح (¬3)، ومهنا (¬4). فإن قلنا: صلاة الإمام تبطل، لا أن الاستخلاف لا يصح؛ لبطلان صلاة المأمومين لفساد صلاة الإمام، فإنه لا تصح هذه المسألة، وقد نص على البطلان في رواية أحمد بن سعيد (4)، وبكر بن محمد (¬5)، وهذه المسألة مبنية على الرواية الأولى. وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬6). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يجب عليهم الإتمام (¬7). دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به" (¬8)، وقال: "اقتدوا ¬

_ (¬1) مضت في (1/ 482، 483). (¬2) في مسائله رقم (521 و 523). (¬3) لم أجدها في مسائله، ولكن قد تفهم مما في مسائله رقم (924 و 1322)، وينظر: الروايتين (1/ 141)، والنكت على المحرر (1/ 172). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 141). (¬5) لم أقف على رواية بكر، وينظر: المغني (3/ 144)، والمبدع (1/ 423)، والكافي (1/ 385). (¬6) ينظر: الأم (2/ 359)، وروضة الطالبين (1/ 393). (¬7) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 362)، وبدائع الصنائع (1/ 495). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: الكافي ص 69، وشرح الخرشي (2/ 55). (¬8) مضى تخريجه في (2/ 267).

بأئمتكم" (¬1)، وهذا عام، إلا ما خصه الدليل. ولأنه مسافر التزم صلاةَ حضر، فلا يجوز له القصر، أصله: إذا أحرم خلف مقيم. وقد قيل: إنه اقتدى في صلاته بمقيم، أشبهَ إذا أحرم خلف مقيم. والأولة أجود؛ لأنه ليس من شرطه أن يقتدي بالمقيم؛ لأنه إذا اقتدى بمسافر نوى الإتمام، لزمه الإتمام، وإن كان الإمام مسافرًا. واحتج المخالف: يقتدون بالإمام الأول؛ لأنهم يبنون على ترتيب صلاته، فيقعدون في موضع قعوده، ويقومون في موضع قيامه، ألا ترى أن هذا المقيم المستخلف لو كان أدرك الركعة الثانية من صلاة الإمام، لقعد للتشهد في هذه الركعة؟ والجواب: أنهم - وإن بقوا (¬2) على ترتيب صلاة الإمام الأول - فإنهم مقتدون بالإمام الثاني، والأول ليس بإمام لهم، يدل على ذلك: أنهم [يقتدون] (¬3) برأي الثاني، ويتبعونه في أفعاله، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا رفع رفعوا، وإذا بطلت صلاته، بطلت صلاة المأمومين، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم بلفظ: "ائتموا بأئمتكم"، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (413). (¬2) بياض في الأصل، والمثبت من هامش المخطوطة. (¬3) في الأصل: ىدديرون، ولعل المثبت هو الأقرب لرسم الكلمة.

133 - مسألة: إذا سافر بعد دخول وقت الصلاة، فهل يجوز له القصر، أم لا؟

ويسجدون لسهوه، وإذا علموا أنه محدِث، وتبعوه، بطلت صلاتهم، فدل ذلك على أنه إمام. وجواب آخر: وهو أن المقيم الذي يصلي خلف المسافر يتبعه في ترتيب صلاته، ويلزمه الإتمام، كذلك لا يمتنع أن يكون هذا المسافر يبني على ترتيب صلاة المسافر الأول الذي أحدث وانصرف، ويلزمه الإتمام؛ لاقتدائه بمقيم، وهو الإمام الثاني، واتباعُه في ترتيب صلاته لا يسقط عنه الإتمام؛ كما لم يسقط عن المقيم المقتدي به. واحتج: بأنهم لم يلتزموا حكم تحريمة الثاني، وإنما التزموا حكم تحريمة الإمام الأول. والجواب: أنهم لما اقتدوا به، صاروا ملتزمين لحكم تحريمته، وصاروا بمنزلة ما لو أحرموا خلفه؛ لأن ما يوجب الإتمام لا فرق بين أن يطرأ في آخر الصلاة، وبين أن يوجد في أول الصلاة؛ كقطع نية الفرض، أو قطع نية السفر، وإحداث نية الإقامة، على أن الالتزام لا اعتبار به في وجوب الإتمام؛ لأن وصول السفينة إلى بلده يوجب عليه الإتمام، وإن لم يلزمه، والله تعالى أعلم. * * * 133 - مَسْألَة: إذا سافر بعد دخول وقت الصلاة، فهل يجوز له القصر، أم لا؟ :

قال في رواية ابن منصور (¬1)، وأبي الحارث (1): إذا خرج في الوقت، أو في آخره: يتم الصلاة، وإن قال قائل: يقصر الصلاة، كان له وجه. فقد نص على أنه يتمّ، ولم يمنع قولَ من قال بالقصر، فيخرج المسافة عنده على قولين: أحدهما: لا يجوز له القصر، وهو أصح الروايتين. والثاني: يجوز له القصر، ولا فرق عندنا بين أن يسافر في أول الوقت، أم في آخره، في حال تعين عليه فعل الصلاة، وهو أن يبقى من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: له القصر بكل حال، سواء سافر وقد بقي مقدار تكبيرة الإحرام، أم أكثر (¬2). وقال أصحاب الشافعي - رحمهم الله -: إن سافر قبل أن يتعين عليه فعلها، وهو إن بقي من الوقت مقدار أكثر من أربع ركعات، جاز له القصر، وإن كان السفر تعين عليه، وهو إن بقي مقدار أربع ركعات، ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: الإرشاد ص 93، والجامع ص 56، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 205)، والمستوعب (2/ 394)، والمغني (3/ 143)، والفروع (1/ 49 - 3/ 92)، والنكت على المحرر (1/ 212 و 213)، والإنصاف (5/ 67). (¬2) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 255)، وبدائع الصنائع (1/ 477). وإلى القصر ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 119)، والإشراف (1/ 310).

فإنه يتم، ولا يقصر (¬1). دليلنا على أبي حنيفة - رحمه الله -: أنه سافر بعد دخول الوقت، فلم يجز له القصر؛ كما لو سافر بعد دخول الوقت، أو أحرم بالصلاة في سفينة في الحضر، ثم سافرت، فإنه يتم. واحتج المخالف: بأن وجوب الصلاة متعلق بآخر الوقت عندنا، فنقول: هذه صلاة وجبت عليه في السفر، فلم يصلها أربعًا؛ كما لو سافر في الوقت. والجواب: أنا لا نسلم لك هذا الأصل؛ لأن الوجوب عندنا يتعلق بأول الوقت، ويستقر به أيضًا، وعلى أن المعنى في الأصل: أنه سافر قبل دخول وقت الصلاة، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه سافر بعد دخول وقتها، أشبهَ ما ذكرنا. واحتج: بأنه سافر قبل الدخول في الصلاة، والوقت باقٍ، فوجب أن يصلي صلاة السفر كما لو سافر قبل الوقت. والجواب عنه: ما تقدم. والدلالة على أنه لا يجوز له القصر، وإن لم يتعين عليه فعلها خلافًا للشافعي: أنه سافر بعد دخول الوقت، فلم يجز له القصر؛ كما لو سافر وقد تعين عليه، تبين صحة هذا: أن على الأصلين جميعًا: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت، ولأنه لو دخل عليها الوقت، وأمكنها الأداء، فلم ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر المزني ص 40، والمهذب (1/ 337).

134 - مسألة

تؤدِّ حتى حاضت، أو جُنَّت، ثم أفاقت بعد خروج الوقت، فإنه يلزمها القضاء، سواء طرأ عليها ذلك بعد أن تعين عليها فعلُ الصلاة، أم قبله، كذلك (¬1). واحتج المخالف: بأنه سافر قبل أن يتعين عليه فعلها، فهو كما لو سافر قبل دخول الوقت. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه سافر قبل الوجوب، وها هنا بعد الوجوب، أشبهَ ما ذكرنا. فإن قيل: أليس لو سافر بعد أن دخل وقت الصلاة، وقبل أن يمسح (¬2)، كان له مسحُ مسافر، وإن كان وقت المسح قد دخل في الحضر. قيل له: لو تعين عليه وقت المسح، ثم سافر، فإن له أن يمسح مسح مسافر، ولو تعين عليه وقت الصلاة، وهو إن بقي مقدار أربع ركعات، ثم سافر، لم يجز له القصر، فبان الفرق بينهما، والله أعلم. * * * 134 - مَسْألَة إذا أراد أن يسافر إلى بلد، وله طريقان، أحدهما يقطع في ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعله سقطت كلمة: ها هنا، كعادة المؤلف - رحمه الله -. (¬2) في الأصل: مسح.

مدة لا يقصر في مثلها الصلاة، فاختار الأبعدَ لغير عذر، فإنه يقصر، وله أن يفطر، ويمسح ثلاثًا: ذكره أبو بكر في كتاب الخلاف (¬1)، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬2). وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا، والثاني: لا يقصر، ولا يفطر (¬3). دليلنا: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] , ولم يفرق، ويدل عليه أيضًا: سائر الأخبار الواردة في القصر في السفر، وقوله: "يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن" (¬4)، ولأنه نوى مسيرة ستة عشر فرسخًا سفرًا مباحًا، فجاز له القصر؛ كما لو لم [يكن] (¬5) هناك إلا طريق واحد. واحتج المخالف: بأن سلوك الأبعد لغير عذر تطويلٌ للطريق، فهو ¬

_ (¬1) ينظر: الجامع الصغير ص 56، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 206)، والهداية ص 104، ومختصر ابن تميم (2/ 360)، والإنصاف (5/ 64). (¬2) ينظر: التجريد (2/ 898)، والبحر الرائق (2/ 140). (¬3) ينظر: مختصر المزني ص 41، والمهذب (1/ 330). وذهبت المالكية لعدم القصر، فإذا قصر، لم يُعد. ينظر: الكافي ص 67، وشرح الخرشي (2/ 60). (¬4) مضى تخريجه في (2/ 476). (¬5) ساقطة من الأصل.

135 - مسألة: إذا سافر سفر معصية، لم يجز له القصر، والفطر، والمسح ثلاثة أيام، وأكل الميتة

كمن طوله يسير عرضًا وطولًا. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه مسافة تنقص عن مدة سفر القصر، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه نوى مسيرة يقصر في مثله، أشبه إذا لم يكن هناك إلا طريق واحد، وهكذا الجواب عن قولهم: بلد (¬1) الوصول إليه، يسير الناس في العادة في أقل من المدة المقدرة للرخَص، فلا يجوز لمن أنشأ السفر إليه أن يقصر أو يفطر؛ كما لو لم يكن له إلا هذا الطريق، والله أعلم. * * * 135 - مَسْألَة: إذا سافر سفر معصية، لم يجز له القصرُ، والفطرُ، والمسحُ ثلاثةَ أيام، وأكلُ الميتة: نص على هذا في رواية عبد الله (¬2)، وأبي داود (¬3)، ومهنا (4)، وحرب (¬4)، واللفظ لحرب: إذا خرج في معصية، .............. ¬

_ (¬1) كأن في المخطوط طمسًا باعتبار أن لفظة (بلد) في آخر السطر، فقد يكون هناك كلمة يستقيم بها الكلام، وهي (يمكن)، فتكون العبارة بعد الإضافة: (بلد يمكن الوصول إليه ... ). (¬2) في مسائله رقم (547). (¬3) في مسائله رقم (517). (¬4) ينظر: الانتصار (2/ 538).

فلا يقصر، ولا تحل (¬1) له الميتة (¬2). وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4)، وداود (¬5) - رحمهما الله -: يجوز له القصر والفطر. وقال مالك - رحمه الله -: لا يجوز له القصر، ويجوز له أكل الميتة (¬6). فالدلالة على أبي حنيفة - رحمه الله -: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، فحرم الميتة تحريمًا عامًا، ثم استثنى من جملة التحريم مضطرًا غيرَ عاصٍ، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3]، يعني: غير مرتكب لمعصية، وهذا عاصٍ، فوجب أن يكون على أصل التحريم. فإن قيل: معناه: غير متجانف لإثم في أكل الميتة، وهو أن يزيد على مقدار سدِّ الرمَق، ويطلب الشبع. ¬

_ (¬1) في الأصل: يحل. (¬2) ينظر: مسائل ابن هانئ رقم (627)، والإرشاد ص 94، والمغني (3/ 115)، والإنصاف (5/ 33). (¬3) ينظر: مختصر المزني ص 41، والأوسط (4/ 345). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 356)، ومختصر القدوري ص 100. (¬5) ينظر: المحلى (5/ 10 و 18). (¬6) ينظر: المدونة (1/ 119)، والإشراف (1/ 304).

قيل له: قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} نص على حال المضطر، وكأنه قال: فمن اضطر في مخمصة في حال لا يكون متجانفًا لإثم، فإذا كان كذلك، لم يجز أن يكون المراد به: إثم الشبع، والزيادة (¬1) على سد الرمق؛ لأن هذا الإثم يحصل بعد ارتفاع الضرورة، فلا يجوز اقترانه بحال الضرورة، وإلا به يقتضي إثمًا (¬2) في حال الضرورة. فإن قيل: الأكل مضمر في الآية، فكأنه قال: فمن اضطر في مخمصة، فأكل غير متجانف لإثم بالأكل. قيل له: نحن نسلِّم أن الأكل مضمر؛ لأنا نعلم أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، معناه: أكلُها، وليس إذا كان مضمرًا مما يجب حمل تجانف الإثم بالأكل؛ للمعنى الذي ذكرنا، وهو أنه نصب على حال المضطر، ولا يكون مضطرًا وقد حصل الشبع، فيحصل تقديره: فمن اضطر في حال لا يكون متجانفًا لإثم، فأكل، فإن الله غفور رحيم. وأيضًا: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]، فأباح أكل الميتة بشرطين: أحدهما: الاضطرار. والثاني: أن يكون غير باغٍ ولا عادٍ، وهذا باغٍ وعادٍ، فلا يجوز له أكلها. فإن قيل: هذه الآية محتملة (¬3)؛ لأن السلف تنازعوا في ¬

_ (¬1) في الأصل: ولزياده. (¬2) في الأصل: إثم. (¬3) في الأصل: محملة.

تأويلها (¬1)، فقال بعضهم: المراد بها: غير طالب للشبع، ولا عادٍ في الأكل، وقال بعضهم: غير باغ على الإمام، ولا عاد على المسلمين، وليس في الآية ما ينبئ عن المراد بها. قيل له: رُوي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال في تفسيره: غير باغ على المسلمين مخيفًا لسبيلهم، ولا عاديًا عليهم بسيفه مشاقًا لهم (¬2)، وتفسير عبد الله أولى. والثاني: ما تقدم، وهو أن الشبع، قوله: غير باغ ولا عاد نصب على حال المضطر، فكأنه قال: فمن اضطر في حال لا يكون باغيًا ولا عاديًا، ولا يمكن حمله على الشبع؛ لأن هذا البغي والعدوان (¬3) يحصل بعد ارتفاع الضرورة. وجواب ثالث: وهو أنا نحمله عليها جميعًا على البغي والعدوان (3) في الأكل، وفي الأفعال. فإن قيل: العموم يُدَّعى في الألفاظ، وليس واحد من المعنيين مذكورًا في الخبر، ولا ملفوظًا به. ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير الطبري (3/ 58)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 44)، والدر المنثور (5/ 188). (¬2) أخرجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - البيهقيُّ في معرفة السنن (4/ 282) وفي سنده محمد الكلبي، متهم بالكذب. ينظر: التقريب ص 535. وقد جاء هذا التفسير عن مجاهد بإسناد صحيح؛ كما قاله البيهقي في المعرفة (4/ 283). (¬3) في الأصل: العدوي، والصواب المثبت؛ كما في الانتصار (2/ 539).

قيل: ليس ها هنا مضمر؛ لأن البغي صفة لمن عدل عما أُمِر به، ولهذا قيل لمن خرج على الإمام: باغ؛ لأنه عدل عما أُمِر به، كذلك البغي ها هنا: عدولٌ عما أمر به، وارتكاب المخالفة في الأفعال من الأكل وغيره، وهذا مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، معلوم أن السارق من أخذ الشيء، إلا أنه غير مذكور، ولم يجز أن يقال: إن هذا مضمر، بل قيل: إن هذا الاسم لمن هذه صفته، وإنما المضمر نحو قوله - عليه السلام -: "رفع القلم عن ثلاث" (¬1)، نحن نعلم أن نفس القلم لا يرتفع، وإنما يرتفع معنى مضمر، وهو: الحكم، وكذلك قوله: عفي عن الخطأ، نفس الفعل، فعلم أن هناك مضمر [اً]. فإن قيل: قد اتفقوا على أن المراد بالآية: أحدهما، فلا يجوز حملها عليهما؛ كما قلنا في الأقراء المذكورة في الآية (¬2) لما اختلفوا في المراد بها، فتأول بعضهم على الأطهار، وبعضهم على الحيض، واتفقوا أن المراد بها أحدهما، لم يجز حمل الآية عليها. قيل له: المراد بالآية: الأمران جميعًا؛ لأن البغي في كل محرم عليه بالاتفاق، فثبت أنه مراد بالآية، والبغي في غيره مختلف فيه، ونحن نقول: هو مراد بالآية أيضًا، والظاهر يقتضيه، فجاز حمله عليهما. وأيضًا: ما أنا أبو محمد عبد الله بن الضرير المقرئ - تخريج أبي ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 169). (¬2) في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

الحسن الدارقطني - قال: نا محمد بن الحسن بن زياد أبو بكر المقرئ (¬1) قال: نا عبد الرحمن بن يحيى الزبيدي الحمصي (¬2) قال: نا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري (¬3) قال: نا الحكم بن عبد الله (¬4) قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يقصرون الصلاة: الفاجر في أفقه الفقه، والمرأة (¬5) تزور غير أهلها، والراعي" (¬6)، فقد نص على أن الفاجر لا يقصر، وكذا المرأة تخرج ¬

_ (¬1) الموصلي، ثم البغدادي، أبو بكر النقاش، المقرئ المفسر، له مصنفات كثيرة، منها: شفاء الصدور، في التفسير، والإشارة في غريب القرآن، والمناسك، وغيرها، قال الخطيب: (في أحاديثه مناكير)، وقال الذهبي: (هو عندي متهم)، توفي سنة 351 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (2/ 202)، وسير أعلام النبلاء (15/ 573)، وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 55)؛ فقد قال: (لا يعتمد عليه، وهو ضعيف عندهم). (¬2) ابن أبي النعاس، أبو القاسم. ولم أجد مزيدًا على هذا. ينظر: تهذيب الكمال (15/ 190)، تبصير المنتبه (4/ 1441). (¬3) أبو القاسم الحمصي، لقبه (زِبْريق)، قال ابن حجر: (صدوق)، توفي سنة 235 هـ. ينظر: التقريب ص 326. (¬4) ابن سعد، أبو عبد الله الأيلي، قال أبو حاتم: (ذاهب، متروك الحديث، لا يكتب حديثه، كان يكذب). ينظر: الجرح والتعديل (3/ 120)، وميزان الاعتدال (1/ 572). (¬5) في الأصل: المراد. (¬6) قال ابن الجوزي في التحقيق (4/ 95 و 96): في الحديث (نص على أن =

إلى غير أهلها، وفيه دلالة على أن الراعي لا يقصر. والقياس: أنه سفر معصية، فوجب أن لا يتعلق به رخصة، أصله: إذا كان أربعةَ بُرُد. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس بسفر صحيح. قيل له: بل هو سفر صحيح، ويقع عليه الاسم في اللغة، والعلة تعتبر في ألفاظها موضوع اللغة. فإن قيل: فالمعنى في الأصل: أنه لو كان مباحًا، لم تتعلق به الرخص. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل يتعلق به عندنا رخص القصر، ولأن السفر معنى لم يجد كثره له تأثير في فرض الصلاة، فوجب أن يتنوع نوعين: نوع يؤثر، ونوع لا يؤثر؛ كزوال العقل يتنوع نوعين: نوع يؤثر، ¬

_ = الفاجر لا يقصر! وهذا تصحيف، قد أضيف إليه كلمة، ولا معنى له؛ لأن ذِكْر (أفقه الفقه) لا معنى له في حق الفاجر، ولا أدري هذا التصحيف من أي الرواة هو؟ وإنما الحديث غير ذا)، وقال الذهعي في التنقيح (4/ 95): (كذا قال: (أفقه الفقه)! ، وهذا من تخبيط النقاش)، وينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 531)، وصواب الحديث: "ثلاثة لا يقصرون الصلاة: التاجر في أُفُقه، والمرأة تزور غير أهلها، والراعي" أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 204)، والديلمي في الفردوس رقم (2504)، ولا يصح، والمتهم به الحكم بن عبد الله. ينظر: التحقيق (4/ 96)، وميزان الاعتدال (2/ 338)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 531).

وهو الجنون، والثاني: لا يؤثر، وهو السكر، ولا يدخل عليه دم الحيض والنفاس؛ لأنه محدود الأكثر. وأيضًا: فإن القصر والفطر جُعِلا معُونة للسفر، وإذا كان معصية، لم يجز أن يكون له رخصة؛ لأنه يكون معونة على المعصية، والمعونة على المعصية معصية، وهذا لا يجوز بالإجماع، وشأنه هذا: صلاة شدة الخوف، لما كانت عونًا على القتال، لم تجز إذا كان عاصيًا بالقتال، كذلك ها هنا. فإن قيل: لا نسلم أنه لا يجوز لمن قاتل بمعصية أنه لا يجوز له أن يصلي صلاة شدة الخوف. قيل له: هذا خلاف إجماع المسلمين، فلا يصح القول به، وعلى أن الدليل يستغني بنفسه عن ذكر الأصل، فلا يضرنا منع التسليم. فإن قيل: فإن سلَّمنا الأصل، فلا نسلم أن صلاة الخوف جعلت معونة على القتال. قيل له: هذا لا شبهة فيه؛ لأنه إنما جاز له أن يصلي على الدابة كيف ما أمكنه؛ ليتصل القتال، ولا يغلب العدو، فسقط هذا. فإن قيل: فالمعنى في الأصل: أن العاصي بالقتال هو الذي ابتدأ بقتال من لا يجوز له أن يقاتله، وهو متمكن من تركه، غيرُ مضطر إليه، فلا يكون علة التخفيف موجودة في حقه، فلهذا لم يجز له أن يصلي صلاة شدة الخوف، وليس كذلك صلاة السفر؛ فإن التخفيف فيها متعلق بالسفر، وهو موجود.

قيل له: العلة في صلاة الخوف هو: الخوف الذي ليس بمعصية، والعلة في صلاة السفر هو: السفر الذي ليس بمعصية، والخوف موجود ها هنا، لكن هو معصية، وكذلك السفر هو موجود، لكن هو معصية، فلا فرق بينهما. فإن قيل: لو ضرب جوفها، فألقت جنينًا، أو شربت دواءً، فأسقطت، وصارت نفساء، تسقط عنها فرض الصلاة، ولم يلزمها القضاء إذا طهرت، وسقوط الصلاة عنها تخفيف، وقد جاز أن يثبت لها ذلك، مع كونها عاصية في السبب، وكذلك إذا جرح نفسه، أو كسر ساقه، فلم يقدر على القيام، صلى قاعدًا. قيل له: المعصية هو تناول الدواء الذي يتولد منه إسقاط الولد، وسقوط فرض الصلاة لا يتعلق به، وإنما يتعلق بوجود دم النفاس، ووجوده ليس بمعصية من جهتها، فجاز أن يثبت لها التخفيف، وكذلك فرض القيام يسقط لعجزه عنه، وليس ذلك بمعصية من جهته، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن هذه الرخص تتعلق بالسفر، وهو في نفسه معصية؛ إذ لا خلاف أنه يعاقب على حركاته ومشيه في حال سفره، فلم يجز أن يجلب التخفيف، والذي تبين صحة هذا: أنه تصح التوبة من إسقاط الجنين، ومن الجرح والكسر مع بقاء العجز. فإن قيل: ثبت تناول الميتة خوف التلف في حال الضرورة، وليس ذلك بمعصية من جهته، وإنما المعصية هو السفر، فكان يجب أن يباح له تناولها.

قيل له: إلا أن السفر سبب في الضرورة التي يخاف معها التلف؛ إذ لولاه، لم تلحقه هذه الضرورة، ويمكنه قطع ذلك السبب الذي هو المعصية، فجاز أن تعلق عليها حكم سببها، كما قلنا في السكران: تعلق عليه حكم سببه، وهو الشرب، وإن كان حدث بغير فعله، إلا أن سببه من جهته، وهما سواء، إلا أن السُّكْر يزيل العقل، والتلف يزيل العقل والحمله (¬1)، فكانا سواء، ويفارق هذا النفاس؛ لأنه لا يمكنه قطع سببه؛ لأنه إذا وجد، لم يمكن قطعه. فإن قيل: لو لبس خفًا مغصوبًا، جاز له أن يمسح، وإن كان عاصيًا في السبب، وكذلك لو دخل بلدًا، ونوى أن يقيم فيه لفعلِ المعاصي، جاز أن يمسح يومًا، وكذلك لو سافر لمعصية، جاز له أن يمسح على الخفين يومًا وليلة، وكذلك إذا عدم الماء في سفر المعصية، جاز له أن يتيمم، ويصلي، ولا يعيد، وكذلك إذا ابتدأ سفرًا مباحًا، ثم صار معصية؛ مثل: العبد إذا سافر مع مولاه، ثم هرب منه في بعض الطريق، أو خرج لقطع الطريق: أنه يترخص، كذلك ها هنا. قيل له: أما إذا لبس خفًا مغصوبًا، فإنه يخرج على روايتين (¬2)؛ بناء على قول أصحابنا في الصلاة في الثوب المغصوب، والأرض الغصب، إحداهما: لا يجوز، وهو أصح، فعلى هذا: لا نسلم هذا، والثانية: تصح، فعلى هذا الفرقُ بينهما: أن المعصية في الخف لا يختص اللبس، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) مضت في (1/ 179)، وينظر: الروايتين (1/ 158)، والانتصار (2/ 407).

ألا ترى أنه لو ترك اللبس، لم تزل المعصية، وهو مأثم الغصب؟ وليس كذلك ها هنا؛ لأن المعصية تختص السفر، ألا ترى أنه لو ترك السفر، خرج من المعصية؟ وهكذا إذا كان مقيمًا في بلد لفعلِ المعاصي، فإنه يجوز له المسح يومًا وليلة؛ لأن المعصية لا تختص بلبسه، ألا ترى أنه لو ترك اللبس، لم تزل المعصية؟ وأما إذا أنشأ سفرًا مباحًا، ثم صار معصية، فظاهرُ كلام أحمد - رحمه الله -: لا يباح له القصر، وقد قيل: يباح له؛ لأن الرخص تتعلق بالإنشاء، والاستدامة يحصل بها استيفاء الرخصة، فإذا كان الإنشاء مباحًا، تعلق به الاستباحة، وإذا كان معصية، لم يتعلق به، وأما التيمم في سفر المعصية، فيحتمل أن يقول: يتيمم، ويعيد؛ لأن التيمم رخصة السفرُ أوجبها، فهي كالقصر، ويحتمل أن يقول: يصلي بالتيمم، ولا يعيد؛ لأن التيمم إنما وجب عند العجز، وهو عاجز في هذه الحال، وفعل التيمم هو إيجاب عليه، وإثبات عبادة، وليس رخصة، ويفارق هذا: إباحة الميتة؛ لأنه رخصة، وكذلك القصر، فلهذا لم يستبحه لسفر المعصية. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} [البقرة: 184]، ولم يفرق، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة" (¬1)، وقوله: "يمسح المقيم يومًا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصيام، باب: اختيار الفطر، رقم (2408)، والترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع، رقم (715)، والنسائي في كتاب: الصيام، باب: ذكر وضع =

وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن" (¬1). والجواب: أنا نحمل ذلك على سفر الطاعة والمباح؛ بدليل ما تقدم. واحتج: بأن كل من أنشأ سفرًا ثلاثة أيام فصاعدًا، جاز له أن يفطر، ويمسح مسح المسافر، ويقصر الصلاة؛ دليله: السفر المباح. والجواب: أنه ليس في الأصل معونة على المعصية، وفي الفرع معونة على المعصية، وهذا لا يجوز، وعلى أنه لا يجوز اعتبار المعصية بما ليس بمعصية، ألا ترى أنه لو سكر أيامًا، لم يسقط عنه قضاءُ الصلوات، ولو جُنَّ أيامًا، سقط عنه قضاؤها؟ وليس ها هنا معنى يوجب الفرق بينهما إلا كونه عاصيًا في أحدهما، غيرَ عاص في الآخر. فإن قيل: لو كان كذلك، لوجب إذا أُكِره على الشرب فسكر، أن يسقط عنه القضاء كما يسقط في الجنون؛ لأنه غير عاصٍ فيهما. قيل له: الموجب للقضاء في السكر هو المعصية، وكونه مكرهًا على الشرب، وإن لم يكن معصية، فإنما وجب القضاء؛ لأنه عذر نادر، والنادر لا يسقط القضاء. ¬

_ = الصيام عن المسافر، رقم (2267)، وابن ماجه في كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع، رقم (1667)، وجوّد إسناده ابن تيمية في الفتاوى (24/ 106)، وينظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 73) رقم (784). (¬1) مضى تخريجه في (2/ 476).

وقياس مذهبنا: أن القضاء يسقط في حال الإكراه، وإن كان نادرًا؛ كما قالوا فيمن عدم الماء في الحضر، فإنه يتيمم، ويصلي، ولا قضاء عليه، وإن كان نادرًا. فإن قيل: السكر ليس بمعصية؛ لأنه ليس من فعله، وإنما المعصية شرب الخمر، وما تولَّد من المعصية، وليس في نفسه بمعصية، يجوز أن يتعلق به التخفيف؛ كالمرأة إذا شربت دواء، فأسقطت، وصارت نفساء: أنه يسقط عنها فرض الصلاة؛ لأن النفاس ليس بمعصية، وإن تولد من معصية. قيل له: السكر في الشريعة بمنزلة المعصية المستدامة التي يفعلها الإنسان شيئًا بعد شيء؛ كما يفعل السفر شيئًا بعد شيء، ألا ترى أن الإثم جارٍ عليه ما دام سكرانًا، والتكليف قائم في جميع الأحكام كأنه عاقل مميز، وهذا معدوم في الجنون، فبان الفرق بينهما، ولأن الشرب يحصل منه السكر غالبًا، فجُعل مضافًا إليه؛ كالقتل لما كان يحصل معه خروج الروح، جُعل ذلك مضافًا إليه، وليس كذلك النفاس؛ لأنه ليس الغالب وجوده من الضربة. واحتج: بأن كل صلاة يقتصر فيها على ركعتين في السفر المباح، فإنه يقتصر فيها على ركعتين في السفر المحظور؛ دليله: صلاة الفجر. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق بين المباح والمحظور، ولأن الفجر ليس فيها معونة على المعصية، وليس كذلك غيرها من الصلوات، لأن فيها معونة على المعصية، فبان الفرق بينهما.

136 - مسألة: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر الذي يقصر فيه الصلاة

والدلالة على مالك - رحمه الله - في تحريم أكل الميتة: ما تقدم من الآيتين، ولأن الأكل جعل معونة على السفر، وإذا كان معصية، لم يجز أن يكون له عونًا؛ لأن العون على المعصية معصية، ولهذا لم يجز له القصر والفطر؛ لأنه يكون عونًا على المعصية. فإن احتجوا: بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، فهو محمول على غير مسألتنا. واحتج: بأنه مضطر إلى أكل الميتة، فأشبه سفر المباح. والجواب: أنه ليس في إباحة ذلك عونٌ على المعصية، وها هنا فيه عون على ذلك، ولهذا فرقوا بينهما في القصر والفطر، والله تعالى أعلم. * * * 136 - مَسْألَة: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر الذي يقصر فيه الصلاة: نص على هذا في رواية المروذي (¬1)، والأثرم (¬2)، وإبراهيم بن الحارث (¬3)، وأبي طالب (2). ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 548)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 124)، والفروع (3/ 113)، والإنصاف (5/ 104). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 548)، والمغني (3/ 129 و 130). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 549)، ونقل الرواية في هذه المسألة: عبد الله في =

وهو قول مالك (¬1)، والشافعي (¬2) - رضي الله عنهما -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يجوز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما إلا بعرفة والمزدلفة (¬3). دليلنا: ما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬4) قال: نا عبد الرزاق: أنا ابن جريج قال: أخبرني حسين بن عبد الله بن عبيد الله (¬5) بن عباس - رضي الله عنهما -. عن عكرمة، وعن كريب: أنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ألا أخبركم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر؟ قال: قلنا: بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله، جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله، سار، حتى إذا حانت العصر، نزل (¬6)، فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت المغرب له في منزله، جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في ¬

_ = مسائله رقم (544 و 1034)، وأبو داود في مسائله رقم (523 و 524)، والكوسج في مسائله رقم (132 و 361). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 116)، والإشراف (1/ 314). (¬2) ينظر: مختصر المزني ص 41، والحاوي (2/ 392). (¬3) ينظر: الحجة (1/ 113)، ومختصر الطحاوي ص 33. (¬4) رقم (3480). (¬5) في الأصل: عبد الله، والتصويب من المسند. وحسين هو: ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، قال ابن حجر: (ضعيف)، توفي سنة 140 هـ. ينظر: التقريب ص 150. (¬6) في الأصل: ترك.

منزله، ركب، حتى إذا حانت العشاء، نزل، فجمع بينهما" (¬1)، وهذا أجود حديث في المسألة. وروى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬2) قال: ثنا يحيى بن غيلان (¬3) قال: نا المفضل بن فضالة (¬4) قال: حدثني عُقيل (¬5) عن [ابن] (¬6) شهاب: أنه حدثه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم ينزل، فيجمع بينهما، وإن زاغت قبل أن يرتحل، صلى الظهر، ثم ركب (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (4405)، والدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر، رقم (1450)، وإسناده ضعيف؛ لضعف حسين بن عبد الله. ينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 535)، وقال أبو داود: (ليس في جمع التقديم حديث قائم). ينظر: التلخيص (3/ 974). (¬2) رقم (13584). (¬3) ابن عبد الله بن أسماء الخزاعي البغدادي، أبو الفضل، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 220 هـ. ينظر: التقريب ص 666. (¬4) ابن عبيد بن ثمامة القِتْباني المصري، أبو معاوية القاضي، قال ابن حجر: (ثقة فاضل)، توفي سنة 181 هـ. ينظر: التقريب ص 607. (¬5) ابن خالد بن عَقِيل الأيْلي، أبو خالد الأموي مولاهم، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 144 هـ. ينظر: التقريب ص 436. (¬6) ساقطة من الأصل. (¬7) أخرجه البخاري في أبواب: تقصير الصلاة، باب: إذا ارتحل بعد ما زاغت =

وروى النجاد بإسناده عن نافع: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - اسْتُصرخ (¬1) على صفية وهو بمكة، وهي بالمدينة، فسار حتى غابت الشمس، وقد بدت النجوم، فقال رجل: قولوا: الصلاة الصلاة، فقال له سالم: الصلاة، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، ثم صلى المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين (¬2). وروى النجاد بإسناده عن عامر بن واثلة (¬3): أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أخبرهم: أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = الشمس، صلى الظهر، ثم ركب، رقم (1112)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، رقم (704). (¬1) استصرخ الإنسان: إذا أتاه الصارخ، وهو المصوّت يعلمه بأمرٍ حادث؛ ليستعين به عليه، أو ينعى له ميتًا. ينظر: النهاية في غريب الحديث، ولسان العرب (صرخ). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (5120)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، رقم (1207)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر، رقم (5514)، وذكر ابن تيمية: أن إسناد البيهقي صحيح مشهور. ينظر: الفتاوى (24/ 59)، وبنحو ما ذكره المؤلف أخرجه البخاري في كتاب: العمرة، باب: المسافر إذا جدَّ به السير، رقم (1805)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، رقم (703). (¬3) في الأصل: وايلة.

يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يومًا، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا (¬1). وروى النجاد بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الصلاتين في السفر (¬2). وروى النجاد بإسناده عن علي بن الحسين - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر في السفر (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج - رحمه الله -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في سفره بتبوك (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر، وكتاب: الفضائل، باب: في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم (706). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8331)، وأبو يعلى في مسنده رقم (5413)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 160)، والطبراني في الكبير رقم (9881)، وفي سنده ابن أبي ليلى، قال ابن حجر: (صدوق سيئ الحفظ جدًا). ينظر: التقريب ص 549. (¬3) لم أجده. (¬4) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: قصر الصلاة في السفر، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر (1/ 143)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم =

وروى أيضًا بإسناده عن الهُزيل (¬1) بن شُرَحبيل - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر (¬2). وهذه الأخبار نصوص. فإن قيل: يحتمل أن يكون أخّر إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها، وعجّل الأخرى في أول وقتها، وهذا يسمى جمعًا، ألا ترى إلى ما رُوي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء؛ يؤخر هذه إلى آخر وقتها، ويعجل هذه في أول وقتها (¬3). ¬

_ = (4397)، وقد اختلف في وصله وإرساله، قال ابن عبد البر: (رواه أكثر الرواة عن مالك مرسلًا، وقد رُوِي عنه عن داود عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). ينظر: الاستذكار (6/ 10)، وقال: (حديث رابع لداود مرسل من وجه متصل من وجه صحيح: مالك عن داود بن الحصين عن الأعرج). ينظر: التمهيد (2/ 337). (¬1) في الأصل: الهذيل. والهزيل هو: ابن شرحبيل الأودي، الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة، مخضرم). ينظر: التقريب ص 638. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (8324)، وهو مرسل، وفي إسناده أبو قيس: عبد الرحمن بن ثروان، قال ابن حجر: (صدوق ربما خالف). ينظر: التقريب ص 359، ويحتمل أنه راجع إلى روايته عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في الصفحة الماضية، كما أشار إلى ذلك محقق الانتصار (2/ 553)؛ لأن الهزيل يروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - كما في الأثر الآتي. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (9880)، وقال الهيثمي في المجمع =

وكذلك رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من غير خوف ولا سفر (¬1)، وفي بعضها: من غير سفر ولا مطر (¬2). قيل له: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أن هذا لا يسمى جمعًا؛ لأن الجمع هو: ضم الشيء إلى الشيء، والصلاة لا يمكن ضمها، وإنما يكون جمعًا إذا ضمت إحداهما إلى الأخرى في وقت إحداهما، فأما إذا انفردت كل واحدة منهما عن الأخرى بالفعل والوقت، فلا يكون جمعًا. ¬

_ = (2/ 159): (رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو مالك النخعي، وهو ضعيف). (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (705)، وفي لفظ له: "في غير خوف ولا مطر"، وقريب منه ما أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: تأخير الظهر إلى العصر، رقم (543) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء". (¬2) أخرج هذا اللفظ عبد الرزاق في مصنفه رقم (4434)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 160)، وفي إسناده صالح مولى التوءمة، قال ابن حجر: (صدوق اختلط) التقريب ص 279، قال الألباني - رحمه الله -: (ولعل الصواب الرواية الأولى، فإن لفظ "المدينة" معناه: في "غير سفر"، فذكر هذه العبارة مرة أخرى لا فائدة منها، بل هو تحصيل حاصل؛ بخلاف قوله: "في غير خوف"). ينظر: الإرواء (3/ 37)، وللفائدة ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 73).

والثاني: أن الراوي أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر؛ كما أخبر عن الجمع (¬1) بعرفة والمزدلفة، فلما أجمعنا على أن المراد بالجمع هناك في الوقت، كذلك ها هنا. الثالث: أنه قصد بهذا الجمع: الرفق بالمسافر، وهذا يؤدي إلى التغليظ والتشديد؛ لأن ذلك لا يمكن مراعاته إلا بمشقة شديدة. الرابع: أن فيما روينا تصريحًا بأن الجمع كان في وقت إحداهما، ففي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان إذا زاغت الشمس في منزله، جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب (¬2)، وهذا يقتضي الجمع بينهما في الزوال؛ لأنه قال: قبل أن يركب، ومعلوم أنه - عليه السلام - ما كان يصلي الظهر ويجلس حتى يدخل وقت العصر ثم يصليها؛ لأنه لا يحصل له قصده من التعجيل، ورواه الشافعي - رضي الله عنه - (¬3): كان يجمع بين الظهر والعصر في الزوال، وهذا صريح في وقت الأولة. وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما (3)، فأخبر أن الجمع كان في وقت الثانية. ¬

_ (¬1) في الأصل: أخبر الجمع. (¬2) مضى تخريجه في ص 71. (¬3) في مسنده كتاب الأمالي في الصلاة، رقم (160)، وفي سنده إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي (متروك). ينظر: التقريب ص 63 و 64.

وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أخرها حتى غاب الشفق، ثم صلى، وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك (¬1)، فبين أنه صلى المغرب في وقت العشاء. فإن قيل: يحمل قول أنس - رضي الله عنه -: أخر الظهر إلى وقت العصر، على أنه قارب وقت العصر، وكذلك قوله في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أخر المغرب حتى غاب الشفق، معناه: قارب أن يغيب، كما قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234]، وأراد: قارب بلوغ أجلهن، ولأنه يحتمل أن يكون أراد بالشفق (¬2)، وفي ذلك الوقت لا يخرج وقت المغرب عند أبي حنيفة - رحمه الله -، ولأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخر حتى يصليها بعد ما يصير ظل كل شيء مثله، وكان عند أنس - رضي الله عنه -: أن وقت العصر يدخل بذلك، وعند أبي حنيفة: لم يدخل وقتها. قيل له: أما قولك: إنني أحمل هذا على أنه قارب وقت العصر، فهذا خلاف الحقيقة؛ لأن الحقيقة تقتضي الإكمال؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]، والمراد به: كمال البلوغ، ولأن قوله: أخرها إلى وقت العصر، نحو قوله: أخر المغرب بالمزدلفة إلى وقت العشاء، والمراد بذلك: خروجُ الوقت. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 72. (¬2) كذا في الأصل، ولعل ثمة سقطًا، وفي الانتصار (2/ 557): (معناه: حتى قارب الغيبوبة).

وقوله: أحملُ حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - على غيبوبة الحمرة، فلا يصح؛ لأن أبا بكر بن المنذر روى فيه (¬1) زيادة، فقال: أُخْبر ابنُ عمر - رضي الله عنهما - بوجع (¬2) امرأته وهو في سفر، فأخر المغرب، فقيل له: الصلاة؟ فسكت، وأخرها بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويٌّ من الليل (¬3)، ثم نزل وصلى المغرب والعشاء، وقال: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذا جدَّ به السير (¬4). وقوله: حتى ذهب هويٌّ من الليل، يقتضي غيبوبةَ البياض؛ لأنه لا يذهب هويّ من الليل عند غيبوبة الحمرة، وعلى أنه، وإن لم يخرج وقت المغرب عندك، فلم يدخل وقت العشاء الآخرة، وإذا لم يدخل وقتها، لم يجز الجمع عندك، وقد أخبر أنه أخر المغرب، وصلى معها العشاء. وقوله: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرها حتى صار ظل كل شيء مثله، وليس ذلك بآخر وقت الظهر عندنا، فلا يصح؛ لأن الراوي قال: أخر الظهر إلى وقت العصر، في حديث أنس - رضي الله عنه -، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: حتى حانت العصر، وهذا يقتضي دخول وقت العصر، فمن حمل ذلك على أن الوقت لم يدخل، كان فيه تخطئة الراوي. وجواب آخر عن أصل السؤال، وهو: أن حملها على هذا يسقط فائدتها؛ لأن له أن يجمع بين الصلوات في الحضر على هذا الوجه. ¬

_ (¬1) ينظر: الأوسط (2/ 429). (¬2) في الأصل: يرجع. (¬3) أي: هزيع منه، وساعة منه. ينظر: لسان العرب (هوا). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4402)، وقد مضى في ص 72.

فإن قيل: هذه الصلوات لها أوقات مستحبة في الحضر، فاستفدنا بهذه الأخبار جواز تقديمها على الأوقات المستحبة، وتأخرها عنها في حال السفر. قيل: الأوقات المستحبة هي ما لم تدخل، وفي هذه الأخبار إذا دخل وقت الأخرى، وأما ما رُوي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء، يؤخر هذه إلى آخر وقتها، ويعجل هذه في أول وقتها (¬1)، فلا يعرف هذا الحديث، ولو صح، فنحن نقول به؛ لأنه يجوز أن يؤخر إحداهما، ويعجل الثانية في وقتها، ويجوز فعلهما في وقت إحداهما. وأما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من غير خوف ولا سفر، ورُوي: ولا مطر، فيجوز أن يكون هذا في ابتداء الأمر، ثم نسخ؛ لإجماعنا على أنه لا يجوز الجمع على هذه الصفة، وقد أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية صالح (¬2) - وقد قيل له: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا مطر؟ -، فقال: قد جاءت الأحاديث بتحديد المواقيت للظهر والعصر، والمغرب والعشاء. فإن قيل: فيحمل ذلك على الوقت الذي كان وقت الظهر والعصر مشتركًا بهما (¬3)، وكان يجمع في وقت إحداهما في الحضر، ثم نسخ ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 75. (¬2) في مسائله رقم (582). (¬3) لعلها: بينهما.

ذلك، واستقرت المواقيت. قيل: لو كان كذلك، لم يخص بذلك السفر، وعلى أنا لا نسلِّم أن بالمدينة كانت الصلاة غير مؤقتة، ولأن في خبر معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما عام تبوك، وهذا بعد الفتح (¬1)، ولأن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وابن عباس - رضي الله عنهما - عَمِلا بذلك، ولا يجوز أن يفعلا ذلك، وهو منسوخ، فأما ابن عمر - رضي الله عنهما -، فقد روينا عنه فعلَ ذلك، وأما ابن عباس - رضي الله عنهما -، فروى النجاد بإسناده عن جابر بن زيد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر، ويقول: هي السنة (¬2). والقياس: أن له أن يقصر، فله أن يجمع؛ دليله: إذا كان محرِمًا له أن يجمع بعرفة والمزدلفة. فإن قيل: المعنى هناك: أن له الجمع، وإن لم يجز له القصر، وهو إذا كان من أهل مكة. قيل: لا نسلم لك هذا؛ لأن المكي لا يجوز له الجمع؛ كما لا يجوز له القصر. فإن قيل: لا خلاف أن الجمع بعرفة والمزدلفة أفضل من التفريق، والتفريق في السفر أفضل، فكما لم يدل فضيلة الجمع للمحرم على ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 73. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (705).

فضيلته للمسافر، كذلك لا يدل على جوازه. قيل له: لا يمتنع أن يكون أحدهما آكدَ من الآخر، ويتساويان في الجواز؛ كالقصر عنده آكدُ من الفطر، ثم يتساويان في الجواز، كذلك ها هنا، وأيضًا: فإن المقصود العبادةُ دون الوقت، وللسفر تأثير في إسقاط بعض العبادة، وهو الركعتان، فلأنْ يكون له تأثير في إسقاط فرض الوقت أولى. فإن قيل: لا يمتنع أن يسقط بعض الصلاة، ولا يسقط الوقت، في الجمعة تسقط الركعتان، ولا يسقط فرض الوقت. قيل: لا نسلم لك هذا، بل نقول: يؤثر في الركعات والوقت؛ لأنه يجوز فعلها قبل الزوال على أصلنا، وعلى أنه لا حاجة بهم في الجمعة إلى إسقاط الوقت؛ لأنهم في الحضر بهم حاجة إلى تخفيف بعض الصلاة لأجل الاجتماع والانتظار، وفي السفر بهم حاجة إلى الأمرين، وأيضًا: فإن وقت الصوم أضيقُ من وقت الصلاة؛ بدليل: أنه إذا دخل وقته، لم يجز تأخيره، وإذا دخل وقت الصلاة، جاز تأخيرها، فإذا كان السفر يسقط وقت الصوم، ويجوز تأخيره عن وقته إلى وقت آخر، فلأنْ يسقط وقت الصلاة أولى. فإن قيل: الصوم عبادة مؤقتة، ثم لم يكن للسفر تأثير في إباحة تقديمها على وقتها، كذلك يجب أن لا يكون له تأثير في تقديم العصر على وقتها. قيل له: إنما لم يجز تقديم الصوم في السفر؛ لأنه لا يستفيد به

رخصة، ولا رفاهة، وإنما يستفيد ذلك بتأخير الصوم عن وقته في السفر، وليس كذلك الصلاة؛ فإنه يستفيد بها رخصة ورفاهة، وهو فعلها في أحد الوقتين، فلهذا افترقا في التقديم، وتساويا في التأخير. واحتج المخالف: بما روى أبو قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ليس التفريط في النوم، إنما التفريط في (¬1) اليقظة: أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى" (¬2)، ولم يفرق بين حال السفر وغيره. والجواب: أن هذا عام في السفر والحضر، وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - خاص في السفر، فيجب أن نفضله. واحتج: بما رُوي عن عبد الله بن مسعود (¬3) - رضي الله عنه - قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لوقتها، ما خلا عرفة والمزدلفة (¬4)، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الصلاتين في السفر، لما خفي على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مع صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره. ¬

_ (¬1) في الأصل طمس، والمثبت من الحديث. (¬2) أخرجه بنحوه مسلم في صحيحه، كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة، رقم (681). (¬3) مطموس في الأصل، والمثبت يتضح مما بعده. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (4420)، وبنحوه البخاري، كتاب: الحج، في باب: من أذن وأقام لكل واحد منهما، وباب: متى يصلي الفجر بجمع؟ رقم (1675 و 1682)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النحر بالمزدلفة، رقم (1289).

وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر صلاة إلى وقت الأخرى حتى قبضه الله - عز وجل - (¬1). والجواب: أن هذا الخبر غير معروف، وعلى أن ما رويناه أولى؛ لأنه مثبِت، والمثبِت أولى من النافي، وهذا كما قدمنا رواية غيره في وضع الأيدي على الركب على رواية عبد الله في التطبيق (¬2)، وكما قلنا: إن من ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الصلاة، باب: فضل الصلاة في أول وقتها، رقم (982) بلفظ: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر صلاة إلى الوقت الآخر حتى قبضه الله - عز وجل -"، وفي إسناده الواقدي، قال ابن حجر: (متروك)، ينظر: التقريب ص 555، وينظر: علل الدارقطني (15/ 145)، وقد أخرج الإمام أحمد في المسند رقم (24614) عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: "ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله - عز وجل -"، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الترغيب في الأذان، رقم (2047)، وقال: (وهذا مرسل إسحاق بن عمر، ولم يدرك عائشة)، وقال في المعرفة (2/ 277): (وقد رويناه عاليًا، بإسناد صحيح)، ثم ذكر إسناده إلى عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: "ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة لوقتها الآخر، حتى قبضه الله". (¬2) أن يجمع بين يديه، ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع. ينظر: النهاية في الغريب، واللسان (طبق). ورواية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجها مسلم في الصحيح، كتاب: المساجد، باب: الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع، ونسخ التطبيق، رقم (534).

روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: دخل البيت فصلى، أولى ممن روى أنه لم يصلِّ (¬1). واحتج: بما رُوي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: الجمع بين الصلاتين من الكبائر (¬2)، ولا يُعرف له مخالف. والجواب: أنا قد روينا عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم - خلافَ هذا، وعلى أن المشهور عنه: أنه قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، وروى ابن المنذر (¬3) عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: إن جمعًا (¬4) بين ¬

_ (¬1) صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة بين الأسطوانتين: أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الأبواب والغلق للكعبة، رقم (468)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج، رقم (1329)، ومضى في (1/ 331) رواية ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل فيها. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (4422) بزيادة: "إلا من عذر"، وابن المنذر في الأوسط (2/ 424) في كتاب من عمر إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - بلفظ: "اعلم أن جمعًا بين الصلاتين من الكبائر"، وضعفه ابن المنذر؛ لانقطاع إسناده. ينظر: الأوسط (2/ 425)، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ذكر الأثر الذي روي في أن الجمع من غير عذر من الكبائر، رقم (5559 و 5560) من طريقين: الأول قال فيه: (مرسل، أبو العالية لم يسمع من عمر - رضي الله عنه -)، وقال عن الثاني: (أبو قتادة العدوي أدرك عمر - رضي الله عنه -، فإن كان شهده كتب، فهو موصول، وإلا، فهو إذا انضم إلى الأول، صار قويًا). (¬3) في الأوسط (2/ 424)، وينظر: حاشية رقم (2). (¬4) في الأصل: جمعنا.

الصلاتين من الكبائر، إلا من عذر. واحتج: بأن هذه الصلوات قد ثبت لها أوقات مخصوصة بالنقل المستفيض، فلا يجوز تأخيرها عليها، ولا تقديمها إلا بنقل مثله. والجواب: أنها تثبت بالنقل المستفيض في غير حال العذر، فأما في حال العذر من السفر، والمطر في الحضر، والمرض، فلم يثبت؛ لحصول الخلاف الظاهر فيه. واحتج: بأنها صلاة لها وقت معين في الحضر، فلا يجوز ترك وقتها لأجل السفر؛ قياسًا على صلاة الفجر. والجواب: أن الصبح مفارق لغيرها في ذلك؛ كما يقول المخالف في النسك: إنه يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولا يجمع صلاة الصبح إلى ما قبلها، ولا إلى ما بعدها، ولأنه لا يجوز اعتبار بعض الصلوات ببعض في الجمع؛ كما لا يجوز ذلك في العصر، وهو يتعلق بالسفر. واحتج: بأنهما صلاتان لا يجمع بينهما في وقت إحداهما في الحضر، فلا يجمع بينهما لأجل السفر؛ كالعصر والمغرب، وعشاء الآخرة مع الفجر. والجواب: أنا لا نسلم أنه لا يجوز الجمع بينهما في الحضر؛ لأنه يجوز الجمع لأجل المرض والمطر، ثم المعنى في الأصل: ما تقدم من الكلام على العلة التي قبلها.

واحتج: بأن كل حال لا يجوز أن يجمع فيها بين هاتين الصلاتين في وقت إحداهما إذا لم ينو الجمع، كذلك لا يجوز وإن نوى؛ دليله: الحضر. والجواب: أن أبا بكر من أصحابنا ذكره في كتاب الخلاف: أن الجمع لا يفتقر إلى نية الجمع (¬1)، وإذا كان كذلك، فالوصف غير مسلَّم، وإن سلَّمنا، وهو المذهب، فلا يمتنع أن يكون الجمع رخصة يعتبر فيها شرائط، منها: النية، ومتى لم يوجد ذلك الشرط، لم يستفد الرخصة؛ كالمسح على [الخفين] (¬2) هو رخصة من شرطها الخف، [فإذا عُدِم] (¬3)، لم يستبح الرخصة، وكذلك أيضًا نية السفر شرط في القصر، كذلك ها هنا، ثم المعنى في الأصل، وهو الحضر: أنه لا حاجة به إلى الجمع، والسفر به حاجة. واحتج: بأن كل صلاتين لم يجز الجمع بين الأولى والثانية في وقت الأولى إذا لم يوال بينهما، وتطاول الفصل، لم يجز أيضًا، وإن والى بينهما، ولم يطل الفصل؛ كالفجر في وقت العشاء، والمغرب ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 565)، والمغني (3/ 137)، والمحرر (1/ 219)، والإنصاف (5/ 102). (¬2) ساقطة من الأصل، والكلام يقتضيها. (¬3) في الأصل: فهي عدم، والصواب المثبت، جاء في الانتصار (2/ 566): (كما قلنا في المسح على الخفين لما كان رخصة، اشترط فيه أن يتقدم اللبس طهارة كاملة).

137 - مسألة: لا يجوز الجمع في السفر الذي لا يجوز القصر فيه

في وقت العصر. والجواب: أن أبا طالب (¬1) روى عن أحمد - رحمه الله -: أنه قال: يؤذن ويقيم، ولا بأس أن يتطوع بينهما، وهذا يدلّ على الجمع، وإن لم تحصل الموالاة، وروى أبو الحارث عنه (¬2): لا يتطوع بينهما، كذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى هذا: لا يصح الجمع؛ لأنه لم يوجد معناه؛ لأن معنى الجمع هو الضم، وهذا المعنى لا يوجد بالتفريق، ولأنه إنما أجيز له التقديم؛ للجمع بينهما، فإذا فصل بينهما، لم يجمع، فلهذا كانت المواصلة شرطًا، وأما الظهر والفجر، فليس إذا لم يجز الجمع بينهما لم يجز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، الدلالة عليه: الجمع بعرفة. * * * 137 - مَسْألَة: لا يجوز الجمع في السفر الذي لا يجوز القصر فيه (¬3): أومأ إليه في رواية عبد الله (¬4)، فقال: يؤخر الظهر إلى العصر، ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 565)، والفروع (3/ 112)، والإنصاف (5/ 106). (¬2) لم أجدها، وينظر: المغني (3/ 138)، والمحرر (1/ 217)، والإنصاف (5/ 106). (¬3) ينظر: المغني (3/ 131)، والإنصاف (5/ 85). (¬4) في مسائله رقم (1034).

فقيل له: في كل سفر تقصر فيه الصلاة؟ فقال: في كل سفر تقصر فيه الصلاة. وللشافعي - رضي الله عنه - قولان: الجديد: مثل هذا، وقال في القديم: يجوز الجمع في السفر القصير (¬1)، وهو قول مالك - رحمه الله - (¬2). دليلنا: أن الجمع إخراج عبادة عن وقتها المعتاد، فلم يستبح ذلك في السفر القصير؛ كالصوم والفطر، ولأن الجمع رخصة جُعلت عونًا على السفر، فهي كالقصر، فلما لم يستبح القصر في السفر القصير، كذلك الجمع. واحتج المخالف: بأنه سفر يجوز التنفل فيه على الراحلة، فجاز فيه الجمع؛ دليله: الطويل. والجواب: أن الطويل يلحق فيه مشقة في ترك الجمع، والقصير بخلافه، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 394)، والمهذب (1/ 338 و 339). وجعل صاحب الحاوي: الجواز تخريجًا في مذهب الشافعي، والقول الجديد والقديم سواء في المنع. (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 315)، والتاج والإكليل (2/ 510). أما الحنفية، فقد مضى في ص 70 ذكر قولهم: في عدم جواز الجمع إلا بعرفة ومزدلفة. وينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 292).

138 - مسألة: يجوز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما في الحضر لأجل المطر

138 - مَسْألَة: يجوز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما في الحضر لأجل المطر: نص عليه في رواية أبي داود (¬1)، وصالح (¬2)، فقال: يجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من مطر، وبهذا قال مالك (¬3)، والشافعي (¬4) - رضي الله عنهما -. وقال أبو حنيفة: لا يجوز (¬5). دليلنا: أنه قد ثبت بما تقدم (¬6) من الأخبار الصحاح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما في السفر، وإذا ثبت هذا في السفر، ثبت في الحضر للمطر؛ لأن الجمع بينهما في السفر لأجل الرفق والتخفيف، وهذا المعنى موجود ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (526). (¬2) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: الانتصار (2/ 549)، ونقلها الأثرم عنه، ينظر: التمهيد (12/ 212)، وينظر: التمام (1/ 225)، والمغني (3/ 132)، والمحرر (1/ 219)، والفروع (3/ 108)، والإنصاف (5/ 92 و 93). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 115)، والإشراف (1/ 315). (¬4) ينظر: الحاوي (2/ 397)، والبيان (2/ 489). (¬5) مضى التنبيه على أن الحنفية لا يجيزون الجمع إلا بعرفة ومزدلفة، وينظر: مختصر الطحاوي ص 33، والتجريد (2/ 912). (¬6) في ص 71، 72، 73، 75.

في المطر، ولأن الجماعة تسقط بالمطر، ولهذا روى أبو بكر النجاد بإسناده عن نافع: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - نزل ضجْنان (¬1) في ليلة باردة، فأمر مناديه، فنادى: الصلاة في الرحال، وحدَّث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كانت (¬2) الليلة الباردة أو المطيرة، أمر المنادي، فنادى: الصلاة في الرحال (¬3)، وإذا سقطت الجماعة للمشقة، جاز الجمع بينهما لهذا المعنى. وأيضًا: ما روى النجاد بإسناده عن نافع بن جبير - رضي الله عنه - قال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة (¬4). فإن قيل: هذا على أنه أخر الأولى، وعجل الثانية في أول وقتها. ¬

_ (¬1) جبل في تهامة على بريد من مكة، وذُكر أن بين ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلًا. ينظر: معجم البلدان (3/ 453)، وفتح الباري لابن رجب (3/ 452 و 453). (¬2) في الأصل: كان إذا كان. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، رقم (632)، وباب: الرخصة في المطر، رقم (666)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الصلاة في الرحال في المطر، رقم (697)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: التخلف عن الجماعة في الليلة الباردة أو الليلة المطيرة، رقم (1062)، واللفظ له. (¬4) قال ابن المنذر: (لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بينهما في المطر)، وقال الألباني: [ضعيف جدًا. وقد وقفت على إسناده، رواه الضياء المقدسي في المنتقى من مسموعاته بمرو (ق 37/ 2)]. ينظر: الأوسط (2/ 432)، والإرواء (3/ 39).

قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم، ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. روى النجاد بإسناده عن عروة - رضي الله عنه - قال: جُمِع على عهد أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - في الليلة المطيرة، يفرغ من المغرب، ثم يؤذن المؤذن العشاء، ثم يقيم (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن موسى بن محمد (¬2) عن أبيه (¬3) - رضي الله عنهما -: أن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - كانا يجمعان المغرب والعشاء في الليلة المطيرة (¬4). وروى أيضًا عن عبد الله بن حبيب (¬5) قال: رأيت ابن عباس - رضي الله عنهما - يجمع بين الصلاتين في المدينة: المغرب والعشاء في الليلة المطيرة قبل أن يغيب الشفق (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وللفائدة ينظر: المدونة (1/ 115). (¬2) ابن إبراهيم بن الحارث التيمي، أبو محمد المدني، قال ابن حجر: (منكر الحديث)، توفي سنة 151 هـ. ينظر: التقريب ص 619. (¬3) مضت ترجمته في (2/ 109). (¬4) لم أجده، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه رقم (4440) بسنده عن صفوان بن سليم قال: جمع عمر بن الخطاب بين الظهر والعصر في يوم مطير. وفي سنده إبراهيم الأسلمي متروك. ينظر: التقريب ص 63 و 64، وصفوان لم يدرك عمر - رضي الله عنه -. (¬5) هو: أبو عبد الرحمن السلمي، مضت ترجمته (1/ 290). (¬6) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الجمع في المطر بين الصلاتين، رقم (5555)، وفي المعرفة (4/ 300)، وفي إسناده من لم يسم، والراوي لفعل ابن عباس - رضي الله عنهما - هو: معاذ بن عبد الله بن حبيب كما عند =

وروى أيضًا عن نافع قال: رأيت أبا هريرة - رضي الله عنه - يجمع بين المغرب والعشاء بالمدينة قبل أن يغيب الشفق، وابن عمر - رضي الله عنهما - معه لا ينكر ذلك (¬1). وروى أيضًا عن عبد الله بن يزيد (¬2)، وغنيم بن فسطاس (¬3) قالا: رأينا ابن المسيب يجمع بين الصلاتين في الليلة المطيرة قبل أن يغيب الشفق (¬4)، قال الواقدي: وأصحابنا على هذا، لا يختلفون فيه (¬5)، وهذا يدل على إجماعهم. ¬

_ = البيهقي، وفي التقريب ص 598 جعله معاذ بن عبد الله بن خبيب، ووصفه بأنه: صدوق ربما وهم، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 82 و 83). (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه رقم (4441) عن نافع: أن أهل المدينة كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، فيصلي معهم ابن عمر لا يعيب ذلك عليهم. وإسناده صحيح. (¬2) لم يتبين لي من هو، ولم أقف على ترجمة له. (¬3) كذا في الأصل، ولم أقف على أحد بهذا الاسم. (¬4) لم أقف عليه، وقد أخرج البيهقي في الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الجمع في المطر بين الصلاتين، رقم (5557) عن هشام بن عروة: أن أباه عروة، وسعيد بن المسيب، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي: كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين، ولا ينكرون ذلك. إسناده ثابت، قاله ابن تيمية. ينظر: الفتاوى (24/ 83)، وجاء نحوه في مصنف ابن أبي شيبة رقم (6325). (¬5) لم أقف على كلامه.

139 - مسألة: فإذا ثبت جواز الجمع في الحضر لأجل المطر، فهل يجوز ذلك بين الظهر والعصر؟

واحتج المخالف: بما تقدم في المسألة التي قبلها من الأخبار والمعاني. وقد أجبنا عنه. * * * 139 - مَسْألَة: فإذا ثبت جواز الجمع في الحضر لأجل المطر، فهل يجوز ذلك بين الظهر والعصر؟ : فقال في رواية الأثرم (¬1): وقد سأله عن الجمع بين الصلاتين في المطر قبل أن يغيب الشفق، وفي السفر يؤخر حتى يغيب (¬2) الشفق؟ قال: نعم، قيل له: يجمع بين الظهر والعصر في المطر؟ قال: لا، ما سمعته. فقد نص على أن الاختيار أن يجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، ولا يجوز بين الظهر والعصر. وبه قال أبو بكر (¬3)، وشيخنا (3) - رحمهما الله -، وهو قول مالك - رحمه الله - (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: التمهيد (12/ 212)، والاستذكار (6/ 31)، والمغني (3/ 132)، والإنصاف (5/ 92 و 93). (¬2) في الأصل: تغيب. (¬3) ينظر: الهداية ص 105، والتمام (1/ 225)، والمغني (3/ 133). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 115)، والإشراف (1/ 315).

ويتوجه عندي جواز ذلك (¬1)؛ لأن أحمد - رحمه الله - أجاز ترك الجمعة لأجل المطر والطين، وهي صلاة نهار، فقال في رواية أبي طالب (¬2): في المطر يكون في يوم الجمعة بالغداة، فيصير طينًا، ثم ينقطع في وقت الذهاب؟ فقال: من قدر أن يذهب، فهو أفضل، ومن لم يقدر، لم يذهب؛ فقد جعل ذلك عذرًا في إسقاط الجمعة، فعلى قياسه يكون عذرًا في الجمع، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬3)، ووجه هذا: ما روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بالمدينة بين الظهر والعصر في المطر (¬4)، ولأن هذا عذر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء، فأباح بين الظهر والعصر؛ دليله: المرض، والسفر. والوجه لمن منع الجمع بينهما: عمومُ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما التفريط ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية ص 105، ومختصر ابن تميم (2/ 372)، والإنصاف (5/ 93). (¬2) ينظر: الفروع (3/ 106 و 110). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 398)، والمهذب (1/ 340). (¬4) لم أجده، قال ابن قدامة: (حديثهم غير صحيح؛ فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن، وقول أحمد: ما سمعت يدل على أنه ليس بشيء)، وقال ابن عبد الهادي: (حديث لا يعرف، ولا يصح. قال أبو بكر الأثرم: قيل لأبي عبد الله: الجمع بين الظهر والعصر في المطر؟ قال: لا، ما سمعته)، قال ابن حجر: (ليس له أصل، وإنما ذكره البيهقي عن ابن عمر موقوفًا عليه). ينظر: المغني (3/ 133)، والتنقيح (2/ 543)، والتلخيص (3/ 977).

أن يدع الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى" (¬1)، ولأنه جمع بين الظهر والعصر في الحضر من غير مرض، فلم يجز؛ دليله: إذا كان هناك وحل وطين، ولم يكن مرض، ولا يلزم عليه المريض إذا خشي أن يغلب على عقله، أو يشق عليه الوضوء لكل صلاة: أنه يجوز له الجمع بينهما؛ لقولنا: من غير مرض، وقد نص أحمد - رحمه الله - على جواز الجمع بين الظهر والعصر في المرض في رواية صالح (¬2)، والأثرم (¬3)، وإبراهيم بن الحارث (¬4). فإن قيل: المعنى في الطين: أنه لا يبيح الجمع بين المغرب والعشاء، فلهذا [لا] (¬5) يبيح بين الظهر والعصر. قيل: لا نسلم هذا، وقد قال الميموني (¬6): ذكر لي - يعني: أحمد - رحمه الله -: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يجمع بالمدينة في الليلة الباردة والمطيرة (¬7)، ولأن الجمع رخصة لتعجيل الناس في انقلابهم إلى بيوتهم، ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 82. (¬2) في مسائله رقم (582 و 1264). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 549)، والمغني (3/ 136). (¬4) ينظر: الانتصار (2/ 549)، ونقلها عن الإمام أحمد الكوسجُ في مسائله رقم (321). (¬5) ساقطة من الأصل. (¬6) ينظر: الفروع (3/ 107)، والمبدع (2/ 119)، وكشاف القناع (3/ 292). (¬7) أخرجه بنحوه مالك في الموطأ، كتاب: قصر الصلاة في السفر، باب: =

وهذا في الليل؛ لأنهم في النهار لا بد لهم من الانتشار، والتشاغل بالمعاش، والأمور التي لا ينقطعون عنها بالمطر، فتزول فائدة الرخصة. فأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - إن صح -، فهو محمول على الوقت الذي كان يجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير عذر، وقد رُوي في ذلك أخبار، فروى النجاد بإسناده عن صالح مولى التوءمة (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان يجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المدينة، من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: فلم فعل ذلك؟ قال: أراد التوسعة على أمته (¬2)، وهذا يدل على ما ذكرنا. فإن قيل: تناول قوله: ولا مطر، على أنه كان قد انقطع في الصلاة الثانية بعد أن أحرم بها، فإنه يتم الجمع. قيل له: تعليل ابن عباس يمنع من هذا؛ لأنه قال: أراد التوسعة على أمته، وهو - رضي الله عنه - أعرفُ بالحال والقصة، فلم يصح هذا التأويل. وأما القياس على السفر والمرض، فالمعنى فيهما: أن العذر ¬

_ = الجمع بين الصلاتين في الحضر (1/ 145)، وعبد الرزاق في المصنف رقم (4438 و 4439 و 4441)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (6324 و 6328)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 430)، وإسناده من أصح الأسانيد. (¬1) في الأصل: التومة. وصالح هو: ابن نبهان المدني، مولى التوءمة، قال ابن حجر: (صدوق اختلط)، توفي سنة 125 هـ. ينظر: التقريب ص 279. (¬2) مضى تخريجه في ص 75.

140 - مسألة: الطين والوحل عذر في الجمع

يوجد في جميع ذلك؛ لأن الجمع في السفر القصدُ به على العون على سفره (¬1)، وهذا يعم الظهر والعصر، كما يعم المغرب والعشاء. وأما المرض، فإنما جعل له الجمع بين الظهر والعصر إذا خشي أن يغلب على عقله، ويشق عليه الوضوء، وهذا المعنى يوجد في الظهر والعصر؛ كما يوجد في المغرب والعشاء، وليس كذلك في المطر؛ لأنه إنما جعل ليتعجل الناس انقلابهم إلى بيوتهم، وهذا في الليل، فأما بالنهار، فلا بد لهم من الانتشار والتشاغل بالمعاش، فتزول فائدة الرخصة، فلهذا فرقنا بينهما. * * * 140 - مَسْألَة (¬2): الطين والوَحَل عذر في الجمع (¬3): وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي طالب (¬4): في المطر يكون يوم الجمعة بالغداة، فيصير طينًا، ثم ينقطع في وقت الذهاب؟ فمن ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل. (¬2) بياض في الأصل. (¬3) ينظر: الجامع الصغير ص 56، والمغني (3/ 133)، والإنصاف (5/ 94). (¬4) ينظر: الفروع (3/ 106 و 110). وإلى جوازه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 115)، والإشراف (1/ 316).

قدر أن يذهب، فهو أفضل، ومن لم يقدر، لم يذهب؛ فقد جعله عذرًا في إسقاط الجمعة؛ خلافًا لأصحاب الشافعي - رحمهم الله - في قولهم: ليس بعذر (¬1). فالدلالة عليه: ما تقدم (¬2) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه أمر مناديه في ليلة باردة، فنادى: الصلاة في الرحال، وحدَّث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان الليلة الباردة أو المطيرة، أمر المنادي فنادى: الصلاة في الرحال، فإذا جاز ترك الجماعة لأجل البرد، كان فيه تنبيه (¬3) على الوحل؛ لأنه ليس مشقة البرد (¬4) بأعظم من الوحل، ويدل على حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من غير مطر ولا خوف (¬5)، ولا وجه له يحمل عليه إلا والوحل، وهو أولى من حمله على غير العذر، والنسخ؛ لأنه يحمل على فائدة، ولأن المطر يبل الثياب، والوحل يبل النعل، فهما في المشقة سواء. فإن قيل: مشقة المطر أعظم، لأنه يبل الثياب والنعال. قيل: هذا لا يوجب الفرق، ألا ترى أن مشقة المرض أعظم من ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 399)، والمهذب (1/ 341). (¬2) في ص 90. (¬3) في الأصل: تنبيهًا. (¬4) في الأصل: الوحل، والتصويب من الفروع (3/ 106)؛ فقد نقل نص كلام القاضي أبي يعلى. (¬5) مضى تخريجه في ص 75.

141 - مسألة: يجوز للمريض أن يجمع بين الصلاتين

مشقة السفر، وهما سواء في إباحة الفطر، وكذلك مشقة الجبائر أعظم من مشقة الخفين، وهما سواء في جواز المسح. واحتج المخالف: بأن قد كان في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولم يجمع. والجواب: أنه قد روينا عنه ما يدل عليه من الجمع لأجل البرد (¬1)، ولأنه قد روي عنه: أنه - عليه السلام - قد جمع لأجل المطر (¬2)، وهذا الاسم يتناول الوحل؛ لأنه يقال: جاءه في المطر، معناه: في وحل المطر، والله أعلم. * * * 141 - مَسْألَة: يجوز للمريض أن يجمع بين الصلاتين: نص عليه في رواية الجماعة (¬3)، منهم: الأثرم (¬4)، وإبراهيم بن الحارث (¬5): في المريض يجمع بين الصلاتين؟ أرجو أن يكون له ذلك ¬

_ (¬1) مضى في ص 90. (¬2) مضى في ص 90. (¬3) ينظر: مسائل صالح رقم (582 و 1264)، ونقلها ابن مشيش، ينظر: الفروع (3/ 108)، وغاية المطلب ص 118، والإنصاف (5/ 90)، وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 116)، والقوانين الفقهية ص 65. (¬4) ينظر: الانتصار (2/ 549)، والمغني (3/ 136). (¬5) ينظر: الانتصار (2/ 549).

إذا ضعف، وكان لا يقدر إلا على ذلك، وكذلك في رواية حنبل (¬1): يجمع بين الصلاتين؟ المسافر يجمع، وهو دون المريض، وقال ابن منصور (¬2): قلت لأحمد - رحمه الله -: المريض يجمع بين الصلاتين؟ قال: إي والله، إذا كان علة (¬3). وقد توقف عن ذلك في رواية أبي الحارث (¬4): في امرأة مريضة تجمع بين المغرب والعشاء؟ قال: ما أحب ذلك، وأهاب الجواب فيها. وقد صرح بجوازه في رواية الجماعة، وهو قول عطاء (¬5)، وطاوس (¬6)، وإسحاق (¬7)، حكاه ابن المنذر (¬8)؛ خلافًا لأبي حنيفة (¬9)، والشافعي (¬10) - رحمهما الله - في قولهما: لا يجمع. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 208)، والتمام (1/ 224). (¬2) في مسائله رقم (321). (¬3) في الأصل: غلبه. والتصحيح من مسائل ابن منصور. (¬4) لم أقف عليها، وينظر: مختصر ابن تميم (2/ 371)، والشرح الكبير (5/ 89)، والإنصاف (5/ 90). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت المغرب، معلقًا. (¬6) لم أقف على قوله. (¬7) ينظر: مسائل ابن منصور الكوسج رقم (321). (¬8) في الأوسط (2/ 434). (¬9) ينظر: الحجة (1/ 124)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 292). (¬10) ينظر: الأم (2/ 175)، والبيان (2/ 493).

دليلنا: ما رواه النجاد بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: أن سهلة بنتَ سهيل بن عمرو استُحيضت، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك؟ فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما أجهدها ذلك، أتته (¬1)، وأمرها أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بغسل (¬2). والاستحاضة مرض من الأمراض، وقد أباحها الجمع لأجل ذلك، ولا يصح حمله أنه - عليه السلام - أمرها بتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وتعجيل الثانية في أول وقتها؛ لأنا قد أفسدنا هذا السؤال في مسألة الجمع في السفر. فإن قيل: فأنتم تقولون بظاهر الخبر؛ لأنه لا يجوز لها الجمع. قيل: يجوز لها الجمع على الوجه الذي ورد [به] (¬3) الخبر، وهو أن يجمع بينهما بغسل واحد، لا تختلف الرواية عن أحمد - رحمه الله - في ذلك، واختلفت الرواية عنه في الجمع بينهما بوضوء واحد على ¬

_ (¬1) لفظه في المسند، وسنن أبي داود: "فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل". (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (24879)، وأبو داود في كتاب: الطهارة، باب: من قال: تجمع بين الصلاتين، وتغتسل لهما غسلًا، رقم (295)، وإسناده ضعيف، ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. ينظر: التلخيص (2/ 469)، وضعيف أبي داود للألباني في كتاب: الطهارة، باب: من قال: تجمع بين الصلاتين، وتغتسل لهما غسلًا. (¬3) إضافة يستقيم بها الكلام.

روايتين: إحداهما: الجواز أيضًا، أومأ إليه في رواية المروذي (¬1): في المريض يجمع بين الصلاتين بوضوء واحد؟ إذا خاف، أخر الظهر، وقدم العصر، يقول: إذا خاف أن ينتقض وضوءه. فقد أطلق القول في رواية صالح (¬2)، وابن منصور (¬3): في المستحاضة إن اغتسلت، فهو أحوط، وإن جمعت بين الصلاتين، أجزأها (¬4)، وإن توضأت لكل صلاة، أجزأها. وفيه رواية أخرى: لا يجوز الجمع بوضوء واحد، نص عليه في رواية عبد الله (¬5): في المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وإن صلت صلاتين بوضوء واحد، فلا. وقال أيضًا في رواية صالح (2): تتوضأ لكل صلاة، ولا يعجبني أن تصلي بوضوء واحد صلاتين. فقد نص على أنها لا تجمع بين الصلاتين، وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه (7): في المستحاضة إن جمعت بين الصلاتين بغسل، فجائز، وإن اغتسلت، ثم توضأت لكل صلاة، أجزأها. وقال أيضًا في رواية حُبيش (¬6) بن سنْدي (¬7): إن اغتسلت لكل صلاة ¬

_ (¬1) لم أقف عليها. (¬2) في مسائله رقم (125). (¬3) في مسائله رقم (741). (¬4) في الأصل: أخرها، والتصويب من مسائل ابن منصور. (¬5) في مسائله رقم (204 و 205). (¬6) في الأصل (حسس). (¬7) لم أقف عليها، وينظر: مسائل أبي داود رقم (174)، ومسائل ابن هانئ =

أحبُّ إليَّ، وإن قدمت وأخرت، واغتسلت لهما، أجزأها ذلك، وأدنى ما يجزئها من الغسل كل يوم غسل (¬1)، وتتوضأ لكل صلاة، فقد نص على جواز الجمع بغسل واحد، وكان الفرق بين الغسل والوضوء: أن مشقة الغسل أعظم، فجاز أن تؤثر الرخصة فيه؛ كالجبائر لما كانت أعظم مشقة من الخفين، مسح بغير توقيت، ويدل عليه: هو أنه عذر يبيح الفطر، فأباح الجمع؛ كالسفر، ولأنه يؤثر في أفعال الصلاة، وهو أنه يصلي جالسًا، فأباح الجمع؛ كالسفر. فإن قيل: فرق بينهما، وذلك أن المسافر يستفيد به فائدة، وهو إن جمع، أمن فوات الرفقة، وكذلك الجمع لأجل المطر يستفيد إسقاط أحد الخروجين إلى المسجد، فأما المريض، فإنه لا يستفيد بالجمع فائدة، بل ربما استفاد التفريق قوة؛ لأنه إذا وصل بين الصلاتين، شق عليه، وإذا فرق، استراح، ولهذا يجد من طال مشيه إذا استراح، أمكنه أن يمشي بقية سيره. قيل له: بل يستفيد به فائدة، وهو أنه من عادة المريض الانضجاع، فإنه إذا لم يجمع، تكرر انزعاجه وتكشفه، وإذا جمع، اقتصر على انزعاج ¬

_ = رقم (170)، وجامع الترمذي، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة، رقم (127)، والمستوعب (1/ 406)، والمغني (1/ 448)، ومختصر ابن تميم (1/ 427)، والفروع (1/ 391)، والإنصاف (2/ 455)، وفتح الباري لابن رجب (1/ 532). (¬1) في الأصل: غسلًا.

واحد، وتكشفٍ واحد، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصيام صيامُ أخي داود؛ كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا" (¬1)، فلولا أن بالتفريق تحصل المشقة، ما فضله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصيام. فإن قيل: فقد نقل الأثرم قال: أخبرني عبد السلام بن أبي قتادة (¬2): أنه سمع أبا عبد الله يقول: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع (¬3). فقد أجاز الجمعَ للمرضع، ولا ضرورة بها. قيل: بل عليها مشقة في التفريق؛ لأن الغالب من حال المرضع أن ثوبها لا يسلم من النجاسة، ففي غسله أو خلعه لكل صلاة مشقة. فإن قيل: نقل محمد بن موسى بن مشيش (¬4): أنه قال: الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة؛ مثل: مرض، أو شغل، فقد أجاز الجمع لأجل الشغل، وذلك ليس بعذر. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (2876)، واللفظ له، والبخاري في أبواب: التهجد، باب: من نام عند السحر، رقم (1131)، ومسلم في كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر، رقم (1159). (¬2) في الأصل: أبي عباد، والتصويب من التمهيد (12/ 216)، وقد ذكر ابن أبي يعلى في الطبقات (2/ 102) راويًا عن الإمام أحمد اسمه (عبد السلام)، ولم يزد على ذلك. (¬3) ينظر: التمهيد (12/ 216)؛ فقد نقل نص الرواية، وكذلك نقلها، ولم يسم راويها: ابن قُدامة في المغني (3/ 135)، وابن رجب في الفتح (3/ 92). (¬4) ينظر: الفروع (3/ 108)، وغاية المطلب ص 118، والإنصاف (5/ 90).

قيل: أراد بالشغل: العذر الذي يجوز معه تركُ الجمعة والجماعات؛ من الخوف على نفسه، أو ماله. فإن قيل: فقد روى المروذي (¬1) عن أحمد - رحمه الله -: أنه احتجم في العسكر، ولم يشترط الحجام حتى غابت الشمس، فما فرغ وإلا والنجوم قد بدت، فبدأ أبو عبد الله بالعَشاء قبل صلاة المغرب، فما فرغ حتى دخل وقت عِشاء الآخرة، ثم توضأ وصلى المغرب والعشاء الآخرة في وقت إحداهما، فكيف أجاز تأخير الصلاة إلى وقت الثانية لأجل العَشاء؟ قيل: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان مسافرًا، ويحتمل أن يكون أنه خاف على نفسه إن أخّر العَشاء يمرض لأجل الحجامة السابقة. واحتج المخالف: بما تقدم من الفرق، وأنه لا يستفيد بالجمع فائدة، فلم يجز له. والجواب عنه: ما تقدم، وأن فيه تخفيفًا عن المريض من قلة الانزعاج والتكشف. واحتج: بأنه غير ممطور، ولا مسافر، فلم يجز له الجمع؛ دليله: المستحاضة، ومن به سلس البول. والجواب: أن في ذلك روايتين (¬2): ¬

_ (¬1) ينظر: فتح الباري لابن رجب (4/ 109 و 110). (¬2) ينظر: ما مضى ص 101 و 102.

إحداهما: الجواز، فعلى هذا لا نسلم. والثانية: لا يجوز، فعلى هذا القياس يقتضي جواز الجمع في حقها لأجل المشقة، لكن تركناه للخبر، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "توضأ لكل صلاة" (¬1)، ورُوي: "لوقت كل صلاة" (¬2)، وعلى أن ذلك العذر أخف؛ لأنه لا يؤثر في الفطر، وهذا يؤثر فيه، وفي صفة الصلاة. واحتج: بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المريض بالجمع، ولو كان جائزًا، لأمره. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 69)، رقم (6908) من حديث فاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها -، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه من حديث سودة - رضي الله عنها - الطبراني في الأوسط (9/ 79)، رقم (9184)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 281): (وفيه جعفر عن سودة، ولم أعرفه)، وضعف الحديث أبو داود في سننه، كتاب: الطهارة، باب: من قال: تغتسل من طهر إلى طهر، وأثبته من قول عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: "توضئي لكل صلاة"، وقد جاء من قول عروة في صحيح البخاري، كتاب: الوضوء، باب: غسل الدم، رقم (228)، وجاء مرفوعًا في حديث عائشة - رضي الله عنها -، ولا يصح. ينظر: سنن أبي داود، كتاب: الطهارة، باب: من قال: تغتسل من طهر إلى طهر، رقم (300)، وسنن الدارقطني، كتاب: الحيض، رقم (818)، وينظر: علل الدارقطني (14/ 140)، وفتح الباري لابن رجب (1/ 448). (¬2) لم أجد من أخرجه بهذا اللفظ، قال ابن حجر في الدراية (1/ 89): (لم أجده هكذا)، وقد قال النووي: (حديث باطل لا يعرف). ينظر: المجموع (2/ 382)، ونصب الراية (1/ 204).

142 - مسألة: تجب الجمعة على من كان خارج مصر في موضع يسمع النداء من البلد إذا كان المؤذن صيتا، والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وذلك مثل أن يكون في قرية ليس فيها أربعون نفسا

والجواب: أنه يحتمل أن يكون أمره، ولم ينقل، ويحتمل أن يكون اقتصر على بيانه في السفر من طريق التنبيه، والله أعلم. * * * 142 - مَسْألَة: تجب الجمعة على من كان خارجَ مصرٍ في موضع يسمع النداء من البلد إذا كان المؤذن صَيِّتًا، والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وذلك مثل أن يكون في قرية ليس فيها أربعون نفسًا: فقد نص على هذا في رواية صالح (¬1)، وإسحاق بن إبراهيم (¬2)، فقال: تجب الجمعة على من يُسمع النداء، والنداء يُسمع من فرسخ. وقال أيضًا في رواية الأثرم (¬3): تجب الجمعة على من سمع النداء من غير أهل المصر، فإن لم يسمع النداء، صلى جماعة بأذان وإقامة. فظاهر ما نقله صالح (1)، وابن منصور (¬4): أنه محدود بفرسخ. ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر: شرح الزركشي (2/ 202)، ونقلها مثلها: عبد الله في مسائله رقم (567 و 568)، وفي العلل ومعرفة الرجال (2/ 520) رقم (3431)، وأبو داود في مسائله رقم (393)، وينظر في المسألة: التمام (1/ 228)، والمغني (3/ 244)، والإنصاف (5/ 164). (¬2) في مسائله رقم (445). (¬3) ينظر: شرح الزركشي (2/ 202). (¬4) في مسائله رقم (513).

وهو قول مالك - رحمه الله - (¬1). وظاهر ما نقله الأثرم: أنه غير محدود، وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬2). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا تجب الجمعة على أهل القرى، ولا على أهل الربض (¬3) إذا كان بين المصر وبينه فرجة (¬4). دليلنا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهذا عام. وأيضًا: ما روى أبو بكر بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة، إلا صبي أو امرأة أو مسافر أو عبد، ومن استغنى بلهو أو تجارة، استغنى الله عنه، والله غني حميد" (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة (1/ 153)، والإشراف (1/ 316 و 317). (¬2) ينظر: الأم (2/ 382)، والحاوي (2/ 404). (¬3) في الأصل: الريض، وهو خطأ. والربض: ما حول المدينة، وقيل: هو الفضاء حول المدينة. ينظر: لسان العرب (رَبَضَ). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 336)، والتجريد (2/ 914). (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الجمعة، باب: من تجب عليه الجمعة، رقم (1576)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من لا تلزمه الجمعة، رقم (5634)، وضعّفه ابن عبد الهادي، وابن الملقن؛ لأجل ابن =

وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن محمد بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على مريض، أو امرأة، أو مملوك" (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن تميم الداري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة واجبة، إلا على صبي أو مريض، أو عبد أو مسافر" (¬2). فمنه دليلان: أحدهما: من قوله - عليه السلام -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة"، وقوله - عليه السلام -: "الجمعة واجبة"، وهذا عام في أهل المصر وغيره. والثاني: أنه استثنى، والمستثنى عام في أهل المصر والقرى، كذلك المستثنى منه يجب أن يكون عامًا. وروى أيضًا بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من آواه الليل إلى أهله، ...................................... ¬

_ = لهيعة، ومعاذ بن محمد، ووافقهما ابن حجر، وقال: (هما ضعيفان). ينظر: التنقيح (2/ 552)، والبدر المنير (4/ 641)، والتلخيص (3/ 1024)، وينظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 399). (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5191)، وهو مرسل، وفيه ليث بن أبي سليم تُرِك حديثه. ينظر: التقريب ص 519. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (1257)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من لا تلزمه الجمعة، رقم (5633)، قال أبو زرعة: (هذا حديث منكر). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 407)، رقم (613).

فليشهد الجمعة" (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل عسى أحدكم أن يتخذ الغنم على رأس ميل أو ميلين أو ثلاثة أميال من المدينة، فيأتي الجمعة، فلا يجمع، فيطبع الله على قلبه، فيكون من الغافلين" (¬2). وروى أيضًا بإسناده عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أهل ذي الحليفة! يا أهل العوالي! اشهدوا الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من أتى الجمعة من أبعد من ذلك اختيارًا، رقم (5602)، وقال: (تفرد به معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد، وقد قال أحمد بن حنبل - رحمه الله -: معارك لا أعرفه. وعبد الله بن سعيد، هو أبو عباد: منكر الحديث، متروك). (¬2) أخرج نحوه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات والسنة فيها، باب: فيمن ترك الجمعة من غير عذر، رقم (1127)، والحاكم في المستدرك (1/ 430)، رقم (1083)، وفي سنده (معدي بن سليمان)، قال أبو زرعة: (واهي الحديث، يحدث عن ابن عجلان بمناكير). ينظر: الجرح والتعديل (8/ 438)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 406)، والتلخيص (3/ 989). (¬3) لم أجده، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه رقم (5151) عن الزهري قال: بلغني أن أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5103) عن أبي بكر بن محمد: أنه أرسل إلى أهل ذي الحليفة أن لا تجمعوا بها، وأن تدخلوا إلى المسجد مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وينظر: مسائل عبد الله رقم (569)، ومسائل ابن هانئ رقم (445).

وروى أبو داود في سننه (¬1) قال: نا محمد بن يحيى بن فارس (¬2) قال: نا قبيصة (¬3) قال: نا سفيان عن محمد بن سعيد (¬4)، عن أبي سلمة بن نُبيه (¬5)، عن عبد الله بن عمرو (¬6) - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من يسمع النداء". فإن قيل: فقد قال أبو داود (¬7): روى هذا الحديث جماعة عن سفيان ¬

_ (¬1) كتاب: الصلاة، باب: من تجب عليه الجمعة، رقم (1056)، بلفظ: "الجمعة على كل من سمع النداء"، وقال: (روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورًا على عبد الله بن عمرو، لم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة)، وإسناده ضعيف. وينظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 400). (¬2) ابن ذؤيب الذهلي، النيسابوري، قال ابن حجر: (ثقة، حافظ جليل)، توفي سنة 258 هـ. ينظر: التقريب ص 572. (¬3) ابن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي، أبو عامر الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق ربما خالف)، توفي سنة 215 هـ. ينظر: التقريب ص 504. (¬4) الطائفي، أبو سعيد المؤذن، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 536. (¬5) المدني، قال ابن حجر: (مجهول). ينظر: التقريب ص 707. (¬6) في الأصل: عمر. (¬7) كتاب: الصلاة، باب: من تجب عليه الجمعة، رقم (1056)، بلفظ: "الجمعة على كل من سمع النداء"، وقال: (روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورًا على عبد الله بن عمرو، لم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة)، وإسناده ضعيف. وينظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 400).

مقصورًا على عبد الله بن عمرو (¬1) - رضي الله عنهما -، ولم يذكروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو داود: وهو محمد بن سعيد الطائفي (¬2). قيل له: هذا لا يوجب ضعف الحديث؛ لأن جماعة قطعوه، ومحمد بن سعيد وصله (¬3)، ويكفي في ذلك أن يصله الواحد. وروى شيخنا في كتابه عن الحجاج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من كان يمد الصوت"، وهذه الأخبار دالة على ما ذكرنا. والقياس: الجمعة عبادة لها تحليل وتحريم، فلا يختص بها أهل المصر؛ دليله: الحج، ولأنها صلاة مفروضة، فلم يختص بها أهل المصر؛ دليله: الظهر، وكل موضع يبلغه النداء من غير عارض، جاز أن تجب الجمعة على من استوطنه؛ قياسًا على المريض، وقولنا: يبلغه النداء، احتراز: من القرية البعيدة التي لا يبلغها النداء، وقولنا: من غير عارض، احتراز: من القرية البعيدة من المصر إذا كانت في موضع عال يبلغها النداء؛ لعلوها؛ فإنه لا جمعة على أهلها؛ لأن هناك يبلغ النداء لعارض، وهو علوها، وقولنا: فجاز أن تجب الجمعة، احتراز: من ¬

_ (¬1) في الأصل: عمر. (¬2) محل نظر؛ فإن كلام أبي داود - رحمه الله - منصرف إلى قبيصة؛ كما في حاشية رقم (1) في ص 111. (¬3) محل نظر؛ فإن كلام أبي داود - رحمه الله - منصرف إلى قبيصة؛ كما في حاشية رقم (1) في ص 111.

النساء والصبيان؛ لأنهم لا يجب عليهم الجمعة؛ لأن التعليل للجواز، وقولنا: على من استوطنه، احتراز: من المسافر، ومن أهل البادية. فإن قيل: لا تأثير لسماع النداء في الأصل؛ لأن الربض يجب على ساكنه الجمعة، سمع أو لم يسمع. قيل له: الربَض من جملة المِصر، وكل موضع في المصر محلٌّ للنداء وإقامة الجمعة، فما من أحد فيه إلا وهو على صفة قد يسمع النداء، ولأن النداء أحدُ جهتي الاتصال، فتعلق به الوجوب؛ قياسًا على اتصال البناء، وقد دل على هذا الوصف: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلا من عذر" (¬1). احتج المخالف: بأن بينهما وبين المصر فُرجة، فوجب أن لا يجب على أهلها الجمعة؛ كما لو كانت على مسافة لا يسمع فيها النداء، وقالوا: لأنها ليست من جملة المصر، فلا يجب على أهلها الجمعة؛ كأهل البوادي. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه عدم فيه جهتا الاتصال، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه قد وجد فيها إحدى جهتي الاتصال، وهو بلوغ النداء، فهو بمنزلة اتصال البناء. وقد قيل: إنه إذا لم يسمع النداء، فلم يلحقه شعار الجمعة، وهذا يلحقه شعار، فلهذا فرقنا بينهما. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 242).

واحتج: بأن القرية التي يسمع فيها النداء كالتي لا يسمع فيها؛ بدليل: أنه لو نوى سفرًا تقصر فيه الصلاة، وانفصل عن المصر، جاز له أن يقصر قبل أن يخلف بنيان هذه، كما يجوز قبل أن يخلف بنيان تلك، ثم تقرر: أن التي لا يسمع فيها النداء لا يجب على أهلها الجمعة، كذلك التي يسمع فيها النداء. والجواب: أنه إنما كانا سواء في جواز القصر، ولم يكونا سواء في إيجاب الجمعة؛ لأن القصر يجوز إذا ترك بيوت المدينة وراء ظهره، وهذا المعنى يوجد في الموضعين، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية الميموني (¬1): إنما يقصر إذا خرج من البيوت، ولا يقصر (¬2)، وكذلك نقل صالح (¬3): يقصر ويفطر إذا فارق القرية، وعلى أن القرب والبعد معتبر في هذا المعنى؛ لأن أبا حنيفة - رحمه الله - قد قال (¬4): تجوز إقامة الجمعة في صحراء البلد إذا كانت بالقرب من البنيان، ولا يجوز مع البعد، فسقط هذا. واحتج: بأن كل قرية لم يلزم أهلَها السعيُ إذا لم يسمع النداء، لم يلزم وإن سمعت؛ دليله: إذا كان فيها أربعون نفسًا. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، ونقل مثلها عبد الله في مسائله رقم (557)، وابن هانئ في مسائله رقم (631)، والكوسج في مسائله رقم (314). (¬2) كذا في الأصل، وكأن ثمة سقطًا. (¬3) في مسائله رقم (16). (¬4) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 190).

143 - مسألة: تقام الجمعة في كل قرية يستوطنها أربعون رجلا، أحرارا، بالغين، عاقلين، لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء

والجواب: أنه إذا لم يسمع النداء، عدم فيها جهتا الاتصال، وبالسماع قد وجد أحد جهتي الاتصال، وأما إذا كانوا أربعين، فقد وجد عدد ينعقد بهم الجمعة، فلا حاجة بنا إلى حضورهم؛ لأنهم يمكنهم إقامتها في موضعهم، وجميع ما ذكرنا فهو دلالة على الإيجاب من غير تحديد، ومن قال: إنه محدود بثلاثة أميال، فوجهُه: ما تقدم (¬1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "عسى أحدكم أن يتخذ الغنم على رأس ميل أو ميلين أو ثلاثة"، ولأنه قد جرت العادة أن الأصوات إذا كانت ساكنة، والرياح معتدلة، والمؤذن صَيِّتًا، ولا مانع يمنع السماع، فإن الصوت ينتهي إلى ثلاثة أميال وما قاربها، والله تعالى أعلم. * * * 143 - مَسْألَة: تقام الجمعة في كل قرية يستوطنها أربعون رجلًا، أحرارًا، بالِغين، عاقلين، لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء: نص على هذا في رواية الأثرم (¬2)، وإبراهيم بن الحارث (¬3)، فقال: يجمع من القرى إذا كانوا من الذين لا يجب عليهم أن يجمعوا في المصر كانوا في بُعد منهم، فإنهم يجمعون إذا كانوا أربعين. وكذلك نقل ابن ¬

_ (¬1) في ص 110. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 182). والأحكام السلطانية ص 102. (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 182).

القاسم (¬1)، وقيل: ترى أن الجمعة تجب إذا كان أهل القرى أربعين رجلًا (¬2). وبهذا قال مالك (¬3)، والشافعي - رضي الله عنهما - (¬4). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا تقام الجمعة إلا في الأمصار (¬5). دليلنا: ما تقدم (¬6) من حديث محمد بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة"، وهذا عام في أهل القرى وغيرهم. وأيضًا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك (¬7) - وكان قائدَ أبيه بعد ما ذهب بصرُه - عن أبيه كعب بن مالك - رضي الله عنه -: أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة، [ترحم ¬

_ (¬1) ينظر: الأحكام السلطانية ص 102، وينظر: المغني (3/ 208)، والإنصاف (5/ 193). (¬2) كأن ثمة سقطًا هنا، ولعله: نعم. إجابة لسؤال، ونص رواية ابن القاسم في الأحكام السلطانية ص 102: (تجب الجماعة - كذا في الأصل، ولعلها الجمعة - إذا كان أهل القرية أربعين رجلًا). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 152)، والإشراف (1/ 317). (¬4) ينظر: الأم (2/ 378)، والحاوي (2/ 407). (¬5) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 329)، ومختصر القدوري ص 100. (¬6) في ص 109. (¬7) الأنصاري، أبو الخطاب المدني، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 375.

لأسعد] (¬1) بن زرارة، [فقلت له: إذا سمعت النداء، ترحمت لأسعد بن زرارة؟ ] (¬2)، قال: لأنه أول من جَمَّع بنا في هذا النَّبيت (¬3) من حَرَّة بني بياضة في نقيع (¬4) يقال له: نقيع الخَضِمات (¬5)، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون (¬6). وهذه ليست بمصر، وقد أقيمت بها الجمعة. ¬

_ (¬1) في الأصل علامة (ط) الدالة على وجود سقط. وما بين القوسين مثبت من سنن أبي داود. (¬2) ليس في الأصل، وهو موجود في الأثر كما في سنن أبي داود. (¬3) في الأصل: البيت. والنبيت: بطن من الأنصار. ينظر: معجم البلدان (5/ 405). (¬4) في الأصل: (بقيع)، والمثبت من سنن أبي داود. (¬5) موضع حماه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لخيل المسلمين، وهو من أودية الحجاز يدفع سيله إلى المدينة، يسلكه العرب إلى مكة منه، وحمى النقيع على عشرين فرسخًا أو نحو ذلك من المدينة. قال ابن الأثير: (موضع بنواحي المدينة)، يستنقع فيه الماء؛ أي: يجتمع. ينظر: معجم البلدان (5/ 301)، والنهاية في غريب الحديث (خضم)، ولسان العرب (نقع). (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، باب (1069)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: في فرض الجمعة، رقم (1082)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم جمعة، رقم (5606)، وقال: (حديث حسن الإسناد صحيح)، وحسّن إسناده أيضًا ابن حجر في التلخيص (3/ 999).

فإن قيل: أليس معناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، فرضيه، وأقر عليه؟ قيل له: لا يجوز أن يكون فعلوها بغير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الجمعة إحالة فرض كانوا عليه وبغيره. فإن قيل: تلك قرية قريبة من المدينة، وحكمها حكم المصر من البلد، ويجوز إقامة الجمعة في مثلها. قيل له: لو كانت في حكم المصر، لم يحتج إلى إقامة جمعة ثانية بالمدينة، وقد أقاموا بالمدينة الجمعة في دار سعد بن خيثمة، وعلى أن حرة بني بياضة بينها وبين المدينة بعد نحو نصف فرسخ أو أكثر، ومثل هذا لا يجوز إقامة الجمعة فيه عندهم. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي جمرة (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أول جمعة جمّعت، بعد جمعة جمّعت بالمدينة: جمعة بالبحرين بجُوَاثى: قرية من قرى عبد القيس (¬2). فإن قيل: لم يثبت أن الذي أقامها ممن يحتج به. ¬

_ (¬1) في الأصل: حمزة. وأبو جمرة هو: نصر بن عمران بن عصام الضُّبَعي، البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 128 هـ. ينظر: التقريب ص 628. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن، رقم (892)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، رقم (1068)، واللفظ له.

قيل له: قد قلنا: إن مثل هذا لا يفعلوه بآرائهم؛ لأنها إحالة فرض كانوا عليه. فإن قيل: يحتمل أن يكون جُواثى كانت مصرًا، وسماها ابن عباس - رضي الله عنهما -: قرية؛ لأن العرب كانت تسمي المصر: قرية، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وأراد: مكة والطائف، وقال تعالى: {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]. وروي: أن عليًا - رضي الله عنه - مر بجماعة من أصحاب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بالكوفة، وهم يتذاكرون (¬1) في العلم، فقال: هؤلاء سُرج هذه القرية؛ يعني: الكوفة (¬2). قيل له: المشهور في لسان العرب واستعمالها: أن القرية لا يعبر بها عن المصر، وان استعمل هذا الاسم، فهو جائز (¬3) ونادر، والمشهور خلافُه، ويبين صحة هذا: أنه نسبها إلى عبد قيس في جملة قرى. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه كتب إلى عمر - رضي الله عنه - يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين؟ فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أن ¬

_ (¬1) كررها في الأصل مرتين. (¬2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 169 و 170)، وابن سعد في الطبقات (6/ 90). (¬3) في الأصل: جاز.

جمّعوا حيثما كنتم (¬1). وقوله: حيثما كنتم تعم القرى والأمصار. قال مهنا: سألت أحمد - رحمه الله -: أيما أعجبُ إليك قولُ علي - رضي الله عنه -: لا جمعة إلا في مصر (¬2)، أو قول عمر - رضي الله عنه -؟ فقال أحمد - رحمه الله -: قول عمر هذا إسناد جيد عن عمر - رضي الله عنه - (¬3). وروى أيضًا النجاد بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان يمر بين طريق مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل، فلا ينكر عليهم (¬4). فإن قيل: فهذا يعارضه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصرٍ جامعٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5108)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 32)، قال البيهقي في المعرفة (4/ 323): (إسناده حسن). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5177)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5098 و 5106)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 27)، وهو ضعيف لانقطاعه. ينظر: الأوسط (4/ 31). (¬3) ينظر: المغني (3/ 209)، والفتاوى لابن تيمية (24/ 169)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 389). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5185)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 26)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (2/ 488). (¬5) لم أجده مرفوعًا، ويروى عن علي - رضي الله عنه -، وقد مضى في حاشية رقم (2)، وسيأتي كلام المؤلف، قال ابن قدامة: (قال أحمد: ليس هذا بحديث ... إنما هو عن علي، وقول عمر يخالفه). ينظر: المغني (3/ 209).

قيل له: هذا يرويه الأعمش عن سعد بن عبيدة (¬1)، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه -، وقد قال: أحمد - رحمه الله - في رواية صالح (¬2): الأعمش لم يسمعه من سعد بن عبيدة، والمتصل أولى، على أن هذا محمول على القرى التي لا يبلغ فيها العدد، أو على القرى التي لا يُسمع فيها الصوت من البلد، ولا يبلغ العدد. والقياس: أنه بناء متصل يستوطنه عدد ينعقد بهم الجمعة، فجاز أن يقيموها، أصلها: البلد، ولأنها إقامة عبادة، فاستوى فيها أهل القرى، والأمصار؛ كسائر العبادات. فإن قيل: يقلبه، فيقول: وجب أن يستوي فيه أهل القرى المتصلة، والمنازل المتفرقة؛ دليله: ما ذكرت. قيل له: سائر العبادات لا يعتبر فيها الاستيطان، وهذه يعتبر فيها الاستيطان، وهذا المعنى يحصل بالقرى المتصلة دون المتفرقة، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية ابن القاسم (¬3): تجب الجمعة على من ¬

_ (¬1) السُّلمي، أبو حمزة الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 221. (¬2) لم أجده في مسائله المطبوعة، وقد نقل هذه الرواية الكوسجُ في مسائله رقم (3517)، وقال في رواية أخرى نقلها الكوسج رقم (514)، حين سئل عن: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع؟ قال: هذا لا شيء)، وينظر: اختلاف الفقهاء للمروزي ص 171، والأوسط (4/ 31)، والعلل للدارقطني (4/ 165)، والتلخيص الحبير (3/ 992). (¬3) ينظر: الأحكام السلطانية ص 100، وينظر: مسائل عبد الله رقم (568، و 569).

يسمع النداء، أو أهل قرية إذا كانت مجتمعة، وهذا يقتضي أن الاتصال شرط. واحتج المخالف: بما روى علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع" (¬1). والجواب: أن هذا الخبر موقوف على عليّ - رضي الله عنه -، وليس بمتصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا ذكره ابن المنذر (¬2)، وأبو بكر النجاد، وإذا كان موقوفًا على علي - رضي الله عنه -، فقد حكينا خلاف غيره من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، فلم يلزم ذلك. واحتج: بأنها لو كانت متفرقة الأبنية والمنازل، لم تقم بها الجمعة، كذلك إذا كانت مجتمعة؛ كما لو كان فيها أقل من أربعين رجلًا؛ لأنه لو كان فيها أقل من أربعين، لم يقم بها الجمعة، كذلك إذا كان فيها أربعون؛ كما لو كانت متفرقة الأبنية والمنازل. والجواب: أن المعنى فيه إذا تفرقت الأبنية: أن العدد الذي ينعقد بهم الجمعة لم يجمعهم وطن، فلهذا لم تنعقد بهم الجمعة؛ كالبوادي، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه قد جمعهم وطن، وأما ما دون الأربعين، فالفرق بينه وبين الأربعين ما نذكره في مسألة العدد، على أنا لا نعرف عن أصحابنا رواية في التفريق، والصحيح: أنه إذا كان التفريق متقاربًا، جاز إقامة ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 120. (¬2) في الأوسط (4/ 31).

الجمعة فيها. واحتج: بأنها ليست بمصر، فهي كالبوادي ومناهل (¬1) الأعراب. والجواب: أن الأعراب لا جمعة عليهم كما ذكرت، وقد نص عليه أحمد - رحمه الله - في رواية أبي النضر (¬2) عنه: ليس على أهل البادية جمعة؛ لأنهم يتنقلون (¬3). فعلى هذا المعنى فيهم أن الحلة ليست بدار مقام واستقرار؛ بدليل: أنهم لو خرجوا منها، حملوها مع نفوسهم، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن البناء دار مقام واستقرار؛ بدليل: أنهم لو خرجوا منها، لم يمكنهم نقلها مع نفوسهم، وعلى أن أصحاب أبي حنيفة (¬4) - رحمهم الله - شرطوا الجامع والمنبر، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة ¬

_ (¬1) المنهل: المورد، وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي. وتسمى المنازل التي في المفاوز على طُرق السُّفّار: مناهل؛ لأن فيها ماء. ينظر: الصحاح (نهل). (¬2) في الأصل: النصر. وصوبه محقق الطبقات بأنه (النضر). ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 276). وأبو النضر هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون، أبو النضر العجلي، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، توفي سنة 270 هـ. ينظر: الطبقات (1/ 276)، والمقصد الأرشد (1/ 263). (¬3) ينظر: الأحكام السلطانية ص 100، والفروع (3/ 137)، والمبدع (2/ 150). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 329)، ومختصر القدوري ص 100.

الجمعة بالمدينة قبل أن يهاجر إليها (¬1)، ولم يكن فيها جامع ولا منبر، وإنما عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر بعد مقامه بها بمدة (¬2)، ولأن المعتبر بالمقام: الاستيطان، فإذا وجد البناء الذي يتخذ للمقام والاستيطان، فقد وجد الشرط، وليس لاعتبار الأسواق معنى، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي داود (¬3): أهل الرأي يقولون: الجمعة في الموضع الذي تقام فيه الحدود، وأي (¬4) حَدّ كان يقام بالمدينة! قدمها مصعبُ بن عمير - رضي الله عنه - وهم مختبئون في دار، فجمَّع بهم، وهم أربعون. قال: وقوله: مصر جامع، يعني بالجامع: إذا كان الناس فيه يجتمعون. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (5146) عن الزهري، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمّع بهم، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس يومئذٍ بأميرٍ، ولكنه انطلق يعلم أهل المدينة. وهو مرسل، وذكر الإمام أحمد في رواية أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمرَ مصعبَ بن عمير أن يجمِّع بهم بالمدينة. ينظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 331). (¬2) ينظر: صحيح البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر، رقم (917)، وصحيح مسلم، كتاب: المساجد، باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، رقم (544). (¬3) في مسائله رقم (398). (¬4) في الأصل: وأنى، والتصويب من مسائل أبي داود.

144 - مسألة: يجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة فيما قرب من المصر من الصحراء

واحتج: بأن الجمعة لو وجبت على أهل السَّواد (¬1)، لفسقوا بتركها كأهل المصر. والجواب: أنهم لم يفسقوا؛ لأنهم مختلَف في وجوب الجمعة عليهم، كما يقول أبو حنيفة - رحمه الله -: في المصر إذا كان فيه أربعة أنفس: إن الجمعة تجب عليهم، ولو تركوا، لم يفسقوا بتركها؛ لحصول الاختلاف في وجوبها، والله أعلم. * * * 144 - مَسْألَة: يجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة فيما قرب من المصر من الصحراء: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي (¬2) - وسئل عن أمير العسكر والجيش هل يجمع بأصحابه يوم الجمعة؟ -: إذا كان في أربعين رجلًا، وهو مسافر، ويرجعون، فليس عليهم أن يجمعوا في قراهم. ظاهر هذا يقتضي: أنهم إذا جمعوا بهم في حال السفر، صحت الجمعة، والبنيان يقدم في حال السفر، وهذا محمول على أنه سفر لا تقصر فيه الصلاة، فلا يسقط فرض الجمعة عن العدد ¬

_ (¬1) السواد: ما حوالي الكوفة من القرى، وسواد الكوفة والبصرة: قراهما. ينظر: لسان العرب (سود). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 567).

الذي تنعقد به الجمعة، فأما إن كان سفرًا يقصر فيه، لم يصح فيهم، وقوله: ليس عليهم إذا رجعوا أن يجمعوا في قراهم، معناه: إذا رجعوا من يومهم إلى وطنهم (¬1). وقال في رواية جعفر بن محمد (¬2) - وقد سئل عن مسجد جامع بُني على عشرة فراسخ من المدينة يجّمع فيه؟ -، قال: نعم. وقوله: يجمَّع فيه، يحتمل أن يكون أراد به: أهلَ المدينة إن تحملوا السير إليه، وصلَّوا فيه، صحت الجمعة، وهذا يدل على صحة الجمعة فيه، وإن بَعُد عن البنيان، ويحتمل أن يريد به: إذا كان حوله قرى، وهو أشبه بالتأويل؛ لأنه يَبْعُد أن يقصده أهل البلد، وهذا يقتضي جواز الصلاة فيه مع اتصاله بالبنيان وانفصاله، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬3). وقال الشافعي - رضي الله عنه -: لا يجوز (¬4). دليلنا: أنها صلاة شُرع لها الاجتماع والخطبة، فوجب أن يجوز فعلها في البنيان، وما قرب من البناء؛ دليله: صلاة العيد، وقد نص على ذلك في رواية حنبل (¬5)، فقال: الخروج إلى المصلى في العيدين أفضل، ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية ص 110، والمغني (3/ 209)، والإنصاف (5/ 195). (¬2) لم أقف عليها. (¬3) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 190)، والهداية (1/ 82). (¬4) ينظر: المهذب (1/ 359)، والبيان (2/ 559). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 152)، والكافي ص 70. (¬5) ينظر: الفروع (3/ 201)، والمبدع (2/ 182)، وكشاف القناع (3/ 402).

إلا ضعيفًا أو مريضًا، ولم يزل أبو عبد الله - يعني: أحمد - رحمه الله - يأتي المصلى حتى ضَعُف، فكان يذهب إلى المسجد في المدينة، فيصلي مع الإمام ركعتين. واحتج المخالف: أنه موضع خارج من المصر، أو موضع يجوز للمسافر من المصر أن يقصر الصلاة فيه، فلا يجوز لأهله إقامة الجمعة فيه، أصله: ما بَعُد من المصر. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار ما قرب من المصر بما بعد منه، ألا ترى أن صلاة العيد تجوز في البنيان، وما قرب من البناء في الصحراء، ولا تجوز فيما بعد؟ فإن قيل: هو - وإن كان في حكم المصر في صلاة العيد - فهو في حكم البعيد في جواز ابتداء القصر والفطر. قيل له: هو - وإن كان في حكم البعيد في جواز القصر والفطر - فهو في حكم المصر في صلاة العيد. فإن قيل: صلاة العيد غير محالة من غيرها بشرط البناء، فجاز فعلها في كل موضع، ولهذا يجوز للمسافر فعلها في سفره، والجمعة إحالة فرض من شرطها البناء، ولهذا لا يجوز فعلها في السفر، فإذا عدم البناء، لم يجز. قيل: قولك: الجمعة إحالة فرض من شرطها البناء، لا نسلِّمه، بل من شرطها الاستيطان، وقولك: لا يجوز فعلها في السفر، غيرُ صحيح؛

فصل

لأنه لو اجتاز المسافر ببلد، وأدرك فيه صلاة الجمعة، فصلى، أجزأه عن ظهره، فلا فرق بينهما. * فصل: فإن كانت القرية متفرقة الأبنية تفريقًا متقاربًا، صح إقامة الجمعة فيها؛ خلافًا لأصحاب الشافعي - رضي الله عنهم - (¬1)؛ لأنه بناء متقارب، مستوطنه عدد تنعقد بهم الجمعة، أشبهَ المتصل، ولأن اسم الاتصال يجمعهم، فيقال: هؤلاء أهل قرية واحدة، ووطن واحد، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية ابن القاسم (¬2) - وقد سئل عمن تجب عليه الجمعة؟ -، فقال: الذي يسمع النداء، وأهل القرية إذا كانت مجتمعة. معناه: إذا كانت متقاربة الاجتماع، تبين صحة هذا التأويل: ما ذكرناه في المسألة التي قبلها، وأنه يجوز إقامتها فيما قرب من المصر. واحتج المخالف: بأن العدد الذي تنعقد بهم الجمعة لم يجمعهم وطن، فأشبه إذا كان تفريقًا متباعدًا. والجواب: أنا لا نسلم أنه لم يجمعهم وطن؛ لأنا قد بينا أنه يقال: هؤلاء أهل قرية واحدة، ثم لا يجوز اعتبار المتباعد بالمتقارب؛ بدليل: صلاة العيد، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 407)، والمهذب (1/ 359). (¬2) ينظر: الأحكام السلطانية ص 100.

145 - مسألة: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا

145 - مَسْألَة: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلًا: نص على هذا في رواية عبد الله، فقال (¬1): لا يجمّع حتى يكونوا أربعين رجلًا، وكذلك نقل الأثرم (¬2)، وإبراهيم بن الحارث (¬3)، فقال: إذا كانوا أربعين، واحتج: بحديث مصعب بن عمير - رضي الله عنه -: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة (¬4) يؤمهم الجمعة، وكانوا أربعين، فإذا كانوا أقل من أربعين، فلا أعرفه. وكذلك نقل الميموني عنه (¬5): أنه للدلالة إذا كانوا أقل من أربعين، فقال: ليتهم (¬6) يجمعون إذا كانوا أربعين. وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه عنه (¬7): إذا كانوا في موضع واحد خمسين رجلًا، جمعوا الجمعة. فمن أصحابنا من خرجها على ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (588 و 597)، وينظر: مسائل ابن هانئ رقم (439). (¬2) ينظر: الأحكام السلطانية ص 102، والروايتين (1/ 182)، وشرح الزركشي (2/ 194). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 182). (¬4) كذا في الأصل، وهو خطأ، فالمعروف أنه بعثه - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة، وقد مضى تخريجه في ص 124. (¬5) ينظر: الأحكام السلطانية ص 102، وينظر: الأوسط (4/ 29). (¬6) في الأصل: ليتم. (¬7) ينظر: الروايتين (1/ 182).

روايتين (¬1)، وقال: أقل العدد خمسون علي رواية بكر، والثانية: أقله أربعون، وهو المذهب. وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). ونقل أبو الحارث (¬3) عن أحمد - رحمه الله -: في أهل القرى إذا كانوا ثلاثة، جمعوا إذا خطب بهم. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تنعقد الجمعة بثلاثة سوى الإمام (¬4). وقال أصحاب مالك - رحمهم الله -: لا ينحصر ذلك بعدد، بل يعتبر عدد أنهم قرية، ويمكنهم الإقامة، ويكون بينهم الشراء والبيع، ومنعوا ذلك في الثلاثة والأربعة (¬5). وقال داود: تنعقد الجمعة بما تنعقد به الجماعة (¬6). دليلنا: ما روى أبو الحسن الدارقطني بإسناده (¬7) عن جابر بن ¬

_ (¬1) ينظر: الهداية ص 110، وشرح الزركشي (2/ 195)، وغاية المذهب ص 121. (¬2) ينظر: الأم (2/ 378)، والحاوي (2/ 409). (¬3) لم أقف عليها، وقد جاء ما يدل عليها في مسائل عبد الله رقم (572)، ومسائل ابن هانئ رقم (452). (¬4) ينظر: مختصر الطحاوي ص 35، ومختصر القدوري ص 101. (¬5) ينظر: المدونة (1/ 152)، والإشراف (1/ 322)، والكافي ص 70. (¬6) لم أقف على قوله، وبه قال ابن حزم. ينظر: المحلى (5/ 34). (¬7) في سننه، كتاب: الجمعة، باب: ذكر العدد في الجمعة، رقم (1579)، =

عبد الله - رضي الله عنهما - قال: مضت السنة أن في كل ثلاثة إمامًا (¬1)، وفي كل أربعين فما فوقه جمعة وأضحى وفطر، وقول الصحابي: من السنة، يقتضي: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى أحمد - رحمه الله - في مسائل عبد الله (¬2) قال: نا يحيى بن آدم (¬3) قال: نا [ابن] (¬4) إدريس (¬5) عن محمد بن إسحاق (¬6)، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف (¬7)، عن أبيه أبي أمامة (¬8)، عن عبد الرحمن ¬

_ = وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم جمعة، رقم (5607)، وقال: (تفرد به عبد العزيز القرشي، وهو ضعيف). (¬1) في الأصل: إمام. (¬2) مختصرًا بلا إسناد، رقم المسألة (566) بلفظ: (جمع بهم أسعد بن زرارة، وكانت أول جمعة جمعت في الإسلام، وكانوا أربعين رجلًا). (¬3) ابن سليمان الكوفي، أبو زكريا، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 203 هـ. ينظر: التقريب ص 656. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن محمد الأوْدي، أبو محمد الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة فقيه)، توفي 192 هـ. ينظر: التقريب ص 307. (¬6) صاحب المغازي، مضت ترجمته. (¬7) الأنصاري، المدني، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: تهذيب الكمال (24/ 501)، والتقريب ص 525. (¬8) أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاري، معدود في الصحابة، معروف بكنيته - رضي الله عنه -. =

ابن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت أقود أبي كعبًا بعد ما ذهب بصره، فكان إذا سمع النداء يوم الجمعة، يصلي على أسعدَ بنِ زرارة، ويستغفر له، قال: فقلت له: يا أبه! لا أراك تسمع النداء يوم الجمعة إلا صليت على أبي أمامة (¬1)، واستغفرتَ له، قال: يا بني! إنه أولُ من جمَّع بنا بالمدينة في هزم نبيت (¬2) في بقيع يقال له: الخَضِمات في حَرَّة بني بياضة، وقال: قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلًا (¬3). فوجه الدلالة من الخبر: أن هذه أول جمعة كانت جُمّعت في الإسلام، وكان فرضها نزل بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعة وأكثر ممن هاجر إليها من مكة، وممن أسلم بالمدينة، ثم لم يصلوا سنينًا كثيرة حتى كمل العدد، فدل على أنها لا تجب على أقل من هذا العدد. والقياس: أن الأربعة عدد لا تنعقد بهم الجمعة في القرى، فلا تنعقد بهم الجمعة في المصر، أصله: الثلاثة. وقيل: عدد مشروط في بعض الشهادات، فلا تنعقد بهم الجمعة؛ كالاثنين. ¬

_ = ينظر: التقريب ص 76. (¬1) كنية أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل: بيت، وهزم النبيت؛ الهزم: المنخفض من الأرض، والنبيت: بطن من الأنصار، والمراد: موضع بالمدينة. ينظر: النهاية في غريب الحديث (هزم)، ومعجم البلدان (5/ 404). (¬3) مضى تخريجه في ص 117.

وقيل: عدد مشروط لا تنعقد بهم الجمعة بغير إذن الإمام، فلم تنعقد بإذنه؛ دليله: ما ذكرنا. وقيل: عدد لا تبنى لهم الأوطان غالبًا، فلا تنعقد بهم الجمعة؛ دليله: ما ذكرنا، ولا يمكن أن يقال: قد تبنى رباطات في الطرقات يستوطنها الثلاثة، والأربعة، والعشرة؛ لأن الرباط يبنى للمسافر، لا للمقيم فيه، ولأن الجمعة اشتراط فيها، فيجب أن يختص بانعقادها المستوطنون (¬1)، والأربعة لم تجر العادة باستيطانهم في بلد، فلم يكونوا من أهلها. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه بعث مصعب بن عمير إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها، وأمره أن يقيم بها الجمعة، فأقامها في دار سعد بن خيثمة في اثني عشر رجلًا (¬2)، فلو كان الأربعون شرطًا في انعقادها، لما جاز أن يقيمها باثني عشر رجلًا. والجواب: أن المروذي ذكر في شرحه: أنه جمّع بهم، وكانوا أربعين (¬3). وقيل في جوابه أيضًا: ليس معناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[علم] (¬4) بذلك، فرضي به. ¬

_ (¬1) في الأصل: المستوطنين. (¬2) مضى تخريجه في ص 124. (¬3) ينظر: ص 129. (¬4) ليست في الأصل، وهي إضافة يقتضيها الكلام.

واحتج: بما روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب، فقدم عير من مصر، فانفض الناس إلى العير، وبقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر رجلًا (¬1)، ولم ينقل أنهم رجعوا، ولو رجعوا، لنقل، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك الجمعة ذلك الوقت، وصلى بهم، فدل على سقوط الأربعين. والجواب: أن أبا الحسن الدارقطني روى بإسناده في كتابه (¬2) عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا يوم الجمعة، إذ أقبلت عير تحمل الطعام، حتى نزلوا بالبقيع، فالتفتوا إليها، فانفضوا إليها، وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معه إلا [أربعون] (¬3) رجلًا أنا فيهم، قال: وأنزل الله - عز وجل - على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، فتعارضت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، رقم (936)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}، رقم (863). (¬2) السنن، كتاب: الجمعة، باب: ذكر العدد في الجمعة، رقم (1583)، وقال: (لم يقل في هذا الإسناد: إلا أربعون رجلًا، غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين)، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: الانفضاض، رقم (5627)، قال ابن رجب: (علي بن عاصم، ليس بالحافظ، فلا يقبل تفرده بما يخالف الثقات). ينظر: الفتح (5/ 524). (¬3) طمس بالأصل، والمثبت من سنن الدارقطني.

الروايتان (¬1)، فسقطتا، أو تُقَدَّم روايتنا؛ لأن معنا زيادة، وعلى أنه يحتمل أنهم يكونون (¬2) رجعوا إليه، وصلّوا (¬3) الجمعة بالجميع، وإنما لم يذكره جابر؛ لأن قصده: بيانُ الانفضاض وسننه، دون ذكر الجمعة وشرائطها. واحتج: بأنه عدد يزيد على أقل الجمع الصحيح، فجاز أن تنعقد بهم الجمعة؛ قياسًا على الأربعين. والجواب: أن هذا إثبات تقدير، ولا يجوز مثل ذلك عندهم بالقياس، وإنما يجوز بالتوقيف أو الاتفاق، وليس في ذلك توقيف ولا اتفاق، وعلى أن ما زاد على الجمع المطلق في حكم الجمع المطلق في باب الجماعة، ألا ترى أن الإمام مع الاثنين يتقدمهما، ويصفان خلفه، كما إذا كان مع الثلاثة يتقدمهم ويصفون خلفه؟ ثم ثبت أن الجمع المطلق لا تنعقد بهم الجمعة، فعلم أنه لا اعتبار (¬4) بالجمع في ذلك. واحتج: بأنه عدد لا يعتبر في غير الجمعة، فلا يعتبر في الجمعة؛ دليله: الثلاثون، ولا يلزم عليه الأربعة؛ لأنه يعتبر في حد الزنا. والجواب: أنه لا يمتنع أن يعتبر في الجمعة ما لا يعتبر في غيرها، ¬

_ (¬1) في الأصل: الروايتين. (¬2) في الأصل: يكونوا. (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: صلى الجمعة بالجميع. (¬4) في الأصل: الاعتبار.

146 - مسألة: لا تصح الخطبة إلا بحضور عدد تنعقد بهم الجمعة

ألا ترى أنه يعتبر فيها الخطبة، ولا يعتبر ذلك في صحة غيرها؟ على أن الأربعين قد جُعلت حدًا (¬1) عند أبي حنيفة - رحمه الله - (¬2)، فما زاد على المئتي درهم إذا بلغت أربعين، وجب فيها درهم، وما نقص عنها، لا يجب، وجُعل مدة (¬3)، وجُعل حدًا للعبيد في الشرب، وجُعل نصابًا للغنم بإجماع (¬4)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ميت يصلِّي عليه أربعون رجلًا إلا شفعوا فيه" (¬5). * * * 146 - مَسْألَة: لا تصح الخطبة إلا بحضور (¬6) عدد تنعقد بهم الجمعة: ذكر أبو بكر في كتاب الشافي، فقال: لا أعلم عن أبي عبد الله خلافًا إن لم يتم العدد في الصلاة أو الخطبة: أنهم يعيدون الصلاة (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعلى أنها قد جعلت الأربعين حدًا"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬2) ينظر: مختصر القدوري ص 122. (¬3) كذا في الأصل، ولعل السقط لفظة: النفاس، فأكثر مدته عند الصحابة - رضي الله عنهم - أربعون يومًا بإجماعهم. ينظر: نوادر الفقهاء ص 52. (¬4) ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 51. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الجنائز، باب: من صلى عليه أربعون، شفعوا فيه، رقم (948). (¬6) في الأصل: بحظور. (¬7) ينظر: الجامع الصغير ص 57، والمغني (3/ 211)، والإنصاف (5/ 202).

وقد أومأ إليه أحمد في رواية ابن إبراهيم (¬1) - وقد سئل عن حضور الخطبة يوم العيد؟ -، فقال: ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبة، أرأيت لو ذهب الناس كلهم، على من كان يخطب؟ فاعتبر حضورهم في خطبة العيد. وهو قول الشافعي - رحمه الله - (¬2)، وبه قال ابن القصار (¬3)، وابن نصر المالكي (¬4)؛ تخريجًا على مذهب مالك - رحمه الله - (¬5). وقال أبو حنيفة - رحمه الله - في إحدى الروايتين: يصلي منفردًا (¬6). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (471). (¬2) ينظر: الأم (2/ 379)، ومختصر المزني ص 42، والمهذب (1/ 362). (¬3) ينظر: الإشراف (1/ 332)؛ فقد ذكر أن شيوخه قالوا ذلك، ومن شيوخه: ابن القصار. هو: القاضي أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد البغدادي، المشهور بـ: (ابن القصار)، قال الذهبي: (شيخ المالكية)، من مصنفاته: عيون الأدلة، توفي سنة 397 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 107). (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 332). وابن نصر هو: أبو محمد القاضي، عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد، قال الذهبي: (الإمام العلامة، شيخ المالكية)، من مصنفاته: الإشراف على نكت مسائل الخلاف، والتلقين، والمعونة، وغيرها، توفي سنة 422 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 429). (¬5) ينظر: المدونة (1/ 157)، والمذهب (1/ 301). (¬6) في الأصل: نص منفردًا، والصواب المثبت كما ذكره المؤلف عن أبي حنيفة في آخر هذه المسألة، قال القدوري: (المشهور عن أصحابنا: اعتبار العدد =

دليلنا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، والذكر بعد النداء هو: الخطبة. فإن قيل: فما ينكر أن يكون المراد به: الصلاة؟ قيل له: الصلاة لا تسمى ذكرًا لله تعالى. فإن قيل: فيها (¬1) ذكر الله، وهو التكبير، كما أن الخطبة فيها ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والوعظ والتذكير، وليس جميع ذلك ذكر [اً] لله تعالى. قيل له: الخطبة كلها ذكر، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة الآمر بها؛ كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وأراد به: الوجه المأمور بالتوجه إليه، وليس كذلك الصلاة؛ فإنها ليست بذكر، وإنما هي أفعال وأذكار. فإن قيل: {فَاسْعَوْا} خطابٌ للجميع، ولا يجب على الجميع حضورُها (¬2)، وإنما يجب على العدد الذي تصح بهم الخطبة. قيل له: الأمر متعلق بالجميع، إلا أن يقوم دليل علي جواز حضورها من تحصل به الإقامة. ¬

_ = الذي تنعقد بهم الجمعة عند الخطبة، وروي عنهم رواية أخرى: أنه غير معتبر). ينظر: التجريد (2/ 938)، وبدائع الصنائع (2/ 206). (¬1) في الأصل: فما. (¬2) في الأصل: حظورها.

فإن قيل: قد أجمعوا على أن السعي إلى صلاة الجمعة واجب بهذه الآية، فإذا حملتم الآية على الخطبة، خرجت عن أن يكون دلالة على حضور صلاة الجمعة. قيل له: إذا دلت الآية على وجوب السعي إلى الخطبة، كان فيها دلالة على وجوب السعي إلى الصلاة؛ لأن الخطبة تراد للصلاة، ولأن الخطبة أقيمت مقام الركعتين؛ بدليل: أنه إذا لم يخطب، صلى ظهرًا أربعًا، وإذا كانتا (¬1) كالركعتين، ثم [إذا] ثبت أن العدد شرط في الركعتين، وجب أن يكون شرطًا في الخطبتين، ولأن الخطبتين كصلاة الجمعة؛ بدليل: أن الوقت شرط فيها كالركعتين، ثم العدد شرط في الركعتين، كذلك الخطبتان، ولأن الخطبة ذكرٌ جُعل شرطًا في صحة الجمعة، فلا تصح إلا بحضور (¬2) العدد والمشروط فيها، أصله: تكبيرة الإحرام. فإن قيل: تبطل بالشهادتين، هي ذكر جُعل شرطًا في صحة الجمعة، وتصح من غير حضور العدد. قيل له: لا تبطل؛ لأن الشرط هو الإيمان، وهو اعتقاد القلب (¬3)، وليس ذلك بذكر، والشهادتان إخبار عما في القلب من الاعتقاد، فلم ¬

_ (¬1) في الأصل: كانا. (¬2) في الأصل: بحظور. (¬3) الإيمان: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد وينقص. ينظر: الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 10، والإيمان لابن أبي شيبة ص 50.

يلزم ما ذكرت. فإن قيل: تكبيرة الإحرام من الصلاة، وليست بشرط فيها. قيل له: تكبيرة الإحرام ليست من الصلاة عندك، فلا معنى لهذا، وأما على أصلنا: فهي منها، وشرط في صحتها؛ كالقراءة هي منها، وشرط في صحتها. فإن قيل: تكبيرة الافتتاح متصلة بالجمعة، فاعتبر فيها العدد الذي يعتبر في الجمعة، والخطبة منفصلة عنها، فلم يعتبر فيها العدد، كما لا يعتبر في الأذان والإقامة. قيل له: الركعة الثانية لا يعتبر أبو حنيفة - رحمه الله - فيها العدد (¬1)، وهي متصلة بالجمعة، وهي شرطها، فإذا صلى الإمام بهم ركعة، ثم انفضوا عنه، جاز له أن يصلي أخرى منفردًا، وأما الأذان والإقامة، فليسا بشرط، وتصح الجمعة مع تركهما، وليس كذلك الخطبتان، فإنهما شرطان، ولأن الخطبة خطاب، فاقتضى حضور المخاطب، والأذان والإقامة إعلام، فلم يقتضيا حضور المعلَمين؛ لأن إعلام، الغائب صحيح، وخطاب الغائب لا يصح. واحتج المخالف: بأنه ذكر يتقدم الصلاة للصلاة، فأشبه الأذان والإقامة. والجواب عنه: ما تقدم. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 208).

147 - مسألة إذا تفرق العدد قبل فراغ الإمام من الجمعة، فلم يبق معه أحد، أو بقي معه أقل من العدد المعتبر فيها، لم يجز أن يصليها جمعة، واستقبل الظهر

147 - مَسْألَة إذا تفرق (¬1) العدد قبل فراغ الإمام من الجمعة، فلم يبق معه أحد، أو بقي معه أقل من العدد المعتبر فيها، لم يجز أن يصليها جمعة، واستقبل الظهر: نص عليه في رواية عبد الله (¬2) - وقيل له: إن بعض الناس يقول: إذا كان الإمام يصلي بهم، فذهبوا، وبقي وحده، أو معه واحد -، أنه يصلي جمعة؟ -، فقال: سبحان الله! ما أعجب هذا! يجمع برجل واحد، لا يجمع حتى يكونوا أربعين رجلًا. قال أبو بكر (¬3): لا أعلم عن أبي عبد الله خلافًا إن لم يتم العدد في الصلاة أو الخطبة: أنهم يعيدون الصلاة؛ لأن انتهاءها في هذا الوقت كابتدائها. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إن تفرقوا قبل أن يعقد الركعة بسجدة، استقبل الظهر أربعًا، وإن تفرقوا بعد أن عقدها بسجدة، بنى عليها (¬4). وقال مالك - رحمه الله -: إن تفرقوا بعد أن يعقد الأولى بسجدتين، استقبل الظهر، .................................. ¬

_ (¬1) في الأصل: تفرغ. والتصويب من رؤوس المسائل للمؤلف، لوح رقم (22)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 321). (¬2) في مسائله رقم (599). (¬3) ينظر: الجامع الصغير ص 57، والمغني (3/ 211)، والإنصاف (5/ 202). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 348)، وبدائع الصنائع (2/ 208).

وإن تفرقوا بعد أن عقدها بسجدتين، بنى عليها (¬1). واختلف قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬2): فله في الجديد قولان (¬3): أحدهما - وهو المشهور -: بمثل قولنا، والثاني: إن بقي معه اثنان، صلاها جمعة، وإن بقي واحد، أو وحده، صلاها ظهرًا. وقال في القديم قولًا ثالثًا: إن بقي معه [واحد] (¬4)، صلاها جمعة، وإن بقي وحده، صلاها ظهرًا. دليلنا: أنه شرط يختص الجمعة، فوجب أن يكون شرطًا في الابتداء والاستدامة؛ دليله: الذكورية، والحرية، ولا يلزم عليه الوقت؛ لأنه لا يختص الجمعة؛ لأنه معتبر في سائر الصلوات، ولأنهم تفرقوا عنه قبل فراغه من صلاة الجمعة، فيجب أن يمنع ذلك من صحتها؛ دليله: إذا تفرقوا قبل أن يعقد الركعة بسجدة أو سجدتين، وكل معنى وجب أن يصحب الركعة الأولى من أصل الجمعة وجب أن يصحب الركعة الثانية من أصل الجمعة؛ دليله: الستارة، والطهارة، ونحو ذلك من الشرائط، ولا يلزم عليه الوقت أنه ليس بشرط في الركعة الثانية؛ لأنه ليس بشرط في الركعة الأولى، وإنما يشرط في التحريمة، ونحن قلنا: كل معنى وجب أن يصحب الركعة الأولى، وقولنا: من أصل الجمعة؛ احتراز: ¬

_ (¬1) ينظر: عيون المسائل ص 148، والكافي ص 71. (¬2) ينظر: الأم (2/ 380 و 381)، ومختصر المزني ص 42، والمهذب (1/ 360). (¬3) في الأصل: قولين. (¬4) بياض في الأصل، والتتمة من الحاوي (2/ 414)، والمهذب (1/ 360).

من المسبوق إذا انفرد بالقضاء؛ لأن أصل الجمعة هي التي صلاها الناس غيرَ المسبوق. فإن قيل: الطهارة والستارة وجودها شرط في جميع صلاة المأموم، ومشاركة الإمام في جميعها ليست بشرط؛ بدليل: المسبوق إذا قام يقضي، كذلك لا يمتنع أن تكون الطهارة والستارة في جميع صلاة الإمام شرطًا في صحتها، ولا يكون مشاركة المأموم له في جميعها شرطًا. قيل له: إنما لم يكن العدد شرطًا في جميع صلاة المأموم، [فإنه] (¬1) يبني على جمعة تمت وكملت شرائطها، وليس كذلك الإمام؛ فإنه يبني ركعة على ركعة واحدة، وهي شرط الجمعة، فافترقا، وتبين صحة هذا الفرق بينهما: أن عندهم: أن المسبوق إذا أدرك جزءًا من الصلاة، ثم سلم الإمام، بقي عليه ركعتان منفردًا، والإمام لا يدرك الجمعة بإدراك جزء منها مع العذر، وهو إذا انفضوا عنه في الركعة الأولى، فدل على الفرق بينهما. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصلِّ إليها أخرى" (¬2). ¬

_ (¬1) إضافة يقتضيها الكلام، ويدل عليها ما بعدها. (¬2) أخرجه النسائي في كتاب: الجمعة، باب: من أدرك ركعة من صلاة الجمعة، رقم (1425)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة، رقم (1121)، واللفظ له، والدارقطني، كتاب: الجمعة، باب: فيمن يدرك من الجمعة ركعة أو لم يدركها، رقم =

والجواب: أنه محمول علي المسبوق؛ بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأن الاشتراك إذا وجد في إحدى الركعتين، تعلق به إدراك الجمعة؛ كالمأموم المسبوق. والجواب عنه: ما تقدم، فلا وجه لإعادته. واحتج: بأن الوقت شرط، كما أن العدد شرط، ثم ثبت أنه لو أحرم بالصلاة لجمعة، فخرج وقتها، فإنه يبني عليها جمعة، كذلك في باب العدد. والجواب: أن هذا على أصل المخالف لا يصح؛ لأن عنده: أن الجمعة تبطل بخروج وقتها، فيجب أن يقول مثله في العدد، وأما على أصلنا، فلأنه ليس بشرط في الركعة الأولى، وإنما هو شرط في التحريمة، والعدد شرط في الأولى، فكان شرطًا في الثانية. واحتج: بأنه إذا صلى الإمام الجمعة صلاة الخوف، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، فارقته فعلًا وحكمًا، وبقي وحده، كان له أن يتمها جمعة مع الطائفة الثانية، كذلك ها هنا. والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن له عذر [اً] ¬

_ = (1600)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من أدرك ركعة من الجمعة، رقم (5736)، والحديث بهذا اللفظ وهم، قاله أبو حاتم. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 354)، رقم (491)، وعلل الدارقطني (9/ 223)، والتنقيح لابن عبد الهادي (2/ 574).

148 - مسألة: إذا زحم المأموم في السجود، فلم يتمكن من السجود على الأرض، وتمكن من السجود علي ظهر إنسان، لزمه ذلك

في الانفضاض عنه في صلاة الخوف، فلهذا كان له أن يصلي الجمعة، ولا عذر لهم في مسألتنا، فهذا لم يكن له أن يصلي جمعة. والثاني: إذا انفضوا في مسألة الخوف، فهو يتوقع من يجيء فيصلي معه الركعة الثانية، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه لا يتوقع غير من كان معه أن يصلي بهم. واحتج: بأن الإمام لا يمكنه أن يحترز عن انفضاضهم بعد الإحرام، فوجب أن يكون معفو [اً] عنه. والجواب: أنه في الابتداء أيضًا لا يمكنه الاحتراز قبل الدخول في الصلاة، ومع هذا، فوجوده شرط، وعلي أنا لا نوجب عليه جمعهم، وإنما يقال له: صلِّها (¬1) ظهرًا. واحتج: بأن النية شرط في الابتداء دون الاستدامة، كذلك العدد. والجواب: أن استصحاب النية شرط في الابتداء والاستدامة، وإنما لا يجب استدامة ذكرها، والله أعلم. * * * 148 - مَسْألَة: إذا زُحم المأموم في السجود، فلم يتمكن من السجود على الأرض، وتمكن من السجود علي ظهر إنسان، لزمه ذلك: ¬

_ (¬1) في الأصل: صلاها.

نص عليه في رواية صالح (¬1)، وأبي الحارث (¬2)، وأبي طالب (1)، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬3). وقال مالك - رحمه الله -: لا يسجد، فإن سجد، أعاد (¬4). دليلنا: إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -: روي أبو بكر النجاد بإسناده عن القاسم (¬5) قال: قال عمر - رضي الله عنه -: إني أراكم قد كثرتم في الجمعة، أو الجمع، أو المسجد، فليسجدِ الرجل على ظهر أخيه (¬6)، ........................................ ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، ونقلها عن الإمام أحمد: عبد الله في مسائله رقم (583)، وابن هانئ في مسائله رقم (455)، والكوسج في مسائله رقم (526)، وأحمد بن هاشم. ينظر: المغني (3/ 186)، والإنصاف (5/ 209). (¬2) لم أقف عليها، وينظر: ما مضى. (¬3) ينظر: الأم (2/ 427)، والحاوي (2/ 416). وإليه ذهبت الحنفية. ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 237)، وبدائع الصنائع (2/ 60). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 147)، والإشراف (1/ 323). (¬5) ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي، أبو عبد الرحمن الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة عابد)، توفي سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 500. (¬6) لم أقف على من أخرجه إلا ما قاله ابن الملقن - رحمه الله -: (حديث القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عمر: "أراكم قد كثرتم في الجمع، فليسجد الرجل على ظهر أخيه". ذكره ابن عساكر في "تخريجه لأحاديث المهذب" من حديث مسعر، عن القاسم به). ينظر البدر المنير (4/ 687)، وقد روى =

وفي لفظ آخر (¬1) رواه عن سيار بن معرور (¬2) قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب فقال: أيها الناس! إن هذا المسجد بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن معه المهاجرون والأنصار - رضي الله عنهم -، فإن لم يجد أحدكم مكانًا، فليسجد علي ظهر أخيه، ورآهم يصلون في الظهيرة (¬3). فوجه الدلالة: أنه قال هذا بجمع من الصحابة، وخاطبهم بذلك، فلم يظهر عن أحد منهم النكير، فدل على إجماعهم. ولأنه قادر على متابعة إمامه في السجود، فلزمه ذلك؛ كما لو قدر علي السجود على الأرض، تبين صحة هذا: أنه ليس فيه أكثر من أن موضع السجود أعلى من موضع قدميه، وهذا لا يمنع؛ كما لو سجد ¬

_ = عبد الرزاق في مصنفه رقم (1556 و 1557 و 5465 و 5469)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 104) في اشتداد الزحام: أن عمر - رضي الله عنه - قال: (فليسجد أحدكم على ظهر أخيه). (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (217)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: الرجل يسجد على ظهر من بين يديه في الزحام، رقم (5629)، وسيار مجهول، والحديث معلول. ينظر: علل الدارقطني (2/ 153)، والمجمع (2/ 10). (¬2) التميمي المازني، قال علي بن المديني: (سيار بن معرور مجهول). ينظر: الجرح والتعديل (4/ 254). (¬3) كذا في الأصل، والذي في المسند: "ورأى قومًا يصلون في الطريق، فقال: صلوا في المسجد".

على نشز (¬1) من الأرض في حال الاختيار، ولأنه لو عجز عن السجود على الأرض لمرض، سجد على حسب الإمكان، وهو أن يومئ أكثر ما يقدر عليه، كذلك سجوده على ظهر غيره هو أكثر ما يقدر عليه. فإن قيل: المرض لا يعلم متى يزول عذره، وهذا يعلم متى يزول عذره. قيل: المتيمم لو كان يعلم أنه يجد الماء عن قرب بعدَ صلاته بالتيمم، جاز له أن يصلي بالتيمم، وإن علم زوال عذره. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جُعلت لي الأرض مسجدًا" (¬2)، فامتنع جواز السجود على غيرها، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد على ظهر غيره. والجواب: أن البهيمة إذا كانت طاهرة، ولم يمكن السجود على الأرض، جاز له السجود عليها. واحتج: بأن ما لم يكن محلًا للسجود في غير الزحام، لم يكن محلًا في الزحام؛ دليله: الإيماء. والجواب: أنه إنما لم يجز له الإيماء؛ لأنه يمكنه زيادة عليه، فلهذا لم يجز له الإيماء، وإذا سجد على ظهر غيره، فليس يمكنه ¬

_ (¬1) في الأصل: نشر. والنشز: المرتفع من الأرض. ينظر: لسان العرب (نشز). (¬2) مضى تخريجه في (1/ 352). (¬3) مضى تخريجه (1/ 128).

149 - مسألة: إذا ركع مع الإمام، ثم زحمه الناس، فلم يقدر علي السجود حتى سجد الإمام، وقام إلى الركعة الثانية، ثم زال الزحام، والإمام قائم في الركعة الثانية، فإنه يشتغل بقضاء السجدة التي فاتته من الركعة الأولى، وإن كان راكعا، تابع الإمام في الركوع، ولم يتشاغل بالقضاء

الزيادة على ذلك، والله أعلم. * * * 149 - مَسْألَة: إذا ركع مع الإمام، ثم زحمه الناس، فلم يقدر علي السجود حتى سجد الإمام، وقام إلى الركعة الثانية، ثم زال الزحام، والإمام قائم في الركعة الثانية، فإنه يشتغل بقضاء السجدة التي فاتته من الركعة الأولى، وإن كان راكعًا، تابع الإمام في الركوع، ولم يتشاغل بالقضاء: أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية أبي طالب (¬1)، فقال: في الرجل يكبر مع الإمام يوم الجمعة، فإن لم يقدر [أن] يسجد على الأرض، يسجد على ظهر رجل، فإن لم يقدر أن يركع ويسجد، يتبعه يركع ويسجد، هو أجود، قيل له: بعد ما يقوم الإمام؟ قال: نعم. فقد أجاز القضاء بعد ما يقوم إلى الثانية، قال أبو بكر في كتاب الشافي: إذا أتى بما سبقه الإمام به يوم الجمعة بعده، وقيل: إن يركع، فلا بأس. وروى أحمد بن القاسم عنه (¬2): في الرجل يصلي خلف الإمام ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: الإرشاد ص 101، والجامع الصغير ص 58، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 323)، والهداية ص 111، والتمام (1/ 241)، والمغني (3/ 187)، والفروع (3/ 193)، والإنصاف (5/ 211). (¬2) لم أقف عليها. وينظر: مختصر ابن تميم (2/ 442 و 443).

ركعة؟ يجعلها كأنها فائتة يقضيها إذا فرغ. وظاهر هذا: أنه لا يتشاغل بالقضاء في الركعة الثانية؛ لأنه قال: يقضي إذا فرغ، وكذلك نقل المروذي عنه (¬1): إذا ركع الإمام ورفع قبل أن يركع الرجل، لم يعتد بتلك الركعة، قيل له: فما تقول إن أصابه هذا في الجمعة؟ فقال: الجمعة غير هذا. وكذلك نقل المروذي عنه أيضًا (¬2): إذا سجد الإمام، ورفع رأسه، فإن كانت (¬3) سجدة واحدة، تبعه إذا رفع رأسه، وإن كانت (3) السجدتان، لم يعتد بتلك الركعة. وظاهر هذا: أنه لا يتشاغل بقضاء ما فاته معه من الركوع والسجود، بل يتبعه، فإذا فرغ الإمام من صلاته، قضى ما فاته، والرواية الأولى أصح، وأنه يتشاغل بالقضاء ما لم يركع الركعة الثانية، وهو قول مالك - رحمه الله - (¬4). وقال أبو حنيفة: يبدأ بما فاته، ولا يتبع الإمام في الركعة الثانية، إلا بعد أن يقضي، سواء أدرك معه الركوع في الثانية، أو لم يدرك (¬5). وللشافعي - رضي الله عنه - قولان (¬6): أحدهما: مثل الرواية الأولى، والثاني: ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: الفروع (2/ 448)، والمبدع (2/ 156). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 169)، والمغني (2/ 211). (¬3) في الأصل: كان، والتصويب من المغني (2/ 211). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 146)، والإشراف (1/ 324). (¬5) ينظر: الحجة (1/ 191)، والتجريد (2/ 927). (¬6) ينظر: الأم (2/ 426)، والحاوي (2/ 416)، والمهذب (1/ 378).

مثل قول أبي حنيفة. دليلنا: ما روى أحمد في المسند (¬1) عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون (¬2) " (¬3)، فوجه الدلالة: قوله - عليه السلام -: "وإذا ركع فاركعوا"، وإمامُه في الثانية راكع، فيجب أن يركع معه. فإن قيل: فقد قال: "فإذا سجد فاسجدوا"، وقد سجد الإمام، فيجب أن يسجد المأموم أيضًا. قيل له: في تلك الحال لم يكن مأمومًا في السجود؛ لعجزه عنه؛ كما إذا أُمر بغسل اليد اليمنى، فقطعت، سقط الأمر المتعلق بها، وأيضًا: فإنه يمكن متابعة الإمام في ركوعه، فلزمه اتباعه؛ دليله: المسبوق إذا أدرك الإمام راكعًا. فإن قيل: قوله: يمكنه متابعته في الركوع، لا تأثير له في الأصل؛ لأنه لو أدركه، لزمه متابعته. قيل له: التعليل لوجوب الاتباع، والركوع داخل في ذلك، وله تأثير فيه. ¬

_ (¬1) رقم (12656). (¬2) في الأصل: أجمعين، والمثبت من المسند. (¬3) مضى تخريجه في (2/ 272).

واحتج المخالف: بأنه شارك الإمام في الركوع، أو فيما قبله، فإذا فاته السجود معه، لزمه الاشتغال بقضاء الفائت لزمه (¬1)، أصله: إذا زال الزحام والإمام قائم في الركعة الثانية: أنه يشتغل بقضاء الفائتة من الركعة الأولى، وكذلك إذا كان راكعًا، ولم يخف المأموم فوتَ الركوع إن اشتغل بقضاء ما فاته. والجواب: أن اشتغال المأموم بالسجود في الركعة الأولى مع قيام الإمام في الركعة الثانية قبل الركوع فيما ورد الشرع به في حال العذر، ووقعت فيه المسامحة والعفو؛ بدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعسفان صلاة الخوف، فصلى بأصحابه، فقام وقرأ، وركع وسجد بهم، إلا صفًا لم يسجد، ووقفوا قيامًا يحرسون العدو، ولما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سجد معه، وقاموا في الركعة الثانية، سجد من لم يسجد، فكانوا في السجود، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم في الركعة الثانية (¬2)، وما زاد على ذلك: وهو أن يكون الإمام راكعًا، والمأمومون في السجود، فلم يرد بذلك شرع، فوجب أن يكون منهيًا عنه؛ لأن الأصل وجوبُ المتابعة للإمام إلا جهلًا عليه، إلا في القدر الذي وردت الرخصة، وهو السجود في صلاة عسفان. فإن قيل: المعنى الذي لأجله جاز أن يسبقهم بالسجود: ما ذكرنا، وهو المشاركة في الركوع من الركعة الأولى، فلزمهم الاشتغال بقضاء الفوائت معه، فإذا وجد هذا المعنى في الكثير، وجب أن يكون حكمها ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، فكأن لفظة: لزمه، زائدة. (¬2) مضى تخريجه في (2/ 414).

فصل

في هذا الباب حكم اليسير. قيل: لا يجوز أن يقال هذا المعنى: إذا وجد في الكثير، يجب أن يوجد في القليل اليسير، كما لا يجوز أن يعمل عملًا كثيرًا في الصلاة، ويجوز اليسير، وكذلك إذا سلّم من نقصان في الصلاة، فإن تطاول الفصل، ابتدأ الصلاة، وإن قلَّ، بنى عليها، كذلك ها هنا يجوز أن يقال: إن ترك المشاركة في السجدتين، يعفى عنه؛ لأنه ركن واحد، وما زاد عليه كثيرًا، فلا يعفى عنه. * فصل: وفيما ذكرنا دلالة على منع التشاغل بالقضاء من أصحابنا؛ لأن ظاهر قوله - عليه السلام -: "إذا ركع فاركعوا"، يقتضي عموم ذلك في حال ركوعه، وبعد الفراغ منه؛ ولأنه يمكنه متابعة الإمام في الركوع، فهو كالمسبوق إذا أدركه راكعًا، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - تشاغلوا بقضاء السجود خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، ولم ينكر عليهم، فدل على أنه يجوز التشاغل بذلك. واحتج: بأنه (¬1) من منع ذلك، لم يشارك الإمام في الركوع، فصار كما لو دخل في صلاته بعد ما رفع، ثم ركع وتابعه، وكما لو أدركه في الركوع، فكبر ولم يركع (¬2) حتى رفع الإمام، فإنه لا يعتد بتلك الركعة، ولا يتشاغل بالقضاء. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) في الأصل: يرفع، والصواب المثبت.

150 - مسألة: تجب الجمعة على الأعمى إذا وجد قائدا

والجواب: أنه لم يدرك الركوع مع الإمام، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه قد أدركه، وشاركه فيه، ويلزمه التشاغل به؛ كما لو أدرك محله قبل أن يرفع. * * * 150 - مَسْألَة: تجب الجمعة على الأعمى إذا وجد قائدًا (¬1): نص عليه في رواية عبد الله (¬2)، فقال: والأعمى لا يقدر على إتيانها إلا بقائد، فليست عليه، إلا أن يقدر على إتيانها. وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬3)؛ خلافًا لأبي حنيفة - رحمه الله - في قوله: لا تجب عليه (¬4). دليلنا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهذا عامّ. ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (3/ 219)، ومختصر ابن تميم (2/ 333)، وكشاف القناع (3/ 246). (¬2) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة. (¬3) ينظر: المهذب (1/ 355)، والبيان (2/ 545). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: المذهب (1/ 296)، ومواهب الجليل (2/ 560). (¬4) ينظر: مختصر القدوري ص 102، وتحفة الفقهاء (1/ 271).

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجب الجمعة على مريض، ولا مسافر، ولا عبد" (¬1)، فلما خص هؤلاء بالإسقاط، دل على أن من عداهم تجب عليه. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن أم مكتوم: "تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: "لا أجد لك عذرًا" (¬2)، فلما [لم] (¬3) يُسْقِط عنه الجماعة، فأولى أن لا تسقط عنه، مع الاتفاق على السعي إليها. فإن قيل: فظاهر الخبر مُطَّرح؛ فإنه قال فيه: ليس لي قائد يلائمني؟ فقال: "مد حبلًا، لا أجد لك عذرًا" (¬4)، فأوجب عليه مع عدم القائد. قيل: لأنه وجد ما يقوم مقام القائد، وهو مد الحبل إلى موضع الصلاة، ولأنه فقد حاسة، فلم يسقط حضور الجمعة؛ دليله: السمع، والذوق، ولا يلزم عليه الجنون؛ لأنه ليس بفَقْد حاسة، وإنما هو فقد العقل، وهو علم من العلوم الضرورية، ولأن أكبر ما فيه: أنه لا يُهدى الطريق بنفسه، وهذا لا يمنع من الإيجاب؛ كالبصير إذا لم يُهْدَ الطريق إلى الجامع، فإنه يلزمه إذا وجد من يهديه، ولأنا قد استوفينا الكلام في مثل هذه المسألة في كتاب الحج هل يلزم الأعمى أم لا؟ وحكينا خلاف ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وقد مضى تخريج بعض الأحاديث الدالة على معناه في ص 109. (¬2) مضى تخريجه في (2/ 243). (¬3) إضافة يقتضيها الكلام. (¬4) مضى تخريجه في (2/ 243)، ولفظة: "مد حبلًا" لم أجدها.

أبي حنيفة - رحمه الله -، وأنه لا يلزم. واحتج المخالف: بأنه محتاج فيها إلى قطع مسافة، فلا تجب على الأعمى؛ كالجهاد. والجواب: أن القصد من الجهاد إثباتُ أعيان الكفار لقتالهم، وهذا متعذر في حق الأعمى، فأما الجمعة، فإنه يمكنه أن يقصدها بنفسه، وإنما لا يُهدى الطريق، وهذا لا يمنع الإيجاب؛ كالبصير إذا لم يعرف الطريق، وإن قاسوا على المريض، فالمعنى: أنه لا يمكنه أن يأتي المسجد بنفسه، وها هنا يمكنه، وقد نقل الميموني (¬1) قال: سئل أبو عبد الله عن رجل مريض لا يقدر أن يأتي الجمعة ماشيًا، يكتري ويركب؟ قال: لم أجعل ذا عليه أن يكون له قوة أو فضل، فيكتري ويركب. وهذا محمول علي أنه لا يقدر؛ لضعف يجده عقب (¬2) المرض، فيلزمه الركوب؛ لأن المرض قد زال، فأما إن كان المرض باقيًا، فلا يلزمه؛ لأن العذر باقٍ. آخر الجزء الثامن عشر من أجزاء المصنف - رحمة الله عليه وعلى كاتبه ووالديهما ولجميع المسلمين - * * * ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية الميموني، وقد نقلها: المروذي عنه. ينظر: الفروع (3/ 61)، والمبدع (2/ 95)، والإنصاف (4/ 464)، وكشاف القناع (3/ 241). (¬2) في الأصل: عقبه، والتصويب من الفروع (3/ 61).

151 - مسألة: إذا صلى الجمعة [بالعبيد] والمسافرين، لم يجزئهم

151 - مَسْألَة: إذا صلى الجمعة [بالعبيد] (¬1) والمسافرين، لم يجزئهم (¬2): وأصل المذهب في ذلك مذكور في المسألة التي بعدها، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬3). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تنعقد بهم، وتجزئهم (¬4). دليلنا: أنهم ليسوا من أهل فرض الجمعة، فلم تنعقد بهم؛ قياسًا علي النساء والصبيان، [ولا يلزم] (¬5) عليه المرضى أنه تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم إذا حضروها، صاروا (¬6) من أهل فرضها، وإن شئت قلت: كل من لا تنعقد بهم الجمعة في القرى لا تنعقد بهم في المصر، أصله: ما ذكرنا، وإذا كانوا ثلاثة، ............................................... ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والتتمة من رؤوس المسائل للمؤلف لوح 22، والجامع الصغير ص 58، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 213). (¬2) ينظر: الجامع الصغير ص 58، والمغني (3/ 220)، والمحرر (1/ 229)، والإنصاف (5/ 173). (¬3) ينظر: الحاوي (2/ 403 و 404)، والمهذب (1/ 359). وهو قول عند المالكية ذهب إليه سحنون. ينظر: المذهب (1/ 301)، ومواهب الجليل (2/ 523). (¬4) ينظر: التجريد (2/ 936)، وحاشية ابن عابدين (5/ 37). (¬5) ليست في الأصل، والسياق يقتضيها؛ كعادة المؤلف - رحمه الله -. (¬6) في الأصل كررها مرتين.

152 - مسألة: لا يجوز أن يكون المسافر إماما في الجمعة، وكذلك العبد، إذا قلنا: إن الجمعة لا تجب عليه

ولأن العبيد ليسوا (¬1) من أهل فرض الجمعة، فلم تنعقد بهم؛ كالنساء. واحتج المخالف: بأن العبيد والمسافرين يجوز أن يكونوا أئمة في الجمعة، فجاز أن تنعقد بهم الجمعة إذا كانوا مأمومين؛ قياسًا على الأحرار المقيمين، يبين صحة هذا: أن الجمعة لا تنعقد إلا بإمام ومأمومين، وكل واحد منهما شرط في صحتها، فإذا جاز أن تنعقد بهم إذا كانوا أئمة، كذلك إذا كانوا مأمومين. والجواب: أنا لا نسلِّم هذا: أنه لا يجوز أن يكون العبد والمسافر إمامًا في الجمعة، وهذه المسألة يأتي الكلام عليها - إن شاء الله تعالى -، وعلى أن المعنى في الأربعين إذا كانوا أحرارًا مقيمين: أن العدد المخاطبين بفرض الجمعة قد وجد، فجاز أن تنعقد بهم الجمعة، والعدد المخاطبون بفرضها قد عدم ها هنا، فلهذا لم تنعقد بهم، والله أعلم. * * * 152 - مَسْألَة: لا يجوز أن يكون المسافر إمامًا في الجمعة، وكذلك العبد، إذا قلنا: إن الجمعة لا تجب عليه: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية صالح (¬2)، .......... ¬

_ (¬1) في الأصل: العدد ليس. (¬2) في مسائله رقم (932)، ونقل نحوها الكوسجُ في مسائله رقم (515)، وأبو داود في مسائله رقم (395)، وينظر: الجامع الصغير ص 58، والمحرر =

وعبد الله (¬1) - وقد سئل عن مسافر صلى بمقيمين الجمعة؟ -، فقال: ليس علي المسافر جمعة، إلا أن يدخل الحضر، فيشهد الجمعة. فظاهر هذا: أنه لم يجز إمامته. قال أبو بكر - رحمه الله - في كتاب الشافي (¬2): لا تجزئ المقيمين إذا صلى بهم المسافر الجمعة؛ لأنه ليس مخاطبًا (¬3) بها، وبهذا قال مالك - رحمه الله - (¬4). وقال أبو حنيفة (¬5)، والشافعي (¬6) - رحمهما الله -: يجوز. دليلنا: أنه ليس من أهل فرض الجمعة، فلا يصح أن يكون إمامًا فيها؛ دليله: النساء، وإن شئت قلت: من لا يصح أن يكون إمامًا في الجمعة في القرية لا يصح أن يكون في مصر؛ دليله: ما ذكرنا، أو نقول: من لا يصح أن يكون إمامًا للجمعة في موضع آخر من المصر لا يصح في الموضع الأول. فإن قيل: المعنى في المرأة: أنه لا يصح إمامتها للرجال في غير ¬

_ = (1/ 229)، وشرح الزركشي (2/ 200). (¬1) في مسائله رقم (575 و 592). (¬2) في الأصل: الشافعي. (¬3) في الأصل: مخاطب. (¬4) ينظر: المدونة (1/ 157)، والإشراف (1/ 334). (¬5) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 331)، ومختصر القدوري ص 102. (¬6) ينظر: الأم (2/ 383)، ومختصر المزني ص 44.

الجمعة، فلهذا لم يصح في الجمعة، والمسافر، والعبد تصح إمامته في غير الجمعة، فصح في الجمعة. قيل له: إذا كان إمامًا في غير الجمعة، يجب أن يكون في الجمعة، كما أنه تنعقد به الجماعة في غير الجمعة، ولا تنعقد به الجمعة، على أن المرأة تصح إمامتها بالنساء في غير الجمعة في الصلاة الفرض، ولا تصح في الجمعة، وإذنُ الإمام غير معتبر في سائر الصلوات، وإذنه معتبر عند أبي حنيفة - رحمه الله - في الجمعة، فلم يصح اعتبار الإمامة فيها بالإمامة في غيرها، ولأن الجمعة تفتقر إلى إمام ومأموم، وقد قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬1): إنها لا تنعقد بعبد ولا مسافر إذا كانا (¬2) مأمومين، فكذلك يجب أن لا تنعقد بهم إذا كانوا أئمة، يبين صحة هذا: أن الإمامة آكد، ولهذا يصح أن تأتم المرأة بالرجل، والأمي بالقارئ، ولا يصح أن تؤمّه (¬3) المرأة، ولا يؤمّه الأمي، ثم ثبت أن هذا المعنى إذا وجد في المأموم، منع صحة الجمعة، فأولى إذا وجد في الإمام. فإن قيل: إذا اجتمع العدد المشروط بأوصافهم، وجبت عليهم الجمعة، فإذا قدموا عبدًا أو مسافرًا، انعقدت الجمعة، وكان العبد أو المسافر تابعًا لأهل الفرض، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنهم ليسوا من أهل الفرض، فيصيرون في حكم التبع، فلا تنعقد بهم الجمعة. ¬

_ (¬1) ينظر: الحاوي (2/ 403 و 404)، والمهذب (1/ 359). (¬2) في الأصل: كانوا. (¬3) في الأصل: يؤمه.

153 - مسألة: إذا صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل أن يصلي الإمام من لا عذر له، كانت صلاته باطلة

قيل له: قولك: إنهم إذا قدموا عبدًا، صار تابعًا لأهل الفرض، لا معنى له؛ لأن الإمام لا يجوز أن يكون تابعًا للمأمومين بوجه، فإذا لم يصح أن يكون مأمومًا، لم يصح أن يكون إمامًا. واحتج المخالف: بأن من جاز أن يكون إمامًا للرجال في غير الجمعة، جاز أن يكون في الجمعة؛ دليله: الحر المقيم. والجواب: أنا قد أفسدنا اعتبار الجمعة بغيرها في الإمامة، وعلى أن المعنى في الحر المقيم: أنه من أهل فرض الجمعة، وهذا ليس من أهل فرضها، فهو كالمرأة، والله أعلم. * * * 153 - مَسْألَة: إذا صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل أن يصلي الإمام مَنْ لا عذرَ له، كانت صلاته باطلة: نص عليه في رواية صالح (¬1)، وابن منصور (¬2): فيمن صلى في بيته الظهر أربعًا، فإن أدرك الإمام، جمع، وإن لم يدرك الإمام، أعاد الظهر؛ لأنه لا ينبغي أن يصلي الظهر حتى تفوته الجمعة. ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر: مختصر الخرقي ص 60، والمغني (3/ 221)، والمحرر (1/ 247)، وشرح الزركشي (2/ 203). (¬2) في مسائله رقم (530).

وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تجزئه صلاته ما لم يخرج بعد ذلك يريد الجمعة، فإن خرج بنية الجمعة، انتقضت جمعته (¬1). وقال مالك - رحمه الله -: إن كان في وقت لو سعى إلى الجمعة، لأدركها، أو ركعة منها، لم تجزئه، ويعيدها، وإن كان [في] وقت لو سعى إلى الجمعة، لم يدرك ركعة منها، أجزأه (¬2). وقال الشافعي - رضي الله عنه - في الجديد: مثل قولنا، وقال في القديم: يجزئه بكل حال، وقد أساء (¬3). وهذه المسألة مبنية على أصل: هل فرض الوقت الجمعة، أم الظهر؟ فعند أحمد - رحمه الله -: فرض الوقت الجمعة. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: فرض الوقت الظهر، وعليه إسقاطه بإتيان الجمعة. وتبين الخلاف في أصل آخر: فمن حضر الجمعة، وهو ذاكر للفجر، فخاف أن تفوته الجمعة إن اشتغل بالفجر: يصلي الجمعة، ويؤخر الفائتة؛ كمن ذكر الفجر في آخر وقت الظهر: يبدأ بالظهر. وعند أبي حنيفة: يبدأ بالفجر؛ لأنه إن فاتته الجمعة، صلى فرض الوقت عنده، وهو الظهر من غير فوات، وقد نص أحمد - رحمه الله - ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 349)، ومختصر القدوري ص 102. (¬2) ينظر: المدونة (1/ 157)، والإشراف (1/ 326). (¬3) ينظر: المهذب (1/ 357)، وحلية العلماء (1/ 259).

على هذا الأصل أيضًا في رواية مهنا (¬1): فيمن نسي صلاة، فذكرها وهو في المسجد يوم الجمعة عند حضور الجمعة، قال: يبدأ بالجمعة، هذه يخاف فوتها. وقد خرج أبو إسحاق بن شاقلا - رحمه الله -: وجهين في فرض الوقت، هل هو الجمعة، أم الظهر (¬2)؟ وشرح كلامه أنه قال: يتوجه لأحمد - رحمه الله - في المسألة قولان: أحدهما: أن الجمعة ظهر مقصورة؛ لأنه (¬3) قال: إنما قصرت الصلاة من أجل الخطبة، وقال في موضع آخر: هي عيد، قال: والأشبه بمذهبه: أنه لا يقال: إنها ظهر، إلا أنه لا يختلف قوله: إن الجمعة تجزئ قبل الزوال، فهذا بمذهبه أشبه، ثم قال: ولو كانت ظهرًا مقصورة بأوصاف، جاز أن يصليها أكثر من ركعتين مع وجود الأوصاف؛ كصلاة السفر لما كانت ظهرًا مقصورة، جاز أن يصليها أكثر من ركعتين مع وجود الأوصاف، فلما لم يجز ذلك، بطل أن تكون (¬4) ظهرًا مقصورة. فإن قيل: الجمعة إذا صُليت، سقط الظهر، فدل على أن الجمعة ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 133)، والمغني (2/ 341)، وينظر: أول مسألة في هذا الجزء المحقق. (¬2) ينظر: الفروع (3/ 143)، وشرح الزركشي (2/ 188)، والإنصاف (5/ 160)، وفتح الباري (5/ 530). (¬3) في الأصل: لأنها. (¬4) في الأصل: يكون.

ظهر، ولو كانت عيدًا، لم تسقط الظهر؛ كصلاة العيد. قيل: إنما سقطت؛ لأنها بدل عنها؛ كما أن التيمم بدل عن الماء، ومعلوم أن التيمم ليس هو الوضوء بالماء، وفارقت (¬1) صلاة العيد؛ لأنها فرض علي الكفاية، فلا تسقط فرضًا على الأعيان، والجمعة فرض على الأعيان. فهذا كلام أبي إسحاق. والدلالة على أن فرض الوقت الجمعة: ما روى محمد بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة في يوم الجمعة، إلا مريض أو امرأة أو مملوك" (¬2)، فأخبر أن الواجب عليه في يوم الجمعة صلاة الجمعة، وعندهم: أن الواجب هو الظهر، ولأنها صلاة مؤقتة يأثم بتركها، فوجب أن تكون واجبة بنفسها؛ كسائر الصلوات، ولا يلزم عليه إذا ترك قضاء الصلوات حتى مات: أنه يأثم بذلك، وليس بواجب في نفسه؛ لأن تلك الصلاة غير مؤقتة، ولأن الأبدال على ضربين: بدل مرتب لا يجوز فعله إلا عند العجز عن المبدل منه؛ مثل: الصوم في كفارة الظهار، والقتل، وغير ذلك. وبدل مخير يجوز الإتيان به مع القدرة علي المبدل، وتركه يجوز، والإتيان بالبدل؛ مثل: الصوم في كفارة اليمين، وليس في الأصول بدل يجب فعله مع القدرة على المبدل، ولا يجوز فعل المبدل لقدرته عليه، وعندهم: أن الجمعة ¬

_ (¬1) في الأصل: فارق، والمراد: صلاة الجمعة. (¬2) مضى تخريجه في ص 108.

هي بدل عن الظهر، ولا يجوز فعل الظهر التي هي مبدلها لقدرته عليها، وهذا مخالف للأصول. فإن قيل: لا يمتنع ذلك، ألا ترى أنه لو حضرته الصلاة، ومعه ماء، وهو محتاج إليه لإحياء نفسه، فترك البدل (¬1) وهو التيمم، واستعمل الماء، كان عاصيًا بتركه البدل إلى المبدل؟ كذلك لا يمتنع في مسألتنا. قيل له: إنما يعصي هناك بإتلاف الماء دون الوضوء، ألا ترى أنه لو أراق الماء، ولم يتوضأ، كان عاصيًا؟ وها هنا يعصي بفعل المبدل عندك، وهو الظهر، فسقط هذا، ويدل على أنه لا يصح فعل الظهر مع القدرة على الجمعة هو: أن كل صلاة حكم بفسادها بعد السعي إلى غيرها وجب أن يحكم بفسادها قبل السعي؛ دليله: إذا صلى الظهر قبل الزوال، أو صلاها على غير طهارة، تبين صحة هذا: أنه مأمور بالظهر بعد فوات الجمعة، فإذا صلوا قبل فواتها، كانت في معنى من صلاها قبل الزوال، وقبل فعل الطهارة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لو صلى هكذا في غير يوم الجمعة، لم يصح، كذلك في يوم الجمعة، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه لو صلاها في غير الجمعة، صحت، كذلك إذا صلاها في يوم الجمعة. قيل له: هذا يبطل بالجمعة؛ فإنه لو صلاها في غير يوم الجمعة، لا تصح، وفي يوم الجمعة تصح. ¬

_ (¬1) في الأصل: الدل.

واحتج المخالف على أن فرض الوقت الظهر: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "وقت الظهر بزوال (¬1) الشمس"، ولم يفرق بين يوم الجمعة، وبين سائر الأيام. والجواب: أن الخبر يقتضي أنه إذا كان للظهر وقت، فإن أوله الزوال، ولسنا نسلم أن للظهر وقتًا في يوم الجمعة حتى يكون أوله الزوال. واحتج: بأنه لو لم يصل الإمام الجمعة حتى خرج الوقت، صلى الظهر فائتة، فلو لم يكن فرضه الظهر في الوقت، لما صلاها فائتة بعد خروج الوقت؛ لأنها لزمته حين أداها. والجواب: أن هذا يدل على أن الظهر بدل عن الجمعة؛ لأن البدل ما وجب فعله لتعذر غيره، والظهر يوم الجمعة تفعل لتعذر الجمعة وفواتها، فدل على أنها بدل من الجمعة. واحتج: بأنه وقت لهذه الصلاة في سائر الأيام، فوجب أن يكون وقتًا لها في يوم الجمعة؛ دليله: سائر الأوقات. والجواب: أنه يبطل بما بعد غروب الشمس، هو وقتٌ لصلاة المغرب في سائر الليالي، وليس بوقت لها عند أبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله - ليلة المزدلفة؛ لأنه لو صلاها بعد غروب الشمس في ¬

_ (¬1) في الأصل: يزول، ولم أقف على لفظه، وقد أخرج مسلم نحوه، كتاب: المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس، رقم (612).

الطريق، لم تجزئه (¬1)، فما ينكر أن يكون بعد الزوال وقتًا للظهر في سائر الأيام، ولا يكون وقتًا في يوم الجمعة. فإن قيل: بعد الغروب هو وقت لصلاة المغرب ليلة المزدلفة، وهو إذا دفع من عرفات قبل غروب الشمس، وحصل بالمزدلفة في وقت المغرب، فإنه يصليها في وقتها؛ لأنه مأمور بفعلها بالمزدلفة. قيل له: إن كان التعليل لأن يكون الزوال وقتًا للظهر بحال في يوم الجمعة، فنحن نقول بموجبه، وهو في حق المعذور، ومن لا تلزمه الجمعة، وإن كان التعليل للوجوب في كل حال، فهو منتقض بما بعد الغروب؛ فإنه وقت للمغرب في سائر الليالي في غير ليلة المزدلفة، وليس بوقت لها في ليلة المزدلفة في كل حال، فلا فرق بينهما. وجواب آخر عن أصل الدليل: وهو أن المعنى في سائر الأيام: أن المأمور به فعلُ الظهر، وليس كذلك في يوم الجمعة؛ لأن المأمور هو الجمعة؛ بدليل: أنه لو صلى الظهر، وترك الجمعة، كان عاصيًا، وإذا ترك الظهر، وصلى الجمعة، كان طائعًا، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: لا يمتنع أن يكون فرض الوقت هو الظهر، ويكون الناس مأمورين بإسقاطها بالجمعة. قيل له: إذا كانوا مأمورين بالجمعة، منهيين عن تركها، وإذا فعلوها سقط الفرض، لم يجز أن يكونوا مسقطين لما لم يفرض عليهم. ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر القدوري ص 146.

واحتج: بأنه لو كان فرض الوقت الجمعة، لامتنع وجوب الظهر بعد خروج الوقت؛ لوجود السبب المنافي لوجوبها في الوقت، ألا ترى أن الحائض لو طهرت بعد خروج وقت الظهر، لم يلزمها الظهر؛ لوجود السبب المنافي لوجوبها في الوقت؟ فلما اتفقوا أن عليه الظهر بعد خروج الوقت إذا لم يصل في الوقت، علم أن فرض الوقت الظهر. والجواب: أن الوقت لم يخل من فرض المبدَل، وهو الجمعة، واذا تعذر فعل الجمعة بفوات وقتها، وجب أن ينتقل إلى البدل، وهو الظهر؛ كما ينتقل إلى أبدال سائر المبدلات عند تعذرها، وليس كذلك الحائض، لأن الوقت في حقها خلا عن فرض الظهر، وعن مبدلها، وهو الجمعة، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج: بأن لو كانت الظهر هي الفرض، لوجب إذا فاتت أن تقضى كسائر الصلوات المفروضات، فلما لم تقض (¬1)، دل على أنها ليست هي الفرض. والجواب: أن سقوط القضاء لا يمنع توجه الأمر؛ بدليل: صلاة الجنازة لا تقضى عند أبي حنيفة (¬2)، ومع هذا، فهي واجبة، وكذلك النوافل الراتبة، وعلى أنها إنما لم تقض؛ لعدم بعض شرائطها، وهو الخطبة، والعدد، والإمام، وهذا لا يمنع الإيجاب في الأصل؛ كالرقبة إذا عدمها. ¬

_ (¬1) في الأصل: تقضى، والصواب المثبت. (¬2) ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 396).

واحتج: بأن الجمعة لا يمكنه أداؤها بنفسه؛ لأنها تفتقر إلى عدد، وإمام، وغير ذلك، والإنسان لا يكلَّف عبادة لا يقدر على أدائها بنفسه. والجواب: أن هذا باطل به إذا سعى إليها، فإنه يلزمه الجمعة، وإن لم يمكنه في هذه الحال أداؤها بنفسه، وعلى أنه قد يلزم الإنسان عبادة، وان لم يمكنه أداؤها بنفسه؛ كالأعمى كُلِّف الصلوات، وإن لم يمكنه أداؤها بنفسه، بل يحتاج إلى من يعاونه في الطهارة، والعلم بالجهة، وحصول الوقت. واحتج: بأن كل صلاة جاز فعلها من المريض في يوم الجمعة جاز فعلها من الصحيح في يوم الجمعة؛ كالصبح. والجواب: أن الصبح يؤمر بها في يوم الجمعة على الوجه الذي يؤمر به في غير يوم الجمعة، وليس كذلك الظهر؛ لأنه يؤمر يوم الجمعة بالجمعة دون الظهر، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: فما معنى قول أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل (¬1): صلاة (¬2) الجمعة واجبة فرض، والذهاب إلى الجمعة تطوع سنة مؤكدة. فكيف تكون فريضة، والذهاب إليها سنة وتطوع؟ قيل: لم يرد بالذهاب إليها: القصد، وإنما أراد به أحد شيئين: إما أن يريد به: البكور الذي وردت السنة بفضله، أو يريد به: السعي الذي ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (3/ 159). (¬2) في الأصل: الصلاة الجمعة.

154 - مسألة: إذا صلى الظهر في بيته من لا جمعة عليه؛ كالعبد، والمسافر، والمرأة، والمريض، لم ينتقض ظهره

هو سرعة المشي، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل (¬1): قال الله - عز وجل -: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فسروه على غير وجهه، قالوا: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لو قرأتها، لسعيت حتى يسقط ردائي (¬2). فحمل ابن مسعود السعي على الشدة في المشي، والله أعلم. * * * 154 - مَسْألَة: إذا صلى الظهر في بيته مَنْ لا جمعة عليه؛ كالعبد، والمسافر، والمرأة، والمريض، لم ينتقض ظهره (¬3): وهو ظاهر كلام الخرقي - رحمه الله -؛ لأنه قال (¬4): ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، أعادها بعد صلاته ظهرًا، فأوجب الإعادة في حق مَنْ عليه الجمعة، وظاهر كلام أحمد - رحمه الله - يشهد لذلك؛ لأن أبا بكر المروذي (¬5) قال: كنت ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (3/ 159). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5349)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5604)، والطبراني في الكبير رقم (9539)، : قال ابن حجر: (ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع)، وبنحوه قال الهيثمي. ينظر: فتح الباري (8/ 818)، ومجمع الزوائد (7/ 124). (¬3) في الأصل: طهره. (¬4) في مختصره ص 60. (¬5) لم أقف عليها، وينظر في المسألة: الجامع الصغير ص 58، والهداية =

مع أبي عبد الله بالعسكر، فلم يذهب إلى الجمعة، ولم أذهب أنا، فلما كان الجمعة الأخرى، كنا نسمع النداء، قال: أخاف أن يضيق عليك، اذهب فاشهدها، فمضيت فشهدتها، وكنت قد صليت به أربع ركعات في البيت. فلو كانت قد انقضت ظهره، لم يعتد أحمد - رحمه الله - بإمامته. ولأنه قد قال في رواية حنبل (¬1): لا يجب الغسل يوم الجمعة على من لا يأتي الجمعة. وقال في روايته أيضًا: ومن كان على فرسخين، ولم يقدر، فلا بأس أن يبيع ويشتري. ولم يجعله في حكم من عليه الجمعة في مسنون الغسل، وتحريم البيع في وقت النداء، كذلك يجب أن لا يكون في حكمه في باب صلاة الظهر قبل صلاة الإمام، وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). وقال أبو بكر - رحمه الله - في الإمامة من كتاب الشافي: وإذا صلى المسافر الظهر، فوجدهم لم يصلوا الجمعة، والمريض، والخائف، والمحبوس، لم تجزئهم صلائهم؛ لأنه لا يجوز أن يصلوا قبل الجمعة (¬3). ¬

_ = ص 109، والمغني (3/ 222)، والمحرر (1/ 247)، والفروع (3/ 143)، والإنصاف (5/ 179). (¬1) لم أقف عليها، وينظر: مسائل ابن هانئ رقم (460)، والمغني (3/ 225)، والفروع (1/ 263)، والإنصاف (2/ 117 - 5/ 268)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 343). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 423)، والمهذب (1/ 357). وإليه ذهبت المالكية. ينظر: التاج والإكليل (2/ 540)، وشرح الخرشي (2/ 84). (¬3) ينظر: الهداية ص 109، والتمام (1/ 232)، والمغني (3/ 222)، ومختصر =

وقال في كتاب التنبيه أيضًا: لا يجوز للمسافر، ولا للمريض، ولا من هو مخاطبٌ بالجمعة وغيرُ مخاطبٍ: أن يصلي ظهرًا قبل صلاة الإمام الجمعة، ومن صلى، لم تجزئه، وعليه الإعادة (¬1). وقد أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله (¬2): في المريض يؤخر الصلاة حتى يصلي الإمام، ولا يتقدم الإمام. فقد منع المريض التقدم. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا صلى في بيته، ثم خرج يريد الجمعة، انتقض ظهره (¬3). فحكمُه عنده حكمُ من يجب عليه الجمعة. دليلنا: أن كل صلاة صحت في منزله لم تبطل بدخوله بعد ذلك في صلاة الإمام، أصله: إذا صلى الظهر في منزله، ثم حضر الجماعة، ودخل في صلاة الإمام: أن ظهره لا ينتقض، كذلك ها هنا. فإن قيل: يُقلب هذا عليكم، فنقول: وجب أن يكون المعذور وغير المعذور فيما ذكرت سواء، أصله: صلاة الظهر. قيل له: فرض المعذور وغير المعذور في الظهر فرض واحد، وهو الظهر؛ بدليل: أنه لا يأثم بترك غيرها، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يختلف ¬

_ = ابن تميم (2/ 413)، وشرح الزركشي (2/ 204). (¬1) ينظر: الإنصاف (5/ 179)، وطبقات الحنابلة (3/ 161). (¬2) في مسائله رقم (574). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 349)، ومختصر القدوري ص 102.

155 - مسألة: لا يكره للعبد والمسافر والمريض أن يصلوا الظهر في يوم الجمعة جماعة

المعذور وغيره في الفرض، فغير المعذور يلزمه إتيان الجمعة، ويأثم بتركها، والمعذور لا يلزمه ذلك، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج المخالف: بأن المعذور تصح له الجمعة؛ بدلالة: إذا صلاها معه في الثاني، يجب أن يصح؛ كمن عليه الجمعة، وإذا صحت الجمعة، لم تجزئه الظهر عن الفرض؛ قياسًا على من عليه الجمعة. والجواب: أن من عليه فرضها مأمور بإتيانها، عاصٍ بتركها، فلهذا إذا صلاها مع الإمام، كان فرضه الجمعة، ولم تجزئه الظهر، وليس كذلك هذا؛ لأنه ليس عليه إتيان الجمعة، وفرضه الظهر، وقد صلاها، فيجب أن تجزئه، ولا تبطل بإتيان الجمعة بعد ذلك، كما قلنا في صلاة الظهر إذا صلاها في بيته، ثم حضرها مع الإمام، والله أعلم. * * * 155 - مَسْألَة: لا يكره للعبد والمسافر والمريض أن يصلُّوا الظهر في يوم الجمعة جماعة (¬1): وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية حنبل (¬2): في المسافرين إذا أدركهم يوم الجمعة، وحضرت صلاة الظهر: صلوا بأذان وإقامة، إنما هي ظهر. ¬

_ (¬1) ينظر: المغني (3/ 223)، والفروع (3/ 143)، والإنصاف (5/ 181). (¬2) ينظر: الفروع (3/ 194).

وقال في رواية المروذي (¬1): في القوم تفوتهم الجمعة، فإن كانوا ثلاثة أو أربعة، جمعوا، قد صلى عبد الله بعلقمة والأسود - رضي الله عنهم -، فقال له رجل: إنا جمعنا في المسجد، فاجتمع الناس علينا، فتبسم، وقال: [ ... ] (¬2) من العامة، ونحو هذا نقل حنبل، وقال في رواية الأثرم (¬3): فيمن فاتتهم الجمعة إذا كانوا اثنين وثلاثة، جمعوا، فإذا كانوا أكثر من ذلك، فلا أعرفه، وبهذا قال الشافعي (¬4) - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يكره ذلك (¬5). دليلنا: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمسة وعشرين درجة" (¬6)، ولم يفرق. ولأنه إجماع السلف - رحمهم الله -، فروى أحمد - رحمه الله - (¬7)، ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وقد نقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (572 و 573)، وابن هانئ في مسائله رقم (450 و 452)، وينظر: فتح الباري لابن رجب (4/ 26). (¬2) جملة لم أهتد لقراءتها. (¬3) ينظر: الإنصاف (5/ 182). (¬4) في الأصل: وبهذا الشافعي. ينظر: الأم (2/ 377)، والأوسط (4/ 109). وهو قول المالكية. ينظر: (1/ 159)، والمعونة (1/ 226). (¬5) ينظر: مختصر القدوري ص 102، والهداية (1/ 83). (¬6) مضى تخريجه في (1/ 469). (¬7) أخرجه ابنه صالح في كتابه سيرة الإمام أحمد ص 37، عن الإمام أحمد، عن عبد الرحمن ... وذكر الأثر، وقد احتج به - رحمه الله - في مسائل =

ذكره أبو بكر الخلال في العلل قال: نا عبد الرحمن (¬1) عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله (¬2) قال: فاتتني الجمعة أنا وزِرٌّ (¬3)، فصلينا في جماعة، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: قد فعله ابن مسعود بعلقمة والأسود في يوم جمعة (¬4). وروى أيضًا أحمد - رحمه الله - (¬5) قال: نا زيد بن حُباب (¬6) قال: ¬

_ = عبد الله رقم (572)، ومسائل ابن هانئ رقم (452)، وينظر: سير أعلام النبلاء (11/ 298). (¬1) هو: ابن مهدي، مضت ترجمته. (¬2) في الأصل: عبد الله. والحسن هو: ابن عبيد الله بن عروة النخعي، أبو عروة الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة فاضل)، توفي سنة 139 هـ. ينظر: التقريب ص 145. (¬3) في الأصل: ذر. وزِر هو: ابن حُبيش بن حُباشة الأسدي، الكوفي، أبو مريم، قال ابن حجر: (ثقة جليل)، توفي سنة 82 هـ. ينظر: التقريب ص 202. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5456)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 108)، والطبراني في الكبير رقم (9544)، ومضى أن رواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - منقطعة. (¬5) أخرجه ابنه صالح في كتابه سيرة الإمام أحمد ص 38، عن الإمام أحمد، قال: ... ثم ذكر الأثر. (¬6) أبو الحسين العُكْلي، قال ابن حجر: (صدوق يخطئ في حديث الثوري)، توفي سنة 230 هـ. ينظر: التقريب ص 211.

أخبرني جميل بن عبيد (¬1) الطائي (¬2) قال: جئت إلى المسجد يوم الجمعة، فوجدت الناس قد صلوا، وجاء إياس (¬3) - وهو يومئذ قاضي (¬4) البصرة - قال: فصلى بنا في الزاوية (¬5)، فتقدم، فصلَّى بنا في جماعة (¬6). وروى أيضًا أحمد - رحمه الله - (¬7) قال: نا عبد الرحمن عن أبي عوانة (¬8)، عن بعض أصحابه: أن سويد بن غفلة فاتته الجمعة، فصلى الظهر في جماعة (¬9). وروى أحمد (¬10) عن عبد الرزاق عن سفيان: أنه كان ربما جمع ¬

_ (¬1) في الأصل: عبد. (¬2) جميل بن عبيد الطائي، وثقّه ابنُ معين. ينظر: الجرح والتعديل (2/ 519). (¬3) ابن معاوية بن قرة بن إياس المزني، أبو واثلة البصري، قال ابن حجر: (القاضي المشهور بالذكاء: ثقة)، توفي سنة 122 هـ. ينظر: التقريب ص 89. (¬4) في الأصل: قاضٍ. (¬5) في الأصل: الزواية. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5442)، وجعله قولًا لإياس، ابنُ المنذر في الأوسط (4/ 109)، والإشراف (2/ 116). (¬7) أخرجه ابنه صالح في كتابه سيرة الإمام أحمد ص 38، عن الإمام أحمد عن ابن مهدي ... (¬8) اسمه: وضّاح اليشكري، الواسطي، البزاز، أبو عوانة، مشهور بكنيته، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 176 هـ. ينظر: التقريب ص 650. (¬9) أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/ 133). (¬10) أخرجه ابنه صالح في كتابه سيرة الإمام أحمد ص 37.

الأعمش (¬1) بعد الجمعة (¬2). ولأنها صلاة، فاستحب فعلها في جماعة؛ دليله: سائر الصلوات، وسائر الأيام. فإن قيل: لما استحب إظهار الجماعة في غير يوم الجمعة، لهذا استحب فعلها فيه، وليس كذلك في يوم الجمعة؛ لأنه لا يستحب إظهارها في المساجد، ولا تكثير الجمع فيها، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية الأثرم (¬3): إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، جمّعوا، وإذا كانوا أكثر، فلا أعرفه. قيل له: أما قولك: إنه لا يستحب إظهارها، فليس عن أحمد ما يمنع منه، وقد نقل المروذي عنه: أن رجلًا ذُكر له أنه جمع في المسجد، واجتمع الناس، فلم ينكر عليه ذلك، ولا كرهه، وتبسم إلى ذلك. وقد نقل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (¬4) قال: فاتت الجمعة لي ولأبي عبد الله ولرجل آخر، فدخل أبو عبد الله بعض المساجد، فصلى بنا، وقام وسطنا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولفظه في مصنف عبد الرزاق: (قال سفيان: وربما فعلته أنا والأعمش). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5456)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 108)، والطبراني في الكبير رقم (9544). (¬3) ينظر: الإنصاف (5/ 182). (¬4) في مسائله رقم (450).

وهذا يدل على أنه ما كان يكره إظهارها. وأما قلة الجمع (¬1)، وعلى أنه لو كره إظهارها، وكثرة الجمع فيها، لم يضر؛ لأنه ربما اتهموا بالرغبة عن الصلاة خلف الإمام، فيعاقبهم الإمام إذا لم تكن أعذارهم ظاهرة، أما إذا كانت ظاهرة، فلا يكره ذلك، وعلى أن أبا حنيفة (¬2) - رحمه الله -: يستحب الأذان والإقامة للظهر في يوم الجمعة، ولا يستحب إظهاره (¬3)، ويجيز الفطر في يوم الثلاثين من رمضان إذا رأى هلال شوال وحده، ويُسِرُّ به (¬4). فإن قيل: إنما كرهنا إظهار الأذان والإقامة؛ لأنهما يظهران الجماعة، ولما كرهنا الجماعة، كرهنا الأذان. قيل له: فكان يجب أن لا يستسر بالأذان؛ لأنه يستحب إظهاره، ولما قلت: إنه مستحب، وإن كان مستسرًا به، كذلك الجماعة. ¬

_ (¬1) في الأصل طمس بمقدار كلمتين. (¬2) كررت مرتين في الأصل. (¬3) محل نظر، فعند الحنفية: أن من فاتته الجمعة لا يصلي الظهر جماعة، بل تكره الجماعة، ويصلي بلا أذان ولا إقامة. ينظر: حاشية ابن عابدين (5/ 69). (¬4) مسألة أنه يجيز الفطر لمن رأى هلال شوال سرًا لمن رآه، محل نظر، فإني لم أجد أن أبا حنيفة - رحمه الله - قال به، بل المصرح به في مذهبه: الإمساكُ وعدم الفطر. ينظر: مختصر الطحاوي ص 55، ومختصر اختلاف العلماء (2/ 9).

واحتج المخالف: بأن عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخل من عبيد، ومرضى، ومن لا جمعة عليه، وفرضُه الظهر، ولم ينقل أنه - عليه السلام - أمرهم بالصلاة جماعة، ولم نقل أيضًا: إن أحدًا فعل ذلك. والجواب: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬1) يكفي في البيان، وهذا كما قيل لأصحاب أبي حنيفة - رحمهم الله -: قد كانت بالمدينة مباقل (¬2)، ولو كان يجب فيها العُشْر، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذه، ولو أخذه، لنقل، فقالوا: قوله - عليه السلام -: "فيما سقت السماء العُشر" (¬3) يكفي في بيان وجوبه، كذلك ها هنا، وعلى أنا قد روينا عن جماعة من السلف فعل ذلك. واحتج: أنه لو جاز فعلُها في جماعة، لما كُره إظهارها في المساجد؛ كالظهر في سائر الأيام، فلما لم يجز إظهارها في المساجد؛ كالظهر في سائر الأيام، لم يجز الإخفاء بها. والجواب عنه: ما تقدم، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 260). (¬2) أبقلت الأرض: أنبتت البقل، فهي مبقلة، وكل نبات اخضرت له الأرض فهو بقل، والمراد: مكان زراعة بعض الخضروات. ينظر: الصحاح، ولسان العرب (بَقْل). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: العشر فيما يسقى من ماء السماء، رقم (1483).

156 - مسألة: لا يجوز أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال، رواية واحدة

156 - مَسْألَة: لا يجوز أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال، رواية واحدة (¬1): قال أبو داود (¬2): قلت لأحمد - رحمه الله -: يجيء النفير والإمام يخطب يوم الجمعة، أينفرون؟ فذكر شيئًا كأنه لا يرى أن ينفروا. قال أبو بكر (¬3) في كتاب السير (¬4): إذا لم يُستغاثوا، ولم يتيقَّنوا أمر العدو، لم يخرجوا حتى يصلوا (¬5). وأما السفر قبل الزوال، وبعد طلوع الفجر، ففيه روايات ثلاث (¬6): أحدها: لا يجوز، قال في رواية صالح (¬7): لا يخرج الرجل يوم الجمعة من أهل المصر حتى يجمِّع، ليس هو بمنزلة المسافر. فقد أطلق القول بالمنع. ¬

_ (¬1) ينظر: الجامع الصغير ص 58، والروايتين (1/ 187)، والمستوعب (3/ 16)، والمغني (3/ 247)، والإنصاف (5/ 182). (¬2) في مسائله رقم (414). (¬3) ينظر: الفروع (10/ 229). (¬4) كذا في الأصل، وفي الفروع (10/ 229): (السنن)، ولم أقف على كتاب لأبي بكر - رحمه الله - بهذا العنوان، إلا أن يكون المراد به: مختصر السنة. ينظر: تاريخ بغداد (10/ 459). (¬5) في الأصل: يصلون. (¬6) ينظر: الجامع الصغير ص 58، والهداية ص 110، والإنصاف (5/ 183). (¬7) في مسائله رقم (932).

والثانية: يجوز، قال في رواية أبي طالب (¬1): خرجنا من اليمن نريد عبد الرزاق يوم الجمعة، ولم نصلِّ، فأصابنا شقاء لا يعلمه إلا الله من شدة المطر والريح والحبس، ويقال: لا يكاد أحد يخرج قبل الصلاة إلا أصابه بلاء. فظاهر هذا: أنه يجوز السفر؛ لأنه سافر قبل الصلاة، إلا أنه كرهه، ولم يحرمه. والثالثة: يجوز في النفير خاصة، سواء تعين بالنفير، أو لم يتعين، ولا يجوز السفر لغيره، قال في رواية أبي طالب (¬2): لا يسافر يوم الجمعة قبل الصلاة حتى يصلي، فقيل: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عبدَ الله بنَ رواحة، وجعفر [اً]- رضي الله عنهما -، فتخلف عبد الله؟ فقال: هذا في الجهاد لا بأس به، الجهاد أفضل، وما كان غير الجهاد، فلا يخرج حتى يصلي. فقد صرح بالفرق بين الجهاد وبين غيره. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يجوز السفر قبل الزوال وبعده ما لم يُحرم بالصلاة (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 187). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 187)، والفروع (3/ 145)، والمبدع (2/ 147). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (1966)، والترمذي في جامعه في كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في السفر يوم الجمعة، رقم (527)، وذكر عن شعبة: أن الحكم الراوي عن مقسم لم يسمع منه هذا الحديث، قال النووي: (حديث ضعيف جدًا، وليس في المسألة حديث صحيح). ينظر: المجموع (4/ 255). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 349)، والتجريد (2/ 940).

وقال مالك - رحمه الله -: لا يجوز السفر بعد الزوال، ويجوز قبله، غير مكروه (¬1). وقال الشافعي - رحمه الله -: لا يجوز السفر بعد الزوال، قولًا واحدًا، وهل قبله وبعد طلوع الفجر يجوز؟ على قولين: قال في الجديد: لا يجوز، وفي القديم قال: يجوز (¬2). فالدلالة على أنه لا يجوز السفر بعد الزوال خلافًا لأبي حنيفة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] , فأمر بالسعي إلى الجمعة، والأمر يقتضي الوجوب، ولم يفرق بين أن يكون عازمًا على إنشاء السفر، أو غير عازم، فهو على العموم. فإن قيل: لا فرق عندك بين أن يريد السفر قبل النداء، أو بعده، فلا معنى لهذا التخصيص. قيل له: إذا ثبت وجوب السعي بعد النداء، ثبت وجوبه فيما قبل؛ لأن أحدًا لا يفرق بينهما، ويدل عليه: ما روى الدارقطني في كتاب الأفراد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سافر من دار (¬3) إقامة ¬

_ (¬1) ينظر: الإشراف (1/ 327 و 328)، ومواهب الجليل (2/ 549). (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 425 و 426)، والمهذب (1/ 458)، وحلية العلماء (1/ 259). (¬3) في الأصل: اراد.

يوم الجمعة، دعت الملائكة عليه [أن] (¬1) لا يُصحب في سفره، ولا يُعان على حاجته" (¬2)، فلو كان ذلك جائزًا ما تُوعّد (¬3) عليه. ولأنه تعين عليه فعلُ الجمعة، فلا يجوز له تركُه بالسفر؛ قياسًا عليه إذا أحرم بها. فإن قيل: لا نسلم أنه تعين عليه فعلُ الجمعة بدخول وقتها. قيل: أما على أصلنا: فهو ظاهر؛ لأنها تجب بدخول الوقت، وأما على أصلهم: ففرضه (¬4) فيه إذا نودي للصلاة، وهو في الحضر، وضاق الوقت، فإنه لا يجوز له السفر؛ دليله: لو أحرم بها، وهذا وصف مسلّم. واحتج المخالف: بما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجّه عبد الله بن رواحة، وجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم - إلى الشام، فتخلف عبد الله بن رواحة، فقال له النبي: "ما خَلَّفك؟ "، قال: أُجمِّع، ................................. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص 379، رقم (853)، وابن طاهر المقدسي في أطراف الغرائب والأفراد (3/ 440)، وفي سنده ابن لهيعة، والراوي عنه أبو الحسن عمر بن خالد الحراني، لم أقف على ترجمته، وذكره الذهبي في المعين في طبقات المحدثين ص 77، وينظر: زاد المعاد (1/ 383)، والتلخيص (3/ 1026). (¬3) في الأصل: تواعد. (¬4) في الأصل: فيفرضه.

ثم أَروح (¬1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَغدوةٌ في سبيل الله أو رَوْحَة خيرٌ من الدنيا وما فيها" (¬2)، فراح عبد الله منطلقًا. وروى أيضًا بإسناده عن ابن أبي ذئب قال: رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوةً، فقلت له: تسافر يوم الجمعة؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر يوم الجمعة (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن خالد الحذاء: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى رجلًا قد جمع عليه ثيابه غداة الجمعة، فقال له عمر - رضي الله عنه -: أين تريد؟ قال: أريد سفرًا، فقال له عمر: أما إن الجمعة لا تمنع من سفره (¬4). ¬

_ (¬1) مضى تخريج القصة في ص 181. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، رقم (2792)، ومسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، رقم (1880). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5540)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5154)، واللفظ له، وأبو داود في المراسيل رقم (310)، وهو مرسل. ينظر: معرفة السنن والآثار (4/ 329). (¬4) أخرج نحوه الشافعي في الأم (2/ 376)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم (5536 و 5537)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 21)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من قال: لا تحبس الجمعة عن سفر، رقم (5654)، وسيذكر المؤلف كلام الإمام أحمد عليه، وذكره ابن حجر في التلخيص (3/ 1026)، ولم يتكلم عليه، قال الألباني: (سند صحيح، رجاله كلهم ثقات). ينظر: السلسلة الضعيفة (1/ 387).

وروى أيضًا بإسناده عن صالح بن كيسان (¬1): أن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - خرج يوم الجمعة في بعض أسفاره، ولم ينتظر الجمعة (¬2). والجواب عن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: فمن أصحابنا من أخذ بظاهره في الجهاد، وأما من سَوَّى بين الجهاد وغيره، فنجيب عنه: بأنه ليس في الخبر أنه وجّه السرية يوم الجمعة، ويحتمل أن يكون جهزها في آخر الأسبوع قريبًا من يوم الجمعة، فأخر جعفر (¬3) الخروج؛ ليصلي الجمعة في يوم الجمعة، فحثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخروج. وأما حديث ابن شهاب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر يوم الجمعة، فهو مرسَل، وعلى أنه يحتمل أن يكون سافر إلى موضع آخر تقام فيه الجمعة، ولا تُقصر فيه الصلاة. وأما حديث عمر - رضي الله عنه -، فقال مهنا: سألت أحمد - رحمه الله - عن حديث عمر - رضي الله عنه -: لا تحبس الجمعةُ عن سفر، فقال: ليس له إسناد (¬4)، الأسود بن قيس عن أبيه، ولم يذكر عمر. وعلى أنا نقابله، ونقابل غيره ¬

_ (¬1) المدني، أبو محمد، قال ابن حجر: (ثقة ثبت فقيه)، توفي بعد سنة 130 هـ. ينظر: التقريب ص 279. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5538)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5148)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 22)، وذكره ابن حجر في التلخيص (3/ 1026)، ولم يتكلم عليه. (¬3) كذا في الأصل، والمتأخر هو: عبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم أجمعين -. (¬4) بياض بمقدار كلمة، ولعلها: إنما يرويه.

من الصحابة؛ بما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عطاء عن عائشة - رضي الله عنها -: إذا أدركتَ ليلةَ الجمعة، فلا تخرجْ حتى تصلِّي الجمعة (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن الأوزاعي (¬2) عن حسان بن عطية (¬3) - رضي الله عنه - قال: من خرج يوم جمعة قبل الصلاة، دُعِي (¬4) عليه أن لا يصاحَب في سفره، ولا يُعان على حاجته (¬5). وبإسناده عن مجاهد - رضي الله عنه -: أن قومًا خرجوا في سفر يوم الجمعة قبل الصلاة، واضطرم عليهم خباؤهم نارًا، وما تقربهم نار (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5155)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 22)، وفي إسناده أبو معاوية الضرير، لم يصرح بالسماع من ابن جريج، وقد وصفه الدارقطني بالتدليس. ينظر: تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر ص 126. (¬2) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، قال ابن حجر: (ثقة جليل)، توفي سنة 157 هـ. ينظر: التقريب ص 373. (¬3) المحاربي مولاهم، أبو بكر الدمشقي، قال ابن حجر: (ثقة فقيه عابد)، توفي بعد سنة 120 هـ. ينظر: التقريب ص 139. (¬4) في الأصل: دعت، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5542)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5158). (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5160) بلفظ: (فاضطرم عليهم خباؤهم نارًا من غير نار يرونها).

فصل

وعلى أن قول عمر - رضي الله عنه -: الجمعة لا تمنع من سفر، يحتمل أن يريد به: لا يمنع سفرًا مبتدأ، أما على أنه إذا اجتاز ببلد لا يمنعه الجمعة. واحتج: بأنه إذا أجاز السفر قبل الزوال، جاز بعده؛ قياسًا على سائر الأيام وسائر الصلوات، ولأنه سافر قبل دخوله في الجمعة، فوجب أن يجوز؛ قياسًا على ما قبل الزوال، أو قبل طلوع الفجر من يوم الجمعة. والجواب: أنه فيما قبل الزوال روايتان: إحداهما: أنه لا يجوز، فعلى هذا: لا نسلم هذا، والثانية: يجوز، فعلى هذا المعنى فيه، وفيما قبل طلوع الفجر: أنه سافر قبل وجوب الجمعة، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه سافر بعد وجوبها، أو بعد دخول وقتها، أشبهَ إذا سافر بعد دخول وقتها، وأما سائر الصلوات، فالمعنى فيها: أنه يجوز فعلها في السفر، وليس كذلك الجمعة؛ لأنه لا يجوز فعلها في السفر، فإذا سافر قبل فعلها، كان تاركًا لها، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج: بأنه ليس فيه أكثر من سقوط الفرض بسفره، وهذا لا يمنع منه السفر؛ بدليل: الصوم يجوز له أن يسافر في أول يوم من رمضان. والجواب: أن السفر لا يمنع الصوم؛ لأنه يصح فعله فيه، ويمنع صحة الجمعة، ولأن السفر لا يُسقط الصوم، وإنما يتأخر فعلُه. * فصل: والدلالة على أنه لا يجوز السفر بعد طلوع الفجر؛ خلافًا لمالك، وأحد قولي الشافعي - رحمهما الله -، وإحدى الروايتين عن أحمد - رحمه الله - هو: أن ما بعد طلوع الفجر وقتٌ لغسل الجمعة، فمنع السفر؛

دليله: إذا زالت الشمس، وإن شئت قلت: وقت للسعي إلى الجمعة، فمنع السفر؛ دليله: ما ذكرنا، ومعلوم أنه مندوب إلى السعي إلى الجمعة في أول النهار؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بكّر وابتكر، وغسل واغتسل، وراح في الساعة (¬1)، فكأنما قَرَّبَ بَدَنة" (¬2)، ولأن الجمعة واجبة، والتسبب إليها واجب، ألا ترى أن من بَعُدَ منزله عن الجمعة، ولم يمكنه إدراكها إلا بأن يمشي من أول النهار، لزمه ذلك كما يلزمه الجمعة؟ فلما لم يجز السفر بعد وجوب الجمعة، لم يجز بعد وجوب التسبب إليها، وإنما ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولفظه في الصحيحين: "ثم راح، فكأنما قرب بدنة"، بدون ذكر للساعة الأولى. (¬2) هذا الحديث مركب من حديثين: الأول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب ... ". والثاني: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة". أما الأول: فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (16173)، وأبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، رقم (345)، والترمذي في كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، رقم (496)، والنسائي في كتاب: الجمعة، باب: فضل المشي إلى الجمعة، رقم (1384)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة، رقم (1087)، والحديث حسنه النووي. ينظر: المجموع (4/ 290). أما الحديث الثاني: فقد أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة، رقم (881)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، رقم (850).

157 - مسألة: والخطبة شرط في صحة الجمعة

حددنا ذلك بطلوع الفجر؛ لأن الناس يختلفون في التسبب، فبعضهم يتسبب إليها قبل الزوال بقليل، وبعضهم من أول النهار، فحُدَّ ذلك بطلوع الفجر. واحتج المخالف: بأنه ليس بوقت لوجوب الجمعة، فلم يمنع السفر؛ دليله: قبل طلوع الفجر. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه ليس بوقت للغسل، أو ليس بوقت للسعي، أو ليس بوقت للتسبب إليها، وهذا بخلافه، فهو كما لو زالت الشمس، والله أعلم. * * * 157 - مَسْألَة: والخطبة شرط في صحة الجمعة: نص عليه في رواية الميموني (1)، فقال: إن لم يخطب، صلى أربعًا؛ لأن الخطبة تقوم مقام الركعتين، وكذلك نقل الأثرم (1)، وإبراهيم بن الحارث (¬1)، وهو قول أكثر الفقهاء (¬2). ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وقد نقلها عن الإمام أحمد أبو داود في مسائله رقم (402)، وابن هانئ في مسائله رقم (441)، والكوسج في مسائله رقم (532)، وينظر: المغني (3/ 170)، والفروع (3/ 164)، والمبدع (2/ 157)، والإنصاف (5/ 219). (¬2) ينظر للحنفية: مختصر القدوري ص 101، وبدائع الصنائع (2/ 195)، =

وقال داود: ليست بشرط في الجمعة، ولا هي واجبة في نفسها (¬1). دليلنا: أن الله تعالى أوجب السعي إلى ذكر الله في يوم الجمعة، ولم يبين الذكر ما هو، وبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله؛ فإنه (¬2) صلى وخطب، وبيان الواجب واجب، ولأن الله تعالى أوجب (¬3) السعي إلى ذكر الله، والمراد به: الخطبة، فلولا أنه واجب، ما أوجب السعي إليه، وأيضًا: فقد قيل: إن الخطبة أقيمت مقام الركعتين من الصلاة، والركعتان واجبتان، فوجب أن يجب ما قام مقامهما، والذي يدل على أنهما أقيما مقام الركعتين: ما رُوي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة (¬4)، ¬

_ = وللمالكية: المعونة (1/ 219)، والمُذهب (1/ 304)، وللشافعية: الحاوي (2/ 411)، والمهذب (1/ 362). (¬1) لم أقف على قوله، وبه قال ابن حزم. ينظر: المحلى (5/ 42). (¬2) في الأصل: فإن. (¬3) في الأصل: وجب. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5485) عن عمر - رضي الله عنه - بلفظ: (الخطبة موضع الركعتين، من فاتته الخطبة، صلى أربعًا)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5367 و 5374)، والراوي عن عمر - عند عبد الرزاق - هو: عمرو بن شعيب، وهو لم يدرك عمر - رضي الله عنه -، قال أبو زرعة: (عمرو بن شعيب عن عمر مرسَل)، والراوي عن عمر - عند ابن أبي شيبة - هو يحيى بن أبي كثير، قال ابن حجر: (ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل)، ولم يسم من حدثه، بل قال: (حُدِّثتُ). ينظر: المراسيل لابن أبي حاتم ص 148، والتقريب ص 666.

ولأنه لا يجوز ترك عدد الركعات في الحضر، فلما جاز الاقتصار على ركعتين في هذه الحال، دل على أنها مقام ركعتين، وقد قال أحمد - رحمه الله -: إنما صليت ركعتين من أجل الخطبة، رواه حنبل - رحمه الله - عنه (¬1)، وأيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2)، وقد صلى وخطب، فوجب أن يجب أن يفعل مثل ذلك، ولأنه ذكرٌ يتعلق بالجمعة يجب استماعه، فكان واجبًا كالقراءة، ولا يلزم عليه الأذان والإقامة؛ لأنه لا يجب استماعه. واحتج المخالف: أنه ذكرٌ يتقدم الصلاة، فلم يكن واجبًا، دليله: الأذان والإقامة. والجواب: أن الأذان لما لم يتغير حال الصلاة لأجله، لم يكن واجبًا، والخطبة لما غير [ت] حكم الصلاة، فجعلت ركعتين بعد أن كانت أربعًا، ثبت أنها أقيمت مقام الركعتين، فكانت شرطًا في الصلاة. واحتج: بأن الأصل براءة الذمة، فمن زعم إيجاب الخطبة، وتعلقها بالذمة، فعليه الدليل. والجواب: أنا قد دللنا على ذلك بما تقدم، على أنا نقابل هذا بمثله، فنقول: الأصل ثبوت الصلاة في ذمته، فمن زعم براءتها بركعتين بغير خطبة (¬3)، ........................................ ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (584). (¬2) مضى تخريجه (1/ 128). (¬3) في الأصل: خطب.

158 - مسألة: إذا خطب على غير وضوء، أجزأه، وكذلك إن كان جنبا، ولم تكن خطبته في المسجد

فعليه الدليل، والله تعالى أعلم. * * * 158 - مَسْألَة: إذا خطب على غير وضوء، أجزأه، وكذلك إن كان جنبًا، ولم تكن خطبته في المسجد: نص على هذا في رواية صالح (¬1)، وعبد الله (¬2)، فقال: إذا خطب بهم جنبًا، ثم اغتسل وصلى بهم، أرجو أن يجزئه. وبهذا قال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4) - رحمهما الله -. وقال الشافعي - رحمه الله - في القديم: مثلَ قولنا، وقال في الجديد: لا يجزئه (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وقد ذكرها الزركشي في شرحه (2/ 181)، وابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 239). (¬2) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر: الجامع الصغير ص 57، والمغني (3/ 177)، ومختصر ابن تميم (2/ 423)، والفروع (3/ 171)، والإنصاف (5/ 229). (¬3) ينظر: مختصر القدوري ص 101، والتجريد (2/ 962)، والهداية (1/ 82). (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 332)، والمعونة (1/ 222)، والمذهب (1/ 304). (¬5) ينظر: المهذب (1/ 363 و 364)، والبيان (2/ 571).

دليلنا: أن الخطبتين ذكرٌ يتقدم الصلاة، فلم يكن شرطه الطهارة؛ قياسًا على الأذان والإقامة، تبين صحة هذا: أن فساد الركعتين لا يوجب فساد الخطبتين، كما لا يوجب فساد الأذان والإقامة، ثم ثبت أن الأذان والإقامة ليس من شرطه الطهارة والإقامة (¬1)، كذلك الخطبة. فإن قيل: المعنى في الأذان: أنه ليس بواجب، وليس كذلك الخطبة؛ لأنها واجبة. قيل: علة الأصل تبطل بصلاة النافلة، وطواف النافلة، ومس المصحف ليس بواجب، ومن شرطه الطهارة، وعلة الفرع تبطل بالشهادتين؛ فإنها واجبة على الكافر، ولا يفتقر ذكرها إلى الطهارة. فإن قيل: فالأذان ليس بشرط في الجمعة، والخطبة شرط في صحتها. قيل: الطواف، ومس المصحف، والكلام في الصلاة في صدر الإسلام ليس بشرط في صحة الجمعة، ومن شرطه الطهارة، وأيضًا: فإنه أتى بألفاظ الخطبة على وجه التعظيم، أشبهَ إذا أتى بها على طهارة، ولأنه ذكرٌ مفعول في غير صلاة، فلم يفتقر إلى طهارة؛ دليله: الشهادتان، والتسمية على الذبيحة، وفيه: احتراز من التكبير، والقراءة. وقد قيل: بأن الخطبة ليس من شرطها القبلة، ويجوز فيها الكلام، فلم تفتقر إلى الطهارة؛ كالصوم، وهذا يفسد؛ لأن النوافل على الراحلة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل لفظة: الإقامة زائدة.

والفريضة في حال الخوف ليس من شرطها القبلة، ومن شرطها الطهارة، ومس المصحف من شرطه الطهارة، وليس من شرطه التوجه، وكذلك الكلام كان مباحًا في أول الإسلام في الصلاة، والطهارةُ شرط فيها، وكذلك الطواف، ومس المصحف لا يحرم الكلام، ومن شرطه الطهارة، والصحيح ما ذكرنا. واحتج المخالف: بأن كل ذكر كان شرطًا في صحة الصلاة لم يصح إلا بطهارة؛ دليله: تكبيرة الإحرام، ولا يلزم عليه الشهادتان؛ لأن الشرط هو الإيمان، وهو التصديق بالقلب (¬1)، وإنما يطالب بالشهادتين؛ ليعلم إيمانه بقلبه. والجواب: أن تكبيرة الإحرام من الصلاة يشترط فيها الطهارة، وليس كذلك الخطبة؛ لأنها ذكرٌ يتقدم الصلاة، فهي بالأذان أشبهُ. فإن قيل: اعتبارها بأركان الصلاة أشبهُ؛ لأنها شرط في الصحة، والأذان ليس بشرط. قيل له: اعتبارها بالأذان أشبه؛ لأن فساد الركعتين لا يوجب فساد الخطبة، كما لا يوجب فساد الأذان، وعلى أن الطواف، ومس المصحف، والكلام في صدر الإسلام ليس ذلك شرطًا في صحة الجمعة، ومع هذا ¬

_ (¬1) الإيمان: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد وينقص. ينظر: الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 10، والإيمان لابن أبي شيبة ص 50.

159 - مسألة: إذا خطب جالسا لغير عذر، فقد أساء، وتجزئه

فإنه يفتقر إلى الطهارة. فإن قيل: الخطبة تفتقر إلى قراءة آية من القرآن، والجنب ممنوع من ذلك. قيل: نحن نمنعه أن يقرأ ذلك في خطبته وهو جنب، ونقول له: اغتسل قبل قراءتها، فإن قرأ قبل الغسل، أثم، وأجزأه، كما قال مخالفنا: يمنع من الصلاة في أرض غصب، ويجزئه، وكذلك الجنب إذا صلى بقوم وهو لا يعلم، تجزئهم صلاتهم، وإن كان ممنوعًا من القراءة، وقد حصل الاعتداد بها، كذلك ها هنا، والله أعلم. * * * 159 - مَسْألَة: إذا خطب جالسًا لغير عذر، فقد أساء، وتجزئه: نص على هذا في رواية علي بن سعيد (¬1)، فقال: يخطب قائمًا، خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، فإن خطبهم جالسًا، وصلى، يجزئهم، ولا يعيدون. وقد أطلق القول في رواية الأثرم (¬2)، وعبد الله (¬3)، فقال: يخطب قائمًا. وهذا محمول على الاستحباب. ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: الجامع الصغير ص 57، والتمام (1/ 233)، والمستوعب (3/ 28)، وشرح الزركشي (2/ 174)، والإنصاف (5/ 238). (¬2) ينظر: المغني (3/ 171)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 474). (¬3) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر حاشية رقم (1).

وبه قال أبو حنيفة (¬1)، ومالك (¬2) - رحمهما الله -. وقال الشافعي - رحمه الله -: لا يجزئه تركُ القيام مع القدرة عليه، ولأنه من قيامين بينهما جلسة، وإن كان مريضًا، خطب جالسًا، ويفصل بين الخطبتين بسكتة تنبه (¬3). دليلنا: أنه ذكرٌ يتقدم الصلاة، فلم يكن من شرط صحته القيام؛ دليله: الأذان والإقامة، ويبين صحة هذا: ما ذكرنا: أن فساد الركعتين لا يوجب فساد الخطبة، كما لا يوجب فساد الأذان، ويبين صحة هذا: أن القيام شرع في الأذان كما شرع في الخطبة، وليس بشرط في صحة الأذان، كذلك الخطبة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة، وليس كذلك الخطبة، لأنها شرط في صحة الصلاة، فكان من شرطها القيام. قيل له: يبطل بالقراءة في صلاة النافلة، القراءة شرط في صحتها، وليس القيام شرطًا في صحتها، كذلك التشهد الأخير، والصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الفرض هو شرط في الصلاة، وليس من شرطه القيام، ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر القدوري ص 101، وبدائع الصنائع (2/ 197). (¬2) عند المالكية قولان: الأول: الوجوب، وعليه الأكثر. الثاني: الاستحباب. ينظر: المدونة (1/ 150)، والإشراف (1/ 331)، والقوانين الفقهية ص 65، ومواهب الجليل (2/ 530). (¬3) ينظر: الأم (2/ 407)، والحاوي (2/ 433).

ولأنه أتى بألفاظ الخطبة على وجه التعظيم، أشبهَ إذا أتى به في حال القيام، ولأنه ذكرٌ ليس من شرطه استقبال القبلة بحال، فلم يكن من شرطه القيام؛ دليله: لفظ الشهادتين، والتلبية، والتسمية على الذبيحة. فإن قيل: قد يسقط الاستقبال، والقيام شرط، وهي في حال شدة الخوف. قيل له: قد احترزنا عنه بقولنا: بحال، وذلك أن الذكر من شرطه استقبال القبلة بحال، وهو في حال الأمن. فإن قيل: المعنى في الشهادتين، والتسمية، والتلبية: أنه لم يشرع فيها القيام، وليس كذلك الخطبتان؛ لأنه قد شرع فيها القيام. قيل له: ليس إذا شرع فيها ينبغي أن يجب؛ بدليل: الأذان والإقامة، قد شرع فيه القيام، وليس بواجب. واحتج المخالف: بما روى جابر (¬1)، وابن عمر (¬2)، وأبو هريرة (¬3) - رضي الله عنهم أجمعين -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة قائمًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، رقم (862)، وجابر هو: ابن سمرة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: الخطبة قائمًا، رقم (920)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، رقم (861). (¬3) أخرجه الشافعي في الأم (2/ 407)، والبيهقي في المعرفة (4/ 352)، وفي إسناده إبراهيم بن محمد الأسلمي (متروك)، وصالح مولى التوأمة (صدوق اختلط). ينظر: التقريب ص 63 و 64 و 279.

خطبتين، يفصل بينهما بجلوس، وفعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تعلق بالقربة وجب الاقتداءُ به؛ لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] (¬1)، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. والجواب: أنه قد اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬2): الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الشيء - عليه السلام - على جهة الفضل (¬3)، ويفعل الشيء - عليه السلام -، وهو له خاص. وظاهر هذا: أنه لا يقتضي الوجوب، فعلى هذا: لا يلزمنا ذلك. وقال في رواية الأثرم (¬4): إذا رمى الجمار، فبدأ بالثالثة ثم الثانية ثم الأولى، لم يعجبني، قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمار، وسن فيها سنة، وكذلك نقل الجماعة عنه (¬5): المغمى عليه يقضي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُغمي عليه، .......................................... ¬

_ (¬1) في الأصل: {فَاتَّبِعُوهُ} , والمثبت هو الموافق للاستدلال. (¬2) لم أقف عليها في مسائله، ونقلها: المؤلف في كتابه العدة (1/ 216 و 3/ 737)، وابن تيمية في المسودة (1/ 196). (¬3) في الأصل: الفصل، وفي العدة (1/ 216): (القصد). (¬4) ينظر: العدة للمؤلف (3/ 735)، والمسودة (1/ 205). (¬5) ينظر: مسائل صالح رقم (374 و 612 و 1014)، ومسائل عبد الله رقم (244)، ومسائل أبي داود رقم (350)، ومسائل الكوسج رقم (322)، والروايتين (1/ 179)، والعدة للمؤلف (3/ 736)، والمسودة (1/ 205).

فقضى (¬1). وهذا يدل على أن أفعاله - عليه السلام - على الوجوب؛ لأنه (¬2) جعلها حجة في ترتيب الجمار، وفي حق المغمى عليه، فعلى هذا: إطلاقها يقتضي الوجوب، ويجوز أن يحمل على الندب بدلالة، فنحن نحمل ذلك على الندب. فإن قيل: فأفعاله - عليه السلام - إذا خرجت مخرج البيان، اقتضت الوجوب بإجماع، وهذا يخرج مخرج البيان بمجمل في القرآن، فاقتضى الوجوب. قيل له: ويجوز حمله على الندب بدلالة، كما يجوز حمل الألفاظ من الوجوب إلى الندب بدلالة. واحتج: بأنه ذكرٌ جُعل شرطًا في صحة الصلاة المفروضة، ليس من شرطه القعود، فكان من شرطه القيام مع القدرة عليه؛ دليله: تكبيرة الإحرام، والقراءة. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون شرطًا في صحة الصلاة، ولا يكون من شرطه القيام؛ كالقراءة في صلاة النافلة، وعلى أن تكبيرة الإحرام من شرطها استقبالُ القبلة، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يتقدم الصلاة، أو ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولم أجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه، فقضى صلاته، وقد استدل الإمام أحمد في مسائل صالح رقم (1014)، ومسائل عبد الله رقم (244) على قضاء المغمى عليه بنوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، لا بإغمائه. وقد مضى تخريج نوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في (1/ 350). (¬2) في الأصل: لأنها.

160 - مسألة: القعود بين الخطبتين ليس بواجب

نقول: ليس من شرطه استقبال القبلة، أشبهَ الأذان، والإقامةَ، والتسميةَ، والتلبيةَ. واحتج: بأن الأصل الظهر، وإنما نقلوا عنها إلى الجمعة بشرائط، ولم تقم الدلالة على وجود تلك الشرائط، فيجب أن يكون فرض الظهر باقيًا. والجواب: أن قد أقمنا الدلالة على وجود شرائطها، فوجب الانتقال عن الظهر إليها، والله أعلم. * * * 160 - مَسْألَة: القعود بين الخطبتين ليس بواجب: نص عليه في رواية بكر بن محمد عن أبيه (¬1): إذا خطب بهم، فأحب أن يجلس بين الخطبتين، فإن لم يجلس، وصلى، تجزئهم صلاتهم، قد فعل ذلك المغيرةُ بن شُعبة - رضي الله عنه - (¬2)، وغيره. ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 217)، والتمام (1/ 235)، والمغني (3/ 176)، والفروع (3/ 176)، وشرح الزركشي (2/ 176)، والإنصاف (5/ 238). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه مختصرًا رقم (5229)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 58 و 59): أنه يخطب قائمًا، ثم لم يجلس حتى ينزل، ولم يسنده، وما رواه ابن أبي شيبة ليس فيه دلالة ظاهرة، فلفظه: (كان المغيرة يخطب في الجمعة قائمًا، ولم يكن له إلا مؤذن واحد).

وبهذا قال أبو حنيفة (¬1)، ومالك (¬2) - رحمهما الله -. وقال الشافعي - رحمه الله -: هو واجب، إن تركه، لم تجزئه الخطبة (¬3). وحكى أبو إسحاق في تعاليقه عن أبي بكر النجاد: أنه لا يجوز تركها (¬4)، وحكى عن أبي بكر الخلال: جواز تركها (¬5). دليلنا: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] , ولم يشرط الجلوس. وروى أيضًا أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبة واحدة قائمًا، فلما ثقل وسمن، جعلها خطبتين، جلس بينهما جلسة يستريح فيها (¬6). وروى أيضًا بإسناده عن طاوس قال: لم يكن أبو بكر ولا عمر - رضي الله عنهما - يقعدون على المنبر يوم الجمعة، وأولُ من قعد معاويةُ - رضي الله عنه - (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر: التجريد (2/ 977)، والهداية (1/ 82). (¬2) ينظر: الإشراف (1/ 331)، والكافي ص 71. (¬3) ينظر: الأم (2/ 407)، والتنبيه ص 98. (¬4) ينظر: التمام (1/ 235)، وشرح الزركشي (2/ 177). (¬5) ينظر: التمام (1/ 235). (¬6) لم أجده. (¬7) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5222)، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، تُرِك حديثه. ينظر: التقريب ص 519.

وروى بإسناده عن أبي إسحاق (¬1) قال: رأيت عليًا - رضي الله عنه - كان يخطب على المنبر، فلم يجلس حتى فرغ (¬2). ولأنه قال: أتى بألفاظ الخطبة على وجه التعظيم، فأجزأه من الخطبة؛ كما لو خطب خطبتين، وجلس بينهما، ولأنهما فضلان من الذكر يتقدمان الصلاة، فلم يكن من شرط صحتهما جلوسٌ بينهما؛ دليله: الأذان والإقامة. واحتج المخالف: بما روى جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم (¬3)، وكذلك روى ابن عمر (¬4)، وابن عباس (¬5) - رضي الله عنهم -. والجواب: أنا نحمل ذلك على المسنون. ¬

_ (¬1) السبيعي، مضت ترجمته. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5267)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5224)، قال ابن التركماني عن إسناد ابن أبي شيبة: (سند صحيح على شرط الجماعة). ينظر: الجوهر النقي (3/ 281). (¬3) مضى تخريجه في ص 197. (¬4) مضى تخريجه في ص 197. (¬5) رواه عبد الله عن أبيه الإمام أحمد في المسند رقم (2322)، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5232)، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، مضت الإشارة لضعفه في (2/ 390)، وكذلك الحَكَم لم يسمع من مقسم كما مضى التنبيه عليه في (2/ 231).

161 - مسألة: يجمع في الخطبة الأولى بين حمد الله، والصلاة على رسوله، والوصية بتقوى الله - عز وجل -، وقراءة آية من القرآن، ويأتي في الثانية مثل ذلك

فإن قيل: فعلَه - عليه السلام - بيانًا للآية، وفعلُه إذا ورد مورد البيان، اقتضى الوجوب. قيل له: قد بين الواجب والمستحب، فنحمله على المستحب بما تقدم. * * * 161 - مَسْألَة: يجمع في الخطبة الأولى بين حمد الله، والصلاة على رسوله، والوصية بتقوى الله - عز وجل -، وقراءة آية من القرآن، ويأتي في الثانية مثل ذلك: ذكره الخرقي في مختصره (¬1)، وقد أومأ إليه - رحمه الله - في رواية أبي طالب (¬2) - وقد سئل: عن الإمام يخطب يوم الجمعة، يجزئه أن يقرأ سورة من القرآن؟ - فقال: عمر - رضي الله عنه - قرأ (¬3) سورة الحج على المنبر، قيل له: فيجزئه؟ قال: لا، لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله - عز وجل -، ¬

_ (¬1) في ص 60، وينظر: المغني (3/ 173 و 180)، والمحرر (1/ 235)، ومنتهى الإرادات (1/ 95). (¬2) ينظر: الفروع (3/ 167). (¬3) في الأصل: قراه، وأثر عمر - رضي الله عنه - أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: القرآن، باب: ما جاء في سجود القرآن، رقم (13)، وفي سنده من لم يسمّ، وقد جاء عنه - رضي الله عنه -: أنه قرأ سورة السجدة، وقد مضى تخريجه.

والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويسلمون - يعني: على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أيضًا في رواية بكر بن محمد عن أبيه (¬1) - وقد سئل: عن الرجل يخطب يوم الجمعة، فيكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحمد الله - عز وجل -؟ -، فقال: لا تكون خطبة إلا كما خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو خطبة تامة. وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -، إلا أنه قال: إن لم يقرأ في الثانية، وقرأ في الأولى، أجزأه (¬2). وقال أبو حنيفة: إذا خطب بتسبيحة واحدة، أجزأه (¬3). وحكى ابن نصر (¬4) عن مذهب مالك: أنه إذا أتى بكلام مرتب ممتد يجمع موعظة، أجزأه، وإن لم يقرأ، ولم يصلِّ (¬5) على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحكى ابن القصار عن مالك - رضي الله عنه - روايتين: إحداهما: نقلها ابن القاسم (¬6) مثلَ قولنا، .................................. ¬

_ (¬1) ينظر: الفروع (3/ 167)، والإنصاف (5/ 223)، وكشاف القناع (3/ 348)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 492). (¬2) ينظر: الأم (2/ 412)، والحاوي (2/ 443). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 344)، والتجريد (2/ 958). (¬4) في المعونة (1/ 223)، والإشراف (1/ 329). (¬5) في الأصل: لم يصلي. (¬6) هو: عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العُتَقي، أبو عبد الله المصري، قال ابن حجر: (الفقيه صاحب مالك، ثقة)، توفي سنة 191 هـ. ينظر: التقريب ص 374 و 375.

ونقل ابن [عبد] (¬1) الحكم (¬2): مثلَ قول أبي حنيفة (¬3). دليلنا: أن الله تعالى أوجب السعي إلى ذكر الله، ولم يبين ذلك الذكر، وبيانُه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يأتي بجميع ما ذكرنا في خطبته، فثبت وجوب ذلك من وجهين: أحدهما: أن بيان الواجب واجب. والثاني: أنه - عليه السلام - قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬4). وقد روى النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين، يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكِّر الناس (¬5). وروى أيضًا بإسناده عن عبد الله بن محمد بن معن (¬6) عن بنت حارثة ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) هو: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين، قال الذهبي: (الإمام، شيخ الإسلام، أبو عبد الله، المصري الفقيه)، له مصنفات منها: "الرد على الشافعي"، وكتاب "أحكام القرآن"، وكتاب "الرد على فقهاء العراق"، توفي سنة 268 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 497). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 156)، والمعونة (1/ 222 و 223)، والمذهب (1/ 304)، والتاج والإكليل (2/ 528). (¬4) مضى تخريجه (1/ 128). (¬5) لم أجده من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، رقم (862)، من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬6) في الأصل: معمر. =

ابن النعمان قالت: كانت تَنُّورنا وتنور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدًا، وما حفظت سورة {ق} إلا من في رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر (¬1). وروى جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر يوم الجمعة آياتٍ وكانت صلاته - عليه السلام - قصدًا، وخطبته قصدًا (¬2). وروى بإسناده عن عبادة (¬3) عن الحكم بن حزن (¬4) الكُلَفي - رضي الله عنه -: وفَدْنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقمنا عنده حتى حضرت الجمعة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكلم بكلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: "أيها ¬

_ = وعبد الله هو: ابن محمد بن معن الغفاري، المدني، قال ابن حجر: (مقبول). ينظر: التقريب ص 340. (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (873). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (5256)، والإمام أحمد في المسند رقم (20878)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، رقم (1101)، وصحح إسناده ابن الملقن في البدر المنير (4/ 609)، وأخرجه مسلم بدون ذكر قراءة الآيات على المنبر، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (866). (¬3) كذا في الأصل، ولم أجد أحدًا في إسناد هذا الحديث يقال له: عبادة، والراوي عن الحكم - رضي الله عنه - هو: شعيب بن رزيق الطائفي، قال ابن حجر: (لا بأس به). التقريب ص 271. (¬4) في الأصل: حرب.

الناس! إنكم لن تستطيعوا، أو لن تطيقوا [كلَّ] (¬1) ما أمرتكم به، وسَدِّدوا وقارِبوا وأبشروا" (¬2). وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب، حمد الله - عز وجل -، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد" (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن جابر بن سمرة - رضي الله [عنه] (¬4) - قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكر الناس (¬5). وأيضًا: ما روى أبو بكر الخلال في كتاب العلم بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، فذكر الحديث، وذكر إسراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه: قولَ الله تعالى له: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فلا أُذْكَر إلا ذُكرتَ معي، وجعلتُ أمتك ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (17856)، وأبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، رقم (1096)، قال ابن الملقن: (رواه أبو داود في "سننه"، ولم يضعفه، فهو حسن عنده). ينظر: البدر المنير (4/ 633). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867). (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) مضى تخريجه في ص 197.

لا تجوز لهم خطبةٌ حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي (¬1)، وهذا يدل على وجوب ذكره في الخطبة. وأيضًا: فإن الجمعة لا تصح إلا بخطبة، وهذا المقدار من الكلام لا يسمى (¬2) خطبة؛ لأنه لا يقال لمن حمد الله على الطعام: هو خطيب، ولا يقال للحارس إذا ذكر الله - سبحانه وتعالى - هو خطيب، ولا لمن سمى الله على وضوئه: هو خطيب، ولأنه لو كان ذلك المقدار خطبة، لكان الناس كلهم خطباء؛ لأن أحدًا لا يعجز عن إتيان كلمة فيها ذكر الله تعالى، وإذا لم تسم هذه الخطبة، لم تصح الجمعة؛ لأن صحتها تقف على شرائط، منها: الخطبة، ولأنه ذكرٌ يتقدم صلاة مفروضة، فوجب أن يتنوع أنواعًا؛ دليله: الأذان، ولا يلزم عليه قوله: الصلاة جامعة، من صلاة العيد؛ لقولنا: صلاة مفروضة، وتلك غير مفروضة. فإن قيل: بعلَّته، فنقول: فلم يكن من شرطه قراءة القرآن، والوصية بتقوى الله، والأذان. قيل له: ليس إذا اختلفا في صفة النوع يجب أن يختلفا في أصل ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 424)، وذكره ابن كثير في تفسيره (8/ 416) عن الطبري، وقال: (رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ... مطولة جدًا، وفيها غرابة)، وفي سنده: أبو جعفر الرازي، قال عنه ابن كثير: (الأظهر أنه سيئ الحفظ، ففيما تفرد به نظر). ينظر: التفسير (14/ 425)، وبنحوه قال ابن حجر. ينظر: التقريب ص 697. (¬2) في الأصل: لا سيما، وهو تصحيف.

النوع؛ بدليل: الخطبة المسنونة يخالف الإمام في صفة النوع، ويوافقه في أصل النوع، وعلى أن الأذان القصدُ منه: الدعاء إلى الصلاة، فلهذا لم يشرط فيه القرآن، والوصية، والخطبةُ القصدُ منها: الوصية، فاعتبرت فيه. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، والذكر الذي يلي النداء هو: الخطبة، والظاهر يقتضي جواز أيِّ ذكر كان. والجواب: أن الذكر الذي أمرهم بالسعي إليه، هو الذي يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعوا على أنه لم يقتصر على تسبيحة واحدة، وفعلُه - عليه السلام - خرج مخرج البيان للواجب، وبيانُ الواجب واجب. واحتج: بما رُوِيَ: أن عمارًا - رضي الله عنه - خطب فأوجز، فقيل له: ما تنفست؟ فقال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقصار الخطبة، وإطالة الصلاة (¬1)، وهذا يبقي ما اعتبره مخالفنا شرطًا في الخطبة. والجواب: أن الصحيح من حديث عمار - رضي الله عنه -: ما رواه أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي وائل قال: خطبنا عمار بن ياسر، فأبلغ وأوجز، فلما نزل، قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أبلغتَ وأوجزتَ، فلو كنت تنفستَ؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن طولَ صلاة الرجل، وقِصَر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (869)، وسيذكر المؤلف نص الحديث كما عند الإمام مسلم - رحمه الله -.

خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة؛ فإن من البيان. سحرًا" (¬1)، وإذا كان هذا أصل الحديث، فلا حجة فيه؛ لأنه أمر بإقصار الخطبة، وقول: سبحان الله ليس بخطبة، وكذلك: باسم الله، ولا إله إلا الله، وإنما إقصار الخطبة أن يوجزه، فيأتي بما يقع عليه اسم الخطبة. واحتج: أن عثمان - رضي الله عنه - صعد المنبر، فأُرْتِج عليه (¬2)، وقال: إنكم إلى إمام فعّال أحوجُ منكم إلى إمام قوّال، وإن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا يعدان لهذا المقام مقالًا، وأنا أستغفر الله العظيم لي ولكم، ونزل، وصلى بالناس (¬3)، وكان يحضره الناس من الصحابة من غير نكير من أحد منهم. والجواب: أنه قد قيل: إنه كان في خطبة البيعة؛ لأنها اتفقت بغتةً، وخطبةُ الجمعة لا تكون إلا بعد التمكن من إعداد المقال لها، ولأنه يحتمل أن يكون أرتج عليه في إتيانها، واقتصر على ما تقدم. واحتج: بأن هذا القدر من الكلام يسمى خطبة؛ بدلالة: ما رُوي أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! علمني عملًا يُدخلني ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في الحاشية الماضية ص 209. (¬2) رُتِجَ الرجل في منطقه: إذا استغلق عليه الكلام. ينظر: الصحاح (رتج). (¬3) قال ابن حجر: (لم أجده مسندًا)، وقال ابن الهمام: (لم تعرف في كتب الحديث، بل في كتب الفقه). ينظر: الدراية (1/ 215)، وفتح القدير (1/ 415)، وللفائدة ينظر: عارضة الأحوذي (2/ 296).

الجنة، فقال: "لئن أقصرت (¬1) الخطبة، لقد أعرضت المسألة" (¬2). ورُوي: أن رجلًا قال بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما، فقد غوى، فقال: "بئسَ الخطيبُ أنتَ" (¬3)، فسماه خطيبًا بهذا القدر من الكلام، فدل على أن قول: لا إله إلا الله، وسبحان الله، ونحو ذلك يسمى: خطبة (¬4). والجواب: أن قوله: علِّمني عملًا يدخلني الله به الجنة، لا يسمى خطبة بالإجماع، وإنما هو سؤال سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه، ومن قال: علمني كذا، لا يسمَّى: خاطبًا، ولا يسمَّى قوله هذا: خطبة، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون هذا تصحيفًا منهم، ويكون ذلك خِطبة - بكسر الخاء - من قولهم: خطب خِطبة: إذا طلب، وكذلك قوله: من يطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، لا يسمى خطبة؛ لأنه (¬5)، ولأنه رُوي في هذا الخبر: أن رجلين أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخطب ¬

_ (¬1) في الأصل: اقتصرت. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (18647)، والدارقطني في سننه كتاب الزكاة، باب الحث على إخراج الصدقة، رقم (2055)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 240): (رواه أحمد ورجاله ثقات). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (870). (¬4) في الأصل: خطيبًا. (¬5) بياض بمقدار كلمة، وقد لا يكون هناك شيء، فتصير: لأنه، مكررة.

أحدهما، فقال: من يطع الله ورسوله، فقد رشد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، فسماه خطيبًا؛ لأنه أراد أن يشرع في الخطبة، وعلى أنه يحتمل أن يكون سماه [خطيبًا] مجازًا. واحتج: بأن القصد من الخطبة: ذكرُ الله تعالى على وجه التعظيم له؛ بدلالة: أنه لو أطلق الكلام، ولم يذكر الله، لم يجزئه من الخطبة، وإذا كان كذلك، فقد أتى بذكر الله تعالى على وجه التعظيم له، فوجب أن يجزئه؛ كما لو أتى بخطبة طويلة. والجواب: أنه يبطل به إذا (¬1) بالله، واللهمَّ اغفرْ لي، ثم المعنى في الأصل: أنه إذا أتى بما يسمى خطبة، وليس كذلك ها هنا؛ لأن الاسم غير موجود من الوجه الذي ذكرنا، فلم تصح جمعته. واحتج: بأنه ذكرٌ شُرط في صحة الصلاة، فأجزأ فيه ما يقع عليه الاسم؛ كالتكبير. والجواب: أن هذا لا يصح في الأصل، ولا في الفرع، على الأصلين جميعًا؛ لأن عندنا: إذا دخل في الصلاة بغير لفظ التكبير، لم يصح، وعندهم: إذا دخل بغير لفظ يقتضي التعظيم، لم يصح، وفي الفرع أيضًا: إذا لم يأت عندهم بلفظ يقتضي التعظيم، لم يصح، فامتنع من هذا أن يجري ما يقع عليه الاسم، وعلى أن التكبير يستفتح به الصلاة، فاعتبر فيه التخفيف، وهذا ذكرٌ يتقدم صلاة مفروضة، فتنوع أنواعًا؛ دليله: الأذان. ¬

_ (¬1) بياض بمقدار كلمة.

فصل

* فصل: والدلالة على وجوب القراءة في الخطبة الثانية: أن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين، فلما كانت القراءة شرطًا فيهما، كذلك الخطبتان، ولأن ما كان شرطًا في أحد الخطبتين، كان شرطًا فيهما؛ كالحمد، والموعظة. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ سورة {ق} (¬1)، فاقتضى الخبر وجوبَ القراءة، وقد قرأ، فوجب أن يجزئه. والجواب: أنه اقتضى وجوب القراءة في الجملة، وخلافنا في محلها، وليس في الخبر ما يدل عليه. واحتج: بأن القصد من الخطبة الموعظة، فهي شرط فيهما، والصلاة محل للقراءة، فهي شرط في كل ركعة. والجواب: أن القصد من الخطبة الموعظة، وتعظيم الله تعالى، وقراءة القرآن. والله أعلم. * * * 162 - مَسْألَة: الكلام في حال الخطبة محظورٌ على المستمع دون الخاطب في أصح الروايتين: ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 206.

نص عليه في رواية الميموني (¬1)، وحنبل (¬2) - وقد سئل عن الإمام يخطب يوم الجمعة، فيتكلم، وهو على المنبر في الخطبة -، فقال: لا بأس بذلك، يأمر وينهى، قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه: أنه تكلم، وهو على المنبر. فقد نص على جواز الكلام في حق الخاطب. وقال في رواية أبي طالب (2)، وأبي داود (¬3): إذا سمعتَ الخطبةَ، فأنصتْ واستمعْ، ولا تقرأ، ولا تشمّت، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وإذا لم تسمع الخطبة، فاقرأ، وشَمِّت، ورُدَّ السلام. فقد نص على جواز ذلك إذا لم يكن بحيث لم يسمع الخطبة، وجوازه إذا كان بعيدًا منه لا يسمعها. وفيه رواية أخرى: لا يحرم ذلك على الخطيب، ولا على المستمع، رواها أحمد بن الحسن (¬4)، فقال: سألت أحمد - رحمة الله عليه -: إن ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، وينظر: المغني (3/ 197)، والمحرر (1/ 242)، والإنصاف (5/ 301). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 183 و 184)، والمغني (3/ 199). (¬3) في مسائله رقم (410)، وبنحوها نقل عبد الله في مسائله رقم (585). (¬4) في الأصل: الحسين، وهو خطأ؛ لأن أحمد هنا: هو الترمذي، مضت ترجمته في (1/ 102)، ونقل روايته هذه المؤلف في كتابه الروايتين (1/ 183).

تكلم والإمام يخطب؟ فقال: ليس شيء، فقال له: حديث أبيّ (¬1)؟ قال: لا يصح ذلك، وغيرُه أصحُّ حديثُ أنس: أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فقال: استسقِ لنا (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4) - رحمهما الله -: هو محظور على الخطيب، والمستمع، سواءٌ كان بحيث يسمع، أو لم يسمع. وللشافعي - رحمه الله - قولان (¬5): قال في القديم، والإملاء: مثل هذا، وقال في الأم (¬6): لا يحرم ذلك. فالدلالة على تحريم الكلام في حق المستمع؛ خلافًا للشافعي في أحد القولين، وإحدى الروايتين عن أحمد: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وروي: أنها نزلت في شأن الخطبة (¬7)، ورُوي: أنها نزلت في القراءة خلف الإمام (¬8)، وهي ¬

_ (¬1) سيذكره المؤلف في أدلة المسألة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع رقم (1013)، ومسلم في كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء رقم (897). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 337 و 339)، والتجريد (2/ 979). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 149)، والإشراف (1/ 330). (¬5) ينظر: الحاوي (2/ 430)، والمهذب (1/ 376). (¬6) ينظر: الأم (2/ 418). (¬7) ينظر: تفسير الطبري (10/ 664). (¬8) ينظر: تفسير الطبري (10/ 658).

عليهما، فأمر بالسكوت في حال الخطبة، وأمرُه على الوجوب، ومخالفُنا لا يوجبه. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت للإنسان: أنصِتْ يومَ الجمعة، والإمامُ يخطب، فقد لغوتَ" (¬1). وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمامُ يخطب: صه، فقد لغا" (¬2). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن عطاء بن يسار، عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ يوم الجمعة [براءة] (¬3)، وهو قائم يذكِّرنا بأيام الله، وأُبي بنُ كعب وِجَاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو الدرداء، وأبو ذر - رضي الله عنهم -، فغمز أُبيًّا أحدُهما، فقال: متى نزلت هذه السورة يا أُبيّ؟ (¬4) فإني لم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، رقم (934)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، رقم (851). (¬2) لم أجده مرفوعًا بهذا اللفظ، وقد جاء عند ابن أبي شيبة من قول أبي هريرة - رضي الله عنه -، وإسناده صحيح. ينظر: المصنف رقم (5351)، ويدل له الحديث الذي قبله. ولَغَا: أي: تكلم، وقيل: خاب، وقيل: عدل عن الصواب. ينظر: اللسان (لغا). (¬3) ساقطة في الأصل. (¬4) في الأصل: تأتي، والتصويب من المسند.

أسمعها (¬1) إلا الآن، فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن اسكت، فلما انصرفوا، قال: سألتك: متى أنزلت هذه السورة؟ فلم تجبني! قال أُبيّ: ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فذهبتُ (¬2) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتُ ذلك له، وأخبرتُه بالذي قال أُبيٌّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدق أُبيّ" (¬3). وروى بإسناده عن إبراهيم: أن ابن مسعود سأل أُبَيَّ بنَ كعب - رضي الله عنهما - عن آية من كتاب الله - عز وجل -، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فأعرضَ عنه، ولم يردَّ عليه شيئًا، فلما قضى صلاته، قال: إنه لا جمعةَ لك، فسأل ابنُ مسعود النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صدق أُبيّ" (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: اسمعا، والتصويب من المسند. (¬2) في الأصل: فذهب، والتصويب من المسند. (¬3) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في المسند رقم (21287)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الاستماع للخطبة والإنصات لها، رقم (1111)، قال النووي: (حديث صحيح)، ونقل تصحيح البيهقي له. ينظر: المجموع (4/ 276)، وينظر: سنن البيهقي (3/ 310)، علمًا أن المؤلف في ص 214، 215 ذكر أن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: لا يصح، ولم أقف على قوله. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5421) من مراسيل الحسن، والطبراني في الكبير، رقم (9541)، وحسّن إسناد الطبراني الألباني في الصحيحة (5/ 250) رقم (2251)، مع أن راويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - إبراهيم النخعي، وهو لم يلقه، قال ابن عبد البر: (الصحيح أن هذه القصة عرضت لأبي ذر مع أبي). ينظر: التمهيد (19/ 36).

وروى أيضًا بإسناده: أن أبا ذر، والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - سمع أحدهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقرؤها وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال لصاحبه: متى أنزلت هذه الآية؟ فلما قضى صلاته، قال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا جمعة لك، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر له ذلك، فقال: "صدق عمر" (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن جابر - رضي الله عنه -: قال سعد - رضي الله عنه - لرجل يوم الجمعة: لا صلاةَ لك، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إن سعدًا (¬2) قال: لا صلاة لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " [لِمَ] (¬3) يا سعدُ؟ "، قال: إنه تكلم وأنت تخطب يا رسول الله، قال: "صدق سعد" (¬4). ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -: روينا عن عمر، وأبيّ، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم -: أنه لا صلاة لمن تكلم، وهذا تغليظ منهم. وروى أيضًا أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إذا قال يوم الجمعة والإمام يخطب: صه، فقد لغا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5347) من مراسيل الشعبي. (¬2) في الأصل: سعد. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5349)، وفيه مجالد بن سعيد، ضعّفه غير واحد من أهل العلم. ينظر: التحقيق لابن الجوزي (3/ 215). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5351)، وقد مضى في ص 216.

وروى أيضًا عن الرُّكين بن الرُّبيع (¬1) عن أبيه (¬2) عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كفى لغوًا أن تقول لصاحبك: أنصت، إذا خرج الإمام من الجمعة (¬3). وروى أيضًا عن إبراهيم قال: استقرأ رجل عبد الله بن مسعود، والإمام يخطب يوم الجمعة، فلم يكلمه عبد الله، فلما قضى الصلاة، قال له عبد الله: الذي سألتَ عنه نصيبُك من الجمعة (¬4). وروى أيضًا عن الزهري: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كلام الإمام يقطع الكلام، وخروج الإمام يقطع الصلاة (¬5). وروى أيضًا ...................................... ¬

_ (¬1) ابن عَمِيلة الفزاري، أبو الربيع الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 131 هـ. ينظر: التقريب ص 198. (¬2) الرُّبَيع بن عميلة الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 194. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5335)، والطبراني في الكبير رقم (9543)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 186): (رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح). (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (9542)، قال الهيثمي في المجمع: (2/ 186): (رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات)، سوى إبراهيم بن مهاجر البجلي؛ فإنه: صدوق لين الحفظ. ينظر: التقريب ص 64. (¬5) أخرج الجملة الأولى ابن حزم في المحلى (5/ 52) عن الزهري عن عمر - رضي الله عنه -، والزهري لم يدرك عمر، وقد وردت من قول الزهري - رحمه الله -، ينظر: موطأ مالك، كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في الإنصات يوم الجمعة، والإمام يخطب، ومصنف ابن أبي شيبة رقم (5344).

عن علقمة بن عبد الله (¬1) قال: قدمنا المدينة يوم الجمعة، فأمرت أصحابي أن يرتحلوا بي (¬2)، ثم أتيت المسجد، فجلست قريبًا من ابن عمر - رضي الله عنهما -، فجاء رجل من أصحابي، فجعل يحدثني، والإمام يخطب: فعلنا كذا وكذا، فلما كثر، قلت له: اسكت، فلما قضينا الصلاة، ذكرت ذلك لابن عمر - رضي الله عنهما -، فقال: أما أنت، فلا جمعة لك، وأما صاحبك، فحمار (¬3) (¬4). فإن قيل: يعارض هذا ما رواه النجاد بإسناده عن محمد بن عثمان (¬5): جاء، وعمر - رضي الله عنهما - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال له عمر: ما حبسك؟ فقال له عثمان: ما زدتُ على أن توضأت، ثم جئت بعد ما ¬

_ (¬1) ابن سنان البصري، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 100 هـ. ينظر: التقريب ص 437. (¬2) كذا في الأصل، وليست موجودة في مصنف ابن أبي شيبة. (¬3) في الأصل: فجار، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5346)، وبنحوه رواه ابن حزم في المحلى (5/ 46). (¬5) كذا في الأصل، ولم أقف عليه من رواية محمد بن عثمان، ولعل ثمة سقطًا هو: عن محمد بن سيرين: أن عثمان جاء وعمر ... ، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5293) عن محمد بن سيرين، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 177)، والأثر بنحوه في الصحيحين، أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة، رقم (878)، ومسلم في كتاب: الجمعة، رقم (845).

سمعتُ النداء، فلما دخل عمر - رضي الله عنه - بيته، دخل ابن عباس - رضي الله عنهما - عليه، فقال: يا بن عباس! أما تسمع ما قال: ما زدتُ على أن توضأت ثم جئتُ؟ فقال عمر: أما إنه قد علم أنا كنا نؤمر بغير ذلك، قال: ألكم أيها المهاجرون خاصة، أم للناس عامة؟ فقال عمر - رضي الله عنه -: لا أدري. فقد وجد الكلام من عثمان - رضي الله عنه - في حال الخطبة، ولم ينكره أحد من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. قيل له: كلام عمر - رضي الله عنه - فيجوز عندنا؛ لأنه الخاطب - وهذا فصل يأتي - وأما كلام عثمان - رضي الله عنه -، فيجوز؛ لأن عمر - رضي الله عنه - قطع الخطبة في حال سؤاله، وخلافنا في حال الذكر، والقياس: أن الخطبة ذكرٌ جُعل شرطًا في صحة الصلاة، فجاز أن يحرم الكلام؛ دليله: تكبيرة الإحرام، والقراءة، ولا يلزم عليه الخاطب؛ لأن التعليل لجنس الذَّكر، فلا يلزم عليه الأحوال. قيل: إنما نُهِي عن الكلام في حال الصلاة؛ لأنه لا يشترك فيه الإمام والمأموم، فكان يجب أن يشترك الخاطب والمستمع أيضًا في النهي. قيل له: إنما لم يشتركا في الخطبة؛ لأن المستمع إذا تكلم حصل تاركًا للإنصات، وراغبًا عنه، وليس كذلك الخاطب؛ لأنه بالكلام تزول الخطبة، وقد يجوز قطعها، فلا يحصل تاركًا للإنصات، ولأن المأموم يشارك الإمام في نفس الفعل، وها هنا أحدُهما فاعل. فإن قيل: فالمعنى في الصلاة: أن الكلام يُبطل، والخطبة لا يبطلها الكلام، فلهذا لم يجز فيها. قيل له: فيجب أن لا يمنع من التطوع أيضًا؛ لأنه لا يبطلها، وأيضًا:

فإن في إباحة الكلام ترك الإنصات استخفافًا بالإمام، وإبطالًا لمعنى الخطبة، وإزالة فائدتها، وذلك أولى ما وصف بأنه محرم؛ ولأن في الكلام ترك الإنصات، فيجب أن يمنع منه المستمع ابتداء؛ دليله: صلاة النفل، ولا يلزم عليه تحية المسجد؛ لأنها لا تفعل ابتداءً، وإنما تفعل لسبب، ومثله في الكلام يجوز منه ما له سبب، وهو رد السلام، وتشميت العاطس على إحدى الروايتين. فإن قيل: الصلاة تتصل، والكلام يمكن قطعه. قيل له: تحية المسجد تتصل، وتجوز عندك. واحتج المخالف: بما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أصاب أهلَ المدينة قحطٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما هو يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله! هلك الكراع (¬1)، وهلك [الشاء] (¬2)، فادع لنا أن يسقينا، فمدَّ يديه، ودعا، قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت ريح، ثم أنشأت سحابة، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عزاليها، فخرجنا نخوض في الماء حتى أتينا منازلنا، فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل، أو غيره، فقال: يا رسول الله! تهدمت ¬

_ (¬1) الكُرَاع: يطلق على الخيل، والإبل. ينظر: النهاية في غريب الحديث، ولسان العرب (كرع). (¬2) ساقطة من الأصل، وهي في الحديث. ينظر: صحيح البخاري، كتاب: الجمعة، باب: رفع اليدين في الخطبة، رقم (932) وفي كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3582).

البيوت، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [ثم] (¬1) قال: "حوالينا ولا علينا"، فنظرتُ إلى السحاب تصدع حول المدينة كأنها أكليل (¬2). وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: دخل رجل ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فأشار إليه الناس: اسكتْ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الثالثة: "ويحك! ماذا أعددت لها؟ "، قال: أحبُّ الله ورسوله، قال: "إنك مع من أحببت" (¬3). ورُوي عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنه قال: لما دنوت من المدينة، أنختُ راحلتي، وحللت عَيبتي (¬4)، ولبست حُلَّتي، ودخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فسلم عليّ رسول الله، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: يا عبد الله! هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمري شيئًا؟ قال: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، وهي في الحديث. (¬2) مضى تخريجه في (1/ 218). (¬3) أخرجه أحمد في المسند رقم (12703)، واللفظ له بدون لفظ: (على المنبر يوم الجمعة)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 65) بدون ذكر الجمعة، وأخرج البخاري نحوه في كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، رقم (3688)، ومسلم في كتاب: البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، رقم (2639). (¬4) في الأصل: عني. والعَيْبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها. ينظر: فتح الباري لابن حجر (5/ 413).

نعم، ذكرك بأحسن الذكر (¬1). والجواب: أن هذا محمول على الوقت الذي كان الكلام مباحًا في الصلاة، فكان مباحًا أيضًا في حال الخطبة، فلما نهي عن الكلام في الصلاة، نُهي عنه في حال الخطبة، وتكون الدلالة على صحة هذا: ما ذكرنا من الأخبار. واحتج: بأنه ذكرٌ يتقدم الصلاة، فلا يجب السكوت في حال الاستماع؛ دليله: الأذان والإقامة. والجواب: أن حال استماع الأذان لا تحرم النوافل المبتدأة، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يحرم التطوع لا لأجل الوقت، فحرم الكلام؛ دليله: حال الصلاة. واحتج: بأنه غير متلبس بالصلاة، فلم يحرم عليه الكلام إذا كان على بعد من الإمام؛ بحيث لا يسمع صوت الإمام. والجواب: أن المعنى هناك: أنه غير مستمع لها، وفي مسألتنا هو مستمع، ففي ترك الإنصات استخفافٌ بالإمام، وإبطالٌ لمعنى الخطبة؛ ولأنه لو كان خلف الإمام في صلاة يجهر فيها بها، لم يستحب له القراءة عندهم، ولكن مع سكتاته، ولو كان في صلاة يجهر بها، قرأ أي وقت ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1798)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الجمعة، رقم (1053)، وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: حجة من زعم أن الإنصات للإمام اختيار، رقم (5843).

فصل

شاء، وقد قال أحمد - رحمه الله - (¬1): إن كان على بعد؛ بحيث لا يسمع قراءته، قرأ، وإن كان بحيث يسمع، لم يقرأ. فالحكم في سماع الخطبة، وقراءة الإمام سواء. احتج: بأن خطبة العيد لا يجب الإنصات فيها، كذلك خطبة الجمعة. والجواب: أنه قد اختلفت الرواية في خطبة العيد، فروى حنبل: أنه قال (¬2): إذا خطب يوم العيد، أنصت إذا سمع الخطبة، فإذا لم يسمع، يرد السلام. وهذا يدل على الإنصات، وروى حمدان بن علي عنه: أنه قال (¬3): يتكلم والإمام يخطب يوم العيد، ليس هو مثل الجمعة؛ فقد فرق بينهما، وكأنّ المعنى فيه: أن الخطبة للجمعة قائمة مقام الركعتين، فجاز أن يحرم الكلام، وهذا معدوم في خطبة العيد. * فصل: والدلالة على جواز الكلام للخاطب: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: دخل النعمان بن قوقل ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا نعمان! صلِّ ركعتين، تجوَّزْ فيهما، وإذا ¬

_ (¬1) ينظر: ص 214, 215. (¬2) لم أقف على رواية حنبل، وقد نقل مثلها عبد الله في مسائله رقم (626). (¬3) لم أقف على روايته، وينظر: مختصر ابن تميم (3/ 16)، والشرح الكبير (5/ 357)، والإنصاف (5/ 352)، وتصحيح الفروع (3/ 204).

دخل أحدُكم يوم الجمعة، فليصل ركعتين، وليخففهما" (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء سُلَيك الغَطَفاني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلِّ ركعتين تجوَّزْ فيهما" (¬2)، وهذا نص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم في خطبة الجمعة، وهو يخطب. فإن قيل: هذا محمول على الوقت الذي كان الكلام مباحًا، وعلى أنه كان يخطب لغير الجمعة؛ بدليل: أنه رُوي في حديث سليك: أنه دخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس على المنبر (2)، ومعلوم أنه ما كان يخطب لغير الجمعة جالسًا، ورُوي أنه أمسك عن الخطبة حتى صلى ركعتين (¬3). قيل له: هذا التأويل لا يصح؛ لأنه رُوي في الخبر: "صل ركعتين تجوز فيهما"؛ يعني: خفف، ولو كان الكلام مباحًا، لم يأمر بالتخفيف؛ لأن ذلك جائز. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (5/ 2654)، وإسناده ثقات، إلا منصور بن أبي الأسود، فإنه (صدوق)، وكذلك أبو سفيان الإسكاف (صدوق). ينظر: التقريب ص 291 و 611. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، رقم (875). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5206)، والدارقطني في سننه، كتاب: الجمعة، باب: في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، رقم (1621 و 1622)، قال: (مرسل، ولا تقوم به الحجة ... وأبو معشر ضعيف)، ونقل المؤلف: أن الإمام أحمد - رحمه الله - ضعّفه.

ولا يصح أيضًا حملُه على الخطبة لغير الجمعة؛ لأن الراوي ذكر أنه كان يخطب يوم الجمعة، والخطبة إذا ذكرت يوم الجمعة، فالظاهر أنها للجمعة. وقولهم: إنه رُوي أنه دخل وهو جالس، وأنه أمسك عن الخطبة حتى صلى، فغير ثابت، وقد قال محمد بن أبي حرب: قلت لأحمد: يُروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه، قال: ليس بالجيد، أو من وجه ضعيف. وروى أيضًا بإسناده عن عطاء قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال للناس: "اجلسوا"، فسمعه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وهو على الباب، فجلس، وفي لفظ آخر: فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تعال (¬1) يا عبد الله" (¬2). وروى أيضًا بإسناده عن قيس (¬3) قال: جاء أبي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقام بين يديه في الشمس، فأمره فتحول إلى الظل (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل طمس، وفي الهامش (للعال)، والتصحيح من سنن أبي داود. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يكلّم الرجل في خطبته، رقم (1091) عن عطاء عن جابر، وقال: (هذا يعرف مرسلًا، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)؛ كما ذكره المؤلف هنا، وينظر: العلل للدارقطني (13/ 382 و 383). (¬3) ابن أبي حازم البجلي، أبو عبد الله الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة ... مخضرم)، توفي بعد التسعين. ينظر: التقريب ص 511. (¬4) أخرجه أحمد في المسند رقم (15515 و 15516)، وأبو داود في كتاب: =

وروى أيضًا بإسناده عن ابن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يخطب، إذ أقبل حسن وحسين - رضي الله عنهما -، وعليهما ثوبان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحملهما، فقال: "صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى نزلتُ فحملتُهما" (¬1)، وهذا كله يدل على جواز الكلام من الخاطب، والظاهر: أنها خطبة الجمعة؛ لأنها المعهودة. وروى أيضًا بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - على المنبر يقول: أنا ابن بضع وخمسين، وإنما أتاني المشيب من قبل أخوالي بني المغيرة (¬2). ¬

_ = الأدب، باب: في الجلوس بين الظل والشمس، رقم (4822)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الأدب، رقم (7711)، وصحح إسناده الألباني في الصحيحة (2/ 332) رقم (833). (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، رقم (1109)، والترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي محمد الحسن بن علي، والحسين - رضي الله عنهما -، رقم (3774)، والنسائي في كتاب: الجمعة، باب: نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، وقطعه كلامه، رقم (1413)، وابن ماجه في كتاب: اللباس، باب: لبس الأحمر للرجال، رقم (3600)، قال ابن عبد الهادي: (إسناد هذا الحديث على شرط مسلم). ينظر: التنقيح (2/ 569). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (71)، وقال الهيثمي في المجمع =

وبإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - على المنبر يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مدّ يده للدعاء، لم يردهما حتى يمسح بهما على وجهه (¬1)، ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلافه. والقياس: أنها عبادة لا يفسدها الكلام، فلم يحرم فيها على فاعلها؛ دليله: الطواف. وفيه: احتراز من الصلاة؛ لأن الكلام يفسدها، ومن المستمع؛ لقولنا: على فاعلها. ولأنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم يحرم الكلام على فاعله في حال الاشتغال به؛ كالأذان. واحتج المخالف: بما تقدم من الأخبار المذكورة في أول المسألة. والجواب: أنها واردة في المستمع دون الخطيب، ونحن نقول بظاهرها في المستمع. واحتج: بأنه ذكرٌ جُعل شرطًا في صحة الجمعة، فكان الكلام منهيًا عنه في حال الاشتغال به؛ دليله: المستمع، وكالقراءة في حق الإمام في الصلاة. ¬

_ = (9/ 79): (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح). (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: ما جاء في رفع الأيدي عند الدعاء، رقم (3386)، والحاكم في المستدرك، كتاب: الدعاء والتكبير والتهليل، رقم (1967)، وليس فيه ذكر المنبر، قد جاء ذكره في كتاب حديث أبي الفضل الزهري (1/ 476)، قال أبو زرعة: (حديث منكر). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (3/ 256)، رقم (2106)، وضعفه ابن مفلح في الفروع (2/ 364).

163 - مسألة: لا بأس بالكلام بعد خروج الإمام، وقبل أن يأخذ في الخطبة، وما بين نزوله إلى افتتاح الصلاة

والجواب: أن الكلام يبطل الصلاة، فلهذا حرم على الفاعل للصلاة، وليس كذلك الخطبة؛ لأنها لا تفسد بالكلام، فلم يحرم الكلام على الفاعل له؛ كالطواف، وأما المستمع، فإنما حرم الكلام عليه؛ لأنه بالكلام يحصل تاركًا للإنصات، وهذا المعنى معدوم في الإمام؛ لأنه إذا تكلم، فليس هناك ما ينصت إليه؛ لأنه تنقطع الخطبة، وليس من شرطها أن تقع متوالية، والله أعلم. * * * 163 - مَسْألَة: لا بأس بالكلام بعد خروج الإمام (¬1)، وقبل أن يأخذ في الخطبة، وما بين نزوله إلى افتتاح الصلاة: نص عليه في رواية صالح (2)، وعبد الله (¬2)، فقال: لا بأس بالكلام بعد الخطبة إذا نزل الإمام من المنبر. وبه قال مالك (¬3)، ............................................ ¬

_ (¬1) في الأصل: الكلام. (¬2) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وينظر: المغني (3/ 199 و 200)، والمحرر (1/ 242)، ومختصر ابن تميم (2/ 456)، والفروع (3/ 183)، والمبدع (2/ 176)، والإنصاف (5/ 304 و 309)، وكشاف القناع (3/ 386)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 502 و 504). (¬3) ينظر: الإشراف (1/ 330)، والمذهب (1/ 300).

والشافعي (¬1)، وأبو يوسف، ومحمد - رحمهم الله - (¬2). وقال أبو حنيفة - رحمه الله - (2): خروج الإمام يقطع الكلام، ويُكره الكلام ما بين فراغه من الخطبة، ودخوله في الصلاة. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوم الجمعة من المنبر، فيقوم معه الرجل، فيكلمه في الحاجة، ثم ينتهي إلى مصلاه (¬3). فإن قيل: هذا محمول على الوقت الذي كان الكلام مباحًا في الصلاة. ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 418)، والمهذب (1/ 375). (¬2) ينظر: التجريد (2/ 949)، والهداية (1/ 84)، وفتح القدير (1/ 420). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الإمام يتكلم بعد ما ينزل من المنبر، رقم (1120)، وقال: (الحديث ليس بمعروف عن ثابت، هو مما تفرد به جرير بن حازم)، والترمذي في كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في الكلام بعد نزول الإمام من المنبر، رقم (517)، وقال: (لا نعرفه إلا من حديث جرير بن حازم، وسمعت محمدًا - يعني: البخاري - يقول: وهم جرير بن حازم في هذا الحديث، والصحيح ما روي عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة، فأخذ رجل بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - , فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم. قال محمد: والحديث هو هذا، وجرير بن حازم ربما يهم في بعض الشيء، وهو صدوق)، وأخرجه النسائي في كتاب: الجمعة، باب: الكلام والقيام بعد النزول عن المنبر، رقم (1419)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في الكلام بعد نزول الإمام عن المنبر، رقم (1117).

قيل له: قوله: (كان) إخبارٌ عن دوام الفعل في عموم الأوقات، وعلى أن هذا ادعاءُ (¬1) نسخ بغير دليل، وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن سماك بن سلمة (¬2) قال: قال عمر - رضي الله عنه -: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام (¬3). فبيّن أن الخطبة تقطع الكلام. وروى الزهري عن ثعلبة بن أبي مالك (¬4) - رضي الله عنهما - قال: خروج الإمام يقطع السبحة، وكلامه يقطع الكلام، وإنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، وقام عمر - رضي الله عنه -، لم يتكلم أحد حتى يفرغ من الخطبتين كلتيهما، فإذا أقيمت الصلاة، ونزل عمر، تحدثوا (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: الدعا. (¬2) الضَّبي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 257. (¬3) مضى الأثر في ص 219، وسماك لم يدرك عمر - رضي الله عنه -. ينظر: تهذيب الكمال (12/ 121). (¬4) القرظي، أبو مالك المدني، مختلف في صحبته، وهو ثقة. ينظر: التقريب ص 110. (¬5) أخرجه مالك في المدونة (1/ 148)، وفي الموطأ، كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في الإنصات يوم الجمعة، والإمام يخطب، رقم (7)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 370)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: الصلاة يوم الجمعة نصف النهار، وقبله وبعده حتى يخرج الإمام، رقم =

وهذا إشارة إلى جماعة الصحابة - رضي الله عنهم -. ولأنها حالة يتقدم استماع الخطبة، فأشبه قبل خروج الإمام، وإن شئت قلت: بأنها حالة أذان، فلم يكره الكلام؛ دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف: بما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد، والإمامُ على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام" (¬1). والجواب: أن ظاهر الخبر يقتضي أنه إذا فرغ من الخطبة، يجوز الكلام؛ لأنه لم يقل: حتى يفرغ من الصلاة، وعلى أن هذا محمول على حال الخطبة بما تقدم. واحتج: بأنه منهي عن ابتداء التطوع في هذه الحال لا لأجل الوقت، وجب أن يكون منهيًا عن الكلام؛ قياسًا على الكلام. والجواب: أن الصلاة لأنها تتصل بحال الخطبة، والكلام يمكن قطعه حال خروج الإمام، فلم (¬2) يتصل بحال الخطبة، فلهذا فرقنا بينهما، وأما حال الخطبة، فإنما منع من الكلام؛ لأنها حال استماعها، فلهذا نهي ¬

_ = (5684 و 5685)، وصحح إسناده الألباني. ينظر: الضعيفة (1/ 202) رقم (87). (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (2/ 184)، وقال الهيثمي: (فيه أيوب بن نهيك، وهو متروك). (¬2) في الأصل هكذا: فلملا.

164 - مسألة: إذا دخل المسجد، والإمام يخطب يوم الجمعة استحب له أن يركع ركعتين تحية المسجد

عن الكلام فيها اعتبارًا بما قبل خروج الإمام. واحتج: بأنه منهي عنه في حال الخطبة، فوجب أن يكون منهيًا عنه قبل الخطبة، وبعد خروج الإمام؛ كالصلاة. والجواب عنه: ما تقدم، وقد روى عبد الله بن أحمد - رضي الله عنهما - (¬1) قال: رأيت أبي يصلي يوم الجمعة ركعات قبل الخطبة، ركعتين ركعتين، فإذا قرب الأذان أو الخطبة، جلس متربعًا، ونكّس رأسه، والله أعلم. * * * 164 - مَسْألَة: إذا دخل المسجد، والإمام يخطب يوم الجمعة استُحِب له أن يركع ركعتين تحيةَ المسجد: نص عليه في رواية الميموني (¬2)، وأحمد بن الحسن (2)، فقال: يصلي الركعتين، والإمام يخطب، ويخففهما، كما جاء إسنادان جيدان عن الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، وعمر - رضي الله عنهما -، وسمع جابرًا. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (586). (¬2) لم أقف على روايته، وقد نقلها: صالح في مسائله رقم (813)، وعبد الله في مسائله رقم (576 و 577)، وأبو داود في مسائله رقم (412)، وابن هانئ في مسائله رقم (444 و 448 و 451)، والكوسج في مسائله رقم (522)، وينظر: المغني (3/ 192)، والمحرر (1/ 241)، ومختصر ابن تميم (2/ 452)، والإنصاف (5/ 298).

وبهذا قال الشافعي (¬1)، وداود (¬2) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4) - رحمهما الله -: يجلس ولا يركع. دليلنا: ما روى أحمد (¬5) - رحمه الله -، ذكره أبو بكر قال: نا أبو معاوية (¬6) قال: نا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: جاء سُلَيك الغَطَفاني - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبيُّ يخطب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة، فليصلِّ ركعتين خفيفتين" (¬7). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن جابر - رضي الله عنه -: قال: جاء سليك الغطفاني والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقال له: "أصليت؟ "، قال: لا، فقال: "فصلِّ ركعتين تجوَّزْ فيهما" (¬8). وروى أيضًا بإسناده عن جابر قال: دخل النعمان بن قوقل - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) ينظر: الأم (2/ 400)، والبيان (2/ 596). (¬2) ينظر: المحلى (5/ 50). (¬3) ينظر: مختصر الطحاوي ص 35، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 337). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 148)، والمعونة (1/ 224). (¬5) في المسند رقم (14405). (¬6) محمد بن خازم، أبو معاوية الضرير الكوفي، قال ابن حجر: (ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش)، توفي سنة 195 هـ. ينظر: التقريب ص 531. (¬7) مضى تخريجه في ص 225، 226. (¬8) مضى تخريجه ص 226.

ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا نعمان! صلَّ ركعتين، ولتخففهما" (¬1). وروى بإسناده عن عياض بن عبد الله (¬2) قال: رأيت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - دخل المسجد يوم الجمعة، ومروانُ يخطب، فقام يصلي الركعتين، فجاء إليه الأحراس ليُجلسوه، فأبى حتى صلى الركعتين، فلما انصرف، قمنا إليه، فقلنا: يا أبا سعيد! كاد هؤلاء أن يقعوا بك، فقال أبو سعيد: ما كنت لأدعهما لشيء، وقد رأيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , رأيت رجلًا دخل المسجد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصليت يا فلان؟ "، قال: لا، قال: "فصل ركعتين"، ثم دخل ذلك الرجل في الجمعة الثانية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب يوم الجمعة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصليت يا فلان؟ "، قال: لا، قال: "فصل ركعتين" (¬3)، وهذه الأخبار نصوص في المسألة. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه ص 226. (¬2) ابن سعد بن أبي سَرْح القرشي العامري، المكي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة على رأس المئة. ينظر: التقريب ص 484. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، رقم (511)، وقال: (حديث أبي سعيد الخدري حديث حسن صحيح)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 96)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام على المنبر، رقم (5693).

فإن قيل: ليس في الخبر أنه كان يخطب للجمعة، ويجوز أن تكون خطبته لغير الجمعة، يدل عليه: ما روى قتيبة (¬1) عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر، فقعد سُليكٌ قبل أن يصلي، فقال له: "اركع ركعتين" (¬2)، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخطب للجمعة جالسًا. قيل له: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه قال في رواية أحمد - رحمه الله -: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة، فليصل ركعتين"، ولا يجوز أن يقول هذا، وهو يريد غير خطبة الجمعة. والثاني: أن الراوي أضاف الخطبة إلى يوم الجمعة، والخطبة لأمر عارض لا تختص بيوم الجمعة، فعلم أنه قصد الخطبة المعهودة ليوم الجمعة. وقوله: إنه دخل، وهو جالس، فغير مشهور، وقد روينا في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن رجلًا دخل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب؛ ولأنه يجوز أن يكون جالسًا لعذر، وذلك لا يمنع الخطبة جالسًا. فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا في الوقت الذي كان الكلام مباحًا في الصلاة. ¬

_ (¬1) ابن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي، أبو رجاء البغلاني، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 240 هـ. ينظر: التقريب ص 508. (¬2) مضى تخريجه في ص 225.

قيل له: في الخبر ما يمنع من هذا، وهو قوله - عليه السلام -: "وتجوّز فيهما"، ولو كان في ذلك الوقت، لم يأمر بالتخفيف. فإن قيل: فقد رُوي في بعض الألفاظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمره أن يصلي ركعتين، أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه، ثم عاد إلى الخطبة (¬1). قيل له: قال محمد بن حرب: قلت لأحمد - رحمه الله -: يروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه؟ قال: ليس بالجيد، أو من وجه ضعيف (¬2)، وعلى أن عندهم أن إمساكه عن الخطبة لا يبيح له ركعتين، فلا يصح الاحتجاج به. فإن قيل: رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "اركع ركعتين، ولا تَعُدْ لمثل هذا" (¬3). قيل له: أراد به: ولا تعد إلى التأخير إلى مثل هذا الوقت؛ ولأن الخطبة ذكرٌ يتقدم الإقامة، فلم يمنع تحيةَ المسجد؛ دليله: الأذان. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لا يمنع غير تحية المسجد، فلهذا لم يمنع تحية المسجد، وها هنا يمنع غير تحية المسجد، فمنع تحية المسجد. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 226. (¬2) ينظر: ص 227. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب: الجمعة، باب: في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، رقم (1620)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد عنعن.

قيل له: لا يمتنع أن يمنع غير تحية المسجد، ولا يمنع تحية المسجد، كما قلت في حال زوال الشمس يمنع غير الفرض، ولا يمنع الفرض، وكذلك بعد العصر، وبعد الفجر لا يمنع قضاء الفوائت، ويمنع غيرها من النوافل. فإن قيل: تحية المسجد لا تجوز عندك في وقت النهي، وإن كان لها سبب. قيل له: النهي هناك يختص الصلاة، ألا ترى أنه لا ينهى عنه غيرها؟ والنهي ها هنا لا يختص الصلاة، ألا ترى أنه ينهى عن غيرها، وهو الكلام؟ واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وروي: أن هذه الآية نزلت في شأن الخطبة، ورُوي: أنها نزلت في القراءة خلف الإمام (¬1)، وهي عليهما جميعًا، فأمر باستماع الخطبة، والاشتغالُ بالصلاة يمنع من استماعها. والجواب: أن هذا محمول على وجوب الإنصات، وترك الاشتغال، ما عدا تحية المسجد؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بما رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمامُ على المنبر، فلا صلاة له ولا كلام حتى يفرغ الإمام" (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: ص 215. (¬2) مضى تخريجه في ص 233.

والجواب: أنه محمول على ما زاد على تحية المسجد؛ بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بما رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: أنصت، فقد لَغَوْتَ" (¬1)، والأمرُ بالإنصات في تلك الحال من المعروف، وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لغوًا، ونهى عنه، والصلاة أكثر منه، فأحرى أن يكون منهيًا عنها. والجواب: أنه يجوز أن ينهى عن ذلك القول، ولا يكون تنبيهًا على النهي عن الركعتين؛ كما لم يكن ذلك تنبيهًا (¬2) على المنع من قضاء الفوائت والوتر في حال الخطبة، ولا فرق بينهما؛ لأن تلك صلوات لها سبب، وركعات المسجد كذلك. واحتج: بما روى أبو داود (¬3) عن عبد الله بن بسر صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، و- رضي الله عنه -، قال: جاء رجل يتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجلس، فقد آذيتَ" (¬4)، وروى أبو ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 216. (¬2) في الأصل: عندك تنبيه. (¬3) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، رقم (1118). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (17674)، والنسائي في كتاب: الجمعة، باب: النهي عن تخطي رقاب الناس، رقم (1399)، والحديث صححه ابن الملقن، قال ابن حجر: (ضعفه ابن حزم بما لا يقدح). ينظر: البدر المنير (4/ 680)، والتلخيص (3/ 1044).

عبيد في غريب الحديث (¬1): "وآنيت" (¬2)، ولم يأمره بالصلاة. والجواب: أنه يجوز أن يكون قال له ذلك بعد ما كان صلى ركعتين. واحتج: بأنه منهي عن الكلام في حال الخطبة، فوجب أن يكون منهيًا عن ابتداء الصلاة التطوع؛ قياسًا على من كان حاضرًا، فخرج الإمام، وابتدأ بالخطبة. والجواب: أن الكلام لا سبب له، ألا ترى ما له سبب يجوز، وهو: إذا رأى ضريرًا تردَّى، فإنه يحذره البئر، وليس كذلك تحية المسجد؛ لأنه مندوب إليها في الجملة، فهي صلاة لها سبب، فجاز فعلها، وإن لم يجز فعلها نافلة مبتدأة، كما جاز قضاء الفوائت بعد العصر وبعد الفجر، وإن لم تجز النوافل؛ لأنه لا حاجة به إليها، ولا سبب لها. واحتج: بأن كل حال لو كان فيها حاضرًا، لم يجز له أن يبتدئ التطوع، فإنه إذا أدركه في تلك الحال، لم يجز له أن يبتدئ به، أصله: حال اشتغاله بالجمعة. والجواب: أنه إذا دخل والإمام يصلي، فصلى معه، يتضمن التحية؛ ¬

_ (¬1) (1/ 53). (¬2) في الأصل: واثبت، والتصويب من غريب الحديث. وآنيت: أي: أخرت المجيء وأبطأت. ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 53).

165 - مسألة: إذا استوى الإمام على المنبر، واستقبل الناس بوجهه، سلم

لأنه قد اشتغل بالصلاة، ألا ترى أنه لو دخل المسجد، وعليه صلاة فريضة، فإنه يشتغل بالفريضة؛ لأن ذلك يتضمن التحية؟ وليس كذلك المستمع؛ فإنه لم يأت بالتحية، ولا بما يتضمنها، فلهذا فرقنا بينهما، والله أعلم بالصواب. * * * 165 - مَسْألَة: إذا استوى الإمام على المنبر، واستقبل الناس بوجهه، سَلَّمَ: نص عليه في رواية الأثرم (1)، وإبراهيم بن الحارث (1)، وحرب (¬1)، فقال: إذا صعد المنبر للخطبة، يسلِّم على الناس، وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4) - رحمهما الله -: لا يسلِّم. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد يوم الجمعة، سلَّم على مَنْ عند ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: مختصر الخرقي ص 60، والجامع الصغير ص 57، والهداية ص 110، والمغني (3/ 161)، والمحرر (1/ 237)، وشرح الزركشي (2/ 166)، والإنصاف (5/ 236). (¬2) ينظر: المهذب (1/ 366)، والبيان (2/ 576). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 344)، والتجريد (2/ 975). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 150)، والإشراف (1/ 331).

المنبر جالس، فإذا صعد المنبر، توجه [إلى] (¬1) الناس وسلَّم (¬2). روى النجاد بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر، سلم (¬3). وقوله: [كان] إخبارٌ عن دوام الفعل، ولا استقبال بعد استدبار، فسن السلام عنده؛ دليله: إذا استقبل قومًا بعد أن فارقهم. واحتج المخالف: بأن ترك السلام عملُ أهل المدينة المتصلُ بينهم، فلو كان عندهم فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، [لم] (¬4) يعدلوا عنه. والجواب: أن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن أبي نضرة (¬5) قال: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 381)، رقم (6677)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: الإمام يسلم على الناس إذا صعد المنبر قبل أن يجلس، رقم (5742)، والحديث ضعيف؛ لتفرد عيسى بن عبد الله الأنصاري به. ينظر: التنقيح لابن عبد الهادي (2/ 566)، والبدر المنير (4/ 626). (¬3) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، رقم (1109)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: الإمام يسلم على الناس إذا صعد المنبر قبل أن يجلس، رقم (5741)، قال أبو حاتم: (حديث موضوع). ينظر: العلل لابن أبي حاتم رقم (590). (¬4) بياض في الأصل، وبها يتم الكلام، وينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (1/ 331). (¬5) المنذر بن مالك بن قُطَعة العبدي، العوفي، البصري، قال ابن حجر: =

كان عثمان - رضي الله عنهما - قد كبر، فإذا صعد المنبر، سلَّم، فأطال قدر (¬1) ما يقرأ الإنسان أم الكتاب (¬2). وروى أيضًا عن عمرو بن مهاجر (¬3): أن عمر بن عبد العزيز (¬4) - رضي الله عنه -: كان إذا استوى على المنبر، سلَّم على الناس، وردُّوا عليه (¬5). ورُوي عن سليمان بن أبي داود (¬6) قال: رأيت ابن الزبير - رضي الله عنهما -: صعد المنبر، فلما قام عليه، سلَّم، ثم جلس (¬7). وإذا كان كذلك، لم يكن ادعاءُ إجماع المدينة على خلاف ذلك، ¬

_ = (ثقة)، توفي سنة 108 هـ. ينظر: التقريب ص 611. (¬1) في الأصل: قد. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5239)، وصحح إسناده الألباني. ينظر: السلسلة الصحيحة (5/ 75)، رقم (2076). (¬3) ابن أبي مسلم الأنصاري، أبو عبيد الدمشقي، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 139 هـ. ينظر: التقريب ص 473. (¬4) ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، أمير المؤمنين، جده من أمه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، توفي سنة 101 هـ. ينظر: التقريب 457. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5240)، وصحح إسناده الألباني. ينظر: السلسلة الصحيحة (5/ 75)، رقم (2076). (¬6) هو: سليمان بن نشيط، ولم أجد مزيدًا على هذا في ترجمته. ينظر: الجرح والتعديل (4/ 174). (¬7) أخرجه ابن المنذر في الأوسط (4/ 63)، وسليمان بن نشيط روايته عن ابن الزبير - رضي الله عنهما - مرسلة، كما ذكره ابن أبي حاتم. ينظر: الجرح والتعديل (4/ 147).

166 - مسألة: إذا خطب يوم الجمعة، وصلى آخر، جاز في أصح الروايتين

بل كان الإجماع على فعله. واحتج: بأن صعود المنبر اشتغالٌ بافتتاح عبادة، فلم يشترط فيه السلام؛ كسائر العبادات، وكالخطبة الثانية. والجواب: أن هناك لم يحصل الاستدبار، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه قد حصل الاستقبال بعد الاستدبار، فلهذا كان مستحبًا، والله أعلم. * * * 166 - مَسْألَة: إذا خطب يوم الجمعة، وصلى آخرُ، جاز في أصح الروايتين: نقل ذلك صالح (¬1)، وابن منصور (¬2)، وأبو طالب (¬3): في إمام خطب يوم الجمعة، ثم أحدث قبل أن يدخل في الصلاة، فقدَّم مَنْ شهد الخطبة، أو من لم يشهدها، جاز أن يصلي بهم ركعتين، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، وينظر: الإرشاد ص 101، والجامع الصغير ص 57، والمغني (3/ 177)، والمحرر (1/ 242)، ومختصر ابن تميم (2/ 424)، والإنصاف (5/ 234). (¬2) في مسائله رقم (531). (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 184). (¬4) ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء (1/ 351)، والتجريد (2/ 952). =

ونقل حنبل: إذا أحدث بعد ما خطب، فقدم رجلًا، فلا يصلي المقدَّم إلا أربعًا، فإن أعاد الخطبة، صلى ركعتين (¬1). وللشافعي - رضي الله عنه - قولان (¬2)، كالروايتين. وجه الرواية الأولة: أن الخطبة ذكرٌ يتقدم الصلاة، فجاز أن يصح من غير الإمام؛ كالأذان. ووجه الثانية: أن الخطبة قائمة مقام الركعتين من الوجه الذي تقدم، فحري لو أحدث في أثناء صلاته، فإنه لا يجوز له الاستخلاف، كذلك ها هنا. والجواب: أنا قد بينا - فيما تقدم (¬3) - جواز الاستخلاف في الصلاة، على أن الخطبة لا تجري مجراها؛ بدليل: أنه لا تفسد الخطبة بفساد الركعتين، وفساد الأُخريين من الصلاة يوجب فساد الأُوليين؛ ولأنه ليس من شرطها القبلة، والله أعلم. * * * ¬

_ = وهو قول المالكية. ينظر: المدونة (1/ 155)، والإشراف (1/ 324)، والتاج والإكليل (2/ 482 و 528). (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 184)، والمغني (3/ 178). (¬2) ينظر: الأم (2/ 428)، والحاوي (2/ 420)، والمهذب (1/ 382). (¬3) في (2/ 406).

167 - مسألة: ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجمعة بفاتحة الكتاب، وسورة الجمعة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب، والمنافقين

167 - مَسْألَة: ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجمعة بفاتحة الكتاب، وسورة الجمعة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب، والمنافقين: نص عليه في رواية حنبل (¬1)، فقال: يقرأ يوم الجمعة بسورة الجمعة، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]. وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ليس في صلاة الجمعة شيء مؤقت، وله أن يقرأ بفاتحة الكتاب، وما شاء من القرآن (¬3). وقال مالك - رحمه الله -: المستحب أن يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، وسورة الجمعة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب، والغاشية، فإذا قرأ المنافقين، جاز (¬4). دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة، .................... ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: الهداية ص 111، والمغني (3/ 182)، والمحرر (1/ 242)، وشرح الزركشي (2/ 183)، والإنصاف (5/ 248). (¬2) ينظر: الأم (2/ 424)، والمهذب (1/ 368). (¬3) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 333)، وتحفة الفقهاء (1/ 273). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 158)، والمعونة (1/ 225).

وبسورة المنافقين (¬1). وروى أيضًا عن عبيد الله بن أبي رافع (¬2) قال: استخلف مروان أبا هريرة - رضي الله عنه - على المدينة، فخرج (¬3) إلى مكة، فصلى أبو هريرة الجمعة، فقرأ بسورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]، قال عبيد الله بن أبي رافع (¬4): فأدركت أبا هريرة حيث انصرف، فقلت: إنك قرأت بسورتين، كان عليٌّ (¬5) - رضي الله عنه - يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما (¬6). وروى أيضًا بإسناده عن أبي عنبة الخولاني (¬7) - رضي الله عنه - وكان من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في يوم الجمعة، رقم (879). (¬2) في الأصل: عبد الله بن رافع، والتصويب من سند الحديث. وعبيد الله هو: ابن أبي رافع المدني، مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 404. (¬3) كذا في الأصل، وفي الأثر: وخرج. (¬4) في الأصل: عبيد بن رافع. (¬5) في الأصل: عليًا. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة، رقم (877). (¬7) قيل: اسمه: عبد الله بن عنبة، وقيل: عمارة، مختلف في صحبته، وجزم أبو زرعة بعدم صحبته، توفي في خلافة عبد الملك. ينظر: المراسيل لابن أبي حاتم ص 252، والتقريب ص 718.

أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة، التي يذكر فيها الجمعة، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬1). وروى أيضًا عن أبي جعفر محمد بن علي - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة، والسورة التي يذكر فيها المنافقون (¬2). وهذه الأخبار تدل على أن المستحب ما ذكرنا؛ لأن فيها إخبار [اً] عن دوام الفعل، ولا يُدَاوَمُ على ترك الفضل؛ ولأن في سورة الجمعة ذكرَ الجمعة، والحثَّ عليها، والترغيبَ فيها، وفي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} التحذيرُ من النفاق، فكان ذلك أولى. واحتج: بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. والجواب: أن قراءة الجمعة والمنافقين ما تيسر عليه قراءته، فيجب ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في القراءة في الصلاة يوم الجمعة، رقم (1120)، وابن أبي حاتم في مراسيله ص 251، رقم (936)، وفي سنده: أبو مهدي سعيد بن سنان، قال ابن حجر: (متروك). ينظر: التقريب ص 228. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (10036) عن محمد بن علي: أن رجلًا قال لأبي هريرة - رضي الله عنه -: إن عليًا - رضي الله عنه - يقرأ في يوم الجمعة بسورة الجمعة، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}؟ فقال أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما. ومحمد بن علي يرويه بواسطة عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقد مضى في أدلة المسألة أن مسلمًا أخرجه في صحيحه.

بحق الظاهر أن يقرأه؛ ولأنه قد قيل: إن معناه: فصلوا ما تيسر منه، وعبر عن الصلاة بالقراءة؛ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، معناه: صلاة الفجر. واحتج: بما روى سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ يوم الجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] (¬1). وروى النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين، والجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬2). قالوا: فلما رُوي أنه قرأ ما رويتم، ورُوي أنه قرأ ما روينا، علمنا أنه ليس فيها شيء مؤقت، وأن للإمام أن يقرأ ما شاء. والجواب: أن ما روينا أولى بالتقديم؛ لأنه عملت عليه الصحابة: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة (¬3)، وقد رُوي عن عثمان - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يقرأ به في الجمعة، رقم (1125)، والنسائي في كتاب: الجمعة، باب: القراءة في صلاة الجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، رقم (1422)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة، رقم (878). (¬3) في الأصل: أبي هريرة، وقد مضى سابقًا عمل أبي هريرة، وعلي - رضي الله عنهما -.

168 - مسألة

روى النجاد عن إبراهيم بن عبد الله بن فروخ (¬1) عن أبيه (¬2) قال: صليت مع عثمان - رضي الله عنه - الجمعة، فقرأ بسورة الجمعة، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬3). واحتج: بأنها صلاة من الصلوات، فله أن يقرأ بعد الفاتحة بما شاء؛ دليله: سائر الصلوات. والجواب: أنه ليس في سائر الصلوات ما يختص السورة بذكرها، وفي هذه السورة ذكر الجمعة، والحث عليها، والترغيب فيها، والتحذير من النفاق؛ ولأن صلاة الجمعة تختص بالجمعة، وشرائط لا يشاركها غيرها فيها، فجاز أن تختص بسورة من القرآن، والله أعلم. * * * 168 - مَسْألَة إذا دخل وقت العصر قبل الفراغ من الجمعة، بنى على ¬

_ (¬1) لم أجد مزيدًا على هذا، غير أن ابن حجر ذكر في تعجيل المنفعة (1/ 267): أن الذهبي ذكره في ميزان الاعتدال، ثم جعل بعده فراغًا، ولم ينقل كلام الذهبي، ولم أجد له في الميزان ترجمة، وقد وصف أبو حاتم إبراهيم بأنه مجهول. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 336)، رقم (459). (¬2) عبد الله بن فرُّوخ التيمي البصري، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 335. (¬3) لم أقف عليه.

الجمعة، ولا فرق بين أن يدخل وقت العصر وقد صلى ركعة، أو أقل (¬1): وهو ظاهر كلام أبي بكر (¬2)؛ لأنه قال في كتاب التنبيه: فإن صلى بهم فمِن قبل تكَمُّلِها دخل وقت العصر، أتم بهم الصلاة، ولا يختلف القول فيه، ولم يفرق، وكذا ذكر شيخنا أبو عبد الله (2). وقال أبو القاسم الخرقي (¬3): متى دخل وقت العصر، وقد صلوا ركعة، أتموا بركعة أخرى، وأجزأتهم جمعة. فظاهر هذا التقييد بالركعة يقتضي: أنه إذا دخل الوقت قبل الركعة، لم يبن عليها. وكذا حكى الأبهري (¬4) ................................. ¬

_ (¬1) ينظر: الجامع الصغير ص 59، والمغني (3/ 191)، والمحرر (1/ 247)، والفروع (3/ 147). (¬2) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 220)، والتمام (1/ 237)، والمستوعب (3/ 23)، وشرح الزركشي (2/ 190) والمبدع (2/ 149)، والإنصاف (5/ 193). (¬3) في مختصره ص 60. (¬4) هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمي، أبو بكر الأبهري المالكي، قال الذهبي: (الإمام العلامة، القاضي المحدث، شيخ المالكية ... نزيل بغداد وعالمها ... قال الدارقطني: هو إمام المالكية، إليه الرحلة من أقطار الدنيا)، له مصنفات: شرح مذهب مالك، وإجماع أهل المدينة، =

في مذهب مالك - رحمه الله - (¬1). والمذهب: على ما حكينا، وأنه لا فرق بين الركعة وغيرها، وهو قياس المذهب فيمن زال عذره قبل غروب الشمس؛ فإنه يصلي الظهر والعصر، ولم يعتبر مقدار ركعة. والمنصوص عن أحمد - رحمه الله - في هذه المسألة في رواية صالح (¬2)، وعبد الله (¬3): في إمام صلى الجمعة، فلما تشهد قبل أن يسلم، دخل وقت العصر؟ قال: تجوز صلاته. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يستقبل الظهر أربعًا (¬4). وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يبني عليها ظهرًا أربعًا (¬5). فالدلالة على أن الصلاة لا تبطل؛ خلافًا لأبي حنيفة: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقطع صلاة المرء شيء" (¬6)، وظاهره يقتضي: أن ¬

_ = والأمالي، وغيرها، توفي سنة 375 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 332)، الأعلام للزركلي (6/ 225). (¬1) ينظر: المدونة (1/ 160)، والإشراف (1/ 318)، ومواهب الجليل (2/ 518). (¬2) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: شرح الزركشي (2/ 190). (¬3) في مسائله رقم (590). (¬4) ينظر: التجريد (2/ 965)، وبدائع الصنائع (2/ 214). (¬5) ينظر: الأم (2/ 386)، وحلية العلماء (1/ 261). (¬6) مضى تخريجه في (1/ 329).

لا تبطل صلاته بخروج الوقت، وإذا لم تبطل، جاز له البناء؛ ولأن الجمعة صلاة مؤقتة، فلم تبطل بفوات وقتها؛ قياسًا على سائر الصلوات. فإن قيل: سائر الصلوات يجب قضاؤها بعد خروج الوقت، فلو كانت الجمعة بمنزلتها، لوجب أيضًا قضاؤها. قيل له: إنما افترقا في باب القضاء؛ لأن الوقت شرط في فعل الجمعة، وليس بشرط في سائر الصلوات، وليس إذا كان شرطًا في الابتداء يكون شرطًا في الاستدامة؛ كما قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬1): في العدد شرط في ابتداء الجمعة، وليس بشرط في استدامتها، فلو انفضوا بعد أن عقدها بركعة، بنى عليها جمعة عندهم، كذلك ها هنا. وعلى أنها لم تقض لعدم شرائطها، وهو: العدد، والخطبة، وسائر الصلوات توجد شرائطها بعد خروج وقتها. واحتج المخالف: بأن وقت الظهر غير وقت العصر، فلم يجز فعلها في وقت العصر، كما لا يجوز فعلها في وقت المغرب. والجواب: أنه يجوز فعلها في وقت المغرب، كما يجوز في العصر، ولا فرق بينهما. فإن قيل: الوقت شرط، كما أن العدد شرط، ثم ثبت أنه لو تفرق العدد قبل الفراغ منها، استقبل الصلاة، كذلك الوقت. ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 208).

فصل

قيل له: عندك: أنه لا يستقبل الصلاة إذا عقدها بسجدة، وفي الوقت يستقبل الصلاة في كل حال، فهما مختلفان في الاعتبار، وأما على أصلنا هو: أن الوقت إنما سقط اعتباره في حال الاستدامة لأجل العذر؛ لأن الوقت إذا فات، لم يمكن استدراكه، فهذا عذر، ومثله نقول في العدد: يسقط اعتباره في حال العذر، وهو المسبوق، وإذا قام يقضي منفردًا، فإن جمعته صحيحة؛ لأن هناك عذر [اً]، وهو أنه لا طريق إلى استدراك العدد، فأما مع بقاء الوقت، فلا عذر؛ لأنه يمكن عقد الجمعة، وكذلك بقية الشرائط تسقط بالعذر. وجواب آخر: وهو أن العدد لم يحصل عنه بدل، وليس كذلك الوقت؛ لأنه قد حصّل عنه بدل، وهو وقت الثانية. وجواب ثالث: وهو أن بعض الوقت قد أقيم مقام جميعه؛ بدليل: أن الحائض إذا طهرت، وقد بقي من الوقت مقدار ركعة، لزمها فرض الصلاة؛ كما لو أدركت جميعه؛ فجعل إدراك بعضه يجري مجرى إدراك جميعه، ولم نجد بعض العدد يقوم مقام جميعه بحال، وهو أنه لو صلى ببعض الأربعين، لم يقم مقام الأربعين في الإجزاء بحال من الأحوال، فأما إذا خرج وقت العصر، ودخل وقت المغرب، فيحتمل أن نقول: يبني، ويحتمل أن نقول: يبطل؛ لأن وقت المغرب لم يجعل وقتًا للجمعة، ووقت العصر قد جعل وقتًا للظهر التي الجمعة بدل عنها. * فصل: والدلالة على أنه يبني عليها جمعة؛ خلافًا للشافعي - رحمه الله -

في قوله: يبني ظهرًا (¬1): ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى" (¬2)، وهذا قد من أدرك منها ركعة، فيجب أن يُصلي إليها أخرى، وهو عام في الوقت وغيره، ولأنها صلاة مؤقتة، فخروجُ وقتها لا يمنع إتمامَها؛ دليله: سائر الصلوات. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه يجوز فعل جميعها خارج الوقت، فلهذا جاز فعل بعضها، والجمعة لا يجوز فعل جميعها خارج الوقت، فلا يجوز فعل بعضها. قيل: الحج لا يجوز فعل جميعه خارج الوقت، ويجوز فعل بعضه. وجواب آخر: وهو أنه ليس إذا لم يجز فعلها إذا لم يدرك شيئًا من الوقت لم يجز إذا أدرك منه؛ كما أنه لا يجوز فعلها إذا لم يدرك ركعة مع العدد، ويجوز إذا أدرك ركعة مع الإمام، ثم سلم، ويدل على أنه لا يجوز بناء الظهر عليها، هو: أن إحدى الصلاتين يجهر فيها بالقراءة، والأخرى لا يجهر فيها، فوجب أن لا يجوز بناء إحداهما على الأخرى؛ دليله: الفجر، والظهر، ولأنهما صلاتان مختلفتان؛ بدلالة: أن إحداهما تفتقر إلى شرائط لا تفتقر إليها الأخرى؛ مثل: الإمام، والخطبة، والوقت، والعدد، فلا يجوز بناء إحداهما على الأخرى؛ قياسًا على الفجر، والجمعة. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) مضى تخريجه في ص 143.

فإن قيل: المعنى في الأصل: أنهما صلاتا وقتين، فلم يجز أن تؤدَّى إحداهما بتحريمة الأخرى، وها هنا صلاتا وقت واحد؛ لأن قومًا يصلون في الظهر ركعتين، وآخرون أربعًا، فجاز بناء إحداهما على الأخرى؛ كصلاة السفر، والحضر. قيل له: ليس من حيث كانتا صلاتي وقت واحد يجوز بناء إحداهما على الأخرى، ألا ترى أنه لا يجوز بناء صلاة الجمعة على صلاة الظهر، وصلاة السفر على صلاة الحضر، وإن كانتا صلاتي وقت واحد؟ واعتبارهما بصلاة السفر، والحضر لا يصح؛ لأنهما لو كانا بمنزلتهما، لما اختلفا في مسنون القراءة، ولوجب أن يجوز قضاؤهما جميعًا بعد الفوات؛ كما يجوز قضاء صلاة السفر والحضر، ولوجب أيضًا بناء الظهر على تحريمة الجمعة قبل خروج وقت الظهر؛ كما يجوز بناء صلاة الحضر على صلاة السفر قبل خروج الوقت. فإن قيل: اختلافهما في الجهر لا يمنع البناء، ألا ترى أنه يبني الركعتين الآخرتين من العشاء الآخرة، والركعة الثالثة من صلاة المغرب، وإن كانتا مختلفتين في الجهر والإسرار؟ وكذلك يصلي المأموم النافلة خلف من يصلي الفريضة، ويبني على صلاته، وإن كانتا مختلفتين في مسنون القراءة، كذلك ها هنا. قيل له: إنما جاز بناء الأخريين على الأوليين، وإن اختلفا في الجهر؛ لأنها صلاة واحدة، وها هنا صلاتان مختلفتان، وأما المتنفل خلف المفترض، فإنما صح؛ لأن القراءة غير معتبرة في حق المأموم،

فلهذا لم يعتبر اختلافهما في الجهر والإخفات، وفي مسألتنا القراءةُ معتبرة في كل واحدة من الصلاتين. وقياس آخر: وهو أن تحريمته أوجبت الجمعة، فلا يجوز له أن يبني الظهر عليها. دليله: إذا كان الوقت باقيًا، والشرائط موجودة. قيل: قد يجوز أن يبني الظهر عندنا مع بقاء الوقت، وهو: إذا دخل معه في التشهد إذا انفضوا قبل الفراغ. قيل: تقيس عليه إذا أحرم من أول الصلاة، ولم ينفضوا. فإن قيل: إنما لم يجز أن يبني الظهر على الجمعة إذا كان الوقت باقيًا؛ لأنه لو لم يكن في الجمعة، لم يجز له أن يفتتح الظهر، وإذا كان فيها، لم يجز له بناء الظهر عليها، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لو افتتح الظهر في هذه الحال، جاز، كذلك يجوز أن يبني على إحرامه. قيل له: المرأة لو لم تكن في صلاة الجمعة، جاز لها أن تفتتح الظهر، ومع هذا إذا دخلت مع الإمام في الجمعة، لم يجز لها أن تبني عليها الظهر، وكذلك العبد، وكذلك إذا كان الرجل في الظهر، فذكر أن عليه الفجر، لم يجز له أن يبني الفجر على تحريمة الظهر، وإن كان عند مخالفنا لو لم يكن في الظهر، جاز له أن يفتتح صلاة الفجر. فإن قيل: إذا كان الوقت باقيًا، فلا حاجة له إلى بناء الظهر على الجمعة، وليس كذلك إذا خرج؛ فإن به حاجة إلى بناء الظهر على الجمعة؛ لفوات الوقت، فلهذا فرقنا بينهما.

قيل له: فيجب أن نقول: إذا أحرم بالفجر، ثم ذكر أن عليه الظهر، أن يبني عليها ظهرًا؛ لحاجته إليه. فإن قيل: أليس لو أدرك الإمام في التشهد، جاز له أن يدخل معه بنية الجمعة، ويبني الظهر على الجمعة؟ وكذلك لو أحرم بالصلاة من أولها مع الإمام، ثم زحم حتى فاته الركعتان، بنى عليها ظهرًا، وكذلك لو تفرق العدد الذي تنعقد بهم الجمعة في أثناء الصلاة، بنى على جمعة. قيل له: أما إذا أدركه في التشهد، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال الخرقي (¬1): يبني على الظهر إذا كان قد دخل بنية الظهر. وظاهر هذا: أنه لا ينوي الجمعة، وإنما ينوي الظهر، فعلى هذا قد بنى على نية ظهر، فلا يلزم. وقال أبو إسحاق (¬2): يجوز أن يدخل بنية الجمعة، ويبني عليها. فعلى هذا إنما جاز أن ينوي الجمعة، مع تحققه لفواتها، ووجوب إتمامها، كما جاز للمسافر أن ينوي القصر، مع علمه أنه يصل إلى البلد قبل فراغه من الصلاة، فيلزمه الإتمام، كذلك الجمعة، وأما إذا أحرم مع الإمام من أول الصلاة، ثم زحم عن الركعتين جميعًا، ففيه روايتان (¬3): ¬

_ (¬1) في مختصره ص 60. (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 186)، والانتصار (2/ 450). (¬3) ينظر: الإرشاد ص 101، والروايتين (1/ 184)، والانتصار (2/ 450)، والمغني (3/ 185 و 186)، والإنصاف (5/ 212).

إحداهما: تصح له جمعة، ويبني عليها جمعة، فعلى هذا قد بنى جمعة على نية. والثانية: لا تصح جمعته، ويبتدئ الصلاة ظهرًا، ولا يبني على تحريمة الجمعة، نص عليه في رواية ابن منصور (¬1)، فقال: إذا زحم يوم الجمعة، فلم يقدر على الركعتين جميعًا، استقبل الصلاة، والاستقبال يقتضي ابتداء التكبيرة، فعلى هذا ما بنى ظهرًا على نية جمعة، وأما إذا تفرق العدد (¬2) في أثناء الصلاة، فإنه يستأنف الصلاة، قال أبو بكر (¬3): إذا لم يتم العدد في الصلاة أو الخطبة، يعيدون الصلاة؛ لأن انتهاءها في هذا كابتدائها. واحتج المخالف: بأنهما صلاتا وقت واحد، أو صلاة مردودة من أربع إلى ركعتين، فجاز بناء الثانية على الناقصة، أو بناء الأربع على الركعتين، أصله: صلاة السفر والحضر؛ فإن المسافر إذا أحرم في السفينة، ينوي ركعتين، ثم قدمت السفينة البلد قبل أن يسلم منها، فإنه يجعلها أربعًا. والجواب: أن الفرق بين الجمعة والظهر، وبين صلاة السفر والحضر، يتفقان في الجهر، والإخفات، والقضاء، والأداء، وهذا معدوم في الجمعة والظهر. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (526). (¬2) في الأصل: تفرق بالعدد. (¬3) ينظر: الجامع الصغير ص 57، والمغني (3/ 211)، والإنصاف (5/ 202).

واحتج: بأن الأصل الظهر، وإنما نقلت إلى الجمعة بشرائط، منها: الوقت، وقد عدم. والجواب: أن الوقت الذي أجمعنا على وجوده، هو أن يبتدئ بها في الوقت، فأما استدامة الوقت، فلم يقع الإجماع عليه. واحتج: بأن وقت العصر وقت لا يصح أن يبتدأ فيه الجمعة، فلا يصح أن يستدام؛ دليله: قبل الوقت. والجواب: أن المسبوق بركعة إذا سلم إمامُه، يستديم الجمعة في حال الانفراد، ولا يصح أن يبتدئ بها. فإن قيل: إنما يصح أن يستديم؛ لأنه يبني على جمعة كاملة، وليس كذلك إذا خرج الوقت؛ لأنه لا يبني على جمعة كاملة. قيل: فإذا أدرك الإمام في التشهد، فإنه يبني على جمعة كاملة، ومع هذا، فلا يصح الدخول فيها، فامتنع أن يكون الاعتبار بكمالها في حق غيره، وإنما الاعتبار بفعله. وجواب [آخر] (¬1): وهو أن ما قبل الوقت لا يصح تحريمته بالجمعة، فلهذا لم يصح البناء، وها هنا قد صحت التحريمة، فلهذا صح البناء، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل.

169 - مسألة: إذا أدرك المأموم الإمام في الجمعة في التشهد، صلى أربعا

169 - مَسْألَة: إذا أدرك المأمومُ الإمامَ في الجمعة في التشهد، صلَّى أربعًا: نص عليه في رواية الأثرم (¬1)، ومهنا (¬2): في الرجل يدرك التشهد يوم الجمعة: يصلي أربعًا، وقال أيضًا في رواية عبد الله (¬3): لولا أن الحديث الذي في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسًا، وهو قول مالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رحمهما الله -. وقال أبو حنيفة (¬6)، وداود (¬7) - رحمهما الله -: يصلي ركعتين. ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وقد نقلها أبو داود في مسائله رقم (403)، وعبد الله في مسائله رقم (579)، وابن هانئ في مسائله رقم (454 و 457)، والكوسج في مسائله رقم (509 و 537)، وينظر: المغني (3/ 184)، والفروع (3/ 192)، والإنصاف (5/ 205). (¬2) ينظر: النكت على المحرر (1/ 247)، وشرح الزركشي (2/ 187). (¬3) لم أقف عليها في مسائله المطبوعة، ونقلها ابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 246 و 262)، وجاءت عند الكوسج في مسائله رقم (163)، ونقلها حنبل أيضًا. ينظر: النكت على المحرر (1/ 246 و 262)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 530). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 147)، والإشراف (1/ 319). (¬5) ينظر: الأم (2/ 425)، والمهذب (1/ 377). (¬6) ينظر: مختصر الطحاوي ص 35، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 335). (¬7) ينظر: المحلى (5/ 53).

دليلنا: ما روى أبو بكر الأثرم قال: نا مسلم بن إبراهيم (¬1) قال: نا صالح بن أبي الأخضر (¬2) عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، فقد أدرك الصلاة" (¬3). وروى أبو بكر النجاد قال: قُرِئ على أبي إسماعيل (¬4)، وأنا أسمع، قال: نا إبراهيم بن أبي مريم (¬5) قال: نا ابن أيوب (¬6) عن أسامة بن زيد الليثي (¬7)، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ................................. ¬

_ (¬1) الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري، قال ابن حجر: (ثقة مأمون)، توفي سنة 222 هـ. ينظر: التقريب ص 589. (¬2) في الأصل: الاحضر. وصالح هو: ابن أبي الأخضر اليمامي، مولى هشام بن عبد الملك، قال ابن حجر: (ضعيف يعتبر به)، توفي بعد سنة 140 هـ. ينظر: التقريب ص 276. (¬3) مضى تخريجه في ص 143. (¬4) هو: محمد بن إسماعيل الترمذي، مضت ترجمته. (¬5) كذا في الأصل، والذي يروي عن ابن أيوب، هو: سعيد بن أبي مريم، كما في تهذيب الكمال (31/ 235)، وقد مضت ترجمته. (¬6) في الهامش صحته: يحيى، يعني: ابن أيوب، وقد مضت ترجمته. (¬7) أبو زيد المدني، قال ابن حجر: (صدوق يهم)، توفي سنة 153 هـ. ينظر: التقريب ص 70.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "من أدرك ركعة من الجمعة، فليصل إليها أخرى" (¬2)، قال أسامة: وسمعت أهل المجلس: القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله يقولون: بلغنا ذلك (¬3). ورواه أيضًا عن القاسم بن زكريا (¬4) قال: أنا أحمد بن منيع (¬5) قال: نا عبد القدوس بن بكر بن خُنيس (¬6) ................. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة: قال. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: المدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام، رقم (1851)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 103)، والدارقطني في كتاب: الجمعة، باب: فيمن يدرك من الجمعة، ركعة أو لم يدركها، رقم (1598)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من أدرك ركعة من الجمعة، رقم (5735)، ومضى نحوه بغير هذا السند في ص 143، وقد خطّأ المتن أبو حاتم. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 353)، رقم (491)، وينظر: التلخيص (2/ 950) (¬3) ينظر: معجم ابن الأعرابي (2/ 475)، رقم (921). (¬4) ابن يحيى البغدادي، أبو بكر المقرئ، المعروف بـ (المطرز)، قال ابن حجر: (حافظ ثقة)، توفي سنة 305 هـ. ينظر: التقريب ص 500. (¬5) ابن عبد الرحمن، أبو جعفر البغوي، الأصم، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 244 هـ. ينظر: التقريب ص 54. (¬6) في الأصل: حبيش. وعبد القدوس هو: ابن بكر بن خنيس الكوفي، أبو الجهم، لا بأس به. ينظر: التقريب ص 390، وهو ممن يروي عن الحجاج بن أرطاة. ينظر: تهذيب الكمال (5/ 422).

عن ابن الأجلح (¬1) قال: نا الحجاج عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصلِّ إليها أخرى" (¬2). وروى أيضًا عن قاسم (¬3) قال: حدثني عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير (¬4) قال: نا عمرو بن عاصم (¬5)، نا: مطر (¬6) عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصلِّ إليها أخرى" (¬7). ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن الأجلح الكندي، أبو محمد الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 306، وأظنه مقحمًا في السند، وإن كان ممن يروي عن الحجاج بن أرطاة؛ إلا أنه ليس بموجود في سند الدارقطني الذي رواه في سننه. (¬2) أخرجه الدارقطني في كتاب: الجمعة، باب: فيمن يدرك من الجمعة ركعة، أو لم يدركها، رقم (1596)، ينظر في تضعيف الحديث: ص 143، و 264. (¬3) ابن زكريا المطرز، مضت ترجمته. (¬4) ابن شعيب بن الحَبْحاب، العطار البصري، قال ابن حجر: (صدوق). ينظر: التقريب ص 390. (¬5) ابن عبيد الله الكِلابي، القيسي، أبو عثمان البصري، قال ابن حجر: (صدوق في حفظه شيء) ينظر: التقريب ص 466. (¬6) ابن طهمان الوراق، أبو رجاء السلمي، الخرساني، قال ابن حجر: (صدوق كثير الخطأ)، توفي سنة 125 هـ. ينظر: التقريب ص 595. (¬7) لم أقف عليه بهذا السند، علمًا أن بين عمرو بن عاصم ومطر، مفازة =

وروى أيضًا عن بشر (¬1)، نا: الحميدي قال: نا عيسى بن يونس (¬2) عن الأحوص بن حكيم (¬3)، عن راشد بن سعد (¬4): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليُضِف إليها أخرى" (¬5). فوجه الدلالة من هذا: أنه - عليه السلام - جعل إدراك الركعة شرطًا في إدراك الجمعة؛ لأن ذلك من ألفاظ الشرط عند أهل اللغة، فمتى فقد الشرط، يجب أن يعدم الحكم؛ لأن عدم الشرط يوجب عدم الحكم ¬

_ = وانقطاعًا، وقد أخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، كتاب: الجمعة، باب: فيمن يدرك من الجمعة ركعة، أو لم يدركها، رقم (1608)، قال أبو حاتم عن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: (هذا خطأ المتن والإسناد). وينظر: ما مضى في ص 143 و 264. (¬1) ابن موسى بن صالح بن شيخ البغدادي، أبو علي الأسدي، وثقه الدارقطني، توفي سنة 288 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (7/ 86)، والمتفق والمفترق (2/ 118). (¬2) ابن أبي إسحاق السبيعي، قال ابن حجر: (ثقة مأمون)، توفي سنة 187 هـ. ينظر: التقريب ص 488. (¬3) ابن عمير العنسي، الحمصي، قال ابن حجر: (ضعيف الحفظ). ينظر: التقريب ص 68. (¬4) المَقْرئي، الحمصي، قال ابن حجر: (ثقة كثير الإرسال)، توفي سنة 108 هـ. ينظر: التقريب ص 191. (¬5) لم أقف عليه بهذا السند، وينظر ما مضى من تخريج الحديث في: ص 143 و 264 و 265.

بإجماع، وإذا أدركهم في التشهد، فلم يوجد الشرط، فيجب أن لا يكون مدركًا للجمعة؛ لتعذر الشرط، وهو إدراك الجمعة. فإن قيل: هذا الخبر ضعيف، لا يثبته أهل النقل على هذا الوجه، وإنما أصله ما روى معمر، والأوزاعي، ومالك، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من أدرك من صلاة ركعة، فقد أدركها" (¬1)، فقال معمر عن الزهري (¬2): ونرى (¬3) الجمعة من الصلاة. فهذا أصل الحديث، وفيه دلالة على أن ذكر الجمعة فيه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما أخبر به الزهري عن رأيه (¬4)، ويجب أن يكون ذكر الجمعة من كلام الزهري أدرجوه في الحديث. قيل له: قد روينا هذا الحديث من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، رواه الأثرم - وهو من أئمة أصحاب الحديث -، وأبو بكر النجاد أيضًا، وذكر أسامة في حديثه: أنه سمع أهل المجلس: القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله يقولان: بلغنا ذلك، وهذا يدل على ثبوته عندهم، وقولهم: ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في (2/ 150). (¬2) ينظر: مسند أبي يعلى (10/ 389)، رقم (5987)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من أدرك ركعة من الجمعة، رقم (5734)، وتاريخ بغداد (3/ 39). (¬3) في الأصل: وترى. (¬4) ينظر: الأوسط (4/ 102).

لو كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر به الزهري عن رأيه؛ فقد روينا (¬1) عن الأثرم: أنه روى هذا من طريق الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك من الجمعة ركعة، فقد أدرك الصلاة" (¬2)، وليس يمتنع أن نحتج تارة بعموم الخبر، وتارة بخصوص خبر آخر. فإن قيل: فلو ثبت أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، يدل على أن ما دونها حكمه بخلافه؛ لأن دليل الخطاب ليس بحجة، وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر، فقد أدرك العصر" (¬3)، وحكم ما دونها بمثابته في لزوم العصر بإدراكه. قيل له: دليل الخطاب عندنا حجة، ولنا أن نبني فروعنا على أصولنا، وعلى أن هذا احتجاج من طريق الشرط من الوجه الذي بيّنا، وعدم الشرط يمنع ثبوت الحكم إجماعًا، وقوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من العصر، فقد أدرك العصر"، لو خلّينا وحكم الشرط، لم يكن مدركًا لها بما دون الركعة، لكن قام دليل على بقاء الحكم بعدم الشرط. ¬

_ (¬1) في الأصل: رواينا. (¬2) مضى في ص 264. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الفجر ركعة، رقم (579)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك تلك الصلاة، رقم (608).

وأيضًا: ما روى أبو بكر النجاد قال: نا قاسم (¬1) قال: نا يوسف (¬2)، والرمادي (¬3)، والدقيقي (¬4)، وابراهيم بن راشد (¬5)، قالوا: نا أبو عاصم (¬6) عن ياسين (¬7) بن معاذ (¬8) قال: أخبرني ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، أضاف إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسًا، صلى أربعًا الظهر، أو: الأولى"، ياسين شك (¬9). ¬

_ (¬1) المعروف بـ (بالمطرز)، مضت ترجمته. (¬2) لم أجده فيمن روى عنه المطرز، ولا من ضمن الرواة عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد. ينظر: تهذيب الكمال (13/ 281) و (23/ 352). (¬3) أحمد بن منصور بن سيّار البغدادي الرمادي، أبو بكر، قال ابن حجر: (ثقة حافظ)، توفي سنة 265 هـ. ينظر: التقريب ص 54. (¬4) محمد بن عبد الملك الدقيقي، مضت ترجمته. (¬5) الأدمي، قال ابن أبي حاتم: (صدوق). ينظر: الجرح والتعديل (2/ 99). (¬6) الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، أبو عاصم النبيل، البصري، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 212 هـ. ينظر: التقريب ص 286. (¬7) في الأصل: - اسر. (¬8) الزيات، أبو خلف الكوفي، ضعيف. ينظر: الجرح والتعديل (9/ 312). (¬9) أخرجه الدارقطني في كتاب: الجمعة، باب: فيمن يدرك من الجمعة ركعة، أو لم يدركها، رقم (1597)، والحديث ضعيف. ينظر: علل الدارقطني (9/ 213)، والبدر المنير (4/ 502).

ورواه أبو الحسن الدارقطني بهذا اللفظ أيضًا (¬1) وروى أيضًا بإسناده (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من أدرك ركعة من الجمعة، فليصلِّ إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان، فليصلَّ أربعًا"، أو قال: "الظهر"، أو قال: "الأولى" (¬3). وروى أيضًا بإسناده (4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة، فقد أدرك الجمعة، وإذا أدرك ركعة، فليركع إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة، فليصلِّ إليها أربع ركعات" (4). وفي لفظ آخر بإسناده (¬4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك [الركوع] (¬5) من الركعة الآخرة يوم الجمعة، فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الآخرة، فليصلِّ الظهر أربعًا". وروى أيضًا بإسناده (4) في لفظ آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أدركت الركعة الآخرة من صلاة الجمعة، فصلِّ ¬

_ (¬1) ينظر: الحاشية الماضية. (¬2) في سننه كتاب الجمعة، باب فيمن يدرك من الجمعة ركعة أو لم يدركها، رقم (1601 و 1602 و 1603 و 1604) وفيه إسنادها: ياسين الزيات ضعفه الدارقطني بعد ذكره للحديث، وفي إسنادها: سليمان بن أبي داود الحراني، قال أبو حاتم: (ضعيف الحديث جدًا). ينظر: الجرح والتعديل (4/ 115). (¬3) في الأصل: الأول، والتصويب من سنن الدارقطني. (¬4) ينظر: الحاشية رقم (2)، من هذه الصفحة. (¬5) ساقطة من الأصل، وهو في الحديث.

إليها ركعة، وإذا فاتتك الركعة الآخرة، فصلِّ الظهر أربع ركعات"، وهذا الخبر نص. فإن قيل: يُحمل قوله - عليه السلام -: "وإن أدركهم جلوسًا، صلى أربعًا"، على أنه كلام الراوي، أدرجه في الحديث؛ كما روى قتادة عن الحسن، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنهم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عهدة الرقيق ثلاثة أيام، إن وجد داءً في الثلاث، ردَّ بغير بينة، وإن وجد بعد الثلاث، كلف البينة أنه اشتراه وبه الداء" (¬1)، والكلام الآخر من عند قوله: "وإن وجد داء" من كلام قتادة (¬2). قيل له: الظاهر من حال الراوي إذا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعطف عليه كلامًا، فإنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز إضافته إلى الراوي إلا بدليل، على أنا قد روينا ما يسقط (¬3)، وهو اللفظ الآخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أدركت الركعة الآخرة من صلاة الجمعة، فصلِّ إليها ركعة، وإذا فاتتك الركعة الآخرة، فصلِّ الظهر أربع ركعات"، وهذا خطاب مواجهة، يمنع التأويل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: البيوع، باب: في عهدة الرقيق، رقم (3506)، قال الإمام أحمد: (ليس فيه حديث صحيح، ولا يثبت حديث العهدة)، والحسن لم يسمع من عقبة. ينظر: الروايتين (1/ 341)، والتنقيح (4/ 61). (¬2) قاله أبو داود في سننه، كتاب: البيوع، باب: في عهدة الرقيق، رقم (3507). (¬3) أي: الاعتراض.

فإن قيل: لو ثبت أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، حملناه على أنه أدركهم جلوسًا بعد ما سلم الإمام التسليمة الأولى؛ لئلا يظن الظان: أنه أدركه قبل الثانية أنه يبني عليها جمعة. قيل: هذا يسقط فائدة تخصيص الجمعة؛ لأن غيرها من الصلوات إذا أدرك الإمام وقد سلم الثانية، لا يكون مدركًا لها، وعلى أنا قد روينا في لفظ آخر: "ومن فاتته الركعتان، صلى الظهر"، والركعتان عبارة عن الركوع والسجود، فاقتضى ظاهره: أنه متى لم يدرك ذلك، لم يكن مدركًا للجمعة. والقياس: أنه لم يدرك ركعة من الجمعة في جماعة، فوجب أن لا يكون مدركًا للجمعة، أصله: الإمام إذا افتتح بالقوم الجمعة، ثم تفرقوا عنه قبل أن يتم ركعة؛ ولأنه لم يدرك مع الإمام ما يعتد به عن فرضه، فلم يدرك به الجمعة، أصله: إذا أدركه قبل التسليمة الثانية. فإن قيل: لا نسلم أنه لم يدرك مع الإمام ما يعتد به؛ لأنه قد أدرك معه تكبيرة الإحرام، وهي مما يعتد بها. قيل له: تكبيرة الإحرام لم يدركها؛ لأن الإمام كَبَّرَ في أول صلاته، فالتكبير الذي يأتي بعده في هذا الحال يأتي به ليدخل معه في الصلاة، لا أنه يأتي به مع الإمام. فإن قيل: فالمعنى فيه: إذا أدركه وقد سلم الأولة (¬1)، فقد خرج ¬

_ (¬1) أي: التسليمة الأولى.

من الصلاة، فلهذا لم يكن مدركًا لها، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه أدرك قبل الخروج منها. قيل له: لا نسلم هذا الأصل؛ لأنه لا يخرج من الصلاة عندنا إلا بالتسليمة الثانية، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة، وأما في الفرع، فإنه يبطل به إذا دخل معه في الصلاة، ثم تفرقوا قبل أن يعقدها بسجدة، فإنه قد أدركه قبل خروجه من الصلاة، ولا يكون مدركًا للجمعة، وأيضًا: فإن فرض الانفراد لا يسقط بما دون الركوع، أصله: إذا أدركه ساجدًا، فسجد معه، لم يكن مدركًا للركعة في سائر الصلوات، ولم يسقط عنه فرض الانفراد، وإذا أدركه راكعًا، فركع معه، أدرك الركعة، وسقط عنه فرض الانفراد من القيام، والقراءة. فإن قيل: ما ذكرتموه من العلل ينتقض به إذا أحرم مع الإمام بالجمعة، ثم زحم عن الركعتين جميعًا، فإنه يدرك الجمعة، وإن لم يدرك معه ركعة في جماعة، ولا أدرك ما يعتد به، وقد سقط فرض الانفراد بما دون الركوع. قيل له: اختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في هذه المسألة، فروى أبو الحارث (1)، ويعقوب بن بختان (1)، وبكر بن محمد (1)، وأحمد بن القاسم (¬1): يصلي ركعتين، ليس بمنزلة من أدرك الجلوس وحده، وهو اختيار ...................................................... ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 184).

أبي بكر الخلال (¬1) ونقل ابن منصور (¬2)، وصالح (¬3)، والحسن بن حسان (¬4): يستقبل الصلاة - في رواية -، وفي رواية: يصلي أربعًا، وفي رواية: كأنه لم يدخل في الصلاة، يصلي أربعًا، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز (¬5)، وهو الصحيح عندي، وأنه لا تصح له جمعة، فعلى هذه الرواية: لا يدخل على شيء مما ذكرنا؛ لأنه لم يدرك ركعة في الجماعة، لم يصح له جمعة، ولم يسقط فرض الانفراد عنه، ومن يختار من أصحابنا الرواية الأولة، يحتاج إلى زيادة في العلة، فيقول: لم يدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، ولا ركعة في جماعة، وإن قال: لم يدرك مع الإمام ما يعتد به، صح أيضًا؛ لأنه إذا كبر معه تكبيرة الإحرام، فقد أدرك معه ما يعتد به، وها هنا لم يدرك التكبيرة مع الإمام. واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "فما (¬6) أدركتم فصلُّوا، ............................................................... ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 450)، والمغني (3/ 185 و 186)، والإنصاف (5/ 212). (¬2) في مسائله رقم (526). (¬3) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: الروايتين (1/ 185)، والمغني (3/ 186). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 184). (¬5) ينظر: المغني (3/ 186)، والإنصاف (5/ 212). (¬6) في الأصل: بما، والتصحيح من الحديث.

وما فاتكم فاقضوا" (¬1)، ومعلوم أنه أراد: ما فاتكم من صلاة الإمام، وقد فاته من صلاته ركعتان، فيجب أن يقضيهما. والجواب: أن من أصحابنا - وهو الخرقي - يقول (¬2): إذا فاته الركعتان، أحرم مع الإمام بنية الظهر. فعلى هذا لم يدرك من صلاة الإمام شيئًا، فيبني عليه، وإذا كان كذلك، فالخبر وارد فيمن أدرك من الصلاة شيئًا، وذلك وارد في سائر الصلوات غير الجمعة. ومنهم من قال: يدخل بنية الجمعة، فإذا سلم، صرف نيته إلى الظهر، وهو قول أبي إسحاق (¬3)، فعلى هذا: الخبرُ عامٌّ في الجمعة، وغيرها؛ بدليل: أخبارنا، وهي خاصة. واحتج: بأنه لو أدرك من الصلاة ركعة، بنى عليها، فإذا أدرك دونها، كان له أن يبني عليها، قياسًا على المسافر إذا دخل خلف المقيم. والجواب: أن إدراك المسافر من صلاة المقيم إدراكُ إيجاب؛ فإنه ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (7250)، والنسائي في كتاب: القبلة، باب: السعي إلى الصلاة، رقم (861)، وهو في الصحيحين بلفظ: "فأتموا"، وقد مضى تخريجه، قال البيهقي: (والذين قالوا: "فأتموا" أكثر، وأحفظ، وألزم لأبي هريرة - رضي الله عنه -, فهو أولى). ينظر: السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته. (¬2) في مختصره ص 60. (¬3) مضى ذكر قوله في ص 259.

يلتزم به أربع ركعات، فاستوى قليله وكثيره، وليس كذلك الإدراك من الجمعة؛ فإنه إدراكُ إسقاط؛ لأنه لو صلى منفردًا، لوجب أن يصلي أربعًا، فلم يجز أن يسقط فرض الانفراد إلا بإدراكٍ تام، وهو إدراك ركعة. وجواب آخر: وهو أن صلاة المسافر لو أدرك خلف المقيم من أولها أقلَّ من ركعة، ثم زالت الجماعة، كان مدركًا لها، وليس كذلك الجمعة؛ لأنه لو أدرك من أولها أقلَّ من ركعة، ثم زالت الجمعة، لم يكن مدركًا لها، فبان الفرق بينهما. واحتج: بأنه أدرك الإمام مع بقاء التحريمة، فأشبه لو أدرك معه الركعة. والجواب: أنه يبطل به إذا أحرم مع الإمام، ثم تفرقوا قبل الركعة، فإنه أدرك الإمام مع بقاء التحريمة، ولا يكون مدركًا، ثم المعنى في الأصل: أنه أدرك ركعة في جماعة، وها هنا لم يدرك، فهو كما لو تفرقوا، أو أدركهم بعد التسليمة الأولى. واحتج: بأن دخوله في الجمعة مع الإمام بغير الفرض، موجودة في آخر الصلاة؛ لوجوده في أولها؛ بدلالة: نية الإقامة، ودخول المسافر في صلاة المقيم. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق. واحتج: بأنه يكون مدركًا للجماعة، وإن لم يدرك ما يعتد به، كذلك في باب الجمعة.

والجواب: أنه لو أدرك من أول صلاة الجماعة دون الركعة، ثم تفرقت الجماعة، أدرك حرمة الجماعة، ولو أدرك مثل ذلك من الجمعة، لم يدرك الجمعة، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: أليس قد قال أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله (¬1): إذا أدرك التشهدَ مع الإمام من صلاة العيد، صلَّى ركعتين، وإن أدرك من الجمعة مثلَ ذلك، صلَّى أربعًا؟ فقد جعله مدركًا للعيد بإدراك التشهد، يجب أن يكون في الجمعة مثل ذلك. قيل له: إنما قال ذلك في العيد؛ لأن الرواية مختلفة عنه في صفة القضاء، فنقل حنبل (¬2)، وصالح (¬3): إن صلى ركعتين، أجزأه، وإن صلَّى أربعًا، أجزأه. فعلى هذه الرواية: إذا أدركه في التشهد، يصلي ركعتين؛ كما لو انفرد بالقضاء، صلَّى ركعتين، ونقل أبو طالب عنه (¬4): يصلي أربعًا. فعلى هذه الرواية: إذا أدركه في التشهد، يقضي أربع ركعات، وكلامه - في رواية عبد الله - خرج على أن القضاء يكون ركعتين، وإذا كان ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، ونقل مثلها حنبل. ينظر: شرح الزركشي (2/ 235)، وينظر في هذه المسألة: المغني (3/ 285)، ومختصر ابن تميم (3/ 17)، والنكت على المحرر (1/ 261)، والإنصاف (5/ 364). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 191)، والنكت على المحرر (1/ 261). (¬3) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: الروايتين (1/ 191). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 191).

170 - مسألة: تصح الجمعة بغير سلطان في أصح الروايتين

كذلك، فلا فرق بينهما في التحقيق. * * * 170 - مَسْألَة: تصح (¬1) الجمعة بغير سلطان (¬2) في أصح الروايتين: نص عليها في رواية إسماعيل (¬3)، فقال: إذا كانوا أهل قرى على مسيرة يوم [من] (¬4) المصر، فعليهم الجمعة، ويكون ذلك بإذن الإمام، وإن كان بغير إذن الإمام، فلا بأس إذا كانوا خمسين. وكذلك نقل الميموني عنه (¬5)، فقال: إذا كانوا أربعين، جمّعوا، يخطبهم أحدُهم، ويصلي بهم ركعتين، قيل له: فإن كانوا بغير أمر أمير؟ فقال: ليس في الحديث أمير، ولكن عطاء حسنه (¬6). ¬

_ (¬1) بياض في الأصل، وفي هامش المخطوط: [لعله: تصح]، وهذا لفظها في رؤوس المسائل للمؤلف لوح 23، وينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 339). (¬2) كذا في الأصل، وفي رؤوس المسائل للمؤلف، وفي الجامع الصغير ص 59: بغير إذن سلطان. (¬3) ينظر: الروايتين (1/ 185)، والانتصار (2/ 567)، والفروع (3/ 154)، والإنصاف (5/ 246). (¬4) بياض في الأصل بمقدار كلمة، ولعل المثبت يكون صوابًا. (¬5) ينظر: الانتصار (2/ 567). (¬6) ينظر قول عطاء - رحمه الله - في: مصنف ابن أبي شيبة رقم (5110).

وكذلك نقل حرب عنه (¬1): في القرية الصغيرة إذا لم يكن فيها أمير؟ إن شاؤوا أمّروا رجلًا يخطب بهم، ويجمّع بهم، وهو جائز. وكذلك نقل أبو الحارث عنه (¬2) - وقد سأله عن الجمعة بلا إمام؟ -، قال: نعم، قد صلى عليٌّ بالناس، وعثمان - رضي الله عنهما - محصور، ونقل أيضًا: إذا مات الإمام، ولم يعلم بموته، وحضرت الجمعة، وصلى الناس الجمعة، ودُعي له، وهو ميت، فالصلاة صحيحة. فقد نص على أنها تصح بغير سلطان. وهو قول مالك (¬3)، والشافعي (¬4)، وداود (¬5) - رضي الله عنهم -. وفيه رواية أخرى: لا تصح بغير سلطان، نص عليه في مواضع: فقال في رواية يعقوب بن بختان (¬6): في الإمام إذا مات، ولم يعلم به، وخطب يوم الجمعة (¬7)، ثم علم أنه قد مات، يعيدون. ¬

_ (¬1) ينظر: الانتصار (2/ 567). (¬2) ينظر: الروايتين (1/ 185)، والانتصار (2/ 567)، والفروع (3/ 154)، والإنصاف (5/ 246). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 152)، والمعونة (1/ 222). (¬4) ينظر: المهذب (1/ 383)، والبيان (2/ 618). (¬5) ينظر: المحلى (5/ 36 و 40)، ولم يصرح بنسبته إليه، وينظر: الانتصار (2/ 567). (¬6) ينظر: الانتصار (2/ 567). (¬7) كذا في الأصل، وفي لفظ الانتصار (2/ 567): (فخطب له يوم الجمعة).

وقال أيضًا في رواية بكر بن محمد عن أبيه (¬1): وإنما يجمِّع من أَمرهم الإمام، ولهم منبر، يجمِّعون، ولا يصلُّون الظهر (¬2) أربعًا. وكذلك نقل عبد الله (¬3)، فقال: إذا كانوا أربعين رجلًا، جمّعوا بإذن الإمام. وكذلك نقل المروذي (¬4): أنه قال: الجمعة تجب على الأربعين إذا أمرهم السلطان أن يجمِّعوا. وكذلك نقل محمد بن الحسن بن هارون (¬5) - وقد سئل عن الجمعة في القرى؟ -، فقال: إذا أذن لهم السلطان. فقد نص على أنها تقف على السلطان. وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬6). ولا تختلف الرواية عن أحمد - رحمه الله - في المتغلب، والخارج: أنه تجوز صلاة الجمعة خلفه (¬7)، ......................... ¬

_ (¬1) لم أقف عليها، ونقل جمع من تلاميذ الإمام أحمد عنه نحوها. ينظر: الروايتين (1/ 185)، والانتصار (2/ 567). (¬2) كررت مرتين في الأصل. (¬3) في مسائله رقم (566). (¬4) ينظر: الروايتين (1/ 185)، والانتصار (2/ 567). (¬5) ينظر: الروايتين (1/ 185)، والانتصار (2/ 567). (¬6) ينظر: مختصر الطحاوي ص 35، ومختصر القدوري ص 101. (¬7) ينظر: المغني (3/ 22 و 169).

نص عليه في رواية يعقوب بن بختان (¬1): في الخوارج إذا غَلَبوا على موضع، وصلَّوا الجمعة، تجزئ من صلى معهم الجمعة؛ لأن له يدًا باسطة، وأمرًا نافذًا، فيصير بمنزلة الإمام العادل، ولهذا إذا حكم بقضاء، وولَّى قاضيًا (¬2)، نفذ قضاؤه؛ لأن القاضي يحتاج إلى يد باسطة، وأمر نافذ، وهذا موجود في المتغلب، ولا يوجد في غيره. وجه الرواية الأولة، وأنها تصح بغير سلطان: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، ولم يشترط السلطان. فإن قيل: صلاة الجمعة لها شرائط، وليس في الآية بيان شيء منها، فهي مجملة، فلا يصح الاحتجاج بظاهرها. قيل له: ما أجمعنا عليه من الشرط، أثبتناه، وما اختلفنا فيه، وجب نفيه على ظاهر الآية. وأيضًا: روى أبو بكر بإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ، فحرَّك (¬3) رأسه كهيئة المتعجب، قلت: يا رسول الله! وماذا تعجب منه؟ فقال: "أناس من أمتي يُميتون الصلاة، ويؤخرونها عن وقتها"، قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: "صلّ الصلاة لوقتها، واجعل ¬

_ (¬1) لم أقف على روايته، وينظر: الفروع (3/ 154)، والمبدع (2/ 164)، والإنصاف (5/ 247). (¬2) في الأصل: فاضيا. (¬3) في الأصل: فتحرك.

صلاتك معهم سُبْحَة" (¬1)، ولم يفرق بين الجمعة وغيرها، وقد أخذ أحمد - رحمه الله - بظاهر هذا الحديث في الجمعة، فقال في رواية صالح (¬2)، وابن منصور (¬3) - وقد سئل: إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة؟ -، فقال: يصليها لوقتها، ويصليها مع الإمام. وأيضًا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عبيد الله (¬4) بن عدي بن الخيار (¬5): أخبره: أنه دخل على أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - الدار، وهو محصور، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يصلي بالناس، فقال له: يا أمير المؤمنين! إني أتحرَّج من الصلاة مع هؤلاء، وأنت الإمام، فكيف ترى في الصلاة معهم؟ فقال عثمان - رضي الله عنه -: إن الصلاة أحسنُ ما يعمل الناس، فأحسنْ معهم إذا أحسنوا، وإذا أساؤوا، اجتنب إساءتهم (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره ابن أبي حاتم في العلل بهذا اللفظ (1/ 325)، رقم (429)، وقد أخرج مسلم في صحيحه نحوه، وقد مضى تخريجه. (¬2) في مسائله رقم (39). (¬3) في مسائله رقم (133)، وينظر: الفروع (3/ 142). (¬4) في الأصل: عبد الله. (¬5) في الأصل: الجبار. وعبيد الله هو: ابن عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل المدني، كان في الفتح مميزًا، وقد عدّه بعضهم في ثقات كبار التابعين، توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك. ينظر: التقريب ص 407. (¬6) أخرجه البخاري نحوه في كتاب: الأذان، باب: إمامة المفتون والمبتدع، رقم (695).

فوجه الدلالة: أن عليًا - رضي الله عنه - صلى الجمعة، وعثمان - رضي الله عنه - محصور، وكان السلطان في ذلك الوقت عثمان. فإن قيل: الإمام لم يمكنه أن يصلي بهم، وعندنا: أنه إذا كان هناك سبب يمنع الإمامَ أو خليفتَه عن الحضور، فعلى المسلمين إقامة رجل يصلي بهم الجمعة، وهذا كما فعل المسلمون يوم مؤتة لما قُتل الأمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم -، اجتمعوا على خالد بن الوليد - رضي الله عنه - (¬1)، وكذلك إذا مات سلطان بلد، جاز لهم أن يقيموا لهم رجلًا ينفذ الأحكام، ويقيم الحدود. قيل له: قد كان يمكن الوصول إلى الإمام، والى إذنه، ولهذا دخل عبيد الله بن عدي بن الخيار، واستأذنه، فلو كان إذنه شرطًا، لفعل عليّ، ومن تابعه ذلك. فإن قيل: يجوز أن يكون استأذنه. قيل: لو كان استأذنه، لنقل، كما نُقل تقدمُه، وصلاته، وكما نقل استئذان عبيد الله بن عدي بن الخيار. والقياس: أنها صلاة مفروضة، فوجب أن لا يكون السلطان شرطًا في إمامتها؛ دليله: سائر الصلاة، أو نقول: صلاة يصح فعلها بإذن الإمام، فصح فعلُها بغير إذنه؛ كسائر الصلوات؛ ولأنها صلاة لا يعتبر إذن الإمام في تمام العدد منها، فلا يعتبر في المقصورة الناقصة، دليله: صلاة ¬

_ (¬1) ينظر: صحيح البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، رقم (4261 و 4262).

السفر، ويريد بالتامةِ العددِ: الظهرَ، ولأنها عبادة لا يختص الإمام بفعلها، فلا يقتصر إقامتها إلى إذنه، أصله: الصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحج، وغير ذلك، ولا يلزم عليه الحدود؛ لأن الإمام يختص بفعله، أو من استخلفه الإمام، والجمعةُ، فكلُّ أحد يفعلها كما يفعل سائر العبادات. فإن قيل: المعنى في سائر العبادات: أن يجوز أن يقيمها كل واحد من الناس على الانفراد، فلم يكن من شرطها السلطان، وليس كذلك الجمعة؛ لأنه ليس لكل واحد أن يقيمها على الانفراد، فهي كالحدود. قيل له: منتقض بالغزو؛ فإنه لا يجوز أن يقيمه كل واحد من الناس على الانفراد، ولا الدخول إلى دار الحرب بغير إذن الإمام، ومع هذا: إذا اجتمعوا، وكانت لهم منعة، كان لهم دخولها من غير إذنه، وأما الحدود، فالكلام عليها يأتي - إن شاء الله تعالى -. واحتج المخالف: بأن الأصل الظهر، وإنما نقل الفرض إلى الجمعة بشرائط، فمتى اختلف في شرائطها، لم يجز الانتقال عن الظهر إليها إلا بدلالة. والجواب: أنَّ ما أجمعنا عليه من الشرط أثبتناه، وما اختلفنا فيه، وجب نفيه، إلا أن تقوم دلالة على إثباته. واحتج: بأنه لا يصح لكل أحد من الناس إقامتها على الانفراد، فوجب أن يكون من شرطها: السلطان؛ دليله: الحدود. والجواب: أنه ينتقض بما ذكرنا من الغزو، وأنه لا يجوز أن يقيمه

كل أحد على الانفراد، ولهم فعله إذا كانت [لهم] منعة بغير إذن الإمام، وعلى أن الحد يقف فعلُه على الإمام، أو خليفته، ولا يشاركه فيه أحد، فكان موقوفًا على إذنه، والجمعة، فهو والرعيةُ في فعلها سواء، فلم تكن مختصة به، ولا موقوفة على إذنه؛ كسائر العبادات؛ ولأن إقامة الحدود تفتقر إلى اجتهاد الإمام بضرب من المصلحة، وذلك أن الحد عقوبة، فلو جعلت لكل واحد من الرعية، دخلها الحَيْف، والغَرَر، وقصد كل واحد فيه التشفي، ودرك الغيظ، وفي ذلك فساد، ولأنه يدخلها الاجتهاد في وجوبه، وفي وقت إقامته، والآلة التي يقام بها، ويختلف باختلاف من وجب عليه، وليس كذلك الجمعة؛ فإنه لا يدخلها الاجتهاد في وجوبها، وأفعالها، فهي كسائر الصلوات. فإن قيل: فالجمعة مختلَف في موضع إقامتها، وفي العدد الذي تنعقد به. قيل له: إلا أن هذا الاختلاف لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام، والحد يفتقر إلى اجتهاد الإمام؛ للمعنى الذي ذكرنا. واحتج: بأنه لم ينقل من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا إقامةُ الجمعة إلا بسلطان، فعلم أنه شرط فيها، ألا ترى أنه لما لم ينقل إقامتها إلا بالخطبة، كانت شرطًا؟ والجواب: أنا قد نقلنا: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أقامها بغير سلطان، وكذلك روى ابن المنذر (¬1) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه صلى بالناس ¬

_ (¬1) ينظر: الأوسط (4/ 113)، ولم يسنده، ولم أقف على سنده، قال ابن مفلح =

171 - مسألة

لما أبطأ الوليد بن عقبة بالخروج، وصلى أبو موسى - رضي الله عنه - بالناس حين أخرجوا سعيد بن العاص - رضي الله عنه -. ثم هذا يبطل بالخطبتين؛ فإنه لم ينقل من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا إقامةُ الجمعة إلا بخطبتين، ومع هذا، فليستا شرطًا عنده، وتجزئ فيهما كلمة واحدة، ولم يُنقل ذلك، وكذلك الحج، والجهاد، لم ينقل من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا إلا بسلطان، ومع هذا ليس بشرط فيه. فإن قيل: هو شرط في جواز الجمع بين الصلاتين بعرفات، والجمع بينهما من أسباب الحج. قيل له: هذا غلط؛ لأن الجمع ليس بشرط في الحج، ويصح وإن لم يجمع، والله أعلم. * * * 171 - مَسْألَة ويجوز أن يجمّع في مصر واحد في موضعين (¬1) إذا كان ¬

_ = في الفروع (3/ 143): (ويوافقه ما احتج به القاضي وغيره في صحتها بلا سلطان؛ بما روى ابن المنذر عن ابن مسعود: أنه صلى بالناس لما أبطأ الوليد بن عقبة بالخروج، وصلى أبو موسى الأشعري بالناس حين أخرجوا سعيد بن العاص). (¬1) في الأصل: موضع، والتصويب من رؤوس المسائل للمؤلف لوح 23، والجامع الصغير ص 59، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 222).

هناك حاجة تدعو إلى ذلك، مثل: البلد الكبير الذي تلحق المشقة في اجتماعهم في موضع واحد (¬1): وهذا ظاهر كلام الخرقي - رحمه الله -؛ لأنه قال (¬2): وإذا كان البلد كبيرًا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة في جميعها جائزة. فاعتبر الحاجة، وكذلك ذكر شيخنا. وقد أطلق أحمد - رحمه الله - القول في رواية المروذي (¬3) - وقد سئل عن صلاة الجمعة في مسجدين؟ -، فقال: صلِّ، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: إلى قول عليّ - رضي الله عنه - في العيد: أنه أمر رجلًا يصلي بضَعَفَة الناس. وكذلك نقل أبو داود عنه (¬4): أنه سئل عن المسجدين اللذين يجمع فيهما ببغداد، هل فيه شيء متقدم؟ فقال: أكثرُ ما فيه أمرُ عليّ - رضي الله عنه - أن يصلي بالضعفة. فقد أجاز ذلك على الإطلاق، وهذا محمول على الحاجة، وبه قال ¬

_ (¬1) ينظر: التمام (1/ 237)، والمستوعب (3/ 21)، وشرح الزركشي (2/ 196)، والإنصاف (5/ 252 و 253). (¬2) في مختصره ص 60. (¬3) ينظر: الأحكام السلطانية ص 103، والفروع (3/ 157)، والنكت على المحرر (1/ 231). (¬4) في مسائله رقم (397).

محمد بن الحسن (¬1)، وداود (¬2) - رحمهما الله -. وقال مالك (¬3)، والشافعي (¬4)، وأبو يوسف (¬5) - رحمهم الله -: لا يجوز إقامتها في بلد واحد في موضعين، وقد نقل الأثرم (¬6) في كتاب العلل عن أحمد - رحمه الله - نحو هذا، فقال: قيل لأبي عبد الله: هل علمت أن أحدًا جمع جمعتين في مصر واحد؟ فقال: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أمر رجلًا أن يصلي بضعفة الناس في المسجد، وصلى في الجبانة (¬7)، ذلك في العيد، فأما جمعتان في مصر واحد، فلا أعلم أحدًا فعله، وجمعة بعد جمعة لا أعرفه. والدلالة على جواز ذلك: أنها صلاة يجوز أن تجمع في مسجد واحد، فجاز أن تفعل في مسجدين؛ دليله: صلاة العيد، وسائر الصلوات، ¬

_ (¬1) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 331)، والمبسوط (2/ 173). (¬2) ينظر: المحلى (5/ 38 و 39). (¬3) ينظر: المدونة (1/ 151)، والمعونة (1/ 227). (¬4) ينظر: الأم (2/ 384)، والحاوي (2/ 447). (¬5) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 331)، وبدائع الصنائع (2/ 191). (¬6) ينظر: الأحكام السلطانية ص 103، وشرح الزركشي (2/ 196). (¬7) في الأصل: الجبان. وفي الكوفة عدة مواضع تعرف بالجبانة، كل واحدة منها منسوبة إلى قبيلة، وقد نسب إليها جماعة من أهل العلم، وتعرف بـ: (عَرْزَم). ينظر: معجم البلدان (4/ 100).

وقد رُوي عن علي - رضي الله عنه -: أنه كان يستخلف أبا مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - ليصلي بضَعَفَة الناس صلاة العيد، ويخرج هو إلى الجبانة، فيصلي بالناس، وحكمُ الجبانة حكمُ المصر (¬1). فإن قيل: لا حجة في حديث علي - رضي الله عنه -؛ لأن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن حنش (¬2) قال (¬3): قيل لعلي - رضي الله عنه -: إن ضعفاء من ضعفاء [الناس] (¬4) لا يستطيعون الخروج إلى الجبانة، فأمر رجلًا يصلي بالناس أربع ركعات: ركعتين (5) للعيد، وركعتين (¬5) لمكان خروجهم إلى الجبانة. وإذا ثبت أنه صلى بهم أربعًا، لم تكن صلاة عيد. قيل له: روى النجاد بإسناده عن أبي إسحاق (¬6): أن عليًا - رضي الله عنه - أمر ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في الأم (8/ 408)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5864 و 5865 و 5866)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: صلاة العيدين، باب: الإمام يامر من يصلي بضعفة الناس العيد في المسجد، رقم (6259 و 6260)، قال النووي في المجموع (5/ 7): (حديث استخلاف علي أبا مسعود، رواه الشافعي بإسناد صحيح). (¬2) ابن المعتمر الكناني، أبو المعتمر الكوفي، قال ابن حجر: (صدوق له أوهام ويرسل). ينظر: التقريب ص 169. (¬3) في الأصل: فإن قيل. والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة، رقم (5864). (¬4) ليست في الأصل، ولفظه عند ابن أبي شيبة: (إن ضعفة من ضعفة الناس ... ). (¬5) في الأصل: ركعتان. (¬6) هو: أبو إسحاق السبيعي، مضت ترجمته.

رجلًا يصلي بضعفاء الناس في المسجد ركعتين (¬1). وقال أحمد - رحمه الله - في رواية المروذي، والفضل: قد رُوي عن علي - رضي الله عنه - من غير وجه: ركعتان (¬2)، والرواية التي رُوي فيها: أربعًا لا حجة فيها؛ لأنه قد رُوي فيها: أنه قال: ركعتان للعيد، وركعتان لمكان خروجهم [إلى] الجبانة، وهذا يقتضي أنه كان يصلي صلاة العيد ركعتين منفردتين، وركعتين كفارة؛ لمكان الخروج إلى الجبانة. فإن قيل: صلاة العيد تطوع، ويجوز فعلُها في السفر والحضر، متفرقين ومجتمعين، فلهذا جاز فعلُها في مسجدين، وأكثر. قيل له: هي واجبة عندنا، ومن شرطها الاستيطانُ، والجماعة، والإمام - على إحدى الروايتين -، وقد نص على إيجابها في رواية المروذي (¬3)، وجعفر بن محمد (3) - وقد سئل عن العيد: أواجب هو؟ -، قال: نعم، فإن خرج بعضهم، فقد أجزأ. فقد نص على وجوبها على الجماعة، ونص على الجماعة والإمام في رواية جعفر بن محمد (3): في أهل القرى يصلون أربعًا، إلا أن يخطب رجل، فيصلون ركعتين، وقد ذكره أبو بكر، وبناه على الجمعة، وأن من ¬

_ (¬1) في الأصل: ركعتان. (¬2) في الأصل: ركعتين. (¬3) لم أقف على روايته، وينظر: المغني (3/ 253)، ومختصر ابن تميم (3/ 5)، والفروع (3/ 199)، وشرح الزركشي (2/ 213)، والإنصاف (5/ 317).

شرطها: إمامًا، وجماعة، ويأتي الكلام على ذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى -. وأيضًا: فإنه إذا صلى بهم الإمام في صلاة الخوف صلاة الجمعة، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، وفارقته، وأتمت لأنفسها، وجاءت الطائفة الثانية، فأحرمت خلفه، فقد استفتحت جمعة بمصر بعد انعقاد غيرها فيه، كذلك ها هنا، وهما سواء؛ لأن هناك إنما جاز لأجل الحاجة، ومثله ها هنا. فإن قيل: إنما يمنع استفتاح جمعة بمصر بعد انعقاد (¬1) غيرها فيه إذا قضيت، وها هنا الإمام ما فرغ من الجمعة، فجاز أن يحرموا خلفه بجمعة. قيل: كان يجب أن يمنع الاستفتاح بالثانية بوجود الإحرام بالأولة، وإلا، يفضي إلى [أن] (¬2) يعقد جمعتان بمصر، ويحكم بصحتهما معًا حتى يعلم السابقة بالفراغ، وهذا لا سبيل إليه. واحتج المخالف: بأن المدينة كان بها خلق كثير، وأئمة من الصحابة، والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين -، ولم ينقل عنهم أنهم في وقت من الأوقات [صلوا] (¬3) في موضعين، وأكثر، فلو كان ذلك جائزًا؛ لوجب أن يكون قد وقع منهم في الزمان المديد. ¬

_ (¬1) في الأصل: اعتقاد. (¬2) ليست في الأصل، وبها يستقيم الكلام. (¬3) ليست في الأصل، وبها يتم الكلام.

والجواب: أنا لا نوجب تفريقها في مواضع، وعلى أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في موضع واحد لا يدل على المنع في موضع آخر؛ كما أن فعلها في بلد واحد لا يمنع جواز فعلها في غيره؛ ولأن (¬1) الحاجة لم تَدْعُهم إلى جواز فعلها في موضعين. واحتج: بأن تفريق الجماعة للجمعة في البلد الواحد - مع إمكان جمعها في موضع واحد - غيرُ جائز؛ قياسًا على ما زاد على موضعين، قال: ولا يلزم عليه إذا كان متباعد الأقطار؛ مثل: بغداد؛ لأنه لا يمكن جمع أهلها في موضع واحد إلا بمشقة عظيمة، فيجوز لهم أن يفعلوها في موضعين، وثلاثة، على حسب الإمكان. والجواب: أن الخرقي - رحمه الله - (¬2): أجاز ذلك من غير أن يُخصّ بموضعين، لم يمتنع أن يجوز في موضعين، ولا يجوز في ثلاثة مواضع؛ كصلاة العيد. وقد قيل: إن القياس يقتضي أن لا يجوز إلا في موضع واحد؛ لأنه لو جاز في موضعين، لجاز في سائر المساجد؛ كسائر الصلوات، ولجاز في سائر المواطن من السفر، والحضر؛ كسائر الصلوات، إلا أنا تركنا القياس في موضعين؛ لما ذكرنا من حديث علي - رضي الله عنه -، وأنه أقام العيد في موضعين، وحكمُها حكمُ الجمعة من الوجه الذي بيّنا. ¬

_ (¬1) في الأصل: ولأنه لأن الحاجة. (¬2) في مختصره ص 60.

172 - مسألة: يجوز إقامة الجمعة قبل الزوال في وقت صلاة العيد

واحتج: بأن هذه الصلاة سميت جمعة لا لجمع الجماعات، وقال الزجاج في كتابه (¬1): ومن قال في غير القراءة: جُمَعة - بضم الجيم، وفتح الميم -، فمعناه: الذي تجمع الناس، كما يقول: (رجل لُعَنة): إذا كثر لعن الناس (¬2)، و (رجل ضُحَكة): إذا كان يكثر الضحك، وضحكه: إذا كان يُضحَك منه. وإذا كان كذلك، لم يجز تفريقها. والجواب: أن فعلها في موضعين لا يخرجها عن أن تكون جامعة للناس؛ كما إذا فُعلت في بلدين، على أن الدارقطني روى في الأفراد (¬3) بإسناده عن سلمان - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما سميت الجمعة؛ لأن آدم - عليه السلام - جُمع فيها خَلْقُه" (¬4). * * * 172 - مَسْألَة: يجوز إقامة الجمعة قبل الزوال في وقت صلاة العيد (¬5): ¬

_ (¬1) معاني القرآن (4/ 240). (¬2) كذا في الأصل، وفي معاني القرآن: (يكثر لعن الناس). (¬3) ينظر: أطراف الغرائب والأفراد (3/ 117). (¬4) أخرجه الخطيب في تاريخه (2/ 397)، وضعّفه الألباني في الضعيفة (7/ 210)، رقم (3224). (¬5) ينظر: التمام (1/ 238)، والمستوعب (3/ 21)، والمغني (3/ 239)، والإنصاف (5/ 186).

نقل هذا الجماعة عنه: عبد الله (¬1)، وصالح (¬2)، وابن القاسم (¬3)، وأحمد بن الحسن (¬4) الترمذي (3)، وأبو طالب (3)، وابن منصور (¬5): كلُّهم يروي عنه: يجوز فعلها قبل الزوال، وقال في رواية الترمذي - وقد سئل: عن صلاة الجمعة قبل نصف النهار؟ -، فقال: ما جاء من فعل أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما -؛ لأنها عيد، والأعياد كلها في أول النهار. وظاهر هذا: أنه أجازها في وقت العيد، وهو اختيار أبي حفص عمر بن بدر المغازلي (¬6)، قال: وقتها حين تحل الصلاة بعد الفجر، حكاه أبو إسحاق عنه. وقال الخرقي في مختصره (¬7): وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة، أجزأتهم. فظاهر كلامه: أنه لا يجوز فعلُها في الساعة الخامسة، والرابعة، وانما يجوز في الساعة السادسة قبل الزوال، والمذهب على جواز ذلك. ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (593 و 594). (¬2) لم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر: الانتصار (2/ 575)، والفتح لابن رجب (5/ 418). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 575)، والفتح لابن رجب (5/ 418). (¬4) في الأصل: الحسين، وقد مضى التنبيه عليه. (¬5) في مسائله رقم (540). (¬6) ينظر: الجامع الصغير ص 59، والانتصار (2/ 576)، والتمام (1/ 238)، والمستوعب (3/ 22). (¬7) ص 61.

وقال مالك (¬1)، وأبو حنيفة (¬2)، والشافعي (¬3) - رحمهم الله -: لا يجوز فعلها قبل الزوال. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كنا نتغدى، ونَقيل بعد الجمعة، وفي لفظ آخر: ما كنا نتغدى، ولا نقيل إلا بعد الجمعة (¬4)، وفي لفظ آخر قال (¬5): إن كنا لنفرح بيوم الجمعة، وذلك أن عجوزًا تطبخ لنا أُصولَ السِّلق (¬6)، والشعير، فنأكله عندها بعد ما ننصرف من الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فوجه الدلالة: أنه أخبر أن الغداء، والقيلولة كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الجمعة، والغداء إنما يكون غداء قبل الزوال، فإذا زالت الشمس، سمي: عشاء، وكذلك القيلولة ما كانت قبل الزوال، فإذا زالت الشمس (¬7)، وقد قال ابن قتيبة في جوابات ¬

_ (¬1) ينظر: الإشراف (1/ 333)، والكافي ص 70. (¬2) ينظر: الحجة (1/ 188)، وبدائع الصنائع (2/ 212). (¬3) ينظر: الأم (2/ 386)، والمهذب (1/ 361). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، رقم (939)، ومسلم كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، رقم (859). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما جاء في الغرس، رقم (2349). (¬6) نوع من البقل. ينظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 674). (¬7) طمس في الأصل بمقدار ثلاث كلمات، قال في الفروع (11/ 36): =

مسائل (¬1): الغداء مأخوذ من الغداة، والعَشاء مأخوذ من العشي، وإذا انبسطت الشمس، سمي الغداء: ضُحى، قال الله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119]، أي: لا تعطش، ولا تصيبك الشمس (¬2)، فإذا كان نصف النهار، قالوا: الظهيرة، قال الله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]، ثم يكون الأكل بعد الهجير عشاء. وجواب الشق من هذا، وهو: أن وقت الغداء من طلوع الفجر إلى زوال الشمس؛ لأنك تقول: غدوت إلى فلان؛ يعني: مضيت إليه في أول النهار، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرباض بن سارية - رضي الله عنه - وقد دخل عليه -: "تعال إلى الغداء المبارك" (¬3)، وهو يتسحر، فسمى السحور غداءً؛ لقربه من وقت الغداة، وهو إلى وقت الزوال؛ لقوله تعالى: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، فقيل. الغدو: إلى وقت الزوال، والآصال: بعده، ووقت العشاء من زوال الشمس إلى أن يمضي أكثر الليل، وذلك ¬

_ = (قال القاضي وغيره: فإذا زالت الشمس، سمي عشاء). (¬1) لم أقف عليه، وينظر: الانتصار (2/ 577 و 578)، والفروع (11/ 36)، ولسان العرب (غدا، عشا). (¬2) ينظر: تفسير ابن جرير الطبري (16/ 187). (¬3) أخرجه أبو داود بلفظ: (هلم إلى الغداء المبارك)، في كتاب: الصيام، باب: من سمى السحور الغداء، رقم (2344)، والحديث صححه الألباني في الصحيحة رقم (2983).

لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر، فسلَّم من ركعتين (¬1)، فسمى صلاةَ الظهر: صلاةَ العشي، وإنما كان أن يمضي أكثر الليل؛ لأن بعد مضي الأكثر يكون السَّحَر، ومعلوم في العادة الفرقُ بين العشاء والسَّحَر، ووقت السحر: مضيُّ الأكثر من الليل إلى طلوع الفجر؛ لأنه كذلك في العادة، وتبيَّن صحة هذا: لو حلف أن لا يتغدى، كان مصورًا على ما ذكرنا، كذلك العشاء. وروى النجاد بإسناده عن أبي سهيل (¬2) عن أبيه (¬3) قال: كنت أرى طُنْفُسة (¬4) لعقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - تُطرح إلى جانب المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلَّها ظلُّ الجدار، خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال (¬5): ثم يرجع بعد صلاة الجمعة، فيقيل قائلة الضحى (¬6). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه (1/ 200، 201). (¬2) هو: نافع بن مالك بن عامر الأصبحي التيمي، أبو سهيل المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 140 هـ. ينظر: التقريب ص 625. (¬3) هو: مالك بن أبي عامر الأصبحي، قال ابن حجر: (سمع من عمر، ثقة)، توفي سنة 74 هـ. ينظر: التقريب ص 576. (¬4) الطنفسة: البساط الذي له خَمَل رقيق، وجمعه طنافس. ينظر: النهاية في غريب الأثر (طنفس). (¬5) القائل: مالك بن أبي عامر. (¬6) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب: الوقوت، باب: وقت الجمعة، رقم (13)، وصحح إسناده النووي في المجموع (4/ 266)، وابن حجر في الفتح (2/ 497)، وأشار إليه البخاري معلقًا بصيغة التمريض في =

وهذا يدل على أن القيلولة تكون قبل الزوال؛ لأنه أضافها إلى الضحى. واحتج أصحابنا: بما روى أحمد - رحمه الله - في المسند (¬1) بإسناده عن إياس بن سلمة (¬2) عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم نرجع، وما للحيطان فيءٌ نستظل به، ورواه أبو داود أيضًا (¬3). وهذه لا دلالة فيه؛ لأنه لم ينف أن يكون للحيطان فيء في الجملة، وإنما نفى أن يكون فيئًا يُستظل به، وقد تزول الشمس على فيء لا يُستظل به. والمعتمد في المسألة: إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -: روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عبد الله بن سيدان السلمي (¬4) قال: ¬

_ = صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: وقت الجمعة إذا زالت الشمس. (¬1) رقم (16546)، والحديث أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، رقم (4168)، ومسلم في كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، رقم (860). (¬2) ابن الأكوع الأسلمي، أبو سلمة المدني، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 119 هـ. ينظر: التقريب ص 89. (¬3) في سننه، كتاب: الصلاة، باب: في وقت الجمعة، رقم (1085). (¬4) الرقي، المطرودي، مولى بنى سليم، روى عن جماعة من الصحابة، ذكر بعضهم: أنه ممن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعفه بعض أهل العلم. ينظر: العلل للإمام أحمد (2/ 210)، والجرح والتعديل (5/ 68)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 415).

صليت مع أبي بكر - رضي الله عنه - الجمعة، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم صلينا مع ابن الخطاب - رضي الله عنه -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن تقول: قد انتصف النهار، ثم صلينا مع عثمان - رضي الله عنه -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن تقول: قد زال النهار، فلم أسمع أحدًا عاب ذلك، وفي لفظ آخر قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر - رضي الله عنه -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان - رضي الله عنه -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: زالت الشمس، فما رأيت أحدًا عاب ذلك، ولا أنكره (¬1). وروى أبو بكر في كتاب الشافي قال: نا أحمد بن محمد (¬2)، ومحمد بن عبد الله (¬3) قال: نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: نا أبي قال: نا وكيع ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه مختصرًا رقم (5210)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5174)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 354)، والدارقطني في كتاب: الصلاة، باب: من كان يقيل بعد الجمعة، ويقول: هي أول النهار، رقم (5174)، قال المجد في المنتقى ص 300، وابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 556): إن الإمام أحمد احتج به، وقاله ابن رجب، وجوّد إسناده، بل قال: (وأحمدُ أعرفُ الرجال من كل من تكلم في هذا الحديث، وقد استدل به، واعتمد عليه). ينظر: الفتح (5/ 415 و 416). (¬2) الخلال، مضت ترجمته. (¬3) ابن إبراهيم بن عبدويه، أبو بكر البزاز، المعروف بـ (الشافعي)، ثقة ثبت، توفي سنة 354 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (5/ 456)، وتهذيب الكمال =

عن جعفر بن بُرقان (¬1)، عن ثابت بن الحجاج (¬2)، عن عبد الله بن سيدان، قال وكيع السلمي (¬3)، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر - رضي الله عنه -، فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬4)، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك، ولا أنكره. وهذا إجماع منهم؛ لأن صلاة الجمعة يحضرها الخاص والعام، ولم يظهر النكير من أحد منهم. فإن قيل: يحتمل أن يكون عبد الله بن سيدان ظن الشمس لم تزل، وكانت قد زالت؛ لأن الزوال معنى خفي. قيل له: هذا لا يصح؛ لوجوه: أحدها: أنك تضيف إليه الخطأ فيما حكاه، ويجب أن يحسن الظن في الراوي. ¬

_ = (14/ 289) فيمن يروي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل. (¬1) الكِلابي، أبو عبد الله الرَّقي، قال أبو حاتم: (إذا حدَّث عن غير الزهري، فلا بأس)، قال ابن حجر: (صدوق)، توفي سنة 150 هـ. ينظر: الجرح والتعديل (2/ 474)، والتقريب ص 117. (¬2) الكِلابي، الرَّقي، قال ابن حجر: (ثقة). ينظر: التقريب ص 108. (¬3) المراد بوكيع هو: ابن الجراح، أحد رواة هذا السند، مضت ترجمته، لكن نسبته إلى السلمي محل نظر، والسلمي هي نسبة عبد الله بن سيدان. (¬4) لفظة الترضي ساقطة من الأصل، على خلاف العادة، فلذلك أثبتها.

والثاني: أن زمان الخطبة والصلاة زمان طويل لا يخفى في مثله الزوال. والثالث: أنه فرق بين صلاة أبي بكر، وبين صلاة عمر، وبين صلاة عثمان - رضي الله عنهم -، وهذا لا يكون إلا عن مراقبة، ومعرفة بالوقت. فإن قيل: يحمل قوله: [نصف النهار] قبل الوقت الذي كان يبردون (¬1) بالصلاة الظهر فيه (¬2). قيل له: لا يصح هذا؛ لوجوه: أحدها: أن قوله: [فكانت صلاته وخطبته] يقتضي: الدوام، فهو يعم الشتاء الذي لا إبراد فيه، والصيف. والثاني: أن قبل نصف النهار حقيقةٌ فيما قبل الزوال، ولهذا لو حلف: لا كلَّمته قبل نصف النهار، فكلَّمه قبل الزوال، برَّ، ولو كلَّمه بعد الزوال، لم يبرّ. والثالث: أنه خالف بين فعل أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، والقوم جميعهم كانوا يبردون (¬3) بها في الحر، فعلم أن اختلافهم رجع إلى الزوال. وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن عبد الله بن سلمة قال: صلى بنا ابن مسعود - رضي الله عنه - الجمعة ضُحًى، وقال: إنما عجلت لكم؛ خشيةَ ¬

_ (¬1) في الأصل: يترددون. (¬2) هكذا في الأصل، ولعلها: بصلاة الظهر فيه. (¬3) في الأصل: يترددن.

الحر عليكم (¬1). وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن سعيد بن سويد (¬2) قال: صلى بنا معاوية - رضي الله عنه - الجمعة ضُحًى (¬3). وهذا صريح في إجماعهم على ذلك. والقياس: أن صلاة الجمعة مضافة إلى يومها، فصح فعلُها قبل الزوال؛ دليله: صلاة العيد، ولا يلزم عليه صلاةُ الظهر، وبقيةُ الصلوات؛ لأنها لا تضاف إلى يومها؛ لأنها تُفعل في سائر الأيام، والجمعة تضاف إلى يومها، وهو يوم تفعل فيه، كما أن صلاة العيد تضاف إلى يوم العيد. فإن قيل: صلاة العيد تطوعٌ، وتجوز في الحضر، والسفر، ومتفرقين، ومجتمعين، فلهذا جاز فعلها أي وقت شاء. قيل له: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم (¬4)، وقلنا: صلاة العيد واجبة، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5176)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 100 و 354)، وابن حزم في المحلى (5/ 32)، واحتج به الإمام أحمد؛ كما في مسائل عبد الله رقم (593 و 594)، وصحح إسناده الألباني. ينظر: الإرواء (3/ 62)، رقم (596). (¬2) ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 29)، ولم يذكر فيه جرحًا، ولا تعديلًا. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (5177)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 354)، وجوّد إسناده الألباني في الإرواء (3/ 63). (¬4) ص 290.

ومن شرطها: الاستيطان، والجماعة، والإمام - على إحدى الروايتين -، فسقط هذا. فإن قيل: فصلاة العيد لا يصح فعلُها بعد الزوال، فلهذا فُعلت قبل الزوال، وليس كذلك الجمعة؛ لأنه يصح فعلها بعد الزوال، فلم يصح قبل الزوال. قيل له: لا يمتنع أن يصح فعلُها قبل الزوال، تجب بالزوال (¬1)، وتصح قبله؛ كصلاة العصر في وقت الظهر، يحق الجمع، تصح وتجب بعد الظل، وتصح قبله، وكذلك عشاء الآخرة في وقت المغرب. فإن قيل: العصر والعشاء إنما جاز تقديمهما؛ لأجل الجمع، فهو سبب في جواز ذلك، وليس ها هنا سبب في تقديم الجمعة على وقتها، فيجب أن لا يجوز؛ لأنها من عبادات الأبدان، وعبادات الأبدان لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها. قيل له: هذا الوقت لوجوبها عندنا، إلا أنه وجوب موسَّع، وإذا كان كذلك وقتًا لوجوبها، لم يكن فيه تقديمٌ لها على وقت وجوبها. فإن قيل: لو كان وقت صلاة [العيد] (¬2) وقتًا للجمعة في الابتداء، لكان آخر وقت صلاة العيد آخر وقت صلاة الجمعة؛ كصلاة القصر، ¬

_ (¬1) في الأصل: تجب الزوال، وفي الانتصار (2/ 585): (إنما لم تجز صلاة العيد بعد الزوال؛ لأن وقتها يخرج بالزوال، ووقت الجمعة لا يخرج بالزوال). (¬2) ساقطة من الأصل.

وصلاة الإتمام (¬1)، لما كان وقت إحداهما وقت الأخرى، كان وقتًا لهما في الانتهاء، وكذلك وقت الصلاتين المجموعتين لما كان وقت إحداهما وقتًا للأخرى في الابتداء، كان وقتًا للانتهاء. قيل: لا يمتنع أن يكون وقت صلاة العيد وقتًا لصلاة الجمعة في الابتداء، ولا يكون وقتًا للانتهاء؛ بدليل: الظهر، والجمعة، وقت إحداهما وقتٌ للأخرى في الابتداء، ويختلفان في الانتهاء عند مخالفنا؛ لأن وقت الظهر: إذا زالت الشمس، وهو أول وقت الجمعة، وآخر وقت الجمعة: إذا صار ظل كل شيء مثله، وليس ذلك بآخر وقت الظهر؛ لأنه لو أحرم بالجمعة في وقت الظهر، ثم خرج الوقت، بنى عليها ظهرًا، ولم يبن عليها جمعة؛ فقد جعلوا ما بعد الظل وقتًا للظهر، وليس بوقت للجمعة، وكذلك طلوع الفجر الثاني أولُ وقت الصوم، وأولُ وقت صلاة الفجر، ويختلفان في الانتهاء، فيمتد وقت الصوم إلى آخر النهار، ووقت الصلاة إلى طلوع الشمس. وقياس آخر: وهو أن الجمعة والظهر صلاتا فرض يجهر في إحداهما، ويسر في الأخرى، فلم يجب اشتراكهما في الوقت؛ دليله: الفجر، والظهر، ولا يلزم عليه النوافل؛ لقولنا: صلاتا فرض، ولا يلزم عليه: صلاة القصر، والإتمام؛ لقولنا: يجهر في إحداهما، ويسر في الأخرى. ¬

_ (¬1) في الأصل: الإمام.

وطريقة أخرى جيدة: وهو أن المقصود: العبادة، دون الوقت، وللجمعة تأثير في إسقاط بعض العبادة، وهو الركعتان، فلأن يكون لها تأثير في إسقاط فرض الوقت أولى؛ كالسفر لما أثّر في إسقاط بعض العبادة، أثّر في إسقاط الوقت في الجمع، وإن شئت قلت: ما أثّر في إسقاط بعض الصلاة، أثّر في إسقاط وقتها؛ كالسفر يؤثر في إسقاط وقت العصر إلى وقت الظهر، كذلك يؤثر في إسقاط فرض وقت الظهر إلى ما قبله في صلاة الجمعة. واحتج المخالف: بما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة إذا مالت الشمس (¬1). وروى سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة إذا زالت الشمس (¬2). والجواب: أن هذا محمول على الفضيلة والكمال، ونحن نستحب فعلها في ذلك الوقت، وما رويناه يدل على الجواز، فنجمع بينهما. واحتج: بأنها صلاة مقصورة، فلا يجوز فعلها قبل وقت التمام؛ كصلاة السفر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: وقت الجمعة إذا زالت الشمس، رقم (904). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، رقم (860).

والجواب: أنا لا نسلِّم أنها صلاة مقصورة؛ لأن الفرض في يوم الجمعة صلاةُ الجمعة، وعلى أن القصر والتمام فرضٌ واحد، ألا ترى أنهما يتفقان في الجهر، والإخفات، ويُقضيان (¬1) جميعًا إذا فاتا، وتُبنى إحداهما على الأخرى مع سعة الوقت، فكان وقتهما واحدًا، فلم يجز فعل المقصورة قبل وقت التمام، والجمعة والظهر تختلفان في جميع ذلك، فهما فرضان مختلفان، فاختلف وقتهما؛ كالظهر مع العصر. واحتج: بأنها صلاة يخرج وقتها بحصول الظل مثله، فلم يجز فعلها قبل الزوال؛ كالظهر. والجواب: أنه لا يمتنع أن تتفق العبادتان في الانتهاء، وتختلفا في الابتداء؛ كما جاز أن تتفقا في الابتداء، وتختلفا في الانتهاء؛ كالصوم، وصلاة الفجر يتفقان في الابتداء، وهو طلوع الفجر، ويختلفان في الانتهاء، فانتهاء وقت صلاة الفجر طلوعُ الشمس، وانتهاء الصوم غروبُها؛ لأن الانتهاء أحد طرفي الوقت، كما أن الابتداء أحد طرفيه، وعلى أن الظهر والجمعة قد تختلفان في انتهاء الوقت على وجه، وهو حال الاستدامة بالصلاة؛ فإنه إذا أحرم بالظهر، فخرج وقتها؛ بأن صار الظل مثله، لم يمنع من البناء عليها، ويكون أداء، ولو كان محرِمًا بالجمعة، فخرج وقت الظهر، منع من البناء عليها جمعة على قول الشافعي - رحمه الله (¬2) -، ¬

_ (¬1) في الأصل: نقصان، وفي الانتصار (2/ 587): (في الجهر والإخفات والقضاء إذا فاتت، فيبنى بعضها على بعض مع سعة الوقت؛ كالمقصورة مع التامة). (¬2) ينظر: الأم (2/ 388).

فجاز أن يختلفا (¬1) في الابتداء، وعلى أنه لا حاجة بنا إلى تأخيرها بعد أن صار الظل مثله، وبنا حاجة إلى تقديمها، وهو أن هذه الصلاة يُجمَع (¬2) لها الناس من أطراف البلد، وغير البلد، فلو أخرناها إلى الزوال، شق عليهم الرجوع إلى منازلهم، ومثل هذا قالوا: إذا اجتمع عيد، وجمعة في حق أهل القرى، لم تجب عليهم الجمعة. واحتج: بأنها صلاة مفروضة، فلم يجز فعلها قبل وجوبها متبوعه (¬3)؛ دليله: سائر الصلوات، قالوا: وعندكم: ما قبل الزوال ليس بوقت الوجوب، وإنما هو وقت الجواز. والجواب: أنا نقلب العلة، فنقول: فلم يتقدر وقتُها بوقت غيرها؛ دليله: سائر الصلوات، على أن كلام أحمد - رحمه الله - يقتضي روايتين: إحداهما: أنه وقت لوجوبها؛ لأنه قال في رواية أحمد بن الحسن (¬4) الترمذي (¬5): في صلاة الجمعة قبل نصف النهار: لا أرى بأسًا على ما جاء من فعل أبي بكر - رضي الله عنه -؛ ولأنها عيد، والأعياد كلها في أول النهار. فقد شبهها بصلاة العيد في الوقت، وأولُ النهار وقتٌ لوجوب صلاة العيد، كذلك الجمعة، يكون أول النهار وقتًا لوجوبها وجوبًا موسَّعًا، ¬

_ (¬1) في الأصل: يختلفان. (¬2) كذا في الأصل، ولعلها: يجتمع. (¬3) كذا في الأصل. (¬4) في الأصل: الحسين، وهو خطأ. (¬5) ينظر: الانتصار (2/ 575، و 576)، والفتح لابن رجب (5/ 418).

فعلى هذا نقول بموجب القياس، وأنه لا يجوز فعلها قبل وجوبها. والثانية: هو وقتٌ لجوازها؛ لأنه قال في رواية ابن منصور (¬1): إن فعل ذلك قبل الزوال، لم أَعِبْه، وبعد الزوال ليس فيه شك. وظاهر هذا: أنه وقت الجواز؛ ولأن الواجب لا يوصف بذلك، وهو اختيار أبي بكر (¬2) فيما حكاه أبو إسحاق عنه في تعاليقه، فقال: أولُ وقتها حين تزول الشمس لوقت الظهر سواء، ولكن يجوز أن يصليها قبل الزوال؛ للأخبار، فعلى هذا: لا يمتنع جواز فعلها قبل وقتها؛ لأجل العذر، كما جاز في تقديم العصر لأجل العذر، والعذر في الجمعة: أنها صلاة يجتمع لها الناس من المواضع البعيدة، ويعتمدوا البُكور لها طلبًا للفضيلة، وبترك الاشتغال، فلو منعنا من فعلها قبل الزوال، شق عليهم الانتظار، وضاق عليهم الوقت في الرجوع إلى بيوتهم، والتصرف في أشغالهم، فكان ذلك عذرًا؛ كالمرض، والمطر. وقال أبو إسحاق في بعض تعاليقه: اختلف أصحابنا في وقت الجمعة ما أوله؟ فذهب أبو القاسم بن أبي علي الخرقي: إلى أن ذلك في الساعة الخامسة (¬3). ¬

_ (¬1) في مسائله رقم (540). (¬2) ينظر: التمام (1/ 238). (¬3) ينظر: الانتصار (2/ 576)، والمغني (3/ 239)، وشرح الزركشي (2/ 211).

173 - مسألة: إذا وافق عيد يوم الجمعة، فالفضل في حضورهما جميعا، فإن حضر العيد، أسقط عنه فرض الجمعة

وذهب أبو حفص عمر بن بدر المغازلي: إلى أن ذلك حين تحل الصلاة بعد صلاة الفجر، كذا سمعته يقول (¬1). وأما شيخنا أبو بكر عبد العزيز (¬2)، فذهب إلى أن وقتها: أولُه حين تزول الشمس؛ كوقت الظهر سواء، قال: ولكن يجوز أن يصليها قبل الزوال؛ بدلالة الآثار، وكما يجوز في العصر (¬3) في وقت الظهر إذا جمع بينهما، وكذلك ابن مسعود لما صلى قبل الزوال قال: إنما صليت مخافة الحر عليكم، أو كما قال، والله تعالى أعلم. * * * 173 - مَسْألَة: إذا وافق عيدٌ يومَ الجمعة، فالفضل في حضورهما جميعًا، فإن حضر العيد، أسقط عنه فرض الجمعة: نص عليه في رواية المروذي (¬4)، .......................... ¬

_ (¬1) ينظر: الجامع الصغير ص 59، والانتصار (2/ 576)، والتمام (1/ 240)، والمستوعب (3/ 22). (¬2) ينظر: الإنصاف (5/ 186). (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: أن يصلي العصر. (¬4) لم أقف على روايته، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (620)، والميموني كما في الانتصار (2/ 590)، وطبقات الحنابلة (2/ 95)، وينظر في المسألة: الجامع الصغير ص 60، والمستوعب (3/ 46)، والمغني (3/ 242)، =

وصالح (¬1)، وإسماعيل بن سعيد (¬2)، وإسحاق بن إبراهيم (1)، وبه قال إبراهيم (¬3)، والشعبي (¬4). وقال أبو حنيفة (¬5)، ومالك (¬6)، والشافعي (¬7) - رضي الله عنهم -: حضور العيد لا يُسقط الجمعة. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء منكم، أجزأ العيدُ من جمعته، .............................. ¬

_ = والمحرر (1/ 247)، ومختصر ابن تميم (2/ 456)، والفروع (3/ 194)، والإنصاف (5/ 262). (¬1) لم أقف عليه في المطبوع من مسائله، وينظر: الحاشية الماضية. (¬2) لم أقف على روايته، ونقل نحوها عبد الله في مسائله رقم (620)، والميموني كما في الانتصار (2/ 590)، وطبقات الحنابلة (2/ 95)، وينظر في المسألة: الجامع الصغير ص 60، والمستوعب (3/ 46)، والمغني (3/ 242)، والمحرر (1/ 247)، ومختصر ابن تميم (2/ 456)، والفروع (3/ 194)، والإنصاف (5/ 262). (¬3) ينظر مصنف ابن أبي شيبة رقم (5898). (¬4) ينظر مصنف ابن أبي شيبة رقم (5900). (¬5) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 346)، والهداية (1/ 84). (¬6) ينظر: المدونة (1/ 153)، والإشراف (1/ 335). (¬7) ينظر: الأم (2/ 516)، والحاوي (2/ 502)، وخص أهل المصر بها، ومن عداهم فتسقط بالعيد.

وإنا مجمِّعون - إن شاء الله تعالى -" (¬1). وروى بإسناده عن إياس بن [أبي] (¬2) أرملة الشامي (¬3) قال: شهدت معاوية وهو يسأل زيدَ بنَ أرقمَ - رضي الله عنه -: هل شهدتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: كيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخَّص في الجمعة، ثم قال: "من شاء أن يصلِّي، فليصلِّ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: إذا وافق يوم جمعة يوم عيد، رقم (1073)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في خروج النساء في العيدين، رقم (1311)، قال الإمام أحمد: (إنما رواه الناس عن عبد العزيز عن أبي صالح مرسلًا)، قال ابن حجر: (وصحح الدارقطني إرساله ... وكذا صحح ابن حنبل إرساله). ينظر: تاريخ بغداد (3/ 129)، والتحقيق (4/ 131)، والتلخيص (3/ 1099). (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) قال ابن حجر: (مجهول). ينظر: التقريب ص 89. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: إذا وافق يوم جمعة يوم عيد، رقم (1070)، والنسائي في كتاب: صلاة العيدين، باب: الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد، رقم (1591)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في خروج النساء في العيدين، رقم (1310)، قال علي بن المديني: (في هذا الباب غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد)، قال ابن حجر عن هذا الحديث: (صححه علي بن المديني)، وقال النووي: (رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه بإسناد جيد، ولم يضعفه أبو داود). ينظر: الاستذكار (7/ 29)، والمجموع (4/ 250)، والتلخيص (3/ 1098).

وروى بإسناده عن أبي صالح السمان قال: اجتمع عيدان في يوم واحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس! إنكم قد أصبتم ذكرًا وخيرًا (¬1)، فمن شاء أن يجمِّع، فليجمِّع، ومن شاء أن يجلس، فليجلس" (¬2)، وهذه الأخبار نصوص في إسقاط الجمعة بالعيد (¬3). فإن قيل: لا حجة في هذه الأخبار؛ لأن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن عطاء بن السائب عن أبيه - رضي الله عنه - قال: حضرت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى (¬4)، فلما قضى صلاته، قال: "قد قضينا الصلاة، فمن كان من أهل العوالي، فأحبَّ أن ينصرف، فلينصرفْ (¬5)، ومن أحب أن ينتظر الخطبة، فليجلس" (¬6)، وأهل العوالي لا تجب عليهم الجمعة، فالخطاب حصل ¬

_ (¬1) في الأصل: ذكر وخير. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (5728)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: صلاة العيدين، باب: اجتماع العيدين، رقم (6289)، وهو حديث مرسل. ينظر: حاشية رقم (4) من الصفحة الماضية. (¬3) في الأصل: إسقاط الجمعة العيد. (¬4) في الأصل: صلى. (¬5) في الأصل: فليصرف. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الجلوس للخطبة، رقم (1155) وقال: (هذا مرسل عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)، والنسائي، كتاب: صلاة العيدين، باب: التخيير بين الجلوس في الخطبة للعيدين، رقم (1571)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلوات، باب: ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة، رقم (1290)، وصحح أبو زرعة الإرسال، وكذا ذكر الإمام أحمد. =

لهم، فلم يكن فيه حجة على من تجب عليه الجمعة. قيل: ولا يصح حملُ أخبارنا على أهل العوالي؛ لوجوه: أحدها: أنه قال في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "فمن شاء منكم، أجزأ العيدُ من جمعته"، وهذا (¬1) الجمعة واجبة عليه، وأن العيد تجزئ عنها، وأهل العوالي ما كانت تجب عليهم الجمعة، فتجزئ عنها. والثاني: قوله: "اجتمع في يومكم عيدان"، فجعل العلة في ترك الحضور اجتماع العيدين، وأهل العوالي كانت العلة في إسقاط الحضور غير هذا. والثالث: أنا قد علمنا إسقاط الجمعة عن أهل العوالي من غير هذا الخبر، فلا معنى لحمله على حكم قد استفدناه من غيره، ووجب حمله على فائدة مجددة. وكلّمتُ بعضهم (¬2) في هذه المسألة، فأورد هذا السؤال على الخبر على وجه آخر، فقالوا: أهل [العوالي] (¬3) كانوا ممن يلزمهم حضور الجمعة بالمدينة؛ لقربهم منها، لكن سقطت عنهم لأجل حضور العيد، ¬

_ = ينظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 363)، رقم (513)، وفتح الباري لابن رجب (6/ 148). (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمتين، ولعلها: [نص في أن]. (¬2) من علماء الشافعية؛ كما يستفاد من وجه الاستدلال، وينظر: الانتصار (2/ 596). (¬3) طمس في الأصل بمقدار كلمة، والمثبت مستفاد من الكلام الماضي واللاحق.

وعندنا: أهلُ القرى تسقط عنهم الجمعة بحضور العيد، على الصحيح من قول أصحابنا، قال: وإذا كان كذلك، فقد قلنا بموجب التعليل؛ فإن [العيد] (¬1) هو المسقِط عنهم الجمعةَ. فيكون الجواب عنه: أن أهل العوالي كانوا على مسافة، والعلة (¬2) أعمُّ من اللفظ؛ ولأن اللفظ خاصٌّ في أهل العوالي، والتعليل يعمُّ أهلَ العوالي، وأهلَ المدينة؛ لأنه قال: "اجتمع في يومكم عيدان، فمن شاء، أجزأ"، وهذا المعنى وحده في حق أهل المدينة وغيرهم، وإذا كان التعليل أعمَّ من اللفظ، كان الحكم متعلقًا بالتعليل دون اللفظ (¬3)؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في المحرِم الذي وَقَصت به ناقته، "لا تُخمروا رأسه، ولا تُقربوه طيبًا؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا" (¬4)، واللفظ خاص في ذلك المحرم، والتعليل عام في كل محرم، وكذلك قوله - عليه السلام - في شهداء أُحد: "زَمِّلُوهم (¬5) بكُلُومهم (¬6) ودمائهم؛ فإنهن يُبعثون يوم القيامة اللونُ ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة، والمثبت يقتضيه الكلام. (¬2) في الأصل: وبين العلة. (¬3) في الأصل: الله. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم؟ رقم (1267)، ومسلم في كتاب: الحج، باب: ما يُفعل بالمحرم إذا مات، رقم (1206). (¬5) أي: لفّوهم بثيابهم. ينظر: النهاية في غريب الحديث (زمل). (¬6) الكلم: الجرح. ينظر: لسان العرب (كلم).

لونُ الدم، والريحُ ريحُ المسك" (¬1)، فاللفظ خاص فيهم، والتعليل أعم، فكان حكم التعليل مستعملًا في حقهم، وحقِّ غيرهم، وكذلك قوله - عليه السلام -: "أينقص الرُّطب إذا يبس؟ "، قالوا: نعم، قال: "فلا إِذَنْ" (¬2)، اللفظ خاص في الرطب، والعلة عامة فيه وفي غيره. فإن قيل: هذا خطاب لأهل العوالي، وقوله: "عيدان اجتمعا"، ذكر بعض [أهل] (¬3) اللغة تقديره: عيدان اجتمعا في حقكم يا أهل العوالي، فحذف بعضها، ووكله إلينا، كما قلنا في قوله - عليه السلام - لبريرة: "ملكتِ بُضْعَكِ، فاختاري" (¬4)، تقديره: ملكت بضعك تحتَ عبدٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (23659)، والنسائي في كتاب: الجنائز، باب: مواراة الشهيد في دمه، رقم (2002)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجنائز، باب: المسلمون يقتلهم المشركون في المعترك، رقم (6799)، وصوب أبو حاتم أن الحديث مرسل. ينظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 176)، رقم (1015). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب: البيوع، باب: في التمر بالتمر، رقم (3359)، والترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم (1225)، والنسائي في كتاب: البيوع، باب: اشتراء التمر بالرطب، رقم (4545)، وابن ماجه، كتاب: التجارات، باب: بيع الرطب بالتمر، رقم (2264)، قال ابن الملقن: (هذا الحديث صحيح، رواه الأئمة). ينظر: البدر المنير (6/ 478). (¬3) ليست في الأصل، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات (8/ 204) عن =

قيل له: فقلْ مثلَ هذا في المحرِم الذي كان في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الشهداء، وإن كان هناك محذوف، وتقديره: يبعث، بعْثتُه ملبيًا، ويبعثون يوم القيامة بأعيانهم، اللونُ لون الدم، والريح ريح المسك، واحدٌ ما قال هذا، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ملكتِ بُضعك، فاختاري"، فإنما قلنا: إن هناك محذوفًا؛ لقيام الدلالة على أن الحرية لا توجب الفسخ؛ لأنها حال كمال، والرقُّ يوجب؛ لأنه حال نقصان، فأما أهل العوالي، وأهل البلد سواء؛ لما عليهم من المشقة في العَوْد، لا سيما إذا كان البلد متباعدَ الأطراف، وإنما يختلفان في أن مشقة الحضر أقلُّ من مشقة السفر، وهذا لا يوجب الفرق بينهما؛ لأن مشقة المرض أشدُّ من السفر، وكلاهما يُفطر، ورأيت بخط أبي إسحاق: نا الحسين بن إسماعيل القاضي (¬1) نا: ¬

_ = الشعبي: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة - رضي الله عنها - لما عتقت: (قد أعتق بُضعك معك، فاختاري)، قال ابن حجر في التلخيص (5/ 2339): (هذا مرسل، ووصله الدارقطني)، وأخرجه الدارقطني بلفظ: (اذهبي، فقد عتق معك بضعك)، في كتاب: النكاح، باب: القسم في ابتداء النكاح، رقم (3760)، وأصل التخيير لها بين بقائها تحت زوجها، وعدمه، أخرجه البخاري في كتاب: الطلاق، باب: لا يكون بيع الأمة طلاقًا، رقم (5279)، ومسلم في كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، رقم (1504). (¬1) لعله: الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل البغدادي، أبو عبد الله الضبي، القاضي، المحاملي، قال الذهبي: (الإمام، العلامة، المحدث الثقة، مسند الوقت)، له مصنف في السنن، توفي سنة 330 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (8/ 19)، وسير أعلام النبلاء (15/ 259).

محمد بن عمر بن حنان (¬1) نا: بقية عن مقاتل بن سليمان (¬2)، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمع عيدان في يوم، يقول: "من شهد معنا أولَ النهار، فهو بالخيار آخِرَه" (¬3). وأيضًا: فهو إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -: وروى النجاد عن وهب بن كيسان (¬4) قال: اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير - رضي الله عنهما -، فأخَّر الخروجَ، ثم خرج فخطبَ، فأطال الخطبة، ثم صلى، ولم يخرج إلى الجمعة، فعاب ذلك عليه أناس، فبلغ ذلك ابنَ عباس - رضي الله عنهما -، فقال: أصاب السنةَ، فبلغ ابنَ الزبير، فقال: شهدت العيدَ مع عمر - رضي الله عنه -، فصنع كما صنعتُ (¬5). ¬

_ (¬1) الكلبي الحمصي، ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 123)، وقال: (ربما أغرب). (¬2) ابن بشير الأزدي الخرساني، أبو الحسن البلخي، قال ابن حجر: (كذبوه)، توفي سنة 150 هـ. ينظر: التقريب ص 608. (¬3) لم أقف على من أخرجه، والحديث ضعيف؛ فبقية هو: ابن الوليد، مدلس، ومقاتل لا يحتج به. (¬4) القرشي مولاهم، أبو نعيم المدني المعلِّم، قال ابن حجر: (ثقة)، توفي سنة 124 هـ. ينظر: التقريب ص 655. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، رقم (5886)، والنسائي في كتاب: صلاة العيدين، باب: الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد، رقم (1592) وليس في روايته: (فبلغ ابن الزبير ... )، وابن المنذر في الأوسط (4/ 288)، وابن خزيمة في صحيحه، جماع أبواب صلاة العيدين، =

وروى بإسناده عن أبي عبد الرحمن قال: اجتمع عيدان على عهد عليّ - رضي الله عنه -، فصلى بالناس، ثم خطب على راحلته، ثم قال: أيها الناس! من صلى منكم العيد، فقد قضى جمعته إن شاء الله (¬1). ولا يُعرف مخالف لهم. والقياس: أنها صلاة، فجاز أن يسقط غيرها بفعلها؛ فى ليله: صلاة الجمعة، تسقط بفعلها صلاة الظهر، وقد دل على صحة التسمية: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عيدان اجتمعا"، فسماهما عيدين. فإن قيل: لا نقول: إن الجمعة أسقطت بفعلها الظهر؛ لأن الفرض المخاطب به يوم الجمعة هو الجمعة. قيل له: العبد، والمرأة، والمسافر، فرضُهم يوم الجمعة الظهرُ، وسقط عنهم بفعل الجمعة. فإن قيل: إنما سقطت الظهر بالجمعة؛ لأنهما صلاتا وقت واحد، ¬

_ = باب: الرخصة للإمام إذا اجتمع العيدان والجمعة، رقم (1465)، والحاكم في المستدرك، كتاب: صلاة العيدين، رقم (1097)، وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير ... )، فذكر نحو. في كتاب: الصلاة، باب: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، رقم (1072)، وصحح إسناده النووي. ينظر: المجموع (4/ 251). (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، رقم (5888)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 290)، وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، قال عنه الإمامان أحمد، وأبو زرعة: (ضعيف الحديث). ينظر: تهذيب الكمال (16/ 355).

وليس كذلك العيد والجمعة؛ لأنهما صلاتا وقتين. قيل له: لا نسلِّم هذا في الأصل؛ لأن وقت الجمعة وقتُ الظهر؛ لأنه يجوز فعلُ الجمعة عندنا قبل الزوال، ولا يجوز فعلُ الظهر في ذلك الوقت، وإنما في الفرع، فهما صلاتا وقت واحد؛ لأنه يصلي الجمعة في الوقت الذي يصلي صلاة العيد، فلا فرق بينهما. وجواب آخر: وهو أنه يبطل بالصلاتين المجموعتين يجمعهما وقت واحد، ومع هذا تسقط إحداهما الأخرى. فإن قيل: العيد أضعف؛ لأنها فرض على الكفاية، والجمعة على الأعيان، وليس كذلك الجمعة والظهر؛ لأنهما صلاتا فرض على الأعيان، فجاز أن تُسقط إحداهما الأخرى. قيل له: كونها أضعف منها لا تُسقط لا يمنع (¬1) الإسقاط؛ بدليل: المسح على الخفين، يُسقط غسل الرجلين، وصلاة القصر يسقط الإتمام، وإن كان [أحد] الفعلين أضعفَ من الآخر؛ ولأنه قد حضر صلاة العيد، فلا يلزمه حضور الجمعة؛ دليله: من يلزمه فرض الجمعة خارج البلد، فإنهم إذا حضروا العيد، لم يلزمهم الحضور، على الظاهر من قول أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - (¬2)، كذلك هو في البلد، وليس لهم أن يقولوا: إن عليهم في الرجوع مشقة؛ لأن هذا المعنى لم يؤثر في أصل الإيجاب؛ ولأن المشقة تلحق في البلد. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) ينظر: الحاوي (2/ 503)، والبيان (2/ 552).

واحتج المخالف: بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن الله فرض عليكم الجمعة في يوم الجمعة" (¬1)، وهذا عام. والجواب: أنا نحمله على غير يوم العيد، بما تقدم. واحتج: بأن الجمعة صلاة تجب في يوم الجمعة، فلا تسقط بالعيد؛ دليله: صلاة العصر. والجواب: أن ليس إذا لم يؤثر في إسقاط العصر، لا يؤثر في إسقاط الجمعة؛ كما أن الجمعة لا تؤثر في إسقاط العصر، وتؤثر في إسقاط الظهر، كذلك ها هنا، وعلى أن هذا قياس يعارض السنة. واحتج: بأن كل من لزمته الجمعة إذا لم يصلِّ صلاة العيد، لزمته، وإن صلى؛ دليله: الإمام في صلاة الجمعة، وقد نص أحمد - رحمه الله - على أنها لا تسقط عنه في رواية الميموني (¬2)، فقال: قال - عليه السلام - (¬3): إذا اجتمع عيدان في يوم، أما الإمام، فيجمعهما ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن ماجه عن جابر - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " ... واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا ... " في كتاب: إقامة الصلوات، باب: في فرض الجمعة، رقم (1081)، قال أبو حاتم: (حديث منكر). ينظر: العلل لابن أبي حاتم (3/ 138)، رقم (1878)، والفتح لابن رجب (4/ 190 و 5/ 327). (¬2) ينظر: الانتصار (2/ 590)، وطبقات الحنابلة (2/ 95). (¬3) كذا في الأصل، كأنه من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو كلام الإمام أحمد =

جميعًا (¬1)، ومن شاء ذهب، ومن شاء قعد. والجواب: إنما لم تَسقط عن الإمام؛ لأن في إسقاطها إبطالَ الجمعة في حق من لم يحضر صلاة العيد، وفي حقِّ من حضرها، إلا أنه يريد حضورها طلبًا للفضيلة؛ لأن فعلها يقف عليه، وليس كذلك غيره من الناس؛ لأنه ليس في إسقاطها عنه هذا المعنى، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج: بأنه لو جاز أن تسقط الجمعة بحضور العيد، لجاز أن يسقط العيد بحضور الجمعة. والجواب: أنا لا نعرف الرواية في ذلك، ولا يمتنع أن نقول: إذا أخّر العيد بشرط العزم على حضور الجمعة: أنه يجوز له ذلك، ويحتمل أن يقال: لا يسقط؛ لأنها تسقط لا إلى بدل، وعلى أن الجمعة تُسقط الظهر، والظهر لا يُسقط الجمعة إذا فعلَها قبل صلاة الإمام. واحتج: بأنه لو حضر الجمعة، لزمته، فيجب أن يلزمه، وإن لم يحضر، دليله: من لم يحضر صلاة العيد. والجواب: أنه يبطل بالمريض إذا حضر، لزمه، ولا يلزمه بعدم الحضور (¬2)، وكذلك من يلزمه حضور الجمعة من غير أهل القرى يلزمه بالحضور، ولا يلزمه بغيره؛ ولأنه إذا حضر، زالت مشقته، وإذا لم ¬

_ = - رحمه الله - كما في طبقات الحنابلة (2/ 95 و 96). (¬1) في الأصل: جمعا، والتصويب من طبقات الحنابلة (2/ 95). (¬2) كذا في الأصل.

174 - مسألة: لا تجب الجمعة على العبد في أصح الروايتين

يحضر، فالمشقة موجودة. فإن قيل: لو سقطت عنهم، لوجب أن يصيروا في حكم أهل الأعذار، فإذا صلوا قبل صلاة الإمام، تجزئهم. قيل: هكذا نقول، والله أعلم. * * * 174 - مَسْألَة: لا تجب الجمعة على العبد في أصح الروايتين: نقل ابن منصور عنه، فقال: لا جمعة على عبد (¬1). وروى عنه في موضع آخر (¬2): لا جمعة على عبد، إلا أن يأذن له سيده. وبهذا قال أبو حنيفة (¬3)، ومالك (¬4)، والشافعي (¬5) - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله، وقد ذكرها المؤلف من رواية ابن منصور في الروايتين (1/ 182)، وذكرها أيضًا من رواية صالح، ولم أجدها في المطبوع من مسائله، وينظر في المسألة: مختصر الخرقي ص 60، والمحرر (1/ 229)، ومختصر ابن تميم (2/ 406 و 407)، والقواعد لابن رجب (1/ 183)، والإنصاف (5/ 171). (¬2) في مسائله رقم (516). (¬3) ينظر: مختصر الطحاوي ص 36، والهداية (1/ 83). (¬4) ينظر: المدونة (1/ 146)، والمعونة (1/ 221). (¬5) ينظر: المهذب (1/ 354)، والبيان (2/ 544).

وفيه رواية أخرى: تجب عليه الجمعة، رواها عنه المروذي (¬1)، فقال: سأل أبا عبد الله مملوكٌ، فقال له: إن مولاي لا يدعني أصلي الجمعة، فترى أن أذهب من غير علمه؟ فقال أبو عبد الله: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فقد وجب عليك، وعلى كل مسلم، فقال له العبد: فأذهب من غير إذنه؟ قال: يعجبني أن تطلب إليه، وتحمل عليه حتى يأذن لك. وبهذا قال داود (¬2). وجه الرواية الأولة: ما روى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة، إلا صبي، أو امرأة، أو مسافر، أو عبد، ومن استغنى بلهو أو تجارة، استغنى الله عنه، والله غني حميد" (¬3). وروى أيضًا بإسناده عن محمد بن كعب القرظي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة في جماعة، إلا عبد، أو صبي، أو امرأة" (¬4). وروى أبو داود في كتابه (¬5) بإسناده عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه -، عن ¬

_ (¬1) ينظر: الروايتين (1/ 182)، والمغني (3/ 217). (¬2) ينظر: المحلى (5/ 36 و 38)، والمجموع (4/ 245). (¬3) مضى تخريجه في ص 108. (¬4) مضى تخريجه في ص 109. (¬5) السنن، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة للمملوك والمرأة، رقم (1067)، =

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حقٌّ واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض"، قال أبو داود: طارق رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعد من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهذه الأخبار نصوص في إسقاط الجمعة عن العبد. ولأن الجمعة عبادة تختص بمكان مخصوص يحتاج في أدائها إلى قطع مسافة في العادة، فلا يلزم العبد؛ كالحج، ولا يلزم عليه سائر الصلوات؛ لأنها لا تختص بمكان، ولا يحتاج فيها إلى قطع مسافة؛ لأنها تفعل بكل مكان، وكذلك الصيام. ولأن في اشتغاله في الجمعة تركَ خدمة المولى؛ لأنه يحتاج إلى أن يسمع الخطبة، وينتظر إقامة الصلاة، وما أدى إلى إسقاط خدمة المولى لم يؤمر به؛ كالجهاد، ولا يلزم عليه سائر الصلوات؛ لأن الاشتغال بها لا يؤدي إلى الإخلال بخدمة السيد في الغالب؛ لأنها لا تفتقد إلى زمن طويل، ولا تختص بمكان. ولأنه منقوص بالرق، والجمعة كاملة، فلا تجب إلا على كامل. ¬

_ = وأخرجه الدارقطني في كتاب: الجمعة، باب: من تجب عليه الجمعة، رقم (1577)، والبيهقي في الكبرى، كتاب: الجمعة، باب: من لا تلزمه الجمعة، رقم (5632) بلفظ: (الجمعة واجبة على كل مسلم، إلا على ... )، وقال: (هذا الحديث، وإن كان فيه إرسال، فهو مرسل جيد، فطارق من خيار التابعين، وممن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يسمع منه، ولحديثه هذا شواهد)، قال ابن حجر: (صححه غير واحد). ينظر: التلخيص (3/ 1022).

واحتج المخالف: بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهذا عام في الحر، والعبد، والذكر، والأنثى. والجواب: أن المراد به: الحرية؛ بدلالة قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وظاهر هذا يقتضي النهيَ عمن يملك البيع، حتى يخاطب بتركه لأجل الصلاة، والعبد لا يملك. واحتج: بقوله - عليه السلام -: "إن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في يوم الجمعة" (¬1). وقوله - عليه السلام -: "الجمعة واجبة على كل مسلم" (¬2). والجواب: أنا قد روينا فيه زيادة، وهو قوله - عليه السلام -: "إلا صبي أو امرأة أو مسافر أو عبد"، والأخذ بالزائد أولى. واحتج: بأنها صلاة مفروضة بأصل الشرع، فوجبت في العبد، وغيره؛ كسائر الصلوات. والجواب: أن سائر الصلوات لا يؤدي الاشتغال بها إلى إسقاط حق السيد، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يؤدي إلى ذلك من الوجه الذي ذكرنا فبان الفرق بينهما. واحتج: بأنه ذَكَر مكلَّف، فوجبت عليه الجمعة؛ كالحر. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في ص 320. (¬2) مضى تخريجه في الصفحة الماضية ص 324.

والجواب: أن الحر كامل؛ ولأن الحر غير مملوك الرقبة، والله تعالى أعلم. * * *

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع - أ - 1 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات: للقاضي أبي يعلى، ت/ محمد الحمود النجدي، ط 1، 1410 هـ، مكتبة دار الإمام الذهبي ودار إيلاف للنشر، الكويت. 2 - الآثار: لمحمد بن الحسن الشيباني، ت/ أبي الوفاء الأفغاني، ط 2، 1413 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 3 - الإجماع: لأبي بكر محمد بن المنذر، ت/ د. صغير حنيف، ط 2، 1420 هـ، مكتبة الفرقان، الإمارات. 4 - أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد: لأحمد الخلال، ت/ سيد حسن، ط 2، 1424 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 5 - أحكام الجنائز وبدعها: لناصر الدين محمد الألباني، ط 4، 1406 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 6 - الأحكام السلطانية: للقاضي أبي يعلى، ت/ محمد الفقي، 1421 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 7 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية: لعلي بن محمد الماوردي، ت/ خالد السبع العلمي، ط 3، عام 1420 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.

8 - أحكام القرآن: لأحمد الجصاص، ت/ عبد السلام شاهين، ط 1، 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 9 - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه: محمد بن إسحاق الفاكهي، ت/ عبد الملك بن دهيش، ط 1، عام 1407 هـ، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة. 10 - اختلاف الفقهاء: لمحمد بن نصر المروزي، ت/ د. محمد طاهر حكيم، ط 1، 1420 هـ، أضواء السلف، الرياض. 11 - الاختيار لتعليل المختار: لعبد الله الموصللي، ت/ علي أبو الخير، ومحمد سليمان، ط 1، 1419 هـ، دار الخير، بيروت. 12 - الإرشاد إلى سبيل الرشاد: لمحمد بن أبي موسى، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1419 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 13 - الآداب الشرعية: لمحمد بن مفلح المقدسي، ت/ شعيب الأرنؤوط، وعمر القيام، ط 3، 1421 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 14 - إرواء الغليل، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 2، 1405 هـ. 15 - الاستذكار: لأبي عمر يوسف بن عبد البر، توثيق وتخريج د. عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، ط 1، 1414 هـ. 16 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعلي الجزري المشهور بابن الأثير، ت/ خليل شيحا، ط 2، 1422 هـ، دار المعرفة، بيروت. 17 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية: لعبد الرحمن السيوطي، ت/ محمد إسماعيل، ط 1، 1419 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 18 - الإشراف: للقاضي عبد الوهاب بن نصر، تخريج الحبيب بن طاهر، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1420 هـ.

19 - الإشراف على مذاهب العلماء: لمحمد بن المنذر، ت/ د. أبو حماد صغير أحمد، ط 1، 1428 هـ، مكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة. 20 - الإصابة في تمييز الصحابة: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1429 هـ، دار هجر، القاهرة. 21 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: لمحمد الأمين الشنقيطي، إشراف/ بكر أبو زيد، ط 1، 1426 هـ، دار عالم الفوائد، مكة. 22 - أطراف الغرائب والأفراد: للدارقطني، لمحمد بن طاهر المقدسي، ت/ جابر السريع، ط 1، عام 1428 هـ. 23 - الاعتكاف من التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة: للقاضي أبي يعلى، ت/ د. عواض العمري، 1416 هـ. 24 - إعلام الموقعين عن رب العالمين: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية، ت/ مشهور آل سلمان، ط 1، 1423 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام. 25 - الأعلام: تأليف خير الدين الزركلي، ط 15، دار العلم للملايين، بيروت. 26 - الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني، ت/ علي مهنا، وسمير جابر، دار الفكر، لبنان. 27 - اقتضاء الصراط المستقيم: لأبي العباس أحمد بن تيمية، ت/ د. ناصر العقل، ط 2، 1419 هـ، دار إشبيليا، الرياض. 28 - الإقناع في مسائل الإجماع: لأبي الحسن ابن القطان، ت/ حسن الصعيدي، ط 1، 1424 هـ، طباعة الفاروق الحديثة للطباعة، القاهرة. 29 - الإقناع لطالب الانتفاع: لموسى الحجاوي، ت/ د. عبد الله التركي، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية، ط 2، 1419 هـ. 30 - الإلزامات والتتبع: لعلي بن عمر الدارقطني، ت/ مقبل الوادعي، توزيع دار

الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت. 31 - الأم: للإمام الشافعي، ت/ د. رفعت فوزي، ط 1، 1422 هـ، دار الوفاء، مصر. 32 - الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت/ خليل هراس، ط 2، 1395 هـ، دار الفكر. 33 - الانتصار في المسائل الكبار: لمحفوظ الكلوذاني، ت/ د. سليمان العمير، د. عوض العوفي، د. عبد العزيز البعيمي، ط 1، 1413 هـ، الناشر مكتبة العبيكان. 34 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: لعلي المرداوي، ت/ د. عبد الله التركي، مطبوع مع المقنع الشرح الكبير طبعة وزارة الشؤون الإسلامية، 1419 هـ. 35 - الأنساب: لعبد الكريم السمعاني، ت/ عبد الله البارودي، ط 1، 1408 هـ، دار الجنان، بيروت. 36 - الأوسط: لأبي بكر محمد بن المنذر النيسابوري، ت/ صغير أحمد، ط 3، 1424 هـ، دار طيبة، الرياض. 37 - الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان: لأبي العباس بن الرفعة الأنصاري، ت/ د. محمد الخارقي، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى. 38 - الإيمان: لأبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، ت/ محمد ناصر الدين الألباني، ط 2، 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 39 - الإيمان: لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت/ محمد ناصر الدين الألباني، ط 2، 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت.

ب

- ب - 40 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير: لأحمد شاكر، ت/ د. بديع اللحام، ط 2، 1417 هـ، مكتبة دار الفيحاء بدمشق، ومكتبة دار السلام بالرياض. 41 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق: لزين الدين بن نجيم، ط 2، دار المعرفة، بيروت. 42 - البحر الزخار المعروف بمسند البزار: لأحمد البزار، ت/ عادل سعد، ط 1، 1426 هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية. 43 - بحر العلوم: لأبي الليث نصر السمرقندي، ت/ د. محمود مطرجي، دار الفكر، بيروت. 44 - البحر المحيط في أصول الفقه: لمحمد الزركشي، ت/ د. عبد الستار أبو غدة، ط 2، 1413 هـ، دار الصفوة، القاهرة. 45 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ت/ علي معوض، وعادل عبد الموجود، ط 1، 1418 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 46 - بدائع الفوائد: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية، ت/ علي العمران، ط 2، 1427 هـ، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة. 47 - بداية المجتهد: تأليف محمد القرطبي الشهير بابن رشد، ت/ عبد المجيد حلبي، ط 1، 1418 هـ، دار المعرفة، بيروت. 48 - البداية والنهاية: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، مكتبة المعارف، بيروت. 49 - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير: لأبي حفص عمر الأنصاري المعروف باب الملقن، ت/ مصطفى عبد الحي، وعبد الله بن سليمان، وياسر بن كمال، ط 1، 1425 هـ، دار الهجرة، الرياض.

ت

50 - البرهان في أصول الفقه: لأبي المعالي عبد الملك الجويني، ت/ د. عبد العظيم محمود الديب، ط 4، 1418 هـ، دار الوفاء، مصر. 51 - البرهان في علوم القرآن: لمحمد الزركشي، ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، 1391 هـ، دار المعرفة، بيروت. 52 - بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام: لعلي بن محمد بن القطان الفاسي، ت/ د. الحسين آيت سعيد، ط 1، عام 1418 هـ، دار طيبة، الرياض. 53 - البيان في عدّ آي القرآن: لأبي عمرو عثمان الداني، ت/ غانم قدوري الحمد، ط 1، 1414 هـ، مركز المخطوطات والتراث، الكويت. 54 - البيان في مذهب الإمام الشافعي: للعمراني، اعتنى به قاسم النوري، دار المنهاج. - ت - 55 - التاج والإكليل المطبوع مع مواهب الجليل: لمحمد المواق، ت/ زكريا عميرات، ط 1، 1416 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 56 - تاريخ أصبهان: لأبي نعيم أحمد الأصبهاني، ت/ سيد كسروي حسن، ط 1، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 57 - التاريخ الكبير: لمحمد بن إسماعيل البخاري، ت/ السيد هاشم الندوي، دار الفكر، بيروت. 58 - تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل: لأبي القاسم علي بن عساكر، ت/ محب الدين عمر العمري، 1995 م، دار الفكر، بيروت. 59 - تأويل مختلف الحديث: لعبد الله بن قتيبة، ت/ محمد الأصفر، ط 2،

1419 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 60 - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ علي البجاوي، المكتبة العلمية، بيروت. 61 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: لعثمان الزيلعي، 1313 هـ، دار الكتب الإسلامية، القاهرة. 62 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لمحمد المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت. 63 - تحفة الفقهاء: لعلاء الدين السمرقندي، ت/ د. محمد عبد البر، ط 3، 1419 هـ، مكتبة دار التراث، القاهرة. 64 - التحقيق: لعبد الرحمن بن الجوزي، ت/ حسن قطب، ط 1، 1422 هـ، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة. 65 - التدوين في أخبار قزوين: لعبد الكريم القزويني، ت/ عزيز الله العطاري، 1987 م، دار الكتب العلمية، بيروت. 66 - تصحيح الفروع المطبوع مع الفروع: لعلي المرداوي، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1424 هـ، مؤسسة الرسالة. 67 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ د. إكرام الله إمداد الحق، ط 2، 1424 هـ، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية. 68 - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ د. أحمد المباركي، ط 3، 1422 هـ. 69 - التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة: للقاضي أبي يعلى، حقق جزء الحج/ د. عواض العمري في الجامعة الإسلامية، 1410 هـ، وحقق جزءًا من

البيوع/ د. عبد الله الدخيل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المعهد العالي للقضاء، 1415 هـ. 70 - التعليق المغني على الدارقطني: لأبي الطيب محمد آبادي، طبع مع سنن الدارقطني، حققه شعيب الأرنؤوط وآخرون، ط 1، 1424 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 71 - تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، حققه/ مصطفى محمد، وآخرون، ط 1، 1425 هـ، دار عالم الكتب، الرياض، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية. 72 - تقريب التهذيب: لأحمد بن حجر العسقلاني، اعتنى به/ حسان عبد المنان، بيت الأفكار الدولية، الأردن. 73 - تقرير القواعد وتحرير الفوائد: لعبد الرحمن بن رجب، ت/ مشهور حسن سلمان، ط 2، 1419 هـ، دار ابن عفان، القاهرة. 74 - التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل: لصالح آل الشيخ، ط 1، 1417 هـ، دار العاصمة، الرياض. 75 - التلخيص الحبير: لأحمد بن علي بن حجر، ت/ د. محمد الثاني بن موسى، ط 1، 1428 هـ، دار أضواء السلف، الرياض. 76 - التلقين في الفقه المالكي: للقاضي عبد الوهاب بن نصر، ت/ محمد الغاني، مكتبة نزار الباز. 77 - التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام: لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى، ت/ د. عبد الله الطيار، د. عبد العزيز المد الله، ط 1، 1414 هـ، دار العاصمة. 78 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لأبي عمر يوسف بن عبد البر

ث

النمري، ت/ مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، 1387 هـ، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب. 79 - تنقيح التحقيق: لمحمد الذهبي، مطبوع مع التحقيق، ت/ حسن قطب، ط 1، 1422 هـ، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة. 80 - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: لمحمد بن عبد الهادي، ت/ سامي جاد الله، وعبد العزيز الخباني، ط 1، 1428 هـ، دار أضواء السلف، الرياض. 81 - التنبيه في الفقه الشافعي: لإبراهيم الشيرازي، ت/ نصر الدين تونسي، ط 1، 1427 هـ. 82 - تهذيب الأجوبة: للحسن بن حامد، ت/ د. عبد العزيز القايدي، ط 1، 1425 هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية. 83 - تهذيب الأسماء واللغات: لمحيي الدين يحيى النووي، ت/ مكتب البحوث والدراسات، ط 1، 1996 م، دار الفكر، بيروت. 84 - تهذيب التهذيب: لأحمد بن حجر، ت/ إبراهيم الزيبق، وعادل مرشد، ط 1، 1421 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 85 - تهذيب الكمال: تصنيف يوسف المزي، ت/ د. بشار معروف، ط 1، 1422 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. - ث - 86 - الثقات: لمحمد بن حبان أبي حاتم البستي، ت/ السيد شرف الدين أحمد، ط 1، 1395 هـ، دار الفكر، بيروت. - ج - 87 - جامع العلوم والحكم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب، ت/ طارق محمد، دار ابن الجوزي، ط 2، 1420 هـ.

ح

88 - جامع بيان العلم وفضله: لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت/ سمير الزهيري، دار ابن الجوزي، ط 6، 1424 هـ. 89 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن المشهور بـ (تفسير الطبري): لمحمد بن جرير الطبري، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1422 هـ، دار هجر للطباعة والنشر، مصر. 90 - الجامع لأحكام القرآن: لمحمد القرطبي، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1427 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 91 - الجامع الصغير في الفقه: للقاضي أبي يعلى، ت/ د. ناصر السلامة، ط 1، 1421 هـ، دار أطلس، الرياض. 92 - الجرح والتعديل: لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ط 1، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة. 93 - جزء فيه ستة مجالس من أمالي: للقاضي أبي يعلى، ت/ محمد بن ناصر العجمي، ط 1، 1425 هـ، دار البشائر، بيروت. 94 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين: نعمان خير الدين المشهور بالآلوسي، الناشر: مطبعة المدني بمصر، ودار المدني بجدة. 95 - جمهرة أشعار العرب: لأبي زيد القرشي، ت/ عمر فاروق الطباع، دار الأرقم، بيروت. 96 - الجوهر النقي: لعلي المارديني الشهير بابن التركماني، طبع بذيل السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي، ت/ محمد عبد القادر عطا، ط 3، 1424 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. - ح - 97 - حاشية ابن قندس على الفروع: لأبي بكر بن إبراهيم البعلي، ت/ عبد الله

خ

التركي، المطبوع مع الفروع، ط 1، عام 1424 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 98 - حاشية الروض المربع: جمع عبد الرحمن بن قاسم، ط 7، 1417 هـ. 99 - حاشية الروض المربع: لعبد الله العنقري، 1390 هـ، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. 100 - حاشية السندي على سنن النسائي: لأبي الحسن محمد السندي، ت/ مكتب تحقيق التراث الإسلامي، ط 6، 1422 هـ، دار المعرفة، بيروت. 101 - الحاوي الصغير في الفقه: لعبد الرحمن الضرير البصري، ت/ د. ناصر السلامة، ط 1، 1428، مكتبة الرشد، الرياض. 102 - الحاوي: تصنيف الماوردي، ت/ علي معوض، وعادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية 1419 هـ. 103 - الحجة على أهل المدينة: لمحمد بن الحسن الشيباني، ت/ مهدي القادري، ط 1، 1427 هـ، عالم الكتب، بيروت. 104 - حديث أبي الفضل الزهري: لأبي الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري. 105 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم أحمد الأصبهاني، ط 5، 1407 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 106 - حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: لمحمد الشاشي، ت/ سعيد عبد الفتاح، ط 1، 1417 هـ، مكتبة نزار باز، مكة المكرمة. 107 - الحيوان: لعمرو الجاحظ، ت/ عبد السلام هارون، 1416 هـ، دار الجيل، بيروت. - خ - 108 - خزانة الأدب: لعبد القادر البغدادي، ت/ عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، القاهرة.

د

109 - خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام: لمحيي الدين يحيى النووي، ت/ حسين الجمل، ط 1، 1418 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 110 - الخلافيات: لأحمد البيهقي، ت/ مشهور آل سلمان، ط 1، 1417 هـ، دار الصميعي، الرياض. - د - 111 - درء تعارض العقل والنقل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت/ د. محمد رشاد سالم، ط 2، 1411 هـ، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 112 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ السيد عبد الله اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت. 113 - الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ محمد عبد المعيد ضان، ط 2، 1392 هـ، مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند. 114 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: لجلال الدين السيوطي، ت/ عبد الله التركي، ط 1، 1424 هـ، مركز هجر، القاهرة. 115 - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية: لعبد الله الغصن، ط 1، 1424 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام. 116 - ديوان الإمام علي - رضي الله عنه -، جمع/ نعيم زرزور، ط 3، 1427 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 117 - ديوان حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، المطبعة العامرة بالحفرة في تونس. 118 - ديوان شعر المثقب العبدي، ت/ حسن الصيرفي، 1391 هـ، مطبوعات معهد المخطوطات العربية.

ذ

119 - ديوان عمرو بن معديكرب الزبيدي، جمع/ مطاع الطرابيشي، 1394 هـ، مجمع اللغة العربية، دمشق. - ذ - 120 - الذخيرة في فروع المالكية: لأحمد الصنهاجي المشهور بالقرافي، ت/ أحمد عبد الرحمن، ط 1، 1422 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 121 - ذيل تاريخ بغداد: لمحب الدين محمد بن محمود المعروف بابن النجار، ت/ مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، 1417 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 122 - الذيل على طبقات الحنابلة: لعبد الرحمن بن رجب، ت/ د. عبد الرحمن العثيمين، ط 1، 1425 هـ، مكتبة العبيكان. - ر - 123 - رؤوس المسائل: لأبي يعلى، مخطوط، توجد منه مصورة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ورقم تسلسله (114121). 124 - رؤوس المسائل: لجار الله محمود الزمخشري، ت/ عبد الله نذير أحمد، ط 2، 1428 هـ، دار البشائر، بيروت. 125 - رؤوس المسائل الخلافية: للحسين العكبري، ت/ د. خالد الخشلان، د. ناصر السلامة، ط 1، 1421 هـ، دار إشبيليا، الرياض. 126 - رؤوس المسائل في الخلاف: لعبد الخالق الهاشمي، ت/ د. عبد الملك بن دهيش، ط 2، 1422 هـ، دار خضر، بيروت. 127 - رد المحتار على الدر المختار (المعروف بحاشية ابن عابدين): لمحمد أمين بن عمر بن عابدين، ت/ د. حسام الدين بن محمد، ط 1، 1421 هـ، دار الثقافة والتراث، دمشق. 128 - روضة الطالبين وعمدة المفتين: لمحيي الدين يحيى النووي، إشراف زهير

ز

الشاويش، المكتب الإسلامي، ط 3، 1412 هـ. 129 - رياض الصالحين: لمحيي الدين يحيى النووي، ت/ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1422 هـ. - ز - 130 - زاد المسير في علم التفسير: لعبد الرحمن بن الجوزي، ط 3، 1404 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 131 - الزهد: للإمام أحمد بن حنبل، دراسة محمد السعيد، دار الكتاب العربي، ط 3, 1417 هـ. - س - 132 - سلسلة الأحاديث الصحيحة: لمحمد ناصر الدين الألباني، ط 4، 1405 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 133 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، ط 1، 1422 هـ. 134 - سنن الأثرم، ت/ عامر صبري، ط 1، 1425 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت. 135 - سنن أبي داود: تصنيف سليمان السجستاني، حكم على أحاديثه/ محمد ناصر الدين الألباني، اعتناء مشهور آل سلمان، ط 1، مكتبة المعارف. 136 - سنن ابن ماجه: تصنيف محمد القزويني المعروف بابن ماجه، حكم على أحاديثه/ ناصر الدين الألباني، اعتناء مشهور آل سلمان، ط 1، مكتبة المعارف. 137 - سنن الترمذي: تصنيف محمد بن عيسى الترمذي، ت/ أحمد شاكر، ط 1، 1419 هـ، دار الحديث، القاهرة.

138 - سنن الترمذي: تصنيف محمد بن عيسى الترمذي، حكم على أحاديثه/ محمد ناصر الدين الألباني، اعتناء مشهور آل سلمان، ط 1، مكتبة المعارف. 139 - سنن الدارقطني: تأليف علي الدارقطني، حققه شعيب الأرنؤوط وآخرون، ط 1، 1424 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 140 - السنن الكبرى: لأحمد بن الحسين البيهقي، ت/ محمد عبد القادر عطا، ط 3، 1424 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 141 - السنن الكبرى: لأحمد بن علي النسائي، ت/ حسن شلبي، ط 1، 1421 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 142 - سنن النسائي: تصنيف أحمد بن علي النسائي، حكم على أحاديثه/ محمد ناصر الدين الألباني، اعتناء مشهور آل سلمان، مكتبة المعارف، ط 1. 143 - سنن سعيد بن منصور، لسعيد بن منصور الخراساني، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، ط 1، عام 1403 هـ، الدار السلفية، الهند. 144 - سنن سعيد بن منصور، لسعيد بن منصور الخراساني، ت/ د. سعد الحميد، ط 1، عام 1414 هـ، دار الصميعي، الرياض. 145 - السنة: لأبي بكر أحمد الخلال، ت/ د. عطية الزهراني، ط 1، 1420 هـ، دار الراية، الرياض. 146 - سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد الذهبي، ط 11، 1422 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 147 - سيرة الإمام أحمد: لصالح ابن الإمام أحمد، ت/ فؤاد عبد المنعم أحمد، ط 2، 1404 هـ، دار الدعوة، الإسكندرية. 148 - سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهورة بـ (السيرة النبوية): لأبي محمد عبد الملك بن

ش

هشام، ت/ مجدي السيد، ط 1، 1416 هـ، دار الصحابة للتراث، مصر. 149 - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة: لمحمد بن حميد النجدي، حققه بكر أبو زيد، وعبد الرحمن العثيمين، ط 1، 1416 هـ، مؤسسة الرسالة. - ش - 150 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لهبة الله اللالكائي، ت/ د. أحمد الغامدي، ط 8، 1423 هـ، دار طيبة، الرياض. 151 - شرح الزركشي على مختصر الخرقي: لمحمد الزركشي، ت/ د. عبد الله الجبرين، ط 2، 1414 هـ، دار أولي النهى، بيروت. 152 - شرح سنن ابن ماجه: لعلاء الدين أبي عبد الله مغلطاي المصري، ت/ كامل عويضة، ط 1، 1419 هـ، مكتبة نزار الباز، المملكة العربية السعودية. 153 - شرح السنة: للبغوي، حققه/ زهير الشاويش، وشعيب الأرنؤوط، ط 2، 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 154 - شرح صحيح البخاري: لعلي بن بطّال، ت/ إبراهيم الصبيحي، وياسر بن إبراهيم، ط 2، 1423 هـ، مكتبة الرشد، الرياض. 155 - شرح علل ابن أبي حاتم: لمحمد بن عبد الهادي، ت/ مصطفى أبو الغيظ، وإبراهيم فهمي، ط 1، 1422 هـ، الفاروق الحديثة للطباعة، القاهرة. 156 - شرح العمدة: لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ت/ د. خالد المشيقح، ط 1، 1418 هـ، دار العاصمة، الرياض. 157 - شرح فتح القدير: تأليف محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار عالم الكتب، 1424 هـ، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف. 158 - شرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن: لأبي

ص

حفص عمر بن شاهين، ت/ عادل بن محمد، ط 1، 1415 هـ، مؤسسة قرطبة للنشر والتوزيع. 159 - شرح مختصر خليل: لمحمد الخرشي، دار الفكر، بيروت. 160 - شرح مشكل الآثار: لأحمد الطحاوي، ت/ شعيب الأرنؤوط، ط 2، 1427 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 161 - شرح معاني الآثار: لأحمد الطحاوي، ت/ محمد زهري النجار، ط 1، 1399 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 162 - شرح منتهى الإرادات: لمنصور البهوتي، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1421 هـ، مؤسسة الرسالة، يوزع على نفقة شركة سعودي أوجيه. 163 - الشعر والشعراء: لعبد الله بن قتيبة، ت/ مفيد قميحة، ط 2، 1405 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 164 - الشمائل المحمدية: لمحمد بن عيسى الترمذي، ت/ سيد الجليمي، ط 4، 1416 هـ، المكتبة التجارية، مكة. - ص - 165 - الصحاح: للجوهري، ت/ أحمد عطار، دار العلم ط 2 - 1399 هـ. 166 - صحيح ابن حبان: لأبي حاتم محمد بن حبان، ترتيب علي بن بلبان، ت/ شعيب الأرنؤوط، ط 3، 1418 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 167 - صحيح ابن خزيمة: لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ت/ د. محمد الأعظمي، ط 2، 1412 هـ، المكتب الإسلامي. 168 - صحيح البخاري المسمى: بالجامع الصحيح من أمور الرسول وسننه وأيامه، تصنيف الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، 1419 هـ.

ض

169 - صحيح مسلم: تصنيف الإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع، 1419 هـ. 170 - صلاة التراويح، لمحمد بن ناصر الدين الألباني، ط 1، عام 1421 هـ، مكتبة المعارف، الرياض. 171 - صلاة الوتر: لمحمد بن نصر المروزي. 172 - الصلاة وحكم تاركها: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم، ت/ محمد الفتيح، ط 3، 1419 هـ، دار ابن كثير، دمشق. - ض - 173 - الضعفاء: لمحمد العقيلي، ت/ حمدي السلفي، ط 1، 1420 هـ، دار الصميعي، الرياض. - ط - 174 - طبقات الحفاظ: لعبد الرحمن السيوطي، ت/ د. علي عمر، 1417 هـ، مكتبة الثقافة الدينية، مصر. 175 - طبقات الحنابلة: لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى، ت/ د. عبد الرحمن العثيمين، 1419 هـ، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مئة عام على تأسيس المملكة. 176 - طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين بن علي السبكي، ت/ د. محمود محمد الطناحي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، ط 2، 1413 هـ، دار هجر، مصر. 177 - الطبقات الكبرى: لمحمد البصري المعروف بابن سعد، ت/ محمد عطا، ط 2، 1418 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 178 - طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها: لأبي الشيخ عبد الله بن حيان

ع

الأنصاري، ت/ عبد الغفور البلوشي، ط 2، 1412 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 179 - طرح التثريب في شرح التقريب: لزين الدين عبد الرحيم العراقي، ت/ عبد القادر محمد علي، ط 1، 2000 م، دار الكتب العلمية، بيروت. - ع - 180 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: لأبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، دار الكتب العلمية، بيروت. 181 - العبر في خبر من غبر: لشمس الدين محمد الذهبي، ت/ د. صلاح الدين المنجد، ط 2، 1984 م، مطبعة حكومة الكويت، الكويت. 182 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت/ سليم الهلالي، ط 2، 1421 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام. 183 - العدة في أصول الفقه: للقاضي أبي يعلى، ت/ د. أحمد المباركي، ط 3، 1414 هـ. 184 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: لمحمد عبد الهادي، ت/ محمد الفقي، دار الكاتب العربي. 185 - علل الحديث: لعبد الرحمن الرازي المعروف بابن أبي حاتم، ت/ نشأت المصري، ط 1، 1423 هـ، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة. 186 - العلل الواردة في الأحاديث النبوية: تأليف علي بن عمر الدارقطني، ت/ د. محفوظ الرحمن السلفي، ط 3، 1424 هـ، دار طيبة، الرياض، وأكمل تحقيق الكتاب/ محمد الدباسي، ط 2، 1428 هـ، دار التدمرية، الرياض. 187 - العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد بن حنبل، ت/ د. وصي الله بن محمد

غ

عباس، ط 1، 1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، ودار الخاني، الرياض. 188 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري: لبدر الدين محمود العيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 189 - العواصم من القواصم: لمحمد الأشبيلي الملقب بابن العربي، ت/ جمال عبد العال، ط 1، 1429 هـ، مكتبة عباد الرحمن، مصر. 190 - عيون المسائل: للقاضي عبد الوهاب بن نصر، ت/ علي بورويبة، ط 1، 1430 هـ، دار ابن حزم، بيروت. - غ - 191 - غاية المطلب في معرفة المذهب: لأبي بكر زيد الجراعي، ت/ د. ناصر السلامة، 1427 هـ، مكتبة الرشد، الرياض. 192 - غريب الحديث: لأبي عبيد القاسم بن سلام، ط 1، 1406 هـ، دار الكتب العلمية. 193 - غريب الحديث: لعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت/ د. عبد الله الجبوري، ط 1، 1397 هـ، مطبعة العاني، بغداد. - ف - 194 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: لعبد الرحمن بن رجب، ت/ طارق بن محمد، ط 2، 1422 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام. 195 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأحمد بن حجر العسقلاني، رقَّم كتبها وأبوابها وأحاديثها/ محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، 1418 هـ، دار السلام، الرياض. 196 - الفردوس بمأثور الخطاب: لأبي شجاع شيرويه الديلمي، ت/ السعيد بن

ق

بسيوني زغلول، ط 1، 1406 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 197 - الفروع: لمحمد بن مفلح، ت/ د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1424 هـ. 198 - فقه السيرة: لمحمد الغزالي، خرَّج أحاديث الكتاب/ ناصر الدين الألباني، ط 7، 1976 م، دار إحياء التراث العربي. 199 - فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية: لمحمد ناصر الدين الألباني، اعتناء/ مشهور حسن، ط 1، 1422 هـ، مكتبة المعارف، الرياض. 200 - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: لأحمد النفراوي، ت/ عبد الوارث علي، ط 1، 1418 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 201 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: لعبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت. - ق - 202 - القاضي أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية، تأليف/ د. محمد أبو فارس، ط 1، 1403 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 203 - القواعد: لعلي البعلي، المعروف بابن اللحام، ت/ د. عايض الشهراني، ود. ناصر الغامدي، ط 1، 1423 هـ، مكتبة الرشد، الرياض. 204 - القوانين الفقهية: تأليف محمد الكلبي المعروف بابن جزي، ت/ محمد الضناوي، ط 1، 1418 هـ، دار الكتب العلمية. - ك - 205 - الكافي من فقه أهل المدينة المالكي: تأليف يوسف بن عبد البر النمري، دار الكتب العلمية.

ل

206 - الكافي: لموفق الدين عبد الله بن قدامة، ت/ عبد الله التركي، ط 2، 1419 هـ، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية. 207 - الكامل في التاريخ: لأبي الحسن علي بن أبي الكرم المشهور بابن الأثير، ت/ عبد الله القاضي، ط 2، 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 208 - الكامل في ضعفاء الرجال: لعبد الله بن عدي الجرجاني، ت/ يحيى مختار غزاوي، ط 3، 1409 هـ، دار الفكر، بيروت. 209 - كتب الفقه الحنبلي وأصوله المخطوطة بمكتبات المملكة العربية السعودية، للدكتور: ناصر السلامة، ط 1، عام 1427 هـ، دار أطلس الخضراء. 210 - كتاب الكُتَّاب: لعبد الله بن درستويه، ت/ د. إبراهيم السامرائي، ود. عبد الحسين الفتلي، ط 1، 1397 هـ، دار الكتب الثقافية، الكويت. 211 - كشاف القناع عن الإقناع: لمنصور البهوتي، ت/ لجنة متخصصة في وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية، ط 1، 1423 هـ، طباعة وزارة العدل. 212 - كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني: لأبي الحسن علي المالكي، ت/ يوسف البقاعي، 1412 هـ، دار الفكر، بيروت. 213 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: لعلاء الدين علي المتقي الهندي، ت/ محمود عمر الدمياطي، ط 1، 1419 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. - ل - 214 - لسان العرب: لمحمد بن منظور، ت/ عامر حيدر، ط 1، 1424 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 215 - لسان الميزان: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ عبد الفتاح أبو غدة، ط 1، 1423 هـ، دار البشائر، بيروت.

م

- م - 216 - المبسوط: لمحمد السرخسي، ت/ محمد بن حسن إسماعيل، ط 1، 1421 هـ، دار الكتب العلمية. 217 - المتفق والمفترق: لأبي بكر أحمد بن ثابت البغدادي، ت/ د. محمد الحامدي، ط 1، 1417 هـ، دار القادري، دمشق. 218 - مجلة جامعة أم القرى، عدد (23) سنة 1422 هـ. 219 - مجمع الأمثال: لأحمد الميداني، ت/ محمد إبراهيم، طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 220 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لعلي بن أبي بكر الهيثمي، ط 3، 1402 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 221 - المجموع شرح المهذب: لمحيي الدين يحيى النووي، ت/ محمد المطيعي، دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 1422 هـ. 222 - مجموع فتاوى ابن تيمية: لأبي العباس أحمد بن تيمية، جمع/ عبد الرحمن بن قاسم، طبعة مجمع الملك فهد، 1425 هـ. 223 - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: للشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، جمع د. محمد بن سعد الشويعر، تحت إشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، ط 3، 1421 هـ. 224 - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها: لعثمان بن جني، ت: علي ناصف، د. عبد الحليم النجار، د. عبد الفتاح شلبي، عام 1415 هـ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف بمصر. 225 - المحرر: لمجد الدين عبد السلام بن تيمية، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1428 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

226 - المحرر في الحديث: لمحمد بن عبد الهادي، اعتناء/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1425 هـ. 227 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: عبد الحق بن عطية، ت/ عبد الله الأنصاري وآخرون، ط 2، 1428 هـ، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر. 228 - المحلى شرح المجلى: لعلي بن حزم، ت/ أحمد شاكر، وتصحيح/ مكتب التحقيق بدار إحياء التراث العربي، ط 2، 1422 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 229 - مختصر ابن تميم: لمحمد بن تميم الحراني، ت/ د. علي القصير، ط 1، 1429 هـ، مكتبة الرشد، الرياض. 230 - مختصر اختلاف العلماء: لأحمد الجصاص الرازي، ت/ د. عبد الله أحمد، ط 2، 1417 هـ، دار البشائر، بيروت. 231 - مختصر الخرقي: لعمر الخرقي، ت/ محمد آل إسماعيل، ط 1، 1408 هـ، مكتبة المعارف، الرياض. 232 - مختصر سنن أبي داود: للحافظ المنذري، ومعالم السنن: للخطابي، وتهذيب ابن القيم، ت/ محمد الفقي، دار المعرفة، بيروت. 233 - مختصر الطحاوي: لأحمد الطحاوي، حققه أبو الوفا الأفغاني، دار إحياء العلوم، ط 1، 1406 هـ. 234 - مختصر القدوري: لأحمد البغدادي المعروف بالقدوري، ت/ د. عبد الله مزي، ط 2، 1429 هـ، مؤسسة الريان، بيروت. 235 - مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي: اختصره/ أحمد المقريزي، ط 2، 1414 هـ، حديث أكادمي للطباعة، باكستان، ومؤسسة الرسالة، بيروت.

236 - مختصر المزني: لإسماعيل المزني، ت/ محمد شاهين، ط 1، 1419 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 237 - المخصص: لأبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده، ت/ خليل إبراهيم جفال، ط 1، 1417 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 238 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: لعبد القادر بن بدران، ت/ عبد الله التركي، ط 4، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 239 - المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: تأليف/ د. بكر أبو زيد، ط 1، 1417 هـ، دار العاصمة، الرياض. 240 - المدونة الكبرى: للإمام مالك بن أنس، 1424 هـ، دار عالم الكتب، الرياض. 241 - مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات: لأحمد القاضي، ط 1، 1416 هـ، دار العاصمة، الرياض. 242 - المذهب الحنبلي: تأليف د. عبد الله التركي، ط 1، 1423 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 243 - المُذْهَب في ضبط مسائل المذهَب: لمحمد القفصي، ت/ د. محمد أبو الأجفان، 1423 هـ، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي. 244 - المراسيل: لأبي داود سليمان السجستاني، ت/ شعيب الأرناؤوط، ط 2، 1418 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 245 - المراسيل: لعبد الرحمن بن أبي حاتم، ت/ شكر الله قوجاني، ط 2، 1418 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 246 - مسائل الإمام أحمد: رواية أبي داود السجستاني، ت/ طارق بن محمد، ط 1، 1420 هـ، مكتبة ابن تيمية.

247 - مسائل الإمام أحمد الفقهية: برواية الأثرم جمعًا ودراسة، قام بها عدد من الطالبات في قسم الفقه بكلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 248 - مسائل الإمام أحمد: برواية أحمد بن حميد المشكاني، قام بها عدد من الطلاب والطالبات في قسم الفقه بكلية الشريعة، جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية. 249 - مسائل الإمام أحمد: برواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، ت/ زهير الشاويش، ط 1، 1400 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 250 - مسائل الإمام أحمد: برواية إسحاق بن منصور الكوسج، ت/ عدد من أصحاب الرسائل العلمية المقدمة لقسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، ط 1، 1425 هـ، إصدار عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية. 251 - مسائل الإمام أحمد الفقهية: برواية حرب الكرماني، إعداد/ د. عبد الباري الثبيتي، قسم الفقه، كلية الشريعة، الجامعة الإسلامية. 252 - مسائل الإمام أحمد الفقهية: برواية حنبل بن إسحاق، جمعها/ د. يوسف أحمد، قسم الفقه، كلية الشريعة، الجامعة الإسلامية. 253 - مسائل الإمام أحمد: برواية صالح بن الإمام أحمد، أشرف عليها/ طارق عوض الله، ط 1، 1420 هـ، دار الوطن، الرياض. 254 - مسائل الإمام أحمد: برواية عبد الله بن الإمام أحمد، ت/ د. علي المهنا، ط 1، 1406 هـ، مكتبة الدار، بالمدينة النبوية. 255 - مسائل الإمام أحمد الفقهية في ربع العبادات: برواية عبد الملك الميموني، جمعها/ ماهر المعيقلي، قسم الفقه، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى.

256 - مسائل الإمام أحمد في العبادات الخمس عدا الحج: برواية المروذي، إعداد/ د. عبد الرحمن الطريقي، قسم الفقه، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى. 257 - مسائل الإمام أحمد الفقهية: برواية مهنا الشامي، جمع/ د. إسماعيل مرحبا، ط 1، 1426 هـ، مكتبة العلوم والحكم، بالمدينة النبوية. 258 - المسائل التي حلف عليها أحمد: لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى، ت/ محمود الحداد، ط 1، 1407 هـ، دار العاصمة، الرياض. 259 - المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين: للقاضي أبي يعلى، ت/ د. عبد الكريم اللاحم، ط 1، 1405 هـ، مكتبة المعارف. 260 - مساوئ الأخلاق ومذمومها: لأبي بكر محمد الخرائطي، ت/ مصطفى الشلبي، ط 1، 1412 هـ، السوادي للتوزيع، جدة. 261 - المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، ت/ مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، ط 2، 1422 هـ. 262 - المستدرك على مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع/ محمد بن قاسم، ط 1، 1418 هـ. 263 - المستوعب (العبادات): لمحمد السامري، ت/ مساعد الفالح، ط 1، 1413 هـ، مكتبة المعارف، الرياض. 264 - مسند أبي يعلى: لأبي يعلى أحمد الموصلي، ت/ حسين سليم أسد، ط 1، 1404 هـ، دار المأمون للتراث، دمشق. 265 - مسند الإمام أحمد: لإمام السنة أحمد بن حنبل، أشرف عليه د. عبد الله التركي، ط 1، 1429 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 266 - مسند الإمام الشافعي: للإمام محمد الشافعي، ت/ أيوب أبو خشريف،

ط 1، 1423 هـ، دار الثقافة العربية، بيروت. 267 - مسند الحميدي: لعبد الله بن الزبير الحميدي، ت/ حسين الداراني، ط 2، 1423 هـ، دار السقا للطباعة، دمشق. 268 - مسند الفاروق: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، ت/ د. عبد المعطي قلعجي، ط 1، 1411 هـ، دار الوفاء، مصر. 269 - المسودة في أصول الفقه: لآل تيمية: أبو البركات عبد السلام، وأبو المحاسن عبد الحليم، وأبو العباس أحمد، ت/ د. أحمد الذروي، ط 1، 1422 هـ، دار الفضيلة، الرياض. 270 - مصباح الزجاجة في شرح سنن ابن ماجه: شهاب الدين أحمد البوصيري، دار الجنان، بيروت. 271 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: لأحمد الفيومي، اعتنى به/ عادل مرشد. 272 - المصنف: لعبد الله بن أبي شيبة، ت/ محمد عوامة، ط 1، 1427 هـ، دار القبلة، جدة. 273 - المصنف: لعبد الرزاق الصنعاني، ت/ حبيب الأعظمي، ط 2، 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 274 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ د. سعد بن ناصر الشتري، ط 1، 1419 هـ، دار العاصمة، ودار الغيث، السعودية. 275 - المطلع على أبواب المقنع: لمحمد بن أبي الفتح البعلي، ت/ محمد بشير الإدلبي، 1401 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 276 - المطلع على ألفاظ المقنع: تأليف محمد البعلي، حققه محمود الأرنؤوط،

وياسين الخطيب، مكتبة السودي، ط 1، 1423 هـ. 277 - المعارف: لعبد الله بن قتيبة الدينوري، ط 2، 1424 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 278 - معالم التنزيل، المشهور بـ: (تفسير البغوي): للحسين البغوي، ت/ عبد الرزاق المهدي، ط 2، 1423 هـ، دار إحياء التراث، بيروت. 279 - معاني القرآن وإعرابه: لإبراهيم السري الزجاج، ت/ أحمد عبد الرحمن، ط 1، 1428 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 280 - معاني القرآن الكريم: لأبي جعفر النحاس، ت/ محمد الصابوني، ط 1، 1410 هـ، من مطبوعات جامعة أم القرى، مركز إحياء التراث الإسلامي. 281 - المعجم: لأبي سعيد أحمد بن الأعرابي، ت/ عبد المحسن الحسيني، دار ابن الجوزي، الدمام. 282 - المعجم الأوسط: لأبي القاسم سليمان الطبراني، ت/ طارق بن عوض الله، وعبد المحسن الحسيني، 1415 هـ، دار الحرمين، القاهرة. 283 - معجم البلدان: لياقوت الحموي، ط 2، 1995 م، دار صادر، بيروت. 284 - معجم مصنفات الحنابلة: للدكتور/ عبد الله الطريقي، ط 1، 1422 هـ. 285 - معرفة السنن والآثار: للبيهقي، ت/ د. عبد المعطي قلعجي، ط 1، 1411 هـ، دار الوفاء. 286 - معرفة الصحابة: لأبي نعيم أحمد الأصبهاني، ت/ عادل بن يوسف العزازي، ط 1، 1419 هـ، دار الوطن، الرياض. 287 - معرفة علوم الحديث: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، ت/ السيد معظم حسين، ط 2، 1397 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

288 - المعونة على مذهب عالم المدينة: للقاضي عبد الوهاب بن نصر، ت/ حميش عبد الحق، مكتبة الباز، ط 1، 1423 هـ. 289 - المعين في طبقات المحدثين: لمحمد بن أحمد الذهبي، ت/ همام سعيد، ط 1، 1404 هـ، دار الفرقان، الأردن. 290 - مغني المحتاج شرح المنهاج: لمحمد بن الخطيب الشربيني، اعتنى به/ محمد عيتاني، ط 2، 1425 هـ، دار المعرفة، بيروت. 291 - المغني شرح مختصر الخرقي: لموفق الدين عبد الله بن قدامة، ت/ د. عبد الله التركي، د. عبد الفتاح الحلو، ط 3، 1417 هـ، دار عالم الكتب، الرياض. 292 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: لمحمد السخاوي، ت/ محمد الخشت، ط 4، 1422 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 293 - مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: لعثمان الشهروزري، علق عليه/ صلاح بن عويضة، ط 1، 1416 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 294 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد: لإبراهيم بن مفلح، ت/ د. عبد الرحمن العثيمين، مكتبة الرشد، ط 1، 1410 هـ. 295 - المقنع: لموفق الدين عبد الله بن قدامة، ت/ د. عبد الله التركي، مطبوع مع الشرح الكبير والإنصاف، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية، 1419 هـ. 296 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت/ يحيى الثمالي، ط 1، 1428 هـ، دار عالم الفوائد، مكة. 297 - مناقب الإمام أحمد: لعبد الرحمن بن الجوزي، ت/ د. عبد الله التركي، ط 2، 1409 هـ، هجر للطباعة.

298 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ط 1، عام 1358 هـ، دار صادر، بيروت. 299 - المنتقى في الأحكام الشرعية من كلام خير البرية - صلى الله عليه وسلم -: لأبي البركات عبد السلام بن تيمية، ت/ طارق عوض الله، ط 1، 1429 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام. 300 - منتهى الإرادات في الجمع بين الإقناع والتنقيح وزيادات: لمحمد الفتوحي المعروف بابن النجار، ت/ د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ. 301 - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: لمحيي الدين يحيى النووي، ت/ خليل شيحا، ط 5، 1419 هـ، دار المعرفة، بيروت. 302 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد: لعبد الرحمن العليمي، أشرف على تحقيقه/ عبد القادر الأرناؤوط، ط 1، 1997 م، دار صادر، بيروت. 303 - المهذب في فقه الإمام الشافعي: لإبراهيم الشيرازي، ت/ عادل عبد الموجود، وعلي عوض، ط 1، 1424 هـ، دار المعرفة، بيروت. 304 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: لمحمد المغربي المعروف بالحطاب، ت/ زكريا عميرات، ط 1، 1416 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 305 - موسوعة القواعد الفقهية المقارنة (المسماة: التجريد): لأبي الحسين أحمد بن محمد بن جعفر البغدادي القدوري، دراسة وتحقيق/ د. محمد أحمد سراج، ود. علي جمعة محمد، دار السلام للطباعة والنشر، الرياض. 306 - الموطأ: للإمام مالك، ت/ محمد عبد الباقي، مكتبة المطبوعات الإسلامية بمكة المكرمة.

ن

307 - الموقظة: للذهبي، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر، ط 3، 1418 هـ. 308 - ميزان الاعتدال: لمحمد الذهبي، ت/ علي البجاوي، دار الفكر. - ن - 309 - ناسخ الحديث ومنسوخه: لعمر بن أحمد المعروف بابن شاهين، ت/ د. كريمة بنت علي، ط 1، 1420 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 310 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ عمرو عبد المنعم، ط 1، 1415 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 311 - نصب الراية تخريج أحاديث الهداية: للزيلعي، اعتنى به محمد عوامة، دار القبلة، ط 1، 1418 هـ. 312 - النكت على كتاب ابن الصلاح: لأحمد بن حجر العسقلاني، ت/ د. ربيع بن هادي المدخلي، ط 2، 1424 هـ، مكتبة الفرقان، الإمارات. 313 - النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر: لشمس الدين محمد بن مفلح، ت/ د. عبد الله التركي، ط 1، 1428 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 314 - النهاية في غريب الحديث والأثر: للمبارك بن محمد بن الأثير، أشرف عليه/ علي بن عبد الحميد، ط 1، 1421 هـ، دار ابن الجوزي. 315 - نهاية المطلب في دراية المذهب: لعبد الملك الجويني، ت/ د. عبد العظيم الديب، ط 1، 1428 هـ، دار المنهاج، جدة. 316 - نوادر الفقهاء: لمحمد التميمي الجوهري، ت/ د. عبد الله الطريقي، ط: 1430 هـ. 317 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: لمحمد الشوكاني، ت/ أنور الباز، ط 2، 1423 هـ، دار الوفاء، الرياض.

هـ

- هـ - 318 - الهداية: لعلي المرغيناني، اعتنى به طلال يوسف، ط 1، 1416 هـ، دار إحياء التراث. 319 - الهداية: لمحفوظ الكلوذاني، ت/ د. عبد اللطيف هميم، ود. ماهر الفحل، ط 1، 1425 هـ، غراس للنشر، الكويت. - و - 320 - الورع: لأبي بكر أحمد المروذي، ت/ سمير الزهيري، ط 2، 1421 هـ، مكتبة المعارف، الرياض. 321 - الوسيط في المذهب: لمحمد الغزالي، ت/ علي القرة داغي، ط 1، 1404 هـ، توزيع دار الإصلاح. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّعْلِيقُ الكَبِيرُ فِي المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الأَئِمَةِ [4]

دَارُ النَّوادِر المؤسس والمالك نُورُ الدِّين طَالِبُ مؤسسة ثقافية علمية تُعنى بالتراث العربي والإسلامي والدراسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة بالعلوم الشرعية واللغوية والإنسانية تأسست في دمشق سنة 1422 هـ - 2002 م، وأُشهرت سنة 1426 هـ - 2006 م. سوريا - دمشق - الحلبوني: ص. ب: 34306 00963112227001 00963112227011 00963933093783 00963933093784 00963933093785 Skype: dar.alnawader Twitter: daralnawader.com Facebook: daralnawader.com YouTube: daralnawader.com Instagram: daralnawader.com LinkedIn: daralnawader.com E-mail: [email protected] website: www.daralnawader.com جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة يُمنع طبع هذا الكتاب أو أي جزء منه بكافة طرق الطبع والتصوير والنقل والترجمة والتسجيل المرئي أو المسموع أو استخدامه حاسوبيًا بكافة أنواع الاستخدام وغير ذلك من الحقوق الفكرية والمادية إلا بإذن خطي من المؤسسة. الطَّبْعَةُ الأُولَى 1435 هـ - 2014 م شركات شقيقة دار النوادر اللبنانية - لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 4462 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) دار النوادر الكويتية - الكويت - ص. ب: 1008 - هاتف: 22453232 - فاكس: 22453323 (00965) دار النوادر التونسية - تونس - ص. ب: 106 (أربانة) - هاتف: 70725547 - فاكس: 70725547 (00216)

تابع [كتاب الصلاة] [جـ 4]

تَابِع [كِتابِ الصَّلَاةِ] 1 - مَسْألَة: صفة صلاة الخوف إذا كان العدو في غير جهة القبلة، ولم يكونوا مأمونين (¬1)، وكانت صلاتهم ركعتين، أن يفرق الناس طائفتين طائفة تقف خلفه، وطائفة بإزاء العدو، فيصلي بالطائفة التي خلفه ركعة ثم يقوم الإمام ويثبت قائمًا وتفارقه الطائفة، وتنوي الخروج من صلاته؛ لأنه لا يجوز للمأموم أن يسبق الإمام إلا بنية الخروج من صلاته ثم تتم الركعة الثانية، وتسلم وتنصرف إلى وجاه العدو، وتجيء الطائفة التي كانت بإزاء العدو فتحرم خلف الإمام، فيصلي الإمام بها الركعة الثانية، ويجلس الإمام في التشهد وتقوم فتقضي الركعة الثانية ثم يجلسون للتشهد، ويسلم بهم الإمام: ¬

_ (¬1) في الأصل: مأمومين، والتصويب من رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 225).

وقد [نص] (¬1) أحمد - رحمه الله - على هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬2)، وحرب (¬3)، وإبراهيم بن الحارث (¬4). وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - (¬5). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يصلي بالأولى منهما ركعة وسجدتين ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والمثبت يستقيم به الكلام. (¬2) في مسائله رقم (541). وإسحاق هو: ابن إبراهيم بن هانئ، أبو يعقوب النيسابوري، خدم الإمام أحمد وهو ابن تسع سنين، ونقل عنه مسائل كثيرة جدًا، توفي ببغداد سنة 275 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 284)، والمقصد الأرشد (1/ 241). (¬3) لم أقف عليها، وينظر: المغني (3/ 299)، ومختصر ابن تميم (2/ 376)، والإنصاف (5/ 120). وحرب هو: ابن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، قال الخلال: (رجل جليل القدر)، وقال الذهبي: (مسائل حرب من أنفس كتب الحنابلة)، توفي سنة 280 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 388)، وسير أعلام النبلاء (13/ 244). (¬4) لم أقف على روايته، وينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 225)، والمستوعب (2/ 413). وإبراهيم هو: ابن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت، من أهل طرسوس، قال الخلال: (كان من كبار أصحاب أبي عبد الله)، كان أحمد يعظمه. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 238)، والمقصد الأرشد (1/ 221). (¬5) ينظر: الأم (2/ 440)، والمهذب (1/ 343).

ثم تنصرف هذه الطائفة، وتأتي التي بإزاء العدو فتدخل مع الإمام، فيصلي بها ركعة وسجدتين ويتشهد وحده ويسلّم، ثم يقومون فينصرفون إلى مقامهم بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الأولى فتقضي ركعة وسجدتين بغير قراءة، وتشهد (¬1)، وتسلم، وتنصرف إلى وجاه العدو، وتأتي الطائفة الثانية فتقضي ركعة وسجدتين بقراءة وتشهد وتسلم (¬2). وروي عن مالك - رحمه الله - روايتان: إحداهما (¬3): مثل مذهبنا (¬4). والثانية - رواها ابن القاسم (¬5) -: إن الإمام يسلم ولا ينتظر الطائفة الثانية (¬6). وقال داود - رحمه الله - (¬7): جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جائز ليس ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وهي محتملة، وقد تكون: وتتشهد. (¬2) ينظر: الآثار (1/ 508)، ومختصر الطحاوي ص 38. (¬3) في الأصل: إحديهما. (¬4) ينظر: الإشراف (1/ 339)، والكافي ص 72. (¬5) هو: عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العُتَقي، أبو عبد الله المصري، قال ابن حجر: (الفقيه صاحب مالك، ثقة)، توفي سنة 191 هـ ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 120)، والتقريب ص 374 و 375. (¬6) ينظر: المدونة (1/ 161)، وعيون المسائل ص 155. (¬7) داود هو: ابن علي بن خلف، أبو سليمان الأصبهاني، البغدادي، قال الذهبي: (الإمام، البحر، الحافظ، العلامة، رئيس أهل الظاهر)، خالف في مسألة القرآن كلام الله، له مصنفات منها: كتاب الدعاوى، والرد على =

بعضه بأولى من بعض، وكذلك عنده صلاة العيدين، والخسوف، ونحو ذلك، مما اختلفت الأخبار فيه (¬1). دليلنا على أبي حنيفة - رحمه الله -: أن الأخبار اختلفت في كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال الخوف، فروى أبو بكر النجاد (¬2) بإسناده عن شعبة (¬3) عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد (¬4) عن أبيه (¬5) عن صالح بن خوات (¬6) عن سهل بن أبي خثمة أنه صلى على ¬

_ = أهل الإفك، وصفة أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع، وإبطال القياس، توفي سنة 270 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 97). (¬1) ينظر: المحلى (5/ 26)، ورؤوس المسائل للهاشمي (1/ 225). (¬2) هو: أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر النجاد، قال ابن أبي يعلى: (اتسعت رواياته، وانتشرت أحاديثه ومصنفاته)، له كتاب كبير في السنن، والفقه، توفي سنة 348 هـ. ينظر: الطبقات (3/ 15)، وسير أعلام النبلاء (15/ 502). (¬3) ابن الحجاج بن الورد العَتَكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي، قال ابن حجر: (ثقة، حافظ، متقن)، توفي سنة 160 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 202)، والتقريب ص 270. (¬4) ابن أبي بكر الصديق التيمي، أبو محمد المدني، قال ابن حجر: (ثقة جليل)، توفي 126 هـ. ينظر: التقريب ص 375. (¬5) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، قال ابن حجر: (ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة)، توفي سنة 106 هـ. ينظر: التقريب ص 502. (¬6) في الأصل: حواب. =

حسب ما ذهبنا إليه (¬1). قال أبو طالب (¬2): نا أحمد قال: نا محمد بن جعفر (¬3) قال: نا شعبة عن يحيى بن سعيد (¬4)، وعبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر عن صالح ابن خوات عن سهل بن أبي خثمة - رضي الله عنهم -، فأما عبد الرحمن فرفعه، وأما يحيى بن سعيد فذكره عن سهل، وحسبك بعبد الرحمن، وما كان في الأبناء مثل عبد الرحمن نفسه، فقد بيّن أحمد - رحمه الله - أنه صحيح متصل (¬5). ¬

_ = وصالح هو: ابن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري المدني، قال النسائي: (ثقة)، روى له الجماعة، لم أقف على تاريخ وفاته. ينظر: تهذيب الكمال (13/ 35)، والتقريب ص 276. (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، رقم (4131)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم (841). (¬2) هو: أحمد بن حميد المشكاني، له صحبة طويلة مع الإمام أحمد، روى عنه مسائل كثيرة، كان أحمد يعظمه، مات سنة 244 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 81)، والمقصد الأرشد (1/ 95). (¬3) محمد بن جعفر الهُذَلي، البصري، المعروف بـ (غندر)، قال ابن حجر: (ثقة صحيح الكتاب إلا أن فيه غفلة)، توفي سنة 193 هـ. ينظر: التقريب ص 528. (¬4) يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري، المدني، أبو سعيد القاضي، قال ابن حجر: (ثقة ثبت)، توفي سنة 144 هـ. ينظر: التقريب ص 661. (¬5) ينظر: مسند الإمام أحمد رقم (15710)، وصحيح البخاري في كتاب =

وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف نحو ما ذهب إليه أبو حنيفة (¬1)، فأولى الخبرين ما وافق الكتاب والأصول، وخبرنا موافق لهما، وخبرهم مخالف لها، فأما موافقته لظاهر القرآن: فهو أن الله تعالى قال: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]، والمراد بهذا سجود الطائفة الأولى في الركعة الثانية، بدليل: أنه أضافه إليهم، والصلاة التي يشترك فيها الإمام والمأموم تضاف إلى الإمام والمأموم، ولا تضاف إلى المأموم وحده؛ لأنه تبع ألا ترى أنه قال في أول الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} فأضاف ذلك إليه, ثم قال: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فأضاف ذلك إليهما, وهكذا جميع الآية, فلما أضاف السجود إلى الطائفة علم أنها تنفرد بذلك دون الإمام، وليس ذلك إلا السجود في الثانية، وقد أخبر أنها تأتي به وراء الإمام، وعند أبي حنيفة: أنها لا تأتي به وراءه، ولو كان المراد به: سجود الطائفة الثانية لم يضف ذلك إلى المأموم؛ لأنه تبع للإمام فيها، فكان يقول: فإذا سجدت بهم، فلما أضاف ذلك إليهم علم أن المراد به الطائفة الأولى في الركعة الثانية، وعند أبي حنيفة أن الطائفة الأولى لا تفعل الثانية خلف الإمام. ¬

_ = المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، رقم (4129 و 4131)، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم (842). (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، رقم (4133)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم (839).

ودلالة ثانية من الآية الكريمة: وهو قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وظاهره يقتضي أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام جميع صلاتها، وعندهم: تصلي مع الإمام النصف. ودلالة ثالثة من الآية: وهو أن الله تعالى لم يأمر واحدة من الطائفتين بالرجوع إلى موضع الصلاة لإتمام الصلاة، وعلى قولهم: إنها ترجع. وأما موافقته للأصول ومخالفة خبرهم لها فهو: أن العمل الكثير يبطل الصلاة في حال الاختيار (¬1)، وما يذهبون إليه فهو عمل كثير؛ لأن الطائفة إذا صلت انتظرت فراغ الإمام، وذلك انتظار كثير، ويحصل منها: استدبار القبلة، وسير الدابة، والنزول عنها، وربما احتاج إلى الضرب، والطعن، والتقدم، والتأخر، وربما نجس سلاحه بالدم، وهذه الأشياء تنافي الصلاة. فإن قيل: مثل هذا جائز في الصلاة في حال العذر، بدليل: أنه إذا سبقه الحدث ينصرف، ويتوضأ، ويعود، ويبني على صلاته (¬2). قيل له: عندنا صلاته تبطل (¬3)، ولأن ما ذهبنا إليه فيه تسوية بين الطائفتين من وجهين: أحدهما: أن الإمام يُحرم بالأولة، ويُسلِّم بالثانية، ¬

_ (¬1) في الأصل: اختيار، وينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 347). (¬2) ينظر: الحجة (1/ 60)، ومختصر الطحاوي ص 32. (¬3) ينظر: مسائل صالح رقم (684 و 1278)، ومسائل ابن هانئ (37 و 228 و 397)، ومسائل الكوسج رقم (89)، والانتصار (2/ 308).

فيحصل للأولة فضيلة الإحرام، وللثانية فضيلة التحلل، وعلى قولهم: يحرم بالأولة، ولا يسلم بالثانية. والثاني: أن الطائفة الأولى لما صلَّت مع الإمام حرستها الطائفة الثانية، وهي غير مصلية، فيجب أن تحرسها هذه الطائفة أيضًا، وهي غير مصلية؛ لتساويهما في كمال الحراسة في غير صلاة، وعلى قولهم: تحرسها في الصلاة، فلا تتمكن من كمال الحراسة. فإن قيل: الثانية حرست الأولى قبل أداء الفرض، وسقوطه عن ذمته، فيجب أن تحرس الأولى الثانية قبل أدائه، وسقوط الفرض عنه. قيل له: الثانية حرست في غير صلاة، فيجب أن تحرسها الأولى في غير الصلاة، وهذا الاعتبار أولى؛ لأن كونها في غير صلاة أمكن وأبلغ في حراسة، فيجب أن تساويها في ذلك. واحتج المخالف: بأن ما ذهبنا إليه موافق للكتاب، والسنة، والأصول. أما موافقته للكتاب فهو: أن الله تعالى قال: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} فأمر الطائفة التي معه بالانصراف عقيب السجدة الأولى، وأنتم تقولون بالسجدة (¬1) الثانية ثم تنصرف فعدلتم عن الظاهر. والجواب: أنا قد جعلنا هذا حجة لنا، وبيَّنَّا أن المراد بهذا السجود في الركعة الثانية من الطائفة الأولى من الوجه الذي ذكرنا. ¬

_ (¬1) في الأصل: بسجدة.

قالوا: وأما موافقته للسنة فهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬1)، ومخالفنا يزعم أن الطائفة الأولى تخرج عن صلاة الإمام في الركعة الثانية، ولا تأتم به، وقال - عليه السلام -: "لا تختلفوا على إمامكم" (¬2)، وأنتم تقولون: إن الإمام يقوم إلى الثانية ويثبت قائمًا إلى أن تتم الطائفة الأولى صلاتها، وهذا اختلاف عليه. والجواب: أنه لا إمام له في الركعة الثانية؛ لأنه ينوي الخروج من صلاة الإمام، وعندنا تجوز مفارقة الإمام للعذر، وهذا حال عذر. وقالوا: وأما موافقته للأصول فهو: أن المأموم في الأصول يفرغ من صلاته مع الإمام أو بعده، فأما أن يفرغ قبله فلا، وعندكم أنه يتم صلاته ويفرغ منها قبل الإمام. ولأنه ليس في الأصول أنه يشتغل المأموم بالصلاة والإمام قائم يصلي (¬3)، ولأنه قد ثبت أن سهو الإمام يلزم المأموم، ويجوز أن يسهو الإمام بعد فراغ الطائفة الأولى من الصلاة، فلا يلزمهم حكم سهوه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة رقم (722)، ومسلم كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام رقم (414). (¬2) لعله مروي بالمعنى كما أشار إليه ابن حجر في التلخيص (2/ 942 و 946)، وقال ابن الملقن في البدر المنير (4/ 482): (لا يحضرني من خرجه بهذا اللفظ)، ويدل عليه حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه". (¬3) في الأصل: قائم لا يصلي، والصواب المثبت كما سيأتي في مناقشة المؤلف لهذا الدليل.

فصل

ولأن الإمام لا ينتظر المأموم، وإنما المأموم ينتظر الإمام. والجواب عن قولهم: إنه يفرغ من صلاته قبل إمامه، فإنه يجوز لأجل العذر، ألا ترى أن المسبوق في الصلاة إذا استخلفه الإمام فيها أن المأمومين يخرجون قبله ويقوم، هو ويتم باقي صلاته. وقولهم: ليس في الأصول أن المأموم يشتغل بالصلاة، والإمام قائم يصلي، فلا يصح؛ لأنه لا إمام له في الركعة الثانية لما بينا أنه ينوي مفارقته، وهكذا الجواب عن قولهم: إن سهو الإمام يلزم المأموم، وفي هذا الموضع لا يلزمه، ولأنه قد فارقه في الركعة الثانية، فلهذا لم يلزمه. وقولهم: إن الإمام لا ينتظر بل ينتظر فغير صحيح؛ لأنه يجوز للإمام أن ينتظر المأموم على أصلنا إذا أحس بداخل معه وهو راكع حتى يدرك مع الركوع. * فصل: والدلالة على مالك وأنه يسلم بالطائفة الثانية: أنه مذكور في حديث سهل بن أبي حثمة (¬1) - رضي الله عنه - فيما رواه أبو بكر النجاد، فوجب المصير إليه. ولأن فيه تسوية بين الطائفتين؛ لأنه يحرم بالأولة، فيحصل لها فضيلة التحريم، فيجب أن يسلم بالثانية؛ ليحصل لهم فضيلة التحليل. واحتج المخالف: بانتظاره إياهم زيادة عما في الصلاة غير محتاج ¬

_ (¬1) في الأصل: سلمة بن حثمة، والصواب المثبت؛ لأنه هو راوي الحديث في صلاة الخوف.

فصل

إليه في صلاة الخوف، ويفارق قيامه بين الركعتين لانتظار الطائفة الأخرى؛ لأن ذلك يحتاج إليه. والجواب: أنه حاجة، وهو التسوية بين الطائفتين. واحتج: بأنه لا فصل بين سلام قبلهم وبين انتظاره إياهم في باب الضرورة. والجواب: أنه إن لم يكن بينهما فرق في باب الضرورة، ففيه معنى آخر: وهو التسوية. واحتج: بأن من خلفه لا يقفون على وقت فراغه من تشهده، ليقوموا لقضاء ما عليهم إلا بأن يشير بيده، أو يلتفت، أو يفعل ما يشعرهم به أنه قد فرغ، وذلك مكروه، فكان التسليم أولى. والجواب: أنه لا يحتاج إلى الإشارة من جهته إليهم؛ لأنه يتشاغل بالتشهد في حال تشاغلهم بقضاء الركعة فإذا عرف منهم الفراغ من طريق العرف سلّم بهم. * فصل: والدلالة على داود وأن ما ذهبنا إليه أولى من غيره من الأخبار: ما تقدم من الترجيح، وفي ذلك إبطال لقوله: إنها سواء في باب الاستحباب والفضيلة. * فصل: إذا قام إلى الثانية فإنه يتشاغل بقراءة الفاتحة وسورة طويلة بقدر

ما تتم الأولى وتدركه الثانية. وللشافعي - رضي الله عنه - قولان نقل المزني (¬1) عنه: أن الإمام لا يقرأ في هذه الركعة بأم القرآن إلا بعد إتيان الطائفة (¬2). وقال في الأم (¬3)، والإملاء (¬4)، والبويطي (¬5): يقرأ قبل أن تأتي بفاتحة الكتاب وسورة طويلة حتى تجيء الطائفة ثم يقرأ بعد مجيئها بقدر أم القرآن؛ ليقرؤوا (¬6) خلفه بأم القرآن (¬7). ¬

_ (¬1) أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني، المصري، قال عنه الذهبي: (الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، ... امتلأت البلاد بـ "مختصره" في الفقه، وشرحه عدة من الكبار، بحيث يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة من "مختصر" المزني)، من مصنفاته: المختصر، والمنثور، وغيرها، توفي سنة 264 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 292). (¬2) في مختصره ص 45. (¬3) (2/ 440). (¬4) الإملاء: (من كتب الشافعي الجديدة بلا خلاف) قاله النووي في تهذيب الأسماء (3/ 320). (¬5) أبو يعقوب، يوسف بن يحيى القرشي مولاهم، صاحب الشافعي، قال ابن حجر عنه: (ثقة، فقيه من أهل السنة)، توفي سنة 231 هـ. ينظر: التقريب ص 685. (¬6) في الأصل: ليقروا. (¬7) ينظر: المهذب (1/ 344)، والمجموع (4/ 207).

فصل

دليلنا: أنه لا يخلو إما أن يسكت، أو يسبح، أو يقرأ بغير فاتحة الكتاب، ولا يجوز أن يسكت؛ لأنه ليس في الصلاة حال [السكوت] (¬1)، ولا يجوز أن يدعو؛ لأن هذا ليس بموطن الدعاء، ولا يجوز أن يقرأ بغير فاتحة الكتاب؛ لأن هذا محل للفاتحة، فلم يبق إلا أن يقرأ بفاتحة الكتاب. ولأنهم قد قالوا: إنه إذا جلس لانتظار الطائفة الثانية أنه يتشهد قبل جلوسهم معه، كذلك يجب أن يقرأ قبل دخولهم معه. فإن قيل: الفرق بينهما أن الطائفة الأولى لم يحصل لها التشهد من صلاة الإمام، فلم يحتج إلى تحصيله للثانية، وليس كذلك في القراءة؛ لأنه قد حصل لها ذلك من صلاة الإمام فاحتاج إلى تحصيله للثانية. قيل له: قد حصل لها ذلك من صلاة الإمام إذا أدركت محله، وهو القيام، ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع، فإنه يحصل من صلاته القراءة؛ لأنه أدرك محله كذلك ها هنا. * فصل: إذا صلى صلاة الخوف على نحو ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - وذهب إليه أبو حنيفة - رحمه الله - فإن الصلاة صحيحة، نص عليه أحمد - رحمه ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وهي إضافة يقتضيها السياق، وينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 347).

الله - في مواضع فقال في رواية صالح (¬1)، وأبي طالب: أذهب إليها كلها صحاح، ولكني اختار هذا الحديث، هو أنكى للعدو (¬2)، يعني: حديث صالح بن خوات. وحكى الطبري (¬3) أن مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه إن صلى على نحو ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -، وذهب إليه أبو حنيفة، لم تصح صلاته (¬4). دليلنا: أن الأخبار متعارضة في ذلك على وجه لا يمكن تأويله، فيجب أن تصح صلاتهم، ويكون ترجيح بعضها على بعض، تفيد (¬5) ¬

_ (¬1) لم أجدها في مسائله المطبوعة، وقد روى نحوها الأثرم، والكوسج. ينظر: مسائل الكوسج رقم (362)، والمغني (3/ 311)، والمبدع (2/ 126)، والإنصاف (5/ 117). وصالح هو: أبو الفضل ابن الإمام أحمد بن حنبل، ولي القضاء بطرسوس ثم بأصبهان، له مسائل عن والده توفي سنة 266 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 462)، والمقصد الأرشد (1/ 444). (¬2) في الأصل: الكافي العدو، والصواب المثبت. ينظر: شرح الزركشي (2/ 242)، والمبدع (2/ 128). (¬3) هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري الشافعي، قال الذهبي عنه: (الإمام، العلامة، شيخ الإسلام)، له كتب كثيرة منها: شرح على مختصر المزني، توفي سنة 450 هـ. ينظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 528)، وسير أعلام النبلاء (17/ 668). (¬4) ينظر: الأم (2/ 450)، والحاوي (2/ 463)، والبيان (2/ 519). (¬5) في الأصل: تعيد، والمثبت هو الصواب.

2 - مسألة: لا يجوز تأخير الصلاة في حال المسايفة عن الوقت

الأولى والمستحب، كما قلنا في اختلاف الأخبار في التكبير في صلاة العيدين. فإن قيل: يكون الترجيح في أحدهما يدل على نسخ الآخر. قيل له: النسخ يحتاج إلى تاريخ أو لفظ يدل على تاريخ النسخ عن المنسوخ، وهذا لا يحصل بالترجيح. فإن قيل: تلك الصلاة تشمل على أفعال كثيرة متطاولة، فيجب أن تفسد. قيل: إذا كان ذلك لعذر يجب أن يعفى عنه، كما عفي عن ترك القبلة في حال شدة الخوف، والله تعالى أعلم. آخر الجزء التاسع عشر من أجزاء المصنف رحمة الله عليه وعلينا وعلى جميع المسلمين. * * * 2 - مَسْألَة: لا يجوز تأخير الصلاة في حال المسايفة (¬1) عن الوقت: نص عليه في رواية صالح (¬2)، .............................. ¬

_ (¬1) المسايفة هي: المجالدة، واستافّ القوم، وتسايفوا: تضاربوا بالسيوف. ينظر: لسان العرب (سيف). (¬2) في مسائله رقم (936)، وقد روى نحوها عبد الله في مسائله رقم (628)، =

وابن منصور (¬1)، والعباس بن محمد بن موسى (¬2): في المصلي في المطاردة يستقبل القبلة، وإذا لم يستطع الركوع والسجود أومأ إيماءً، ويجعل السجود أخفض، فإن لم يقدر - يعني التوجه إلى القبلة - أجزأه. وبهذا قال الشافعي - رحمه الله - (¬3). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا تجزئ الصلاة في هذه الحال، ويؤخر حتى يمكنهم أن يصلوا من غير مسايفة (¬4). ¬

_ = وابن هانئ في مسائله رقم (540 و 542 و 543)، وأبو طالب. ينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 348)، والمغني (3/ 316)، والإنصاف (5/ 146)، وبدائع الفوائد (3/ 957). (¬1) في مسائله (378). وابن منصور هو: أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي، المعروف: بالكوسج، صحب الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، له مسائل الفقه عن الإمام أحمد، والحافظ ابن راهويه، وله كتاب الصلاة، توفي سنة 251 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 303)، والمقصد الأرشد (1/ 253). (¬2) الخلال، البغدادي، قال أبو بكر الخلال: (كان من أصحاب أبي عبد الله الأوّلين)، له مسائل عن الإمام أحمد - رحمهما الله -. ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 163)، والمقصد الأرشد (2/ 279). (¬3) ينظر: الأم (2/ 465)، والحاوي (2/ 470). وإلى هذا ذهبت المالكية. ينظر: المدونة (1/ 162)، والكافي ص 73. (¬4) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 365)، والهداية (1/ 88).

دليلنا: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] إلى قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} فمنها دليلان: أحدهما: الأمر بالمحافظة، وذلك يمنع من تركها. والثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، وهذا عام في حال المسايفة، وغيرها، فهو على العموم. وأيضًا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن نافع (¬1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول في صلاة الخوف: إن كان أكثر من هذا فليصلوا على أقدامهم أو ركبانًا على ظهور الدواب (¬2). وروى أيضًا عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يحدثهم هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). والقياس: أنه طاهر مكلف، فلم يجز له تأخير الصلاة عن وقتها مع قدرته على أدائها في الوقت، كما لو لم يكن في حال المسايفة. وقولنا: (طاهر) يحترز به من الحائض والنفساء. ¬

_ (¬1) أبو عبد الله المدني، مولى ابن عمر، قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، فقيه، مشهور)، روايته في الكتب الستة، توفي سنة 117 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (4/ 210)، والتقريب ص 625. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم (839). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الخوف رجالًا وركبانًا، رقم (943)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم (839).

وقولنا: (مكلف) يحترز به من المجنون. وقولنا: (مع قدرته على أدائها في الوقت) يحترز به إذا هدّده إنسان بالقتل، ومنعه عن الصلاة، جاز له تأخيرها؛ لأنه غير قادر. فإن قيل: المعنى في الأصل أنه يمكنه أداء الصلاة في غير حال المسايفة على حالة لا تنافيها ولا تضادها، وفي حال المسايفة والمطاعنة لا يمكنه أداؤها إلا مع أفعال تنافي الصلاة، وتضادها، ويوجب إعادتها، فلهذا لم يجز فعلها. قيل له: قد أطلق أحمد - رحمه الله - القول في الصلاة في حال المطاردة أنها تجزؤه، ولا يمتنع ذلك؛ لأنه لما عُفي عن ترك القبلة في هذه الحال جاز أن يعفى عن كثرة العمل فيها، وعلى أنه لا يمتنع أن يلزمه الفعل، وإن لم يعتد به كالمضي في الحج الفاسد، والدخول مع الإمام في حال السجود؛ ولأنه نوع عذر يجوز ترك القيام فيه في الصلاة المفروضة، فوجب أن يكون من جنسه ما يجوز ترك الركوع والسجود فيه كالمرض. واحتج المخالف: بما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته أربع صلوات يوم الخندق، فلما كان هوي من الليل (¬1) قام فقضاهن، وقال: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى" (¬2)، فلو جازت ¬

_ (¬1) أي هزيع منه، وساعة منه. ينظر: لسان العرب (هوا). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، رقم (4111)، =

الصلاة في حال القتال لما أخَّر الصلوات عن أوقاتها. والجواب: أن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف، يدل عليه ما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه ذكر هذا الحديث ثم قال: ذلك قبل أن ينزل [في] (¬1) صلاة الخوف، قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] (¬2)، فإذا كان كذلك لم يصح الاحتجاج به. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع (¬3)، وهي قبل الخندق. قيل: صلاة ذات الرقاع ليس بصلاة شدة الخوف، وهي التي ذكرها ¬

_ = وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، رقم (6396)، ومسلم في كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، رقم (627)، من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬1) ساقطة من الأصل، ومستدركة من مسند الإمام أحمد رقم الحديث (11644). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (11644)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ، رقم (6005)، ووصف ابن عبد البر هذا: (بالحديث الثابت)، قال البيهقي: (رواة هذا الحديث كلهم ثقات). ينظر: الاستذكار (7/ 82)، والبدر المنير (3/ 318). (¬3) سميت بذلك: لأنهم شدُّوا الخِرق على أرجلهم من شدة الحر؛ لفقد النعال. ينظر: المصباح المنير (ر ق ع).

في سورة النساء {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] , والخلاف في هذه المسألة في صلاة شدة الخوف، وهي لم تكن نزلت، ولهذا قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. واحتج: بأن كل معنى لا تصح الصلاة معه في غير حال الخوف بحال لا تصح معه في حال الخوف، أصله: الزعقات لإذهاب العدو، وإنشاد الأشعار، ونحو ذلك. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار حال الضرورة بغيرها، ألا ترى أنه يجوز لهم أن يصلوا الفريضة ركبانًا إلى غير قبلة، ولا يجوز لهم أن يصلوا هكذا في غير حال الضرورة، وعلى أن المعنى في الأصل أنه لا ضرورة بهم إلى الزعقات، ويمكنهم أن يصلوا من غير أن يزعقوا فيها، والحرب مع السكوت أولى وأهيب، ولهذا قال يوم فتح مكة (¬1): وأتبعتنا بالسيوف المسلمة ... ضربًا فما تسمع إلا همهمة تقد كل ساعد وجمجمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة * * * ¬

_ (¬1) القائل: حِمَاس بن قيس بن خالد، أخو بني بكر، ينظر: مغازي الواقدي (2/ 260)، ومعجم البلدان (2/ 393)، والإصابة (2/ 614).

3 - مسألة: يجوز لهم أن يصلوا في حال الخوف ركبانا جماعة

3 - مَسْألَة: يجوز لهم أن يصلوا في حال الخوف ركبانًا جماعة: نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد (¬1) فقال: لا بأس أن يصلي الإمام بأصحابه جماعة في خوف عدو, أو سبع، أو رداع (¬2)، على ظهر الدواب (¬3). وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - (¬4). وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ليس لهم ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) وإسماعيل: هو أبو إسحاق بن سعيد الشالنجي، قال أبو بكر الخلال: عنده مسائل كثيرة، ما أحسب أن أحدًا من أصحاب أبي عبد الله روى عنه أحسن مما روى هذا، توفي سنة 230 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 273)، والمقصد الأرشد (1/ 261). (¬2) الردع الكف عن الشيء، والرداع يطلق على معان منها: الوجع في الجسد أجمع، ومنها: الرجل الذي يضرب به في الأرض، يقال: أخذ فلانًا فردع به الأرض إذا ضرب به الأرض. ينظر: لسان العرب (ردع). (¬3) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 227)، ورؤوس المسائل للعكبري (1/ 349)، والمغني (3/ 319)، ومختصر ابن تميم (2/ 387). (¬4) ينظر: الأم (2/ 463)، والحاوي (2/ 470). وينظر للمالكية: المدونة (1/ 162)، والإشراف (1/ 341). (¬5) ينظر: المبسوط (2/ 75)، والهداية (1/ 88).

دليلنا: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، ولم يفرق بين أن يصلوها جماعة أو فرادى فهو على عمومه. فإن قيل: يحمل هذا على الانفراد، وصلاة النافلة. قيل له: هذا يحتاج إلى دليل. وأيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة" (¬1)، ولم يفرق. والقياس: أن كل حال جاز فعل الصلاة الفريضة فيها وحدانًا، جاز فعلها في جماعة. دليله: إذا كانوا على وجه الأرض، ولأن الخوف يغير هيئة الصلاة فلم [يمتنع] (¬2) فعلها جماعة كالمرض. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]، والركوب يمنع القيام. والجواب: أن هذا في صلاة الخوف دون صلاة شدة الخوف. واحتج: بأنه يحصل بينهم وبين الإمام طريق، والطريق يمنع صحة الإقتداء ألا ترى أنهم لو كانوا على الأرض وبينهم وبين الإمام طريق لم يجز أن يقتدوا به، وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية محمد بن يحيى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة رقم (646 و 4440)، ومسلم كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة رقم (649). (¬2) بياض في الأصل، ويستقيم بالمثبت.

4 - مسألة: أخذ السلاح في صلاة الخوف غير واجب

المتطبب (¬1) وقد سأله: يكون إمام سفينتين واحد؟ قال: لا (¬2). فقد منع من ذلك؛ لأجل الطريق، كذلك ها هنا. والجواب: أنهم لو صلوا خلفه على ظهور دوابهم، والصفوف متصلة لم تصح صلاتهم عندهم، فلا معنى لقولهم: إنه يحصل بينهم طريق، وعلى أنه لا يمتنع أن تصح صلاتهم، وإن كان بينهم طريق كما تصح صلاتهم مع ترك المتابعة للإمام واستدبار القبلة وإن كان هذا غير جائز في غيرها من الصلوات، والله أعلم. * * * 4 - مَسْألَة: أخذ السلاح في صلاة الخوف غير واجب (¬3): أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية إبراهيم (¬4) فقال: لا بأس أن ¬

_ (¬1) هو: محمد بن يحيى الكحّال، أبو جعفر البغدادي، المتطبب، قال الخلال: (عنده عن أبي عبد الله مسائل كثيرة ... وكان من كبار أصحاب أبي عبد الله). ينظر: الطبقات (2/ 384)، والمقصد الأرشد (2/ 536). (¬2) ينظر: الإنصاف (4/ 449). (¬3) ينظر: المستوعب (2/ 416)، والمغني (3/ 311). (¬4) هو: ابن هانئ مضت ترجمته، ولم أجد هذه الرواية في مسائله المطبوعة، وذكرها ابن مفلح في الفروع (3/ 129)، وابن اللحام في القواعد (2/ 592)، والمرداوي في الإنصاف (5/ 143).

يصلي الرجل في الجعبة فيها النشاب (¬1) عليه ريش إذا لم يكن ميتة. وظاهر هذا أنه أجاز ذلك ولم يره واجبًا، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬2). وقال الشافعي - رضي الله عنه -: واجب للمصلي أن يأخذ سلاحه في الصلاة، وتركه لا يفسد الصلاة (¬3). وقال المروذي (¬4) في كتابه صلاة الخوف: ويجب حمل السلاح (¬5). فالمسألة عندهم على قولين. [دليلنا] (¬6): أنَّ حمله في غير صلاة الخوف محظور، فلما أمر به في صلاة الخوف كان أمرًا بعد الحظر، والأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. ¬

_ (¬1) هو: النبل. ينظر: لسان العرب (نشب). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 154)، وحاشية ابن عابدين (5/ 177). (¬3) هذا قوله في القديم، أما الجديد فيستحب. ينظر: الأم (2/ 456)، والحاوي (2/ 467)، والبيان (2/ 524)، ولم أقف على قول المالكية. (¬4) المروذي هو: أبو بكر أحمد بن محمد بن صالح بن الحجاج، الحافظ، القدوة، المقدم من أصحاب أحمد، روى مسائل كثيرة، ولزمه حتى مات، له: الورع، والمحنة، والعلل، توفي سنة 275 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 137)، والمقصد الأرشد (1/ 156). (¬5) ينظر: المغني (3/ 311)، والفروع (3/ 129)، والإنصاف (5/ 143). (¬6) ليست في الأصل، وبها يستقيم الكلام.

ولأن الطائفة التي تصلي ليست في حراسة المسلمين، فلم يجب عليها حمل السلاح. ولأن هذه صلاة من الصلوات، فلا يجب أخذ السلاح فيها دليله: سائر الصلوات. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، وهذا الأمر، والأمر على الوجوب. والجواب: أن المراد به النادبية لقوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ}، فأمر به حفظًا لماله، وله أن يحفظ ماله، وله أن يسلط غيره عليه. وجواب [آخر] (¬1): وهو أنه أمر بعد حظر، وذلك يقتضي الإباحة. واحتج: بأن الله تعالى قال: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}، فرفع الجناح عنهم بتركه حال العذر، ثبت أن الجناح بوضعه في غير حال العذر غير مرفوع. والجواب: أنه رفع الكراهة عنهم في حال العذر؛ لأنه مكروه في غير العذر. واحتج: بأنهم لا يأمنون بهم، فأوجبنا حمل السلاح. والجواب: أنهم يأمنون؛ لأن الطائفة الأخرى تحرسهم، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وبها يستقيم الكلام على عادة المؤلف.

5 - مسألة: إذا رأوا سوادا فظنوهم عدوا فصلوا صلاة الخوف، ثم بان لهم خلاف ما ظنوا، لم تجزئهم صلاتهم، ويعيدون

5 - مَسْألَة: إذا رأوا سوادًا فظنوهم عدوًا فصلوا صلاة الخوف، ثم بان لهم خلاف ما ظنوا، لم تجزئهم صلاتهم، ويعيدون (¬1): ذكره أبو بكر (¬2) في كتاب الخلاف، وهو قياس المذهب على المتيمم إذا عدم الماء فطلبه في رحله ثم نسيه، وبان أنه معه أنه يعيد. وبهذا قال أبو حنيفة - رحمه الله - (¬3). وللشافعي - رضي الله عنه - قولان (¬4): أحدهما: مثل هذا. ¬

_ (¬1) ينظر: رؤوس المسائل للهاشمي (1/ 228)، والمغني (3/ 319)، ومختصر ابن تميم (2/ 389). (¬2) هو: عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد، المعروف (بغلام الخلال)، صحب أبا بكر الخلال ولازمه حتى قيل عنه: غلام الخلال، متسع الرواية من أعمدت المذهب، يصح أن يطلق عليه: ابن حنبل الصغير، له مصنفات كثيرة منها: الشافي، والتنبيه، والخلاف مع الشافعي، توفي سنة 363 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة (3/ 213)، والمقصد الأرشد (2/ 126). فائدة: إذا أُطلِق أبو بكر في كتب الحنابلة فالمراد به (غلام الخلال). ينظر: الإنصاف (15/ 280). (¬3) ينظر: المبسوط (2/ 76)، وبدائع الصنائع (2/ 155). وهو ظاهر المذهب عند المالكية. ينظر: المدونة (1/ 162)، والكافي ص 73. (¬4) ينظر: الأم (2/ 472)، والحاوي (2/ 472)، والمهذب (1/ 349).

وقال في الإملاء: لا يعيدون. دليلنا: أن الله تعالى أباح صلاة الخوف بشرط العدو، فلا تجزئهم كما لو علموا أنه ليس هناك عدو. ولأن السبب الموجب للخوف هو العدو، والعدو غير موجود، فالسبب غير موجود، وإذا لم يوجد السبب صار كأنه صلى بإيماء من غير سبب أوجب ذلك، فلا تجزؤه، وليس هذا مثل أن يخاف السبع بانقطاعه عن القافلة أن له أن يصلي على الراحلة بإيماء؛ لأن الانقطاع عن القافلة هو السبب الذي يوجب خوف الضرر من السبع، وهو يحصل بانشغاله بالصلاة، وأما في مسألتنا فليس السبب الموجب لخوف العدو الاشتغال بالصلاة، وإنما السبب خوف (¬1) العدو، والعدو غير موجود. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238، 239]، فأباح ذلك عند الخوف، وذلك موجود. والجواب: أن معناه فإن خفتم العدو في الحقيقة، بدليل: ما قدمنا. واحتج: بأنهم صلوا لعلة موجودة، وهو الخوف، فيجب أن تصح صلاتهم قياسًا عليه إذا كان هناك عدو حقيقة، قالوا: والذي يدل على أن العلة الخوف أن العدو لو حضروا ولم يخافوا منهم (¬2) لم يجز لهم ¬

_ (¬1) في الأصل: كوف. (¬2) في الأصل: مهم، والصواب المثبت.

6 - مسألة

أن يصلوا هذه الصلاة، وإذا خافوا جاز لهم، فدل على أن العلة هي الخوف، وقد وجد، كذلك من خاف إن نزل عن راحلته للصلاة الفريضة أن ينقطع عن الرفقة ويفترسه سبع جاز له أن يصلي الفريضة على الراحلة ولا يعيد. والجواب: أنا لا نسلم أن العلة الخوف فقط، وإنما العلة الخوف من العدو، وليس ها هنا عدو. وقولهم: إنه لو حضر العدو ولم يخافوا منه لم يجز لهم أن يصلوا صلاة خوف، فإنما كان كذلك لعدم العلة، وهو الخوف منه؛ لأنا لسنا نقول: العلة وجود العدو فقط، وإنما العلة الخوف منه، وهناك لم يوجد الخوف، وأما إذا خاف انقطاعه من الرفقة، ومن السبع، فقد أجبنا عنه، وبينا أن الانقطاع عن القافلة هو السبب الذي يوجب خوف الضرر من السبع، وهو يحصل باشتغاله من الصلاة، والعلة ها هنا كونه خائفًا من العدو، والعدو غير موجود. واحتج: بأنهم لو رأوا العدو فصلوا صلاة شدة الخوف خوفًا منهم، وعرفوا بعد ذلك أن العدو لم يكن على طلبهم، ولا قتالهم بل كان على مبادلة القتال، فلا إعادة، كذلك ها هنا. والجواب: أنا إن سلمناه، فذلك خوف من عدو، والله أعلم. * * * 6 - مَسْألَة إذا صلى صلاة الخوف بأربع طوائف، فصلى بكل واحدة

ركعة، لم تصح صلاتهم (¬1): ذكره شيخنا (¬2). وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - (¬3). وللشافعي - رضي الله عنه - قولان (¬4): أحدهما: مثل هذا. والثاني: أن صلاتهم جائزة. دليلنا: أن صلاة الخوف إنما جازت على الصفة المذكورة لأجل الخوف من العدو، فإذا أفرد إحدى الطائفتين حصل بها حراسة الباقين، فلا معنى لاعتبار طائفة ثالثة كما لا معنى لاعتبار طائفة خامسة. ¬

_ (¬1) ينظر: رؤوس المسائل للعكبري (1/ 349)، والمغني (3/ 308)، والإنصاف (5/ 133). (¬2) المراد به: الحسن بن حامد - رحمه الله -، وقد مضت ترجمته في مبحث شيوخ أبي يعلى. وقول ابن حامد - رحمه الله - هو: أن صلاة الإمام تبطل، وكذا صلاة الطائفتين الثالثة والرابعة إن علمتا ببطلان صلاته، دون الطائفتين الأولى والثانية فصلاتهم صحيحة. ينظر: الهداية ص 106، والمغني (3/ 309)، ومختصر ابن تميم (2/ 379). (¬3) ينظر: المبسوط (2/ 73)، وبدائع الصنائع (2/ 153). والقول بفساد الصلاة هو ظاهر المذهب عند المالكية. ينظر: مواهب الجليل (2/ 567). (¬4) ينظر: الأم (2/ 443)، والحاوي (2/ 466)، والمهذب (1/ 346).

7 - مسألة: صلاة العيد واجبة على الكفاية؛ إذا قام بها قوم سقط عن الباقين، كالجهاد، والصلاة على الجنازة

ولأنه لو جاز قسمة الركعات على الطوائف، لجاز قسمة الأركان؛ لأن كل واحد لا ينفرد بنفسه، فلما لم يجز ذلك على الأركان، كذلك لا يجوز على الركعات. واحتج المخالف: بأنه ليس في ذلك أكثر من انتظار الإمام للمأمومين وذلك لا يمنع صحة الصلاة، كما قلنا فيه إذا قسمهم قسمين. والجواب: أن صلاة الإمام لا تفسد، إنما تفسد صلاة المأمومين؛ لأجل انصرافهم في غير وقت الانصراف مع عدم الحاجة إلى ذلك، وليس كذلك إذا جعلهم طائفتين؛ لأن بالطائفة الأولى حاجة إلى الانصراف وهو الحراسة، وهذا معدوم ها هنا، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 7 - مَسْألَة: صلاة العيد واجبة على الكفاية؛ إذا قام بها قوم سقط عن الباقين، كالجهاد، والصلاة على الجنازة: نص عليه في رواية المروذي وجعفر بن محمد، وقد سئل عن العيد أواجب هو؟ قال: نعم ينبغي أن يخرجوا، فإن خرج بعضهم فقد أجزأ عنهم. وهو اختيار أبي إسحاق. وقال أبو حنيفة رحمه الله: هو واجب على الأعيان. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: هو سنة وليس بواجب. دليلنا: أنها من الأعلام الظاهرة على الإسلام، فوجب أن تكون

واجبة، كالجهاد، والجمعة، ولأنها صلاة يتوالى فيها التكبير حال القيام أشبه صلاة الجنازة، وقد قيل: صلاة شرع لها الخطبة فكانت واجبة. دليله: صلاة الجمعة، ولا يلزم عليه صلاة الاستسقاء، فإن في الخطبة روايتين، إحداهما: لا خطبة لها، رواها المروذي، وكذلك الكسوف. فإن قيل: كون الخطبة لها لا يدل على وجوبها، بدلالة سائر الصلوات هي واجبة وإن لم يكن لها خطبة. قيل له: إن لم يدل على الوجوب في سائر الصلوات، فقد دلت على الوجوب في الجمعة. واحتج المخالف بما روى طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإسلام، فقال: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده" فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" فدل على أن ما عدا الصلوات الخمس تطوع. والجواب: أنا نحمل هذا على أنه ليس عليه من فرائض الأعيان، بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأنها صلاة لم يشرع لها أذان ولا إقامة فلم تكن واجبة، كالنوافل. والجواب: أنه يبطل بصلاة الجنازة، وبالصلاة الثانية من صلاتي الجمع.

فصل

* فصل: والدلالة على أنها ليست بواجبة على الأعيان ما احتج به أبو إسحاق من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فدل على أنها خمسة لا أكثر؛ إذ ستة وسطها صلاتان لا واحدة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" وذكر الحديث، وقال الرجل: يا رسول الله ما فرض الله علي في اليوم والليلة؟ قال: "خمس صلوات" قال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا، إلَّا أن تطوع"، ولأنها صلاة يتوالى فيها التكبير حال القيام فلم تكن واجبة على الأعيان كصلاة الجنازة. أو نقول: صلاة لم يسن لها الأذان والإقامة في الأصل فلم تكن واجبة على الأعيان. دليلنا: ما ذكرنا، ولا يلزم عليه الصلاة الثانية في الجمع؛ لأنها في الأصل سن لها الأذان. واحتج المخالف: بأنها صلاة سن لها الاجتماع والخطبة، فكانت واجبة على الأعيان كالجمعة. والجواب: أن الجمعة شرع لها الأذان والإقامة في الأصل، وهذه لم يشرع لها فهي كصلاة الجنازة، والله أعلم. * * * 8 - مَسْألَة يكبر في صلاة العيدين سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية

سوى تكبيرة الإحرام: نص عليه في رواية أبي طالب، وأبي داود، وصالح، والميموني، وبهذا قال مالك رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: في الأولى خمسًا، وفي الثانية أربعًا، وتكبيرة الافتتاح، والركوع معتدًا بهما من تكبيرات العيد، فيكون الزوائد عنده ستة ثلاثة في الأولى، وثلاثة في الثانية. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يكبر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة الإحرام. دليلنا: ما روى أحمد رحمه الله في المسند قال: نا يحيى بن إسحاق قال: أنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن ابن شهاب عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الأولى سبعًا في الركعة الأولى، وخمسًا في الركعة الأخرى سوى [تكبيرتي] (¬1) الركوع. ورواه أبو بكر النجاد بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين في الأولى سبعًا وفي الآخرة خمسًا. وروى أيضًا عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين سبع تكبيرات في الأولى وخمسًا في الآخرة. ¬

_ (¬1) في الأصل: تكبيرة، والتصويب من المسند رقم (24409).

وروى أيضًا بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين في الركعة الأولى سبعًا وفي الآخرة خمسًا. ففي هذه الأخبار دلالة على أبي حنيفة رحمه الله في قوله: يكبر في الأولى خمسًا مع تكبيرة الإحرام وفي الثانية أربعًا. ودلالة على الشافعي رحمه الله في قوله يكبر في الأولى ثمانية مع تكبيرة الإحرام، وظاهر الخبر يقتضي أن جملة تكبيره كان سبعًا في الأولى. فإن قيل: يحمل قوله: كبر سبعًا على التكبير الزائد، ولم يذكر تكبيرة الافتتاح؛ لأنها مفعولة في كل صلاة، والذي يبين صحة هذا أن ابن بطة روى في سننه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح، وهذا فيه زيادة فهو أولى. وروى النجاد بإسناده: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية. قيل له: لو كان المراد بالخبر بيان التكبيرات الزوائد لم يقل: وخمسًا في الأخيرة سوى تكبيرة الركوع؛ لأن تلك التكبيرة مفعولة في صلاة، فلما استثنى الزوائد في الثانية ولم يستثنها في الأولى علم أنها داخلة في جملة العدد. وأما ما روي فيه أنه قال: سوى تكبيرة الافتتاح، فغير معروف ولا مشهور، ولو ثبت حملنا قوله: ثنتي عشرة سوى تكبيرة الافتتاح على

أن المراد به منها تكبيرة الركوع في الركعة الأولى، فيكون تقديره: سبعًا في الأولى منها تكبيرة الركوع سوى تكبيرة الافتتاح، ألا ترى أنه استثناها في الركعة الثانية فقال: وخمسًا في الثانية سوى تكبيرة الركوع، ذكره في حديث عائشة رضي الله عنها، فيكون تقديره في الأولى سبعًا منها تكبيرة الركوع سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة الركوع، فيكون ثنتي عشرة سوى تكبيرة الافتتاح. والقياس على أبي حنيفة رحمه الله على أن صلاة العيد فيها تكبيرات راتب وزائد، ثم ثبت أن الراتب في الركعة الأولى ستة، وفي الثانية خمس يجب أن يكون الزائد كذلك نقله أنه أحد نوعي التكبير. والقياس على الشافعي - رضي الله عنه -: أن الأولى ركعة من صلاة العيد وجب أن تكون التكبيرات بعدد الراتب كالركعة الثانية، وذلك أن الراتب في الركعة الثانية خمس، والزوائد أيضًا مثلها، والراتب في الركعة الأولى ستة مع تكبيرة الإحرام، كذلك الزوائد. فإن قيل: لا نسلم أن في الركعة الثانية خمس تكبيرات رواتب؛ لأنه إذا قام إلى الركعة الثانية فنصف التكبير من الركعة الأولى ونصفه من الثانية، فلا يكون لا من الأولى ولا من الثانية. قيل له: محل التكبير الرفع، وذلك الرفع يتوصل به إلى الركعة الثانية، فلما لم يعتدل فهو في حكم الركعة الأولى، وبهذا (¬1) قالوا: إذا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: لهذا.

نسي التشهد الأول؛ فإن ذكره قبل أن يعتدل قائمًا رجع، ولأن الركعة الثانية ليس يتعقبها قيام وفيها خمس تكبيرات. واحتج أصحاب أبي حنيفة: بما رُوي أن سعيد بن العاص دعا أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - فسألهما عن التكبير في العيدين؟ فقال أبو موسى: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في العيدين كما يكبر على الجنازة، وصدَّقه حذيفة، قال أبو موسى: وكذلك كنت أصلي بأهل البصرة فأنا عليها، قال أبو عائشة: وأنا حاضر ذلك، فما نسيت قوله: أربعًا كتكبيرة على الجنائز. وروى الطحاوي عن علي بن عبد الرحمن ويحيى بن عثمان قال: نا عبد الله بن يوسف عن يحيى بن حمزة قال: حدثني الوضين بن عطاء عن (¬1) القاسم أبي (¬2) عبد الرحمن أخبره قال: حدثني بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد وكبر أربعًا، ثم أقبل علينا بوجهه حين انصرف فقال: "لا تسهوا كتكبير الجنائز" وأشار بأصابعه وقبض إبهامه. والجواب: أنه روي عن أحمد رحمه الله: أن حديث سعيد بن العاص حديث منكر، وهذا يدل على ضعفه. فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية هارون بن عبد الله البزاز: ليس ¬

_ (¬1) في الأصل: بن، وهو خطأ. (¬2) في الأصل: أبا.

يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على تضعيف الأخبار التي تحتجون بها أيضًا. قيل له: قوله: ليس يروى في التكبير حديث صحيح يريد به في الأربع، وفي الزيادة على السبع، الذي يدل على صحة هذا أنه روى حديث عائشة رضي الله عنها في مسنده، وعلى أنا نقابل هذا بأخبارنا وهي أولى من وجوه: أحدها: أنها أكثر رواة؛ رواها ابن عمر، وعمرو بن شعيب، وكثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وعائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين، ورواية الجماعة أولى من رواية اثنين، ولأن أخبارنا عملت عليها الصحابة - رضي الله عنهم -، فروى النجاد بإسناده عن نافع قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة - رضي الله عنه -، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة، قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب: أذهب إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وروى النجاد بإسناده عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم -: أنه كان يكبر في العيدين في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الافتتاح، وفي الآخرة ست تكبيرات بتكبيرة الركوع كلهن قبل القراءة. وروى أيضًا بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أدركت مشيخةً من قريش والأنصار أبناءَ المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم أجمعين يكبرون في العيدين سبع تكبيرات في الركعة الأولى قبل القراءة، وخمس تكبيرات في الركعة الآخرة قبل

القراءة، ولأن في أخبارنا زيادة، والزيادة تقبل إثبات عبادة. فإن قيل: أخبارنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: أربع، وشبهها بالجنائز، وأخباركم فعل، والقول آكد من الفعل. قيل له: روى أبو الحسن الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التكبير سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما". وروى أيضًا بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التكبير في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات، وفي الآخرة خمس تكبيرات" وهذا قول. وكذلك روى أبو عبد الله بن بطة رحمه الله في سننه بإسناده عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكبير الفطر سبع في الأولى وسبع في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما"، وإذا ثبت هذا فقد حصل قول، وفعل، وعمل من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. واحتج: بأنها تكبيرات مفعولة في حال القيام متوالية، فوجب أن تكون أربعًا كتكبيرات الجنازة. والجواب: أن صلاة الجنازة حذفت أركانها من الركوع والسجود تخفيفًا لها، فجاز أن تخفف تكبيراتها طلبًا للتخفيف، ولم يفعل في مثل هذا المعنى في صلاة العيدين؛ لأن أركانها باقية، ولأنه لا يجوز اعتبار إحدى الصلاتين بالأخرى في عدد التكبيرات، كما لم يجز اعتبارها في عدد الركعات.

فصل

واحتج: بأنها ركعة من صلاة العيد فلم يكن تكبيرها ستًا، دليله: الثانية. والجواب: أنه لا يمتنع أن يختلفا كما اختلف صوم المتمتع في الحج ثلاثة، وسبعة إذا رجع، وأن كل واحد منهما صوم في التمتع، وكذلك التكبيرات الراتبة في الصلاة فرق بين الأولى والثانية في العدد. * فصل: والدلالة على أن تكبيرة الافتتاح والركوع لا يعتد بهما: ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها: أنه كبر في الثانية خمسًا سوى تكبيرة الركوع، وهذا نص. ولأن تكبيرة الركوع والافتتاح بهما صلاة العيدين يوجد في سائر الصلوات، فهما كتكبيرات السجود. واحتج: بأنه تكبير يُبتدأ به في حال القيام، فوجب أن يعتد به من تكبيرات العيد قياسًا على التكبيرة الثانية والثالثة. والجواب: أنه يبطل بتكبيره التي تنحط بها إلى السجود، وعلى أن المعنى في الثانية والثالثة أنها تختص بصلاة العيد، وهذه لا تختص وهي كتكبيرة السجود. واحتج: بأن الركوع بمنزلة حال القيام، ألا ترى مدركه في الركوع كمدركه في القيام في باب الاعتداد بالركعة، فإن كان كذلك وجب أن يعتد به من تكبيرات العيد كما يعتد بالزيادة.

9 - مسألة: يستحب أن يقف بين كل تكبيرتين يكبر الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -

والجواب عنه: ما تقدم، والله أعلم. * * * 9 - مَسْألَة: يستحب أن يقف بين كل تكبيرتين يكبر الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -: نص عليه في رواية عبد الله، وحمدان بن علي، وإسحاق بن إبراهيم، وهو قول الشافعي - رضي الله عنهم -. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس بين تكبيرات العيد الزوائد ذكر مسنون. دليلنا: ما احتج به أحمد رحمه الله - ورواه أبو بكر - بإسناده عن علقمة والأسود عن ابن مسعود - رضي الله عنهم - أنه قال: بين كل تكبيرتين في العيد يحمد الله ويثني عليه، وروى في لفظ آخر: بين كل تكبيرتين حمد الله، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا مذهبًا له. قيل له: هذا القول ظهر منه وانتشر ولم يعرف له مخالف، فيجب أن يكون حجة. والقياس: أنها تكبيرات متوالية، فيجب أن يتخللها الذكر قياسًا على صلاة الجنازة، ولأن صلاة الجنازة مبنية على الحذف والاختصار، فإذا تخلل الذكر تكبيراتها فتكبيرات العيد أولى أن يتخللها الذكر.

فإن قيل: قد منعت من قياس تكبيرات العيدين على تكبيرات صلاة الجنازة في المسألة التي قبلها، فكيف جاز لك أن تقيس عليها ها هنا؟ ! قيل له: إنما منعنا من اعتبار صلاة العيد بصلاة الجنازة في التخفيف والتقصير، فأما اعتبارها بها في إثبات ما شرع فيها فلم يعرف، بل يجب اعتباره للمعنى الذي ذكرنا، وهو أن تكبيرات الجنازة مع أنها مبنية على التخفيف لم يسقط الذكر، والأولى أن لا يسقط ها هنا. فإن قيل: تكبيرة من صلاة الجنازة قائمة مقام ركعة فما يفصل في سائر الصلوات بين كل ركعتين بذكر، كذلك يفصل بين كل تكبيرتين من صلاة الجنازة، وهذا معدوم ها هنا. قيل له: لا نسلم لك أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وهذا فصل سيأتي الكلام عليه في مسائل الجنائز إن شاء الله تعالى؛ لأنه تكبير يتوالى حال القيام، فلا يقوم مقام الركوع كتكبيرة الإحرام، وتكبير العيد. وقياس آخر: وهو أن كل تكبيرة مشروعة في الصلاة فإنه يتعقبه ذكر مسنون قياسًا على التكبير في سائر الصلوات. واحتج المخالف: بأنه ذكر تكرر في ركن، فوجب أن يوالي بين الأول وبين ما بعده ولا يفصل بذكر، دليله: تسبيحات الركوع والسجود. والجواب: أنه ينتقض بتكبيرات الجنازة، وعلى أنا نقابله بقياسنا، وهو أولى؛ لأن قول ابن مسعود - رضي الله عنه - يعضده، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

10 - مسألة: يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين جميعا في أصح الروايتين

10 - مَسْألَة: يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين جميعًا في أصح الروايتين: رواها صالح، وأبو طالب، وهو قول مالك والشافعي - رضي الله عنهما -. وروى الميموني: أنه يوالي بين القراءتين فيكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الثانية بعد القراءة، وهو اختيار أبي بكر، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وجه الرواية الأولى: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده رحمه الله عن القاسم أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن تكبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان يكبر سبعًا ثم يقرأ، ثم يكبر خمسًا ثم يقرأ، فقال: هل سألت أمك عائشة رضي الله عنها؟ فقال: قد فعلت فكأنه وجد في نفسه إذ لم يكتف بقولها. وروى أبو عبد الله بن بطة في سننه بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكبير الفطر سبع في الأولى وسبع في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما". وروى أيضًا بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] (¬1): "التكبير سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما". وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) بياض في الأصل، والمثبت يدل عليه السياق.

عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التكبير سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما". وروى أيضًا بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين سبع تكبيرات في الأولى، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة. ذكره البخاري. والقياس: أنها تكبيرات زائدة في صلاة العيد، فوجب أن تكون قبل القراءة، أصله: الركعة الأولى، ولأنه ذكر مقدم على الركوع، فوجب أن يكون قبل القراءة كذكر الاستفتاح، ولأنه ذكر شرع في الركعتين جميعًا، فوجب أن يكون محلهما واحدًا قياسًا على تكبيرات الركوع والسجود. واحتج المخالف: بما روى أبو موسى وحذيفة - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العيد فكبر أربعًا ووالى بين القراءة. والجواب: أن قوله: ووالى بين القراءة، غير محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن الخبر يقتضي المتابعة في القراءة، وهم لا يقولون بذلك، بل يقولون: إنه يتخلله تكبير، وعلى أنا نحمل الخبر على أنه والى بين قراءة الفاتحة والسورة. واحتج: بما روي عن علي، وابن مسعود، وأبي موسى، وحذيفة - رضي الله عنهم -، فروي أن سعيد بن العاص دعا عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم - فسألهم عن التكبير في العيدين؟ فأسندوا أمرهم إلى ابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: يقوم فيكبر تكبيرة

الافتتاح، ثم يكبر ثلاثًا (¬1)، ثم يقرأ سورة، ثم يكبر تكبيرًا ثم يركع بها، ثم يقوم إلى الثانية فيقرأ سورة، ثم يكبر أربعًا يركع بإحداهن (¬2). والجواب: أن المسألة خلافٌ في الصحابة - رضي الله عنهم -، فروى النجاد بإسناده عن نافع قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة - رضي الله عنه - فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة، وإذا كان خلافًا بينهم لم يكن قول بعضهم بأولى من قول الآخر، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني: اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التكبير، وكل جائز. واحتج: بأنه ذكر مسنون في حال القيام، فيجب أن يؤخر عن القراءة في الركعة الثانية قياسًا على القنوت في الوتر. والجواب: أن القنوت يختص بالركعة الآخرة، فكان بعد القراءة كالتشهد في صلاة الفجر، وليس كذلك التكبيرات، فإنه يشترك فيها الركعتان، فاستوى محلهما في الركعتين كالتسبيحات وسائر التكبيرات في الصلاة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: ثلثا. (¬2) في الأصل: أحدهم، والتصويب من "مصنف" ابن أبي شيبة. وكأن في الأثر نقصًا، وقد رواه ابن أبي شيبة بلفظ: فأسندوا أمرهم إلى عبد الله فقال: يكبر تسعًا تكبيرة يفتتح بها الصلاة ثم يكبر ثلاثًا ثم يقرأ سورة ثم يكبر ثم يركع ثم يقوم فيقرأ سورة ثم يكبر أربعًا يركع بإحداهن.

11 - مسألة: يرفع يديه مع كل تكبيرة

11 - مَسْألَة: يرفع يديه مع كل تكبيرة: نص عليه في رواية أبي داود، وعبد الله، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي - رضي الله عنهما -. وقال مالك رحمه الله: يرفعها في تكبيرة الإحرام. دليلنا: ما روى النجاد عن بكر بن سوادة (¬1): أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يرفع يديه في كل تكبيرة في صلاة العيد وفي صلاة الجنازة، ولأنها تكبيرة يُؤتى بها في حال القيام، وكان من سنتها الرفع، دليله: تكبيرة الإحرام. واحتج المخالف: بأنه تكبير ليس بركن، فلم يسن له الرفع، دليله: تكبيرات السجود. والجواب: أن ذلك لا يؤتى به في حال القيام، فهو كتكبيرة الإحرام، والله أعلم. * * * 12 - مَسْألَة: يؤخر التعوذ إلى بعد التكبير: نص عليه في رواية عبد الله فقال: إذا كبر أول تكبير يقول: سبحانك ¬

_ (¬1) في الأصل: هوادة.

اللهم وبحمدك، وإن آخر ذلك إلى بعد أن يفرغ من التكبير، لم يكن به بأس إن شاء الله، ثم يستعيذ ثم يقرأ إذا فرغ من التكبير. وبهذا قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو يوسف: يتعوذ عَقيب الاستفتاح ثم يكبر، وليس عن أبي حنيفة في ذلك شيء. دليلنا: أن الاستعاذة مسنونة للقراءة، بدلالة قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، فوجب أن يؤخرها إلى حال القراءة. فإن قيل: التكبير لا يفصل بين الاستعاذة والقراءة، ألا ترى أن له أن يقول بعد الاستعاذة: إن الله هو السميع العليم، ولا يكون فاصلًا بين التعوذ والقراءة؟ ! كذلك التكبيرات. قيل له: قوله: إن الله هو السميع العليم، من تمام الاستعاذة، ومن صفاتها، فلهذا لم [تكن] (¬1) فاصلًا، والتكبير بخلاف ذلك، فجاز أن يكون فاصلًا، ولأنه تعوذ، فوجب أن تتعقبه القراءة، دليله: سائر الصلوات. واحتج المخالف: بأنه ذكر مسنون مفعول في حال القيام، فوجب أن يبتدأ به على التكبيرات، مثل دعاء الاستفتاح. والجواب: أن أبا الحارث قال: سألت أحمد رحمه الله عن الافتتاح قبل التكبير أو بعده؟ قال: بعد التكبير. فقد نص على أنه بعد التكبير ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وبها يستقيم الكلام.

13 - مسألة: يقرأ في صلاة العيد {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1] في أصح الروايتين

كالاستعاذة، وبه قال أبو بكر الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، فعلى هذا لا فرق بين الاستفتاح والاستعاذة. وقال في رواية حنبل، وعبد الله: إذا كبَّر أوَّل تكبيرة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، فإن أخَّر ذلك إلى أن يفرغ من التكبير فلا بأس. وظاهر هذا: أن المستحب التقديم، وأنه يجوز التأخير، فعلى هذا نقول: دعاء الاستفتاح شُرع لافتتاح الصلاة فأتي به عَقيبه، والتعوذ شرع لإرادة القراءة، فوجب أن يكون موضعه حيث تريد القراءة، وهو بعد التكبير. واحتج: بأن ذكر الاستفتاح مفعول قبل التكبير، فوجب أن يفعل التعوذ عقب الاستفتاح، دليله: سائر الصلوات. والجواب: أنه إنما كان كذلك في سائر الصلوات؛ لأن القراءة تتعقب الاستعاذة، ولهذا المعنى لو أراد القراءة في غير صلاة استحب له الاستعاذة، وليس كذلك في صلاة العيد؛ لأن القراءة تتأخر عنها، فلهذا استحب تأخيرها، والله تعالى أعلم. * * * 13 - مَسْألَة: يقرأ في صلاة العيد {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] في أصح الروايتين: رواها عبد الله وحنبل عنه فقال: يقرأ في العيد بالأعلى والغاشية

يرويه سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنعمان - رضي الله عنه -. وفيه رواية أخرى: يقرأ بما شاء من القرآن، رواها حرب عنه: أنه سئل عن القراءة في العيدين؟ فقال: يقرأ بما شاء، ولم يصحح فيه حديثًا، إلا أنه قد جاء في صلاة الجمعة وأظنه قال: والمنافقون. قال أبو بكر الخلال في كتاب العلل: قول حرب: إن أبا عبد الله لم يصحح فيه حديثًا، توهم منه على أبي عبد الله، وقد روى عنه جماعة مذهبه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقرأ بما شاء. وقال مالك رحمه الله فيما حكي عنه: يقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يقرأ بسورة {ق}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]. دليلنا أنه يستحب أن يقرأ بما ذكرنا خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا يستحب تخصيص شيء من القرآن: ما روى أحمد رحمه الله وذكره أبو بكر قال: نا يزيد بن هارون قال: نا المسعودي وأبو نعيم قال: نا المسعودي عن معبد بن خالد عن زيد بن عقبة عن سمرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيد: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وهذا إخبار عن دوام فعله، وروى أبو بكر الخلال في العلل قال: أخبرني حرب قال: حدثني سعيد بن منصور قال: نا أبو عوانة عن إبراهيم

ابن محمد بن المنتشر (¬1) عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الجمعة والعيدين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وروى أبو بكر النجاد حديث النعمان بن بشير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيد: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وروى أيضًا بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيد: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. فإن قيل: فهذا يقابله ما رُوي: أن (¬2) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبا واقد الليثي - صلى الله عليه وسلم - ماذا كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. وروت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في العيد اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح ويقرأ بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وهذا يدل على أنه لا توقيت في القراءة. قيل: قد روينا في حديث سمرة والنعمان - رضي الله عنهما -: أنه كان يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} والغاشية، وهذا إخبار عن دوام الفعل، وهو لا يداوم إلا على المستحب، وما روينا أولى من حديث عائشة رضي الله عنها وأبي واقد لأمرين: ¬

_ (¬1) في الأصل: المبشر. (¬2) في الأصل: ابن، والتصويب من "سنن" أبي داود.

أحدهما: أن الصحابة - رضي الله عنهم - عملت عليه، فروى أبو بكر النجاد بإسناده عن عبد الملك بن عمير قال: حدثت (¬1) عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ في العيدين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وروى أيضًا بإسناده عن عمارة الصيدلاني عن مولى لأنس قد سماه قال: انتهيت مع أنس - رضي الله عنه - يوم العيد إلى الزاوية، فإذا مولى له يقرأ في العيد: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال: فقال أنس: إنهما السورتان اللتان قرأ بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد بيَّن عن عمر وأنس - رضي الله عنهما - الأخذ بذلك. والثاني: أن أخبارنا أكثر رواة؛ لأنه رواه سمرة، والنعمان، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وأيضًا فإن هذا اليوم مشبه بيوم الحشر؛ لأن الناس يجتمعون من كل موضع و (¬2) من العوالي والسوادات والنساء والمخدرات والصبيان بعضهم يكون لهم فرح، وبعضهم يكون لهم غم على ألوان مثل يوم المحشر، وإذا كان هذا اليوم مشبهًا بالمحشر استحب أن يقرأ فيه ما يوقظهم من الغفلة، ويذكرهم بالآخرة وفي سورة الغاشية ذكر القيامة، وكذلك في سورة الأعلى. واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]. ¬

_ (¬1) في الأصل: حديث، والتصويب من "مصنف" ابن أبي شيبة. (¬2) هنا كلمة لم أهتد لقراءتها.

14 - مسألة: إذا أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيد اتبعه ولم يكبر في الركوع

والجواب عنه: ما تقدم في الجمعة، وفي غيرها. واحتج: بأنها صلاة من الصلوات، فلم تتوقت فيها القراءة، دليله: سائر الصلوات. والجواب: أنها قد تتوقت عندنا في الجمعة أيضًا، وهي صلاة من الصلوات، وعلى أن هذا قياسٌ يعارض السنة، والله أعلم. * * * 14 - مَسْألَة: إذا أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيد اتبعه ولم يكبر في الركوع: نص عليه في رواية ابن مشيش فقال في الرجل يدرك الإمام، وقد سبقه بالتكبير وأدرك معه الركوع، فلا يقضي التكبير، ولكن إذا فاتته ركعة فإنه يعجبه أن يقضي الركعة بالتكبير. وكذلك نقل أبو داود عنه، فمن أدرك ركعة من العيد يكبر في التي يقضي، وإن أدرك وكبر بعض التكبير يكبر ما أدرك، ولا يكبر ما فاته، وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله: إذا أدركه في الركوع فخاف إن كبر تكبير العيد يرفع رأسه، فتفوته الركعة الأولى فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح قائمًا ثم يركع ويكبر راكعًا تكبير العيد الذي سبقه به الإمام. دليلنا: أنه ذكر مشروع قبل الركوع فلا يستحب فعله في الركوع،

أصله: دعاء الاستفتاح، والقراءة، والقنوت، ولأن الركوع ركن شرع فيه التسبيح، فلم يكن محلًا للتكبير، دليله: السجود. أو نقول: الركوع ليس بموضع للقراءة، فلم يكن موضعًا للتكبير، دليله: السجود، ولأنه تكبير فات محله فلم يقضه في حال الركوع، دليله: لو ركع قبل أن يكبر للركوع فإنه لا يقضيها في حال الركوع، كذلك لو سجد قبل أن يكبر فإنه لا يقضي في حال السجود، كذلك ها هنا، والذي يدل على أنه قد فات محله أنه ذكر مسنون، فوجب أن يفوت بفوات محله قياسًا على دعاء الافتتاح. واحتج المخالف: بأن حال الركوع حال تكبيرة العيد، بدلالة أن تكبيرة الركوع معتد به من تكبيرات العيد، وهو مفعول في حال الانحطاط إلى الركوع، وإذا كان كذلك جاز فعلها في هذه الحال كما جاز في حال القيام. والجواب: أنا لا نسلم أن حال الركوع حال تكبير العيد، وأن تكبير الركوع معتد به من تكبيرات العيد، وقد دللنا على ذلك في فصل قد تقدم، وهو أنه تكبير لا تختص به صلاة العيد، بل يوجد في سائر الصلوات، فهو كتكبيرات السجود. واحتج: بأن مدرك الإمام في هذه الحال مدرك للركعة، فوجب أن يكون مدركًا لموضع التكبيرات قياسًا على حال القيام. والجواب: أن حال الركوع لا يجري مجرى حال القيام، بدلالة أن

15 - مسألة: فإن قرأ قبل التكبير ساهيا ثم ذكر قبل أن يركع فقياس المذهب: أنه يركع ولا يعود إلى التكبير

حال القيام يأتي بالأذكار على ترتيبها، فيأتي بدعاء الاستفتاح، والاستعاذة، والقراءة، والتكبير، ولهذا يقول: لو لم يتمكن من جميع ذلك بدأ بالقراءة؛ لأنها فرض، وهذا المعنى معدوم في حال الركوع؛ لأنه يسقط فيها دعاء الاستفتاح، فيجب أن يسقط فيها التكبير أيضًا. ويبين صحة هذا أن الإمام إذا نسي دعاء الاستفتاح فقرأ فإنه يكبر بعد ذلك عندهم، ولو نسي التكبير حتى ركع لم يكبر الإمام، فافترقت الحال في حق الإمام بين القيام والركوع، كذلك يجب أن يفترق في حق المأموم، ومنهم من يسلم ذلك في حق الإمام، ومنهم من يمنع. ونقول: ليس عن أبي حنيفة نص في الإمام، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 15 - مَسْألَة: فإن قرأ قبل التكبير ساهيًا ثم ذكر قبل أن يركع فقياس المذهب: أنه يركع ولا يعود إلى التكبير: وللشافعي - رضي الله عنه - قولان: قال في الجديد مثل هذا، والثاني: أنه يأتي ببقية التكبير، ويعيد القراءة، وهو قول مالك رحمه الله. دليلنا: أنه ذكر مسنون شرع قبل القراءة، فإذا نسيه حتى دخل في القراءة سقط، دليله: دعاء الاستفتاح، ولأنه ذكر بعد القراءة فلم يكبر،

16 - مسألة: لا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها لا الإمام ولا المأموم لا في المصلى ولا في المسجد

دليله: لو ذكر وهو راكع. واحتج المخالف: بأنه ذكر (¬1) قبل الركوع، فأشبه إذا ذكر قبل أن يشرع في القراءة. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الشروع في القراءة بما قبله، كما لم يجز في ذلك الاستفتاح، وكما لو ذكر في الركوع، والله تعالى أعلم. * * * 16 - مَسْألَة: لا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها لا الإمام ولا المأموم لا في المصلى ولا في المسجد: نص على هذا في رواية الجماعة منهم: أبو داود، وابن القاسم، والأثرم، وعبد الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصلي قبلها، ويصلي بعدها إن شاء. وقال مالك رحمه الله: إن كانت الصلاة في المصلى فالحكم فيه كما ذكرنا، وإن كانت في المسجد ففيه روايتان: روي عن نافع عنه أن حكمه حكم المصلى أيضًا، ونقل ابن القاسم، وابن الحكم: أنه يتنفل فيه قبل الجلوس بخلاف المصلى. ¬

_ (¬1) في الأصل مكتوب (ذكر بعد القراءة فلم يكبر، دليله: لو ذكر وهو راكع) ومشطوب عليها.

وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يجوز أن يصلي قبلها وبعدها. دليلنا: ما روى أبو عبد الله بن بطة بإسناده في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين سبعًا وخمسًا وكان يقول: "لا صلاة قبلها ولا بعدها". وروى النجاد بإسناده في كتابه عن جرير بن عبد الله بن جرير البجلي - رضي الله عنهم - عن أبيه عن جده جرير قال: كنت آخر الناس إسلامًا، فحفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة في العيدين قبل الإمام". وهذا نهي، وأقل أحوال النهي الكراهة. وأيضًا ما روى النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم العيد لم يصل قبلها ولا بعدها. وروى أيضًا عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: لم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها ولا بعدها. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه خرج يوم عيدٍ فلم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل قبلها ولا بعدها. وهذا إخبار عن دوام فعله عليه السلام، فلو كان جائزًا لم يداوم على تركه مع ترغيبه في فعل الطاعات. ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

فروى النجاد بإسناده عن أيوب قال: كان حذيفة، وابن مسعود - رضي الله عنهما - يقومان في يوم العيد فينهيان الناس عن الصلاة قبل العيد، هما أو أحدهما. وروى أيضًا عن ثعلبة بن زهدم الحنظلي أن أبا مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قام يوم عيد فقال: لا صلاة في هذا اليوم حتى يخرج الإمام. وروى أيضًا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهم -: أنه كان يكره أن يُصلى يوم العيد قبل الإمام. وروى عن الشعبي قال: رأيت ابن أبي أوفى، وابن عمر، وجابر - رضي الله عنهم - لا يصلون قبل العيد ولا بعدها. وروى عن أبي عبد الله عن علي - رضي الله عنه -: أنه كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها. وروى عن الأسود النهدي قال: رأيت طنفسة أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخرج بها يوم عيدٍ فلم يصل قبلها ولا بعدها. وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن الحارث عن علي - رضي الله عنه - أنه خرج في يوم عيدٍ فرأى قومًا يصلون يوم عيدٍ فقال: لولا أني أكون الذي قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] لنهيت هؤلاء، ولكنا نخبرهم بما كان يصنع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان بعضنا يغتسل، وبعضنا يتوضأ، ثم نخرج فلا يصلي أحد منا حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن شاء صلى، ومن شاء لم يصل.

فإن قيل: يعارض هذا بما روى قتادة أنه قال: كان أنس، وأبو هريرة - رضي الله عنهما - يصليان قبل صلاة العيد. وروى أبو أيوب قال: رأيت أنس بن مالك، والحسين - رضي الله عنهما - يصليان قبل العيد. قيل له: أما أنس فقد روينا عنه أنه كان تفرش له الطنفسة، فلا يصلي قبلها ولا بعدها، فتعارضت الروايتان فسقطتا، وسلم قول غيره، وعلى أنا نحمل ما روي عنه، وعن أبي هريرة على أنهما كانا يصليان في غير موضع صلاة العيد. وأما الحسين - رضي الله عنه - فقد روي عن جماعة من التابعين - رضي الله عنهم - خلاف فعله، وأيضًا فإن كان صلاة لا يصلي الإمام قبلها، لم يصل المأموم أيضًا كصلاة المغرب. فإن قيل: إنما يمنع الإمام من الصلاة إذا جاء وقت إقامة الصلاة، فأما إن بكَّر الإمام إلى موضع وقعد فيه ينتظر فإنه يصلي. قيل له: نقيس عليه إذا جاء وقت إقامة الصلاة، فإنه لا يستحب له ذلك. فإن قيل: إنما كرهت للإمام؛ لئلا يقتدي الناس به، ويعتقدون أن ذلك سنة لأجل العيد. قيل: فكان يجب أن يفرق بهذا المعنى بين الإمام والمأموم في المغرب، وكان يجب أن يمنع الإمام بعدها لهذه العلة.

فإن قيل: لما جاز التطوع قبل هذه الصلاة وبعدها في غير مكانها الذي صلاها فيه، جاز في مكانها كسائر الصلوات. قيل: يجوز للإمام أن يطوع قبل مجيئه إلى مصلاه، ولا يجوز في مصلاه كذلك غيره من الناس. فإن قيل: المعنى في المغرب أن وقتها ضيّق، فإذا اشتغل بالنافلة فاتته الفريضة، فلهذا كره له أن يتنفل. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل عندنا أن وقتها يمتد إلى غيبوبة الشفق. واحتج المخالف: بأن هذا الوقت خارج من أوقات النهي، وهو ما بعد الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع، وما بعد العصر حتى تغرب، وعند الزوال حتى تزول، فلا يخاف بفعل النافلة فوات ما هو أولى منها، فوجب أن لا يكره فعل النافلة فيها، دليله: سائر الأوقات. ولا يلزم عليه إذا ضاق وقت الفريضة، وخاف فواتها، وإذا كان يعرف مسلمًا وهو يقدر على تخليصه فإنه أولى من الاشتغال بالنافلة، ويكره التنفل، وكذلك خطبة الإمام؛ لأن هناك ما هو أولى، وربما قالوا: كل وقت لو أحرم بالنافلة لم يؤمر بقطعها، فإنه لا يكره له فعلها، دليله: سائر الصلوات. والجواب: أن هذا يبطل بالصلاة في خلال الخطبة، وهو لا يسمع الإمام، فإنه ممنوع منه، وإن كان خارجًا عن الأوقات المنهي عنها، وليس

فصل

فيه فوات ما هو أولى منه، ومع هذا يمنع من الصلاة، ونعكسه فنقول: فاستوى فيه الإمام والمأموم. * فصل: والدلالة على أنه لا يصلي بعدها خلافًا لأبي حنيفة: ما تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا يُصلى قبلها ولا بعدها". ولما روى ابن عباس وغيره - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يصلي قبلها ولا بعدها. وكذلك ما رويناه عن علي، وابن عمر، وجابر، وابن أبي أوفى - رضي الله عنهم -: أنهم لم يصلوا قبلها ولا بعدها. ولأنها صلاة عيد فاستوى ما قبلها وبعدها في التطوع، دليله: صلاة الجمعة. ولأنه ضم صلاة نفل إلى صلاة العيد في مكان الصلاة، فأشبه إذا صلى قبلها. فإن قيل: إنما لم يجز الصلاة قبلها؛ لأنه ليس لإقامتها علامة، فلو جوَّزنا التنفل؛ لأدى أن يصادف بعض صلاته بعد تكبير الإمام؛ لهذا كره، وهذا المعنى معدوم فيما بعد. قيل له: لإقامتها علامة، وهي قوله: الصلاة، كما أن الإقامة للفرض معلومة، وعلى أن هذا المعنى لا يصح على أصل أبي حنيفة:

فصل

لا يجوز التشاغل عنده بالتنفل، والإمام في الفرض، وهو التشاغل بركعتي الفجر، والإمام في الصلاة إذا أمن فوات الركعة، وكذلك يجوز له أن يصلي تحية المسجد يوم العيد، وإن جاز أن تقام الصلاة وهو يصلي. فإن قيل: لا يمتنع أن يُنهى قبلها ولا ينهى بعدها كالمغرب، ولا يمنع أن يستويا كالظهر، وعلى أنه لا نسلم المغرب في إحدى الروايتين، ثم إن سلمنا فالمعنى هناك أنه يؤدي إلى تأخرها عن الوقت المستحب، وبعدها بخلافه، وفي مسألتنا يستوي قبل وبعد، فيجب أن يستويا. * فصل: والدلالة على أنه لا يصلي في المسجد كما لا يصلي في المصلى خلافًا لمالك في إحدى الروايتين: عموم الأخبار المتقدمة، ولم تفرق بين المسجد والمصلى، ولأنه ضم نفل إلى صلاة العيد في موضعها أشبه المصلى. واحتج: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين"، وهذا عام. والجواب: أنا نحمله ونخصه على غير مسألتنا بما تقدم. واحتج بأن قال: المعنى الذي كره له ذلك في المصلى راجع إلى الوقت والبقعة وقد زال ذلك. والجواب: أنا لا نسلم هذا؛ لأن الوقت باق والبقعة هي موضع إقامة الصلاة، وهذا موجود في المسجد كما هو موجود في المصلى.

فصل

* فصل: وإذا ثبت أنه لا يصلي قبلها ولا بعدها؛ فإن صلى كانت صلاته مكروهة، نص على الكراهة في رواية ابن القاسم فقال: لا يقضي صلاة في ذلك الوقت أن يقتدى به، وكرهه، وشدد فيه. وقال الرازي: مذهب أبي حنيفة ليس قبلها صلاة مسنونة، وليس معناه: أنه يكره. دليلنا على الكراهة: ما تقدم من حديث عمرو بن شعيب وقوله عليه السلام: "لا يُصلى قبلها ولا بعدها". كذلك قوله في حديث جرير: "لا صلاة في العيدين قبل الإمام"، وهذا لفظ النهي، وكل وقت منع من الصلاة وجب أن يكره فيه، دليله: سائر أوقات النهي، والله أعلم. * * * 17 - مَسْألَة: من شرط صلاة العيد الاستيطان، والعدد، والإمام، على اختلاف الروايتين في اعتبار الإمام في الجمعة: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية جعفر بن محمد في أهل القرى إذا خرجوا في العيدين: يصلون أربعًا إلا أن يخطب رجل فيصلون ركعتين. وذكر شيخنا في كتابه رواية أحمد بن القاسم عن أحمد رحمه الله

أنه قال: لا يصلي العيد إلا بأربعين رجلًا. وقال أيضًا في رواية عبد الله وقد سأله عن أهل القرية يكونون (¬1) ثلاثمائة نفس أيجمعون (¬2) للعيدين؟ فقال: لا بأس بإذن الإمام، فإن صلوا وحدانًا يصلون أربعًا، إنما التكبير (¬3) إلى الإمام. وقال أبو بكر في العيدين: هل يصلون جماعة بخطبة بغير إذن الإمام؟ قد ذكرنا في الجمعة على قولين، وبنى صلاة العيد على الجمعة. وقال أيضًا باب الرد على من قال: إن الرجل إذا صلى وحده أنه يكبر مثل تكبير الإمام بالجماعة. وقال: لا يكبر إلا في الجماعة إذا كان إمامًا يخطب بهم، فإذا لم تكن خطبة فهي على معنى الجمعة إذا فاتته يصلي أربعًا. وظاهر ما حكيناه عن أحمد، وعن أبي بكر رحمهما الله يدل على أن من شرطها: الاستيطان، والعدد. وقد روى أحمد رحمه الله ما يدل على أنه ليس من شرطها العدد، وأن لكل واحد من الرجال والنساء أن يصليها منفردًا فقال حنبل: قال مالك: وكل من صلى لنفسه صلاة العيد من رجل أو امرأة فإني أرى أن يكبر في الأولى سبعًا قبل القراءة وخمسًا في الآخرة قبل القراءة، قال ¬

_ (¬1) في الأصل: يكون، والتصويب من مسائل عبد الله. (¬2) في الأصل: يجمعون، والتصويب من مسائل عبد الله. (¬3) في الأصل: التكثير.

حنبل: سئل عمي عن ذلك، فقال: إن شاء كبر، إن شاء لم يكبر. وقال أيضًا في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سئل: على المرأة صلاة؟ فقال: ما بلغنا في هذا شيء، ولكن أرى أن تصلي وعليها ما على الرجال يصلين في بيوتهن. وهذا يدل على [أنه] ليس من شرطها العدد، ويصح فعلها منفردًا، وإذا ثبت ذلك عنه في إسقاط العدد ثبت إسقاط اعتبار الاستيطان. وقال أبو حنيفة رحمه الله: من شرطها المصر، والإمام، والعدد، وبنى ذلك على أصله في الجمعة، وأن من شرط إقامتها: المصر، والإمام، والكلام في العيدين كالكلام في الجمعة وقد مضى. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: ليس من شرطها الاستيطان، والعدد، ولكل واحد من الرجال والنساء أن يصليها منفردًا. فالدلالة على أن من شرطها الاستيطان: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة في رمضان وخرج منها إلى هوازن، واتفق له العيد في السفر، ولم يُرو أنه صلى في سفره ذلك صلاة العيد، فلو جاز ذلك [لصلاه] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو صلى لنقل. فإن قيل: على المنقول في هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة لفتح مكة لعشرين مضين من شهر رمضان، وفتحها وأقام فيها عشرين يومًا، ومعلوم أن العيد صادف مكة. ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والمثبت من الهامش.

قيل له: لو صادف مكة لأقامها (¬1)، ولو أقامها لنقل، فلما لم ينقل، علم أنه كان مسافرًا، وإذا ثبت بهذا الخبر أن من شرطها الاستيطان، وجب أن يكون من شرطها العدد. أو نقول: فلم يصح السفر، دليله: الجمعة، وإن شئت قلت: صلاة شرع لها الاجتماع، والخطبة، فكان من شرطها الاستيطان. أو نقول: فكان من شرطها العدد. أو نقول: فلم يصح في السفر، دليله: الجمعة. أو نقول: صلاة عيد فهي كالعيد. فإن قيل: الجمعة مردودة إلى ركعتين بشرائط منها: الاستيطان، والعدد، وليس كذلك صلاة العيد؛ لأنها ليست بإحالة فرض، فجاز فعلها في الأسفار. قيل له: افتراقهما في هذا الموضع لا يوجب افتراقهما فيما اختلفنا فيه، كما لم يوجب افتراقهما في بقية الشرائط من الخطبة، والجهر بالقراءة، وكونها ركعتين، وكونها صلاة عيد. واحتج أصحاب الشافعي - رضي الله عنهم -: بأنها صلاة تجوز للمقيم في الصحراء، فجاز فعلها للمسافر في سفره، أصله: صلاة الخسوف، والاستسقاء، وسائر التطوعات. والجواب: أن الصحراء في حكم المصر؛ لقربها منه، فجرت ¬

_ (¬1) في الأصل: لأقامتها.

18 - مسألة: التكبير مسنون في ليلة الفطر، وفي يوم الفطر في الطريق والجلوس

مجرى البنيان، وليس كذلك فيما بعد عنها؛ لأنها ليست في حكم المصر، وعلى أن المعنى في سائر الصلوات أنها ليست صلاة عيد، وهذه صلاة عيد أشبه صلاة الجمعة. واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله: بما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. والجواب عنه: ما تقدم في مسائل الجمعة، وعلى أنه قد قيل: التشريق هو الأضحية التي تفعل إذا ارتفعت الشمس، والله تعالى أعلم. * * * 18 - مَسْألَة: التكبير مسنون في ليلة الفطر، وفي يوم الفطر في الطريق والجلوس: نص عليه رواية عبد الله وصالح فقال: إذا خرج الناس يوم الفطر ويوم النحر يكبرون، ويوم الفطر أشد. وقال الخرقي: ويظهرون التكبير في ليالي العيد، وفي الفطر أوكد. وبهذا قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره إظهاره في يوم الفطر وليلته. وقال مالك: يكبر في يوم الفطر دون ليلته. دليلنا: قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، فأمر بالتكبير عند إكمال عدة رمضان، والإكمال

يحصل ليلًا، فكان ذلك مسنونًا. وأيضًا ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن الزهري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر فيكبر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير. فإن قيل: قال عبد الله: قال أبي: هذا حديث منكر ثم قال: دخل شعبة على ابن أبي ذئب (¬1) فنهاه أن يحدث به، وأنكره شعبة. قيل له: هذا القدر على طريقة الفقهاء لا يمنع الاحتجاج بالخبر، وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نظهر التكبير، يعني في العيدين. وبإسناده عن الحلاج (¬2) صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أظهر التكبير في مخرجه إلى العيدين، فقال له ابنه: يا أبت أغضض من صوتك إن الناس ينظرون إليك، قال: وقد بقيت في قوم إن أظهرت فيهم سنة نظروا إلي، وأنكروها علي، اللهم عجل قبضي إليك، فمات من يومه أو من غد - رضي الله عنه -. وروى أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بإسناده عن داود بن أبي هند عن علي - رضي الله عنه -: أنه كان يكبر يسمع أهل الطريق. وروى عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان يخرج يوم العيد في الأضحى والفطر يكبر ويرفع صوته. ¬

_ (¬1) في الأصل: دوئب. (¬2) كذا في الأصل! ! .

وروى بإسناده عن إبراهيم: أن أبا قتادة كان إذا خرج لصلاة العيد يكبر ويذكر الله تعالى حتى ينتهي إلى المصلى. وروى بإسناده عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن قالوا: كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى، يعني في التكبير. ولأنها ليلة من التكبير في يومها فسن فيها، دليله: عيد الأضحى. ولأنه يوم يصلى فيه صلاة العيد، فسن فيه التكبير، دليله: يوم الأضحى. واحتج أبو حنيفة رحمه الله في نفي التكبير ليلًا ونهارًا: بأنه لو كان التكبير مسنونًا لنقل نقلًا عامًا كما نقل في عيد الأضحى. والجواب: أنا قد روينا ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم فعلوه وأظهروه. واحتج: بأنه لو كان من سننه التكبير لكان فيه عقيب الصلوات كالأضحى، ولما لم يكن مسنونًا عقيب الصلوات، لم يكن مسنونًا في غيره. والجواب: أنه لا يمتنع أن يوافق عيد الفطر لعيد الأضحى في التكبير وإن اختلفا في محله، فكما أن العيد والجمعة يتفقان في الخطبة، وإن اختلفا في محلها، وكذلك سجود التلاوة وسجود السهو يتفقان في أن كلًا منهما مشروع، وإن اختلفا في المحل فسجود التلاوة عقيب سنته، وسجود السهو آخر الصلاة.

19 - مسألة: ينقطع التكبير إذا فرغ الإمام من الخطبتين

واحتج أصحاب مالك رحمه الله في أنه لا يكبر ليلًا: بأنه ذكر يختص استحبابه بالعيد، فوجب أن يكون يوم العيد دون ليلته، كالتكبيرات الزوائد في الصلاة. والجواب: أنه يبطل بليلة عيد الأضحى، على أن ذلك التكبير يقيد بالصلاة، وهذا التكبير مطلق لا يختص الصلاة، فجاز أن يستوي فيه الليل والنهار، والله أعلم. * * * 19 - مَسْألَة: ينقطع التكبير إذا فرغ الإمام من الخطبتين: نص عليه في رواية حنبل وقد سئل: يقطع التكبير إذا صار إلى المصلى؟ فقال: يكبر حتى يخرج الإمام، وتنقضي الخطبة، ألا ترى أن الإمام إذا أراد أن يخطب كبر؟ ! وفيه رواية أخرى: يقطع إذا جاء إلى المصلى وخرج الإمام، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم: يكبر إلى مصلاه، فإذا بلغ ذلك قطع وأقبل على الذكر، ومعناه إذا بلغ إلى مصلاه وخرج الإمام. وبهذا قال مالك رحمه الله. وللشافعي - رضي الله عنه - ثلاثة أقوال: أحدهما: يكبر إلى أن يظهر الإمام في المصلى. والثاني: إلى أن يحرم الإمام بالصلاة.

20 - مسألة: تكبير التشريق من صلاة الفجر من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق

والثالث: إلى أن يفرغ من الصلاة. فالدلالة على أنه يكبر حتى يفرغ من الخطبة: أن الناس تبع للإمام، ثم الإمام يكبر حتى يفرغ من الخطبة كذلك المأموم، يبينه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر إلى أن يفرغ من الصلاة، ولأن الإمام إلى أن يحرم بالصلاة الكلام مباح، فأولى أن يكون التكبير جائزًا. واحتج من قال: يقطع بظهور الإمام: أن الإمام إذا ظهر فإن الناس يتاهبون للصلاة، والتأهب للصلاة أولى من التكبير. والجواب: أن التأهب لا يمنع التكبير كما لا يمنع التلبية في حق المحرم، والله أعلم. * * * 20 - مَسْألَة: تكبير التشريق من صلاة الفجر من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق: نص عليه في رواية عبد الله، وأبي طالب، وهارون بن عبد الله، والفضل بن زياد، وأبي الحارث، والحسن بن ثواب، وهذا إذا لم يكن محرمًا، فأما إن كان محرمًا فإنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، نص عليه في رواية أبي الحارث، والفضل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من النحر.

وقال مالك رحمه الله: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من رابعه. وللشافعي - رضي الله عنه - أقوال: أحدها: من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. والثاني: من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، مثل قولنا إلا أنه لم يفرق بين المحل والمحرم. والثالث: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، مثل قول مالك، وهي رواية المزني عنه. وقال داود: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. فالدلالة على أنه يكبر من يوم عرفة: قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: المعلومات أيام التشريق منها يوم النحر، وقال علي، وابن عمرو - رضي الله عنهم - هي أيام النحر، فقد حصل من اتفاق الجميع على أن يوم النحر من المعلومات، فثبت على أن المعلومات مرادة بالتكبير لاتفاق الجميع، على أنه يكبر يوم النحر ولو خلينا والظاهر لأوجبنا التكبير في سائر أيام العشر، فلما اتفق الجميع على سقوطه قبل يوم عرفة أخرجناه عن الظاهر بالاتفاق، وأوجبناه فيما عداه من أيام التشريق، وهو يوم عرفة ويوم النحر،

إذ هما من المعلومات. فإن قيل: لما قال الله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، دل على أنه لم يرد بالآية تكبير التشريق، وإنما أراد به الذكر عند رؤية الأضاحي؛ لأن تكبير التشريق يفعل عقيب الصلوات لا على الأضاحي والهدايا. قيل له: قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} كما قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وكما يقول: اشكروا الله على نعمه، يريد لنعمه، فكأنه أمرهم بالتكبير شكرًا لله - عز وجل - على نعمته عليهم بأن جعل لهم من القربة في هذه الأيام في بهيمة الأنعام. وأيضًا روى أبو الحسن الدارقطني في سننه فقال: حدثنا عثمان بن السماك قال: حدثنا أبو قلابة قال: حدثني نائل بن نجيح قال: حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر وعبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه - رضي الله عنهم - فيقول: "على مكانكم" ويقول: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وروى أيضًا بلفظ آخر فقال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن يحيى الطلحي بالكوفة قال: حدثنا عبيد بن كثير (¬1) قال: حدثنا محمد بن جنيد قال: ¬

_ (¬1) في الأصل: بكير، والتصويب من "سنن" الدارقطني.

حدثنا مصعب بن سلام عن عمرو عن جابر عن أبي جعفر عن علي بن الحسين عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر من صلاة الضحى يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات. فإن قيل: هذا الحديث ضعيف؛ لأنه يرويه نائل بن نجيح، وعمرو بن شمر، وجابر الجعفي، وكلهم ضعفاء. قيل له: هذا لا يكفي في رد الحديث حتى تبين وجه الضعف مع أن سفيان وغيره قد روى عن جابر. واحتج أحمد رحمه الله بما رواه النجاد بإسناده عن أبي عبد الرحمن قال: كان علي - رضي الله عنه - يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويكبر بعد العصر ثم يقطع، قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم: أذهب إلى حديث علي - رضي الله عنه -، وهو عن علي مستفيض، وهو حسن. وروى النجاد أيضًا بإسناده عن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة الظهر أو العصر من آخر أيام التشريق، شك شعبة. وروى عن مطرف عن الحكم: أن عمر وعليًا - رضي الله عنهما - كانا يكبران من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطعان في العصر من آخر أيام التشريق. ورواه أيضًا بإسناده عن عكرمة قال: كان ابن عباس - رضي الله عنهما - يكبر غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق لا يكبر في المغرب.

وهذا لا يلزم المخالف؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اختلفوا (¬1) في ذلك، فروي عن عمر، وعلي، وابن عباس - رضي الله عنهم - مثل مذهبنا، وروي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر يوم النفر الأول. وعن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تكبر حتى تصلي العصر من يوم عرفة حين يركب الموقف، والخلفاء كذلك. وروى الأسود قال: كان عبد الله - رضي الله عنهما - يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر يوم النحر يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وإذا كان كذلك حصلت المسألة خلاف في الصحابة، فلا يمكن الاحتجاج بقول بعضهم. ويمكن أن نحمل فعل زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إذا كان محرمًا، فلا يُفضي إلى الاختلاف بينهم. والقياس: أنه يوم يجب فيه ركن من أركان الحج، فجاز أن يجب فيه تكبيرات التشريق، دليله: يوم النحر. ولا يلزم عليه يوم عرفة في حق المحرم؛ لأن التعليل لجواز أن يجب فيه التكبير، دليله: أول أيام التشريق. واحتج المخالف: بأن كل وقت من فيه التلبية لم يسن فيه التكبير ¬

_ (¬1) في الأصل: اختلف، والمثبت أقرب للسياق.

عقيب الصلاة، دليله: يوم التروية. والجواب: أن من تجب التلبية في حقه ليس في حقه تكبير، وهو المحرم، ولأن يوم التروية لا يجب فيه ركن من أركان الحج، ولا سن فيه التلبية، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه يجب فيه ركن من أركان الحج أشبه يوم النحر. واحتج: بأن أول صلاة يكبر لها أهل منى صلاة الظهر يوم النحر؛ لأن سنتهم التلبية إلى أن يأخذوا في رمي جمرة العقبة، وآخر صلاة يكبرون لها صلاة الصبح من آخر أيام التشريق؛ لأنهم يرمون الجمار الثلاث، ثم يخرجون من منى إلى المحصب، ويصلون فيها الظهر، ولا يكبرون خلفها، هكذا روي عن عبد الله بن واقد أن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - كانا يصليان الظهر يوم الصدر بالمحصب ولا يكبران، وإذا ثبت هذا في أهل منى ثبت في أهل الآفاق؛ لأنهم تبع لهم في التكبير؛ لأنه فضيلة الوقت؛ لكونه وقتًا للنسك، ولهذا سمي يوم عرفة ويوم النحر، وأمر فيه الناس بالنحر تبعًا لأهل منى، فيجب أن يكون تبعًا لهم في التكبير. والجواب: أن هذا في أهل منى لمعنى ينفردون به، وهو أن التلبية مسنونة في حقهم يوم عرفة، وقبل الفجر من يوم النحر، فلم يكن في حقهم تكبير مسنون؛ لئلا يجتمع تكبير وتلبية، فقدمت التلبية؛ لأنها من شعار الحج ومناسكه، وهذا المعنى معدوم في غير أهل منى؛ لأنه ليس عليهم تلبية، فلهذا من في حقهم التكبير، ولهذا المعنى سوينا بينهم في الانتهاء إلى آخر أيام التشريق؛ لأنهم يتساوون في إسقاط التلبية فتساووا

فصل

في مسنون التكبير. والذي روي عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما -: أنهما لم يكبرا عقيب الظهر من آخر أيام التشريق، فقد روينا عن عمر - رضي الله عنه - خلافه: أنه كان يكبر في صلاة العصر. فإن قيل: فقد يجتمع التكبير والتلبية عندك؛ لأن عبد الله بن أحمد رحمه الله روى عن أبيه أنه قال: وإن كان عليه تكبير وتلبية بدأ بما عليه من التكبير ثم التلبية، وإذا كانا يجتمعان لم يصح ما ذكرته من الفرق. قيل له: ما ذكرنا من الفرق صحيح، وما رواه عبد الله فهو يحمل على الوجه الذي ذكره أبو بكر، وهو: أن يؤخر رمي جمرة العقبة حتى يدخل وقت صلاة الظهر فيجتمع التكبير والتلبية؛ لأنه قد خرج الوقت المستحب للتلبية؛ لأن وقته ينقطع برمي الجمرة، ووقت رميها المستحب ضحى، فإذا أخره إلى الزوال أخره عن وقته المسنون، ولهذا قدم أحمد رحمه الله التكبير على التلبية بخروج وقتها المستحب إلا أنه لم يسقطها؛ لأن سقوطها يتعلق برمي الجمار. * فصل: والدلالة على أنه يكبر في أيام التشريق: قوله تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. والظاهر يقتضي فعل التكبير فيها.

فإن قيل: المراد بذلك الذكر على الرمي, ألا ترى أنه قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. قيل له: أول اللفظ عام، وآخره خاص، وتخصيص آخره لا يوجب تخصيص أوله. وأيضًا حديث جابر - رضي الله عنه - الذي تقدم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر إلى آخر أيام التشريق. ولأنه يوم من فيه الرمي، فوجب أن يكون التكبير فيه مسنونًا عقيب الصلوات، أصله: يوم النحر. واحتج المخالف: بأنه ليس فيه تلبية مسنونة، فوجب أن لا يكون فيه تكبير مسنون، أصله: بعد أيام التشريق. والجواب: أن عدم التلبية لا يدل على إسقاط التكبير؛ لأن بقاء التلبية دليل على اشتغاله بها عن غيرها من الأذكار، كما أن اشتغاله في الصلاة يمنعه عن التكبير حتى يفرغ منها، وعلى أن المعنى في غير أيام التشريق أنه لا يختص بركن ولا يسن فيه الرمي، وهذا بخلافه. واحتج: بأن إثبات هذا الضرب من المقادير طريقه التوقيف والاتفاق، وقد عُدما بعد يوم النحر، فلا نثبته. والجواب: أنا لا نسلم هذا الأصل؛ لأنا قد نثبت المقادير بالقياس، وعلى أن يوم عرفة قد أثبت التكبير فيه بغير اتفاق، فإن النجاد روى عن زيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر - رضي الله عنهم -: أنهم كانوا يكبرون من صلاة

21 - مسألة: لا يكبر إلا من صلى في جماعة

الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر يوم النفر الأول، وعلى أنك قد تركت هذا الأصل في مواضع فأثبت مقادير لغير توقيف ولا اتفاق، فمنها: تقدير المسح بثلاث أصابع، وكذلك خرق الخف، ومسح الرأس بالربع. * * * 21 - مَسْألَة: لا يكبر إلا من صلى في جماعة: نص على هذا في رواية صالح وعبد الله فقال: التكبير على من صلى في جماعة، ومن صلى وحده لا يكبر. وكذلك نقل الميموني عنه أنه قال: أعلى شيء في الباب حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه صلى وحده ولم يكبر، وإليه يذهب. وكذلك نقل مهنا وهارون بن عبد الله وقد سئل: هل يكبر إذا صلى وحده؟ فقال: سمعنا من محمد بن سلمة (¬1) عن أبي عبد الرحمن (¬2) عن زيد بن أبي أنيسة عن عمر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان إذا صلى وحده أيام التشريق [لم يكبر] (¬3). وبهذا قال أبو حنيفة رحمه الله. ¬

_ (¬1) في الأصل: مسلمة، والتصحيح من "الأوسط". (¬2) كذا في الأصل وفي "الأوسط"، و"الكبير": (عبد الرحيم). (¬3) ساقطة من الأصل، والتصويب من المعجم، و"الأوسط".

وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يكبر من صلى فرادى. وقد حكى الخرقي رحمه الله رواية عن أحمد - رضي الله عنه - فقال: وعن أبي عبد الله رواية أخرى يكبر لصلاة الفرض وإن كان وحده. فالدلالة على أنه لا يكبر: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وروى أحمد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا صلى وحده أيام التشريق لا يكبر، وهذا فعل انتشر عنه ولم ينكر عليه. وروى أبو بكر بإسناده عن علقمة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ليس التكبير أيام التشريق على الواحد والاثنين، التكبير على من صلى في جماعة. ولأنها صلاة مفعولة في حال الانفراد، فلم يسن التكبير خلفها، دليله: صلاة النافلة. فإن قيل: لنا في النافلة قولان: أحدهما: التكبير. قيل له: إن لم تسلم نقلنا الكلام إلى الصلاة، والكلام عليه يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، وكل ذكر أُخص بصلاة دون صلاة، جاز أن يختص بمصلى دون مصلى كالأذان، ونريد باختصاصه بصلاة الفرض دون النفل. واحتج المخالف: بأن كل ذكر يستحب للمسبوق يستحب للمنفرد، أصله: التسليمة الثانية.

22 - مسألة: فإن صلى في جماعة في السفر فإنه يكبر

قالوا: وقد نص أحمد رحمه الله على أن المسبوق يكبر وإن كان يعلم أنه صار منفردًا، فقال في رواية أبي طالب والأثرم: إذا فاته ركعة في أيام التشريق يكبر مع الإمام، ولكن يقضي الركعة ويكبر. والجواب: أن المسبوق حصلت صلاته في جماعة، بدليل: أنه حصل له ثواب الجماعة، فلهذا كان من سنته التكبير والتسليمة الثانية، فهي شرط في صحة صلاته عندنا، فلهذا المعنى استوى فيها المنفرد والجماعة. ولأن التسليمة الثانية لا يفترق الحال فيها بين الفرض والنفل، وهكذا التكبير يفترق الحال فيه بين الفرض والنفل، فبان الفرق بينهما. واحتج: بأنه ذكر ينقضي بالفريضة إذا صليت جماعة، فوجب أن يتعلق بها إذا صليت فرادى كالأذان، والإقامة، والأذكار المشروعة فيها. والجواب: أنا قد جعلناه حجة لنا، وأنه يختلف باختلاف الصلاة، فيجب أيضًا أن يختلف التكبير باختلافها، والله أعلم. * * * 22 - مَسْألَة: فإن صلى في جماعة في السفر فإنه يكبر: نص عليه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، وأبي داود في المسافر إذا صلى في جماعة يكبر. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكبر.

دليلنا قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200]، فندب الحاج إلى التكبير وهم مسافرون. وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وهذا عام. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد الصفا وكبر عليه، وكان حاجًا مسافرًا. وكل من صلى الفرض في جماعة سن له التكبير، دليله: المقيم. ولا يلزم عليه المرأة إذا صلت في جماعة فإن من سنتها التكبير، نص عليه في رواية ابن منصور، وقد سئل سفيان: ما ترى في المرأة تكبر في أيام التشريق؟ قال: لا إلا في جماعة، قال أحمد رحمه الله: أحسن. فظاهر هذا: أنهن إذا صلين في جماعة يكبرن. ونقل صالح، وعبد الله: لا تكبر المرأة والنساء أيام التشريق. وهو محمول على أنهن إذا صلين منفردات؛ لأن الغالب من أحوالهن يصلين منفردات. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع"، والتشريق: التكبير، وقد منع منه في غير المصر. والجواب: أن التشريق هو صلاة العيد. قال أبو عبيد عن الأصمعي قال: وسمي ذلك تشريقًا؛ لأن وقت الصلاة عند إشراق الشمس، وهكذا فسره أحمد رحمه الله في رواية أبي

23 - مسألة: لا يكبر خلف النوافل

داود، وعلى هذا يدل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ذبح قبل التشريق ... " يريد الصلاة، وإذا كان المراد الصلاة قلنا بموجبه، وأنه لا يصلي صلاة العيد في السفر، وقد ذكرنا فيما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 23 - مَسْألَة: لا يكبر خلف النوافل: نص عليه في رواية حرب، وأبي داود، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي - رضي الله عنه - في أحد القولين: مثل قولنا. وفي القول الآخر: يكبر. دليلنا: ما تقدم من حديث جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر من صلاة الضحى يوم عرفة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات، وأخبر أن تكبيره كان خلف الفرض دون النفل. ولأنها صلاة نافلة، فلا يستحب التكبير خلفها، دليله: النوافل المفعولة في عرفة. فإن قيل: المعنى في ذلك اليوم أنه لا يستحب التكبير خلف الفرائض. قيل له: لا نسلم لك هذا. واحتج المخالف: بعموم قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ

مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، والمراد به: التكبير، ولم يفرق. والجواب: أن المراد به الصلوات المفروضات؛ لما ذكرنا. واحتج: بأنها صلاة تامة في أيام التشريق، فيسن لها التكبير بعدها، دليله: الفريضة، وكل ذكر يستحب بعد التحلل من الفريضة يستحب بعد التحلل من النافلة، أصله: التسليمة الثانية. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار النفل بالفرض فيما يرجع إلى التكبير كما لم يجز اعتبارهما فيما يرجع إلى الأذان والإقامة، وعلى أن التسليمة الثانية لا نسلم أنها تفعل بعد التحلل من الصلاة الفرض؛ لأن التحلل بها يقع عندنا، وقد تقدم الكلام على ذلك. فان قيل: لا اعتبار عندكم بفعل الجماعة؛ لأن أحمد رحمه الله قد قال في رواية أبي الحارث هل يكبر الإمام ومن خلفه إذا صلى العيد في يوم النحر؟ فقال: قد قال ذاك بعض التابعين، والذي نعرفه إنما يكبر الإمام ومن خلفه في المكتوبة. ونحو هذا نقل عبد الله، وإذا لم يعتبر الجماعة وجب اعتبار الصلاة النافلة. قيل له: قد قال أبو بكر في كتاب الشافي لما ذكر كلام أحمد رحمه الله في هذا الباب، فقال: لما كانت صلاة العيد تجب بإمام، وخطبة، ومصر جامع، وجماعة كجماعة الجمعة، فعلى هذا القول ثبت التكبير، فقد اختار التكبير عقيبها؛ لأنها فرض على الكفاية على أصلها،

24 - مسألة: تكبير التشريق أن يقول: الله أكبر الله أكبر مرتين لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد

ويعتبر فيها ما يعتبر في الجمعة، والمذهب على هذا، فسقط السؤال. فظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا يكبر؛ لأنه قال: الذي نعرفه إنما يكبر الإمام ومن خلفه في المكتوبة، وهذه ليست مكتوبة، فلا يكبر لها؛ لأنها صلاة لم يشرع لها الأذان والإقامة. فعلى هذا: الاعتبار بصلاة الجماعة لصلاة شرع لها الأذان والإقامة. * * * 24 - مَسْألَة: تكبير التشريق أن يقول: الله أكبر الله أكبر مرتين لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد: نص على هذا في رواية أبي داود، والميموني، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يكبر ثلاثًا نسقًا فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر إلى آخره. دليلنا: ما تقدم من حديث جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: "مكانكم" ويقول: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". فإن قيل: لو كان هذا الحديث صحيحًا لم يخالفه جابر، وقد رُوي عن سعيد بن أبي هند أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - يكبر في صلاة التشريق: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثًا.

قيل له: قد يروي الحديث ويخالفه، ولا يدل على ضعفه؛ لجواز أن يكون قد نسي الحديث، ألا ترى أن ابن عباس - رضي الله عنهما -[روى] (¬1) حديث بريرة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها بعد العتق، وهذا الخبر يدل على أن العتق لا يكون طلاقًا. وروي عنه أنه كان يقول: بيع (¬2) الأمة طلاقها. وكذلك روى أبو هريرة - رضي الله عنه - (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسل الولوغ سبعًا. ثم روى عنه أنه كان يرى غسله ثلاثًا، ولم يدل ذلك على ضعف الرواية، كذلك ها هنا. ولأنها تكبيرات متوالية تفعل خارج الصلاة، فكانت شفعًا، دليله: تكبيرات الأذان. ولا يلزم عليه التكبير في صلاة العيد أن يكون وترًا؛ لقولنا بفعل خارج الصلاة. واحتج المخالف: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف وسعى صعد الصفا وقال: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر" ثلاثًا، ودعا عند ذلك، فثبت أنه مسنون. والجواب: أن خلافنا في التكبير خلف الصلوات الذي هو تكبير ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وبها يتم الكلام. (¬2) في الأصل: تبع. (¬3) في الأصل: وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي زائدة.

التشريق، وهذا التكبير لم يكن بين التشريق، وإنما كان على الوجه المستحب في حق الحاج أن يكبر كلما علا شرفًا. واحتج: بأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: روي عن جابر - رضي الله عنه - أنه كبر ثلاثًا. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ولا يكبر في المغرب يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا الله أكبر الله وأجل الله أكبر ولله الحمد. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو على كل شيء قدير. والجواب: أن المسألة خلاف في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي الأحوص عن عبد الله - رضي الله عنه - أنه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وعلى هذا اعتمد أحمد رحمه الله. وروى أيضًا النجاد بإسناده عن عاصم بن ضمرة أن عليًا - رضي الله عنه - كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وروى أيضًا بإسناده عن منصور بن إبراهيم قال: كانوا يكبرون يوم عرفة وأحدهم مستقبل القبلة حال الصلاة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

25 - مسألة: إذا غم هلال الفطر فلم يصل الإمام بالناس صلاة العيد حتى زالت الشمس، ثم علم بعد الزوال أنه رئي صلى بهم من الغد ما بينه وبين الزوال، وإن لم يصلها حتى زالت الشمس من ذلك اليوم لم يصل بهم بعد ذلك، وكذلك عيد الأضحى

وهذا إشارة إلى إجماعهم. واحتج: بأنه تكبير جعل شعارًا للعيد، فكان وترًا، دليله: التكبير في صلاة العيد (¬1). والجواب: أنا لا نسلم الأصل؛ لأن زوائد التكبير في الركعة الأولى ست، والسابعة هي تكبيرة الإحرام، وأما في الثانية فلعمري أنه وتر؛ لأنه يكبر خمسًا سوى تكبيرة الركوع، فعلم أن ليس العلة عندنا أنه يكبر فعل شعارًا للعيد؛ لأن هذا المعنى يوجد في الركعة الأولى وهو شفع، وإنما ذلك عندنا معتبر بالتكبيرات الراتبة، ويكون إلحاق هذا بالتكبير في الأذان أولى؛ لأنه يفعل خارج الصلاة، كما أن هذا التكبير يفعل خارج الصلاة، والله أعلم. * * * 25 - مَسْألَة: إذا غُمَّ هلال الفطر فلم يصل الإمام بالناس صلاة العيد حتى زالت الشمس، ثم علم بعد الزوال أنه رُئي صلى بهم من الغد ما بينه وبين الزوال، وإن لم يصلها حتى زالت الشمس من ذلك اليوم لم يصل بهم بعد ذلك، وكذلك عيد الأضحى: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية هارون بن عبد الله: ولو أن هلال ¬

_ (¬1) في الأصل: التكبير، والصواب المثبت.

شوال صحت رؤيته قبل الزوال أفطروا وصلوا، وإذا رُئي بعد الزوال أفطروا وخرجوا لعيدهم من الغد، واحتج بحديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله مثل قولنا في هلال الفطر، وأما الأضحى فإنه يصلي بهم في اليوم الثالث. وقال مالك رحمه الله: لا يُصلى العيد في غير يوم العيد. وللشافعي - رضي الله عنه - قولان: أحدهما: مثل قول مالك. والآخر: يصلي من الغد وبعد الغد، ولا يختلف مذهبه أن البينة إذا ثبتت بالليل صلى بهم الإمام من الغد. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن أبي عمير بن (¬1) أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن عمومته من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعمي علينا هلال شوال فصمنا، فجاء ركب من آخر النهار فقال: رأينا الهلال بالأمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفطروا واخرجوا غدًا لعيدكم". وفي لفظ آخر عن عمير بن أنس بن مالك عن عمومته من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أصبحوا صيامًا في شهر رمضان، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا وإذا أصبحوا غدوا إلى المصلى، وهذا نص. ¬

_ (¬1) في الأصل: عن، وهو خطأ.

فإن قيل: يحتمل أن يكون شهدوا بذلك ليلًا، فلهذا أمرهم بالخروج. قيل له: قد روينا في الخبر أن الركب جاءهم من آخر النهار فأمرهم بالفطر، ولو كان ليلًا لم يأمرهم بالفطر؛ لأنهم مفطرون، فسقط هذا. والقياس: أن رؤية الهلال ثبتت عند الإمام بعد فوات وقت صلاة العيد، فله أن يصلي بهم من الغد كما لو ثبت بالبينة بالليل. فإن قيل: إذا ثبت بالبينة بالليل حصل الفطر في الغد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون"، فإذا صلوا من الغد لم تكن صلاتهم قضاء، وليس كذلك إذا ثبت بالنهار؛ لأن الفطر يحصل في ذلك اليوم، فإذا صلوا من الغد كانت صلاتهم قضاء، وصلاة العيد لا تقضى. قيل له: إذا ثبتت الرؤية بالليل علم أن اليوم الذي صاموا فيه كان فطرًا، وأن وقت صلاة العيد قد فات، كما لو ثبت بالنهار بعد الزوال فإذا صلوا من الغد كانت قضاء؛ لأن القضاء هو أن يفعل بعد فوات الوقت على الوجه الذي يفعل في الوقت، وهذا المعنى موجود في الأصل المقيس عليه، ولا فرق بينه وبين مسألتنا. واحتج: بأنها صلاة لا تقضى بعد فوات وقتها في يومها، فوجب أن لا تقضى من الغد، كصلاة الكسوف، والجمعة. والجواب: أن صلاة الكسوف حجة لنا؛ لأنه لا فرق بين أن يعلم

26 - مسألة

بفوات وقتها بالنهار أو بالليل، فلما ثبت أنه إذا علم بالليل صلاها من الغد، كذلك إذا علم بالنهار. وأما الجمعة فإنها لا تقضى بحال، وليس كذلك هذه الصلاة؛ لأنها قد تفعل بعد خروج وقتها، وهو إذا شهد برؤية الهلال ليلًا فإنها تصلى من الغد، وإن كان الوقت قد فات. واحتج: بأنها لو كانت تقضى لوجب أن تقضى في يومها الذي هو أقرب إلى وقتها، فلأن لا تقضى في غدها الذي هو أبعد منه أولى. والجواب: أن الليلة التي تلي يوم الفطر أقرب إلى وقت صلاة العيد من الغد، ثم اتفقوا أنه لو علم بالفطر بالليل لم يقض فيه صلاة العيد وقضاها في الغد، كذلك إذا علم بالنهار. واحتج: بأن هذه صلاة يختص بها يوم العيد؛ لشرف اليوم وفضيلته، فإذا فات ذلك اليوم لم تقضى، كالوقوف بعرفة إذا فات وقته. والجواب: أن هذا يوجب أن لا تقضى وإن قامت البينة على الرؤية بالليل؛ ولوجب أيضًا أن لا يقضى صوم رمضان بعد مضي الشهر؛ لأن هذا الصوم خص به رمضان؛ لشرف الوقت وفضيلته، واتفقوا أنه يقضى مع وجود هذا المعنى، فبطل ما اعتبروه من هذا الباب، والله تعالى أعلم. * * * 26 - مَسْألَة فإن فاتته صلاة العيد مع الإمام استحب قضاءها في حال

الانفراد مع بقاء الوقت وبعد خروجه: نص عليه في رواية الجماعة خلافًا لأبي حنيفة، ومالك رحمهما الله في قولهما: لا قضاء. وللشافعي - رضي الله عنه - قولان، بناء على اختلاف قوله في قضاء النوافل الراتبة إذا فاتت. فالدلالة على أنها تقضى: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"، وهذا عام. ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: وروى أبو بكر الأثرم في مسائله قال: نا أبو الوليد نا أبو عوانة عن مطرف قال: حدثني الثقة عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال - رضي الله عنه -: من فاته العيد فليصل أربعًا. وروى أحمد عن هشيم قال: أنا عبيد الله بن أبي بكر أن أنسًا - رضي الله عنه - فاته العيد فأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فصلى بهم ركعتين، وهذا فعل ظاهر، ولم ينقل خلافه. ولأن كل صلاة صح قضائها بعد خروج وقتها مع الإمام صح قضاءها منفردًا، دليله: سائر الصلوات. وبيانه: ما تقدم من أنه إذا غم الهلال، فلم يصل الإمام بالناس حتى زالت الشمس، ثم علم بعد الزوال صلى بهم من الغد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند الشافعي - رضي الله عنه -: إذا علم بذلك في الليل، وعكسه الجمعة

إذا فاتت، لما لم يصح قضاء مع الإمام لم يصح منفردًا. فإن قيل: إذا ثبت بالبينة بالليل حصل الفطر في الغد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فطركم يوم تفطرون"، فلا يكون قضاء. قيل: القضاء هو: أن يفعل بعد فوات الوقت على الوجه الذي يفعل في الوقت، وهذا المعنى موجود إذا قامت البينة ليلًا، قد علم أن اليوم الذي صاموا فيه كان فطرًا، وأن وقت العيد قد فات. فإن قيل: لو كان قضاء لوجب أن ينوي نية القضاء، وأجمعنا على أنه يصلي مع الإمام بنية الأداء. قيل: من أين لك هذا؟ ولا يمتنع أن يقول: إنهم ينوون نية القضاء. وقياس آخر: وهو أن خروج وقت العيد لا يمنع من صحة القضاء، دليله: إذا غم الهلال وعلموا به بعد خروج الوقت. فإن قيل: حكم الوقت باق، بدليل: الإمام، والعدد، والخطبة. قيل: هذه المعاني موجودة في صلاة الجمعة ولا قضاء، فامتنع أن تكون العلة في هذا الموضع ما ذكرت. ولأنها صلاة مؤقتة فلم تسقط بفوات وقتها إلى غير قضاء كالوتر والفرض، ولا يلزم عليه صلاة الجمعة؛ لأنها تسقط إلى الظهر، ولا يلزم عليه الكسوف، والاستسقاء؛ لأنها غير مؤقتة. واحتج المخالف: بأنها صلاة شرع لها الخطبة، فلم يشرع قضاؤها كالجمعة، والاستسقاء، والكسوف.

فصل

والجواب: أن تلك الصلوات لا تقضى بحال، وليس كذلك العيد؛ لأنها تقضى، بدليل: إذا شهد برؤية الهلال ليلًا. واحتج: بأن هذه الصلاة خص بها يوم العيد؛ لشرف اليوم وفضيلته، فإذا فات ذلك اليوم لم يقض، كالوقوف بعرفة إذا فات وقته. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يقضى إذا قامت البينة على رؤية الهلال ليلًا، ويوجب أن لا يقضى صوم رمضان بعد مضي الشهر؛ لزوال فضيلته. واحتج: بأن هذه الصلاة كالجمعة في الشرط، بدليل: اعتبار العدد، والاستيطان، وإذن الإمام في إحدى الروايتين. والجواب: أنها قد فارقها في القضاء من الوجه الذي ذكرنا. * فصل: وإذا ثبت أنها تقضى ففي كيفية القضاء روايات: أحدها: تقضى أربعًا، نقلها أبو طالب، وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر. والثاني: يصليها كما يصلي الإمام ركعتين، نقلها بكر بن محمد، وأحمد بن الحسين، وهو قول الشافعي - رضي الله عنهم - على القول الذي نقول: إنها تقضى، وبه قال أبو ثور. والثالث: أنه مخير بين أن يصلي أربعًا أو ركعتين. فالدلالة: على أنها تصلى أربعًا ما تقدم: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -

قال: من فاته العيد فليصل أربعًا. وروى الأثرم في مسائله: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن محمد بن النعمان عن أبي قيس عن الهذيل أن عليًا - رضي الله عنه - أمر رجلًا أن يصلي بضعفة الناس يوم العيد في المسجد أربع ركعات، ومعلوم أنه - رضي الله عنه - لم يستخلف عليهم من يصلي بهم صلاة العيد أداء؛ لأن الأداء لا يكون أربعًا، وإنما يكون ركعتين، علم أنه استخلف عليهم من يصلي بعد فوات الصلاة معه. فإن قيل: يعارض هذا ما رواه وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق أن عليًا - رضي الله عنه - أمره أن يصلي ركعتين. قيل: هذا مرسل، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فيه الحارث؟ قال: لا، هو مرسل. والحديث الذي رويناه متصل، والمتصل أولى من المرسل؛ ولأنها صلاة شرع لها الخطبة، فإذا فاتت لم تصل ركعتين، دليله: الجمعة. فإن قيل: الجمعة إحالة فريضة كما كانت، فإذا فاتت رجع إلى الأصل، وليس كذلك العيد؛ لأنها أصل في نفسها، فكان القضاء كالأداء. قيل: لا نسلم أن الجمعة إحالة فريضة، بل هي أصل في نفسها، ولهذا يدخل وقتها بدخول وقت صلاة العيد، وليس هذا وقت صلاة الظهر؛ ولأنها وإن كانت أصلًا في نفسها، فالقضاء يخالف الأداء؛ لأن الخطبة تسقط في القضاء.

واحتج المخالف: بما روي عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الناس بالبصرة جمع أهله وولده وصلى ركعتين. والجواب: أنه يعارضه ما رويناه عن علي، وابن مسعود - رضي الله عنهما -، وعلى أنه يحتمل أن يكون أنس صلى صلاة العيد أداء في وقتها، واعتقد أنه يجوز إقامة العيد مرتين، ولهذا جمع أهله وولده. واحتج: بأنها أصل في نفسها، فكان قضاؤها مثل أدائها، كسائر الصلوات. والجواب عنه: أن سائر الصلوات لم يشرع لها الخطبة، وهذا شرع لها الخطبة، فهي كالجمعة. واحتج: بأنه لو وجب قضاؤها أربعًا إذا فاتت، لوجب قضاؤها إذا أدرك الإمام جالسًا في التشهد كالجمعة، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل فيمن فاتته صلاة العيد وأدرك التشهد مع الإمام: يصلي ركعتين، فإن أدرك الجمعة كذلك صلى أربعًا. والجواب: أنه إنما صلى ركعتين؛ لأنه قد أدرك الخطبتين وبعض الصلاة مع الإمام، فهو كما لو أدرك معه ركعة، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه لم يدرك الصلاة معه ولا شيئًا منها، فلهذا فرقنا بينهما. وأما الجمعة فلأن الخطبة تتقدمها، فإذا أدركه في التشهد فلم يدرك الخطبة ولا ما يعتد به. ووجه الرواية الثانية: أنها صلاة قد أخذت شبهًا من صلاة الجمعة،

27 - مسألة: صلاة الكسوف ركعتان يركع في كل ركعة ركوعين

بدليل: الخطبة، والجهر، وعدد الركعات، وشبهًا من صلاة الفجر؛ لأنها أصل في نفسها، فلهذا كان مخيرًا بين الأربع كالجمعة، وبين الركعتين، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 27 - مَسْألَة: صلاة الكسوف ركعتان يركع في كل ركعة ركوعين: نص على هذا في رواية ابن القاسم، وسندي الخواتيمي (¬1)، والفضل بن عبد الصمد، وبكر بن محمد عن أبيه، وإسحاق بن إبراهيم، وصالح، والفضل بن زياد، والمروذي، وهو قول مالك، والشافعي - رضي الله عنهم -. وروى شيخنا أبو عبد الله في كتابه، وأبو بكر عبد العزيز عن إسماعيل بن سعيد عن أحمد رحمه الله أنه قال: يصلي في كسوف الشمس، والقمر، والزلزلة في جماعة ثمان ركعات، وأربع سجدات، ومعناه: يصلي ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات. قال أبو بكر: ما رواه إسماعيل عنه لو فعله فاعل لم يكن عليه جناح، والاختيار حديث عائشة، وابن عباس - رضي الله عنهم -. وقال أبو حنيفة رحمه الله: صلاة الكسوف كهيئة صلاتنا، ثم الدعاء حتى تنجلي. ¬

_ (¬1) في الأصل: سندي والخواتيمي، وهو خطأ.

دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قيامًا طويلًا قال: نحو سورة البقرة قال: ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله - عز وجل -". وروى أيضًا في لفظ آخر بإسناده عن كثير بن عباس عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. وروى أيضًا بإسناده عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس ثماني ركعات وأربع سجدات. وروى أيضًا بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: انكسفت الشمس في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام فأطال القيام، حتى قيل: لا يركع من طول قيامه، ثم ركع فأطال الركوع، حتى قيل: لا يرفع من طول ركوعه، ثم انتصب قائمًا فقام كنحو قيامه الأول أو أدنى شيئًا، ثم ركع كنحو ركوعه الأول أو أدنى شيئًا، ثم انتصب فسجد، ثم قام في الركعة الأخرى، ففعل مثل ذلك، ثم أقبل على الناس فقال: "أيها الناس إن كسوف الشمس

والقمر ليس لموت أحد ولا حياته، ولكنهما آيتان من آيات الله - عز وجل -، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة". وروى أيضًا بإسناده عن عروة عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر وكبر الناس ثم جهر بالقراءة وأطال ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه فقال: "سمع الله لمن حمده" ثم رفع رأسه ففتح بالقراءة فأطال ثم ركع فأطال الركوع ثم سجد ثم قام ثم فعل في الثانية مثل ذلك ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا فعل ذلك فافزعوا للصلاة". وفي لفظ آخر رواه بإسناده عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف الشمس أربع ركعات وأربع سجدات فقرأ في الأولى بالعنكبوت وفي الثانية بلقمان. وروى بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنودي بالصلاة جامعة، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جُلَّي عن الشمس. وهذه الأخبار نصوص في المسألة. فإن قيل: هذه أخبار آحاد وهي مخالفة للأصول، فلا يجب العمل بها. قيل: ليست مخالفة للأصول؛ لأن الأصول هي: الكتاب، والسنة المتواترة، وإجماع الأمة، وليس معنا واحد من ذلك يمنع صحة هذه

الصلاة، وإنما هي مخالفة لقياس الأصول، وهذا جائز، ويجب تقديمها على القياس، كما قدم أبو حنيفة رحمه الله من أكل ناسيًا في صومه لا يفطر، والقياس: أنه يفطر، إلا أنه ترك القياس لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - استحسانًا، وترك الوضوء بنبيذ التمر على قياس الأصول، كذلك ها هنا. فإن قيل: فقد روي في حديث جابر - رضي الله عنه - في كل ركعة ثلاث ركعات، رواه أبو بكر النجاد. وفي حديث علي - رضي الله عنه - في كل ركعة أربع ركعات، رواه النجاد. وفي حديث أبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسجد سجدتين وجلس كما هو مستقبل القبلة يدعو، رواه أيضًا النجاد. وقد ثبت أنه لا يركع في ركعة ثلاث ركعات ولا أربع ولا خمس ركعات، كذلك لا يركع ركوعين. قيل له: إذا لم يركع ثلاثًا وخمسًا، يجب أن لا يركع ركوعين، وقد علمنا أن ما زاد على الركوعين قد قام الدليل عليه، فأخرجناه، فيجب أن يبقى ما عداه على موجب الخبر، وعلى أنا نقول: جميع ذلك جائز، وإنما نقول: الأولى أن يركع في كل ركعة ركوعين، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف أخبار مختلفة على حسب الحال وكلها جائزة وإنما بعضها أولى من بعض، وإنما كان مذهبنا إليه أولى لأنه أصح سندًا من غيره.

قال أحمد رحمه الله في رواية حبيش بن سندي وقد ذكر له صلاة الكسوف فقال: أصحها حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، والزهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنهم -، وإليه أذهب، فقيل له: روي عن جابر، وزعموا أنه أصح شيء في الباب؟ فقال: هذا أو هذا حديث منها. ولأن ما ذهبنا إليه عملت عليه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -: فروى النجاد بإسناده عن أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - قال: كسفت الشمس في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وبالمدينة عبد الله بن مسعود قال: فخرج عثمان - رضي الله عنهما - فصلى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجدتين في كل ركعة ثم انصرف عثمان. وروى أبو بكر الخلال في كتاب العلل بإسناده عن أبي أيوب الهجري قال: انكسفت الشمس على عهد ابن عباس - رضي الله عنهما - بالبصرة وهو أمير عليها، فقام فصلى فقرأ فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع فأطال القيام، ثم سجد، ثم قام ففعل في الثانية مثل ذلك. وهذا يدل على أن الأفضل ما ذهبنا إليه، وأن حكمه باق ولم ينسخ. والقياس: أن الصلاة على ضربين: فرض ونفل، ثم ثبت أن من الفرائض ما يختص بزيادة معنى وهو صلاة العيد عندنا، وعندهم أنها فرض وقد اختصت بزيادة التكبير، وصلاة الجنازة أيضًا، كذلك جاز أن

يكون من النوافل ما يختص بزيادة معنى يباين به سائر النوافل، وليس في النوافل ما تباين به إلا مسألتنا. واحتج المخالف: بما روى علي، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عمرو، وسمرة بن جندب، وأبو بكرة، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف الشمس ركعتين كهيئة صلاتنا وهيئة صلاتنا المعهودة في كل ركعة ركوع واحد. وروى عبد الله قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتمو ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة. وظاهره يقتضي أن يكون كهيئة صلاتنا المعهودة. والجواب: أن قوله: كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة، مطرح بالإجماع؛ لأن أحدًا لا يعتبر صلاة الكسوف بصلاة الفريضة، وعلى أنا نعارض ما رواه بأخبارنا، وهي أولى من وجوه: أحدهما: أن الصحابة - رضي الله عنهم - عملت بها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روينا عن عثمان، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وما عملت عليه الصحابة فهو أولى. والثاني: أنها أصح سندًا؛ لأنا قد حكينا قول أحمد رحمه الله أنه قال: أصحها حديث ابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم -، وما صحت روايته كان أولى من غيره. والثالث: أن أخبارنا فيها زيادة، والأخذ بالزيادة أولى.

وجواب آخر: وهو أنا نحمل أخبارهم على أنه فعل ذلك ليبين الجواز، وأخبارنا لبيان الفضيلة والمسنون، ويحتمل أن يكون صلى على تلك الصلاة لاختلاف الحال، وهو أنه افتتحها فانجلت الشمس فخفف، وافتتحها فلم تنجل فأطال على ما تقدم في خبرنا، فيكون فيه جمع بين الأخبار. فإن قيل: فنحن نستعمل أخباركم على معنى أن الراوي كان بعيدًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أطال الركوع ظن الناس أنه قد رفع فرفعوا فرآهم الراوي فظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رفع، ثم لما لم يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد القوم إلى الركوع فظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ثانيًا فنقل على هذا الوجه. قيل له: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف، وهكذا رواه النجاد، ومن كان خلفه لا يفوت عليه هذا. والثاني: أن الراوي إذا أضاف الفعل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الظاهر أنه تحقق ذلك وعرفه، فلا يجوز حمله على الخطأ في ذلك، وعلى أن هذا إن كان قد وقع في الركعة الأولى فلا يجوز أن يقع مثله في الثانية، وقد فعل ما ذكرنا في الركعتين جميعًا. فإن قيل: فأخبارنا أولى من وجوه: أحدها: أن أخبارنا متفق على استعمالها وخبركم مختلف في استعماله، والمتفق على استعماله أولى من المختلف فيه.

والثاني: أن أخبارنا تشهد الأصول لها وهي سائر الصلوات، وأخباركم تخالف الأصول. والثالث: أن قوله: "كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" قول، وما رأيتموه حكاية فعل، والفعل لا يعارض القول. قيل: أما قولك: إنها متفق على استعماله، فلا نسلم لك هذا؛ لأن عندنا أنه متى صلى ركعتين كسائر الصلوات على ظاهر الأخبار التي يرويها فقد خالف السنة، وكان تاركًا لها، فلا نسلم الاتفاق. أما قولهم: بأن أخبارنا تشهد لها الأصول، وهي سائر الصلوات، فقد بينا أن الصلوات في ذلك منقسمة، وأن صلاة العيد تشهد لقولنا. وأما قولكم: إن أخبارنا قول، وهو قوله: "فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة" فقد بينا أن هذا اللفظ مطرح بالإجماع، وعلى أن في خبر ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف فوصف مثل مذهبنا قال: ثم أقبل على الناس فقال: "إن كسوف الشمس والقمر ليس لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة"، وهذا أمر وظاهره ينصرف إلى الصلاة المعهودة التي فعلها. واحتج: بأنها صلاة من الصلوات فوجب أن لا يكون في ركعة منها ركوعان، دليله: سائر الصلوات. والجواب: أن هذا قياس يعارض النص، فلم يصح الاحتجاج به،

28 - مسألة: المستحب في خسوف القمر أن يصلوا في جماعة، كما يصلون في كسوف الشمس

وعلى أنا قد بينا أن الصلوات منقسمة منها ما يختص بمعنى يباين سائر الصلوات وهو العيد، كذلك جاز أن يكون من جنس النوافل ما يختص بمعنى يباين سائر النوافل، والله أعلم. * * * 28 - مَسْألَة: المستحب في خسوف القمر أن يصلوا في جماعة، كما يصلون في كسوف الشمس: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد: صلاة كسوف الشمس، والقمر، والزلزلة يصلون جماعة ثمان ركعات وأربع سجدات. فنص على أن الجماعة مستحبة في خسوف القمر مثل كسوف الشمس، وبه قال الشافعي رحمه الله. قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: ليس في خسوف القمر صلاة مسنونة في جماعة، ويصلون في بيوتهم فرادى كهيئة صلاتنا. دليلنا: ما روى ابن المنذر في كتابه عن الحسن البصري - رضي الله عنه - قال: خسف القمر وابن عباس أمير على البصرة في زمان علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، ثم خرج يصلي بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب، وقال: إنما صليت كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي. وهذا يدل على أن السنة في خسوف القمر كالسنة في كسوف الشمس.

فإن قيل: هذا غير معروف، وإنما المعروف: أنه صلى بنا لكسوف الشمس. قيل له: قد بينا أن ابن المنذر نقله في كتابه، وأيضًا ما روى عن عائشة، وابن عمر - رضي الله عنهم - وغيرهما، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى لكسوف الشمس وقال: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"، فوجه الدلالة: أنه سوى بينهما في الأمر بالصلاة، والفزع إليها، فدل على أن حكمهما واحد في صفة واحدة. فإن قيل: الخبر يقتضي الحث على الصفة، وليس فيها بيان الصفة. قيل له: لما سوى بينهما في الأمر دل على التسوية في الصفة. والقياس: أنه كسوف يُصلى لأجله فكان من سنته الجماعة، دليله: كسوف الشمس، وإن شئت قلت: كسوف واحد النيِّرين، فاستحب له الاجتماع كالشمس. واحتج المخالف: بما روى علقمة عن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله تعالى وسبحوه وكبروه حتى تنجلي"، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى ركعتين. وروي أنه قال: "فإذا رأيتم شيئًا من هذه الأفزاع فافزعوا إلى الصلاة"، ولم يذكر الجماعة.

والجواب: أنا قد جعلنا ذلك حجة لنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف في جماعة ثم عطف عليها الأمر بالصلاة لخسوف القمر، فدل على اتفاقهما في الصفة. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". والجواب: أن هذا عموم نخصه، ونحمله على غير الخسوف بما تقدم. واحتج: بأنه قد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - خسوف القمر كما كان كسوف الشمس، فلو كانت فيه صلاة مسنونة في جماعة، لفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو فعل لنقل كما نقل في كسوف الشمس. والجواب: أنه قد فعل ذلك وأمر به على الوجه الذي رويناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره. واحتج: بأن خسوف القمر في الغالب يتفق في وقت يتعذر على الناس الاجتماع فيه، فيجب أن لا يكلفوا ذلك كما نقول في صلاة الليل. والجواب: أن الكسوف قد يكون في وقت العتمة في وقت لا يتعذر الخروج، ويكون بمنزلة خروجهم [إلى] العشاء الآخرة، وعلى أن المشقة لا تسقط العبادات؛ لأنها موصولة بالمشاق، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، وعلى أن هذا يبطل بالتراويح. واحتج: بأنها صلاة تفعل ليلًا لحادث أشبه الزلزال.

29 - مسألة: السنة في صلاة كسوف الشمس الجهر بالقراءة

والجواب: أنه يستحب فعل ذلك في جماعة، وقد نص عليه أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى، وعلى أن لا تأثير له عندك؛ لأن الزلازل لا فرق بين أن تكون ليلًا أو نهارًا. واحتج: بانها صلاة نافلة تختص بالليل في رمضان وغيره، أشبه النافلة بالليل. والجواب: أن اعتبار هذه بكسوف الشمس أولى بغيرها من النوافل؛ لما بينهما من المشاركة في الاسم والمعنى، والله أعلم. * * * 29 - مَسْألَة: السنة في صلاة كسوف الشمس الجهر بالقراءة: نص عليه في مواضع في رواية أبي داود: يجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس. وقال أيضًا في رواية صالح، وابن منصور، وقد سئل: هل يعلن أو يسر؟ فقال: حديث الزهري أنه جهر. وقال أيضًا في رواية الميموني: إن جهر لم أكرهه، وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي - رضي الله عنهم -: يسر بالقراءة. دليلنا: ما روى أحمد - ذكره أبو بكر - قال: حدثنا عبد الصمد

قال: حدثنا سليمان بن كثير قال: حدثنا الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلى فكبر وكبر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فقال: "سمع الله لمن حمده" ثم قام فقرأ فأطال القراءة، ثم ركع وأطال الركوع، ثم رفع رأسه، ثم سجد، ثم قام ففعل في الثانية مثل ذلك ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة". وروى النجاد بإسناده عن الحسن - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف الشمس ركعتين يقرأ في إحداهما بالنجم. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: روى النجاد بإسناده عن حنش عن علي - رضي الله عنه -: أنه جهر بالقراءة. وبإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قرأ في صلاة الكسوف في الركعة الأولى بالبقرة وفي الركعة الأخرى بسورة آل عمران. وبإسناده عن عامر قال: عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وأنا شاهد في كسوف الشمس بالبقرة (¬1)؛ لأنها صلاة نفل من لها الجماعة، فسن لها الجهر، كصلاة التراويح، وصلاة الاستسقاء. ولا يلزم عليه صلاة الجنازة أنه يسر فيها بالقراءة، نص عليه في ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والمراد: أنه قرأ بسورة البقرة في صلاة الكسوف.

30 - مسألة: ليس في صلاة الخسوف خطبة

رواية حرب، ومهنا؛ لأنها يسن لها الجماعة، لا يلزم عليه سائر النوافل؛ لأنه لم يسن لها الجماعة. واحتج المخالف: بما روى النجاد بإسناده عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس فلم أسمع له صوتًا. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفًا من القراءة. والجواب: أنه يحتمل أن يكون سمرة، وابن عباس - رضي الله عنهم - في آخر باب الصفوف. وعلى أنا نعارضه بأخبارنا وهي أولى؛ لأن فيها زيادة، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - عملت عليها. واحتج: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة النهار عجماء". والجواب: أنه محمول على غير الكسوف، بدليل: ما تقدم. واحتج: بأنها صلاة نهار يفعل مثلها ليلًا فكان من سنتها الإسرار كالظهر، والعصر. والجواب: أن إلحاق هذه بالتراويح، والاستسقاء أولى؛ لمساواتها في أنها نافلة، وأنها لعارض، والله تعالى أعلم. * * * 30 - مَسْألَة: ليس في صلاة الخسوف خطبة:

وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: لا خطبة في الاستسقاء. والكسوف مبني على ذلك. وبه قال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: تستحب الخطبة لصلاة الخسوف والكسوف بعد الصلاة خطبتان (¬1) كما يخطب لصلاة العيد. فالدلالة على أن الخطبة غير مستحبة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"، ولم يذكر الخطبة. ولأنها صلاة يجوز لكل واحد فعلها على الانفراد، فلم تشرع الخطبة بعدها، دليله: سائر الصلوات، وعكسه الجمعة، والعيد أنه (¬2) لما لم يصح فعلها حال الانفراد شرعت الخطبة فيها، ولم تشرع في الاستسقاء؛ لأنه لا خطبة فيها، ولأن خطبتي الجمعة قائمة مقام الركعتين، وخطبتي العيد يُعرِّفهم فيها ما يخرجون من صدقة الفطر والأضحى، وليس في صلاة الكسوف معنى يقتضي الخطبة؛ لأن المقصود كثرة الدعاء، وليس هذا معنى نحتاج فيه إلى أن تعلم، فلم يشرع له الخطبة، كسائر الصلوات. واحتج المخالف: بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس فقام فأطال القيام إلى أن قالت: ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فخطب ¬

_ (¬1) في الأصل: خطبيتن. (¬2) في الأصل: أن.

الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتضرعوا" ذكره النجاد وغيره. والجواب: أنه يجوز أن يكون دعاء فظن السامع أنه قاله على وجه الخطبة، ويحتمل أن يكون خطب؛ لأن الناس قالوا: انكسفت الشمس لموت إبراهيم فخطب الناس ليرد عليهم هذا القول، والدلالة عليه: أنه لما ذكر في خطبته أن الكسوف ليس لموت أحد ولا لحياته دل على أن الخطبة سببه. واحتج: بأنها صلاة سن لها اجتماع الكافة فسن لها الخطبة، دليله: صلاة العيدين. والجواب: أن صلاة العيدين لا يصح فعلها في حال الانفراد، أو نقول: الخطبة في صلاة العيد تفيد معنى، وهو بيان ما يخرجون في الفطر والأضحى، وهذا معدوم ها هنا. فإن قيل: فها هنا يحتاج إلى الوعظ والتذكير والتوبة والحث على الصدقة ورد المظالم للعباد. قيل: فيجب أن يخطب في الزلازل، والأرياح (¬1)، والعواصف، وكثرة الأمطار؛ لأنه يحتاج في ذلك إلى الوعظ والتذكير، وقد قلت: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وهو جمع ريح، وقيل: هذا الجمع وهم وخطأ، وفي صحته نزاع. فلينظر.

31 - مسألة: يصلي الإمام بالناس صلاة الاستسقاء ركعتين

لا يخطب كذلك ها هنا، والله أعلم. * * * 31 - مَسْألَة: يصلي الإمام بالناس صلاة الاستسقاء ركعتين: نص عليه في رواية حنبل فقال: يصلي ركعتين مثل صلاة العيد، ويبدأ بالصلاة قبل الخطبة. وهو قول مالك، والشافعي، وأبي يوسف، ومحمد، وداود رحمهم الله. وقال أبو حنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة، ولكن يخرج الإمام فيدعو. قال الرازي: معناه: ليس فيه صلاة مسنونة ولا واجبة. ومعنى معناه: أن يكره أن تصلى، كما قالوا: التعريف ليس بشيء. ومعناه ليس بشيء مسنون. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عباد بن تميم عن عمه - رضي الله عنهما - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما، وحول رداءه، ورفع يديه، واستسقى، واستقبل القبلة. وروى أحمد رحمه الله - ما ذكر النجاد - قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر حدثنا أنه سمع عباد بن تميم يحدث أباه (¬1) عن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وليست في المسند.

عمه عبد الله بن زيد الذي أُرِي النداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يستسقي، واستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى ركعتين. وروى أحمد رحمه الله - ذكره النجاد - قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم قال: حدثني أبي قال: سمعت نعمان بن راشد يحدث عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي يومًا، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطب، ودعا الله تعالى، وحول وجهه نحو القبلة رافعًا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن. وروى النجاد بإسناده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى فصلى قبل أن يستسقي. وروى النجاد بإسناده عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: بعثني مروان إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فسألته عن سنة الاستسقاء؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سنة الاستسقاء سنة العيدين إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر التكبير في الاستسقاء، وأنه كبر سبع تكبيرات في الأولى، وفي الثانية خمس تكبيرات. وفي لفظ آخر رواه بإسناده عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة عن أبيه قال: أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أسأله عن الصلاة في الاستسقاء؟ فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟ خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متخشعًا متبذلًا متضرعًا فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين ثم خطب خطبة ذكرها.

وروى النجاد بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قحط المطر، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد على المنبر، ثم نزل فصلى. وروى أيضًا بإسناده عن صالح مولى التوأمة عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ثم خطب، وحول رداءه، واستقبل القبلة. وهذه الأخبار نصوص في المسألة. فإن قيل: يحمل ذلك على الجواز. قيل له: إن ابن عباس - رضي الله عنهما - صرح بأنه سنة الاستسقاء، ولأن السنة ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد استسقى بالصلاة، فيجب أن يكون هو السنة. ولأنه قد سن الاجتماع، والدعاء لطلب الحاجة، فوجب أن تكون الصلاة مسنونة قياسًا على الكسوف. ولأن (¬1) أعم ضررًا من الكسوف؛ لاتصاله بضرر أقوات الآدميين والبهائم، واتفقوا على [أن] الصلاة للكسوف مسنونة، فلانقطاع المطر وحدوث الجذب والقحط أولى. واحتج المخالف: بما روي عن أنس - رضي الله عنه -: أنه أصاب أهل المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحط، وروى: أصاب الناس سنة فبينما ¬

_ (¬1) عبارة ليست واضحة؛ لسواد عليها، والمعنى: أن احتباس المطر أعظم ضررًا من الكسوف.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل، وروى: وأجدبت الأرض، وروى: هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا، فمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ودعا، فقال أنس: وإن السماء كمثل الزجاجة ليس فيها قزعة، فهاجت ريح، وثارت سحابة كأنها جبل، وأرسلت السماء غزائلها، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله هدمت البيوت، وتقطعت السبل، فادع الله أن يحبسها، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومد يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، وروى "على الآكام ومنابت الشجر" فتقشعت السماء حتى صارت كالإكليل حول المدينة. فوجه الدلالة: أنه اقتصر على الدعاء، ولم يصل، فلو كانت مسنونًا لما تركها. والجواب: أن تركها في هذه الحال لا يدل على أنها ليست مسنونة؛ لأن ترك المسنون يجوز، ولأنه تركها لعذر، وهو أنه كان يخطب للجمعة في تلك الحال. وعلى أن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن [شريك بن] (¬1) عبد الله بن أبي نمر عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فاستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى ركعتين. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والاستدراك من "الصحيحين".

واحتج بما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه استسقى بعم النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس - رضي الله عنه - فقال: اللهم هذا عم نبيك نتوسل به إليك، وما زاد على الاستغفار، وقيل له في ذلك فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها الغيث، ثم تلا قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11]، فلو كان هناك صلاة مسنونة لما تركها عمر - رضي الله عنه -. والجواب: أن هذه حجة لنا؛ لأن القوم خاطبوه في ذلك، وهذا مطالبة منهم بالصلاة، فدل على أنه كان مشهورًا بينهم، ولكن تركه واقتصر على الدعاء؛ لأنه يجوز ذلك. وقد روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن جده فقال: رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج يستسقي، فكبر وصلى ركعتين بالناس، ثم خطب، ثم استقبل القبلة، ورفع يديه مدًا، وحول رداءه، وأنا في الصف الرابع، وإني لأسمع تسبيح عمر - رضي الله عنه -. وروى أيضًا عن عروة بن أذينة عن أبيه قال: رأيت عثمان - رضي الله عنه - استسقى بالمصلى فرأيته صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب الناس، ثم حول وجهه إلى القبلة، ورفع يديه، وحول رداءه، فجعل اليسار على اليمين واليمين على اليسار. وهذا يدل على أنه كان مشهورًا بينهم الصلاة. واحتج: بأنه لا خلاف أنه ليس في الزلازل، والرياح، والعواصف، وكثرة الأمطار، صلاة مسنونة، والمعنى فيه خوف الضرر منها في الدنيا،

32 - مسألة

وهذا المعنى موجود في مسألتنا، ولا يلزم عليه الكسوف، ولأنه لا يخاف منه الضرر في الدنيا، وإنما فيه تذكير لأمر الآخرة؛ لأن من علامات الآخرة، [كثرة] (¬1) الجدب والقحط، فإنه يخاف منه ضرر في الدنيا كالزلازل والرياح والعواصف. والجواب: أن أحمد رحمه الله قال في رواية إسماعيل بن سعيد: يُصلى جماعة لكسوف الشمس، والقمر، والزلزلة، ثمان ركعات وأربع سجدات، وهذا يدل على [أن] (¬2) الأصل غير مسلم، وأنه يستحب الصلاة لأجل ذلك؛ لما فيه من خوف الضرر منها في الدنيا، فهو كصلاة الاستسقاء؛ لما فيها من خوف الضرر في الدنيا. وقد روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن البصرة زلزلت، فقام ابن عباس - رضي الله عنهما - فقرأ ثم ركع ثم قام، فقال أحدهما: قرأ، وقال الآخر: دعا، فصلى ست ركعات في ركعة ثلاث ركوعات، وهذا يدل على أنه كان مشهورًا بينهم، وعلى أن هذا الاعتبار يبطل بالكسوف، فإنه يخاف منها الضرر، والله تعالى أعلم. * * * 32 - مَسْألَة صفة صلاة الاستسقاء مثل صلاة العيدين، يكبر في الأولى ¬

_ (¬1) سواد في الأصل بمقدار كلمة، وبها يستقيم الكلام. (¬2) ليست في الأصل، وبها يستقيم الكلام.

سبعًا وفي الثانية خمسًا، ويجهر بالقراءة: ذكره في رواية حنبل، وقد حكيناه فيما تقدم من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف قال: بعثني مروان إلى ابن عباس فسألته عن سنة الاستسقاء؟ فقال: سنة الاستسقاء سنة العيدين إلا أن رسول الله كان يكبر التكبير في الاستسقاء، وإنه كبر سبع تكبيرات في الأولى، وكبر في الثانية خمس تكبيرات. وروى إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال: سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الاستسقاء فقال: يكبر في الأولى سبعًا وفي الآخرة خمسًا. وروى [ ... ] (¬1) عن جعفر بن محمد عن أبيه - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وعن أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما - مثله. ولأنها صلاة شرع فيها الصحراء، والخطبة، فأشبه صلاة العيد. واحتج المخالف: بما روى النجاد بإسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى فصلى سجدتين قبل الخطبة لم يكبر إلا تكبيرة افتتح بها الصلاة، وقرأ فيها ثم خطب. والجواب: أنا قد روينا أنه كبر سبعًا وخمسًا، وهذا زائد فهو أولى. واحتج بأنها غير عيد أشبه سائر النوافل. ¬

_ (¬1) سواد في الأصل.

33 - مسألة: ليس في صلاة الاستسقاء خطبة، ولكن يدعو الإمام، ويكثر من الاستغفار

والجواب: أن إلحاقها بصلاة العيد أشبه؛ لما بينهما من الشبه، والله تعالى أعلم. * * * 33 - مَسْألَة: ليس في صلاة الاستسقاء خطبة، ولكن يدعو الإمام، ويكثر من الاستغفار: نص على هذا في رواية المروذي، ويوسف بن موسى وقد سئل عن الاستسقاء هل فيه خطبة؟ فقال: ليس فيه خطبة. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال الخرقي: فيصلي بهم ثم يخطب، ويستقبل القبلة، ويحول رداءه. وظاهر هذا الكلام: أن الخطبة مستحبة، وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية [ ... ] (¬1) ويصلي ركعتين، ويبدأ بالصلاة قبل الخطبة. وعندي أن هذا محمول على أنه أراد بالخطبة الدعاء. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يخطب خطبتين كالعيد بعد الصلاة، ويكون الدعاء في بعض الخطبة الثانية مستقبل القبلة. ¬

_ (¬1) سواد في الأصل، وينظر: الروايتين (1/ 193).

والدلالة على أنه لا خطبة هناك: ما روى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال: أخبرني أبي قال: أرسلني الوليد بن عقبة وكان أمير المدينة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواضعًا متضرعًا حتى أتى المصلى، فدعا على المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع، ثم صلى ركعتين كما صلى في العيدين. وهذا نص في أنه عليه السلام لم يخطب، وإنما دعا. وروى أيضًا بإسناده عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فما زاد عن الاستغفار. ولأنها صلاة يجوز لكل أحد فعلها على الانفراد، فلم يشرع لها خطبة، دليله: سائر الصلوات. ولا يلزم عليه الجمعة والعيدان؛ لأنها لا تفعل في حال الانفراد. ولأن المقصود كثرة الدعاء، والمسألة لما نزل بهم من القحط، ولهذا قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11]، وإذا كان هذا [ ... ] (¬1) هو المقصود فلا معنى للخطبة؛ لأن الدعاء يأتي على المقصود. واحتج المخالف: بما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) سواد في الأصل.

34 - مسألة: والإمام مخير بين أن يدعو قبل الصلاة وبعدها

قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي يومًا فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة وخطبنا ودعا وحول وجهه نحو القبلة رافعًا يديه يدعو، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن الأيسر والأيسر الأيمن. والجواب: أنا نحمل قوله: "وخطب" على الدعاء، فظن السامع أنه قاله على وجه الخطبة. واحتج: بأنها صلاة سن لها اجتماع الكافة، فسن لها الخطبة كالعيدين. والجواب: أن الخطبة يحتاج إليها ليعلمهم ما يخرجون في الفطر والأضحى، وها هنا المقصود هو الدعاء، وقد أتى به، فلم يحتج إلى خطبة معه، والله أعلم. * * * 34 - مَسْألَة: والإمام مخير بين أن يدعو قبل الصلاة وبعدها: نص على هذا في رواية الميموني وقد سئل عن الدعاء هل هو قبل أو بعد؟ فقال: لم أسمع فيه شيئًا، وقبل وبعد واحد، وأي شيء دعا به فهو جائز. وقال الخرقي: يصلي بهم ركعتين ثم يخطب. فظاهر هذا أنه يؤخر ذلك إلى بعد الصلاة، وقد أومأ إليه أحمد

رحمه الله في رواية حنبل: يصلي ويبدأ بصلاة قبل الخطبة، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه -. دليلنا أن الأخبار [في ذلك] (¬1) مختلفة، فروى النجاد بإسناده في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا ركعتين وخطبنا ودعا. وروى أيضًا عن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى فصلى قبل الخطبة. وروى جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى فصلى قبل أن يستسقي. وروى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ثم خطب وحول رداءه. وهذه الأخبار تدل على التأخر. وروى أيضًا النجاد بإسناده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء خطب قبل الصلاة ثم قلب رداءه ثم دعا. وروت عائشة رضي الله عنها قالت: شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قحط المطر، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد على المنبر ثم نزل فصلى. ورُوي عن جابر، وأنس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يستسقي فبدأ بالخطبة ثم صلى ركعتين. وهذه الأخبار تدل على التقديم، فدل من هذا أنه لا توقيت في ¬

_ (¬1) طمس في الأصل، وبها يستقيم المعنى.

35 - مسألة: إذا مضى صدر من الدعاء، واستقبل القبلة بذلك، استحب للإمام أن يحول رداءه، واستحب للناس أيضا أن يحولوا أرديتهم كالإمام

ذلك، وأنه قبل وبعد سواء في الاستحباب والجواز. ولأن المقصود الدعاء، وسؤال المطر، فكان تقديم المقصود وتأخير غيره أولى، فلما لم يجز تقديمه، فلا أقل من أن يكون ذلك سواء. وذهب المخالف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر الخطبة بعد الصلاة. والجواب: أنا قد روينا أنه قدم فتعارضا. واحتج: بأنه يشرع لها الصحراء فكانت الخطبة بعدها كالعيد. والجواب: أنا قد بينا أنه لا خطبة فيها وإنما فيها دعاء، وعلى أنه إنما أخرت الخطبة في العيد؛ لأن بيان المقصود يوجد بعد الصلاة، وهو عند انصرافهم إلى بيوتهم، فنبين لهم قدر ما يخرجون في الفطر والأضحى، وها هنا المقصود الدعاء، وهذا المعنى يحصل قبل الصلاة كما يحصل بعدها، فهما سواء، والله أعلم. * * * 35 - مَسْألَة: إذا مضى صدر من الدعاء، واستقبل القبلة بذلك، استحب للإمام أن يحول رداءه، واستحب للناس أيضًا أن يحولوا أرديتهم كالإمام: نص عليه في رواية صالح، وبكر بن محمد عن أبيه، والميموني، وابن القاسم، وغير ذلك، وأنه مستحب في حق الإمام، وجماعة من الناس.

وهو قول مالك، والشافعي - رضي الله عنهما -. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يستحب ذلك. دليلنا ما روى أحمد رحمه الله فيما ذكره النجاد قال: حدثنا سريج (¬1) بن النعمان قال: حدثنا الدراوردي عن عمارة (¬2) بن غزية عن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فثقلت (¬3) عليه فقلبها عليه الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. وروى النجاد بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي يومًا فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة وخطبنا ودعا الله - عز وجل - وحول وجهه إلى نحو القبلة رافعًا يديه يدعو ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. وروى أيضًا بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه استسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين. ورواه أيضًا بإسناده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ثم خطب وحول رداءه واستقبل القبلة. وإذا أثبت هذا من فعله عليه السلام يجب أن يستحب لسائر الناس؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: شريح، والتصويب من المسند رقم الحديث (16462). (¬2) في الأصل: عميرة، والتصويب من المسند رقم الحديث (16462). (¬3) في الأصل: فتقلب، والتصويب من المسند.

لعموم قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وإذا ثبتت هذه الأخبار أنه مسنون في حق الإمام، يجب أن يكون ذلك مسنونًا في حق سائر الناس، دليله: سائر ما يعمل في الاستسقاء من الدعاء، والاستغفار، وما تقدم عليه من الصيام، والخروج من المظالم، لأن أبا الحسن الدارقطني روى في سننه عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحول رداءه ليتحول القحط. وإذا كان المعنى التفاؤل وجب أن يستحب في حق جميع الناس؛ لأنه أبلغ في هذا المعنى. فإن قيل: فيجب أن يفعل ذلك في دعاء الكسوف، وحال الأمطار، والزلازل. قيل له: لا يجب ذلك كما لا يجب عندك رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، وفي دعاء القنوت، وغيره من الأدعية، وكان ذلك مسنونًا في جميع ذلك من الدعاء بعرفات، وعلى الصفا، والمروة، وعند الجمرتين. واحتج المخالف: بأنه لو كان مستحبًا للجميع لفعله الناس، ألا ترى أنه لما خلع نعليه خلعوا نعالهم، نقلوا فعله وفعل الناس؟ ! والجواب: أنه إنما ينقل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من السنة، ووجوب الاتباع، وليس هذا في فعل الناس، فلهذا لم ينقل، فأما الخلع فإنما نقل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن خلعهم نعالهم، وبيّن لهم سبب خلعه نعله، وهو ما كان عليها من أذى.

36 - مسألة: اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في تارك الصلاة عامدا هل يكفر أم لا؟ فروى عنه أبو داود قال: إذا قال الرجل: لا أصلي فهو كافر

واحتج: بأنه لا يخلو: إما أن تكون في حكم الخطبة، فهو كخطبة العيدين، فلا يستحب فيه ذلك، أو يكون بمنزلة سائر الأدعية المسنونة، فلا يستحب فيه ذلك أيضًا. والجواب: أنه لا يمتنع أن يفارق هذا سائر الأدعية في ذلك، كما فارقت تكبيرة الإحرام غيرها من التكبير عنده في رفع اليدين، وكما فارق الدعاء بعرفات، وعلى الصفا والمروة، وفي المقامين عند الجمرتين في رفع اليدين لسائر الأدعية من دعاء القنوت، وغيره، كذلك ها هنا جاز أن يفترقا، والله تعالى أعلم. آخر الجزء العشرين من أصل المصنف رحمةُ الله عليه وعلى كاتبه ووالديهما ولجميع المسلمين * * * 36 - مَسْألَة: اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في تارك الصلاة عامدًا هل يكفر أم لا؟ فروى عنه أبو داود قال: إذا قال الرجل: لا أصلي فهو كافر: وكذلك روى عنه العباس بن أحمد بن اليماني أنه قال: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة فقد كفر لا يرث ولا يورث"، فظاهر هذا أنه حكم بكفره. وروى عنه أبو طالب قال: الكفر لا يقف عليه أحد، ولكن يستتاب،

فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وكذلك روى عنه المروذي أنه قال في الذي يدع الصلاة: يدعى إليها ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا ضربت عنقه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " [إنه سيكون] (¬1) أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها"، فلم يكفروا بتأخيرها. فظاهر هذا أنه لم يحكم بكفره، وإنما حكم بقتله بعد الاستتابة. واختلف أصحابه رحمهم الله بعد هذا، فكان شيخنا أبو عبد الله ينصر أن يكفر بذلك، وهو اختيار أبي إسحاق ذكره في بعض تعاليقه فقال: إن قيل: إن المؤمن غير فاعل لها لا يسمى كافرًا، قيل له: إبليس جحد الأمر أو ترك الفعل، فإذا ترك الفعل قبل فقد كفر بترك الفعل لا بجحده. ورأيت كلامًا لأبي عبد الله بن بطة رحمه الله يقول فيه: إنه لا يكفر، ومن قال: إنه يكفر خالف المذهب. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وداود - رضي الله عنهم -: لا يكفر بذلك، ثم اختلفوا في حكمه: فقال أبو حنيفة رحمه الله: يستتاب ويحبس ولا يقتل. وقال مالك، والشافعي: يقتل. فالدلالة على أنه يكفر ويقتل: ما روى أحمد رحمه الله قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وبها يفهم الكلام، والاستدراك من "صحيح مسلم" رقم (534).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". وروى أحمد رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن الوليد العدني (¬1) بمكة قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة". وروى أحمد رحمه الله قال: حدثني زيد بن الحباب من كتابه قال: حدثني حسين بن واقد قال: حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهم - قال: بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة، وبين الرجل وبين الكفر أن يترك الصلاة. وروى أبو بكر النجاد هذه الأخبار في كتابه. فإن قيل: نحمل ذلك على من تركها عن جحود. قيل له: الخبر يقتضي في تعلق الحكم بترك فعل الصلاة لا بترك اعتقاد وجوبها، فوجب حمله على الحقيقة، وعلى أن هذا يبطل من فائدة تخصيص الصلاة؛ لأن من ترك صوم رمضان، وترك الصلاة، والحج جاحدًا، وجب تكفيره، فلم يجز حمله عليه. فإن قيل: نحمله على أن عقابه عقاب الكفار. قيل: هذا يسقط فائدة التخصيص على أنا نحمله عليهما جميعًا. وروى النجاد عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: "من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم ¬

_ (¬1) في الأصل: العربي، والتصحيح من "تهذيب الكمال" (16/ 271).

القيامة، ومن لم يحافظ لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف". وروى بإسناده عن الحسن - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك الصلاة متعمدًا أحبط عمله". وروى بإسناده عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك العصر متعمدًا حبط عمله". وروى بإسناده عن مكحول - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للفضل بن عباس - رضي الله عنهما -: "لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت أو بُضِّعت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فإنه من ترك صلاة مكتوبة فقد برئت منه الذمة". وروى بإسناده عن أبي قلابة رحمه الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك صلاة الصبح متعمدًا حبط عمله". وروى بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلًا ينقر كما ينقر الغراب، قال عليه السلام: "لو مات هذا مات على غير دين محمد". وذكر أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده في الجزء الأول من كتاب الصلاة من سننه بإسناده عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تتركوا الصلاة متعمدًا، فمن تركها متعمدًا فقد خرج من الملة". وبإسناده عن أم أيمن رضي الله عنها مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بعض أهله لا يترك الصلاة متعمدًا، فإنه من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله. وبإسناده عن أم الدرداء عن أبي الدرداء - رضي الله عنهما - قال: أوصاني أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - بسبع: أن لا أشرك بالله شيئًا وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة متعمدًا، فمن تركها متعمدًا برئت منه الذمة. وبإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ذكر أكبر الكبائر قال: ترك الصلاة متعمدًا؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئ من الله ورسوله ونقض العهد". وهذه الأخبار تدل كلها على الكفر. ولأنه إجماع الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين: وروى النجاد بإسناده عن أبي المليح عن عمر - رضي الله عنه - قال: لا إسلام لمن لم يصل. وروى عن القاسم قال: قال عبد الله - رضي الله عنهما -: من ترك الصلاة فهو كافر. وروى عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال الطبيب حين نزل في عينه الماء: استلق سبعة أيام لا تصل، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: من ترك الصلاة فقد كفر. وروى عن الحسين قال: بلغني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر. وروى عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: لا إيمان لمن لا صلاة له،

ولا صلاة لمن لا وضوء له. وروى عن حذيفة - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال: منذ كم صليت هذه الصلاة؟ فقال: منذ أربعين سنة قال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. والقياس: أنها عبادة يحكم بإسلام من يفعلها، فجاز أن يكفر بتركها كالشهادتين، وهذا مسلَّم عند أبي حنيفة، والشافعي - رضي الله عنهما - أيضًا في موضع، وهو المرتد إذا صلى في دار الحرب. وإن شئت قلت: عبادة يكفر بتركها أشبه الشهادتين. وإن شئت قلت: أحد دعائم الإسلام فلا يدخلها النيابة، فجاز أن يكفر تاركها أو فجاز أن يقتل تاركها، دليله: الإيمان. ولا يلزم عليه الزكاة، والصيام، والحج؛ لأن تلك تدخلها النيابة تارة بالمال، وهو الصيام (1)، وتارة بالبدن وهو الحج والزكاة (¬1). ولا يلزم عليه الصلاة المنذورة، والصلاة الفائتة؛ لأن التعليل لتعلق الكفر بهذه (¬2) في الجملة وليس التعليل لأحوالها. فإن قيل: الكافر يستحق القتل والكفر بالجحودية بقلبه (¬3) دون القول بلسانه، ولهذا لو أخبرنا الصادق أنه مصدق بقلبه حكمنا بإيمانه، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل مكان الصيام الزكاة، ومكان الزكاة الصيام. (¬2) كلمة لم أهتد لقراءتها. (¬3) في الأصل: بقتله.

وإن لم يصدق بلسانه. قيل له: هذا مذهب المتكلمين، فأما الفقهاء فإن مذهبهم أن الإيمان: تصديق بالقلب وقول باللسان (¬1)، وأن الكافر لا يحكم بإيمانه بمجرد التصديق، وعلى أنه إن لم يسلم ذلك فرضناه فيمن أسلم، وليس وقته صادق بخبر عن اعتقاده فقال: أنا مصدق بقلبي غير أني لا أشهد بلساني، فلا خلاف أنه لا يقبل منه ذلك، فلا يحكم بإيمانه. فإن قيل: إنما لم يقبل منه؛ لأنا نستدل على كذبه فيما أخبر به؛ لأنه لا مشقة عليه في إيرادها، فإذا امتنع منها اتهمناه في اعتقاده، وليس كذلك في الصلاة إذا أخبر أنه يعتقد وجوبها وامتنع من فعلها؛ لأنه قد يتركها لما عليه من المشقة في فعلها فلا يتهم في خبره أنه معتقد لوجوبها. قيل له: قد يعتقد الشهادتين، ويتركها تكبرًا، وأنفة، وخوف العار، فكان يجب أن يصدق في خبره أنه معتقد لها، والدلالة على ذلك: قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، قال قتادة: جحدوا بإيمانها واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، قال: والجحد لا يكون إلا بعد المعرفة. وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33]، قال الحسن: المعرفة في قلبهم أنه واحد. ¬

_ (¬1) الإيمان: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد وينقص. ينظر: الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 10، والإيمان لابن أبي شيبة ص 50.

فقد بين أن المعرفة في قلوبهم والتكذيب بألسنتهم بقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، يعني أنهم كانوا يقولون: إنه مجنون. وكذلك قول عمه - عليه السلام - أبي طالب (¬1) لما دعاه إلى الإسلام: لولا يعيرني قريش لأقررت بها عينك. وهذا يدل على أنه امتنع أنفة من تعيره. وجواب آخر: وهو إن كان الكفر والقتل بالجحود لم يضر؛ لأن الجحود إنما هو ترك للاعتقاد الذي هو الإيمان، وتعليلنا لترك عبادة لا تصح النيابة فيها، وهذا الوصف موجود في الاعتقاد. فإن قيل: قد تصح النيابة في ذلك، وهو إسلام الأب ينوب عن إسلام الطفل. قيل: النيابة أن ينوب الغير عن الغير، وإيمان الأب هو عن نفسه لا عن ولده، وإنما حكم بإسلامه على طريق التبع، وأيضًا فإن الشريعة بعد صحة الإيمان أفعال وترك، فلما كان في نوع من التروك ما إذا فعله استحق به الكفر، وهو الردة، ومنه ما إذا فعله استحق به القتل، وهو الزنا، وجب أن يكون في نوع الأفعال ما إذا تركه استحق الكفر والقتل وليس إلا الصلاة. فإن قيل: لو كان كذلك لوجب إذا استحق القتل بترك أن لا يسقط بعد ذلك كما إذا استحق القتل بالزنا لا يسقط بعد ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: أبو طالب.

قيل له: يسقط عندنا بالتوبة في أصح الروايتين في السارق إذا تاب قبل القدرة عليه سقط القطع، قال أبو بكر: وكذلك الزاني إذا تاب قبل القدرة عليه سقط، وفيه رواية أخرى: أنه لا يسقط، أومأ إليه في رواية ابن منصور، ولا تختلف الرواية أنه يسقط بالرجوع في إقراره بالزنا، والسرقة. فإن قيل: ليس في جنس الأفعال ما إذا خالف قطع، وفي جنس التروك ما خالف قطع. قيل: لا يمتنع أن لا يكون في جنس الأفعال ما يقطع بتركه ويستحق به القتل كما أن القتل والزنا ليس من جنسه ما يقطع بفعله، ومع هذا فيستحق به القتل، كذلك في ترك الصلاة، وأيضًا ما وجب بترك الشهادتين وجب بترك الصلاة، دليله: القتل على قول الشافعي - رضي الله عنه -. فإن قيل: الزاني والمحارب يجب قتلهما ولا يكفران. قيل: القتل إذا وجب لترك فعل لا تصح النيابة فيه أوجب الكفر: بدليل الشهادتين. واحتج المخالف على إسقاط الكفر: بما روى عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، من جابهن لا ينقص منهن شيئًا كان له عهدًا أن لا يعذبه بالنار، ومن جابهن وقد انتقص منهن شيئًا جاء وأمره إلى الله؛ إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".

فدل على أنه لا يكفر. والجواب: أنا قد روينا في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - زيادة وهو قوله عليه السلام: "ومن لم يحافظ عليها كان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيِّ بن خلف". وعلى أنا نحمل قوله: "من انتقص منهن شيئًا" معنى من انتقص من مسنوناتها الراتبة معها، مثل: ركعتي الفجر، وركعتي الظهر، وركعتي المغرب، والوتر، ودوام على ترك ذلك، فإنه يأثم بذلك ويعصي ويكون أمره إلى الله - عز وجل - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في الوتر فقال: إذا تركه فهو رجل سوء لا تقبل شهادته. مع قوله: إنه سنة. فإن قيل: فالخبر تناول الصلوات الخمس فكيف يحمل على المسنونات؟ . قيل له: لما كانت هذه المسنونات مضافة إليها وتبعًا لها جاز أن يكون الخطاب عطفًا على جميع ذلك. واحتج من نفى القتل: بما روى عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس". والجواب: أن هذا كافر عندنا، فيجب قتله بحق الظاهر، وعلى

أنا نضيف إلى ذلك تارك الصلاة كما أضفتم إليه من طلب دم المسلم أو ماله أو حريمه. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم". والجواب: أنه روي في الخبر "إلا بحقها"، ومن حقها الصلاة عندنا. وروي: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". واحتج: بأنها عبادة مأمور بها لا تصح إلا بعد تقدم الإيمان، فلم يكفر بتركها. أو نقول: فلم يقتل بتركها، دليله: الصيام، والحج، والزكاة. والجواب: أنه إن كان القياس منصوبًا لنفي الكفر، فهو مسلم في الأصل، وإن كان لنفي القتل فهو غير مسلم؛ لأن جعفر بن محمد، والميموني رويا عن أحمد - رحمه الله - في الذي يقول: الصوم عليَّ فرض، ولا يصوم، يستتاب، فإن تاب وإلا ضرب عنقه. ونقل الميموني أيضًا فيمن منع الزكاة كما منعوا أبا بكر - رضي الله عنه -، وقاتلوا عليها لم يورث ولم يصل عليه، فظاهر هذا أنه حكم بالقتل في ذلك، قال أبو بكر في كتاب الخلاف في مسائل البغاة: من تخلف عن الإقرار بالتوحيد مع القدرة عليه، وعن الصلاة بعد الإقرار، والقدرة على عملها، وإيتاء الزكاة بعد الإقرار بوجوبها عليه، وصوم رمضان بعد الإقرار،

والقدرة عليه، وكذلك الحج، فعند أحمد - رحمه الله - أنه مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وذكر بعد هذا الكلام بأسطر فقال: لا فرق بين الصوم، والصلاة، والزكاة، والحج؛ لأن هذه فرض كالتوحيد. وروى أبو طالب عنه فيمن قال: الصوم علي فرض، ولا أصوم، ليس الصوم مثل الصلاة، والزكاة لم يجئ فيها شيء. وظاهر هذا: أنه لا يجب قتله، فعلى هذا المعنى في تلك الأشياء أن النيابة تدخلها، فلهذا لم يكفر، ولم يقتل، وليس كذلك ها هنا؛ لأنها من أحد الدعائم الخمس لا تدخلها النيابة أشبه الإيمان والاعتقاد لإيجاب هذه العبادات إذا تركه فإنه يكفر ويقتل؛ لأنه لا تصح النيابة فيه. واحتج: بأنه لا يخلو: إما أن يكفروه ويقتلوه بعد فوات وقتها أو قبله، لا يجوز بعد فوات وقتها؛ لأن الصلاة قد استقرت في ذمته، ووقتها متسع، وإن كان ذلك قبل خروج وقتها لم يجز أيضًا؛ لأن الوقت باقٍ. والجواب: أنا نقول لهم في الوقت الذي تحسبونه وتقدرونه وتطالبونه بالفعل فيه يحكم بكفره وقتله. على أن الرواية قد اختلفت عن أحمد رحمه الله في الوقت الذي يكفر ويقتل، فنقل يعقوب بن بختان عنه: إذا ترك صلاة وصلاتين ينتظر عليه، ولكن إذا ترك ثلاث صلوات؟ ! فظاهر هذا: أنه إذا تضايق وقت الرابعة عن فعلها وجب كفره وقتله؛ لأنه يجوز أن يكون شبهة دخلت عليه.

ونقل أبو طالب عنه: إذا ترك الفجر عامدًا حتى وجبت عليه أخرى ولم يصلها، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وظاهر هذا: أنه إذا تضايق وقت الثانية وجب كفره وقتله، وهو أصح؛ لظاهر الأخبار التي رويناها من ترك صلاة العصر، ومن ترك صلاة الفجر، ومن ترك صلاة فقد حبط عمله، فعلق حبط العمل بصلاة واحدة. ولأن القتل لهما بترك الصلاة المفروضة في وقتها، وهذا موجود في الصلاة الأولة، وليس تأخيره ثلاث صلوات بأولى من تأخيره أربعًا وخمسًا. فإن قيل: فإذا كانت الاستتابة بعد خروج وقت الأولة، فهو وقت متسع للقضاء، فلا يجوز الكفر والقتل مع سعة الوقت، كما لا يجوز بتأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره. قيل له: وقت القضاء مضيق عندنا إذا كان الترك من غير عذر، ويكون على الفور، وقد أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية عبد الله: فيمن ترك صلاة شهر يعيد ما ترك حتى يضعف، ولا يكون له ما يقيمه يومه فيكسب ما يقيمه يومه ثم يعود (¬1) إلى الصلاة، فإن ضعف تركها حتى يقوى. وكذلك نقل صالح عنه: فيمن فرط في صلاة شهرين أو ثلاثة يصلي حتى يكون آخر وقت الصلاة الذي ذكر فيها، ثم يصلي هذه التي يخاف ¬

_ (¬1) في الأصل: يعيد، والتصويب من مسائل عبد الله.

فواتها، ثم يعود فيصلي حتى يخاف فوات الصلاة التي بعدها، إلا أن يكثر عليه فيكون ممن يطلب المعاش. وهذا يدل على أن القضاء على الفور، وأصله يقتضي هذا أيضًا، وهو وجوب الترتيب في قضاء الفوائت، على أن هذا لا يوجب أن لا يقتل ولا يحبس لهذا المعنى، وقد قيل: يقتل. فإن قيل: لا يجوز إثبات القتل والكفر بأخبار الآحاد. قيل: يجوز ذلك كما قلنا نحن وأبو حنيفة: تصح ردَّة الصبي، وقلنا نحن والشافعي: تصح ردَّة السكران، وذلك بالاجتهاد، وأوجبنا الحد على شارب النبيذ بالاجتهاد، وأوجب أبو حنيفة على الواطئ بالشبهة الحد، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

مسائل الجنائز

مَسَائِلُ الجَنَائِزِ 37 - مَسْألَة: المستحب أن يغسل الميت في قميص: نص عليه في رواية المروذي فقال: يعجبني أن يغسل الميت وعليه ثوب يدخل يده من تحت الثوب، كذا يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل وعليه ثوب. وبه قال الشافعي - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: يغسل الميت مجردًا، ويطرح على عورته خرقة. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن علي بن أبي [طالب] (¬1) - رضي الله عنه - غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيد علي خرقة يتبع بها من تحت القميص. وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: غُسِّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قميصه. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل.

وهذا يدل على أن الأفضل ذلك؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فعلته. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصًا بذلك، يدل عليه ما روى ابن بطة بإسناده عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: لما أرادوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: والله ما [ندري أ] (¬1) نجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: اغسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم. فوجه الدلالة: أنهم قالوا: ما ندري أنجرده كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه. فدل على أن السنة في حقهم ذلك. قيل له: أما قولكم: إنه كان مخصوصًا، فيحتاج إلى دليل؛ لأن الظاهر إنما فعله فهو شرع لأمته ما لم يرد دليل التخصيص، وعلى أنه قد روي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - لما حضره الموت قال: إن أنا مت فاصنعوا بي كما صنع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مخصوص بذلك. وإن قولهم: لا ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرد موتانا، معناه: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والاستدراك من "سنن" أبي داود رقم (3141).

لا ندري نتخير في تجريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نتخير في تجريد موتانا أو لا نتخير ونعزم على غسله من غير تجريد؛ لأن على قولنا: إنه يجوز التجريد، ويجوز غيره، وإنما الخلاف في الأفضل، فكان الأفضل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك التجريد بلا تخير. ولأنه غسل ميت فاستحب أن يكون من فوق ثوب، دليله: غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه بالموت يصير جميع بدنه في حكم العورة، بدليل أنه يستر موضع غسله، ولا ينظر الغاسل ولا من يعينه إلا ما لا بد لهم منه، ولهذا يدَّعى (¬1) أنه في حكم العورة من جميع الجهات، وإنما ادعينا ذلك في بعض الأحكام فكان الاحتياط مواراته. واحتج المخالف: بأنه غسل مأمور به فالمستحب أن يكون مجردًا، كالغسل من الجنابة. والجواب: أن غسل الميت لا يشبه الحي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من الجنابة متجردًا، و (¬2) غسل بعد موته في القميص. ولأن الجنب يخلو بنفسه، فيجوز أن يتجرد ويغتسل، والميت يشاهده غيره، فيجب أن يُغسل في قميصه ليكون أستر له. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: يدَّع. (¬2) في الأصل: أو.

38 - مسألة: ويدخل يده في فيه فيمرها على أسنانه بالماء، ويدخل أطراف أصبعيه في منخريه بشيء في الماء فينقيه

38 - مَسْألَة: ويدخل يده في فيه فيمرُّها على أسنانه بالماء، ويدخل أطراف أصبعيه في منخريه بشيء في الماء فينقيه: نص على هذا في رواية المروذي فقال: ويلف على يده خرقة ثم يدخل يده في فيه، ويمسح فمه وأسنانه، ويمسح أنفه ولا يصب عليه الماء فينفجر. وبهذا قال: الشافعي - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة: لا يستحب ذلك. دليلنا: أنه تطهير فيه غسل الوجه، فكان فيه إيصال الماء إلى داخل الفم والأنف، دليله: الغسل من الجنابة، والحيض، والوضوء، وهذا أولى من أن يقال: غسل يعم جميع البدن؛ لأن الوضوء في ذلك بمثابة الغسل في أنه يستحب ذلك في الوضوء كما هو مستحب في الغسل. واحتج بأن قال: معنى المضمضة والاستنشاق لا يتأتى من الميت؛ لأن المضمضة هو: أن يأخذ الإنسان الماء في فمه فيديره ثم يمجه، والاستنشاق: أن يأخذ الماء بالنفس إلى خياشيمه ثم يرده، وإذا لم يتأتى سقط اعتباره. والجواب: أنه إذا لم يقدر على إيصال الماء إليه على صفة الكمال، وجب إيصاله على حسب الإمكان، ألا ترى أن المسموم (¬1) والمحترق ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله: المجدور، كما في "الإرشاد" ص 116.

39 - مسألة: لا يسرح شعر الميت

إذا تعذر غسله على صفة الكمال سقطت الصفة، ووجب إيصال الماء إليه على حسب الإمكان، وكذلك في غسل الجنابة والوضوء في حال الحياة، كذلك ها هنا. * * * 39 - مَسْألَة: لا يسرح شعر الميت: نص عليه في رواية أبي طالب فقال: لا يسرح شعر الميت، قالت عائشة رضي الله عنها: علام (¬1) تُنَصُّون ميتكم؟ ! وكذلك نقل المروذي فقال: لا يسرح لحية الميت، فذكر له حديث أم عطية مشطناها ثلاث ذوائب فقال: إنما ضفر لم يسرح. بهذا قال أبو حنيفة رحمه الله. قال الشافعي - رضي الله عنه -: يسرح تسريحًا خفيفًا، وذهب شيخنا إلى (¬2) هذا. دليلنا: ما روى إبراهيم عن عائشة رضي الله عنها: أنها رأت ميتًا يُسرَّح رأسُه فقالت: لم تنصون ميتكم؟ ! ذكره أبو عبيد في الغريب. وروى أبو بكر بإسناده عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا تسرح شعر الميت. ¬

_ (¬1) في الأصل: على ما. ينظر "مصنف" عبد الرزاق رقم (6232). (¬2) في الأصل: على.

40 - مسألة: يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ويلقى خلفها

ولا نعرف لها مخالف. ولأن العادة لا تسلم من نتف الشعر في حال التسريح، وذلك مكروه، فلذلك كره التسريح؛ لأنه يؤدي إلى ذلك. فإن قيل: لسنا نسرح تسريحًا شديدًا يؤدي إلى ذلك. قيل له: لا يمكن في العادة فعل ذلك إلا بنتف شيء من الشعر. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "افعلوا بميتكم كما تفعلون بعروسكم". والجواب: أن هذا محمول على الغسل والطيب وغير ذلك. واحتج: بأن فيه تنظيفًا أشبه إزالة الدرن. والجواب: أن إزالة الدرن لا يحصل معه نتف شعر، وها هنا يحصل معه، فلذلك كره، والله أعلم. * * * 40 - مَسْألَة: يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ويلقى خلفها: نص على هذا في رواية حنبل فقال: يضفر ثلاث قرون على ما فعل بابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك نقل أبو داود عنه: أنه يضفر ثلاث قرون، ويسدل من خلفها.

وهو قول الشافعي - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره ذلك، ولكن ترسله الغاسلة غير مضفور بين يديها من الجانبين ثم يسدل خمارها عليه. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ضفرنا رأسها ثلاث قرون ثم ألقيناها خلفها مقدم رأسها وقرنيها. فإن قيل: يحتمل أن الغاسلة فعلت ذلك بغير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل له: النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حاضرًا لما تفعله، هكذا روي في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا عند الباب، تعني أنه (¬1) يناولنا ثوبًا ثوبًا. ولأنه لا يجوز أن يفعلن شيئًا في سنن الموتى من غير علمه وهو حاضر. ولأن ضفره أجمع له؛ لأنه متى لم يضفر تفرق وانتشر، وما كان أجمع فهو أولى، مثل شد الكفن عليها. واحتج المخالف: بأن تضفير شعرها لا يمكن إلا بالتسريح، وذلك مكروه؛ لما فيه من نتف شعره. والجواب: أن التضفير ممكن من غير تسريح إذا نشف من الماء، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: هذا، ولا يستقيم به الكلام.

41 - مسألة: ويقلم أظفار الميت، ويحلق شعر عانته وإبطيه، ويؤخذ من شاربه إن كان طويلا

41 - مَسْألَة: ويقلم أظفار الميت، ويحلق شعر عانته وإبطيه، ويؤخذ من شاربه إن كان طويلًا: نص على هذا في رواية صالح وقد سئل: هل يقلم أظفار الميت ويؤخذ من شعره أو يقص شاربه؟ قال: إذا كان شيئًا فاحشًا، فإن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - غسل ميتًا فدعى بموسى. وكذلك روى إسحاق بن إبراهيم عنه في الميت يكون الشارب الطويل يأخذه الغاسل. وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه - في الجديد. وقال في القديم: لا يفعل ذلك، وهو قول أبو حنيفة رحمه الله، ومالك أيضًا. دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "افعلوا بموتاكم كفعلكم بعروسكم". وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عشر من السنة"، وذكر منه قص الأظفار، وحلق العانة، ولم يفرق. وأيضًا روى أحمد رحمه الله - ذكره أبو بكر - قال: حدثنا وكيع عن خالد عن أبي قلابة أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - جزَّ عانة ميت، ولا نعرف له مخالف. ولأنها فطرة لا يتعلق بقطع عضو، فجاز فعلها بالميت كالغسل. ولأنه تنظيف بدنه فأشبه إزالة الدرن.

واحتج المخالف: بأنه لو كان أقلف لم يختن؛ لأن فيه قطع حرمته، كذلك أخذ الشعر، وقلم الأظافر، وكذلك إذا سرق ثم مات لم تقطع يده، كذلك ها هنا. والجواب: أنه لم يختن، ولا تقطع يده، وقد نص على هذا في رواية أبي داود قد سئل عن الميت تؤخذ أظفاره فقال: من الناس من يقول ذلك، ومنهم من يقول: إن كان أقلف أي يختن، يعني من لا يفعل ذلك، وكان المعنى: [أنه] قد تاب، قطع اليد يراد للزجر والردع، وهذا المعنى معدوم في الميت؛ لأنه قد أمن من الفعل ثانيًا، والختان يراد للطهارات في المستقبل؛ لأنه بعدمه تحتقن النجاسات، وهذا المعنى يعدم بعد الموت، وليس كذلك إزالة الشعر؛ لأنه يراد للنظافة، وهذا المعنى مقصود في حق الميت، فإن النظافة مقصودة في حقه. واحتج: بأنه لو كان شعر رأسه طويلًا لم تحلق، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: له طُرَّة لا تقص وتفرق. والجواب: أن حلق الرأس يراد للزينة أو النسك، وليس الميت واحدًا منهما، وليس كذلك حلق العانة، والإبط، وأخذ الشارب؛ لأنه تنظيف، وهذا معتبر في حق الميت كالغسل. واحتج: بأنه من الفطرة، وقد سقطت فطرته بموته، ولأنه يصير إلى بلى عن قليل. والجواب: أنه يبطل بإزالة الوسخ عنه بالغسل، والله أعلم. * * *

42 - مسألة: إذا خرج من الميت شيء بعد الغسل أعيد عليه الغسل

42 - مَسْألَة: إذا خرج من الميت شيء بعد الغسل أعيد عليه الغسل: نص عليه في رواية صالح، وأبي الحارث: في الميت ينتقض بعدما يفرغ منه فإنه يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء بعد ذلك فإلى سبع، فإن خرج منه شيء بعد ذلك فإلى تسع، ويرفع. وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -، ومن أصحابه من قال: لا يجب ذلك، وإنما يستحب، ويغسل الموضع من النجاسة ويجزئه، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. دليلنا: ما روي في حديث أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا إن رأيتن ذلك"، ففرض لهم الثلاث، وجعل لهم الاجتهاد إلى السبع فيما يرونه من الغسل، يريد به: إن حدث أمر يوجب الغسل فاغسلوه، أو معناه: إن أمنتم على الميت من تكرار الغسل. ولأن الموت في معنى الإغماء، والنوم؛ لأنه سقوط الحواس، وذهاب التمييز، وقد ثبت أن موجب الإغماء، والجنون، والحدث يبطله، وجب أيضًا أن يبطل الحدث موجب الموت، وهو الغسل. واحتج المخالف: بأن خروج الحدث بعد الغسل لا يبطله، أصله: غسل الجنابة، والجمعة. والجواب: أنا قد بينا أن الموت يجري مجرى الإغماء، والنوم، ثم ثبت أن الحدث يبطل موجب الموت، كذلك يجب أيضًا أن يبطل

موت الموت الذي هو مثله، فكان اعتباره بنظيره الأولى من اعتباره بالجنابة والجمعة. واحتج: بأن الغسل لم يجب بالحدث، فوجب أن لا يبطل بالحدث. والجواب: أنا لا نسلم هذا؛ لأنه وجب بالموت، وهو من جنس الأحداث. واحتج: بأن طريان الحدث بعد غسل الميت لا يوجب إعادة غسله، دليله: لو خرج منه الحدث وهو في أكفانه أو خرج منه بعد السابعة، فإن أحمد - رحمه الله - نص في هذا الموضع أنه لا يعاد عليه الغسل في رواية إبراهيم بن الحارث فقال: إذا خرج منه شيء وقد وقع في أكفانه لم يعد عليه الغسل، فإنه انتقض وهو على المغتسل وقد غسل سبعًا قال: يوضأ ويرفع. والجواب: أن ابن منصور قد روى عنه إذا أدرج في الأكفان ثم خرج منه شيء، فإن كان كان شيئًا قليلًا رفع إلا أن يكثر ويظهر من الكفن شيء فاحش فيعاد عليه الغسل. قال أبو بكر الخلال: إذا أدرج في أكفانه ثم بدا منه شيء، فقد روى عنه جماعة أنه يحمل ولا يعاد الغسل، وما نقله ابن منصور فأرجو أن يكون قاله مرة ثم رجع عنه. فقد بين أن المذهب أنه لا يعاد عليه الغسل، وهو الصحيح؛ لأن في إعادة الغسل مشقة عظيمة؛ لأنه يحتاج فيه إلى إعادة الغسل، وغسل

الأكفان، ولا يؤمن عليه دفعة ثانية وثالثة، وكذلك إذا غسل سبعًا، وهو على مغتسله لو قلنا يعاد عليه خيف عليه أن تسترخي أعضاؤه وتنفصل، فوجب أن يسقط الغسل، ويعدِل في ذلك إلى الحشو بالقطن والطين، وهذا المعنى معدوم، وإنما حدَّه أحمد - رحمه الله - بالسبع لما روي في حديث أم عطية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوها بالماء والسدر ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك". قالت حفصة: "اغسلوها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا". ولأن السبع قد جعلت حدًا في نوع من الاغتسال، وهو ولوغ الكلب، والخنزير. فإن قيل: لو وجب إعادة الغسل بعد الحدث لوجب إعادة الوضوء أيضًا كالدفعة الأولة لما كانت واجبة والوضوء معها. قيل له: هكذا نقول، وأنه كلما انتقض فإنه يعاد عليه الوضوء والغسل، نص عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم فقال: إذا غسل فبدا منه الشيء بعد الغسلة الثانية يوضأ ويغسل، وكذلك في الثالثة كل ذلك يغسل. وكذلك نقل صالح قال: يوضأ الميت مرة واحدة إلا إن خرج منه شيء، فيعاد عليه الوضوء والغسل إلى سبع. قال أبو بكر الخلال: قوله: توضأ مرة، إذا غسل مرات ولم يبد منه حدث، فأما إذا بدا منه حدث فكلهم اتفقوا عنه أنه يوضأ في كل غسلة

43 - مسألة: الآدمي لا ينجس

إلى سبع ثم يرفع، والله تعالى أعلم. * * * 43 - مَسْألَة: الآدمي لا ينجس: وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية جعفر بن محمد وقد سئل عن الميت يغسل في البيت فيدخل الماء الحفيرة هل ينجس البيت؟ قال: لا، ولكن يرش عليه. وظاهر هذا أنه طاهر؛ لأنه حكم بطهارة الماء المنفصل منه، ولأن أصوله تقتضي طهارته؛ لأنه أجاز الصلاة في الثوب الذي نشف فيه الميت، نص عليه في رواية مهنا، فلو كان ينجس بالموت لم يطهر بالغسل؛ لأن نجاسة الموت لا تزول، ولهذا قال: الدباغ لا يطهر، وقد علق القول في رواية المروذي في الماء الذي ينتضح من غسل الميت فيصيب الثوب أو الخف ترى أن يغسله؟ قال: نعم. وهذا محمول على أنه أصابه من انجائه فبهذا أوجب غسله. وقال أيضًا في رواية المروذي في الرجل يموت في البئر فقال: كم فيها؛ قيل: قلتان، فلم ير به بأسًا. وقال أيضًا في رواية صالح في صبي وقع في بئر فيها ماء غزير فمات فيها: ينزح الماء حتى يغلبهم. وكذلك نقل أبو الحارث.

قال أصحابنا: إنما قال هذا لأن الغالب من حال الميت أنه يحدث عند خروج جروحه، فحكم أحمد رحمه الله بنجاسة الماء لهذه العلة إلا (¬1) أن الآدمي ينجس بالموت. وبهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -. قال أبو حنيفة رحمه الله: ينجس بالموت، ويطهر بالغسل. دليلنا: ما روي عن عطاء بن أبي رباح عن (¬2) عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم ليس بنجس حيًا ولا ميتًا". فإن قيل: معناه ليس بنجس نجاسة لا تزول كالخنزير. قيل له: هذا لا يصح؛ لأن الخبر يقتضي نفي النجاسة، وإثبات الطهارة، فهو كقوله عليه السلام: "لا تحرموا لحم الفرس فإنه ليس بحرام"، فإنه يقتضي نفيًا لتحريمه، وإثباتًا لطهارته، وعلى أن هذا التأويل لا يصح في حال الحياة؛ لأنه في حال الحياة اقتضى نفيًا للنجاسة وإثباتًا للطهارة يجب أن يكون في حال الموت كذلك؛ لأن لفظ المنع في الحالتين سواء. ولأنه أذى فيجب أن لا ينجس بموته، أصله: الشهيد. فإن قيل: القتل على وجه الشهادة يوجب التطهير، ألا ترى أنه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل صوابها: لا. (¬2) في الأصل: وعن عبد الله بن عباس.

لا يغسل وسائر الموتى يغسلون؟ ! قيل له: الغسل لا يدل على النجاسة؛ لأن الجنب يجب أن يغتسل وليس بنجس، ولأن الغسل ليس للنجاسة؛ لأن نجاسة الموت لا يزيلها الغسل، ألا ترى أن البهيمة إذا ماتت وصارت نجسة لم تطهر بالغسل، بل تزيد نجاستها بالغسل. واحتج المخالف: بما روي أن زنجيًا مات في بئر زمزم فنزح ماء البئر، وهذا يدل على أنه تنجس بالموت، فتنجس ماء البئر. والجواب: أنه يحتمل أن يكون فعله تنظيفًا لا واجبًا، ويحتمل أن يكون ظهر على الماء لون الدم، [و] الذي يدل على صحة هذا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن ليس بنجس حيًا ولا ميتًا". واحتج: بأن له دمًا سائلًا ولا يعيش في الماء، فوجب أن ينجس بالموت، دليله: الإبل، والبقر، والغنم. والجواب: أنه ينتقص بالشهيد، وعلى أنا نقابله فنقول: وجب أن يكون قبل الموت وبعده سواء قياسًا على ما ذكرت. واحتج: أنه لو قطع طرف من أطرافه لكان نجسًا كذلك الجملة إذا ماتت. والجواب: أن في ذلك روايتين: إحداهما: أنه طاهر كالجملة، نص عليه في رواية الأثرم وسئل في الرجل يقتص منه من أذن أو أنف فيأخذ المقتص منه فيعيده بحرارته

فيبت (¬1)، هل يكون ميتة؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأسًا. وكذلك نقل صالح فيمن قطع عضو من أعضائه فأعاده مكانه فلا بأس، فقيل له: يعيد سنّه؟ قال: أما من نفسه فلا بأس. وهذا يدل على طهارته، فعلى هذا يسقط السؤال. والثانية: أنه ينجس، أومأ إليه في رواية المروذي في الرجل ينقلع سنَّه (¬2) ثم يرده إلى موضعه فيمكث أيامًا يصلي فيه ثم ينقلع، فقال: كان الشافعي - رضي الله عنه - يقول: يعيد؛ لأنه صلى في ميتة، وما أبعد ما قال! بل لو أخذ سن شاة فوضعه لم يكن به بأس، وذهب إلى أن يعيد ما صلى. وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم عنه في رجل وقع ضرس من أضراسه فأعاده في موضعه ثم نظر إليه بعد أيام أو شهر فإذا هو قد انقلع ولم يلتحم، يعيد الصلاة من يوم رجعه إلى يوم قلعه، ولو وضع سن شاة أو سن شيء ذكي أجزأه، ولم يعد الصلاة، وهو أصح، فعلى هذا يبطل بالشهيد، فإنه لو قطع طرفه لكان نجسًا ولو قتل لكان طاهرًا. ولأن للجملة من الحرمة ما ليس للطرف إذا بان منها في حال الحياة، ألا ترى أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، والجملة تغسل ويصلى عليها؟ ! والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد تكون: فيثبت. (¬2) وفي الهامش مكتوب: ضرسه.

44 - مسألة: إذا مات المحرم لم ينقطع حكم إحرامه بالموت، فلا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبا

44 - مَسْألَة: إذا مات المحرم لم ينقطع حكم إحرامه بالموت، فلا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبًا: نص عليه في رواية أبي داود فقال: إذا مات المحرم لم يقرب مسكًا، ويكفن في ثوبين، ولا يغطى رأسه، وذكر حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وكذلك نقل ابن مشيش عنه إذا مات المحرم لا يمس طيبًا، ولا يغطى رأسه، ويغطى (¬1) وجهه. ونقل إسماعيل بن سعيد الشالنجي في المحرم يموت قال: لا يغطى رأسه ولا وجهه. فقد اتفقت الرواية على أن الإحرام لا ينقطع. واختلف في الوجه هل يغطى أم لا؟ وهذا الاختلاف يرجع إلى أصل: هل يتعلق بالوجه حكم الإحرام أم لا؟ ويأتي ذلك في مسائل الحج إن شاء الله تعالى. وبهذا قال الشافعي، وداود رحمهما الله. وقال أبو حنيفة، ومالك - رحمهما الله -: يبطل إحرامه، ويعمل به ما يعمل بغير المحرم إذا مات. دليلنا: ما روى أحمد رحمه الله في المسند قال هشيم: قال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلًا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، وهذا نص. وروى أبو عبيد هذا الحديث وقال: إن محرمًا وقصت به ناقته في أخاقيق جرذان، قال أبو عبيد: والأخاقيق: شقوق في الأرض، يقال: أخاقيق، ولخاقيق، وأحدها (¬1): أخقق، ولخقوق. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من تغطية رأسه، وبين المعنى لأجله منع، وهو أنه يبعث ملبيًا، ونحن لا نعلم أن غيره من المحرمين يبعثون ملبين، ولو علمنا ذلك لمنعنا. قيل له: لا يصح هذا؛ لأنه حكم في المحرم الذي مات بحكمين: أحدهما: أنه لا يخمر رأسه. والثاني: أنه يبعث ملبيًا، فوجب أن يكون كل واحد من الحكمين متعلقًا بالسبب الذي تقدمه، فأي محرم مات وجب أن لا يغطى رأسه، ويبعث ملبيًا؛ لأن الحكم إذا نقل مع السبب تعلق به وجرى مجرى العلة، فيكون تقديره: لا تقربوه طيبًا، ويبعث ملبيًا؛ لأنه مات محرمًا، وهذا كما قال في شهداء أحد: "زملوهم بدمائهم وكُلُومهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دمًا"، وروي: "اللون لون الدم والريح ريح المسك"، ثم كان هذا حكمًا جائزًا في سائر الشهداء، ولم يكن مقصورًا ¬

_ (¬1) في الأصل: أحدهما.

على شهداء أحد، كذلك هذا، أو كما قال في الذي وقع على امرأته: أعتق رقبة، فكان ذلك عامًا في كل من وقع على امرأته؛ لوجود سبب الحكم من جهته. فإن قيل: لو روي أن ماعزًا زنا فرجم؛ لأنه كان محصنًا لم يقض أن يكون كل من زنا محصنًا، وإنما يقتضي أن من زنا يرجم إذا وجدت العلة، وهو كونه محصنًا، كذلك قوله عليه السلام: "يبعث ملبيًا"، لا يقتضي أن من مات على إحرامه يبعث ملبيًا، وإنما يقتضي أن من مات على إحرامه لا يخمر رأسه إذا وجدت فيه العلة وهو أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، ولسنا نعلم أن سائر المحرمين إذا ماتوا على إحرامهم يبعثون ملبين، ولم نستفد بقوله في شهداء أحد بانهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دمًا إسقاط الغسل في حق غيرهم، وإنما استفدناه بخبر آخر وهو قوله عليه السلام: "الشهيد لا يغسل". قيل له: إنما لم يكن كل زانٍ محصنًا؛ لأن الإحصان يفتقر إلى شرائط، منها: الحرية، والإصابة في نكاح، والبلوغ، ليس كل زانٍ يوجد فيه هذه الشروط، فلهذا لم يكن الزاني محصنًا، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه جعل العلة في كشف رأسه، وكونه ملبيًا في الآخرة وجود الإحرام من جهته، فيجب أن يحكم بذلك في حق كل من وجد الإحرام من جهته، والذي يبين صحة هذا أنه لو قال: يحشر ملبيًا لأنه محرم لصح، ولو قال: هو محصن لأنه زانٍ لم يصح، ويبين صحة هذا هو أنه مروي عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فروى أبو بكر النيسابوري في الزيادات بإسناده عن

الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: إذا مات لم يغط رأسه حتى يلقى الله - عز وجل - محرمًا، فأخبر أن كل محرم يلقى الله محرمًا. وروى الشافعي - رضي الله عنه - أن ابنًا لعثمان - رضي الله عنهما - مات وهو محرم، فلم يخمر رأسه، ولم يقربه طيبًا، وفعل ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكر عليه، ولم يقولوا: إن ذلك المحرم كان مخصوصًا من هذا، على أن العمل من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يدل على حكم عموم الحكم في كل المحرم. والقياس: أنه مات قبل تحلله من الإحرام بالنسك، فوجب أن لا يبطل إحرامه، دليله: المحرم الذي مات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه مات على لباس محرم، فوجب أن يبقى تحريمه، أصله: تحريم تكفينه بالحرير، وإن شئت أن تقول: كل لبس كان محرمًا حال الحياة لم يحل بالموت، أصله: ما ذكرنا. ولأن الإحرام عبادة ثبتت للموصوف بها فعله وفعل غيره، فلم ينقطع حكمها بالموت كالإيمان. وبيان هذا: أن الطفل يحصل مسلمًا بإسلام أحد أبويه ويصير محرمًا بإحرام الولي عندنا، وعندهم بإحرام الرفقة عنه، ثم ثبت أن الإسلام لا يبطل حكمه بالموت، كذلك الإحرام، ولا يلزم عليه الصلاة، والصيام؛ لأنه لا يثبت الموصوف بها بفعله وفعل غيره. فإن قيل: الإيمان يتعلق به أحكام منها ما يختص به ويلزمه في نفسه، ومنها ما يتعلق بنا، ويلزمنا لأجله أحكام مثل: الموالاة، والميراث،

والتزكية، وقبول الشهادة، وما أشبهها مما يختص به ويلزمه هو فإنه ينقطع بموته، وما يلزمنا لأجله فإنه يبقى بعد موته، فأما الإحرام فإن أحكامه تلزمه هو، ولا يتعلق بنا حكم من أجله، فيجب أن ينقطع بموته كالصلاة، والصيام. قيل له: هذا المعنى يوجد في المحرم الذي مات في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن أحكامه تلزمه هو ولا يتعلق بها حكم، ومع هذا فلا ينقطع حكم إحرامه بموته، وأما الصلاة، والصيام، فيأتي الكلام عليهما، وعلى أنه لا يمتنع أن تتعلق به أحكام تخصها، ويسقط بعارض وهو الإحرام، كما سقط بالشهادة غسله والصلاة عليه. واحتج المخالف: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "غطوا رؤوس موتاكم ولا تشبهوا باليهود" وروي: "وجوه موتاكم". وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في المحرم يموت: خمروه ولا تشبهوه باليهود. والجواب: أن هذا محمول (¬1) على غير المحرم، بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، وولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعده"، ¬

_ (¬1) حصل خطأ هنا حين ترميم المخطوط فقدمت ألواح حقها التأخير، ففي الوجه الثاني من لوح 259 تتمة ما في الوجه الأول للوح 250، ولذا فسوف ننسخه هنا، لتكون المسألة منضبطة، وما في الوجه الثاني من لوح 250 سوف يأتي التنبيه عليه ضمن مسألة لاحقة - بإذن الله -.

ومعلوم أنه أراد به حكم عمله، والإحرام من أحكام عمله، فوجب أن ينقطع، وإذا انقطع إحرامه صار كسائر الموتى. والجواب: أن المراد به: أجر العمل ينقطع بالموت إلا في هذه الثلاثة، فإنه يتجدد أجر هذه الأعمال الثلاثة بعد الموت، كأنه يعملها بنفسه، وإذا كان المراد به هذا لم يكن فيه حجة؛ لأن الإحرام ينقطع أجره وإن كان عقده باقيًا. واحتج: بأن الحج عبادة لا يصح إلا بعد تقدم الإسلام، فوجب أن يخرج منها بالموت كالصلاة والصوم، وإن شئت قلت: عبادة لها تحريم وتحليل. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الإحرام بالصلاة والصيام، بدليل: أن المحرم الذي مات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل إحرامه بالحج وبطل إحرامه بالصلاة والصيام، ولأن الصلاة والصيام يبطلهما الجنون، والإحرام لا يبطله الجنون، ومنهم من [ ... ] (¬1) ويمنع من ذلك ويقول: الجنون يبطله. واحتج: بأن إحرامه لو كان باقيًا بعد موته لوجب أن يوقف بعرفة أو يطاف به حول البيت لعجزه عن ذلك بنفسه كالمريض، فلما لم يجب ذلك دل على أن إحرامه قد انقطع بالموت. والجواب: أن هذا باطل بالمحرم الذي مات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة.

إحرامه لم يبطل، ومع هذا لم يوقف بعرفة ولم يُطَف به، وعلى أنه إنما لم يطف به ولم يوقف بعرفة؛ لأنه لا يحس بذلك، فهو كما لو جنَّ. واحتج: بأنه لما لم يلزمه الفدية إذا طُيِّب أو ألبس دل على بطلان الإحرام. والجواب: أنه إنما لم يلزمه الفدية؛ لأن وجوب الفدية يتعلق بحصول الانتفاع بذلك، وبالموت يزول، والمنع من ذلك هو لحق الله تعالى، وذلك لا يزول بالموت، وعلى أن هذا باطل بالمحرم الذي مات على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يلزمه الفدية بذلك، وإحرامه لم ينقطع، ولأنه لا يمتنع أن يبقى التحريم بعد الموت، ويزول الضمان بالمال، كما أن المسلم إذا مات فإن كسر عظمه محرم، ولا يجب الضمان، ووطئ الميتة محرم، ولا يجب المهر والحد. واحتج: بأن الإحرام عبادة تحرم الطيب، فانقطع حكمها بالموت كالعدة. والجواب: أن المعتدة منعت من الطيب؛ لأن لا تدعوها نفسها إلى الجماع فيدخل على الزوج ما [ ... ] (¬1) فاسد، وهذا المعنى يزول بالموت، والمحرم منع من ذلك لحق الله تعالى، وهذا لا تزول بالموت. وعلى أن الإحرام بالحج لم يصح فسخه من غير عذر بحال، والعدة تبطل وتزول بفعل المعتدة، وفعل المطلق، ثم يبطل بالمحرم الذي مات ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة.

45 - مسألة: يغسل الرجل امرأته

في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن إحرامه لم يبطل بموته، وليس في جنس العدد ما لا يبطل بالموت، والله أعلم. * * * 45 - مَسْألَة: يغسل الرجل امرأته: نص عليه في رواية حنبل فقال: لا بأس أن تغسل المرأة زوجها، والزوج امرأته، ويكون من وراء قميص. فقد نص على جواز ذلك. وقد توقف عنه في موضع آخر فقال في رواية الأثرم: أما المرأة فتغسل زوجها، وأما الرجل فيغسل امرأته ففيه اختلاف، وكذلك نقل صالح. وهذا التوقيف لا يمنع الجواز؛ لأنه قد صرح في رواية حنبل، وهو قول مالك، والشافعي، وداود رحمهم الله. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. دليلنا: ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي وأقول: وارأساه فقال: "بل أنا وارأساه" ثم قال: "ما ضرك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" فقالت: كأني بك لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فعرست من بعض نسائك، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهذا ظاهر في جواز غسل الرجل امرأته. فإن قيل: قوله: "غسلت" معناه: أمرت بغسلك، وقمت عليه، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله ستة فأضيف الفعل إليهم وإنما تولاه علي والفضل بن العباس - رضي الله عنهم -، والباقون كانوا يعينون عليًا. قيل له: يجب حمل اللفظ على حقيقته، وهو فعل الغسل كما وجب حمله على حقيقته في الصلاة على المعين في الغسل، والقائم عليه كالغاسل من الخلوة بها، والنظر إليها. فإن قيل: فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة"، وقال: "كل سبب ونسب منقطع إلا سببي ونسبي"، وهذا يقتضي أن الموت لم يكن يقطع النكاح بينه وبين زوجاته، فلهذا قال: "لو مت غسلتك". ولأنه لا يحل نكاحهن بعده. قيل له: لا يجوز أن يقال: إن النكاح لا ينقطع بالموت؛ لأنه لو كان كذلك لكانت المرأة إذا ماتت لم يجز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بأختها، وعمتها، وخالتها، فلما أجمعنا على جواز ذلك دلَّ (¬1) على أن النكاح قد زال. ¬

_ (¬1) حصل خطأ هنا في المخطوط أُخِّرت ألواح حقها التقديم، ففي الوجه الأول من لوح 260 تتمته في الوجه الثاني من اللوح 251، ولذا فسوف ننسخه هنا، لتكون المسألة منضبطة.

فإن قيل: إنما جاز ذلك؛ لأنه يؤدي إلى فساد ذات البين، وفي حال الحياة يؤدي إلى ذلك، وإلى العداوة بين الأختين. قيل: لو جاز ذلك بعد موتها للمعنى الذي ذكرته لجاز أن يتزوج بأختين في السر، ويخفي كل واحدة منهما عن الأخرى، ولكان يجوز أن يتزوج بأختين صغيرتين أو مجنونتين؛ لأنه لا يؤدي إلى المعنى الذي ذكرته، فلما لم يجز ذلك، دل على فساد هذا. فأما قوله عليه السلام: "زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة"، فهذا لكل مسلم، بدلالة ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تكون الزوجة مع زوجها في الجنة". وأما قوله عليه السلام: "كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي نسبي"، فمعناه: أن الانتفاع في الآخرة بالإسلام، معنى قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101]، وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ايتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم"، وقال عليه السلام لفاطمة رضي الله عنها: "إذا أردت أن تلقيني فأكثري من السجود". وأما تحريم زوجاته من بعده فإنما هو لأنهن أمهات المؤمنين فحرمهن لهذا المعنى دون بقاء عقد النكاح. فإن قيل: إنما كان هذا منه على طريق المزاح دون التحقيق. قيل له: كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على الحقيقة بكل حال، ولو كان

مزاحًا فإنه قد قال عليه السلام: "إني لا أمزح ولا أقول إلا حقًا". وأيضًا روى أبو بكر بإسناده عن أسماء بنت عميس أن عليًا - رضي الله عنه - غسل فاطمة رضي الله عنها، قالت (¬1) أسماء: وأعنته عليها. فإن قيل: فقد روى بكر بن محمد عن أبيه قال: قيل لأبي عبد الله: غسل علي فاطمة - رضي الله عنهم -؟ قال: ليس له إسناد. وكذلك روى الفضل بن زياد عنه قال: يروى من طريق ضعيف. وكذلك روى هارون المستملي وقد ذكر أحمد رحمه الله حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الرجل أحق بغسل امرأته وبالصلاة عليها، فقال: هذا منكر ما أراه إلا من حديث ابن أبي يحيى. قيل له: يحتمل أن يكون قال ذلك مرة ثم تبين صحته في الثاني؛ لأن أصحابنا رووا واعتمدوا عليه. فإن قيل: روي أن أم هانئ كانت تغسلها، وكان علي - رضي الله عنه - يعطيها الماء، فأضيف الفعل إليه؛ لأنه كان يعين على غسلها. قيل له: قد روينا أنه كان يغسلها، وأن أسماء كانت تعينه، وهذا صريح في وجود الفعل من جهته. فإن قيل: إنما غسلها؛ لأن النكاح كان عليهما باقيًا بعد موتها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "هي زوجتك في الدنيا والآخرة". ¬

_ (¬1) في الأصل: قال، والصواب المثبت. ينظر: "تنقيح التحقيق" (2/ 624).

قيل له: قد تكلمنا في هذا فيما تقدم، وبينا أن أزواجه تنقطع بالموت. وأيضا روى أبو بكر بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: يغسل الرجل امرأته. ولا نعرف له مخالفًا في الصحابة فدل على جوازه. والقياس: أن كل فرقة حصلت بالوفاة لم تحرم الغسل، كما لو مات الزوج وهي في العدة، فإنها تغسله. فإن قيل: فإذا مات الزوج فأحكام الزوجية باقية؛ لأنها معتدة عنه، فلذلك جاز لها غسله ما دامت في العدة، ولهذا نقول: لو كانت حاملًا فوضعت قبل أن تغسله لم يجز لها غسله، وإذا ماتت المرأة فلم يبق لأحكام الزوجية شيء. قيل له: في حيثية تحريم أم الزوجة عليه، وذلك حكم من أحكام العقد، ولأن عليه نفقتها عندهم وتجهيزها، وكذلك من أحكام العقد فيبطل هذا. وجواب آخر: وهو أنه لو طلقها ثلاثًا ثم مات في أثناء العدة، فإنها لا تغسله، وإن كانت أحكام الزوجية باقية. فإن قيل: عدة الطلاق من أحكام الوطء، ألا ترى أنه لو طلقها قبل الدخول، فلا عدة عليها؟ ! وليس كذلك عدة الوفاة؛ لأنها من أحكام العقد، ألا ترى أنه لو مات عنها قبل الدخول لزمتها العدة؟ !

قيل له: هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأنه يقول في المختلعة: يلحقها الطلاق ما دامت في العدة، ويزعم أن عدتها من أحكام النكاح، وعلى أن الوطء من أحكام العقد، ولا فرق بين ما أوجبه العقد، وبين ما أوجبه حكم العقد، ألا ترى أنهم قالوا: إن سجود السهو يفعل قبل السلام، ويكون بمنزلة سجود الصلاة؛ لأنه لا فرق بين ما أوجبه تحريمة الصلاة وما أوجبه موجب التحريمة وهو قراءة القرآن. ويبين صحة هذا: أن تحريم الربيبة، وتحريم أم الزوجة واحد، وإن كانت حرمة الربيبة بالوطء، وحرمة أم المرأة بالعقد فإنهما يحرمان على التأبيد ويصيران محرمين حتى يجوز له أن يخلو بهما ويسافر بهما؛ ولأن عدة الوفاة لو كانت مبيحة للغسل لوجب أن يكون عدة الطلاق أولى بذلك؛ لأن الطلاق يوجب لها فيها النفقة والسكنى. وقياس آخر: وهو أن كل شخص حل له غسل شخص، حل لذلك الشخص غسله كالأخوين، والأختين، ولا يلزم على هذا أم الولد؛ لأن لها أن تغسل سيدها، وله أن يغسلها أيضًا، ولأن كل معنى لو حدث بالزوج لم يمنع الغسل، فإذا حدث بالمرأة لم يمنع الغسل كالجنون. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وهذا عام. والجواب: أن هذا أمر بالغض من بعض الأبصار؛ لأن (من) للتبعيض، وعلى أن هذا محمول على غض البصر عن الأجنبيات. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ينظر الله إلى رجل ينظر

إلى فرج امرأة وبنتها"، فوجه الدلالة: أنها إذا ماتت قبل الدخول جاز له أن يتزوج بنتها، وينظر إلى فرجها، فلو جاز أن يغسل هذه لنظر إلى فرجها وفرج بنتها، وقد منع النبي عليه السلام، فيجب أن يحرم عليه غسلها. والجواب: أن المراد بذلك المنع على وجه الاستمتاع والتلذذ بهما، وهذا لا يجوز بعد وفاتها، فلم يكن له فيه حجة. واحتج: بأن له أن يتزوج أختها وأربعًا سواها، فمنع من غسلها كالأجنبية. والجواب: أنه ينتقض برجل ملك جارية، فإن له أن يتزوج بأختها، وبأربع سواها، ويجوز له مع ذلك غسل هذه الجارية، والنظر إليها. وعلى أن المعنى في الأجنبيين لما لم يجز لأحدهما غسل صاحبه في حال الحياة لم يجز له بعد الموت. أو نقول: لما لم يجز لأحدهما غسل الآخر بعد الموت لم يجز للآخر غسله (¬1)، كذلك ها هنا؛ لأنه لما جاز لأحدهما غسله جاز للآخر غسله، دليله (¬2): والمرأتان. واحتج: بأن النظر حكم يستفاد بالنكاح فزال بزواله، كسائر أحكام النكاح. ¬

_ (¬1) هنا كلمة لم أهتد لقراءتها. (¬2) هنا كلمة لم أهتد لقراءتها.

46 - مسألة: إذا طلق زوجته طلقة رجعية، ومات وهي في العدة، المذهب: أن لها أن تغسله؛ لأن الرجعية من أصلنا أنها مباحة

والجواب: أنه باطل بنظر الزوجة إلى الزوج بعد موته، وإن قاسوا على منع النظر إلى الفرج، فالجواب: أنه لما لم يجز للزوجة النظر إليه لم يجز للزوج، وغير الفرج بخلافه، والله أعلم. * * * 46 - مَسْألَة: إذا طلق زوجته طلقة رجعية، ومات وهي في العدة، المذهب: أن لها أن تغسله؛ لأن الرجعية من أصلنا أنها مباحة: وهو قول أبو حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: لا يجوز لها أن تغسله. وروي عن مالك رحمه الله روايتان. دليلنا: أن المطلقة الرجعية إذا مات عنها زوجها فعدتها عدة الوفاة لموت الزوجة، فجاز لها غسله، دليله: إذا مات قبل الطلاق، ولا يلزم عليه المبتوتة إذا مات زوجها وهي في العدة؛ لأن عدتها عدة الطلاق لا عدة الوفاة. وإن شئت قلت: إن عصمة الزوجية بينهما باقية (¬1) إلى أن فرق الموت بينهما، فجاز له غسله، دليله: ما ذكرنا، ولا شبهة أن عصمة الزوجية قائمة في الرجعية، بدليل: أن خصائص النكاح قائمة بينهما، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي هامش المخطوط: قائمة.

47 - مسألة: إذا ماتت أم ولده جاز له أن يغسلها

ولا يلزم عليه المبتوتة؛ لأن العصمة انقطعت قبل الموت، ولا يلزم عليه إذا ماتت هي في العدة، فإنه يجوز للزوج أن يغسلها كما قلنا فيه لو لم يكن هناك طلاق، فحكم الرجعية عندنا في باب الغسل من كل واحد منهما لصاحبه كحكمها قبل الطلاق. واحتج المخالف: بأنه ماتت زوجته في العدة منه أو مطلقة منه، فلم يجز له غسلها، أصله: إذا قال: أنت بائن. والجواب: لأن المعنى هناك أن الموت حصل بعد البينونة، وليس كذلك ها هنا؛ لأن الموت حصل والعصمة باقية. أو نقول: المعنى هناك أن عدتها عدة الطلاق، وهذه عدتها عدة الوفاة، والله تعالى أعلم. * * * 47 - مَسْألَة: إذا ماتت أم ولده جاز له أن يغسلها: وهو قول الشافعي - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس له ذلك. دليلنا: أن حكم الملك المتقدم باق بدلالة: أن عليه تكفينها ودفنها كما كان عليه نفقتها وكسوتها في حياتها، فإذا كان كذلك جاز له غسلها في هذه الحال كما كان له ذلك في حياتها. ولأنه يجوز له غسلها في حال حياتها، فجاز بعد موتها، دليله:

48 - مسألة: يجوز لأم الولد أن تغسل سيدها

الزوجة مع زوجها يجوز لها غسله في حال حياته، ويجوز لها بعد موته، كذلك السيد مع أم ولده. وإن شئت قلت: الملك سبب يبيح الغسل مع بقائه (¬1)، فأباحه مع بقاء سببه، دليله: عقد النكاح يبيح للزوجة غسل زوجها مع بقاء النكاح في حال الحياة، ويجوز مع بقاء سببه، وهو العدة. واحتج المخالف: بأن له أن يطأ أختها في الحال كما يطأ أخت الأجنبية، فلما لم يجز له أن يغسل الأجنبية، كذلك هذه. والجواب: أن الأجنبية لم يوجد في جهتها سبب إباحة الغسل، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه قد وجد، وهو ما ذكرنا من حكم الملك المتقدم، والملك سبب في إباحة الغسل، بدليل: حال الحياة فأشبه غسل الزوجة لزوجها، يجوز في حال الحياة مع بقاء الملك، ويجوز مع بقاء حكم الملك، وهو العدة، والله أعلم. * * * 48 - مَسْألَة: يجوز لأم الولد أن تغسل سيدها: وقد قال أحمد - رحمه الله - في رواية أبي طالب: لا تنظر إلى عورة الرجل إلا زوجته أو [ ... ] (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: باقيه. (¬2) سقطت كلمة، ولعلها: أم ولده.

وبهذا قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز لها أن تغسله. دليلنا: أنه جاز له أن يغسلها في حال حياته، فجاز لها غسله بعد موته، أصله: الزوجة مع زوجها. وإن شئت قلت: وطؤها كان وقد وجبت عليها العدة بموته، فلها أن تغسله، دليله: الزوجة إذا مات عنها. فإن قيل: عدة الزوجية من أحكام النكاح، فإذا كانت أحكام النكاح باقية جاز لها غسله، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن هذه العدة ليست من أحكام ذلك الملك، وإنما هي واجبة عن وطء فأشبه المنكوحة نكاحًا فاسدًا إذا مات عنها. قيل له: تكفينها ودفنها في هذه الحالة من أحكام الملك، كما أن العدة من أحكام النكاح، فيجب أن يجوز الغسل في هذه الحال كما جاز للمعتدة عن نكاح، وعلى أننا قد بينا أنه إذا كانت عدة الوفاة مبيحة للغسل كانت عدة الوطء في الملك أولى؛ لأنه يجب فيها السكنى والنفقة. ولأن الوطء من أحكام الملك والعقد، ولا فرق بين ما أوجبه العقد، وبين ما أوجبه حكم العقد من الوجه الذي ذكرنا. واحتج المخالف: بأن هذه العدة واجبة عن الوطء لا عن الوفاة، فأشبهت المنكوحة نكاحًا فاسدًا، والموطوءة بشبهة إذا مات عنها الواطئ. والجواب: أنا قد بينا أن الواجب عن العقد، وعلى أن المعنى في

49 - مسألة: لا يجوز للرجل أن يغسل ذوات محارمه من النساء

الأصل أنه لا يجوز له غسلها في حال الحياة، ولأنه كان وطؤها محرمًا، وهذه كان وطؤها مباحًا إلى حين الوفاة، وكان يباح له غسلها حال الحياة. واحتج: بأن العدة ليس من أحكام الملك، ألا ترى أنه لو أعتق أمته بعد الوطء لم يجب عليها عدة؟ ! وكذلك لو باعها، فلو كانت العدة من أحكام الملك لوجب أن تزول بزوال الملك بعد الوطء، ألا ترى أنها لما كانت من أحكام النكاح وجبت بزوال النكاح؟ ! فإذا لم يكن من أحكام الملك لم يكن وجود العدة عليها فتفرقا، [فلم يبق] (¬1) شيء من أحكام ذلك الملك، ولا يجوز لها أن تغسله كالأجنبية. والجواب: أنا قد بينا أن الوطء من أحكام العقد، ومن أحكام الملك، ولا فرق بين ما أوجبه الملك والعقد، وما أوجبه حكم العقد والملك من الوجه الذي ذكرنا. وأما الأجنبية فقد بينا الفرق بينهما وهو: أن الغسل في حال الحياة حرام، وأنه لا عصمة بينهما إلى حين الموت، والله أعلم. * * * 49 - مَسْألَة: لا يجوز للرجل أن يغسل ذوات محارمه من النساء: نص عليه في رواية أبي داود وقد سئل: هل يغسل الرجل أمه؟ ¬

_ (¬1) كأن هنا نقصًا، ويستقيم الكلام هكذا.

فقال: سبحان الله! واستعظم، وقال: أليس قد قيل استأذن على أمك غير مرة. وكذلك نقل مهنا عنه في الرجل تموت أمه ولم يجد امرأة تغسلها، هل يغسلها هو؟ قال: لا يغسلها وعليها ثيابها. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال مالك والشافعي رحمهما الله: يجوز. دليلنا: عموم قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}. وروى أبو حفص العكبري في كتاب غض الطرف: حدثنا ابن الصواف قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا أبو مسعود يوسف بن معاوية الأنباري عن أبي المليح الرقي عن عبد الله الوراق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغسلني عمي فان العم والد ولا ينبغي للوالد أن ينظر إلى عورة ولده" وظاهر هذا يقتضي أن الأب لا يغسل ابنته، ومعلوم أنه لم يرد به العورة المغلظة؛ لأن ذلك لا يجوز لغير الوالد أن ينظر إليه، علم أن المراد به ما هو في حكم العورة وهو بقية البدن؛ لأنا قد بينا أن جميع بدن الميت في حكم العورة، ولأن كل امرأة لم يبح له وطؤها في حال الحياة لم يجز له غسلها بعد الموت، دليله: الأجنبية. ولأن الموت يصيِّر جميع البدن في حكم العورة، ولهذا يستر موضع غسله، ولا ينظر الغاسل ولا من يعينه إلا إلى ما لا بد منه، ويستر

جميعه بالكفن، ويستحب غسله في ثوب، وإذا كان كذلك يجب أن يعتبر هذا في حق ذوات المحارم، فتصير المرأة في حكم العورة، فلا يجوز النظر إليها. وتبنى المسألة على أصل: وهو أنه لا يجوز له أن ينظر إلى ما نظر من ذوات محارمه، ويدل عليه بأشياء منها: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، فبين أن الزوجة ليست كالأم، وظاهر هذا أنها ليست كهي في النظر وغيره. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه"، والنظر إلى هذه المواضع مما يدعو إلى جماعها، وإلى أن الظهر والصدر يكون مظاهرًا بالإضافة إليه فلم يجز النظر إليه، دليله: الفرج. ولأنه لا يباح له وطؤها فلا يباح له النظر إلى صدرها وظهرها كالأجنبية، يبين صحة هذا أن الأجنبية قد تباح بحال، وهذه لا تباح بحال فهي آكد تحريمًا. واحتج المخالف: بأن الغسل معنى يتعلق بالنظر، وقد كان في حال الحياة يباح له النظر إلى المواضع الباطنة، فيجب أن يباح بعد الموت. والجواب: أن أبا بكر الأثرم قال: سئل أحمد رحمه الله: هل ينظر إلى ساق امرأة أبيه وصدرها؟ فقال: لا يعجبني، وقال: أنا أكره أن ينظر من أمه وأخته إلى مثل ذلك، وإلى كل شيء لشهوة. وظاهر هذا: المنع من النظر إلى ما بطن من البدن كالصدر والظهر.

50 - مسألة: لا يجوز للمسلم غسل قريبه الكافر ودفنه

فإن قيل: فيدل عليه لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. والجواب: أن المراد بالزينة ما يظهر، ألا ترى أنها أفادت جواز ذلك في حق الأزواج من جميع الجهات؟ ! ولم يبح مثل ذلك في ذوات المحارم، والله أعلم. * * * 50 - مَسْألَة: لا يجوز للمسلم غسل قريبه الكافر ودفنه: نص على ذلك في رواية ابن مشيش في الرجل يموت له قرابة يهودي أو نصراني، وله عنده أيادٍ: لا يغسله المسلم. وكذلك نقل أبو طالب في الرجل يموت وهو يهودي وله ولد مسلم: يركب دابته، ويسير أمام الجنازة، ولا يكون خلفه، فإذا أرادوا أن يدفنوه رجع مثل قول عمر. وروى حنبل عنه في الرجل المسلم: إذا كان له أب أو أخ أو قرابة قريبة فوليه فلا بأس، واحتج بحديث علي - رضي الله عنه -، قيل له: فترى أن يغسل هو؟ قال: لا يغسل إنما يكون معهم حتى إذا ذهبوا به تركهم معه يلونه. قال أبو حفص العكبري: لا بأس أن يغسل أباه، وأخاه، ويتبع جنازته، على ما رواه الجماعة، قال: ولعل ما رواه ابن مشيش قول قديم

أو يكون قرابة بعيدة، وإنما يؤمر إذا كانت قرابة مثل ما روى حنبل. والمذهب: أنه لا يجوز ذلك على ما روينا عنه، وما رواه حنبل عنه لا يدل على الجواز؛ لأنه قال: يحضر ولا يغسل. وبهذا قال مالك رحمه الله. وقال الشافعي رحمه الله: يجوز ذلك. دليلنا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وهذا عام في كل شيء إلا ما خصه الدليل. وروى أبو بكر الخلال في كتاب العلل بإسناده عن كعب بن مالك عن أبيه قال: جاء ثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أمه قد توفيت وهي نصرانية وهو يحب أن يحضرها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اركب دابتك وسر أمامها فإنك إذا ركبت دابتك وسرت أمامها فلست معها"، فوجه الدلالة: أنه قال: "اركب دابتك وسر أمامها" فلو كان اتباعها جائزًا لما أمره بالتقدم عليها، ويخبره أنه ليس معها. ولأنه لم يصل عليه فلم يغسل، دليله: الشهيد، والجنين إذا لم يبلغ أربعة أشهر. ولأن الغسل طهارة للمسلم وتعظيم له، وهذا المعنى معدوم في حق الكافر، ولهذا لم يصل عليه. واحتج المخالف: بما روى أبو بكر بإسناده عن محمد بن إسحاق

عن ناجية بن كعب (¬1) عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يغسل أبا طالب ويدفنه. والجواب: أن هذا الحديث ضعيف يرويه ناجية [ ... ] (¬2)، وعلى أن المشهور من هذا الخبر ما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: اذهب فواره، ولم يذكر فيه الغسل، وعلى أنه محمول على الوقت التي كانت الصلاة عليهم جائزة، إلى أن نزل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}، وهذا هو الظاهر؛ لأنه نزل ذلك بالمدينة، وأبو طالب مات بمكة. واحتج: بما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: عارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة أبي طالب وقال: "وصلتك رحم وجزيت خيرًا يا عم". والجواب: أن أبا بكر المروذي قال: ألقيت على أبي عبد الله رحمه الله حديثًا رواه الفضل بن موسى عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: عارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة أبي طالب، فقال: هذا منكر، هذا رجل مجهول. وعلى أنه لو صح فتأويله ما تقدم. ¬

_ (¬1) في الأصل: أبي حفاف، والتصويب من "مصنف" عبد الرزاق رقم (9936)، والمسند رقم (759). (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة.

واحتج: بما روى سعيد بن جبير: أن رجلًا سأل ابن عباس - رضي الله عنهم - عن أم ولد له نصرانية ماتت، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: اتبعها وادفنها ولا تصل عليها. وروى إسحاق بن الحارث قال: ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية فشهدها الفقهاء، وغيرهم. والجواب: أن هذا يعارضه ما روى إسرائيل قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - وسأله الحارث بن أبي ربيعة: عن أم له نصرانية ماتت؟ فقال: تأمر بأمرك، وتسير أمامها (¬1)، فإن الذي يسير أمامها ليس معها، ولا تصل عليها. وهذا يدل على منع الاتباع. واحتج: بأن غسله تنظيف، ويجوز للمسلم أن ينظف المشرك، وتكفينه ستره، ويجوز له ذلك، ودفنه موارته لئلا يذهب ويهلك ونحو ذلك. والجواب: أن الغسل في حال الحياة لا يراد لأجل عبادة، وبعد الموت يراد لأجل الصلاة، والكافر لا يصلى عليه، ألا ترى أنه لا يجوز الصلاة على الميت قبل الغسل؟ ! فإن قيل: هذا يدل على أنه يجب غسله، ونحن نقول: لا يجب، وخلافنا في جواز الغسل. ¬

_ (¬1) في الأصل: أمام.

51 - مسألة: يغسل السقط، ويصلى عليه إذا استكمل أربعة أشهر، وإن لم يستهل

قيل: إذا كان معناه التطهير والتعظيم للميت لم يجز فعله في الكافر كالصلاة عليه، وفارق غسله وحياته؛ لأنه لا يقصد به ذلك، والله أعلم. * * * 51 - مَسْألَة: يغسَّل السقط، ويُصلى عليه إذا استكمل أربعة أشهر، وإن لم يستهل: نص على هذا في رواية أحمد بن أبي عبدة فقال: إذا أتى عليه أربعة أشهر صلي عليه؛ لأنه ينفخ فيه الروح. وكذلك في رواية حنبل، وأبي الحارث، وقال: يغسل السقط ويصلى عليه بعد أربعة أشهر فإن كان أقل من ذلك فلا، واحتج بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: في عشرين ومائة ينفخ فيه الروح، وتنقضي به العدة، وتعتق الأمة إذا دخل في الخلق الرابع. وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: إذا لم يستهل لم يغسل ولم يصل عليه. وقال الشافعي رحمه الله: يغسل قولًا واحدًا، وفي الصلاة عليه قولان، قال في الجديد: لا يصلى عليه، وفي القديم: يصلى عليه. دليلنا: ما روى أحمد رحمه الله في المسند بإسناده عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها والطفل يصلى عليه".

قال أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن [أبي] (¬1) عبدة: حديث المغيرة بن شعبة: "والطفل يصلى عليه" مرفوع صحيح. فوجه الدلالة: أنه قال: "يصلى عليه"، ولم يفرق بين أن يستهل أو لا يستهل. وروى أبو بكر الأثرم في مسائله قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا خالد (¬2) ابن عبد الله عن يونس عن زياد بن جبير بن حية الثقفي عن أبيه عن المغيرة بن شعبة، قال يونس: وأحسب أهله أخبروني أنه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السقط يصلى عليه ويدعى لولديه بالمغفرة. ولم يفرق بين الاستهلال وغيره. ولأنه مسلم جرت فيه الروح، فجاز أن يغسل ويصلى عليه، دليله: إذا استهل، ولا يلزم عليه ما دون أربعة أشهر، لأنه لم تجر فيه الروح. فإن قيل: ليس كل ما جرى فيه الروح وحصلت له الحياة يصلى عليه، ألا ترى أنه لو قطع عضوًا لم يصل عليه، وإن كنا قد علمنا الحياة فيه؟ ! قيل له: إن انفصل العضو بعد موته صلي عليه، وءان انفصل في حال حياته لم يصل عليه؛ لأنه تبع للجملة، والجملة لم يصل عليها. وليس كذلك السقط؛ لأن له حكم نفسه. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) في الأصل: خلد، والتصويب من "المعجم الكبير" رقم (17417).

فإن قيل: [السقط] (¬1) لا حكم له، ألا ترى أنه لا يرث، ولا يورث، ولا يضمن متلفه دية النفس الكاملة، ولا يصح له الوصية فهو كعضوٍ من أعضائها. قيل له: إنما لم يرث؛ لأنها لم تتحقق حياته عند موت موروثه، وقولهم: لا يورث لا نسلمه؛ لأن ديته تكون موروثة عنه، وقولهم: لا يضمن بدية غير صحيح هو مضمون بالدية التي هي الغرة، ويضمن بالكفارة عندنا، وأما الوصية له فلم تصح؛ لأنه لا تتحقق حياته حين الوصية. واحتج بعض من نصر هذه المسألة: أنه يُضمن بالغرة، وتنقضي به العدة، وتصير به أم الولد إن يغسل ويصل عليه، وهذا غير صحيح؛ لأن وجوب الضمان على الضارب؛ لأن [ ... ] (¬2) الحياة فيه، بدلالة أن وجوبه عليه قبل بلوغ الحد الذي يحصل فيه الحياة، وكذلك انقضاء العدة، وثبوت حكم الاستيلاد لا يتعلقان بحصول الحياة فيه، وإنما يتعلقان بكونه ولدًا، ألا ترى أنه لو استبان بعد خلقه انقضت به العدة، وصارت أم ولد، وإن لم يبلغ الحد الذي فيه الروح؟ ! وقد نص أحمد على هذا في رواية المروذي، وإبراهيم بن الحارث، إذا تبين منه يده أو رجله أو شيء من خلقه فقد عتقت [ ... ] (¬3) أسقطت ففيه الغرة، ولم ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة. (¬2) طمس في الأصل بمقدار كلمة. (¬3) طمس في الأصل، وكأنها: وكذلك إذا.

يعتبر الحد الذي فيه الروح. واحتج المخالف: بما روى جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استهل الصبي يصلى عليه"، دليله: إذا لم يستهل لم يصل عليه. والجواب: أن دليل الخطاب ليس بحجة على أصل أبي حنيفة، وأما على أصلنا فهو حجة ما لم يعارضه دليل أخص منه، وقد عارضه القياس الذي ذكرنا، وهو أولى منه، وعلى أن دليل الخطاب عام في أربعة أشهر فيما (¬1) دون، فتحمله على ما دون أربعة أشهر بدليل ما ذكرنا. واحتج: بما روى الزهري في مسند الحسين بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استهل الصبي صلي عليه وسمي وورث، وإن لم يستهل لم يصل عليه ولم يرث ولم يسم". والجواب: أنا نحمل قوله: "ولم يستهل" ولم يبلغ الحد الذي فيه الروح، بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بأنه ينفصل من الأم ميتًا، فوجب أن لا يصلى عليه كما لو لم يستكمل أربعة أشهر. والجواب: أنه إذا لم يستكمل أربعة أشهر علم أنه لم تجر فيه الروح، وما لم تجر فيه الروح فلا معنى من الصلاة عليه والدعاء له؛ لأنه لا يبعث ولا يحيى، وليس كذلك إذا استكمل، لأنه قد علم حصول الحياة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: فما.

52 - مسألة: إذا قتل المسلم في معركة مع المشركين لم يصل عليه في أصح الروايتين

فيه فهو كما لو استهل. * * * 52 - مَسْألَة: إذا قتل المسلم في معركة مع المشركين لم يصل عليه في أصح الروايتين: نقلها حنبل، وصالح، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه -. ونقل إسحاق بن إبراهيم: يصلى عليه، وهو اختيار أبو بكر الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، وبه قال أبو حنيفة، ومالك رحمهم الله تعالى. وروي عن أحمد رحمه الله التخير في الصلاة وفي تركها، فقال في رواية جعفر بن محمد في الصلاة على الشهيد: إن صلي عليه فلا بأس. وكذلك نقل المروذي عنه فقال: الصلاة عليه أجود، وإن لم يصل عليه أجزأ. وكذلك نقل يعقوب بن بختان. ولأنه تختلف الرواية (¬1) أنه لا يغسل. وجه الرواية الأولة: ما روى أبو عبد الله بن بطة في سننه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: لا تختلف الرواية.

في ثوب واحد، ثم أيهم أكثر أخذًا للقرآن، فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا. وروى أيضًا بإسناده عن الزهري عن أنس - رضي الله عنهما - قال: مرَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بحمزة عمه - رضي الله عنه - يوم أحد وقد مثِّل به فقال: "لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته تأكله العافية حتى يحشر من بطونها"، فدعا بنمرة، وكانت إذا مدت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدت على رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا على رأسه"، وقلَّت الثياب، وكثر القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاث يكفنون في الثوب الواحد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل: "أيهم أكثر قرآنًا؟ " فيقدمه إلى القبلة فيدفنهم ولم يصل عليهم. قال ابن مشيش: قلت لأحمد: حديث الزهري عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد، فقال: يحدث به أسامة بن زيد عن الزهري وكأنه ضعفه، وقال: الليث بن سعد يحدثه عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر بن عبد الله، قال: أخلق به أن يكون حديث الليث بن سعد أشبه الصحيح، فقد رجح حديث جابر على حديث أنس في الصحة. فإن قيل: يحتمل أن يكون صلى عليهم في غيبة من جابر وأنس فلم يشاهد الصلاة. قيل: لما لم يجز أن يقال في ترك الغسل مثل هذا لم يجز أن يقال

في ترك الصلاة كذلك، وعلى [هذا] (¬1) إذا بقي الحكم على الإطلاق وجب نفيه كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة و [ ... ] (¬2) ذلك، ولأنه لا يجوز أن يقال: إنهما نفيا ذلك من غير علم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركها؛ لأنه يؤدي إلى الجرح والقدح في دينهما. فإن قيل: يحتمل أن يكون صلى على بعضهم ولم يصلِّ على بعض، ولكن أمر غيره بالصلاة. قيل له: قوله: "لم يصل على قتلى أحد" إشارة على جميعهم، فلا يجوز حمله على بعضهم؛ لأن الصلاة على البعض يمنع الإطلاق في الكل. والقياس: أنه لا يغسل فلا يصلى عليه، دليله: الشهيد إذا اختلط بالكفار. فإن قيل: هناك قد وجبت الصلاة عليه إلا أنا لا نعرفه فلا نتوصل بالصلاة عليه. قيل له: كان يجب أن يصلى عليه بالنية (¬3) نحن إذا اختلط بهم غير الشهيد؛ لأن الغسل شرط في صحة هذه الصلاة، بدلالة أنه إذا صلي ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بمقدار كلمة. (¬2) طمس في الأصل بمقدار كلمة. (¬3) كلمة عليها سواد منعت من قراءتها.

عليه قبل الغسل لم تصح الصلاة، فإذا كان كذلك سقط الغسل يجب أن تسقط الصلاة، دليله: الكافر والسقط إذا لم يصور. فإن قيل: إنما لم يصل على الكافر لانقطاع الموالاة، وأما السقط فلأنه لم تجر فيه الروح. قيل: أما قولك: إن المولاة منقطعة بيننا وبين الكافر، وها هنا هي باقية، فيبطل بالسقط الذي جرت فيه الروح، وإذا خرج ميتًا الموالاة باقية ولا يصلى عليه عنده، وعلى أنه لا يمتنع أن تكون الموالاة باقية، وتسقط بالشهادة كالغسل. وأما قوله: السقط لا روح فيه، فلا معنى له؛ لأن عنده لو كان فما جرت فيه الروح لم يصل عليه. فإن قيل: إنما سقط الغسل لأنه يراد تطهيرًا له، والشهادة طهارة. قيل له: كما استغنينا بفضيلة الشهادة عن الغسل كذلك في الصلاة. ولأنها صلاة من شرطها الطهارة فما أسقط الصلاة قياسًا على الحيض والنفاس في حال الحياة. ولأنه ليس في ترك الصلاة كسر للميت، فجاز أن يسقط بالشهادة كالغسل. واحتج المخالف: بما روى شداد بن الهاد - رضي الله عنه - أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أريد أن أهاجر معك، فغزا معه فقسم له من الغنيمة فقال: لم أهاجر معك لهذا، وإنما هاجرت لكي أرمى في هذا

- فأشار إلى حلقه - فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأن صدقت صدقك الله"، قال: فجاء سهم فوقع في حلقه فمات - رضي الله عنه -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق الله فصدقه" ثم صلى عليه فقال: "إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا وأنا شهيد عليه". والجواب: أنه يحتمل أن يكون صلى عليه بمعنى: دعا له كما قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم. وكما قال الأعشى: تقول بنتي وقد قرَّبتُ مرتحلًا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي (¬1) ... نومًا فإن لجنب المرء مضطجعا ولأنه محتمل أن يكون مات بعد انقضاء الحرب، فلهذا صلى عليه. واحتج: بما روى شعبة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه صلى على قتلى أحد وعلى حمزة - رضي الله عنهم -، يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلي عليهم ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن عباس، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوضع ¬

_ (¬1) في الأصل: فاعتصمي، والمراد: أغمضي عينيك للنوم.

بين يديه يوم أحد عشرة فيصلي عليهم، ثم يرفع العشرة وحمزة موضعه، ثم يوضع عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة. والجواب: أن أحمد رحمه الله ضعف هذه الأخبار، فقال مهنا: سألت أبا عبد الله قلت: أليس قد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة؟ فأنكره وقال: ليس له إسناد. وقال الميموني: قلت: حديث حمزة أنه صلى عليه وهو شهيد فذكر من يرويه عن الشعبي وغيره ممن يرويه من الكوفيين هذه الأسانيد لا تكافئ ذلك. وهذا يدل على ضعف ذلك، وعلى أنا نحمل ذلك على أنه صلى عليهم بمعنى دعا لهم، أو على أنهم لم يموتوا في الحال وإنما ماتوا بعد زمان، وتكون الدلالة على صحة هذا ما تقدم من أخبارنا الصحاح. فإن قيل: فأخبارنا مثبتة، وفيها زيادة، وأخباركم نافية، وفيها نقصان، والمثبت أولى. قيل له: الزيادة ها هنا مع النافي؛ لأن الأصل في الموتى الغسل والصلاة، ولأن العلم بالترك والعلم بالفعل سواء في هذا المعنى، ولهذا نقول: إن من قال: صبحت (¬1) فلانًا في يوم كذا فلم يقذف فلانًا (¬2) قبلت ¬

_ (¬1) تكررت مرتين في الأصل. (¬2) في الأصل: صحبت فلانًا في يوم كذا فلم يفرق فلانًا. والتصويب من الفروع (11/ 326).

شهادته كما يقبل في الإثبات. واحتج: بما روى عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين. والجواب: أن هذا متروك بالإجماع، فلا يحتج به، وعلى أنه محمول على أنه دعا لهم. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله". والجواب: أن هذا عام وخبرنا خاص، والخاص يقضي على العام. واحتج: بأن الصلاة على الميت تفضيل وتشريف، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلي عليه تشريفًا له؟ ! وكذلك سائر المسلمين صلي عليهم تشريفًا لهم، والشهيد يستحق التشريف والتفضيل، فوجب أن يصلى عليه كسائر الموتى. والجواب: أن فضيلة الشهادة أسقطت الغسل جاز أن تسقط الصلاة؛ لأن العلة فيهما واحدة. يبين صحة هذا: أن هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة فما أسقط الطهارة يجب أن يسقط الصلاة كما قلنا في الحيض والنفاس في حال الحياة. فإن قيل: ليس علة الصلاة علة الطهارة؛ لأن الطهارة تراد للتطهير من الذنوب، والشهادة تكفير للذنوب.

قيل له: ليس الأمر كذلك؛ لأن الطهارة تجب للتنظيف والتطهير من حدث الموت (¬1) أن هذا يوجب أن لا يغسل الصبي، ولا الأنبياء؛ لأنهم مطهرون من الذنوب، ويجب إذا أحدث ثم أسلم أن تقوم طهارته بالإسلام مقام طهارة الحدث. واحتج: بأن سقوط الصلاة على الميت في الأصول متعلقة بانقطاع الموالاة، ووجوب البراءة كالكفارة، والقتل على وجه الشهادة يؤكد الموالاة ولا يقطعها، وليس كذلك الغسل؛ لأنه قد يغسل من لا يصلى عليه، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليًا - رضي الله عنه - أن يغسل أبا طالب. والجواب: أن هذا المعنى أن يغسل السقط ويصلى عليه إذا جرت فيه الروح إلا أنه خرج ميتًا؛ لأن الموالاة غير منقطعة بيننا، ومع هذا فقد قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يغسل ولا يصلى عليه، وعلى هذا المعنى لما أسقط الغسل مع تأكد الموالاة جاز أن يسقط الصلاة، وما ذكره من أنه قد يغسل ولا يصلى عليه وهو الكافر لا نسلمه، وأما حديث أبي طالب فقد تكلمنا عليه بما فيه كفاية. ووجه الثالثة: أن الأخبار متعارضة في ذلك، فلهذا كان مخيرًا كما قلنا في رفع اليدين إن شاء إلى الأذنين، وإن شاء إلى المنكبين، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) هنا كلمة لم تتبين لكونها في آخر السطر وعليها سواد.

53 - مسألة: إذا رفسته دابته فمات أو عاد عليه سلاحه أو تردى من جبل أو في بئر فمات في معركة المشركين فإنه يغسل ويصلى عليه

53 - مَسْألَة: إذا رفسته دابته فمات أو عاد عليه سلاحه أو تردى من جبل أو في بئر فمات في معركة المشركين فإنه يغسل ويصلى عليه: نص عليه أحمد رحمه الله في رواية الحسن بن محمد فقال: إذا عثرت به دابته في المعركة فمات أرى أن يغسل إلا إن تصيبه جراحة فيموت في مقامه فلا يغسل. وقال الشافعي رحمه الله: لا يغسل ولا يصلى عليه، كما لو قتله مشرك. دليلنا: ما روي أن الملائكة غسلت آدم عليه السلام وكفنته، وقالت هذه سنة موتاكم يا آدم، وهذا عام في كل ميت إلا ما خصه الدليل. وقوله: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله"، وهذا عام. ولأن الميت في الأصل سنته الغسل، فكان قياسه الغسل فيمن قتله المشركون أيضًا، لكن تركنا القياس في الشهداء المتفق عليه وأبقي غيره على موجب القياس. ولأن موته حصل بسبب من غير جهة آدمي فغسل وصلي عليه، كما لو غرق أو تردى من جبل أو رفسته دابته في غير معترك المشركين. واحتج المخالف: بأنه مسلم مات في معترك المشركين بسبب من أسباب القتال، فأشبه لو قتله مشرك. والجواب: أن المعنى هناك أن الموت حصل بسبب من جهة

54 - مسألة: وإن وجد بيننا في معترك المشركين ولا أثر به غسل وصلي عليه

المشركين، وليس كذلك ها هنا؛ لأن موته حصل بسبب من غير جهة آدمي فأشبه ما ذكرنا، والله أعلم. * * * 54 - مَسْألَة: وإن وجد بيننا في معترك المشركين ولا أثر به غُسِّل وصلي عليه: نص عليه في رواية الحسن بن محمد فقال: إذا وجد ميتًا ولم يكن به جراحة فلعله مات موت نفسه، وذهب إلى أن يغسل إلا أن يكون به كَلْم. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي رحمه الله: لا يغسل. دليلنا: ما تقدم من قول الملائكة عليهم السلام: هذه سنة موتاكم. ومن (¬1) أن الغسل وجوب الغسل إلا ما انتقلنا عنه بالدليل، وهو الشهيد المتفق عليه، فيجب أن يبقى ما عداه على موجبه. ولأنه قد تقابل ها هنا أصلان: أحدهما: وجوب الغسل في الأموات. ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار كلمة.

والثاني: أن الظاهر من الحرب إذا التحمت ووجد ميتًا في المعترك أنه لم يمت حتف أنفه وإنما قتل، وإذا تقابل وجب أن يرجع إلى الأصل الذي هو الغسل؛ لأنه متحقق، وهذا الظاهر محتمل فلا ينتقل عن يقين بمحتمل. ولأننا لا نعلم أن سبب موته من جهة آدمي، فيجب أن يغسل، دليله: إذا علم أنه مات حتف أنفه، إذ لو كان مقتولًا لكان به أثر؛ لأن الظاهر من حال المقتول أن يكون به أثر. واحتج المخالف: بأن الظاهر من الحرب إذا التحمت ووجد ميتًا أنه قتل، فيجب أن يحكم بالظاهر كما لو كان به أثر فإنه يحكم بقتله، وإن جاز أن يكون جرح نفسه. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه قد قابل هذا الظاهر أصل آخر وهو: وجوب الغسل، ولا يشبه هذا إذا وجد به أثر؛ لأن الظاهر أنه مقتول، وأنه لا يجرح نفسه في العادة، وإذا لم يكن به أثر فالظاهر موته حتف أنفه، فلهذا غسل. فإن قيل: كان يجب أن لا يعتبروا الأثر ها هنا، كما لم يعتبروه في القسامة. قيل: لم يعتبره في القسامة احتياطًا لوجوب الدم، واعتبرناه ها هنا احتياطًا للغسل، والله أعلم. * * *

55 - مسألة: إذا خرج في المعترك ثم تكلم أو شرب أو صلى أو وصى ومات، غسل وصلي عليه

55 - مَسْألَة: إذا خرج في المعترك ثم تكلم أو شرب أو صلى أو وصى ومات، غُسِّل وصلي عليه: نص عليه في رواية إسحاق بن هانئ فقال: إذا قتل في المعترك لم يغسل ويصلى عليه، وحمل وبه رمق أو أكل أو شرب أو بال أو نام أو عطس غسل وصلي عليه. وكذا نقل الأثرم عنه في الرجل يوجد مقتولًا لعله قد مشى لعله قد تكلم إنما يترك غسل القتيل في المعركة، فأما إن حمل أو صار إلى موضع آخر غسل. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال مالك رحمه الله: إذا حمل من المعترك مثخنًا بالجراح فعاش ثم مات؛ فإن كان في غَمْرة الموت بالجراحات فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وإن بقي يومين أو ثلاثة أو أكل أو شرب فهو كسائر الموتى. وقال الشافعي رحمه الله: إن وجد منه شيء من ذلك والحرب قائمة لم يغسل، وإن انقضت الحرب ثم مات غسل وصلي عليه، فالاعتبار عنده ببقاء الحرب ونقضها. دليلنا: ما تقدم من الخبر والاستدلال، ولأنه إذا وجد منه شيء من ذلك فقد صار إلى حال من أحوال الدنيا فنقصت فيه معنى الشهادة، فصار كما لو مات بعد تَقَضِّي الحرب.

56 - مسألة: إذا قتل صبي في المعترك لم يغسل

واحتج المخالف (¬1): بأنه مسلم مات في معترك المشركين بسبب من أسباب القتال فشأنه إذا مات قبل أن يتكلم. والجواب: أن المعنى هناك أنه لم يصر إلى حال من أحوال الدنيا فشهادته كاملة، فلهذا لم يغسل، وليس كذلك ها هنا؛ لأن شهادته نقصت فغسل كما لو مات بعد مضي الحرب، والله أعلم. * * * 56 - مَسْألَة: إذا قتل صبي في المعترك لم يغسل: وهو [قول] (¬2) مالك، والشافعي رحمهما الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يغسل. دليلنا: أنه مسلم قتل ظلمًا لم يذنب ولا وجب عليه غسل في حال حياته، فلم يغسل، دليله: البالغ، ولا يلزم عليه المقتول قصاصًا، وفي الرجم في الزنا، والمقتول على وجه الدفع؛ لأن ذلك القتل بحق. ولا يلزم عليه إذا تكلم أو أكل أو شرب أو حمل وفيه الحياة ثم مات، لقولنا: لم يرث. ولا يلزم عليه: إذا قتل جنبًا؛ لأنه وجب عليه الغسل في حال حياته. ¬

_ (¬1) من هنا يبدأ نسخ الوجه الثاني من لوح 250 والذي سلف التنبيه عليه من الخلل الواقع في الأصل. (¬2) ساقطة من الأصل.

ولا يلزم عليه من قتل ظلمًا في غير معترك المشركين؛ لأنه لا يجب غسله على الصحيح من الروايتين، كما لا يجب إذا قتل في معترك المشركين. ولأن الصغير في سنن الموتى وفروضها (¬1) بمنزلة الكبير لا فرق بينهما فيما تساويا في معناه، الدليل عليه غير الشهيد، ثم تثبت أن الشهادة تسقط الغسل عن الكبير جاز أن تسقط عن الصغير، ولا يلزم عليه اختلافهم في الكفن، والدعاء في الصلاة، وفي الغاسل، وأن الصبية قد تنقص في عدد أكفانها عن الكبير، وكذلك ينقص الصغير عن الكبير في الدعاء له في الصلاة، فلا يقال: إن كان محسنًا فجازه وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، وكذلك يجوز للمرأة أن تغسل الصبي عندهم؛ لأنهم مختلفون في معناه، وذلك أن القصد من الزيادة في الأكفان فضل ستر العورة، وهذا لا يقصد به الصبي، وكذلك النظر إليه، والدعاء له بالمغفرة؛ لأنه لا ذنوب عليه. ولأن كل غسل لا يجب في البالغ لا يجب في الصبي، دليله: الغسلة الثانية، والثالثة، والغسلة الأولة في غير الشهيد. فإن قيل: لا يجوز اعتبار الثانية بأوله كما لا يجوز اعتباره في غير الشهيد. قيل: وقد يتساويان بدليل الكافر إذا قتل في المعترك يستوي حكم ¬

_ (¬1) في الأصل: وبفروضها.

الأولى والثانية في الإسقاط، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بأن الشهادة تطهير للشهيد من الذنوب، والصبي لا ذنب له فلا يلحقه حكم الشهادة، ويبقى على أصله في وجوب غسله. والجواب: أنا لا نسلم أن الشهادة تطهير من الذنوب، وإنما الشهادة هو القتل ظلمًا، وهذا معنى موجود في الصغير، وأما غفران الذنوب فإنه من أحكام الشهادة، فإن لم يكن ذنب استغنى عن الغفران ووجبت الجنة له في درجة الشهداء، ومن كان من البالغين منهما لا يغسل، فهذا حكمه وهو إذا بلغ في المعترك ثم قتل عقيب بلوغه فإنه لا ذنب له، ومع هذا فيثبت له حكم الشهادة وإن لم يصادف تطهيرًا. فإن قيل: يجوز أن يكون قد أذنب ولم يعلم. قيل له: إذا شاهدناه لم يزل عن موضعه فقتل علم أنه لا ذنب له. فإن قيل: يجوز أن يكون قد أضمر معصية. قيل له: نية المعصية واعتقادها معفو عنه ما لم يفعلها، على أن الأصل: عدم الذنب، فكان يجب أن لا يثبت حكم الشهادة؛ لأن سببها غير متحقق. جواب آخر: وهو أنه لا يمتنع أن يثبت حكم الشهادة بالقتل في حق الصغير، فإن كان معناها التطهير فلا ذنب له كما ثبت إسلامه، وفيه معنى التطهير من الذنوب، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

57 - مسألة: الجنب إذا قتل شهيدا غسل

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يجب ما قبله". وجواب آخر: وهو أن الشهادة تؤثر في الصغير كتأثيرها في الكبير، وهو أن ترفع له الدرجات أكثر من الصغير الذي ليس بشهيد، فيجب أن تؤثر في باب الغسل. واحتج: بأنه قبل البلوغ يغسل كما لو قتل في غير المعترك. والجواب: أنه لا يغسل عندنا كما لا يغسل البالغ إذا قتل ظلمًا في غير المعترك، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 57 - مَسْألَة: الجنب إذا قتل شهيدًا غسل: نص عليه في رواية حرب في الشهيد يقتل وهو جنب؟ قال: يغسل غسلًا واحدًا. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال مالك، والشافعي رحمهما الله: لا يغسل. دليلنا: ما روي أن حنظلة بن أبي عامر - رضي الله عنه - قتل فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله فقال: "ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله؟ " قالوا: خرج جنبًا، رواه محمد بن إسحاق في المغازي بإسناده عن قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة - يعني حنظلة - فاسألوا أهله

ما شأنه؟ " فسألت صاحبته (¬1) فقالت: خرج وهو جنب حيث سمع الهائعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لذلك غسلته الملائكة"، فلو لم يجب غسله لما غسلته الملائكة كما لم تغسل [ ... ] (¬2) الشهداء. فإن قيل: يجوز أن تكون الملائكة غسلته تشريفًا له. قيل له: ليس في غسل الشهيد تشريف له، بل تشريفه في ترك الغسل، على أن محمد بن إسحاق قد روى فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لذلك غسلته الملائكة" يعني للجنابة. فإن قيل: الخلاف في غسل الآدميين وليس في الخبر بيان ذلك. قيل له: غسلته الملائكة، وكفنته، ودفنته وقالت: "هذه سنة موتاكم يا بني آدم"، ولم يأمر ولده بإعادة غسله، فدل على أن غسل الملائكة قائم مقام غسلهم. فإن قيل: ليس في الخبر أن الملائكة غسلته، وإنما المحفوظ أنها صلت عليه. قيل: ذكر إسحاق بن بشر القرشي في كتاب المبتدأ: أن جبريل والملائكة عليهم السلام غسلته وحنطته وكفنته، وكبر جبريل - عليه السلام - عليه أربعًا ثم التفت إلى بني آدم وقال: "هذه سنتكم في الموت، ¬

_ (¬1) هنا يبدأ نسخ الوجه الثاني من لوح 260 كما سلف التنبيه عليه من الخلل الواقع في الأصل. (¬2) طمس بمقدار كلمة، ولعله: (يوم أحد).

فافعلوا بموتاكم مثل ما رأيتمونا صنعنا بأبيكم". ويدل عليه أيضًا أنه لما مات سعد بن معاذ - رضي الله عنه - خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسرع في المشي، فقيل له في ذلك، فقال: "خشيت أن تسبقنا الملائكة إلى غسله كما سبقتنا إلى غسل حنظلة"، وهذا يدل على أن الملائكة لو لم تغسل حنظلة لغسله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن غسلها قام مقام غسله. ويدل أيضًا على أن الملائكة لو سبقته إلى غسل سعد سقط فرض الغسل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما بادر إلى غسله؛ لأنه عليه السلام كان يلزمه غسله بعد غسل الملائكة. ولأن غسل الميت في الأصل سنة، فكان القياس أن يغسل الشهيد إلا أنا تركنا القياس في الشهيد إذا لم يكن جنبًا للاتفاق، وحملنا الجنب على موجب القياس. ولأنه قتل وعليه واجب قبل القتل، فلا يقوم القتل مقام الغسل، دليله: لو قتل وعليه نجاسة. ولا يلزم عليه إذا قتل محدثًا؛ لقولنا قبل: وعليه غسل واجب، والحدث الأصغر لا يوجب الغسل. ولا يلزم عليه إذا قتلت وهي حائض أو نفساء؛ لأنها إن قتلت بعد انقطاع الدم فإنها تغسل، وإن قتلت قبل انقطاعه لم تغسل؛ لأن الحائض والنفساء لا يجب عليها الغسل إلا بالانقطاع، وانقطاعه يحصل بالموت، وإذا كان كذلك لم يكن عليها غسل واجب قبل القتل، فلم يجب غسلهما

بعد القتل كسائر الشهداء. ونظير مسألتنا: أن يقتل بعد انقطاع الدم من الحيض والنفاس، فإنا نقول: تغسل كالجنب إذا قتل. وإن شئت قلت: حدث الجنابة يمنع المكث في المسجد فلم يسقط وجوب غسله بالموت، دليله: النجاسة ولا يلزم عليه الحدث الأصغر؛ لأنه لا يمنع المكث في المسجد، ولا يلزم عليه إذا قتلت حائضًا أو نفساء، لقولنا: فلم يسقط وجوب غسله، وهنا ما وجب الغسل قبل القتل؛ لأنه إنما يجب بالانقطاع. فإن قيل: من أصحابنا من قال: تسقط إزالة النجاسة كما تسقط الطهارة من الحدث. قيل له: ليس هذا قول يعول عليه، فلا يلتفت إليه. فإن قيل: قولك: قتل وعليه غسل واجب لا تأثير له في النجاسة؛ لأنه لا فرق بين أن تكون وجبت في حال حياته أو أصابته النجاسة بعد موته في وجوب الإزالة. قيل: له تأثير في غير الجنب إذا قتل شهيدًا. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الشهيد لا يغسل"، وهذا عام. والجواب: أنا نخصه ونحمله على غير الجنب، بدليل ما ذكرنا. واحتج: بأنه مسلم مات في معترك المشركين بسبب من أسباب

القتال، فوجب أن لا يغسل قياسًا على غير الجنب. والجواب: أن غير الجنب لم يكن عليه غسل واجب قبل القتل، فقام القتل مقام الغسل الواجب بالموت، وليس كذلك الجنب إذا قتل؛ لأنه كان عليه غسل واجب قبل القتل، فلا يقوم القتل مقام الغسل كما لو قتل وعليه نجاسة. واحتج: بأن الغسل في الجنابة طهارة من حدث فوجب أن يسقط بالشهادة، أصله غسل الحيض والنفاس والوضوء، وربما قالوا: طهارة ينوب عنها التيمم، ولا يلزم عليه غسل النجاسة؛ لأنها ليست عن حدث، ولا ينوب عنها التيمم. والجواب عن الحائض والنفساء: أنها إن قتلت بعد انقطاع الدم فإنها تغسل كما قلنا في الجنب، وإن قتلت في خلال الدم لم تغسل؛ لأن الحائض والنفساء لا يجب عليهما الغسل إلا بعد الانقطاع، ويحصل انقطاعه بالموت، فإذا كان كذلك لم يكن عليها غسل واجب قبل القتل، فلم يجب غسلها بعد القتل كسائر الشهداء. ونظير مسألتنا: أن تقتل بعد انقطاع دم الحيض والنفاس، فإنا نقول: إنها تغسل كالجنب إذا قتل. فإن قيل: الغسل يجب بخروج الدم لا بانقطاعه؛ لأن الانقطاع لم يخرج منها شيئًا، ولا يجب أن يكون ذلك موجبًا للغسل، ويدل على ذلك أن خروج البول هو الموجب للطهارة.

قيل له: لو كان الغسل يجب بالخروج لوجب أن يصح الغسل مع بقاء الحيض ومع بقاء جريان البول وسائر الأحداث الجارية، ولأن الغسل من الحيض لا يراد لنفسه وإنما يراد للصلاة، فإذا لم تكن الصلاة واجبة عليها قبل الانقطاع التي هي المقصودة فأولى أن لا تجب كالإغماء في الطهارة. وأما الوضوء فالمعنى فيه أن الموت يوجب الحدث، فجاز أن يقوم القتل مقام الغسل الواجب به ولا يوجب الجنابة كما لا يوجب ثبوته النجاسة. فإن قيل: فقد قال سعيد بن المسيب، والحسن البصري - رضي الله عنهم -: الميت غسل لجنابته؛ لأنه يجنب بالموت، وقال عبد الله بن الحسن [ ... ] (¬1): الروح نطفة. وهذا يدل على أن الموت يوجب الجنابة، فيجب أن يقوم القتل مقام الغسل. قيل له: يجب أن يقال: إن الموت موجب للحدث؛ لأنه زوال عقل فهو كالإغماء، ولا يوجب الغسل؛ لأنه زوال عقل، وذلك لا يوجب الغسل، والإغماء لا يوجب الغسل. يبين صحة هذا: أن الجنابة تكون مع قوة الشهوة والحواس، ولأن خروج المني على غير هذا الوجه لا يوجب الغسل. ¬

_ (¬1) جملة لم أستطع قراءتها، لوح رقم (261).

58 - مسألة: إذا قتل مسلم في غير المعترك ظلما فهو شهيد لا يغسل في أصح الروايتين

واحتج: بأن القتل على وجه الشهادة يقوم مقام الغسل، وغسل واحد يسقط ما وجب قبل ذلك وإن اجتمعت أسباب كثيرة، ألا ترى أنها لو كانت حائضًا ثم أجنبت فاغتسلت أجزأها غسل واحد. قيل له: القتل على وجه الشهادة يقوم مقام الغسل الواجب بالموت، فأما غسل وجب قبله فلا، فلم يثبت أنه يقوم مقامه، وعلى أن القتل لا يسقط الغسل، وإنما يمنع وجوبه بالموت، والغسل الواجب بالجنابة كان واجبًا قبل الموت فلا يجوز أن نقول: إنه يمنع وجوبه، وقد وجب قبل ذلك، والله أعلم. * * * 58 - مَسْألَة: إذا قتل مسلم في غير المعترك ظلمًا فهو شهيد لا يغسل في أصح الروايتين: رواها عنه صالح، وأبو الحارث فيمن قتله اللصوص ومات في المعركة لا يغسل، وهو اختيار أبي بكر. وفيه رواية أخرى: أنه يغسل، رواها عنه أبو طالب: فيمن قتله اللصوص ومات في المعركة يغسل. وبه قال مالك، والشافعي رحمهما الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن قتل بحديدة فهو شهيد لا يغسل، وإن قتل بغيرها غسل.

وجه الرواية الأولة وأنه لا يغسل في الجملة: أنه مسلم قتل ظلمًا لم يَرِثَّ (¬1) ولا وجب عليه غسله في حياته، فوجب أن لا يغسل كما لو قتل في المعترك، ولا يلزم عليه من قتل خطأ؛ لأنا نريد بقولنا: ظلمًا [ما] يتعلق به المأثم. فإن قيل: قتل تلك الشهادة أكمل؛ لأنه دعا إلى الإيمان بالله والرسول، والمنع من كفرهما، وليس كذلك قتل اللصوص في الدفع عن النفس والمال، لأنه دونه في الرتبة. قيل له: لو كان المقتول صبيًا في المعترك لم يغسل وإن لم يوجد فيه هذا المعنى، وكذلك تجار العسكر إذا قتلوا لم يغسلوا، وإن لم يوجد منهم ذلك، ولأنه لو قتل بحديدة (¬2)، فإذا قتل بغير الحديدة لا يغسل (¬3)، دليله: المقتول في المعترك. فإن قيل: إذا قتل بغير الحديدة وجب عن نفسه بدل وهو مال، فصار كقتيل الخطأ. إذا قتل بالحديدة لم يجب عليه بدل فأشبه القتل في المعترك بحديدة وبغيره. ¬

_ (¬1) المُرْتَثُّ: الصَّريعُ الذي يُثْخَنُ في الحَرْب ويُحمل حَيًّا ثم يموت. "لسان العرب" (رثث). (¬2) كأن هنا سقطًا وهو: (بحديدة لم يغسل). (¬3) كذا في الأصل، وقد تكون: (بغير حديدة غسل).

59 - مسألة: يغسل قتلى أهل البغي ويصلى عليهم

قيل: لا نسلم هذا؛ لأن القتل بغير الحديدة، إما أن يوجب القود فقط أو يوجب أحد الشيئين: القود أو الدية، وعلى أنه إذا قتله بالحديد فقد وجب عن نفسه بدل أيضًا وهو القصاص، بل هذا البدل أعظم وآكد من المال، ثم ثبت أن ثبوت القصاص مع تأكده يمنع الغسل، فأولى أن يمنع ثبوت المال مع ضعفه. واحتج من أوجب الغسل في الجملة: بما روي أن عمر - رضي الله عنه - قتل فغسل وصلي عليه، وكذلك عثمان - رضي الله عنه -. والجواب: أن عمر - رضي الله عنه - ارتثَّ فلهذا غسل، وكذلك عثمان - رضي الله عنه -، والمُرْتثُّ عندنا: يحصل تارة بالأكل والشرب أو الكلام أو يحمل أو يوصي، وقد وجد منهما ذلك بعد الجرح. واحتج: بأنه مسلم قتل في غير معترك المشركين فهو كالمقتول خطأ، وقصاصًا، وفي الزنا. والجواب: أن المعنى هناك أنه لم يقتل ظلمًا، فلم يكن شهيدًا، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه قتل ظلمًا، ولم يرتث ولا وجب عليه غسل في جنابة، فهو كالمقتول في المعترك، وأما إذا قتل خطأ فذلك القتل لا مأثم فيه، فهو كقتل البغاة، والزناة، والله أعلم. * * * 59 - مَسْألَة: يغسل قتلى أهل البغي ويصلى عليهم:

ذكره الخرقي في قتال أهل البغي، وهذا الحكم في قُطّاع الطريق. وبه قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة [رحمه الله] (¬1): لا يصلى عليهم عقوبة لهم. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله"، وهذا عام. وذكر سيف الدين في كتاب الفتوح بإسناده عن محمد بن طلحة: أن عليًا - رضي الله عنه - أقام في عسكره ثلاثًا لا يدخل البصرة، ويدل (¬2) الناس إلى موتاهم، وطاف عليٌّ معهم في القتلى فأُتي بكعب بن سور، فقال: زعمتم أنما خرج معهم السفهاء، وهذا الحبر قد ترون، وساق الخبر إلى أن قال: وصلى على قتلاهم من أهل البصرة، وعلى قتلاهم من أهل الكوفة، وساق الخبر. ولأنه مسلم قتل بحق، فوجب أن يغسل ويصلى عليه، دليله: الزاني المحصن، والقاتل عمدًا، ولا يلزم عليه المقتول شهيدًا؛ لأنه قتل بغير حق، ولأن البغي معصية لا يخرج من الإيمان، فلا يخرج من الغسل، والصلاة، دليله: سائر المعاصي. وفيه احتراز من الردة؛ لأنها تخرج من الغسل، دليله: سائر المعاصي. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) كذا في الأصل، وفي "تاريخ الطبري" (3/ 57): (ندب الناس).

وفيه احتراز من القتل على وجه الشهادة؛ لأن ذلك بمعصية، تبين صحة أن الصلاة على الميت شفاعة ودعاء واستغفار، وأهل البغي أحوج إلى ذلك من أهل العدل، ولا يلزم عليه المقتول شهيدًا؛ لأن ذلك استغنى بشهادة الله - عز وجل - عن الصلاة عليه. فإن قيل: أليس قد قلتم: إن من قتل نفسه، ومن غلَّ من الغنيمة لا يصلى عليه، وهي معصية لا تخرجه عن الإيمان، وهو محتاج إلى الدعاء. قيل له: لا نقول: إنه لا يصلى عليه أصلًا، وإنما قلنا لا يصلي عليه الإمام خاصة ردعًا له، فإنما بقية المسلمين فإنهم يصلون عليه ويغسلونه. واحتج المخالف: بأن عليًا - رضي الله عنه - لم يغسل قتلى أهل النهروان، ولم يصل عليهم. والجواب: أنه يحتمل أن يكون صلى عليهم غيره وغسلهم فاكتفى بذلك، وهذا هو العادة أن الناس يتسارعون إليه. واحتج: بأن قتالهم وجب للذب عن الدين، فوجب أن يصلى عليهم كأهل الحرب. وإن شئت قلت: يستحلون قتال أهل الحق ولأن لهم منعًا وقد باينوا أهل الحق، وباينوهم بالقتال فهم كأهل الحرب. والجواب: أن قتلهم ليس للذب عن الدين، وإنما هو لأجل الإمامة والرئاسة، ولأجل هذا لا تغنم أموالهم، ولأن أهل الحرب كفار، والكفر

60 - مسألة: لا يغسل قتلى أهل العدل ولا يصلى عليهم

يمنع الصلاة، ولهذا قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وليس كذلك هؤلاء؛ لأنهم لم يكفروا بالبغي فهو كغيره من المعاصي. ولأن أهل الحرب كفار لا ينفعهم الدعاء والاستغفار، وليس كذلك أهل البغي، وقطاع الطريق؛ لأنهم مسلمون فجاز الدعاء لهم والاستغفار، لأن القصد من الصلاة الدعاء. واحتج: بأن علينا مباينتهم ومجانبتهم والتبرؤ منهم في حياتهم، فكان ذلك بعد موتهم أولى؛ لوقوع الإياس من توبتهم. والجواب: أنه لا يجب التبرؤ منهم، وإنما يجب التبرؤ من فعلهم الذي هو البغي، وقطع الطريق، كما يجب التبرؤ من فعل الفساق الذي فسقوا به دون التبرؤ من إنابتهم، وسائر طاعاتهم، والله تعالى أعلم. * * * 60 - مَسْألَة: لا يغسل قتلى أهل العدل ولا يصلى عليهم: ذكره أبو بكر، ورويناه على من قَتَله اللصوص، وهذا البناء يوجب أن تكون المسألة على روايتين، قلنا فيمن قتله اللصوص في المذهب الصحيح: أنه لا يغسل. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وللشافعي رحمه الله قولان:

أحدهما: مثل هذا. والثاني: يغسل، وهو قول مالك رحمه الله. دليلنا: ما روى أبو بكر الخلال بإسناده في العلل أن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: ادفنوني في ثيابي فإني رجل مخاصم. قال مهنا: سألت أحمد رحمه الله عن حديث عمار "ادفنوني في ثيابي" قال: هو حديث إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثني يحيى بن عابس، قلت لأحمد: من بني إسماعيل بن أبي خالد؟ قال: وكيع، قلت: وكان هذا عبد وكيع، قال: نعم. وعن حجر بن عدي - رضي الله عنه - أنه قال: لا تغسلوا عني دمًا فإني ألتقي ومعاوية على الجادة، ذكره عمر بن شبة في كتاب الكوفة. وذكر سيف في كتاب الفتوح بإسناد: وقتل عثمان - رضي الله عنه - يوم الجمعة، وكان شهيدًا فلم يغسل، وكفن في ثيابه ودمائه ولا غلاميه، وترك القوم الآخرون بالبلاط حتى أكلتهم الكلاب. وفي لفظ آخر: دفن عثمان - رضي الله عنه - ليلة السبت لم يغسل ولم يمنع أحدًا أن يصلى عليه، صلى عليه مروان (¬1). وعن زيد بن صوحان - رضي الله عنه - قال: لا تغسلوا عني دمًا. فإن قيل: يعارض هذا ما روي أن أسماء بنة أبي بكر - رضي الله عنهما - غسلت ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي "تاريخ دمشق" (39/ 526): (دفن عثمان ليلة السبت لم يغسل ولم يمتنع أحد أن يصلي عليه من شيء وصلى عليه مروان).

ابنها قال عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - بعد ما أوصى له (¬1)، وكان ذلك بمحضر من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. قيل: لعله أن يكون ارتثَّ، ولأنه مسلم قتل ظلمًا لم يرتث ولا وجب غسله في حال حياته فأشبه إذا قتله أهل الحرب. فإن قيل: المعنى في تلك الشهادة أنها أكمل؛ لأنها عن المسلمين، وهذا قتال للمسلمين على الإمام والرئاسة. قيل: نقصان الكمال لا يوجب الغسل، بدليل ما ذكرنا: من تجار العسكر إذا قتلوا فإنهم أدون في الشهادة ممن خرج مجاهدًا، ومع هذا لا يغسل. وقد قيل: قتال أهل البغي واجب للذب عن الدين، ويصلي بهم الإمام صلاة الخوف كما يصلي في قتال المشركين، فهو كقتال أهل الحرب، والمخالف يمنع من هذا، أو يقول: هذا القتال ليس للذب عن الدين، وإنما هو للإمامة والرئاسة، ولهذا لا يغنم أموالهم، وأما صلاة الخوف فإنها تجوز في قتال اللصوص، وقتال من أراد دم رجل مسلم. واحتج المخالف: بأنه مقتول في غير معترك المشركين فغسل وصلي عليه، دليله: المقتول قصاصًا، وفي الزنا؛ ولأنه مسلم قتل مسلمًا أشبه ما ذكرنا. والجواب: أن المعنى هناك أن القتل بحق، وليس كذلك ها هنا؛ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

61 - مسألة: إذا اختلط أموات المسلمين بأموات المشركين، وكانوا ممن يجب الصلاة عليهم فإنه يصلى على جميعهم بالنية سواء كان المسلمون أكثر أو المشركون أو استوى عددهما

لأن هذا مسلم قتل ظلمًا يرتث ولا وجب عليه غسل في حياته أشبه المقتول في معترك المشركين، والله أعلم. * * * 61 - مَسْألَة: إذا اختلط أموات المسلمين بأموات المشركين، وكانوا ممن يجب الصلاة عليهم فإنه يصلى على جميعهم بالنية سواء كان المسلمون أكثر أو المشركون أو استوى عددهما: نص عليه في رواية أبي طالب: في مسلمين ونصارى غرقوا ولا يعرفون فلا بد من الصلاة عليهم وينوي المسلمين. وهو قول مالك، والشافعي رحمهما الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن كان المسلمون [أكثر] صلي عليهم، وينوي المسلمين، وإن تساووا أو [كان] (¬1) كفار أكثر لم يصل عليهم. دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله". ولأنه اختلط من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه، فوجب أن يصلوا على الجميع قياسًا على المسلمين إذا كانوا أكثر، ولأن الصلاة الواجبة إذا اشتبهت بما لم يجب صار الجميع واجبًا احتياطًا للواجب، كما يقول فيمن نسي صلاة من الصلوات الخمس في اليوم والليلة: صارت الصلوات ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، والتصويب من "رؤوس المسائل" للعكبري (1/ 381).

الخمس واجبة عليه. ولأن الصلاة على المسلمين بالقصد والنية دون الكفار، وقصد الأكثر من الجماعة بالنية غير قصد الأقل، ولا فرق بينهما، تبين صحة هذا: أنه لو وضع بين يديه جنائز فصلى وهو متوجه إليها ونوى الصلاة على إحداهما بعينها لم يسقط فرض الصلاة عن الأخرى، وإن كان متوجهًا إلى الجميع بالصلاة، ولوجود القصد في بعضها، وبهذا (¬1) قلنا: إن من حلف لا يكلم فلانًا ولا يسلم عليه، فسلَّم على قوم هو فيهم وعزاه بنيته لم يحنث، نص عليه في رواية أبي طالب في رجل حلف أن لا يكلم رجلًا فمر به في جماعة فسلم عليه وهو فيهم ولم يعلم فرد عليه، فقال: إنما القوم لم يرده. فاعتبر نيته في ذلك ولم يحنثه إذا قصد غير المحلوف عليه. وروى عنه مهنا: في رجل حلف لا يكلم رجلًا فدخل يومًا وهو في المسجد وفيه جماعة فقال: سلام عليكم، فأخرج رأسه من ردائه في المسجد كان قد استتر بها فقال له: وعليكم السلام، فقال: قد حنث الحالف. فظاهر هذا: أنه لم يعتبر نيته في ذلك، وإنما اعتبر مواجهة الجميع بالخطاب، والمذهب: الصحيح اعتبار النية والقصد فيه. واحتج المخالف: بأنه إذا تساوى فقد استوى جهة الحظر وجهة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد تكون: ولهذا.

الإباحة، والمحظور منهما، وهو الصلاة على الكفار، وذلك لا يجوز استباحته بحال، فوجب أن يكون الحكم للحظر كما لو كان معه إناءان أحدهما ماء، والآخر بول، وإذا كانت امرأتان إحداهما أخته من الرضاعة، والأخرى أجنبية، ولا يعرفها بعينها إن الحكم للحظر. والجواب: أنا لا نسلم أن ها هنا فعل محظور؛ لأنه إنما يصلي على المسلمين والصلاة يتصرف فيها بقصده ونيته إليهم، وإذا كان كذلك لم يكن مصليًا على الكفار، ولا متناول المحظور، وليس كذلك الماء والبول، وأخته وأجنبية؛ لأنه يجوز أن يصيب المحظور ويواقعه، فلهذا منع منه، وعلى أن هذا يبطل بمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة، فإنه يجب عليه أن يصلي جميع الصلوات بنية الفرض، وإن كنا نعلم أن فعل ما ليس بواجب من الصلوات بنية الواجب محظور محرم كما يحرم الصلاة على الكافر. واحتج: بأن الغلبة للكفار فوجب أن يكون الحكم لهم إذا لم يتميز المسلمون منهم، ألا ترى أنا إذا دخلنا دار الحرب جاز لنا استغراقهم كلهم بالقتل، وإن كان فيهم ممن لا يجوز قتلهم كالأسير والمستأمن، وعكس هذا دار الإسلام لما كان الغلبة فيها للمسلمين كان الحكم لهم ولم يجز الإقدام على قتل من فيها، وإن كنا قد علمنا أنها لا تخلو من مرتد وملحد يكون فيها، وكذلك إذا وجدنا ميتًا في دار الكفر ولم نعلم أنه مسلم، ولم يكن عليه سيما أهل الإسلام لم يصل عليه؛ لأن الغلبة للكفار فكان محكومًا له بالكفر، ولو وجدناه في دار الإسلام صلينا عليه؛ لأن

62 - مسألة: يكفن الشهيد في ثيابه التي كانت عليه لا يغيرها

الغلبة للمسلمين، فكان الظاهر أنه مسلم. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية علي بن سعيد: في رجل لو وجد قتيلًا في أرض العدو، وقد قطع رأسه، ولا يدرى من المسلمين هو أم من العدو يستدل عليه بالختان والثياب، فإن لم يعرف فلا يصلى عليه، فإن وجد في أرض الإسلام على هذه الحال يغسل ويصلى عليه. والجواب: أنه يبطل بالصلاة المنسية من صلوات اليوم والليلة، والأثواب النجسة إذا اختلطت بثوب طاهر، وجهة القبلة إذا اختلطت بغيرها من الجهات، وعلى أنا لا نعتبر غلبة الكفار في دار الحرب، ولا غلبة المسلمين في دار الإسلام، وإنما اعتبرنا جري الأحكام، فإن كان يجري فيها أحكام المسلمين فهي دار الإسلام سواء أكثر أهلها المسلمين أو مشركين، وإن كان تجري فيها أحكام الكفر فهي دار الكفر سواء كان أكثر أهلها المسلمين أو مشركين، فلم يعتبر كثرة العدد، وإنما اعتبرنا جري الأحكام، والله تعالى أعلم. * * * 62 - مَسْألَة: يكفن الشهيد في ثيابه التي كانت عليه لا يغيرها: نص عليه في رواية ابن مشيش في الشهيد يحمل القيد والخف، وكل شيء يكون من الجلود، قيل له: فإن حضر بعض الأولياء فأحب

أن ينزع عنه تلك الثياب ويكفنه بغيرها؟ قال: لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "زملوهم في كلومهم". خلافًا لأصحاب الشافعي رحمه الله في قولهم: وليه بالخيار بين أن يكفنه بها، وبين أن يكفنه بغيرها وينزع ما عليه. دليلنا: ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. وقوله: "يدفن بثيابهم" أمر، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: نحمله على وجه الاستحباب. قيل: إطلاقه يقتضي الإيجاب؛ ولأن الغالب أن ثيابهم يحصل عليها من دمائهم، فلا يجوز إزالة ذلك عنهم كما لم يجز إزالته عن أبدانهم؛ لأنه أثر الشهادة. واحتج المخالف: بما روي أن صفية بنت عبد المطلب أرسلت ثوبين ليكفن فيهما حمزة - رضي الله عنهما - ابن عبد المطلب، فكفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحدهما، وكفن بالآخر رجلًا من الأنصار. والجواب: أن هذا محمول على أن حمزة - رضي الله عنه - كان قد سلبت (¬1) ثيابه، وهذا هو الظاهر من حاله؛ لأنه يقال: مُثِّل به، ولهذا كفنه في ثوب، ويحتمل أن يكون ضم الثوب إلى ما كان عليه من الثياب، ولم يسلبه إياها. ¬

_ (¬1) في الأصل: سلت.

63 - مسألة: إذا وجد بعض جسد الميت غسل وصلي عليه قل أو كثر

واحتج: بما روي أن مصعب بن عمير - رضي الله عنه - قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة، فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر"، فقد كفنه بغير ما كان عليه، وهو الإذخر. والجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنه فيما كان عليه، وزاد على ذلك زيادة لعجز الذي كان عليه عن تمام الكفن. واحتج: بأنه تكفين فوجب أن لا يتغير لغير الشهيد، ولأن الناس ضربان حال الحياة وبعد الوفاة، ثم ثبت أن ما كان حال الحياة لا يتغير، كذلك بعد الوفاة. والجواب: أنه لا فائدة في تعين الكفن في حق غير الشهيد، وفي حال الحياة، وليس كذلك الشهادة؛ لأن فيه فائدة، وهو بقاء أثر الشهادة عليه، تبين صحة هذا: أنه لو أصابه من دم جرح في سبيل الله ولم يمت وجب عليه له، ولو مات من ذلك لم يغسل، والله أعلم. * * * 63 - مَسْألَة: إذا وجد بعض جسد الميت غسل وصُلي عليه قلَّ أو كثر: نص عليه في رواية عبد الله، وصالح، وأبي الحارث فقال: إذا أصيب منه عضو رأس أو رجل أو بعضه يغسل ويكفن ويحنّط ويصلى عليه، واحتج بحديث أبي أيوب: أنه صلى على رجل، وصلى أبو عبيدة

على رأس، وعمر - رضي الله عنه - كان يجمع العظام ويصلي عليها. ونقل إسحاق بن منصور عنه: لا يصلي على الجوارح. وقال أبو بكر: انفرد إسحاق بهذا، وأصحابه المتقدمون والمتأخرون رووا خلاف ما رواه، والعمل عليه. وبه قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا وجد من الميت أقل من النصف أو النصف سواء لم يصل عليه، وإن وجد أكثر من النصف صلي عليه. وقال مالك رحمه الله: إذا وجد عضوًا يسيرًا لا يُصلى عليه. دليلنا: ما احتج به أحمد رحمه الله إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، فروي أن يوم اليرموك كان رجل من المشركين لا يحمل على ناحية من المسلمين إلا أوجع فيها، فحمل عليه رجل من المسلمين فقتله، وأخذ خرجًا كان معه فإذا فيه رؤوس من رؤوس المسلمين، فأتى بها أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - فأمر بها فغسلت وكفنت وحنطت وصلى عليها. وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى على عظام بالشام، ذكره ابن المنذر في كتابه. وروى أن طائرًا ألقى يدًا بمكة من وقعة الجمل فعرفت بالخاتم فصلي عليها. وهذا يدل على إجماعهم على ذلك. فإن قيل: يحمل هذا على الدعاء.

قيل له: هذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز بغير دليل. والقياس: أنه بعض من الجملة لا يزال عنها بحال السلامة انفصل عنها بعد وجوب الصلاة عليها، فوجب غسله والصلاة عليه، كما لو وجد الأكثر. ولا يلزم عليه الشعر والظفر؛ لأن ذلك يزول عنها في حال السلامة، على أن الخرقي قد قال: وإن كان شاريه طويلًا أخذ وجعل منه في أكفانه. ولا يلزم عليه إذا انفصل في حال حياته بعض أعضائه بالقطع في السرقة أو قصاصًا؛ لقولنا: بعد وجوب الصلاة عليها، وهناك لم يجب، وكذلك أعضاء الشهيد حكمها حكم جملته، وقد قيل: اليد تضمن بالدية فجاز إفرادها بالصلاة، دليله: جملة البدن. فإن قيل: الأكثر بمنزلة الكل، فلهذا أوجب الصلاة عليها، وليس كذلك الأقل. قيل له: ليس الأمر كذلك؛ لأن أكثر ركعات الصلاة ليس بمنزلة جميعها، وغسل أكثر أعضاء الوضوء ليس بمنزلة جميعها، وغسل أكثر البدن ليس بمنزلة جميعه، وصوم أكثر شهر رمضان ليس بمنزلة جميعه، وملك أكثر النصاب ليس بمنزلة جميعه، وإخراج أكثر الزكاة ليس بمنزلة جميعها، كذلك يجب أن يكون في مسألتنا. ولأن الصلاة على الميت؛ لحرمته (¬1)، ولهذا لا يصلى على الكافر؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: حرمته.

لعدم حرمته، وحرمة بعضه كحرمة جميعه في منع إتلافها وضمانها بما يضمن به الجملة كالأنف، والذكر، واللسان، ونحوه، ثم الجملة يصلى عليه كذلك البعض. واحتج المخالف: بأنه جزء منه غير زائد على النصف، فوجب أن لا يصلى عليه، قياسًا على القتل في المعترك إذا وجد منه أقل من النصف أو النصف سواء أو كاليد إذا قطعت قصاصًا، وفي السرقة، والشعر، والظفر. والجواب: أن المعنى في جميع ذلك أنه لا يفصل عن جملة لا يجب الصلاة عليها، فلهذا لم يصل عليها، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه منفصل عن جملة تجب الصلاة عليها لا يزال عنها في حال السلامة. واحتج: بأنه لو صلى على أحد النصفين؛ لوجب إذا وجد النصف الآخر أن يصلي عليه، فيؤدي ذلك إلى إيجاب الصلاة على ميت مرتين أو أكثر، وهذا لا يجوز. قالوا: ولا يلزمنا على هذا أنه إذا صلى على الأكثر ثم وجد الأقل فإنه لا يصلي عليه. والجواب: أنا نجوِّز تكرار الصلاة على الجنازة من لم يصل عليها، وإن لم يصل عليها صلى القبر، وهذه مسألة ويأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. * * *

64 - مسألة: المستحب أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة

64 - مَسْألَة: المستحب أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة: نص عليه في رواية بكر بن محمد فقال: والرجل في ثلاث لفائف يدرج فيها إدراجًا على حديث عائشة رضي الله عنها هو أثبت. وبهذا قال الشافعي رحمه الله. وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يكفن في إزار وقميص ولفافة. فالخلاف في الاستحباب عندنا لا يستحب القميص وعنده هما سواء. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية ليس فيها قميص ولا عمامة. وفي لفظ آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، فقيل لعائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يزعمون أنه كفن في حبرة، فقالت: قد جاؤوا ببرد حِبَرة فلم يكفنوه. وفي لفظ آخر رواه أحمد رحمه الله بإسناده عن عائشة رضي الله عنها: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة رياط (¬1) يمانية، واستحسنه أحمد. ¬

_ (¬1) في الأصل: أرباط، والتصويب من المسند رقم الحديث (26276).

ولأن المُحيط إنما يلبس حال الحياة؛ لأنه يمشي ويتصرف في حوائجه، فإذا صارت إلى السكون وهو حال النوم ألقى المحيط كذلك بعد وفاته، ولأن أفضل حالة الحي في حال إحرامه، وفي تلك الحال يُجنب المحيط، فاستحب حمله بعد موته على تلك الحال. واحتج المخالف: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب: حلة نجرانية، الحلة: ثوبان (¬1)، وقميصه الذي مات فيه. والجواب: أن الصحيح ما روته عائشة رضي الله عنها، قال أبو بكر المروذي: قال أبو عبد الله: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال حرب الكرماني: أنه سمع أبا عبد الله يقول: أصح ما يروى في هذا حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال حنبل أيضًا: قال أبو عبد الله: أصح الأحاديث في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عائشة؛ لأنها أعلم من غيرها، وعلى أنهما لو تعارضا كان خبرنا أولى؛ لأنه يطابق الأصول، وهو حال الإحرام. واحتج: بأن المرأة تكفن في قميص، كذلك الرجل. ¬

_ (¬1) في الأصل: ثلاثة أثواب نجرانية الحلة وثوبان، والتصويب من المسند رقم الحديث (1942).

65 - مسألة: ويستحب أن يكون الكفن ثيابا بيضا

والجواب: أن المرأة في حال إحرامها لا تجنب القميص، وكذلك بعد موتها. فإن قيل: القميص أجمع وأستر، فكان أولى. قيل له: السراويل أجمع وأستر من القميص، فيجب أن تكون أولى. فإن قيل: هذه حالة يجوز لبس الإزار فيها، فجاز فيها لبس القميص كحال الحياة. قيل له: يبطل بحال الإحرام، والله تعالى أعلم. * * * 65 - مَسْألَة: ويستحب أن يكون الكفن ثيابًا بيضًا: قال الفضل بن زياد: كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن الكفن البياض أعجب إليك أم غير ذلك؟ فأتاني الجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. وبهذا قال الشافعي رحمه الله. وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله: ثوبان بياض وحبرة. دليلنا: ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها: وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية. وروى أحمد رحمه الله فيما ذكره الخلال في العلل قال: حدثني

66 - مسألة: يكره أن تكفن المرأة في المعصفر والمزعفر

إسماعيل قال: حدثني أيوب عن أبي قلابة عن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بهذه البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم فإنها من خير ثيابكم". واحتج المخالف: بما تقدم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب: حلة نجرانية، الحلة: ثوبان (¬1) وقميص. والجواب: أنا قد روينا عن أحمد رحمه الله أنه قال: أصحها حديث عائشة رضي الله عنها، ولم يذكر فيه حلة ولا قميصًا. وعلى أن أحمد قد روى فيما ذكره أبو بكر الخلال في العلل قال: حدثني الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي قال: حدثني الزهري عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب حبرة ثم أُخِّر عنه، قال القاسم: إن بقايا ذلك لعندنا، وهذا زائد، والأخذ بالزائد أولى. * * * 66 - مَسْألَة: يكره أن تكفن المرأة في المعصفر والمزعفر: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية عبد الله: وقد [سألته] (¬2) عن ¬

_ (¬1) في الأصل: ثلاثة أثواب نجرانية الحلة وثوبان، والتصويب من "المسند" رقم الحديث (1942). (¬2) هنا سقط بمقدار كلمة، ولعلها تستقيم بالمثبت.

المرأة تكفن بالحرير؟ فقال: مكروه. وبهذا قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكره. دليلنا: ما تقدم من حديث سمرة: "عليكم بهذه البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم"، وهذا عام في النساء والرجال. ولأنه يكره لها في حال الإحرام، فوجب أن يكره لها بعد الموت، قياسًا على الرجل. واحتج المخالف: بما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعروسكم، ولنا أن نلبس العروس المعصفر والمزعفر، فكذلك الميت. والجواب: أنا نحمل هذا على غير المعصفر من الطيب وغيره، بدليل: ما ذكرنا. واحتج: بأن حال جاز أن تطيب فيها المرأة، جاز أن تلبس فيها المعصفر والمزعفر، دليله: حالة الحياة، وعكسه حال الإحرام، وحال العدة. والجواب: أن الرجل يطيب في هذا الحال، ولا يلبس المعصفر والمزعفر، وكذلك المرأة، والله أعلم.

67 - مسألة: كفن المرأة من مالها

67 - مَسْألَة: كفن المرأة من مالها: نص عليه في رواية أبي الحارث: وقد سئل عن المرأة تموت هل على زوجها كفنها؟ فقال: لا يجب وتكفن من مالها، ولا شيء على زوجها. وكذلك نقل عنه قد سئل: كفن المرأة من مالها أو من مال زوجها؟ فقال: من مال زوجها. وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم قال: ثمن الكفن من مالها، قيل له: فإن لم يكن لها؟ قال: من ربعها أو من ثمنها. وبهذا قال الشعبي، ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة، والشافعي رحمهما الله: كفنها على زوجها. دليلنا: أن الموت معنى يزيل النكاح ويقطعه، فيجب أن يمنع وجوب الكفن على الزوج، دليله: الطلاق. فإن قيل: فرق بين الموت والطلاق، بدليل أن الطلاق يقطع الإرث، والموت لا يقطع الإرث، فحكم النكاح باق. قيل له: الزوجة ترث زوجها، ولا يلزمها كفنه، وكذلك المولى من فوق يرث المولى من أسفل، ولا يلزم كفنه، كذلك عندهم في الأقارب يتوارثون، ولا يلزم الكفن.

وعلى أنا نجعل أصل العلة المبتوتة في المرض، فإنها (¬1)، ولا نسلم المعارضة. ولأنه أحد الزوجين، فلا يلزمه كفن الآخر، دليله: الزوجة لا يلزمها كفن زوجها. فإن قيل: المعنى في الزوجة أنها لا يلزمها كسوته في حال، فلهذا لم يلزمها بعد الموت، والزوج يلزمه كسوتها في حال الحياة، فلزمه بعد الموت. قيل: حال الحياة الزوجية باقية، وبعد الموت الزوجية قد انقطعت، فلا يجوز اعتبار أحدهما بالآخر في الكفن، كما لم يجز اعتبارهما بالطلاق، ولأن الكسوة في مقابل الاستمتاع، وقد تعذر ذلك من جهتها، فيجب أن يسقط دليله حال الحياة إذا تعذر ذلك بنشوزها، بل هذا آكد؛ لأنه لا يرجى زواله، والنشوز يرجى زواله. فإن قيل: فالمشرف على الموت، فإنه قد تعذر الاستمتاع، ولها الكسوة. قيل: سبب الاستحقاق وهو العقد وذلك معدوم ها هنا. واحتج المخالف: بأن كسوتها في حياتها عليه، فوجب أن يكون كفنها بعد موتها عليه، قياسًا على مدبرته، وأم ولده، وكل من كانت نفقته عليه في حياته كان كفنه عليه بعد موته، قياسًا على ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل ثمت سقطًا، ويحتمل أنها لفظة (ترث).

68 - مسألة: المشي أمام الجنازة أفضل، فإن كان راكبا فالمشي وراءها أفضل

الوالدين، والمولودين. والجواب عن الوالدين والمولودين: أن السبب الذي يستحق به النفقة باق لم ينقطع وهو النسب، وهذا معدوم في الزوجة. وجواب آخر عن ذلك، وعن أمته، وأم ولده: أن الوالد والولد إذا كانا فقيرين أنه لا مال لهم، فيجب أن يكون كفنهم في أقرب المال إليهم، وأقربه ماله. ولأنه يملك على أم ولده في حال حياتها ما لا يملكه على زوجته في حياتها وتزويجها، فجاز أن يملك عليه بعد الموت ما لا يملكه الزوجة، والله تعالى أعلم. * * * 68 - مَسْألَة: المشي أمام الجنازة أفضل، فإن كان راكبًا فالمشي وراءها أفضل: نص عليه في رواية عبد الله وقال: الماشي أمامها أفضل، والراكب وراءها. وقال أبو حنيفة رحمه الله: المشي خلفها أفضل، ولم يفرق بين الماشي والراكب. وقال مالك، والشافعي رحمهما الله: المشي أمامها أفضل، ولم يفرقا بين الراكب والماشي.

دليلنا: أن الماشي أمامها أفضل ما روى أحمد رحمه الله في المسند قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه - رضي الله عنهما -: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر - رضي الله عنهما - يمشون أمام الجنازة. وروى أحمد فيما ذكره أبو بكر الخلال في كتاب العلل قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا ليث عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يمشي بين يدي الجنازة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي بين يدي الجنازة، وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -. وروى أحمد قال: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنا إبراهيم بن سعد قال: حدثني ابن أخي ابن شهاب عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يمشون أمام الجنازة. فإن قيل: فأحمد قد ضعف هذا الحديث، قال الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: قيل لأبي عبد الله: حديث الزهري عن سالم عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يمشون أمام الجنازة محفوظ؟ قال: ما أراه محفوظًا، رواه عدة أرسلوه، وما أراه إلا من كلام الزهري، قيل له: فنذهب إلى المشي أمام الجنازة؟ قال: نعم، ابن المنكدر سمع ربيعة: رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقدم الناس أمام الجنازة. قيل: أكثر ما قال: إنه مرسل، والمرسل عنده حجة، وعلى أنه قد وصل من طريق آخر، وعلى أن أبا طالب قال: قلت لأبي عبد الله: زياد بن جبير يروي عن أبيه عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: الراكب خلف الجنازة،

والماشي حيث شاء؟ قال: نعم، ولكن ابن عمر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر يمشون أمام الجنازة، فهذا أحسن. فهذا تصريح منه بصحة الحديث، واتصاله. فإن قيل: نحمل ذلك على الجواز دون الفضل. قيل له: قوله كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يمشون أمام الجنازة إخبار عن دوام الفعل، ولا يجوز أن يظن بهم أنهم يدعون على ترك الفضيلة. وقد روى في المسند حديثًا آخر من غير طريق ابن عمر - رضي الله عنهما - يرويه محمد بن بكر البرساني عن يونس عن الزهري عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهم - كانوا يمشون أمام الجنازة، وقد ضعف أحمد رحمه الله هذا الحديث، فقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: حديث الزهري عن أنس: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يمشون أمام الجنازة، فقال: باطل. وكذلك نقل أحمد بن هاشم الأنطاكي قلت لأحمد: حديث الزهري عن أنس رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يمشون أمام الجنازة، فقال: باطل ليس بصحيح. واعتمد أحمد في المسألة على حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فروى أبو بكر الخلال في كتاب العلل فقال: حدثنا الدراوردي قال: حدثنا مراد (¬1) قال: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولم أجد فيمن يروي عن عبد العزيز بن الماجشون من يحمل =

حدثنا الماجشون عن محمد بن المنكدر عن عمه ربيعة بن عبد الله بن هدير قال: رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضرب الناس يقدمهم أمام جنازة زينب بنت جحش رضي الله عنها. وهذا أظهر في أن الفضل في المشي أمامها، وهذا فعل بحضور الصحابة، ولم ينقل عن أحد خلافه. فإن قيل: يجوز أن يكون ذلك لعارض، وهو كثرة النساء مع الرجال خلف الجنازة، فكره مخالطتهم. قيل له: هذا لا يصح؛ لأنه لا يظن أحد أنه كان في زمن عمر - رضي الله عنه - مع عظم نفسه يخرج النساء مع الجنائز مع تقدم النهي عنه. ولأن من يصلي على الميت شفعاء له، هكذا وردت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك يدعى له فيقال: جئناك شفعاء له، ومن شأن الشفيع أن يتقدم بين يدي المشفوع. فإن قيل: تقدم وتأخر على واحد ليس بعض ذلك أفضل من بعض، ليس كذلك المشي خلف الجنازة أو أمامها؛ لأنهم اتفقوا أن أحدهما أفضل من الآخر ولا يجوز اعتباره بما ذكرت. قيل: لا لك هذا بل التقدم بالخطاب في الشفاعة، وإظهار نفسه، والمبالغة في ذلك أفضل من التأخر فيها، فلا فرق بينهما. ¬

_ = هذا الاسم، ولا فيمن يروي عنه عبد العزيز الدراوردي. ينظر: "تهذيب الكمال" (18/ 152 و 187).

ولأن المشي أمامها احتياطًا للصلاة؛ لأنها تفوته، وإذا مشى خلفها فربما سبقته ففاتته الصلاة، ولا يلزم على هذا الراكب؛ لأن العادة أنها لا تسبقه. واحتج المخالف: بما روي أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - سأل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: يا أبا الحسن أخبرني عن المشي مع الجنازة أي ذلك أفضل، المشي أمامها أم خلفها؟ فقال علي - رضي الله عنه -: إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على التطوع. وروي عنه كفضل [صلاة المكتوبة في جماعة على الوحدة] (¬1). سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي أن عليًا - رضي الله عنه - مشى خلف الجنازة، وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - أمامها قال: إنهما ليعلمان أن المشي خلفها أفضل كفضل صلاة الرجل في الجماعة على فضل صلاة الفذ، ولكنهما سهلان مسهلان على الناس الطريق. والجواب: أن أبا بكر الأثرم قال: ذكرت لأبي عبد الله الحديث الذي يروى عن علي - رضي الله عنه - أنه مشى خلف الجنازة، فقال: يرويه زائدة بن خراش، وهو مجهول ليس بمعروف، وعلى أنه لو صح فنقابله بما روينا عن عمر - رضي الله عنه -، وهو أولى؛ لأنه أصح سندًا، ولأنه يعضده السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بدون هذه الزيادة، وهي المسند رقم الحديث (754).

واحتج: بما روى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجنازة متبوعة وليست بتابعة ليس معها من يتقدمها". والجواب: أن أحمد رحمه الله ضعفه، فقال مهنا: سألت أحمد عن حديث أبي ماجد (1) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنازة: ليس معها من يتقدمها؟ فقال: ليس بصحيح، وضعف أبا ماجد (¬1) وقال: الحديث حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وعلى أنه لو صح فقوله: "الجنازة متبوعة" معناه مقصودة، وأن الناس يمشون لأجلها، وقد يكون الشيء مقصودًا ثم يتأخر عن تابعه، ألا ترى أن الناس إذا شفعوا لرجل تقدموا عليه؟ ! وكذلك جند السلطان يتقدمون وهم تبع. وأما قوله: "ليس معها من يتقدمها" معناه: من يتقدمها ويبعد عنها. واحتج: بما روى البراء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا باتباع الجنائز، واتباعها أن نمشي خلفها. والجواب: أنه متبع لها، وإن كان أمامها من الوجه الذي ذكرنا فيما قبل. وجواب آخر: وهو على أصولهم الاحتجاج بمثل هذه الأخبار لا يصح؛ لأن ذلك مما يقع البلوى به، وما هذا سبيله فلا يثبت بخبر الواحد إذا لم ينقل نقلًا عامًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: يأخذ.

واحتج: أنه مأمور باتباعها فوجب أن يكون خلفها، دليله: المأموم خلف الإمام. والجواب: أن المأموم مقتد بأفعاله، وأن لا يسبقه بها، ولا يمكنه ذلك بالتأخر عنه؛ لأنه [لا] يقف على فعله إلا والإمام قدامه، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه شافع وقد يتقدم الشافع على المشفوع فيه، فبان الفرق. ولأن التقدم على الإمام يبطل الصلاة، والتقدم ها هنا لا يخرجه عن ثواب الاتباع، فبان الفرق بينهما. واحتج: بأن المشي خلفها أبلغ في التذكير والوعظ؛ لأن بصره يقع عليها في كل وقت فيتذكر الموت والآخرة، وإذا حصل أمامها ينتهي ذلك، وتقسم فكره في أمور الدنيا، فيجب أن يكون المشي خلفها. والجواب: أن من ينسى الموت والجنازة خلفه فإنه ينسى وهي أمامه، فلا فرق بينهما. واحتج: بأنه تابع للجنازة فكان السير خلفها أفضل، دليله: الراكب. والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين: من جهة الظاهر. والثاني: من جهة المعنى. أما من جهة الظاهر فهو: أن الأخبار مختلفة في ذلك، وقد روينا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي أمامها وعن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -. وروى أحمد في المسند قال: حدثنا عبد الواحد الحداد قال: حدثنا

69 - مسألة: التربيع في حمل الجنازة أفضل من الاقتصار على الحمل بين العمودين

سعيد بن عبيد الله (¬1) الثقفي عن زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة شعبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء"، فنص على الراكب خلفها، فتعارضت الأخبار في ذلك فنص في الماشي أمامها والراكب خلفها. قال أبو طالب: قلت لأبي عبد الله: زياد بن جبير؟ قال: من الثقات، قلت: يروي عن أبيه عن المغيرة بن شعبة: "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء"؟ قال: يونس إن شاء الله لا يرفعه وإلى جبير يرفعونه، وابن المبارك رفعه رواه عن زياد بن جبير، فقد بين أحمد أنه صحيح الإسناد، وأن بعضهم وصله وبعضهم وقفه على المغيرة. ولأننا قد بينا أن الأفضل المشي أمامها، فلو قلنا: إن الراكب يسير أمامها تأذى الناس بمركوبه، فلهذا سار خلفها، وليس يمنع أن تزول الفضيلة لعارض كما قالوا: المشي خلفها أفضل إلا أن يعرض عارض، وهو كثرة النساء خلفها، فيكون المشي أمامها أفضل، كذلك ها هنا، والله أعلم. * * * 69 - مَسْألَة: التربيع في حمل الجنازة أفضل من الاقتصار على الحمل بين العمودين: ¬

_ (¬1) في الأصل: عبد الله، والتصويب من المسند رقم الحديث (18162).

نص عليه في رواية الجماعة: صالح، وعلي بن سعيد، والأثرم، وأبي داود، والفضل بن زياد، وحرب، وأبي طالب، والميموني: بألفاظ مختلفة، وسأله أبو طالب عن الحمل بين عمودي السرير؟ فقال: لا. ومعناه: لا أختاره. ونقل ابن منصور عنه وقد سأل عن الحمل بين العمودين؟ فقال: ابن عمر - رضي الله عنهما - كرهه، فإن فعله فاعل لم أر به بأسًا. وهذا يقتضي نفي الكراهة، لا يدل على تفضيله على التربيع. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال مالك رحمه الله: لا بأس أن يحمل سرير الميت من داخله وخارجه، ويبدأ بأي نواحيه شاء مقدمه أو مؤخره وعن يمينه أو يساره، وليس في ذلك أمر مؤقت، حكاه النجاد عنه، وظاهر كلامه أنه يستحب التربيع. وقال الشافعي رحمه الله: الحمل بين العمودين أفضل. دليلنا: ما رواه أبو بكر النجاد: حدثنا الحارث بن محمد قال: حدثنا حفص بن عمر أو ابن حمزة - شك ابن سلمان - قال: حدثنا سوار بن مصعب عن عمارة الهمداني عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تبع جنازة فأخذ بجوانب السرير الأربع غفر له أربعون ذنبًا كلها كبيرة". وهذا يدل على أن ذلك أفضل من غيره؛ لأنه خصه بالفضل والثواب.

وبإسناده عن أبي عبيدة عن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: من تبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم ليتطوع إن شاء. والصحابي إذا قال: من السنة، يقتضي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بذلك يدل على أنه أفضل من غيره. وبإسناده عن فضل بن عمرو وقال: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يكره أن يحمل الرجل من باطن السرير. وبإسناده عن علي الأزدي قال: رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - في جنازة فحمل بجوانب السرير الأربع فبدأ بالميامن ثم تنحى منها بمزجر الكلب (¬1) بين يديها. وبإسناده عن جابر قال: أخبرني من رأى ابن عمر - رضي الله عنهما - يحمل الجنازة من قبل ميامنها يبدأ باليد ثم الرجل ثم الرجل ثم اليد. فإن قيل: فقد روي بإسناده عن يوسف بن ماهك قال: رأيت ابن عمر في جنازة عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم - يحمل السرير على كاهله بين العمودين، وهذا يعارض ما رأيتموه عنه. قيل: ما رويناه عنه أولى؛ لأنا روينا عنه قولًا وفعلًا، وعلى أنه يحتمل أنه لم يتفق أربعة يحملونه. ¬

_ (¬1) في الأصل: بمر الكلب، والتصويب من "مصنف" عبد الرزاق رقم (6520)، ولفظه: (رأيت ابن عمر في جنازة حمل بجوانب السرير الأربع، قال: بدأ بميامنها ثم تنحى عنها فكان منها بمنزلة مزجر الكلب).

وبإسناده عن عامر بن جشيب وغيره من أهل الشام قال: قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: إن من تمام أجر حمل الجنازة أن يشيعها من أهلها، وأن تحمل بأركانها الأربع، وأن يحثوا في القبر. وبإسناده عن أبي المهزم (¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إذا حملت جوانب السرير الأربع فقد قضيت ما عليك. فإن قيل: يعارض هذا ما رواه بإسناده عن إبراهيم قال: سعد بن أبي وقاص في جنازة عبد الرحمن بن عوف قائمًا بين العمودين المقدمين واضعًا السرير على كاهله. قيل: يحتمل أنه لم يتفق أربعة يحملونه. وهذه الأخبار أخبرني جدي بها أبو القاسم عبيد الله - رضي الله عنه - (¬2) في الإجازة عن أبي بكر أحمد بن سلمان النجاد. وأيضًا فإن الحمل بين العمودين فيه تشبيه بحمل المتاع، وقد فرق بين حمله وحمل المتاع (¬3)، ولهذا كره حمل الجنازة على الدابة إذا كان الموضع قريبًا، وقد قال أبو طالب: سألت أحمد عن الجنازة تحمل على الدابة الصغير والكبير إذا كان مكانًا بعيدًا؟ قال: نعم. ¬

_ (¬1) في الأصل: أم المهرم، والتصويب من "مصنف" عبد الرزاق رقم (6518). (¬2) هذا من الدلائل الظاهرة على أن المخطوط المحقق هو جزء من "التعليق الكبير"، وجد المؤلف - رحمهما الله - مضى الحديث عنه في قسم الدراسة. (¬3) في الأصل: المتاد.

فصل

واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حمل في جنازة سعد بن معاذ - رضي الله عنه - بين العمودين. والجواب: إن صح هذا الخبر فيعارضه ما روى ثوبان، وهو أولى من وجهين: أحدهما: أنه قول. والثاني: أنه يعضده قول ابن مسعود، وابن عمر، وأبي الدرداء، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. وعلى أنه يحتمل أن يكون فعل ذلك ليبين الجواز، أو لأنه لم يتفق أربعة يحملونه. * فصل: في صفة التربيع، فذكر أبو بكر في كتاب زاد المسافر روايتين: إحداهما: يبدأ بالرأس فيضعه على كتفه الأيمن، وهو يمين الميت ثم يبلغ إلى رجليه ثم يبدأ بالرأس فيضعه على كتفه الأيسر، وهو يسار الميت إلى رجليه، نقل ذلك الجماعة: صالح، والأثرم، وحرب، والفضل بن زياد، وأبو داود، وأبو طالب، وهو اختيار الخرقي رحمهم الله. والثانية: يبدأ بالرأس ويختم بالرأس، نقل ذلك حنبل فقال: يبدأ من حمل السرير فيضع أحد جوانب السرير على كتفه الأيمن، وهو يمين الميت ثم يرجع إلى مؤخر السرير فيضعه على يساره وهو يسار الميت،

هكذا كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يفعل وهو أحب إليَّ، خلافًا لمالك في قوله: يبدأ في أي ناحية شاء من مقدمه أو مؤخره وعن يمينه أو عن يساره. والدلالة على أنه يبدأ بميامنه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يحب التيامن في طهوره وتنعله وترجله، وهذا يدل على أن جنبه اليمين يستحب البداية بها، ويدل عليه ما روى النجاد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أبدأ بميامنها، وفي لفظ آخر: أنه حمل جوانب السرير فبدأ بميامنها ثم قام منها مزجر (¬1) الكلب. والدلالة على أنه يبدأ من عند رأسه: ما روى أبو حفص العكبري بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا تبع جنازة يبدأ فيحمل مقدم السرير على عاتقه الأيمن، ثم مؤخر السرير على عاتقة الأيمن، ثم مؤخرها على عاتقه الأيسر، ثم مقدم السرير على عاتقه الأيسر. وروى بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يفعل مثل ذلك، وهذا يدل على أن البداية بالرأس أفضل الأعضاء كلها؛ لأنه مجمع الأعضاء الشريفة، ولهذا قلنا: إذا صلى على جنازة الرجل وقف منه ما يلي رأسه فكانت البداية به أفضل. والدلالة على أنه يختم بالرجل أحد جانب الأيسر أحد جانب الميت فكانت البداية فيه بالرأس كالأيمن. ولأنها عبادة تتعلق بالميت فإذا استحب فيه بالميامن قبل المياسر ¬

_ (¬1) في الأصل: مؤخر.

70 - مسألة: الصلاة على الميت تستفاد بالوصية ويكون الموصى أولى بالصلاة عليه من الولي والوالي

كان البداية بالرأس والخاتمة بالرجلين كغسل الميت، فإنه يبدأ إلى الرجل ثم بشماله إلى الرجل. وإذا قلنا: يختم بالرأس فوجهه ما رواه النجاد بإسناده عن جابر قال: أخبرني من رأى ابن عمر - رضي الله عنهما - يحمل الجنازة من قبل ميامنها يبدأ باليد ثم الرجل ثم الرجل ثم اليد. ولأنه لما استحب البداية لفضله استحب أن يختم به كالطواف لما استحب البداية من الحجر الأسود أن يختم بالحجر الأسود، وهذا يلزم عليه السعي فإنه يبدأ بالصفا ولا يختم به بل يختم بالمروة، ولا أسهل على الفاعل؛ لأنه إذا مشى في جانبه الأيمن من رأسه إلى رجليه ثم قيل: اخرج فامش إلى رأسه وامش إلى رجليه يحصل ماشيًا إلى جانبه الأيسر دفعتين: إحداهما في حمل، والأخرى في غير حمل، وإذا أخذ من رجليه وختم برأسه صار ماشيًا في جانبه الأيسر دفعة واحدة، ولأنه يخلل العبادة من غير جنسها، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 70 - مَسْألَة: الصلاة على الميت تستفاد بالوصية ويكون الموصى أولى بالصلاة عليه من الولي والوالي: نص عليه في رواية ابن منصور وقد سئل: من أحق بالصلاة على

الميت؟ قال: إذا أوصى فهو بيَّن، وإذا لم يوص فلا أدفع (¬1) الأولياء، وإذا حضر الأمير فهو أحق [به، والأب أحق] (¬2) من الزوج. وكذلك نقل صالح عنه في الرجل يوصي أن يصلي عليه رجل هو أحق من ولده، أبو بكر - رضي الله عنه - وصَّى أن يصلي عليه عمر - رضي الله عنه -، وعمر وصَّى أن يصلي عليه صهيب - رضي الله عنه -، وهو اختيار الخرقي في المختصر، وأبي بكر عبد العزيز. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله: لا تستفاد الصلاة بوصيته، والوالي أولى بالصلاة من الوصي. دليلنا: قوله تعالى {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - وصَّى أن يصلي عليه عمر، ووصَّى عمر أن يصلي عليه صهيب - رضي الله عنهم -، فلما وضع سرير عمر ليصلى عليه ابتدر علي والزبير - رضي الله عنهم - للصلاة عليه، فقال لهما صهيب: ادخلا في الصف ما أحب إليكما الإمرة، ما رأيت من أمركما أعظم من هذا، فدخلا في الصف. وذكر ابن جرير في تاريخه: تقدم صهيب - رضي الله عنه - فصلى عليه، وتقدم قبل ذلك رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان وعلي - رضي الله عنهما -، قال: فتقدم واحد من عند رأسه، وآخر من عند رجليه، فقال عبد الرحمن - رضي الله عنه -: ¬

_ (¬1) في مسائل الكوسج: (يُدفع) رقم المسألة (819). (¬2) ساقطة من الأصل، والتتمة من "مسائل الكوسج" رقم المسألة (819).

ما أحرصكما على الإمرة، أما علمنا أن أمير المؤمنين قال: ليصل بالناس صهيب، فصلى عليه صهيب - رضي الله عنه -، وأوصى أبو بكرة أن يصلي عليه أبو برزة (¬1) - رضي الله عنهما -، وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه الزبير بن العوام - رضي الله عنهما -، وأوصى أبو سريحة أن يصلي عليه زيد بن أرقم - رضي الله عنهما -، فلما وضعت جنازته جاء عمرو بن حريث - رضي الله عنهما - ليصلي وكان أمير الكوفة، فقال له ابنه: أصلح الله الأمير، إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيد، وأوصى أبو ميسرة أن يصلي عليه سريج - رضي الله عنهما -، وأوصت عائشة أن يصلي عليها أبو هريرة - رضي الله عنهما -، فصلى عليها وحضرها ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وأوصت أم سلمة أن يصلي عليها سعيد بن [زيد] (¬2) - رضي الله عنهما -، ذكر شيخنا أبو عبد الله هذه الأخبار في كتابه، والظاهر أنه منتشر فيهم، ولم ينقل عن أحد منهم خلافه. فإن قيل: تحمل هذه الأخبار على أن الأولياء أجازوا الوصية، فحصل ذلك بإذن منهم. قيل: روى إسماعيل الصفار في فضائل الصحابة في أخبار عمر أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أراد أن يتقدم فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عمر أمر صهيبًا - رضي الله عنهم - بالصلاة، وهذا يدل على أنه كان يعتبر اختياره، وإنما اتبع فيه وصية أبيه، وعلى أنه معلوم أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لا تطيب نفسه ¬

_ (¬1) في الأصل: بردة، والصواب المثبت. (¬2) طمس في الأصل، وينظر: "المبدع" (2/ 222).

بتقديم غيره، ويدل عليه أن الصلاة عليه ولاية تنتقل إلى الورثة، فجاز نقلها إلى غيرهم بالوصية، دليله: الولاية في المال، والذي تبين أن طريقها الولاية أنه لا مدخل للنساء فيها، ويختص بالعصبات. ولا يلزم عليه ولاية النكاح؛ لأنها تستفاد بالوصية على الصحيح من الروايتين، وإن شئت قلت: لأنه يستفاد بالنسب جاز أن يستفاد بالوصية كالولاية في المال. فإن قيل: ولاية المال حق له في حال حياته، فجاز أن يوصي بها، والصلاة عليه لا حق له في حياته، وإنما يثبت هذا الحق بعد موته للعصبة، ولا يملك نقل حقهم عنها كالوصية في أموال الأولاد الكبار. قيل له: ولاية النكاح حق للأب في حال حياته، ولا يملك أن يوصي بها عندكم، وكذلك ما زاد على الثلث في ماله يملك الولاية ولا أن يوصي به، وقولك: إنه لا حق له في الصلاة في حياته وإنما يثبت هذا بعد الموت حق على المسلمين فلا يصح؛ لأنه وإن كان حقًا على غيره فإنه يجب عليهم لأجله وبسببه؛ لأن الصلاة عليه شفاعة له وتشريف، ولهذا يقال: جئناك شفعاء، ولهذا لا نصلي على الكفار؛ لأنهم لا شرف لهم. وأما وصيته في أموال أولاده الكبار، فإنه لم يصح؛ لأنه لا حق له في ذلك، وليس كذلك الصلاة؛ لأن الحق له من الوجه الذي بينا. ولأن أوصى بسبب يستفاد به الولاية في المال في حق الغير، فجاز أن يستفاد به الصلاة على الميت، دليله: النسب، والحكم.

ولا يلزم عليه ولاية المرأة على مالها، وولاية المكاتب على ماله؛ لأنها حال يستفاد بها في حق أنفسهما لا في حق الغير. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. والجواب: أن هذا وارد في الميراث؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة، وكانوا أولى بالميراث، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} فكانوا به ممن حالف وعاقد، ولهذا قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}. واحتج: بأن الميت لا حق له في الصلاة على نفسه، فلم تصح وصيته؛ لأنه يوصي بما لا حق له فيه. والجواب: ما تقدم وهو أن الصلاة شفاعة وتشريف له. واحتج: بأنها عبادة تتعلق بالميت، فوجب أن يكون الولي أولى من الوصي، دليله: غسله، وتكفينه، ودفنه. والجواب: أنه لا يمتنع أن يقول: يلزم الوصية بغسله ودفنه؛ لأنه قد يكون له غرض صحيح في ذلك، وهو أن يكون الوصي ممن له معرفة في ذلك وله ورع ودين، وعلى أنه لا يصح اعتبار أحدهما بالآخر، بدليل: الزوج أولى بغسل زوجته، ولا يملك الصلاة عليها عندهم. واحتج: بأن القصد من الصلاة على الميت الدعاء له، والمناسب أشفق من الوصي، ودعاءه أحظى فكان أولى.

71 - مسألة: السلطان أولى بالصلاة على الميت من الولي

والجواب: أن هذا يوجب أن يكون الولي أولى من الوالي للمعنى الذي ذكرت، وقد قلتم: إن الوالي [أولى] (¬1) بذلك، وعلى أنه قد يكون الحظ في دعاء الأجنبي أوفر لدينه وورعه وزهده، وفساد طريقة المناسبين، وإن قاسوا على الوصية بولاية النكاح لم نسلمها على الرواية الصحيحة، ونقول بأن الوصي أولى بها، والله أعلم. * * * 71 - مَسْألَة: السلطان أولى بالصلاة على الميت من الولي: ذكره في رواية ابن منصور. وبه قال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله. وللشافعي رحمه الله قولان: قال في القديم: مثل قولنا. وفي الجديد: الولي أحق. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يؤمَّنَّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه". وروى حازم قال: شهدتُ الحسين لما توفي الحسن بن علي - رضي الله عنهم - يقول لسعيد بن العاص وهو أمير المدينة: تقدم، لولا أنها - يعني السنة - لما تقدمت. ورواه عمر بن شبة في كتاب الكوفة بإسناده قال: لما مات الحسن ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، ويتطلبها الكلام.

ابن علي دفع الحسين - رضي الله عنهم - في قفا مروان وقال (¬1): تقدم، فلولا أنها السنة ما فعلت، فصلى عليه مروان، وكان أمير المدينة. وعن علي - رضي الله عنه - قال: الإمام أحق من صلى على الجنازة. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه سئل من أحق أن يصلي على الميت؟ قال: رضيتم بأئمتكم لحياتكم فلا ترضونهم لموتاكم! يصلي على موتاكم من يصلي على أحيائكم، ذكره شيخنا هذه الأخبار في كتابه. ولأنها صلاة سن فيها الاجتماع، فإذا حضرها السلطان [كأن أحق] بالتقدم كالجمعة، والعيدين، وسائر الصلوات. ولأن الولي يلزمه طاعة الوالي كما يلزم ابن الميت طاعة أبي الميت، ثم اتفقوا أن أبا الميت أولى من ابن الميت، كذلك الوالي يجب أن يكون أولى من الولي. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج: بأنها ولاية يعتبر فيها ترتيب العصبات إذا لم يحضر الوالي ومن ينوب عنه، فوجب إذا اجتمع الوالي مع الولي أن يكون الولي أولى قياسًا على ولاية النكاح. والجواب: أنه بيَّنا أنه لا يعتبر فيه ترتيب العصبات، بدليل: أن ¬

_ (¬1) كلمة لم أهتد لقراءتها في لوح 272.

72 - مسألة: الزوج يقدم على غيره من العصبات في الصلاة في إحدى الروايتين

الأب مقدم على الابن، وأن الابن أقرب. ولأن السلطان أولى بسائر الصلوات، وإن لم يكن أولى بالنكاح. ولأن تقديم الولي في العقد لا يسقط هيبة السلطان في العادة، وتقديمه في الصلاة إسقاط هيبة للسلطان؛ لأن العادة أنه يتقدم في الصلاة، بدليل: العيدين، والجمعة، والكسوف. واحتج: بأنها عبادة تتعلق بالميت فوجب أن يكون الولي أولى بها من الوالي قياسًا على غسله، وتكفينه، ودفنه. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه لا يجوز اعتبار الصلاة بالغسل والتكفين؛ لأن الزوج يغسل زوجته ويكفنها ووليها أحق بالصلاة عليها، فلو كانت معتبرة بالغسل والتكفين لوجب أن يصلي عليها من يلزمه تكفينها، وعلى أن السلطان أولى بالصلاة في حال حياته، وإن كانت نفقته وكسوته وسكناه على غيره كذلك لا يمتنع أن يكون أولى بالصلاة عليه بعد موته، وإن كان تكفينه ودفنه على غيره، ولأن الغسل لا يحضره السلطان في العادة، ولا في التقدم ثَمَّ ترك لهيبته، والصلاة يحضرها في العادة، وفي التقدم عليه ترك لهيبته، فبان الفرق بينهما، والله أعلم. * * * 72 - مَسْألَة: الزوج يقدم على غيره من العصبات في الصلاة في إحدى الروايتين:

قال في رواية بكر بن محمد في المرأة تموت ولها أخ وزوج: الزوج أولى بالصلاة، أذهب إلى حديث أبي بكرة، صلى عليها ولم يأذن الأولياء. وقال في رواية الأثرم: قد اختلفوا فقال بعضهم: الزوج، وقال بعضهم: غيره، وذكر حديث أبي بكرة ورآه يميل إليه. وفيه رواية أخرى: والعصبات مقدمون، قال في رواية حنبل: إذا حضر الأب، والأخ، والزوج، الأب والأخ أولى من الزوج، فإذا لم يكن الأب والأخ فالزوج أولى. وقال في راوية إسحاق بن إبراهيم: الأب أحق من الزوج. وقال أبو حنيفة رحمه الله: العصبات أولى إلا ابنها من الزوج، فإن الزوج يقدم عليه. وقال الشافعي رحمه الله: جميع العصبات أولى منه. وجه الرواية الأولى: ما احتج به أحمد رحمه الله، فروى أبو حفص بإسناده عن عبد العزيز بن أبي بكرة قال: إن أبا بكرة تزوج امرأة من بني غدانة (¬1) فماتت، قال أبو بكرة - رضي الله عنه -: لو كنتم أحق بالصلاة عليها تركناكم، ولكنا نحن أحق بالصلاة عليها، فقال بنو غدانة: صدق صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم منا، فتقدم فصلى عليها. ¬

_ (¬1) في الأصل: عبد العزيز بن بكر قال: تزوجت امرأة من بني عدانة، والتصويب من "تاريخ دمشق" (62/ 215).

وبإسناده عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: الرجل أحق بغسل امرأته والصلاة عليها. وأيضًا: فإن الصلاة عبادة تتعلق بالموت، فكان الزوج فيها مقدمًا على سائر العصبات، دليله: الغسل، والدفن. ولأنه زوج فتقدم على الابن، دليله: إذا كان ابن الميتة منه. فإن قيل: إذا كان منه إنما لم يتقدم عليه؛ لأنه يلزمه طاعة أبيه، وهذا المعنى لا يوجد في ابنها من غيره. قيل: فيجب أن يتأخر عنه في سائر الصلوات المفروضات، ويجب أن يتقدم عليه في الغسل والدفن، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود: من الناس من يتوقاه - يعني الصلاة بابنه - فإذا كان أقرأهم فأرجو أن لا يكون به بأس. فقد أجاز تقدمه عليه، ولأنه ذكر لا يسقط إرثه بحال، فتقدم على الابن، والأخ، والعم، دليله: الأب. أو نقول: فكان له ولاية في الصلاة، دليله: الأب، ولا يلزم عليه الأخ من الأم؛ لأنه يسقط إرثه بحال. واحتج من ذهب إلى الرواية الثانية: بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج: بأنه ليس بعصبة فلا يملك الصلاة، دليله: سائر الأجانب.

73 - مسألة: الأب والجد أولى بالصلاة من الابن

والجواب: أنه يبطل بالوصي والولي، ولأنه لا يجوز اعتبار الزوج بالأجانب كما لم يجز اعتباره بهم في الغسل، والدفن، والميراث. واحتج: بأنه يرث بسبب فلا يتقدم على العصبات، دليله: المولى. والجواب: أن سبب الزوج، أقوى ألا ترى أنه يستفيد الغسل والدفن، ولا يحجب عن الميراث بحال؟ ! والمولى بخلافه. * * * 73 - مَسْألَة: الأب والجد أولى بالصلاة من الابن: ذكره الخرقي، وأبو بكر، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله. وقال مالك رحمه الله: الابن أولى. دليلنا: أن الابن يقاد (¬1) به فلا يتقدم على الأب والجد، دليله: الأخ، والعم، وابن العم، وأن القصد من الصلاة طلب الدعاء، والترحم، والاستغفار، فوجب أن يكون أولاهم أقربهم لدعائه له، وأقربهم لإجابة دعائه، والأب أولى من الابن؛ لما فيه من الشفقة، والابن ربما فرح بموته، ولا ممنوع من التقدم على ابنه من الوجه الذي ذكرنا، فلا يجوز أن يتقدم عليه في الصلاة. ¬

_ (¬1) في الأصل: يعاد.

74 - مسألة: الجد مقدم على الأخ وابن الأخ

ولأن من أصلنا الأب مقدم على الابن في ولاية النكاح، كذلك في الصلاة. واحتج المخالف: بأن المعتبر في الصلاة بالتعصب، بدليل: أن ذوات المحارم لا ولاية لهم؛ لأنه لا تعصب لهم، وتعصيب البنوة أقوى، فيجب أن يتقدم. والجواب: أنا لا نسلم أن المعتبر في الصلاة على الميت بالتعصيب، بدليل: أننا نقدم الوصي والسلطان، وعلى أن تعصيبه وإن كان أقوى، فإنه ممنوع من التقدم على أبيه، فلهذا أوجب تأخيره، والله أعلم. * * * 74 - مَسْألَة: الجد مقدم على الأخ وابن الأخ: ذكره الخرقي. وقال أبو بكر رحمه الله: فيه قولان: أحدهما: مثل هذا، وهو قول الشافعي رحمه الله. والثاني: الأخ، وابن الأخ، وهو قول مالك. دليلنا: أن الجد له إيلاد وتعصيب فتقدم على الأخ وابن الأخ في الصلاة، دليله: الأب الأدنى، تبين صحة هذا أنه يساويه، وفي أنه لا تقبل شهادته له، ولا يقبل به، ولأن الأخ مقدم عليه في الولاية، فلم يتقدم على الجد كالعم وابن العم.

75 - مسألة: لا يصلى على الميت حين طلوع الشمس، ولا حين غروبها، ولا حين قيامها

واحتج المخالف: بأنهما أقرب تعصيبًا من الجد؛ لأنهما يدليان ببنوة الأب، والجد يدلي بأبوة الأب، وتعصيب البنوة أقوى. والجواب: أنه لا اعتبار بهذا في الصلاة على الميت، بدليل: أن السلطان أولى بالصلاة من سائر العصبات على قولنا وقول مالك، وإن عدم منه هذه القوة. ثم هذا المعنى يوجب تقديم الأخ على الأب؛ لأن تعصيبه يجري مجرى تعصيب البنوة، وعندك أن الابن مقدم على الأب، ولما لم يجر مجراه في التقدم على الأب، كذلك في باب الجد، والله أعلم. * * * 75 - مَسْألَة: لا يصلى على الميت حين طلوع الشمس، ولا حين غروبها، ولا حين قيامها: نص على هذا في رواية حنبل فقال: يصلى على الميت بعد العصر ما لم تُطفَّل الشمس للغروب، وإذا بدأ حاجب الشمس يغيب أمسك حتى تصلي المغرب ثم يصلى عليها. وقال أيضًا في رواية أبي طالب: إذا جيء بها في وقت صلاة الفجر؛ فإن كان في وقت يصلون فيه صلاة الفجر صلي عليها، وإن لم يكن وقتًا يصلون فيه صلاة الفجر لم يصلوا عليها، وكذلك إذا جيء بها بعد العصر.

وقال أيضًا في رواية المروذي: يكره الصلاة على الجنازة في ثلاثة أوقات: عند طلوع الشمس، ونصف النهار، وعند غروبها. وبهذا قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي رحمه الله: تجوز الصلاة عليها في هذه الأوقات. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ثلاث ساعات نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقبر فيهن موتانا أو نصلي فيهن: حين تطلع الشمس، ونصف النهار، وحين تغرب الشمس. ولأنها نوع صلاة لم يشرع لها الأذان والإقامة، فجاز أن يمنع من فعلها في الأوقات المنهي عليها، دليله: النوافل التي لا سبب لها. ولأن الصلاة على ضربين: نفل، وفرض، ثبت أن النفل منها ما يمنع منه في الأوقات المنهية، وهي التي لا سبب لها، يجب أن يكون الفرض ينقسم منه ما يمنع من فعله في الأوقات [المنهية] (¬1)، وليس إلا الجنازة. واحتج المخالف: بأنها صلاة لها سبب، فجاز فعلها في هذه الأوقات، دليله: قضاء الفوائت. والجواب: أن تلك فرض على الأعيان، فهي آكد، فجاز تعجيل قضائها في عموم الأوقات. أو نقول: تلك صلاة يشرع لها الأذان والإقامة في الأصل، وهذه لم يشرع لها فهي كالنوافل. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

76 - مسألة: إذا اجتمعت جنازة امرأة وصبي قدمت المرأة بما يلي الإمام والصبي خلفها بما يلي القبلة

واحتج: بأن كل وقت جاز قضاء الفوائت فيه جاز صلاة الجنازة فيه، دليله: بعد طلوع الفجر الثاني، وبعد صلاة العصر. والجواب: أن المعنى في تينك الوقتين أنها تطول فيخاف على الميت التغير، فلهذا جاز أن يصلى عليه فيها، وليس كذلك في هذه الأوقات؛ لأنها لا تطول وزمنها يسير فلا يخاف على الميت، فلهذا لم يصل عليه فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم. آخر الجزء الحادي والعشرين من أصل المصنف رحمة الله عليه وعلى كاتبه وعلى والديه ولجميع المسلمين * * * 76 - مَسْألَة: إذا اجتمعت جنازة امرأة وصبي قدمت المرأة بما يلي الإمام والصبي خلفها بما يلي القبلة: وهو اختيار الخرقي. ونقل صالح، وأبو الحارث عن أحمد رحمه الله: إذا اجتمع رجل، وامرأة، وصبي، فالرجل يلي الإمام، والصبي خلفه، والمرأة خلفهما، فقدم الصبي على المرأة. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله. وجه الأول: أن المرأة متبوعة في الإسلام، فيجب أن يتقدم (¬1) ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: تتقدم.

الصبي في الصلاة، والدفن، دليله: الرجل. ولأنها شخص مكلف تقدم على الصبي كالرجل. ولأن المرأة أكمل، بدليل: أنها من أهل الشهادات، والأمانات، والولايات، والصبي بخلاف ذلك، ويلزم على هذا أن تقدم على المجنون. واحتج المخالف: بما روى عمار بن عمار شهدت جنازة أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وابنها، فوضع الغلام يلي الإمام، والمرأة خلفه، وفي الناس عبد الله بن عباس، والحسن، والحسين، وابن عمر، وأبو هريرة، وثلاثون نفسًا من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والجواب: أنه يحتمل أن يكون الغلام بالغًا، ويحتمل أن يكون فعل ذلك على طريق الجواز. واحتج: بما روى النجاد بإسناده عن عطاء [عن عمار] (¬1) قال: شهدت جنازة امرأة وصبي، وفي الجنازة ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو قتادة، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -، فقدموا الصبي إلى الإمام، والمرأة وراءه، فأنكرت ذلك، فقيل: هذه السنة. والجواب عنه: ما تقدم، وعلى المعارض هذا ما رواه النجاد بإسناده عن الحارث عن علي - رضي الله عنه - قال: يقدم الرجال قبل النساء إلى الإمام، والكبار قبل الصغار. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والاستدراك من "سنن" النسائي الكبرى.

77 - مسألة: إذا اجتمع جنازة صبي وعبد قدم العبد مما يلي الإمام

واحتج: بأنه لما كان الصبي يتقدم من الإمام في صلاة الفرض وتتأخر المرأة وراء الصف، كذلك في باب الجنازة مثله. والجواب: أن الموقف في صلاة الجنازة مخالف للموقف في الفرض، ألا ترى أنه تتأخر المرأة عن الرجل في صلاة الفرض بكل حال، وفي باب الجنازة إذا لم يكن هناك جنازة رجل فإنها توضع قدام الإمام، ولا تؤخر عنه، فبان الفرق بينهما. * * * 77 - مَسْألَة: إذا اجتمع جنازة صبي وعبد قدم العبد مما يلي الإمام: نص عليه في رواية صالح فقال: إذا اجتمعت جنازة صبي ومملوك فالمملوك يلي الإمام، والصبي يلي المملوك. ونقل أبو الحارث: إذا اجتمع جنازة رجل وصبي ومملوك، فالرجل يلي الإمام، والصبي يلي الرجل، والعبد يلي الصبي، فأخَّر المملوك عن الصبي. وهو قول الشافعي رحمه الله. وجه الأولة: أن العبد مكانه مقدم على الصبي، دليله: الحر البالغ. ولأن العبد أكمل، بدليل: أنه تصح إمامته في الفرض، والصبي لا تصح إمامته على أصلنا في الفرض، ولأن العبد يُصافُّ الرجلَ الحر، والصبي لا يصافه.

78 - مسألة: إذا اجتمع جنائز رجال على الانفراد، ونساء على الانفراد، ورجال ونساء، فالسنة أن يسوى بين رؤوسهم

واحتج المخالف: بأن الصبي من جنس الكمال وهو الحرية، فيجب أن يقدم على العبد كالحر البالغ. والجواب: أنا قد بينا أن العبد أكمل، بدليل: أنه متبوع في الإسلام، ولأنه مكلف، ولأنه يتقدم في الإمامة، والله أعلم. * * * 78 - مَسْألَة: إذا اجتمع جنائز رجال على الانفراد، ونساء على الانفراد، ورجال ونساء، فالسنة أن يسوى بين رؤوسهم: نص عليه في رواية صالح، وابن منصور: إذا اجتمع جنائز رجال ونساء وصبيان يسوى بين رؤوسهم على حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، فإن اختار أن يخالف بينهم، فيكون بجعل صدر الرجل عند وسط المرأة، ويقوم عند صدر الرجل، فيكون قد قام عند صدر الرجل ووسط المرأة، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله في قوله: إن جعل رأس كل واحد أسفل من رأس الآخر كدرج فحسن، وإن جعلوا رأس كل واحد بحد رأس الآخر فحسن، ولا فرق عنده بين جنائز الرجال والنساء في حال الانفراد والاجتماع. وقال الشافعي رحمه الله: إذا اجتمع جنائز الرجال على الانفراد، والنساء على الانفراد سوى بين رؤوسهم، وإن اجتمع جنائز رجال ونساء خالف بين رؤوسهم، فيكون صدر الرجل عند وسط المرأة، فيكون قد قام عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.

دليلنا: ما روى أبو حفص بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يسوي بين الرؤوس من الرجال والنساء. فإن قيل: يعارض هذا ما روى النجاد بإسناده عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: كان يجعل الرجل مما يليه، والنساء مما يلي القبلة، ويجعل المرأة أسفل من الرجال يحدرها قليلًا كأن رأسها عند صدر الرجل. وبإسناده عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان مات في طاعون فيه بشر كثير، فكان إذا صلى على الرجال والنساء جعل الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة، ويجعل رؤوسهن عند ركبتي الرجل، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدمونه فيصلي كذلك ولا ينكرونه. قيل: هذا مطرح؛ لأن من اعتبر المخالفة بين رؤوسهم يقول على غير هذا الوجه: وهو أنه يجعل صدر الرجل عند وسط المرأة، وإذا كان مطرحًا لم يحتج به؛ لأن السنة عندنا أن يقف الإمام عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة، فإذا اجتمع جنائز رجال فمتى خالف بين رؤوسهم خالف مسنون الموقف؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يقف عند صدر كل واحد منهم، وإذا سوّى وقف عند صدر كل واحد. وكذلك إذا اجتمع جنائز نساء فمتى خالف بينهم خالف مسنون الموقف؛ لأنه إلى أن لا يقف عند وسط كل واحده منهن وإذا سوى بينهن أصاب مسنون الموقف.

وإذا اجتمع جنائز رجال ونساء، فالنساء تبع للرجال؛ لأنهن يتأخرن عنهم في الموقف، وإذا كانوا تبعًا سقط اعتبار الموقف في حقهن، وكان الاعتبار بالمتبوع وهو الرجل الذي يلي الإمام، كما إذا جمع بين الحج والعمرة لما كانت العمرة تبعًا للحج سقط اعتبار أفعالها، وكان الترتيب لأفعال الحج. فإن قيل: كان يجب أن يخالف بين جنائز الرجل والنساء؛ لأنه يصيب بذلك مسنون الموقف. قيل: إنما وافقنا للمعنى الذي هو أن المرأة تبع للرجل، فسقط اعتبار الموقف في حقها، وكان الاعتبار بالرجل كالعمرة مع الحج. احتج المخالف: بأنه إذا سوى بينهم يصير كالصف الواحد، وإذا جعله مدرجًا يصير كالصف بعد الصف، وله أن يفعل ذلك في الصف؛ لأنه إن شاؤوا وقفوا صفًا واحدًا، وإن شاؤوا وقفوا صفًا دون صف مثل الدرج، بل هذا هو الأفضل، نص عليه في رواية الميموني فقال: أحب إلي إذا كان فيهم قلة فله أن يجعلهم ثلاث صفوف، وإن كان وراءه أربعة جعلهم صفين. والجواب: أنا لا نقول: إنه مخير بين تفريق الصف وبين جمعه كما قالوا هم في مسألتنا، بل نقول: المستحب أن يفترقوا صفوفًا لما فيه من الحظ للميت كما ورد الشرع، فروى أبو حفص العكبري بإسناده عن مالك بن هبيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين بلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له"، فكان

79 - مسألة: إذا كبر الإمام على جنازة ثم جيء بجنازة أخرى فكبر ثانية ونواهما فهي لهما، وكذلك إن جيء بثالثة فكبر الثالثة ونواهم فهو لهم، وكذلك إن جيء برابعة، فإن جيء بخامسة لم ينوها بالتكبير

مالك بن هبيرة يتحرى إذا دخل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. وروى أيضًا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يصلي عليه صفوف المسلمين إلا أوجب". وبإسناده عن خير بن (¬1) نعيم الحضرمي أن أبا الزبير أو (¬2) عطاء بن أبي رباح أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابعهم، فجعلهم ثلاثة صفوف: الصف الأول ثلاثة، والصف الثاني رجلين، والثالث رجلًا، ورسول الله بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام بين أيديهم. وهذا المعنى معدوم في المخالفة في الصلاة عليهم، إذ ليس هناك فضيلة ورد الشرع بها بل فيه مخالفة مسنون الموقف، والله تعالى أعلم. * * * 79 - مَسْألَة: إذا كبر الإمام على جنازة ثم جيء بجنازة أخرى فكبر ثانية ونواهما فهي لهما، وكذلك إن جيء بثالثة فكبر الثالثة ونواهم فهو لهم، وكذلك إن جيء برابعة، فإن جيء بخامسة لم ينوها بالتكبير: نص على هذا في رواية عبد الله فقال: إذا جاؤوا بجنازة فكبر عليها تكبيرة ثم أُتي بجنازة أخرى فكبر ثم أُتي بأخرى فكبر ثم أُتي بأخرى فكبر ¬

_ (¬1) في الأصل: جبير، والتصويب من "فتح الباري" لابن رجب (5/ 296). (¬2) في الأصل: و، والتصويب من "فتح الباري" (5/ 296).

إلى سبع لا يزيد عن ذلك حتى يرفع هذه الأربعة، ثم يستأنف التكبير إن جاؤوا بأخرى. وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: إن نوى بالثانية لهما فهي الأولى، وإن نوى بها الثانية خرج من صلاة الأولى وهي للثانية. والدلالة على أنه إذا نوى لهما تكون لهما: هو أنه يجوز أن يجمعهما بنية واحدة في حال الاستدامة، دليله: الحج والعمرة يجوز أن يجمعهما حال الابتداء بنية القران، ويجوز في حال الاستدامة وهو إذا أحرم بالعمرة ثم أدخل الحج عليها ونواهما، فإنه يصح كذلك ها هنا. ويفارق هذا إذا أحرم بالظهر الحاضرة ثم نوى بها ظهرًا فائتة عليه أنه لا يصح بنية لهما؛ لأنه لا يصح أن يجمع بينهما بنية واحدة حال الابتداء فلم يجز حال الاستدامة. واحتج المخالف: بأنه لو صح أن يكون مصليًا عليهما لأدى ذلك إلى الزيادة في التكبير على الأربع، وذلك خلاف السنة، فان لم يزد بالتكبير أدى إلى النقصان في حق الثانية والثالثة. ولأنه يؤدي إلى مخالفة ترتيب الأذكار؛ لأنها ثانية في حق الأول، ومحلها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أولة في حق الثاني، ومحله القراءة. والجواب من قولهم: إنه يؤدي إلى الزيادة في التكبير، فغير صحيح؛ لأنا إنما نجيز التكبير على الجنازة الرابعة؛ لأنه ينتهي التكبير إلى سبع، وهو نهاية التكبير عندنا على الجنازة فلا زيادة في العدد فإن

80 - مسألة: يقوم الإمام في الصلاة على الميت إذا كان رجلا حذاء صدره، ومن المرأة بحذاء وسطها

جيء بجنازة خامسة لم ينوها بالتكبير لأنه يؤدي إلى هذا. وقولهم: يفضي إلى النقصان في حق الثانية، فغير ممتنع كما قلنا في القارن: يسقط أفعال العمرة، وإذا أدركه راكعًا. وأما قولهم: يؤدي إلى مخالفة الترتيب، فغير ممتنع؛ لأنه لو أدرك الإمام راكعًا تبعه في الركوع، وإن كان فيه مخالفة ترتيب صلاته؛ لأنه ابتداء صلاته التكبير والقراءة، وهو يسقط بمتابعة الإمام، كذلك ها هنا، والله أعلم. * * * 80 - مَسْألَة: يقوم الإمام في الصلاة على الميت إذا كان رجلًا حذاء صدره، ومن المرأة بحذاء وسطها: نص على هذا في رواية أبي الحارث، وبكر بن محمد، والأثرم، وقال حرب أيضًا عنه: والإمام يقوم عند صدر الرجل ووسط المرأة، قال: ورأيت أحمد رحمه الله صلى على الجنازة فقام عند صدر المرأة. قال أبو بكر الخلال: قد سها فيما حكي عنه، والعمل على ما رواه الجماعة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقوم بحذاء صدره رجلًا كان أو امرأة. وقال مالك رحمه الله: يقف من الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبها.

وقال الشافعي رحمه الله: من المرأة عند وسطها، واختلف أصحابه في الموقف من الرجل، فمنهم من قال: يقف بحذاء صدره، ومنهم من قال: بحذاء رأسه. دليلنا: ما روى أبو بكر عبد العزيز، وأبو بكر النجاد، وأبو عبد الله بن بطة بإسناده عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها. فإن قيل: إذا قام عند صدرها فقد قام عند وسطها؛ لأن بدن الميت من أصل العنق إلى الخاصرة، والصدر وسطه، وما علا من ذلك فهو أطرافه، والاعتبار بها في الصلاة عليه، ولهذا قلنا: إذا وجد طرف من أطرافه لم يصل عليه. قيل له: الصدر غير الوسط؛ لأنه لو كان وسطًا لم يسم صدرًا، ولأن العرب تقول: ضرب وسطه، ولا يريد به صدره. وأيضًا ما روى أبو بكر عبد العزيز، وأبو بكر النجاد، وعبد الله بن بطة بإسناده عن أبي غالب قال: رأيت أنس بن مالك - رضي الله عنه - صلى على جنازة رجل فقام حيال رأسه ثم جيء بجنازة امرأة فقام حيال وسطها، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من الجنازة مقامك هذا من الرجل، وقام من المرأة مقامك هذا من المرأة؟ قال أنس: نعم فأقبل علينا، فقال: احفظوها. وروى أحمد رحمه الله في مسائل حنبل قال: حدثنا يزيد يعني ابن

هارون قال: حدثنا همام قال: حدثنا [أبو] (¬1) غالب الخياط قال: صليت خلف أنس على جنازة رجل فقام حيال صدره، فلما رفعت جيء بجنازة امرأة من قريش أو من الأنصار فقام حيال وسطها، وفي القوم العلاء بن زياد فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة، قال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم، فالتفت إلينا فقال: احفظوها. وهذا نص في أن المراد في الوسط غير الصدر، وأنه العجيزة. فإن قيل: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بحذاء الصدر منها إلا أنه مال في الصلاة على الرجل إلى الجانب الذي فيه الرأس، ومال في الصلاة على المرأة إلى الجانب الذي فيه عجيزتها، فظن الراوي أنه قام من الرجل بحذاء رأسه وصدره، ومن المرأة بحذاء العجز. قيل له: هذا يسقط فائدة الفرق بينهما. واحتج المخالف: بأن هذه صلاة على ميت، فوجب أن لا يكون من سنتها قيام الإمام بحذاء العجز، دليله: الرجل. ولأن هذا من سنن الصلاة على الجنازة فلم يختلف فيها الرجال والنساء، دليله: سائر السنن. والجواب: أن هذا قياس يخالف النص مع أنه قد خولف بينهما، ألا ترى أنه إذا اجتمع جنازة رجل وامرأة، فالسنة أن تكون المرأة مما يلي ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والاستدراك من المسند رقم (13114).

81 - مسألة: يصلى على الغائب بالنية

القبلة، والرجل مما يلي الإمام. ولأنهما يختلفان في صلاة الفرض، فالمرأة تقف خلف الإمام، والرجل على يمين الإمام، ويكون النساء خلف صف الرجال، والمرأة تكفن في خمسة أثواب، والرجل في ثلاثة، ويختلفان في صفة الجنازة، فتكون جنازتها بنعش، والرجل بخلافه، وقبر الرجل لا يستر، وقبر المرأة يستر، كذلك ها هنا، والله أعلم. * * * 81 - مَسْألَة: يصلى على الغائب بالنية: نص عليه في رواية الأثرم، وإسماعيل بن سعيد، واحتج: بحديث النجاشي. وقال حرب: قلت لأحمد رحمه الله: رجل مات بأرض يصلي عليه رجل بأرض أخرى؟ وأردت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، فغضب وقام وقال: دعنا من هذا. فظاهر هذا أنه توقف عنه. والمذهب على ما صرح به من الجواز. وهو قول الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: لا يجوز الصلاة عليه.

دليلنا: ما روى أحمد - ذكره أبو بكر - قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن مالك يعني ابن أنس قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[النجاشي] في اليوم الذي مات فيه فخرج إلى المصلى فصف أصحابه خلفه فكبر عليه أربعًا. روى أبو بكر بإسناده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه موت النجاشي، فقال: صلوا على أخ لكم مات بغير بلدكم، قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفنا صفوفًا، قال جابر: وكنت في الصف الثاني أو الثالث، وكان اسم النجاشي أصحمة. وروى أحمد بإسناده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أخاكم النجاشي قد مات، قال: فصفنا خلفه، وإني لفي الصف الثاني وصلى عليه، ذكره أبو بكر الخلال في العلل. فإن قيل: النجاشي مات بأرض الكفر ولم هناك من يصلي عليه، فلهذا جاز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي عليه، وهذا معدوم فيما اختلفنا فيه. قيل له: هذا لا يصح؛ لأنه لو في بادية أو غرق في البحر وعلم أن أحدًا لم يصل عليه لم يجز أن يصلي عليه بالنية، فلا معنى لقولك: إنه لم يكن بحضرته من يصلي، وعلى أن النجاشي كان كافرًا وأسلم وأظهر إسلامه، وآوى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرهم. وروى أبو داود في كتابه عن أبي بردة - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننطلق إلى أرض النجاشي، وذكر الحديث إلى أن قال: أشهد أنه

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بشر به عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما، لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه، وليس في العادة أن يسلم ملك، ويظهر إسلامه سنين كثيرة، ويأوي المسلمين، وينصرهم على عدوهم، ويدوم ذلك ويتصل، ولا يسلم معه غيره من أتباعه ورعيته، واذا كان هذا ممتنعًا في العادة سقط السؤال. فإن قيل: يحمل قوله: صلى عليه، يعني دعا له. قيل له: روي في الخبر: أنه خرج إلى المصلى وصف أصحابه وكبر أربعًا، وهذه صفة صلاة الجنازة، فلا يجوز حمله على غيره. فإن قيل: يجوز أن يكون رفع الحجاب حتى رأى النجاشي وصلى عليه. قيل له: الصحابة قد صلوا معه، فلو كان لهذا المعنى لكان ينفرد بالصلاة عليه دون أصحابه، وعلى أنه لو كان كذلك لأخبر أصحابه بذلك؛ لأنها آية عظيمة، ومعجزة ظاهرة يكثر النقل لها، فلما لم ينقل دل على أنه لا أصل له. ولأنه غائب فجاز الصلاة عليه، دليله: إذا كان في موضع ليس فيه من يصلي عليه. فإن قيل: هناك حاجة؛ لأنه لو لم يصل عليه إن أفضى إلى إسقاط الصلاة جملة. قيل: لو مات في بادية وعلم أنه لم يصل عليه، لم يصل عليه

عندهم، وإن أفضى إلى ذلك. واحتج المخالف: بأن بحضرته من يصلي عليه، فوجب أن لا يجوز لمن غاب عنه أن يصلي عليه، دليله: إذا مات في بلد، فصلى عليه أهل محلة أخرى من ذلك البلد، ولم يشهدوا جنازته ولا دفنه. والجواب: أن قولهم: بحضرته من يصلي عليه، لا معنى له؛ لأنه لو مات في بادية أو غرق في البحر، فإنه لا يصلى عليه عندهم، وإن لم يكن بحضرته من يصلي عليه، وعلى أن البلد (¬1) الواحد، إنما لم يجز الصلاة فيه بالنية؛ لأنه لا حاجة بهم إلى ذلك؛ لوجود القدرة على الصلاة على الميت، وفي بلد آخر بنا حاجة، وفرق بينهما، ألا ترى أن صلاة الصف الآخر جائزة، وإن اتصلت الصفوف وطالت وحصلت بين الجنازة وبين مسافة بعيدة؟ ! ولو وقف في موضع الصف الآخر من غير حاجة إلى ذلك لم يجز كذلك. واحتج: بأن من شرط صحة الصلاة على الميت أن يكون الميت حاضرًا بين يديه، ألا ترى أنه لو تركه خلفه، وصلى إلى القبلة لم يصح؟ ! والجواب: أن هذا شرطه في الموضع الذي لا حاجة به إلى الغيبة، فأما عند الحاجة فليس ذلك من شرطه، وقد بينا أن للحاجة تأثيرًا في الجواز، بدليل: الصف الأخير، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: الولد.

82 - مسألة: يجوز الصلاة على الميت في المسجد

82 - مَسْألَة: يجوز الصلاة على الميت في المسجد: نص عليه في رواية أبي الحارث فقال: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد. وكذلك نقل الأثرم فقال: سألت أبا عبد الله عن الصلاة على الجنازة في المسجد؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس. وبه قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: يكره ذلك. دليلنا: ما روى أحمد رحمه الله قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا ابن جريج عن موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنهم - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنها أرسلت هي وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى [أهل] (¬1) سعد بن وقاص - رضي الله عنهم - أن مروا به علينا في المسجد حتى نصلي عليه فمر به عليهن في المسجد، فصلى عليه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنكر ذلك الناس، فذكروا ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: لا تعجبوا من الناس حتى تنكروا هذا (¬2)، والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، ذكره أبو بكر الخلال في كتاب العلل. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والاستدراك من المسند رقمه (25357). (¬2) لفظه في المسند: (ألا تعجبون من الناس حين ينكرون هذا).

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد إنها أثبت فإنه حديث موسى بن عقبة وهو يسنده. فإن قيل: يحتمل أن يكون فعل ذلك لعذر من مطر أو مرض. قيل له: لو كان كذلك لم تحتج عائشة رضي الله عنها على من أنكره، ولكان يرده عليها، وتبين أنه كان لعذر، وذلك العذر معدوم، فلما لم يجز العذر آل ذلك على أنه لا اعتبار به. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: روى النجاد بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما صُلي على أبي بكر - رضي الله عنه - إلا في المسجد. وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: صلي على أبي بكر - رضي الله عنه -، وعمر - رضي الله عنه - تجاه المنبر. وروى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر - رضي الله عنه - صلي عليه في المسجد. فإن قيل: يحتمل أن يكون صلي عليه في مسجد الجنائز. قيل له: قد روينا أنه قال: صلي على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - تجاه المنبر. والقياس: أن كل صلاة لا يكره فعلها في مسجد الجنائز، لم يكره فعلها في سائر المساجد، قياسًا على سائر الصلوات. ولأنها صلاة يجوز فعلها في غير المسجد، فجاز فعلها في المسجد، أصله: سائر الصلوات.

واحتج المخالف: بما روى ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". والجواب: أن أبا الحارث قال: سئل أبو عبد الله - يعني أحمد رحمه الله - عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له"، قال أبو عبد الله: حديث صالح مولى التوأمة: ليست بشيء، ولكن حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد. وكذلك روى عبد الله قال: سألت أبي عن حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له"؟ فقال: حتى يثبت [حديث] (¬1) صالح مولى التوأمة، كأنه عنده (¬2) ليس يثبت أو ليس بصحيح، وقال: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، وهذا يدل على ضعف الحديث. وعلى أنا نحمل قوله: "فلا شيء له"، على من صلى عليها في المسجد وهي غائبة، وترك السعي والاتباع، وتكون الدلالة على صحة هذا خبرنا الذي ذكرنا، فيجمع بين الخبرين. وعلى أن خبرنا أولى؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - عملت عليه. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والاستدراك من مسائل عبد الله رحمه الله. (¬2) في الأصل: عبد، والتصويب من مسائل عبد الله رحمه الله.

فإن قيل: خبرنا أولى؛ لأنه قول، وخبركم فعل، والفعل لا يعارض القول. قيل له: إذا كان صريحًا لا يحتمل فهو بمنزلة القول، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على سهيل صريح لا احتمال فيه. فإن قيل: فخبرنا حاظر، وخبركم مبيح، والحاظر أولى. قيل له: قد قيل: إن الحاضر والمبيح سواء؛ لأن كل واحد منهما يستفاد من الشرع، على أن خبرنا يعضده فعل الصحابة رضوان الله عليهم. واحتج: بأنه لا يؤمن أن يخرج منه نجاسة فتلوث المسجد، فيجب أن يتجنب منه، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وإقامة حدودكم" لهذا المعنى. والجواب: أن انفجاره وخروج النجاسة منه نادر، وإنما يخشى عليه ذلك عند الانتفاخ وظهور علامات الانفجار، ومن وجد فيه ذلك لم يدخل المسجد، فأما إذا حمل من غير تأخر، فإنه لا يتفجر، فيجب أن لا يكره كالحر البالغ العاقل يجوز له اللبث في المسجد، وإن جاز أن يطرأ منه الحدث، وكذلك المرأة يجوز لها الجلوس في المسجد، وإن [جاز] (¬1) أن يطرقها الحيض، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، ومستدركة من الفروع (3/ 360).

83 - مسألة: إذا كبر الإمام سبعا في صلاة الجنازة كبر تبعا للإمام في أصح الروايات

83 - مَسْألَة: إذا كبر الإمام سبعًا في صلاة الجنازة كبر تبعًا للإمام في أصح الروايات: رواها ابن منصور عنه فقال: لا ينقص التكبير على الجنازة من أربع، ولا يزاد على سبع. وكذلك نقل أبو داود عنه وقد سئل إذا كبر على الجنازة ستًا؟ قال: يكبر ما كبر، وإن زاد على سبع ينبغي أن يسبح به. وكذلك نقل أبو جعفر الدينوري عنه: إذا كبر سبعًا لا يسبح به. وفيه رواية أخرى: يكبر معه في الخامسة، ولا يكبر زيادة على ذلك، رواه عنه الأثرم، وقد سأله: إذا كبر ستًا أو سبعًا أو ثمانيًا؟ فقال: أما هذا فلا، أما الخمس فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن نختار نحن أربعًا، وإن كبر خمسًا كبر معه، فأما الست فإنما كبرها لفضيلة سهل بن حنيف كان من أهل بدر. فقد صرح في رواية الأثرم أنه يتبع في الخمس، ولا يتبع فيما زاد. وقد نقل عنه الجماعة: أنه يكبر معه في الخامسة، فنقل صالح عنه: أما في الخامسة فيتبعه، فإن كبر ثلاثًا فما يعجبني. كذلك نقل أبو داود: في الإمام إذا كبر خمسًا فسلم بعض الناس في الرابعة؟ فأنكره، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الإمام ليؤتم به"، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كبروا ما كبر إمامكم.

وكذلك نقل أبو طالب عنه: إذا كبر خمسًا يكبر معه ولا يقطع. وفيه رواية ثالثة: لا يتبع في الخامسة، نص عليه في رواية حرب وقد سئل: إذا سها الإمام فكبر خمسًا أيسلم هذا الذي خلفه؟ قال: لا، ولكن لا يكبر ولا يسلم إلا مع الإمام. فقد نص على أنه لا يتبعه في الخامسة. وهو قول أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله. وقال أحمد رحمه الله في آخر رسالة مسدد: التكبير على الجنازة، قال: كبر الإمام خمسًا كبر معه كفعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كبر ما كبر إمامك. قال أحمد: خالفني الشافعي رحمه الله فقال: إذا زاد على أربعة تعاد الصلاة، واحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، وكبر أربعًا، قال أحمد: والحجة له. دليلنا: أن الأخبار في تكبيرات في صلاة الجنازة قد اختلفت كما اختلفت في تكبيرات العيد، ثم اتفقوا على أن المأموم يتابع في تكبيرات العيد، كذلك ها هنا، ووجه الاختلاف ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الجنازة أربعًا. وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر قلابة فكبر أربعًا. وروى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عثمان بن

مظعون وكبر أربعًا. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى بهم، فصف بهم فكبر أربع تكبيرات. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صف الناس على قبر مسكينة فكبر أربع تكبيرات. فهذه الأخبار تدل على الأربع. وروى أبو بكر بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم - رضي الله عنه - يكبر على جنائزنا أربعًا وإنه كبر على جنازة خمسًا، فسألته، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها. وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر خمسًا. وهذه الأخبار تدل على الخمس. وروى أبو بكر النجاد قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: جمع عمر - رضي الله عنه - الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة، فقال بعضهم: كبر النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعًا، وقال بعضهم: خمسًا وقال بعضهم: أربعًا، فجمع عمر - رضي الله عنه - على أربع كأطول الصلاة. وهذا الخبر يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر سبعًا، وأنهم اختاروا الأربع اختيارًا.

وروى النجاد أيضًا بإسناده عن الشعبي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال: ما حفظنا التكبير على الجنائز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كبر أربعًا وخمسًا وسبعًا فما كبر إمامك فكبر. وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن علقمة عن عبد الله أنه قال: كبروا ما كبر الإمام لا وقت ولا عدد. وروى عبد خير قال: كان علي - رضي الله عنه - يكبر على البدريين ستًا (¬1)، وعلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا (1)، وعلى سائر الناس أربعًا. وروى النجاد، وأبو حفص العكبري في كتابه بإسناده عن موسى بن عبد الله بن يزيد: أن عليًا - رضي الله عنه - كبر على أبي قتادة سبعًا. وروى أيضًا بإسناده عن بكر بن عبد الله قال: لا ينقص من ثلاث تكبيرات ولا يزاد على سبع. وهذا يدل على جواز الزيادة على الخمس، وإذا ثبت هذا وجب الأخذ بالزائد، كما قلنا في العيدين. فإن قيل: المتأخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كبر أربعًا، فيجب الأخذ بالمتأخر ويسقط ما قبله. وقد روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي إسحاق قال معمر (¬2): بلغني أن عمر - رضي الله عنه - جمعهم فسألهم عن أحدث جنائزهم صلى عليها ¬

_ (¬1) في الأصل: ستة، خمسة، والتصويب من "الأوسط" لابن المنذر. (¬2) كذا في الأصل، وفي "التمهيد" (6/ 335): (المغيرة).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهدوا أنه صلى على أحدث جنازة وأنه كبر أربعًا، فجمع عمر - رضي الله عنه - على أربع. وروى أيضًا بإسناده عن ميمون بن مهران قال: حدثنا ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: آخر ما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز أربعًا، وكبر أبو بكر على فاطمة رضي الله عنها أربعًا، وكبر الحسن بن علي على علي - رضي الله عنهما - أربعًا، وكبر الحسين على الحسن - رضي الله عنهما - أربعًا، وكبر علي على يزيد بن المكفف (¬1) - رضي الله عنهما - أربعًا، وكبر عبد الله بن عمر على أبيه - رضي الله عنهما - أربعًا، وكبرت الملائكة على آدم عليه السلام أربعًا، وكبر ابن الحنفية (¬2) على ابن عباس - رضي الله عنهم - أربعًا، وإذا كان هو المتأخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب الأخذ به دون غيره. قيل له: التأخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الاستحباب والفضيلة، ولا يدل على منع الجواز فيما زاد على ذلك، ونحن نقول: إن الأفضل الأربع، وإنما كلامنا إن كبر زيادة هل تجوز متابعته أم لا؟ وليس في الخبر ما يمنع. واحتج المخالف: بأن كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة قائمة مقام ركعة، وقد بينا أن الإمام لو زاد في صلاته ركعة، لم يلزم المأموم متابعته، كذلك إذا زاد في صلاة الجنازة تكبيرة. ¬

_ (¬1) في الأصل: زيد، والتصويب من "مصنف" عبد الرزاق رقم (6398). (¬2) في الأصل: كبرت الحنفية، والصواب المثبت.

84 - مسألة: يرفع يديه مع كل تكبيرة

والجواب: أنا لا نسلم أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ألا ترى أنا نقول: إذا فاته شيء من التكبير مع الإمام استحب له قضائه، فإن سلم مع الإمام ولم يقض جازت صلاته ولو كانت قائمة مقام ركعة بطلت صلاته، كما تبطل بترك ما كان من الركوع، وهذا فصل يأتي الكلام عليه فيما بعد مستوفىً إن شاء الله تعالى. * * * 84 - مَسْألَة: يرفع يديه مع كل تكبيرة: نص عليه في رواية الميموني فقال: يرفع يديه مع كل تكبيرة على الجنازة، وكذلك نقل إسحاق بن منصور قال: رأيت أحمد رحمه الله يصلي على الجنازة، فكان يرفع يديه في تكبيره، ويضع يمينه على شماله. وبه قال الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرفع يديه إلا في الأولى. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة. ولا يجوز (¬1) على ابن عمر مع فقهه وكثرة صلاته خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على (1) ظهور التكبيرات من الإمام. ¬

_ (¬1) هنا كلمة أصابها طمس.

85 - مسألة: القراءة شرط في صحة صلاة الجنازة

ولأنها تكبيرة يقطع طرفاها في القيام، فوجب أن يستحب لها رفع اليدين، أصله: تكبيرة الافتتاح، وقد قيل: تكبيرة من صلاة الجنازة، فسن لها الرفع، دليله: ما ذكرنا. ولأنها تكبيرة مفعولة في حال القيام أشبه تكبيرات العيدين. ولأن أبا حنيفة رحمه الله قد قال: إذا كبر للقنوت في حال القيام رفع يديه فدل على ما ذكرنا. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن" فذكر منها: عند الافتتاح للصلاة. والجواب عنه: ما تقدم في الصلاة. واحتج: بأن كل تكبيرة من صلاة الجنازة قائمة مقام ركعة، وقد ثبت أنه لا ترفع الأيدي في أول كل ركعة، كذلك لا ترفع في كل تكبيرة. والجواب: أنا لا نقول: إنها قائمة مقام ركعة، وسنبينه إن شاء الله فيما بعد. * * * 85 - مَسْألَة: القراءة شرط في صحة صلاة الجنازة: نص عليه في رواية عبد الله فقال: الصلاة على الميت: يرفع يديه فيكبر، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، ثم يكبر ويرفع يديه، فيصلي على

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الملائكة المقربين، ثم يرفع يديه ويكبر ويدعو للميت، ثم يرفع يديه فيكبر ويخلص الدعاء للميت، ويقف قليلًا بعد الرابعة ويسلم. وروى أبو داود، وأحمد بن حسين بن حسان عنه نحو هذا. وهو قول الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يقرأ في صلاة الجنازة، ولكن يكبر الأولى، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت، ثم يكبر الرابعة ويسلم. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن مقسم - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وروى أيضًا بإسناده عن شهر بن حوشب عن أم شريك - رضي الله عنهما - قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على الجنازة بأم القرآن. وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: نحمل ذلك على أنه أمرهم بذلك على وجه الدعاء. قيل له: أم القرآن وفاتحة الكتاب لا تسمى دعاء، فلا معنى يحمل الخبر عليه. وروى أيضًا بإسناده عن مقسم [عن]، ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. فإن قيل: نحمل هذا على أنه قرأها على وجه الدعاء.

قيل له: من سمع منه قراءة الفاتحة لا يقال: دعاء، وإنما يقال (¬1): قرأ فلم يصح هذا السؤال. وروى أيضًا بإسناده عن عثمان النهدي عن امرأة منهم يقال لها: ابنة (¬2) عفيف قالت: بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء فأخذ عليهن أن لا يحدثن من الرجال إلا محرمًا، وأمرنا أن نقرأ على ميتنا (¬3) بفاتحة الكتاب. وروي أيضًا عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وروى أيضًا بإسناده عن عباد بن أبي سعيد المقبري قال: صلينا على جنازة بمكة فقام حبرنا ابن عباس - رضي الله عنهما - فكبر ثم قرأ بفاتحة الكتاب فجهر ثم صلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: هكذا ينبغي الصلاة على الجنازة وإني لم أجهر إلا لتعلموا أنها كذا. وروى يزيد بن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنهما - فقرأ بفاتحة الكتاب، فقلت له، فقال لي: هي السنة. والقياس: أنها صلاة يجب فيها القيام، فوجبت فيها القراءة مع القدرة عليها، قياسًا على سائر الصلوات، ولا يلزم عليه سجود تلاوة؛ لأنه ليس من شرطها القيام، ولا يلزم عليه الطواف؛ لأنه لا يتناوله اسم ¬

_ (¬1) في الأصل: قال. (¬2) في "المعجم الكبير" للطبراني رقم (410): (أم عفيف). (¬3) في الأصل: بميتنا، والتصويب من "المعجم الكبير" رقم (410).

الصلاة على الإطلاق. وإن شئت قلت: صلاة مفروضة فكان من شرطها القراءة، دليله: سائر الصلوات. فإن قيل: سائر الصلوات فرض على الأعيان، وهذه فرض على الكفاية. قيل: فيجب إذا تعينت على قوم أن يجب فيها القراءة، ثم فرائض الأعيان والكفاية سواء في الابتداء في توجه الخطاب، وإنما يختلفان في الانتهاء. واحتج المخالف: بما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: لم يوقت لنا فيها قولًا ولا قراءة، كبر ما كبر الإمام، واختر من أطيب الكلام. وروي أن مروان سأل أبا هريرة - رضي الله عنه -: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الجنائز؟ قال: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها" (¬1)، وذكر دعاء. وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فقال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا"، وذكر دعاء. وروى يونس بن ميسرة عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "إن فلان بن فلان في ذمتك فقه الفتن". ¬

_ (¬1) في الأصل: خلفها، والتصويب من المسند رقم (8545).

فذكر عنه في هذه الأخبار الدعاء فيها، ولم يذكر القراءة. والجواب عن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه لا يقتضي كراهة القراءة، وعندهم أنه يكره، وعلى أن قوله: لم يوقت لنا نفي، وخبرنا فيه إثبات والتوقيت بالفاتحة، فهو أولى. وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأنه سمعه يقول: "اللهم أنت ربنا اللهم اغفر لحينا وميتنا"، فلا حجة فيه على إسقاط القراءة؛ لأن الخبر قصد به بيان الدعاء الذي كان يقوله في صلاة الجنازة، ولم يتعرض لغيره من القراءة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتج: بأن الحاجة إلى معرفة القراءة في صلاة الجنازة كالحاجة إلى معرفة القراءة في سائر الصلوات، فلو كانت القراءة ثابتة لورد النقل بها كما ورد في سائر الصلوات، ولما لم يرد عُلِمَ أنه ليس فيها قراءة. والجواب: أنه لا يمتنع أن تدعو الحاجة إلى معرفة، ولا يرد النقل به متواترًا كالأذان والإقامة مع حصول الاختلاف في ألفاظه والوتر مع قولهم بوجوبه. واحتج: بأنها صلاة على الميت فلم يكن فيها قراءة، كالصلاة على القبر، وقد روى البزراطي وقد سئل: إذا صلى على القبر يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب كما يقرأ على الجنازة؟ قال: لا يقرأ على القبر شيئًا من القرآن. والجواب: أن المذهب الصحيح أن القراءة واجبة في الصلاة

على القبر، كوجوبها على الجنازة؛ لأن الجماعة رووا عنه جواز الصلاة على القبر من غير منع القراءة. واحتج: بأنه ليس فيها ركوع، فوجب أن لا يكون فيها قراءة كالطواف. والجواب: أن سقوط الركوع لا يدل على سقوط القراءة كما لا يدل على سقوط الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن أخذ حكم القراءة من القيام أولى منه الركوع؛ لأن القيام محل القراءة، وموضع فرضها، وهو واجب في هذه الصلاة. وأما الطواف فلا يتناوله اسم الصلاة على الإطلاق. واحتج: بأنه ليس في جملتها قراءة السورة، فوجب أن لا يكون فيها قراءة الفاتحة، دليله: الطواف، وسجود التلاوة، ومع هذا فالقراءة فيهما غير مكروهة، كذلك ها هنا، وعلى أن السورة سقطت لضرب من التخفيف، ولهذا أسقط دعاء الاستفتاح فيها، وليس إذا دخل التخفيف من وجه يجب أن يدخل في جميع الجنس، ألا ترى أن التخفيف دخلها في دعاء الاستفتاح، ولم يوجب ذلك في بقية الأذكار من الأدعية؟ ! وأما الطواف فقد تكلمنا عليه، وأما سجود التلاوة فليس من شرطه القيام. واحتج: بأنه لو كان فيها قراءة لوجب أن يقرأ بعد كل تكبيرة؛ لأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة، ألا ترى أن من أدرك الإمام في التكبيرة

86 - مسألة: القيام شرط في صلاة الجنازة

الثالثة كبر معه وتابعه في الرابعة وقضى ما سبقه بعد فراغ الإمام؟ ! كما لو أدرك الإمام في الركعة الثالثة من الظهر أنه يتابعه في بقية صلاته، ويقضي ما سبقه به. والجواب: أنا لا نسلم أن التكبيرات بمنزلة الركعات، وإنما هو قيام مشروع فيه تكبيرات كتكبيرات صلاة العيد، ويأتي الكلام على هذا الفصل إن شاء الله تعالى. وعلى أن القراءة متكررة في سائر الصلوات؛ لأن محلها تكرر وهو القيام، وليس كذلك ها هنا؛ لأن محل القراءة لا يتكرر، فلم تتكرر القراءة، ولهذا المعنى سقط التشهد فيها؛ لأن محله غير موجود، وهو الجلوس. واحتج: بأن صلاة الجنازة ركن من أركان الصلاة، وهو القيام ينفرد بنفسه، فلم يتضمن قرآنًا كسجود التلاوة والشكر. والجواب: أن الوصف غير موجود في الأصل والفرع؛ لأن سجود القراءة هو تكبير، وسلام، وسجود، وكل واحد ركن، وصلاة الجنازة: تكبير، وقراءة، وقيام، وكل واحد ركن، وعلى أن سجود التلاوة المعنى الذي فيه ما ذكر، والله تعالى أعلم. * * * 86 - مَسْألَة: القيام شرط في صلاة الجنازة: نص عليه في رواية ابن القاسم وقد سئل يصلي على الجنازة راكبًا؟

87 - مسألة: إذا جاء والإمام قد كبر تكبيرة أو تكبيرتين كبر، ولم ينتظر الإمام في أصح الروايتين

فقال: لا، إلا من عذر. وهو قول الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز ترك القيام من غير عذر. دليلنا: أنها صلاة مفروضة، وكان من شرطها القيام مع القدرة عليه، دليله: سائر الصلوات. واحتج المخالف: بأن هذه الصلاة ليست بفرض على الأعيان، فلم يكن القيام فيها شرطًا، كسائر النوافل. والجواب: أنه يجب أن نقول: إذا تعينت وهو أن لا يكون هناك إلا رجل واحد أن يلزمه القيام للتعين، وعلى أن فرائض الأعيان والكفاية سواء في حال الابتداء، وأن الكل مخاطب بها، وإنما يختلفان في الانتهاء، وهو إذا قام به بعض سقط عن الباقين، وخلافنا في إيجاب القيام في ابتداء هذه الصلاة، فسقط هذا، والله أعلم. * * * 87 - مَسْألَة: إذا جاء والإمام قد كبر تكبيرة أو تكبيرتين كبر، ولم ينتظر الإمام في أصح الروايتين: نص عليه في رواية الأثرم وقد سئل عن الرجل يجيء وقد فاته بعض التكبير على الجنازة أيدخل بتكبير أم يقف حتى يكبر؟ فسهل فيهما. وبه قال الشافعي رحمه الله.

وفيه رواية أخرى: ينتظر حتى يكبر الإمام فإذا كبر كبر معه، فإذا سلم قضى ما بقي عليه، نص عليه في رواية بكر بن محمد عن أبيه عنه وقد سئل عن الرجل إذا فاته تكبيرة على الجنازة يكبر أم ينتظر الإمام حتى يكبر معه الثانية؟ فقال: ينتظر حتى يكبر الإمام ولا يكبر كما يدخل. وبهذا قال أبو حنيفة رحمه الله. وعن مالك رحمه الله روايتان: إحداهما: يكبر. والثانية: ينتظر. وجه الرواية الأولة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"، وروي: "فأتموا"، ولا يمكنه أن يصلي إلا بتكبيرة الافتتاح، فوجب أن يكبر في الحال ثم يتبعه في الباقي لظاهر الخبر. فإن قيل: إذا كبر في هذه الحالة فقد اشتغل بقضاء الفائت قبل أن يصلي ما أدرك، وذلك لا يجوز فوجب أن لا يكبر. قيل له: ليس بقضاء لما فات كما ليس بقضاء في سائر الصلوات، ولأنها صلاة أمر المأموم فيها باتباع الإمام فوجب أن يستحب له تكبيرة الافتتاح في الموضع الذي أدركه، قياسًا على سائر الصلوات. واحتج المخالف: بأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة، ولو فاتته ركعة لم يجز أن يقضيها إلا بعد الفراغ، كذلك إذا فاتته تكبيرة مع الإمام يجب أن لا يقضيها إلا بعد الفراغ، والذي يدل على أنها قائمة مقام ركعة أنها تقضى بعد السلام.

والجواب: أنا لا نسلم أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، على أن هذا تبطل به إذا حضر مع الإمام وكبر الإمام ولم يكبر حتى فرغ الإمام من تكبيرة الافتتاح، فإن المأموم يكبر تكبيرة الافتتاح، ولو كان كما قال المخالف لوجب أن لا يكبر؛ لأنه يكون قضاء لما فات قبل فراغ الإمام من الصلاة. فإن قيل: الحضور مع الإمام بمنزلة الدخول في صلاته ومشاركته فيها، ألا ترى أن الإمام إذا أحرم بالجمعة وخلفه العدد المشروط انعقدت جمعته فكان الحاضر معه بمنزلة المشارك؟ ! قيل له: الحاضر مع الإمام إذا فاتته ركعة وهو غافل ساهٍ ثم أحرم لم يكن له أن يشتغل بالركعة الفائتة ولزمه أن يتبع الإمام فيما بقي منها، وما ذكروه من الجمعة فهو الحجة، وذلك أنه حضر ولم يدخل معه حتى صلى ركعة لم تنعقد الجمعة، وكان وجودهم كعدمهم، وإن دخلوا معه قبل ذلك فلأنه زمان يسير فعفي عنه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز، وما ذكروه من أنه يقضي ما فاته إذا سلم الإمام، ففيه روايتان، والظاهر: أنه لا يجب عليه القضاء، وهذا يأتي الكلام فيما بعد. وعلى أنه إذا فاته بعض تكبيرات العيدين مع الإمام كبر معه ما أدركه منها ثم قضى ما فاته على قولهم، ولم يدل هذا على أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة. فإن قيل: إنما يقضي تكبيرات الجنازة بعد فراغ الإمام من الصلاة، وتكبيرات العيد يقضيها في الحال.

88 - مسألة: إذا فاته بعض التكبير مع الإمام وسلم الإمام، استحب قضاها متتابعا، فإن لم يقض لم تبطل صلاته في أصح الروايتين

قيل له: إنما اختلفا في هذا؛ لأن تكبيرات الجنازة إذا فرغ الإمام منها لم يبق عليه غير الخروج من الصلاة فينتظر قضاء ما فاته إلى ما بعد تسليم، وليس كذلك تكبيرات صلاة العيد، فإن على الإمام بعد التكبيرات أفعالًا كثيرة، فيكون قضاها قبل فراغ الإمام من الصلاة، والله أعلم. * * * 88 - مَسْألَة: إذا فاته بعض التكبير مع الإمام وسلم الإمام، استحب قضاها متتابعًا، فإن لم يقض لم تبطل صلاته في أصح الروايتين: نص عليه في رواية أبي طالب وقد سئل: عمن أدرك بعض التكبيرات؟ قال: إن لم يقض لم يبال، العمري عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: لا يقضي، وهو اختيار الخرقي. وفيه رواية أخرى: يقضي، نص عليه في رواية صالح وحرب: في الرجل تفوته بعض التكبير يبادر قبل أن يرفع، قال أبو بكر: قد روي عنه في ذلك روايتان، واختياري: أنه يقضي. و[به] (¬1) قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي رحمهم الله. وجه الأولة: ما روى النجاد بإسناده عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أصلي على الجنازة ويخفى علي ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل.

بعض التكبير؟ قال: "ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك". وأسنده (¬1) النجاد عن عبيد بن عبد الواحد قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شرحبيل قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: حدثنا الحكم بن عبد الله الأيلي عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا ما احتج به أحمد من حديث العمري عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه ما كان يقضي ما فاته من التكبير على الجنازة. وليس المقصود من الصلاة على الجنازة الدعاء، وقد قال: إنه إذا خاف رفع الجنازة قضاه متتابعًا وترك الدعاء، فأولى أن يسقط التكبير الذي ليس بمقصود، ألا ترى أن كل ركعة من الصلاة إذا فاتت فإنها تقضى بالذكر الذي فيها؟ ! فإن قيل: إنما يسقط الدعاء؛ لأن الجنازة ترفع. قيل له: وقد ترفع قبل التكبير، ولأنه كان يجب أن يدعو بعد رفعها كما يصلي على الغائب، ولأنه تكبير يتوالى في حال القيام، فإذا فات لم يجب قضاؤه، دليله: تكبير صلاة العيدين. فإن قيل: تكبيرات العيد غير واجبة، وهذه واجبة. قيل له: الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب، ويسقط في حقه، كذلك التكبير. ¬

_ (¬1) في الأصل: واسناده.

89 - مسألة: يجوز أن يصلي على الجنازة من لم يصل مع الإمام قبل الدفن وبعد الدفن

واحتج المخالف: بأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وقد ثبت أنه لو ترك ركعة، ولم يقضها بطلت صلاته، كذلك ها هنا. والجواب: أنا قد أجبنا عن هذا، ومنعنا أن يكون كل تكبيرة قائمة مقام ركعة. واحتج: بأنه لو جاز أن يسقط في حال الفوات، لجاز تركه في حال الأداء كتكبيرات العيدين، ولما لم يجز تركه في حال الأداء، كذلك إذا فات. والجواب: أنه لو جاز اعتباره بحال الأداء لوجب أن يقضي الدعاء، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يفعله في حال الأداء، وكما يقضي موجبات الركعة في حال الفوات، ولما لم يقل هذا دل على الفرق بينهما، والله أعلم. * * * 89 - مَسْألَة: يجوز أن يصلي على الجنازة من لم يصل مع الإمام قبل الدفن وبعد الدفن: نص على هذا في رواية أبي داود، وحرب فقال: يصلي على الجنازة بعد ما صُلّي عليها قبل أن تدفن. وقال أيضًا في رواية الأثرم، وحرب، وحنبل: ويصلي على القبر. واحتج: بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا قال الشافعي رحمه الله.

وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: لا تعاد الصلاة على الميت إلا أن يكون الولي حاضرًا فيصلي عليه غيره، فيعيدها الولي. دليلنا: ما روى أحمد رحمه الله في مسائل الأثرم قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا عثمان بن حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه، فقيل له: فلانة فعرفها، فقال: ألا آذنتموني بها، قالوا: كنت قائلًا صائمًا فكرهنا أن نؤذنك، قال: فلا تفعلوا لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي عليه له رحمة، قال: ثم أتى القبر فصفنا خلفه فكبر أربعًا. وروى أحمد رحمه الله في المسائل قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد ما دفن. وهذا نص في الصلاة على القبر لمن لم يصل. فإن قيل: فرض الصلاة لم يكن سقط عن الميت في ذلك الوقت إلا بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلالة ما روي عنه أنه قال: "لا يصلي على موتاكم ما دمت بين أظهركم أحد غيري"، وقال: "إن القبور مملوءة ظلمة حتى أصلي عليها". وإذا لم يكن فرض الصلاة سقط بصلاة غيره كانت صلاته على قبر هؤلاء فرضًا.

قيل له: لا نسلم لك هذا أن فرض الصلاة في ذلك الوقت لم يكن سقط بغير صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما ذكروه من قوله عليه السلام: "لا تصلوا على موتاكم ما دمت بين أظهركم"، فهذا لا يدل على أن فرض الصلاة لا يسقط إلا بصلاته، وإنما يدل على أن ذلك فضيلة للميت ورحمة. ولأنه لو كان كما قالوا لكانوا لا يدفنون قبل إقامة فرض الصلاة عليه، ولكان ينكر عليهم دفنهم قبل صلاته عليه. فإن قيل: يجوز أن يكون خفي ذلك عليهم. قيل له: لا يجوز أن يخفى ذلك عليهم مع كثرة الموت، وظهور الفرض في وقتهم، ولأنهم لم يقولوا: ما علمنا ذلك، وإنما قالوا: كرهنا أن نوقظك، فدل على أنهم علموا أنه فضيلة، وليس بواجب. فإن قيل: يجوز أن يكونوا انفردوا بالصلاة لعذر عارض، ألا ترى أنهم قالوا: كرهنا أن نوقظك؟ ! قيل له: هذا النوع من العذر لا يسقط الفرض، ألا ترى أنهم كانوا يوقظونه لصلاة الفرض؟ ! ولما تأخر خروجه لصلاة الصبح قالوا: الصلاة خير من النوم، وكذلك لما تأخر في شدة الحر. والقياس هو: أن كل من جاز أن يصلي على الميت إذا لم يكن قد صلي عليه، جاز أن يصلي عليه، وإن كان قد صلي عليه كالولي والوالي. فإن قيل: الولي له حق التقدم، فليس لغيره أن يبطل حقه إلا أن يسقطه الولي، وإذا لم يسقط حقه وصلى عليه جاز وانتقضت الصلاة

الأولى كما لو صلى الظهر في بيته وحضر لصلاة الجمعة انتقض ظهره، وهذا معدوم في غير الولي فيجب أن لا يعتد. قيل له: حق التقديم الذي للولي يسقط بسقوط فرض الصلاة، وقد سقط فرض الصلاة بفعل الجماعة بالإجماع؛ لأن الولي لم يصل عليه كان فرض الصلاة على الميت ساقطًا وصلاتهم محتسبًا بها، فإذا سقط فرض الصلاة سقط حكم التقديم الذي هو حكم من أحكامها. واحتج المخالف: بأن الصلاة على الميت فرض على الكفاية، والفرض يسقط بالأولى، والثانية تطوع، ولا يجوز أن يتطوع بالصلاة على الميت، ألا ترى أنه إذا صلى عليه وليه ثَم لم يكن له أن يتطوع بها ثانيًا؟ ! وكذلك من صلى مع الولي مرة لا يتطوع بها ثانيًا، كذلك هذا، وقد نص أحمد رحمه الله على هذا، وأن من صلى مرة لا يصلي ثانية في رواية أبي حامد أحمد بن نصر وقد سئل: أيصلي الرجل على الجنازة ثم يصلي عليها مرة أخرى؟ فقال: إذا صلى مرة تكفيه، ولكن من لم يصل على الجنازة، فإذا وضعت فإن شاء صلى على القبر. والجواب: أن سقوط المفروض في حقه لا يمنع صحة الصلاة على الجنازة، بدليل: أن النساء ليس عليهن فرض الصلاة، ومع هذا فإنه تصح صلاتهن، وعلى أنه ليس إذا لم يجز تكرارها من واحد لم يجز من اثنين، بدليل: أن الولي لو صلى عليها مرة كره أن يصلي ثانيًا، ولو صلى

عليه غيره، جاز له أن يصلي عليها، وكذلك من سلم على جماعة فرد بعضهم سقط الفرض عن الجماعة، ولو رد الباقون بعد الأول كان الرد صحيحًا، ولو رد الأول مرة ثانية لم يعتد بالثاني، كذلك مثله في مسألتنا. واحتج: بأنه لما لم يجز لمن أداها مرة أن يتطوع بها، لم يجز لمن لم يؤد كالغسل، والتكفين، والدفن، ولأنه فرض يتعلق بالميت، فإذا أدى [الفرض] (¬1) على سنته لم يتطوع به بعد ذلك، قياسًا على ما ذكر، فإنه لا يلزم عليه إمرار الماء عليه في المرة الثانية، والثالثة، وكذلك الزيادة على الثوب الواحد في الكفن؛ لأن الزيادة من سنة هذا الفرض، وقد قلنا: فإذا أدى الفرض على سنته لم يتطوع به بعد ذلك. والجواب: أنه ليس إذا لم يجز تكرار الغسل، والتكفين، والدفن لم يجز تكرار الصلاة، الدليل عليه: أن الولي لا يكرر ذلك مرة ثانية إذا كان قد فعله غيره، وتكرر ذلك في الصلاة عليه؛ لأن في إعادة الغسل والتكفين تأخير دفنه وحبسه إلى أن يتغير، فلهذا لم يجز إلا مرة، وليس كذلك الصلاة؛ لأنها دعاء وشفاعة فلم يكن في تكريرها وإعادتها ضرر على الميت. واحتج: بأنه لو جاز أن يتطوع بها لجاز أن يصلي على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا أنه لا يجوز فثبت ما قلنا. والجواب: أنه إنما لم تجز الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم؛ لأنه ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والمثبت يتضح مما بعده.

فصل

قال: "لا تجعلوا قبري مسجدًا"، وقال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". فإن قيل: هذا ينصرف إلى الصلاة التي فيها الركوع والسجود، فأما الصلاة على الميت فليس فيها سجود، فكيف يصير الموضع بها مسجدًا؟ واشتقاق المسجد من السجود. قيل له: الناس يطلقون على الموضع الذي بني للصلاة على الموتى الجنائز، فإذا كان كذلك سقط هذا. وجواب آخر: وهو أن الصلاة على القبر إنما تجوز إلى شهر، وما زاد على ذلك لا يجوز، وهذا معدوم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتج: بأنها صلاة مفروضة، فوجب أن لا يتطوع بها كسائر الصلوات المفروضات. والجواب: أن هذا غير مسلم في الأصل؛ لأن المفروضات يتطوع بها، وهو إذا صلى الفرض منفردًا ثم حضرت الجماعة، فإنه يستحب إعادتها، وتكون الثانية نافلة، فيجب أيضًا أن تقولوا في صلاة الجنازة كذلك. * فصل: ولا يصلى على القبر بعد شهر، نص عليه في رواية حرب، والأثرم، وحنبل. واختلف أصحاب الشافعي رحمهم الله منهم من قال: مثل هذا.

ومنهم من قال: يصلي عليه الولي صلى عليه إلى ثلاث (¬1). دليلنا على جواز الصلاة بعد ثلاث: ما روى أحمد رحمه الله في مسائل الأثرم قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن أم سعد بن عبادة ماتت، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - غائب فأتى سعد بن عبادة فأخبره فصلى على قبرها، وقد (¬2) أتى لذلك شهرًا، وهذا نص. ولأن ما زاد على الثلاث مدة لم تزد على الشهر، فجاز الصلاة فيها على القبر، دليله: الثلاث فما دون. والدلالة على أنه لا تجوز الصلاة بعد شهر هو: أن القياس يمنع الصلاة على الميت في الجملة؛ لأنه لو كان مشروعًا بعد الموت، لكان مشروعًا في حقه حال الحياة، كالدعاء له، والصدقة عنه، ولما لم يكن ذلك مشروعًا حال الحياة، كذلك بعد الموت، وإنما أثبتنا ذلك بالسنة، وأكثر ما روي في ذلك حديث أم سعد - رضي الله عنهما - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عليها وقد أتى شهر، وبقي ما زاد على موجب المنع. فإن قيل: فالخبر حجة عليكم؛ لأنه روي أنه صلى على أم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي "رؤوس المسائل" للعكبري (1/ 398): (لا يصلى على القبر بعد شهر. خلافًا للشافعي في قوله: يصلى عليه ما لم يعلم أنه قد بلي. خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إذا دفن قبل أن يصلي عليه الولي صلى عليه إلى ثلاث). (¬2) في الأصل: وقال، والصواب المثبت.

سعد بعد شهر. قيل: أجاب عن هذا أبو بكر فيما سأله أبو إسحاق: قول الراوي: "بعد شهر"، يريد به شهرًا كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}، يريد: الحين. ولأنه لو جاز الصلاة عليه ما لم يعلم أنه قد بلي، لجاز وإن علم أنه قد بلي، كالدعاء له، والاستغفار، ولما لم يجز ذلك وجب أن يكون المرجع في ذلك إلى تقدير الشرع. ولأنها مدة تزيد على الشهر، فلم يجز أن يصلي فيها على القبر، أصله: إذا بليت أرماسه. ولأنها صلاة وجبت بالشرع، فكان لها وقت معلوم تفوت به كالفرائض، ولأنه لو جاز الصلاة عليه أكثر من شهر، لكان لا أقل من أن ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله ولو مرة، ليبين الجواز. واحتج المخالف: بما روي أن البراء بن معرور - رضي الله عنه - مات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب، فلما قدم بعد سنة صلى عليه (¬1). والجواب: أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراء بن معرور بعد ما قدم المدينة خلف قبره فقال: "اللهم صل على البراء بن معرور، ولا تحجبه عنك يوم القيامة، وأدخله الجنة وقد فعلت"، وظاهر هذا أنه يقتضي أن يرد على ذلك إذ لو كان لنقل، كما نقل صلاته على ¬

_ (¬1) في الأصل: صلى الله عليه.

90 - مسألة: إذا كان رجل ولم يحضره إلا النساء صلين جماعة، ويقوم الإمام وسط الصف

النجاشي وصف أصحابه وكبر أربعًا، وإذا كان هذا جملته فهذا دعاء، وليس بصلاة. واحتج: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين. والجواب: أن ذلك من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمودع للأحياء، والمترحم على الأموات، يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على قتلى أحد، ومعلوم أنه لا يصح تكرارها من شخص واحد. واحتج: بأن القصد من الصلاة الدعاء له، فمتى لم يعلم أنه قد بلي، فالمعنى مقصود موجود، فيجب أن يصلي عليه. والجواب: أنا قد بينا أن طريق هذا التوقيف دون القياس، على أنه يجب أن يصلي عليه وإن علم [أنه] قد بلي، ويكون معنى الصلاة عليه الدعاء له، كما يصلى على الغائب. والدعاء له بعد أن بلي يجوز فكان يجب أن تجوز الصلاة عليه، وقد قلت: إنه لا يجوز، فبطل هذا، والله أعلم. * * * 90 - مَسْألَة: إذا كان رجل ولم يحضره إلا النساء صلين جماعة، ويقوم الإمام وسط الصف: نص على هذا في رواية أبي طالب وقد سئل: كيف يصلي النساء على الرجال؟ قال: كما تصلون تقوم وسطهن.

وبهذا قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال: لا تؤمهن واحدة منهن بل يصلين منفردات. دليلنا: اتفاقهم على أنه لا يجوز ترك الصلاة في هذه الحال، والنساء من أهل الجماعة، فيجب أن يصلين جماعة كالرجال. وإن شئت قلت: من شرعت في حقهم صلاة الفرض (¬1) شرعت في حقهم صلاة الجنازة كالرجال. ولأنها صلاة مفروضة فشرعت الجماعة فيها في حق النساء، دليله: الصلوات المفروضات، وقد وافقنا مالك على أنه تستحب الجماعة فيها في حق النساء، كذلك في الصلاة على الجنازة. واحتج المخالف: بأن الناس صلوا على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرادى، ولم يؤمهم أحد، فإذا ثبت هذا، فإنهن يصلين فرادى. والجواب: أن هذا مطَّرح بالإجماع؛ لأن الجماعة مشروعة في صلاة الجنازة في حق الرجال بلا خلاف، فلا معنى للاحتجاج بهذا الخبر. واحتج: بأنه لا يستحب لهن فعل الفرائض في جماعة منفردات، كذلك صلاة الجنازة. والجواب: أنا لا نسلم هذا، وهذا شيء سنه (¬2) المخالف على ¬

_ (¬1) في الأصل: الصلاة الفرض. (¬2) لوح 285 غير مقروءة.

91 - مسألة: لا يصلي الإمام على الغال من الغنيمة، ولا على من قتل نفسه، ويصلي عليه بقية الناس

الصلة (¬1)، والله أعلم. * * * 91 - مَسْألَة: لا يصلي الإمام على الغالِّ من الغنيمة، ولا على من قتل نفسه، ويصلي عليه بقية الناس: نص عليه في رواية المروذي فيمن قتل نفسه، أما الإمام فلا يصلي عليه، وأما الناس فيصلون عليه، هكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذي قتل نفسه. وكذلك نقل الفضل بن زياد وقد سئل عمن قتل نفسه؟ فقال: يصلي عليه الناس، ولا يصلي عليه الإمام، قال الفضل: وبلغه عنه، ولم أسمعه منه إن كان يقول في الذي يغل كذلك. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي رحمهم الله: يصلي عليه الإمام. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قتل نفسه فلم يصل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلوا على صاحبكم"، فتغير وجوه القوم، فلما رأى الذي بهم قال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله"، وفتشوا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: الصلاة.

متاعه فوجدنا خرزًا من خرز اليهود، والله ما يساوي درهمين. ولأن في امتناع الإمام من الصلاة عليهم ضربًا من الردع والزجر؛ لأن صلاة الإمام وأهل الفضل شرف للميت، ورغبة في دعائه له. فإن قيل: فيجب أن يصير هذا المعنى في سائر المعاصي. قيل له: لا يلزم هذا كما لا يلزم مثله في الشهيد في غير المعترك في أنه يصلى عليه، ويغسل، وشهيد المعترك لا يغسل ولا يصلى [عليه] (¬1)، وكلاهما شهادة، وكذلك بعض المعاصي يستحق بها الحد، ولا يستحق ببقيتها، كذلك ها هنا، على أن أبا بكر المروذي قال: سألت أبا عبد الله عمن شرب الخمر يصلى عليه؟ قال: نعم وأراه قال: إن الإمام لا يصلي، يصلي عليه العامة، نقلتها من خط أبي حفص البرمكي من كتاب الإيمان. ولأن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا يصلى على البغاة إذا قتلوا. وقال مالك رحمه الله: لا يصلي الإمام على من قتل في حد للمعنى الذي ذكرنا. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله"، وهذا عام في الإمام وغيره. والجواب: أنه محمول على غير الإمام. واحتج: بأنه من أهل الإسلام، فصلى عليه الإمام إذا مات في غير المعترك، دليله: من لم يقتل نفسه. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وبها يستقيم الكلام.

والجواب: أنه لم يحصل من ذلك ما يقتضي ردعه وزجره، فلا معنى لامتناع الصلاة عليه، وليس كذلك ها هنا؛ لأنه حصل منه ما يقتضي ردعه وزجره، فامتناع ردعًا وزجرًا (¬1). واحتج: بأنه جاز لغير الإمام أن يصلي عليه، فجاز للإمام أن يصلي عليه، دليله: ما ذكرنا. والجواب: أنه ليس في امتناع [غير] (¬2) الإمام ردع وزجر، وليس كذلك في امتناع الإمام؛ لأن فيه ردعًا وزجرًا، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج بأن قال: ليس يمكن أحدًا أن يمحص الطاعات، ويخلص من الخطيات، فيجب أن لا يمتنع من الصلاة عليه. والجواب: أنه ليس الغالب من أحوال الناس أن يقتل نفسه، ولا يغل من الغنيمة، وإذا كان كذلك لم يرد امتناع الإمام من ذلك إلى امتناعه من الصلاة على المسلمين. واحتج: بأن الصلاة على الميت دعاء ورحمة، وأحوج أهل الملة إلى الدعاء والاستغفار هذا الميت. والجواب: أنا لسنا نمتنع من الدعاء له، والاستغفار من جماعة المسلمين، وإنما منعنا من ذلك الإمام ردعًا وزجرًا. واحتج: بأن قتله نفسه، والغلول من الغنيمة أكثر ما فيه أنه ارتكاب ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) ليست في الأصل، وبالمثبت يتم الكلام.

92 - مسألة: من قتله الإمام في حد صلى عليه الإمام

معصية أو كبيرة، وهذا لا يمنع الإمام من الصلاة عليه كالزاني المحصن، والقاتل لغيره، والسارق من غير الغنيمة، ونحو ذلك. والجواب عنه: ما تقدم وهو أنه لا يمتنع أن يختص المنع ببعض المعاصي ولا يختص ببعضها، كما أن منع الغسل والصلاة يختص بنوع من الشهادات ولا يختص بنفسها، وكذلك بعض المعاصي يختص بإيجاب الحد، ولا يجب في جميعها، والله أعلم. * * * 92 - مَسْألَة: من قتله الإمام في حد صلى عليه الإمام: هذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور وقد سئل عن الصلاة على الزاني والزانية؟ فقال: يصلى عليهما، وعلى ولد الزنا. وكذا قال في رواية صالح في الذي يقاد منه في حد: يصلى عليه. فقد أطلق القول بالصلاة عليه ولم يخص أحدًا بذلك. وهو قول الشافعي رحمه الله. وقال مالك رحمه الله: من قتله الإمام في حد لم يصل عليه الإمام خاصة. دليلنا: ما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله"، وهذا عام في الإمام وغيره.

وأيضًا روى أبو بكر النجاد في سننه قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن بشير بن مهاجر عن ابن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم الغامدية ثم صلى عليها. وروى النجاد أيضًا قال: حدثنا محمد بن غالب قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين فصلى على أحدهما، ولم يصل على الآخر. وروى أيضًا بإسناده عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال: أتت امرأة فقالت: يا رسول الله إني زنيت، قالت ذلك مرارًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكم أولى بهذه؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، فانطلق بها فلتكن عندك، فإذا وضعت فأت بها، قال: فأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما وضعت، فرجمت، ثم قال لأصحابه: "قوموا نصلي عليها"، فقال عمر - رضي الله عنه -: الزانية الزانية، فقال: "لقد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لقبل منهم"، وهذه الأخبار نصوص. ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -: وروى النجاد بإسناده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن امرأة من جهينة اعترفت بالزنا فرجمها ثم صلى عليها. وروى بإسناده عن أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: أنه رجم امرأة اعترفت بالزنا وصلى عليها.

وهذا إجماع الصحابة؛ لأنه لم يظهر منهم نكير. ولأنه مسلم قتل بحق فلم يمنع ذلك من صلاة الإمام عليه، دليله: إذا قتل قصاصًا. واحتج المخالف: بما روى أبو برزة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه. والجواب: أنا قد روينا أنه قد صلى على المرجوم، وعلى الزانيين، ويجوز أن يكون ترك الصلاة على بعضهم، ليبين جواز الترك. واحتج: بأن في امتناع الإمام من الصلاة عليه ردعًا وزجرًا، فيجب أن يمتنع منه، كما قلتم: في قاتل نفسه، وفي الغال. والجواب عنه: أن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: من جهة الظاهر. والآخر: من جهة المعنى. أما من جهة الظاهر: فما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل على قاتل نفسه، وعلى الغال. وروي أنه صلى على المرجومة والمرجوم فافترقا من جهة الظاهر. وأما من جهة المعنى: فهو أن المقتول في الحد قد خفف عنه، وقد عوقب بالحد، وأما قاتل نفسه، والغال فلم يحدا، فجاز أن يعاقبا بامتناع صلاة الإمام عليهما، والله أعلم. * * *

93 - مسألة: لا يستر قبر الرجل بثوب

93 - مَسْألَة: لا يستر قبر الرجل بثوب: نص عليه في رواية الأثرم وقد سئل عن قبر المرأة: يغطى بثوب؟ قال: نعم، وقيل له: وقبر الرجل؟ قال: لا. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي رحمه الله يغطى قبر الرجل والمرأة جميعًا. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عمير بن سعد: أن عليًا - رضي الله عنه - صلى على زيد بن مكفف، فستروا على قبره ثوبًا فاجتذبه. وروى أيضًا بإسناده عن علي بن الحكم عن رجل من أهل الكوفة قال: أتانا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونحن ندفن ميتًا قد بسطنا الثوب على قبره، فجذب الثوب على القبر، وقال: إنما يصنع هذا بالنساء. وروى بإسناده عن سعيد عن أبي إسحاق قال: أوصى الحارث الأعور أن يصلي عليه عبد الله بن زيد، فصلى عليه وبسطوا ثوبًا فكشطه، وقال: إنما يفعل هذا بالنساء. وروى أيضًا عن جعفر بن محمد قال: يغطى قبر المرأة، ولا يغطى قبر الرجل. ولأنه لو كان من السنة أن يغطى قبره، لكان من السنة أن تغطى جنازته كالمرأة، ولما لم يسن تغطية جنازته، كذلك قبره. واحتج المخالف: بما روى النجاد بإسناده عن إبراهيم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

94 - مسألة: يسل الميت من قبل رأسه عند رجلي القبر

مُدَّ على قبره ثوب. وروى إبراهيم قال: قال سعد بن مالك - رضي الله عنه -: لما دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ - رضي الله عنه - كان ممسكًا بناحية الثوب، وفي لفظ آخر: دخل قبر سعد فمدَّ عليه ثوبًا. والجواب: أن هذا الخبر مرسل، والمرسل ليس بحجة عند الشافعي. وعلى أنه محمول على أنه فعل ذلك خصوصًا له ليحجز بينه وبين الناس؛ لأنهم كثروا عليه، فحال بينهم وبينه، ولهذا روي أنه ألحده بنفسه. واحتج: بأنه لما كان مسنونًا في حق المرأة يجب أن يكون مسنونًا في حق الرجل، كسائر المسنونات مثل: الدفن، والصلاة. والجواب: أنه يبطل بستر الجنازة، فإنه مسنون في حقها غير مسنون في حق الرجل، وكذلك الزيادة في حق الأكفان على الثلاث مسنون في حقها غير مسنون في حقه مع أن المرأة جميعها عورة، والرجل ليس جميعه عورة، والله أعلم. * * * 94 - مَسْألَة: يسل الميت من قبل رأسه عند رجلي القبر: نص على هذا في رواية حنبل وقد سئل: عن إدخال الميت؟ فقال: السل أهون على الناس، وهو أحب إليَّ.

وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: ويدخل قبره من عند رجليه إن كان أسهل عليهم، يعني بذلك من عند رجلي القبر. وهو قول الشافعي رحمه الله. وروى صالح، وابن منصور عنه: من أين يدخل الميت القبر؟ فقال: من حيث يكون أسهل عليهم. وظاهر هذا ألا يتخير في ذلك جهة، وإنما الاعتبار بالأسهل في أي الجهات كان. وقال أبو بكر حماد المقري (¬1) قلت: يا أبا عبد الله من أين الميت يدخل قبره مما يلي رجليه أو مما يلي القبلة؟ قال: كلاهما سواء. وظاهر هذا يقتضي أن مع تساويهما في السهولة، هما سواء في الفضيلة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يدخل القبر معترضًا من قبل القبلة لا يسل، قال الرازي: هذا إذا لم يخش أن ينهار القبر. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ، ورش على قبره الماء. وروى عبد الله قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد الأنصاري: أن الحارث وصى أن يليه عند موته، فصلى عليه ثم دخل القبر فأدخله من رجلي ¬

_ (¬1) في الأصل: أبو بكر الحماد المقري.

القبر، قال: هذه السنة. وهذا يقتضي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى أبو حفص بن شاهين في كتاب الجنائز بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدخل الميت من قبل رجليه، ويسل سلًا"، وهذا نص. ولأن أبا بكر بن المنذر قال في كتابه: (والذي أحب أن يفعل ما يفعله أهل الحجاز قديمًا وحديثًا يسلون الميت سلًا من قبل رجلي القبر)، وإذا كان هذا عادتهم [وجب] (¬1) المصير إليه؛ لأن عادتهم متداولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. فإن قيل: روي عن إبراهيم النخعي قال: حدثني من رأى أهل المدينة في الزمن الأول يدخلون موتاهم من قبل القبلة، وإن السل شيء أحدثه أهل المدينة. قيل له: لا يجوز أن يتفقوا على غير المتواتر بينهم مع اختلاف هممهم إلا بأمر قاهر من سلطان، ولما لم ينقل هذا دل على أنه لا أصل للتغيير. ولأنه يمد مدًا فهو أسهل من إدخاله من قبل رأسه، ومن إدخاله عرضًا. واحتج المخالف: بما روى أبو سعيد - رضي الله عنه - قال: أُخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) طمس في الأصل، والمثبت يستقيم به اللفظ.

وأبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما - من قبل القبلة. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من قبل القبلة. والجواب: أن أحمد بن أبي عبدة قال: قلت لأحمد: حديث يحيى بن يمان عن المنهال بن خليفة عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من قبل القبلة؟ فلم يصحح الحديث. وقد قيل: إن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على يمين الداخل لاصق بالجدار، والجدار الذي تحته قبلة الميت، وإن لحده تحت الجدار، فكيف يدخل معترضًا، واللحد لاصق بالجدار، ولا يقف عليه شيء، ولا يمكن إلا أن يسل، وهذا يدل على ضعف الحديث. وروى النجاد بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدخل من قبل رجل القبر. روى أبو بكر النجاد بإسناده عن الزهري عن سالم عن أبيه - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُلَّ سلًا. وهذا يدل على اضطراب الخبرين، القصة واحدة، وقد اختلف فيها! فيجب أن يوقف فيها حتى ينظر على أي جهة وقعت. واحتج: بأنه لما احتجنا إلى أن نختار له بعض الجهات دون بعض وجب أن يختار جهة القبلة، كما لو أردنا أن نصلي عليه، فالأحياء تختار لهم من الجهات جهة القبلة في الصلاة، والجلوس. والجواب: أن جهة القبلة إنما تختار في المواضع الذي يحصل

95 - مسألة: يسنم القبر ولا يسطح

التوجه إليها، فأما في هذه المواضع فلا يحصل التوجه إلى القبلة، فلا يكن لاعتبار جهة القبلة معنى، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 95 - مَسْألَة: يسنم القبر ولا يسطح: نص عليه في رواية صالح، وقال: أعجب إلي أن يكون القبر مسنمًا. وكذلك نقل أبو طالب، ونقل الأثرم عنه: أرجو أن لا يدعوا التسنيم. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال الشافعي رحمه الله: يسطح على وجه الأرض نحوًا من شبر. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن عبد الله بن الحسن - رضي الله عنهما - قال: رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنمًا. وروى أيضًا بإسناده عن إبراهيم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنم قبره. وبإسناده أيضًا عن محمد بن علي - رضي الله عنهما - قال: دخلت البيت الذي فيه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت قبره، وقبر أبي بكر، وقبر عمر - رضي الله عنهما - مسنمًا. وبإسناده أيضًا عن الشعبي - رضي الله عنه - قال: رأيت قبور شهداء أحد مسنمة. وبإسناده أيضًا عن محمد ابن الحنفية - رضي الله عنهما - أنه جعل قبر ابن عباس - رضي الله عنهما - مسنمًا. وبإسناده أيضًا عن خالد بن أبي عثمان عن رجل قال: رأيت قبر

ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد ما دفن بأيام مسنمًا. وإذا كان عادتهم هذا وجب المصير إليه؛ لأن عادتهم متداولة. وروى بعضهم عن إبراهيم النخعي قال: أخبرني من رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه - رضي الله عنهما - مسنمة ناشزة عليها فلق من مدر بيض. ولأن التسنيم أبعد من الشبه بأبنية الدنيا، والتسطيح يشبهها، ولا خلاف أنه قد خولف بين القبر وبينها، ولهذا لم يجصص ولم يزوق. فإن قيل: التسنيم يشبه الآزاج (¬1)، والتسطيح يشبه الدكاك، فليس لأحدهما مزية على الآخر. قيل: التسنيم الذي نعتبره لا يشبه الأراح الذي هي أبنية الدنيا. واحتج المخالف: بما روي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر - رضي الله عنهم - قال: رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبر أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما - مسطحًا. والجواب: أنه ليس في هذا الخبر دلالة على التسطيح؛ لأنه يجوز أن يكون مبطوحة البطحاء، وهي مسنمة. واحتج: بما روى علي - رضي الله عنه - قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها. والجواب: أن هذا محمول على القبور التي عليها البناء والجص ونحوه. ¬

_ (¬1) الآزاج: جمع: أزج: وهو بناء مستطيل مقوس السقف، وهو ما يبنى طولًا. ينظر: المعجم الوسيط (الأزج)، ولسان العرب (أزج).

96 - مسألة: يكره الجلوس قبل أن توضع الجنازة لمن تقدم عليها

واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام، وأن مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحة قبورهم. والجواب: أنه يجوز أن يكون قد سطح جوانبها وسنَّم وسطها، وعلى أنا قد روينا خلاف ذلك. واحتج: بأن التسطيح أمن من الانهدام من التسنيم، فيجب أن يكون أولى كما أن التسنيم أولى من جعله على صورة الاسطوانة لهذه العلة. والجواب: أنه يجب أن يكون بناؤه بالجص، والآجر، والساج أولى من اللبن، لهذا المعنى، والله أعلم. * * * 96 - مَسْألَة: يكره الجلوس قبل أن توضع الجنازة لمن تقدم عليها: نص عليها في رواية ابن منصور فقال: من تبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال. وكذلك نقل حنبل عنه فقال: لا يقعد من تبع الجنازة حتى توضع أو تخلفه إلا أن يتقدمها فيقعد حتى تلحقه. وقال في موضع آخر في مسائل حنبل: فمن تبع الجنازة لا يقعد حتى توضع، قيل له: عند القبر أو في اللحد؟ قال: عند القبر أو للصلاة عليها وظاهر هذا أنه لم يعتبر وضعها في اللحد، وبهذا قال أبو حنيفة رحمه الله.

97 - مسألة: ويجوز تطيين القبر

وقال مالك، والشافعي - رضي الله عنهما -: يجوز الجلوس قبل وضعها. دليلنا: ما روى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع". وروى أيضًا بإسناده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبع أحدكم جنازة فلا يجلس حتى توضع". ولأن الجنازة متبوعة، ومن معها تبع لها، والتابع لا يجلس قبل جلوس متبوعه، فالذين مع السلطان لا يجلسون قبله. واحتج المخالف: بما روى ابن بطة عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجلسوا وخالفوهم". والجواب: أنا نحمل قوله: "اجلسوا"، قبل أن يوضع في اللحد، وبعد أن يوضع على شفير القبر، فتكون المخالفة لهم في الامتناع من الجلوس قبل أن توضع في اللحد. ويحتمل أن يكون قوله: "خالفوهم واجلسوا"، ليبين أن ذلك مباح، وليس بمحرم، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 97 - مَسْألَة: ويجوز تطيين القبر:

نص عليه في رواية أبي داود، والأثرم وقد سئل عن تطيين القبور؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تطين القبور. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد قال: قُرئ على عبد الملك بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قبره من الأرض شبرًا، وطين بطين أحمر من العرض، وجعل عليه من الحصا. وروى أبو بكر بإسناده عن جابر بن زيد - رضي الله عنه -: أنه كان لا يرى بتطيين القبور بأسًا. ولأنه لو لم يفعل ذلك لهبت الريح بالتراب، ولعفى القبر ودرس، ولهذا أجازوا رش الماء عليه لهذه العلة، وقال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: لا بأس برش الماء على القبر، قد رُشَّ على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بتسوية القبور فروى أبو علي الهمداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها. وروى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يأتي قبره أبيه فيأمر بما وهى منه فيصلح. واحتج المخالف: بما روى النجاد قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا عيسى بن يونس عن الأحوص بن حكيم

98 - مسألة: إذا دفن الميت من غير غسل نبش سواء أهيل عليه التراب أو لم يهل

عن أبيه أو راشد بن سعد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يكتب على قبور المسلمين أو تطين أو تجصص. والجواب: أن هذا محمول على الطين الذي لا حاجة إلى القبر فيه، وهو الطين الذي فيه تحسين للقبور، وزينة له، فيجري مجرى التجصيص. واحتج: بأنه لما لم يجز تجصيصها، لم يجز تطيينها. والجواب: أن التجصيص لا حاجة به إليه، وفيه شبه بأبنية الدنيا، وليس كذلك الطين؛ لأنها تحتاج إليه من الوجه الذي ذكرنا، وليس فيه زينة، فهو كرش الماء، وكالسنام في القبر، والله أعلم. * * * 98 - مَسْألَة: إذا دفن الميت من غير غسل نبش سواء أُهيل عليه التراب أو لم يهل: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود وقد سئل عن ميت دفن ونسوا الصلاة عليه وذكروا من ساعتهم؟ نبش وصلي عليه، وإذا تأخر صلي على القبر؛ لأنه ربما تفسخ. فإذا جاز نبشه للصلاة عليه مع إمكان الفعل بعد الدفن، فأولى أن يجوز للغسل مع عدمه. وهو قول الشافعي رحمه الله.

99 - مسألة: يكره المشي في المقبرة بنعلين

وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إن أهيل عليه التراب لم ينبش، ولم يغسل، وإن لم يهل عليه التراب نبش، وهكذا قالوا إذا دفن ووضع إلى غير القبلة فإن لم يهل عليه التراب وجه به إلى القبلة وإن أهيل عليه ترك. دليلنا: أنه فرض مقدور عليه، فوجب فعله كما لم يهل عليه التراب. واحتج المخالف: بأن النبش محرم لحق الله تعالى؛ لأنه مثلة، فيجب أن يمنع منه. والجواب: أن المثلة إنما تحصل إذا تطاول الزمان، وخيف عليه الحدثان، وقد سئل أحمد رحمه الله في رواية جعفر بن محمد في الرجل يدفن فيسقط في القبر الشيء مثل الفأس والدراهم هل ينبش؟ فقال: إن كان له قيمة، قيل له: فإن كان أعطاه أولياء الميت؟ فقال: إذا أعطوه حقه إيش يريد. فقد أجاز نبشه لحق الغير. * * * 99 - مَسْألَة: يكره المشي في المقبرة بنعلين: نص عليه في رواية حنبل، فقال: هذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا صاحب السبتيتين ألقهما".

وكذلك نقل الأثرم فقال: أما أنا أخلع نعلي على حديث بشير. وقال أكثرهم: لا يكره ذلك. دليلنا: ما روى أبو [بكر] (¬1) النجاد بإسناده عن بشير بن الخصاصية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يمشي بين القبور في نعلين، فقال: "يا صاحب السبتيتين ألقهما". وروى أبو بكر بن جعفر عن بشير بن الخصاصية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يمشي بين القبور بنعلين، فقال: "يا صاحب النعلين ألقهما". ولا يصح حمله على أنه كان فيهما نجاسة؛ لأنه روى حكمًا وهو: المنع، وسببًا وهو: المقبرة، فدل على تعلقه به. ولأن حمله على ذلك يسقط فائدة الخبر؛ لأن ذلك منهي عنه بغير هذا الخبر. ولأنه لباس نهى الشرع عنه مطلقًا، فمنع منه كالخفين في حق المحرم، والمخيط. ولأنه منتعل دخل المقابر، فكان منتهيًا عنه، دليله: الذي نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا"، هذا يدل على جواز الدخول بالنعل. والجواب: أن أحمد رحمه الله أجاب عن هذا في رواية أبي النصر ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل.

إسماعيل بن عبد الله العجلي: أن هذا على طريق المثل، قال أبو بكر: يعني بذلك أنه على المثل من شرعه ما ترجع إليه الروح، ومعناه أن القصد به أنه يسمع ويحس بهم في الحال انصرافهم، ولم يقصد به نفس النعل. واحتج: بأنه لما جاز دخولهما بالخف والشمشك، جاز بالنعلين، ولا فرق بينهما. وقد روى الفضل بن زياد قال: رأيت أحمد يمشي بين القبور في خفيه في يوم طين. وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال: رأيت أبا عبد الله يدخل بالمقابر في خفيه. وكذلك نقل عبد الله عن أبيه أنه إذا أراد أن يخرج بجنازة لبس خفيه، وكان يأمر بخلع النعال. والجواب: أن في خلع الخف مشقة؛ لأنه قد يكون مسح عليهما، فيؤدي إلى نقض الطهارة، ولهذا قالوا: لا يسجد على كور العمامة، ويسجد وفي رجليه خفيه لهذه العلة. ولا يلزم على هذا أن نمنع من الدخول بشمشك؛ لأنه أمن فيه هذا، وما رأيت عن أصحابنا رواية فيه، ولأنه لا يمنع أن يختص المنع بلباس دون لباس، كالمحرم منع من الخفين، دون النعلين، والله تعالى أعلم. * * *

100 - مسألة: يكره الجلوس على القبر والاتكاء عليه وتوطيه

100 - مَسْألَة: يكره الجلوس على القبر والاتكاء عليه وتوطيه (¬1): نص على هذا في رواية حنبل فقال: لا يقعد على القبور، ولا يتحدث عندها، ولا يتغوط بين القبور، كل ذلك مكروه. وكذلك نقل أبو طالب، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه -. وقال مالك رحمه الله: لا يكره ذلك إلا أن يفعله ليبول. دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينهى أن يقعد على القبر ويبنى عليه. وروى أيضًا بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يجلس أحدكم على جمرة حتى تحرق ثوبه خير له من أن يجلس على قبر". وروى بإسناده عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". وروى باسناده عن عمرو بن حزم - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقعدوا على القبور"، وفي لفظ آخر عنه قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا على قبر، فقال: "انزل عن القبر لا تؤذي صاحبه ولا يؤذيك". فإن قيل: النهي محمول على الجلوس لأجل التغوط، بدليل: ¬

_ (¬1) في الأصل: ولو طيَّنه، والتصويب من "رؤوس المسائل" للعكبري (1/ 404)، وقد يكون التصحيف من لفظة: (وتغوطه) كما في الرواية.

ما روى النجاد بإسناده عن عون بن عبد الله (¬1) قال: لقيت واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - فقلت: ما أهبطني إلى الشام غيرك حدثني مما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم ارحمنا واغفر لنا"، ونهانا أن نصلي إلى (¬2) القبور أو نجلس عليها، فسألته عن الجلوس فقال (¬3): قيل: النهي عام، وحمله على التغوط تخصيص بغير دليل. ولأن في الجلوس عليه استخفافًا بصاحب القبر، واستهانة به، وهو لا يجوز. فإن قيل: روى النجاد بإسناده عن نافع قال: رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - ما لا أحصي يقعد على قبر. قيل له: يعارض هذا ما رواه النجاد بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال: لأن أطأ على رضف أو على جمرة أحما إلي من أن أطأ على قبر. وروى بإسناده عن سالم البزاز عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثل ذلك. وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لأن أجلس على جمرة تحرق ثيابي أحب إلي من أن أجلس على قبر. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: عن ابن عون عن عبد الله، والتصويب من "المعجم الكبير" رقم (194). (¬2) في الأصل: على، والتصويب من "المعجم الكبير". (¬3) سواد في الأصل.

101 - مسألة: وقت التعزية بعد الموت، وقبل الدفن وبعده

101 - مَسْألَة: وقت التعزية بعد الموت، وقبل الدفن وبعده: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: أكره التعزية عند القبر إلا لمن لم يعز فيعزي إذا دفن أو قبل أن يدفن. فقد نص على وقت التعزية قبل الدفن أو بعده، وهو قول الشافعي رحمه الله. وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله قال: وقت التعزية قبل الدفن، فأما بعده فلا. دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن الأسود عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عزى مصابًا كان له مثل أجره". وروى بإسناده عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عزى مصابًا بمصيبته كساه الله حلل الكرامة يوم القيامة، ومن عاد مريضًا خاض في الرحمة حتى يدخل بيته". وهذا عام قبل الدفن وبعده. ولأن ما بعد الدفن أولى بالتعزية؛ لأن ما دام بين ظهراني أهله لم يحصل اليأس التام، وإنما يحصل ذلك بعد الدفن. * * *

102 - مسألة: إذا ماتت امرأة حامل، وعسر خروج الولد، فإنه لا تشق بطنها

102 - مَسْألَة: إذا ماتت امرأة حامل، وعسر خروج الولد، فإنه لا تشق بطنها: نص عليه في رواية عبد الله فقال: لا يشق بطنها إن شاء الله يخرجه أخرجه ينتظر بها ما دام حيًا. وكذلك نقل أبو داود عنه فقال: لا يشق، كسر عظم الميت ككسره حيًا. وقد روى الأثرم عنه أنه سئل: عن المرأة تموت وفي بطنها ولد حي أيشق بطنها؟ فقال: قد قيل: كسر عظم الميت ككسره حيًا، ثم قال: ما أدري. فقد توقف عنه في رواية الأثرم، وصرح به في رواية عبد الله، وأبي داود. وقال الشافعي رحمه الله: يشق بطنها؛ ليخرج الولد. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كسر عظم الميت ككسره حيًا"، وهذا يمنع من شق بطنها كما يمنع من ذلك حالة الحياة؛ لأنه شبه كسر العظم بعد الموت بكسره حال الحياة. وأيضًا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة بعد الموت وقال: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحدوا الشفرة".

ولأنه بالشق لا يتوصل إلى المقصود، وهو حياة الجنين؛ لأنه يموت بموت أمه، والحركة الموجودة فهي لخروج الروح. وقد روى أبو بكر بإسناده عن إسحاق بن راهويه قال: سمعت النضر بن إسماعيل يقول وهو يعجب ممن أقر بهذا قال: سمعت الرعاء تقول: ما في الدنيا مولود في البطن إلا ويخرج روحه بروح أمه. فإن قيل: فإذا كان الأمر على ما ذكرت فلا معنى لأن تسطو القوابل عليه فيخرجوه، وقد قال أحمد في رواية صالح: إن لم يقدر عليه النساء فليسطو عليه رجل فيخرجه. قال في رواية عبد الله: إن لم يقدر عليه النساء يسطو عليه الرجل. فقد اتفقت الرواية عنه في النساء تسطو عليه ليخرجوه من جوفها. واختلفت الرواية في الرجل هل يجوز له أن يفعل ذلك بها عند تعذر النساء أم لا؟ فلو أنه يرجى حياته لم يكن لذلك معنى. قيل له: إنما يقال هذا إذا كان هناك أمارات الظهور بانفتاح المخارج، وإرجاف الولد، وقوة الحركة، فأما إن لم يوجد ذلك، فلا يفعلوا شيء من ذلك. واحتج المخالف: بأنه قد تقابل حرمتان: حرمة الحي، وهو الولد، وحرمة الميت، فيجب مراعاتها. والجواب: أن هذا صحيح لو تحققنا بقاء الحركة، وقد بينا أن الجنين يموت بموت أمه، فليس ها هنا حرمة متحققة.

103 - مسألة: إذا لم يحضر أقارب المرأة، فإنه يدخلها الثقات من النساء على ما نقله الخرقي خلافا لأصحاب الشافعي رحمه الله في قولهم: لا مدخل للنساء في الدفن بحال

فإن قيل: فما تقولون فيه لو بلعت جوهرة وماتت، هل يشق بطنها؟ قيل: لا نعرف الرواية عن أحمد في ذلك، وظاهر كلامه في رواية أبي داود: لا يشق بطنها؛ لأنه قال: كسر عظم الميت ككسره حيًا. وهذا يمنع من شق جوفها حال الحياة. وعلى أنه لا يشبه الجنين؛ لأن المقصود يتحقق (¬1) وجوده بالشق، وهو خروج الجوهرة، ولا يتحقق المقصود في الجنين؛ لما ذكرنا من أنه يموت بموت أمه، فلهذا فرقنا بينهما، والله تعالى أعلم. * * * 103 - مَسْألَة: إذا لم يحضر أقارب المرأة، فإنه يدخلها الثقات من النساء على ما نقله الخرقي خلافًا لأصحاب الشافعي رحمه الله في قولهم: لا مدخل للنساء في الدفن بحال: دليلنا: أن من جاز له غسلها كان له مدخل في إدخالها قبرها كالزوج. ولأن ما جاز أن يليه الزوج جاز أن يليه النساء كالغسل. ولأن الفتنة تؤمن من جهتين، ولهذا قدموا الخصيان من الرجال؛ لأنه لا شهوة لهم. ¬

_ (¬1) في الأصل: يتحقيق.

104 - مسألة: العدد الذي يدخله القبر غير منحصر

واحتج المخالف: بأن هذا من الأمور التي يحتاج إلى بطش وقوة، فكانت الرجال أولى. والجواب: أن الغسل بهذه المثابة ومع هذا للنساء فيه مدخل. واحتج: بأن المرأة عورة كلها إلا الوجه ... (¬1) أن ما يكشفه منها ما هو عورة. والجواب: أن الثوب الذي عليها يسترها (¬2)، والله أعلم. * * * 104 - مَسْألَة: العدد الذي يدخله القبر غير منحصر: قال في رواية ابن منصور: وقد سئل كم يدخل القبر؟ قال: ما شاؤوا. وقال في رواية أبي داود: إن شاء شفعًا، وإن شاء وترًا خلافًا لأصحاب الشافعي رحمهم الله في قولهم: المستحب أن يكون العدد وترًا. دليلنا: أنه لما لم يستحب أن يكون الحامل والمصلي ثلاثة كذلك الدفن. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله وتر يحب الوتر". ¬

_ (¬1) كلمة لم أهتد لقراءتها. (¬2) كلمة لم أهتد لقراءتها.

105 - مسألة: لا يكره البكاء بعد خروج الروح كما لا يكره قبل خروجها

والجواب: أنه محمول على غير مسألتنا فقد روي في الحديث أوتروا يا أهل القرآن. واحتج: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخله القبر ثلاثة: العباس وعلي واختلف في الثالث فقيل: الفضل بن العباس وقيل: أسامة - رضي الله عنهم -. والجواب: أنه قد روي أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان فيمن ألحده، رواه أبو بكر الخلال بإسناده عن الشعبي قال: حدثني من رأى في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة فيهم عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -. واحتج بأنه لما كان المستحب الغاسل والمكفن ثلاثة، كذلك ها هنا. والجواب: أنا لا نسلم ذلك، والله أعلم. * * * 105 - مَسْألَة: لا يكره البكاء بعد خروج الروح كما لا يكره قبل خروجها: قال الفضل بن زياد: رأيت أحمد رحمه الله يبكي على محمد بن عاصم، وهو يدفن. خلافًا للشافعية في قولهم: وقت البكاء قبل خروج الروح، ويكره بعد خروجها. دليلنا: ما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "سألت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي".

106 - مسألة: إذا دفن قبل أن يصلى عليه، أخرج وصلي عليه

ولأنه إذا جاز البكاء عليه حذر الموت جاز البكاء حزنًا لأجل الموت؛ لأن [البكاء قبل خروج الروح] إنما هو حذر من الموت. واحتج المخالف: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى عبد الله بن ثابت - رضي الله عنه - يعوده فوجده قد غلب فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية" قيل: يا رسول الله ما الوجوب؟ قال: "الموت". والجواب: أنه محمول على الندب، فالنياحة التي كانت عادتهم يفعلونه بعد الموت. واحتج: بأن ما قبل الموت يرجى، فالبكاء عليه حذر، فإذا مات انقطع الرجاء، فلا معنى للبكاء. والجواب: أن البكاء حذرًا أو حزنًا، فالبكاء لهما، ولهذا روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ ابنه إبراهيم عليه السلام في حجره وهو يقضي فقال: "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون"، وهذا يدل على أن دمع العين للحزن عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * 106 - مَسْألَة: إذا دفن قبل أن يصلى عليه، أُخرج وصلي عليه: وقد نص عليه في رواية أبي داود في ميت دفن ونسوا الصلاة عليه

فذكروا من ساعتهم؟ نبش القبر وصلي عليه، وإذا تأخروا صلوا على القبر. خلافًا لأكثرهم في قولهم: لا يخرج ويصلى على القبر. دليلنا: أن مشاهدته في الصلاة عليه مقصودة، ولهذا المعنى لو لم يدفن وصلي عليه من وراء حائل لم يجز، فوجب إخراجه ليحصل المقصود، كما لو قالوا في دفنه متوجهًا إلى القبلة مقصود وليس (¬1). ثم قالوا: لو دفن غير متوجه أُخرج ليحصل المقصود، كذلك ها هنا. فإن قيل: التوجه لا يمكن فعله إلا بعد إخراجه، ليس كذلك الصلاة عليه يمكن فعلها على القبر وإن لم يخرج (¬2). * * * ¬

_ (¬1) كلمة مطموسة في آخر السطر. (¬2) إلى هنا تم نسخ وتصحيح ما وجد من "التعليق الكبير" للقاضي أبي يعلى غفر الله له ولجميع المسلمين.

§1/1