التعليق الرشيق في التختم بالعقيق للناجي

برهان الدين الناجي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي التوفيق، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ إمام التحقيق، الهادي إلى أقوم طريق، وعلى آله وأصحابه وأتباعه من كل فريق. وبعد: فهذا تعليق رشيق، في التختم بالعقيق، ونحوه من الجوهر الأنيق، ما أظنه يوجد مجموعاً منقحاً هكذا، أمليته مستعجلاً مكتفياً فيه بالإشارة عن العبارة. قال الشيخ محيي الدين النووي في ((شرح مسلم)) عند الحديث الذي رواه مسلم وغيره من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس في الخاتم النبوي: ((كان من ورقٍ، وكان فصه حبشياً)) . قلت: ثم رواه مسلم أيضاً من طريق طلحة بن يحيى، عن يونس ولفظه: ((لبس خاتماً فضةً في يمينه فيه فص حبشيٌ، كان يجعل فصه مما يلي كفه)) . ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه ((الأخلاق النبوية)) أيضاً من طريق عزرة بن ثابت، عن ثمامة، عن أنس:

((كان فص خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حبشياً، وكان مكتوبٌ عليه: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطرٌ، والله سطر)) . وأول متنه بهذا السند غريبٌ. فقال النووي: قال العلماء: يعني حجراً حبشياً أي فصاً من جزعٍ أو عقيقٍ، ومعدنهما بالحبشة واليمن. قال: وقيل: لونه حبشيٌ أي أسود. قال: وجاء في ((صحيح البخاري)) من رواية حميدٍ عن أنس أيضاً: ((فصه منه)) . قال ابن عبد البر: هذا أصح. وقال غيره: كلاهما صحيحٌ؛ فكان له صلى الله عليه وسلم في وقت خاتمٌ فصه حبشيٌ، وفي حديث آخر: فصه من عقيق. انتهى كلام النووي. وقد ورد التختم بالعقيق ونحوه من الأحجار في عدة آثار أشار إلى كثير منها ابن الجوزي في كتابه ((الموضوعات)) وقال: إنها كلها ليست بصحيحة، وبين حال رواتها مبرهناً على ذلك.

وذكر عن أبي جعفر العقيلي الحافظ أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيءٌ. فمما جاء في العقيق حديث عائشة: ((تختموا بالعقيق فإنه مباركٌ)) . رواه البيهقي وأسنده أبو منصور الديلمي في ((مسند كتاب والده الفردوس)) من طريق الحاكم، وعزاه إلى أبي بكر ابن لال. وفي سنده يعقوب بن الوليد المدني من رجال الترمذي وابن ماجه. قال فيه أحمد بن حنبل: كان من الكذابين الكبار، يضع الحديث. وقد رواه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، ورواه عنه أبو كامل الجحدري. وقال الحافظ ابن عدي هذا الحديث يعرف بيعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري ذاك العلم المشهور، رواه هذا المجهول عن هشام عن أبيه عن عائشة، وسرقه منه يعقوب بن الوليد، ورواه عن يعقوب

ابن إبراهيم الصلت بن مسعود. وقال الطبراني في ((معجمه الأوسط)) . حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد، حدثنا زهير بن عباد، حدثنا أبو بكر بن شعيب، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عمرو بن الشريد، عن فاطمة -يعني الزهراء- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيراً)) . ثم قال الطبراني: لم يروه عن مالك إلا أبو بكر بن شعيب. قلت: وذكر ابن الجوزي في ((الموضوعات)) عن ابن حبان في ((الضعفاء)) أنه روى عن مالك ما ليس من حديثه لا يصح الاحتجاج به بحال انتهى. وزهير بن عباد قال الذهبي في ((ميزانه)) هو ابن عم وكيع بن الجراح. قال الدارقطني: مجهول.

وروى أبو نعيم الأصبهاني في ترجمة سلم الزاهد من كتابه ((الحلية)) عنه حدثنا القاسم بن معن، عن أخته أمينة، عن عائشة أم المؤمنين مرفوعاً: ((أكثر خرز أهل الجنة العقيق)) . ثم قال: غريب من حديث القاسم لم نكتبه إلا من هذا الوجه انتهى. لكنه أورده في ترجمة سلم بن ميمون الخواص الزاهد فوهم؛ إذ ليس بابن ميمون ولا هو سلم بن سالم الزاهد راوي تقديس العدس. نعم ذكر ابن الجوزي في ((الموضوعات)) أن هذا الثاني في طريق حديث عائشة الآخر: ((من تختم بالعقيق لم يقض له إلا بالذي هو أسعد)) ، وإنما راوي الذي قبله سلم بن عبد الله الزاهد كما ذكره ابن الجوزي في ((الضعفاء)) على الصواب وقال: يروي عن القاسم بن معن ما ليس من حديثه. وقال ابن حبان: لا يحل ذكره إلا اعتباراً. وكذا قال الذهبي في ((الميزان)) وهاه ابن حبان وقال: حدثنا ابن قتيبة وحاتم بن نصر، ثم ساق الحديث إلى سلمٍ هذا عن القاسم بن معنٍ.

ومن بلاياه تحديثه عن القاسم بحديث جابر: ((قال رجل: يا رسول الله إني تركت الصلاة قال: فاقض. قال: كيف أقضي؟ قال: صل مع كل صلاة صلاةً)) . أورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) لسلمٍ المذكور وقال: هو المتهم بوضعه، وكان من المتزهدين على طريقة العجائز، فإنهن يقلن: من فاتته صلاةٌ صلى مع كل صلاةٍ صلاةً، فسمع هذا فجعله حديثاً انتهى. وروي من حديث عائشة أيضاً. ((أن بعض بني جعفر بن أبي طالب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أرسل معي من يشتري لي نعلاً وخاتماً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فقال: انطلق إلى السوق فاشتر له نعلاً واستجدها، ولا تكن سوداء، واشتر له خاتماً وليكن فصه عقيقاً)) . فص الخاتم هنا: هو ما يركب فيه من غيره.. .. (¬1) ما جاء في ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل.

سند هذا الحديث، غير أن النكارة ظاهرةٌ من لفظه. وذكر ابن الجوزي حديث أنس: ((تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر)) ، وأن فيه الحسين بن إبراهيم وهو مجهول. وقال الذهبي في ((الميزان)) هو البابي حدث عن حميدٍ الطويل عن أنس بحديث موضوع وهو: ((تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر، واليمين أحق بالزينة)) أي من اليسار بالتختم. ثم قال: وحسين لا يدرى من هو فلعله من وضعه انتهى. وذكر ابن الجوزي أيضاً حديث علي: ((من تختم بالعقيق ونقش عليه: وما توفيقي إلا بالله، وفقه الله لكل خير، وأحبه الملكان الموكلان به)) . ثم قال: هذا من عمل الحسن بن علي العدوي. قلت: وهو مجروح. ومما وضعه: ((الورد خلق من عرق نبينا)) .

وجاء في التختم بغير العقيق آثارٌ منها: حديث ابن عباس الذي أورده ابن الجوزي وغيره: ((تختموا بالياقوت فإنه ينفي الفقر)) ونحوه حديث أنس. وذكر الذهبي في ((ميزانه)) في ترجمة أحمد بن عبد الله بن حكيم الفرياناني وهو منسوبٌ إلى قرية من قرى مرو، عن الحافظ أبي نعيم أنه مشهور بالوضع. ومن ((الضعفاء)) لابن حبان: أخبرنا محمد بن معاذ، حدثنا الفرياناني، حدثنا أبو ضمرة، عن حميدٍ، عن أنس مرفوعاً: ((من تختم بفص ياقوت نفي عنه الفقر)) . ثم قال الذهبي: ورواه ابن عدي عن الحسن بن سفيان عنه وهذا باطلٌ انتهى. وقال في ((الموضوعات)) قال ابن حبان: هذا خبر باطل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنس.

وروى صاحب ((مسند الفردوس)) من حديثه أيضاً مرفوعاً: ((التختم بالزمرذ ينفي الفقر، واليمين أحق بالزينة)) . والزمرذ بالذال المعجمة في آخره لا بالمهملة. وقال المنبجي الحنبلي في ((مصنفه في الطاعون)) : وقد ادعى بعضهم أن له ما يرفعه فذكر بعض الأطباء في ((كتاب خواص الأحجار)) أن من تقلد بالياقوت أو تختم بشيء منه وكان في بلد وقع فيه الطاعون منع بقدرة الله تعالى انتهى. قال المنبجي: وقد ورد في هذا آثار لا تثبت منها ما رواه ابن منجويه في ((كتاب الخواتيم)) بإسناد ضعيف عن علي رفعه: ((من تختم بالياقوت الأصفر منع من الطاعون)) . قال: وروي أيضاً معناه في الزمرذ مرفوعاً من حديث ابن عباس وإسناده أضعف من الأول وقد يكون صحيحاً في نفس الأمر والله أعلم انتهى. وذكر الدميري في الأواني من ((شرح المنهاج)) عن ((كامل بن

عدي في الضعفاء)) حديث أنس المار: ((من اتخذ خاتماً فصه ياقوت نفي عنه الفقر)) . ثم ذكر كلام ابن الأثير في كتابه ((نهاية غريب الحديث)) وعبارته: وفي التختم بالياقوت ينفي الفقر يريد أنه إذا ذهب ماله باع خاتمه فوجد فيه عنى. قال: والأشبه إن صح الحديث يكون لخاصية فيه انتهى. ثم زاد الدميري: كما أن النار لا تؤثر فيه ولا تغيره أن من تختم به أمن من الطاعون، وتيسرت له أمور المعاش، ويقوى قلبه، ويهابه الناس، ويسهل عليه قضاء الحوائج. قال: والفيروزج حجر أخضر تشوبه زرقة يصفو لونه مع صفاء الجو، ويتكدر بتكدره، ومن خواصه أنه لم ير في يد قتيل خاتمٌ منه أبداً. قال: والمرجان إذا علق على طفل امتنعت عنه أعين السوء من الجن والإنس.

والبلور من علق عليه لم ير [عليه] سوء. انتهى ما ذكره الدميري. وذكر الحافظ الذهبي في ((كتاب الطب)) له حديث التختم بالعقيق بصيغة التمريض فقال: ويروى: ((تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر)) . وذكر عن أرسطو أن من تختم به رد روعه إليه عند الخصام، وأن شربه يقطع نزف الدم. وذكر بعض حنابلة زماننا في ((تصنيف له في خواص الأحجار والجواهر)) هذا في التختم بالعقيق الشديد الحمرة، المشرق اللون، الذي ليس فيه كدورةٌ ولا نكتةٌ، وهو خياره. قال: ومن تختم بالرطبي الذي لونه كلون غسالة اللحم وفيه خطوط خفيفة قطع عنه نزف الدم، ومن أي موضع كان من الجسد لا سيما اللواتي تدوم استحاضتهم، وشربه مراراً كثيرة ينفع من الصرع. قال: وزعموا أن الياقوت الأبيض إذا علق أو تختم به نفع من جمود

الدم ومن نزفه، ومن الطاعون والصرع، ومن علقه عليه اتسع رزقه وتصرفه في المعاش وحمل الأصفر منه والتختم به يمنع الاحتلام. قال ومن تقلد بالزمرذ أو تختم ذهب عنه الصرع، وكان واقياً له من الأذى، جالباً له كل مسرة؛ من أجل ذلك يعلقه الملوك على أولادهم. قال: ومن تقلد بالزبرجد أو تختم دفع عنه داء الصرع، لكن يكون ذلك قبل حدوث الداء وخواصه قريبة من خواص الزمرذ. انتهى ما ذكره هذا الحنبلي ملخصاً. تنبيه: قال حمزة بن الحسن الأصبهاني -سامحه الله- في كتابه ((التنبيه على حدوث تصحيف الحديث)) : كثير من رواة الحديث يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تختموا بالعقيق)) ، وإنما هو ((تخيموا بالعقيق)) أي بالياء التحتانية

يعني: اضربوا خيامكم بوادي العقيق -وهو معروف بظاهر المدينة النبوية- وانزلوا به. قلت: وقد يستأنس لذلك على نكارته وشذوذه بل وعدم تسليمه لفظاً وتأويلاً بحديث عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة)) . رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه وغيرهم في كتاب الحج. لكن دعوى حمزة هذه خلاف الظاهر المتبادر إلى الذهن من باقي ألفاظ التختم التي ذكرناها في لبس الخاتم، الصريحة التي لا تقبل التأويل بوجه، القاطعة بأن المراد لبس خاتم العقيق وهو الحجر المعروف المتخذ منه الفصوص والخواتيم وما في معناه من الجواهر في الأصبع، تزينا كالتختم بالفضة ونحوها، لا التخيم وهو ضرب الخيمة والنزول بوادي العقيق المشار إليه. فهي منه دعوى مردودةٌ لأنها عدولٌ عن الظاهر المتعين من غير حاجة، وانفرادٌ بما لم يقله سواه، ونسبةٌ لمن يروي الحديث على وجهه إلى التصحيف بغير مستند. ولا أدري ما أوقعه في ذلك مع أن ابن الجوزي قد كفانا هذه المؤنة في ((موضوعاته)) بعد أن ساق أحاديث التختم بالعقيق بألفاظ

منها اللفظ المذكور، ثم ذكر عن حمزة ما قدمناه بحروفه، ثم تعقبه فقال: وهذا بعيد، وقائل هذا القول حق أن ينسب إليه التصحيف لما ذكرنا من طرق هذا انتهى كلامه. بل قد نص جماعة من الحنابلة على التختم بالعقيق، وقطع ابن تميم وصاحب ((المستوعب)) و ((التلخيص)) منه باستحباب ذلك وعبارة ((الرعاية)) : يستحب التختم بعقيق أو بفضة دون مثقال في خنصر يد منهما. واحتج صاحب ((المستوعب)) بحديث: ((تختموا بالعقيق فإنه مبارك)) . وقال أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي آخر ((جزء)) له هو عشرون حديثاً: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن مسلم بن وارة، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل السدي، عن عبد خير قال: ((كان لعلي بن أبي طالب أربعة خواتيم يتختم بها: ياقوت لقلبه، فيروزجٌ لبصره، حديد صيني لقوته، عقيقٌ لحرزه. وكان نقش الياقوت: لا إله إلا الله الملك الحق المبين. ونقش الفيروزج: الله الملك. ونقش الحديد الصيني: العزة لله جميعاً. ونقش العقيق ثلاثة أسطر: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أستغفر الله)) .

سنده إلى عبد خير جيد ومتنه غريب منكر. وهذا ما وقع الاختيار عليه في هذا الإملاء لكونه أمثل ما يستأنس به في الجملة، ودونه وأوهى منه أحاديث أوردها صاحب ((الفردوس)) وابنه وغيرهما منها حديث عمر: ((تختموا بالعقيق فإن جبريل أتاني به من الجنة وقال: يا محمد تختم بالعقيق وأمر أمتك أن تتختم به)) . وحديث ابنه: ((من تختم بالعقيق كتب الله له كل يوم عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات)) . وحديث علي: ((تختموا بخواتيم العقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام عليه)) . وحديث: ((من تختم بالياقوت الأصفر لم يفتقر)) . وحديثه أيضاً: ((تختموا بالزبرجد فإنه يسر لا عسر فيه)) .

وهذا آخر تعليق هذا التعليق في التختم بالعقيق ونحوه من الجوهر الأنيق، والحمد لله على جميع نعمه أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، وصلى الله على أكمل خلقه سيدنا محمد، وعلى آله وأزواجه وصحبه وتابعيهم، وسلم تسليماً كثيراً متواتراً. علق هذا الجزء على حكم الاستعجال، وتقسم الخاطر والبال، وكثرة الأشغال أحمد ابن الحمصي، غفر الله ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه، وذلك بتاريخ شهر شوال سنة أربعين وثمانمائة والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.