التعليقة للقاضي حسين

القاضي الحسين

مقدمة المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله أجمعين. قال- رضي الله عنه وعن والديه -: ليس شيء أفضل عند الله تعالى من طلب العلم، والله تعالى إنما فضل آدم صلوات الله عليه لأجل العلم. قال الله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها). الآية قيل: أراد به اسم جميع الأشياء حتى الفأس والقدر، وغيرهما. وقال الله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم). فجعل العلماء في الدرجة الثالثة في الشهادة على وحدانيته وقد روي في هذا الباب أخبار كثيرة: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من أحب العلم والعلماء لم تكتب عليه خطيئة أيام حياته».

وروي أنه قال عليه السلام: «من أكرم عالما فكأنما أكرم سبعين نبيا، ومن أكرم متعلما فكأنما أكرم سبعين شهيدًا». وروي أنه قال عليه السلام: «من صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف نبي، ومن صلى خلف نبي فقد غفر له من ذنوبه ما تقدم». وروي أنه قال عليه السلام: «من تعلم بابًا من العلم ليعمل لنفسه، أو ليعلم غيره كان أفضل من ألف ركعة». وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلاطين، فإذا خالطوهم فاجتنبوهم، ومن تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يأتي باب الملوك ويستجلب دنانيرهم، ودراهمهم لقي الله

تعالى وهو عليه غضبان، ويأتي ذلك العلم وشقه مائل ولعابه سائل، يقذره الخلائق». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، سأل جبريل -عليه السلام-: أي الجهاد أفضل؟ قال: طلب العلم، قال: ثم بعد؟ قال: النظر إلى وجه العالم، قال: ثم بعد؟ قال زيارة العلماء)

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين. ما من طالب علم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله تعالى له بكل قدم عبادة سنة، وبني له بيتا في الجنة، ويمشى على الأرض، والأرض تستغفر له، ويصبح ويمسى مغفورًا له، وشهدت الملائكة بأن هؤلاء عتقاء الله من النار. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: النوم على العلم أفضل من الصلاة على الجهل. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي الدرداء: أغد عالمًا أو متعلمًا، ولا

تكن الثالث فتهلك. وروى أنه قال عليه السلام: اغد عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًا، ولا تكن الخامس فتهلك. وروى أنه قال عليه السلام: الناس اثنان: عالم، ومتعلم، وسائر الناس همج لا خير فيهم. والهمج: دويبة تطير على رأس الحش. وروى أنه عليه السلام، قال: اطلبوا العلم ولو بالصين.

وروي عن كثير بن قيس أنه قال: كنت في مجلس أبي الدرداء، إذ دخل من ناحية دمشق، فقال له: من أين جئت؟ فقال: جئت من ناحية دمشق، فقال: لماذا جئت؟ فقال: جئت لتروي لي خبرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو الدرداء: أما جئت إلا لهذاا؟ فقال: والله ما جئتك لحاجة في دينار ولا درهم، وإنما جئتك لتروي لي خبرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا في طلب العلم سلك به طريق من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء يستغفر لهم من في السموات، ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب،

وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ شيئا منه، فقد أخذ بحظ وافر. قوله: تضع أجنحتها، قيل: تواضعًا وتقربًا إليهم. كقوله تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين). وقيل: إنها تبسط أجنحتها حتى يمشوا عليها. وروى أن عبد الله بن المبارك قيل له: لو أوحي الله تعالى إليك، أنه لم يبق من عمرك إلا هذه العشر، ما كنت صانعًا فيه؟ قال: كنت أطلب العلم. وحكي عن سفيان الثوري أنه قال: ليس شيئا أفضل عند الله تعالى من طلب العلم إذا صحت النية.

فقيل: وما صحة النية؟ فقال: أن يراد به وجه الله تعالى، والدار الآخرة. وروى عنه أيضا أنه قال: تعلمنا العلم لغير الله، فأبي العلم أن لا يكون إلا لله. وسفيان رجل كثير العلم حتى أنه قيل: إنه جلس بين يديه أربعة آلاف محبرة يكتبون الحديث منه. وقال الشافعي رحمه الله، وأنار برهانه، وجعل الجنة مثواه ومضجعه، طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.

فصل: العلم علمان: علم التوحيد، وعلم الشريعة

وقال أيضا: طالب العلم عبد، والعلم حر، فمن خدمه ملكه، ومن تجبر عليه هجره، والعلم أشد تجبرًا من أن يخضع لمن لا يخضع له. فصلٌ: العلم علمان: علم التوحيد، وعلم الشريعة.

فأما علم التوحيد: فيجب علي كل مكلف أن يعرف الله تعالى بالصفات التي وصف بها نفسه، ولا يجوز التقليد في علم التوحيد، فإذا عرف الله

تعالى ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويؤمن بالبعث والقيامة، وما يليق به فيكون مؤمنا، والمتكلمون من أصحابنا تعمقوا فيه، فقالوا: ينبغي أن يعرف الله تعالى بالدليل، فإن لم يعرفه بالدليل، فلا يكون مؤمنًا.

والأصح: أنه يحكم بإيمانه إذا كان مقرًا بمعرفة الله تعالى وبأوامره ونواهيه، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى. والدليل على أن معرفة الله تعالى ممكن من غير لحاق مشقة: أن الله تعالى إذا أتم خلقه الإنسان، وسوى حواسه الخمس، فإذا نظر إلى السماوات وما فيها، وإلى الأرضين وما فيها من أنواع الخلائق، وإلى نفسه علم أن له صانعًا مدبرًا حكيمًا. قال الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). وهذا العلم يفترض على من كان بالغًا عاقلاً. والعلم الثاني: علم الشريعة: وذلك قسمان: قسم يجب على من كان بالغًا عاقلا أن يتعلم ذلك، وقسم يكون فرضًا على الكفاية. فأما ما هو فرض عين: فإنه علم ما يتوصل به إلى عبادة الله تعالى لأن

الله تعالى، قال (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين) الاية، وقال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فمن كان بالغًا، يجب عليه أن يتعلم علم الصلاة: الفرائض، والسنن، والتمييز بين فريضة وفريضة، وبين السنن والفرائض، ويجب عليه أن يتعلم ما تكون السنن من الصلاة والأركان، فلو أتي بالصلاة بأركانها، وسنتها على اعتقاد أن الكل يكون سنة لا تصح صلاته قولا واحدًا. ولو أنه أدى الكل على ظن أن الكل فرض، فالمذهب الصحيح، أنه لا تصح صلاته. ومن أصحابنا من قال: تصح صلاته. وكذلك إذا ابتلي بالزكاة، فيجب عليه أن يتعلم علم الزكاة، في أي جنس تجب الزكاة، ومن أي جنس تخرج الزكاة، ومتى تخرج؟، وإلى من تصرف؟

وإذا ابتلي بالصوم، فعليه أن يتعلم كيفية النية، والمفطرات للصوم. وإذا ابتلي بالحج، فعليه أن يعرف أركان الحج، والمفسدات للحج.

وإذا ابتلي بالبيع والتجارة، فعليه أن يتعلم من علم البيع كيفية المعاملة، وما يجري فيه الربا.

وما لا ربا فيه، وكيفية الإيجاب والقبول وإذا ابتليى بالنكاح، فينبغ أن يعرف الوقت الذي يحرم فيه إتيان

النساء، والدليل على هذا قوله عليه السلام، بني الإسلام على خمس. الحديث. وقال عليه السلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم، الحديث

أراد به: ما ذكرنا مما هو فرض على كل بالغ عاقل. قال الشافعي رحمه الله: ويجب على كل امريء أن يتعلم من العربية ما يؤدي به فرائص الله تعالى. والعلم الثاني: مثل دقائق المسائل في الصلاة، وفي الشركة.

وفي القراض، والديات، وهذا فرض على الكفاية.

فإذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين. فإذا كان بلد، فلو واحدًا من أهل ذلك البلد، تعلم من العلم ما يحتاجون إليه، فقد أسقط الفرض عن الباقين. وإن لم يقم به أحد، فإن الكل عاصون لله تعالى. كما نقول في الجهاد، فإن ذلك فرض على

الكفاية، فيجب على الإمام أن يغزو في كل سنة إما بنفسه، وإما

بسراياه، حتى [لا] يكون النفير معطلا في عام، وأن تكون كلمة الإسلام عالية، وكلمة الشرك مقهورة. وكذلك نقول في رد السلام، ودفن الموتى، فإن هذه فروض على الكفايات، فإذا قام به البعض، سقط الحرج عن الباقين، وإن لم يقم به أحد، حرج الكل. والدليل على أنه إذا قام به البعض، سقط على الحرج عن الباقين، قوله تعالى: (وما كان المؤمنين لينفروا كافة). منهم من قال: إنما نزل هذا في الجهاد لما نزل قوله تعالى: (انفروا خفافًا وثقالاً).

خرج جميع الصحابة إلى الغزو، فأنزل الله تعالى هذه الأية، فقالوا هلا خرج من كل قوم طائفة، وبقيت طائفة ليتعلموا علم الشريعة؟ ومنهم من قال: إنما نزل هذا في شأن حي من أحياء بني أسد وبني خزيمة، جاءوا بقضهم وقضيضهم إلى المدينة لطلب العلم حتى أفسدوا الطريق على الناس بالعذرة. فقال الله تعالى: (فولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) الآية، يعني: أحد. والمراد بـ (الطائفة): الواحد، فهذا دليل على أنه لا يجب على كافتهم أن يتعلموا الشرع. قال رضي الله عنه: استنبط من هذا: أنه إذا تفقه في الدين، ورجع إلى قومه أن يذكر قومه وينذرهم لأن الله تعالى قال (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) الاية. وفي العلوم كثرة، فيجب على العاقل اللبيب أن يتعلم أولى العلوم، وأولى العلوم علم الشريعة، حتى يتوصل بذلك إلى عبادة الله تعالى. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. الحديث.

وقال عليه السلام: من تفقه في دين الله، كفاه الله هم دينه ودنياه ... الحديث. وقال أبو الفتح البستي: مدة العمر لا تفي بجميع المطالب ... فدع النفل جانبًا واشتغل بالواجب ويجب على المرء أن يختار مذهبًا، وأصح المذاهب، مذهب الشافعي رحمه الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأئمة من قريش. وقال عليه السلام: قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، وروى: ولا تعاطوها.

والشافعي رحمه الله عليه كان من صميم قريش، وحرمت عليه الصدقة المفروضة، كما حرم عليهم، ويستحق منهم [سهم] ذوي القربى، كما أنهم يستحقونه. وروى أن المزني رحمه الله عليه رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسأله عن محمد بن إدريس الشافعي، فقال صلى الله عليه وسلم: من أحب محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي، فإنه منى وأنا منه.

والمتبحرون في العلم ثلاثة: مالك،

أبو حنيفة، والشافعي. فأما مالك: فكان قويا في الأخبار، ضعيفا في الرأي، والاستنباط. وأبو حنيفة: كان قويًا في الرأي والاستنباط، ضعيفًا في الأخبار. والشافعي: كان قويًا فيهما جميعًا. فلهذا اخترنا مذهبه على سائر المذاهب.

فإذا انتحلت مذهب رجل فلا أقل من أن تعرف اسمه، ونسبه. واسم الشافعي: أبو عبد الله، محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف. والمطلب كان أخا هاشم جد أبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان اسم النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. فجد الشافعي رضي الله عنه الأعلى المطلب، وجد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى هاشم، وهما ابنا عبد مناف. وكان الشافعي رضي الله عنه من جملة بني أعمام النبي صلى الله عليه وسلم فهاشم الذي هو جد أبي النبي صلى الله عليه وسلم كان عم هاشم، الذي هو جد الشافعي، رحمه الله الأعلى، وهو هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، والمطلب الذي هو جد الشافعي الأعلى، هو عم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وكان لعبد مناف أربعة بنين، المطلب وهاشم، وعبد شمس، ونوفل. والشافعي إنما ولد بـ (غزة) قرية من قرى الشام، قريبة من بيت

المقدس، ونشأ بـ (مكة) و (المدينة) وتعلم العلم هناك، وولد في خمسين ومائة من الهجرة، وتوفي في خمس ومائتين، وكان سنه خمسًا وخمسين. فلما تعلم العلم بـ (مكة) و (المدينة) انتقل إلى (انتقل) في سنة سبع وسبعين، وصنف هناك كتبه القديمة، وكان من رواته أحمد بن حنبل، وأبو

علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، ثم انتقل إلى مكة، وأقام هناك إلى تسع وتسعين ثم انتقل إلى بغداد، وأقام هناك مدة يسيرة، ثم انتقل إلى مصر، وأقام هناك إلى أن قبض إلى رحمه الله تعالى وصنف هناك كتبه الجديدة، وكان رواة كتبه الجديدة أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان المرادي،

والربيع بن سليمان الجيزي، وأبو يعقوب البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي. وقيل: إنه صنف مائة وثلاثة عشر كتابًا في علم القرآن، وفي علم الأخبار، وفي علم الشريعة. والمزني: كان رجلا بليدًا، فقال له الشافعي رحمه الله كنت بليدًا، فخرجتك المواظبة. ثم المزني لما رأي كثرة تفريعات الشافعي، وكثرة كتبه استكثره، فاختصر منه كتابًا سماه جامع الكبير، وكان كتابًا حسنا بالغًا، ولم يوجد ذلك

الكتاب في ديار خراسان بالتمام، ثم استكثره فاختصر منه هذا المختصر، الذي تداوله الفقهاء، ثم استكثر هذا المختصر فصنف كتابًا في جزئيات. والربيع بن سليمان المرادي صنف كتبًا كثيرة، ولكن لكثرة ورع المزني، وفقره بارك الله تعالى في كتابه، وكان يدرس هذا المختصر، وكان الفقهاء يتداولونه إلى قيام الساعة. قال الشيخ أبو زيد - رحمه الله - من تأمل في المختصر حق تأمله، تطلع على جميع الفروع والأصول، فإنه ما من مسألة أوردها إلا ورمز هناك إلى شيء من أصول الشافعي رحمة الله عليه، والله تعالى أعلم بالصواب. واعترض أبو طالب المعري، وأبو بكر محمد بن داود الأصفهاني على المزني، بدأ النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله فهو أبتر. وروى: فهو أقطع. الحديث.

وهذا الكتاب لا يخلو، إما أن يكون له بال، أو لم يكن له بال، فإن لم يكن له بال، فالاشتغال به محال، وإن كان له بال، فلم ترك التحميد في أول الكتاب؟ الجواب عن هذا أن تقول: هذا السؤال يرد عليك، فإن كلامك لا يخلو، إما أن يكون له بال أو لم يكن له بال، إلا أن هذا يؤدي إلى ما لا نهاية له، ولكن نجيب عن هذا فنقول: هذا الخبر قد روي بروايات: كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله ... ، وروى: لم يبدأ فيه بذكر الله. وإن صح صار منسوخًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب كتاب الصلح مع أهل مكة، كتب: هذا ما صالح محمد بن عبد الله، ولم يأت بالتحميد. وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، من أشرف الكتب. وقيل: بأن هذا الخبر موقوف على أبي هريرة.

وجواب آخر نقول: ليس من الشرط أن نكتب التحميد في أول الكتاب، ولكن المراد به أن يحمد الله تعالى - اللسان، فلا يظن بـ (المزني) مع كثرة ورعه أنه ترك التحميد في ابتداء الكتاب. وقيل: إنه ما جمع بين مسألتين، وما اختار قولا على قول إلا وصلى ركعتين، واستخار الله تعالى، وتصدق بما يملك. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: حق المؤمن على أخيه ستة: أن يسلم عليه إذا لقيه، وأن يجيبه إذا دعاه، وأن يشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشيع جنازته وألا يظن به إلا خيرًا. الحديث. وجواب ثالث: المزني نقل ما هو أعلى الأذكار، وهو بسم الله الرحمن الرحيم، فإن هذا من أعلى الأذكار وأعظمها، قال الله تعالى (هل تعلم له سميًا). معناه: هل تعلمون أحدًا تسمى الله غير الله. وهذه الأذكار ينوب بعضها عن البعض كما قال عليه السلام: أفضل ما دعوته أنا والنبيون قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحد وهو على كل شيء قدير.

فقيل لسفيان بن عيينة، هذا ثناء، وليس بدعاء، فقال: أما أنشدك قول أمية بن أبي الصلت، في شأن عبد الله بن جدعان، أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟ إذا أثني عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضه الثناء. فقال سفيان: هذا في وصف المخلوق، فكيف برب العالمين؟

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى، من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، الحديث. وجواب آخر: إن المزني لم يكن مصنفا، وإنما كان ناقلا،، وليس من عادة النقلة أن يأتوا بالتحميد، كما نقول في نقلة الأخبار. والمصنف كان الشافعي رحمه الله وهو ذكر التحميد في صدر كتاب الرسالة، وهو كتاب في الأصول والفروع. والتحميد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمه من نعمه، إلا بنعمة حادثة يوجب على مؤدي شكر ماضى نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكرها، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، وهو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه الواصفون من

خلقه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وسها عن ذكره الغافلون. وحكي أن الشافعي رحمه الله رآه واحد في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. فقيل: بماذا غفر الله لك؟ فقال: بالتحميد الذي صدرت به كتاب الرسالة والصلاة التي صليت على النبي صلى الله عليه وسلم فيه. ولعل الشافعي رحمه الله أخذ هذا من داود النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ما روى أن الله تعالى أوحى إلى داود النبي عليه السلام فقال له: يا داود اشكرني. فقال: كيف أشكرك، وشكري لك يوجب علي شكرا آخر؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني حين أقررت بالعجز عن شكري. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فمني، الحديث. وقد نظم محمود الوراق، بيتين في هذا المعنى، فقال: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... على له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغي الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام وانفتل العمر؟ قال المزني: اختصرت.

الاختصار: اشتقاقه من الخصر، وهو خلاصة الشيء، واختلف عبارات أصحابنا في معنى الاختصار. منهم من قال: الاختصار: إقلال اللفظ مع توفير المعنى. وقيل: الاختصار: إقلال من غير إخلال. وقيل: هو القاء المباني، وإبقاء المعاني. وقيل: هو قبض البسيط من الكلام، ورده إلى وجيزه. وقيل: هو رد الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى الكثير ومعناه: اختصر مسائل متفرقة في لفظ وجيز. وقيل: الاختصار، الجمع، ومن هذا سمى العصا الذي يتوكأ عليها بجميع بدنه (مخصرة)، وسمي: الخاصرة، لأنها مجمع البدن من الأعلى ومن الأسفل. اعترضوا عليه بأنه لم يقل، اختصرت، ولم يختصر بعد؟ الجواب عنه: يحتمل أنه فرغ من تصنيف الكتاب، ثم جاء وذكر ترجمة الكتاب، وهذه عادة المصنفين، أنهم يثبتون ترجمة الكتاب بعد فراغهم من تصنيف الكتاب. وجواب آخر: معناه سأختصر، كما قال الله تعالى (أتي أمر الله) الاية. معناه: سيأتي. وكقوله تعالى: (ونفخ في الصور). وقوله: (ونادي أصحاب الأعراف).

ومعناه: سينفخ، وسينادي فإن قيل: لماذا اختصر والكلام إذا كان بسيطا، فيكون أقرب من الوجيز؟ قلنا: الكلام الوجيز يستفصح. كقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) الاية. وقال عليه السلام: الماء من الماء. القطع في ربع دينار، والعمد قود وقال عليه السلام: أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا. الحديث. وقال (علي)، كرم الله وجهه، خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل.

قوله هذا. قال القاضي حسين، اعترض عليه، فقيل له: قال: هذا، ولم يصنف الكتاب بعد والهاء إشارة إلى الموجود. جوابه: ما ذكرت قبله. وجواب آخر، نقول: لما سهل عليه تصنيف الكتاب، جعله كالموجود لأن (هذا) قد يشار إلى الشيء الحاضر، ويشار إلى شيء قرب وجوده. كقوله تعالى (هذا يوم الفصل)، الاية وقوله: (هذا يوم لا ينطقون) الاية. وقال الشاعر: هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شاء ساقكم إلى قطينا أي جميعا وهذا اسم، تارة يشار إلى العين الحاضرة، وتارة يضاف إلى الذكر الحاضر، قوله من علم الشافعي. قال القاضي حسين: فإن قيل: علم الإنسان يكون في صفات ذاته، فلا يمتاز عنه، كالبياض والسواد. قلت: معناه من معلوم الشافعي، وذلك أن المزني، سمع منه المسائل، ولم ينسخ ذلك، ثم صنف من ذلك العلم الذي سمع منه ويجوز مثل هذا، كما نقول: هذا من ضرب الإمام. يعني: من مضروبه. وكما يقال: اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا رحمتك.

معناه: أريتنا مقدورك، فأرنا مرحومك، فإن قدرة الله تعالى لا تكون مرئية. أو تقول: معناه من كتاب الشافعي. كما قال تعالى هل عندكم من علم. يعني من كتاب. وكما روي عن ابن عباس أنه قال: يشتري لي علما بدرهمين. يعني كتابًا. وقوله: (ومن معنى قوله) قال القاضي الحسين: فإن قيل: المعنى إذا اختصر اختل، فما معنى هذا؟ قلنا معناه أن الشافعي رحمه الله تعالى، ذكر في المسائل معاني، واللفظ لفظ الوحدان، والمراد به الجمع، كما قال تعالى (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، الآيات. فلما استثني منه جماعة علمنا أن المراد منه الناس، لأن الجماعة لا يستثني من الواحد. والمزني، لما رأي المعاني نقل أصحها، وأجود ما عنده، ويجوز أن يكون في المسألة معان، كما يقال: كل امرأة منكوحة مرتدة فنكاحها حرام لمعان.

وجواب آخر: معني قوله: (من معنى قوله) يعني: على معنى قول الشافعي وذلك أن المزني نقل مسائل كثيرة تخريجًا على معنى قول الشافعي كما نقول في الشركة والضمان والحوالة، ويجوز أن يكون من مكان على كما قال تعالى: ونصرناه من القوم الذي كذبوا بآياتنا. الاية.

يعني: على الذين. وكقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) الآية. يعني: مع أموالكم. وقال الله تعالى (في جذوع النخل) الآية. معناه: على جذوع النخل. وكما يقال: الذود إلى الذود إبل. معناه: مع الذود إبل قوله: لأقربه على من أراده. قال القاضي حسين: التقريب المراد به التسهيل والتيسير، وقد يكون المراد به الإدناء. فإذا كان المراد به التقريب من الإدناء، فتكون صلته إلى. كما قال الله تعالى فقربه إليهم، الآية. وإن كان المراد به التسهيل والتيسير، فتكون صلته على.

كما يقال: قرب الله عليك الخطا معناه: سهل الله عليك السفر. ومعناه: لأسهل هذا الكتاب على من يريد هذا الكتاب. وقوله: مع إعلامية نهيه عن تقليده. قال القاضي حسين: لا خلاف في أن قوله: إعلامي، الياء راجع إلى المزني. وأما الإعلام إلى من يرجع، منهم من قال: يرجع إلى (المزني). معناه: مع إعلامية المتعلم نهي (الشافعي) عن التقليد. والهاء الأولى ترجع إلى المريد، والهاء الثانية في نهيه راجعة إلى المريد. معناه: أن المتعلم منهي عن التقليد. وقيل: كلا الهائين يرجع إلى (الشافعي) رحمه الله والأظهر أن الهاء الأولى ترجع إلى المتعلم، والهاء الثانية راجعة إلى الشافعي. والإعلام، مصدر تارة يضاف إلى الفعل، وتارة يضاف إلى المفعول، فإذا أضفت إلى الفاعل، فالمزني يكون معلما. يعني مع إعلامي المتعلم أنه نهي عن التقليد، وإذا أضفناه إلى المفعول فالمزني يكون معلما. ومنهم من قال: معناه، مع إعلام الشافعي إياي النهي عن التقليد وقوله: نهيه يكون مصدرًا على ما ذكرت، ومعناه، مع إعلام الشافعي نهيه. يعني: منهيه عن التقليد فإن قيل: قد قلتم: إن المزني، رحمه الله قصد بذلك التسهيل والتيسير، وأي تيسير في هذا التدقيق الذي قلتم؟ قلنا: العرب تستحسن أن تذكر اللفظ الوجيز يتضمن معاني كثيرة:

كقول الشاعر: بكرت على عواذلي ... يلحينني وألومهنه ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه يحتمل انه ليس كما قلن، ويحتمل أن معناه: كما يقلن، ويحتمل أن ذلك إنما يكون لزيادة قوة في. ونهي الشافعي عن أن يقلد. فإن قلتم: انتم قلدتم الشافعي رحمه الله قلنا: نحن ما قلدناه، وإنما أخذنا ذلك بالدليل. والتقليد: قبول قوله من غير حجة. فإن قيل: الشافعي نهي عن التقليد، وقلد زيد بن ثابت في

الفرائض، فقال: وعنه قبلنا أكثر الفرائض، وكذلك قلد عثمان، رضي الله عنه في مسألة بيع الحيوان بشرط البراءة عن العيوب قال: فالذي أذهب إليه: قضاء عثمان أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيب علمه، ولم يسمه له، ويقفه عليه، تقليدًا لعثمان. قلنا: هو ما قلد زيدًا، وإنما قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال: أفرضكم زيد، أقضاكم على، أقرؤكم أبي، أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ثم قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. وأما حديث عثمان فإن معه قياسا خفيا، وذلك لأن الشافعي قال: ولأن الحيوان يفارق ما سواه، لأنه يغتدي بالصحة والسقم، وتحول طبائعه، وقل ما يبرأ من عيب يخفي أو يظهر. قوله: لينظر فيه لدينه. قال القاضي حسين: معناه: أن الشافعي نهي عن التقليد، ولكن يأخذ المسائل بالحجة حتى لا تزل قدمه عن ذلك، فإنه لو أخذ من غير الدليل، فربما تزل قدمه عن قريب. قوله: ويحتاط لنفسه.

قال القاضي حسين: معناه، أنه يأخذ منه المذهب بالحجة والبيان، والعنى، دون الأخذ بالتقليد، ومن غير الدليل، فإنه يوبق نفسه بالنار. قوله: وبالله التوفيق. ومعناه التوفيق من جهة الله تعالى والتوفيق ماذا؟ منهم من قال: التوفيق: تسهيل سبيل الخير، وسد سبيل الشر والخذلان تسهيل الشر، وسد سبيل الخير. يقال: وفقك الله. معناه جعل الله تعالى فعلك وقولك وفق رضاه وقيل: التوفيق درك الأسباب ومعرفة الصواب وقيل التوفيق الوقوع على الخير من غير استعداد له. وإنما قصد بذلك المزني حتى لا يزل إلى الاعتزال، فإن المعتزلة.

يقولون: الخير من الله، والشر إنما يكون من جهتك، وليس من جهة الله تعالى وهذا خطأ، بلا كلاهما من جهة الله تعالى وبإرادته، إلا أنه لا يرضى بالشر. وقد قيل: توفيق المتعلم في أربعة أشياء: في ذكاء القريحة، واستواء الطبيعة، ومعلم ذي نصيحة، وشدة العناية. وقيل ليزدجمهر: بم أدركت ما أدركت، قال: ببكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الحمار، وحرص كحرص الخنزير، وتملق كتملق الهرة. وقال الشيخ الإمام سهل، رحمه الله عليه: عليك بالهمة، فإن الهمة مستتبعة للجد، والجد لا يتأخر عن الجد، والله أعلم بالصواب.

فصل في التقليد

فصل في التقليد قال رضي الله عنه: التقليد اشتقاقه من القلادة، فإن قبلت قول المجتهد من غير دليل ولا حجة، فإنك قلدته خيره وشره، ولا خلاف أن ما يؤخذ من الله تعالى لا يسمى تقليدًا. ولا خلاف أن ما يؤخذ من غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين، يسمى تقليدًا.

لأن الشافعي قال في كتاب أدب القاضي، فإما أن يقلده، فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما ما يؤخذ من جهة النبي عليه السلام هل يسمى تقليدًا أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يسمى تقليدًا. والوجه الثاني: أن ذلك لا يكون تقليدًا، لأن التقليد إنما يكون قبول قول من يخبر عن الصدق وعن الكذب، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخبر إلا عن صدق. وهذا بناء على أصل: وذلك أن التقليد ماذا؟ منهم من قال: التقليد: قبول قول من لا يجب عليك قبول قوله. فعلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكون تقليدًا، لأنه وجب علينا قبول قوله. وقيل: هو قبول قول الغير من غير حجة، وهو ممن يجوز عليه الغلط والغفلة ويقر على الخطأ، فعلى هذا أيضا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون تقليدًا، لأنه عليه السلام لا يقر على الخطأ. ومنهم من قال: التقليد: قبول قول من لا يدري من أي موضع يقول: فعلى قول هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم يكون تقليدًا لأنا لا ندري أنه عليه

السلام، كان يخبر عن وحي من جهة الله تعالى أو من إلهام ألهم، أو من جهة قياس استنبطه من جهة نفسه. والناس في التقليد قسمان: عالم، وعامي أما العالم، نعني بذلك، من بلغ رتبة الاجتهاد، وإن شذ أشياء من العلم لا اعتبار له. فأما العامي، فرضه التقليد بدليل الكتاب والسنة. أما الكتاب قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الآية. فأمر بالسؤال إذا كان الرجل جاهلا. والخبر ما روي جابر بن عبد الله، أن رجلا من الصحابة كان في بعض الغزوات، فأصابته شجة، فاحتلم تلك الليلة، فسأل الصحابة، هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة في التيمم، فاغتسل فدخل الماء في جرحه، ثم سى إلى النفس، ومات فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عليه السلام: قلتوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا، إن شفاء

العي السؤال فإنه يكفيه أن يعصب عصابة على رأسه ويمسح عليه، ويغسل ما قدر عليه ويتيمم لأجل ما تحت العصابة. فأما العامي يجب عليه أن يجتهد حتى يميز بين الفقهاء وبين العوام، ويميز بين الأفقه والأورع، فإنه يمكنه ذلك. فإن لم يجتهد وسأل فلا يجوز له أن يعمل بقول المفتي. والدليل على ذلك قصة الشيخ (القفال) رضي الله عنه، وذلك أنه مر بصف الحدادين بـ (مرو) فاستبله رجل فسأله عن مسألة، فقال له من أنا، فقال: لا أدري، فقال لا يجوز ذلك أن تعمل بقولي ما لم تعلم أني أفقه أهل بلد مرو، وأني ذلك القفال الذي يقول أهل بلد مرو إنه أفقه أهل بلد مرو. ومنهم من قال: لا يجب على العامي الاجتهاد، ولأنه ليس له آلة الاجتهاد،

فإذا سأل أي فقيه كان، جاز له أن يعمل بقوله، فلو كان في البلد فقيهان: فقيه أفقه ورع، وفقيه اورع. فالأفقه الورع أولى في الفتوي من الأروع الفقيه، وفي باب الإمامة للصلاة الأورع الفقيه أولى من الأفقه الورع. والفرق بينهما أن الإمامة سفارة بينه وبين الله تعالى - إنما يرشح للسفارة من كان اوجه، وأعلى مرتبة عند الله تعالى ودرجة الأورع والأتقي أعظم عند الله تعالى لقوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والأفقه الورع أولى في الفتوى من الأورع الفقيه، وذلك لأنه يحتاج إلى استنبط المعاني، فلو كان في البلد فقهاء، وواحد منهم مجتهد، فيتعين على المجتهد الفتوي، ولا يجوز للغير أن يفتن، لأن المجتهد يكون كالنص، ولا يتعين على المجتهد أن يجيب على مذهب، بل يفتي بما بلوح عنده من الدليل، ولو كان في البلد فقيهان يستويان في الفقه وفي الورع، هل يجب عليه أن يجتهد نوع اجتهاد حتى يطلع على أفههما وأورعهما أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه أن يجتهد، وله أن يسأل أيهما شاء. والثاني: يجتهد؛ لأن ذلك يصير معلومًا بالتسامع فيما بين الناس أيهما أفقه، وأيهما أورع.

ولو كان في البلد فقيهان، وسأل أحدهما، فله أن يعمل بقوله: ولا يجب عليه أن يسأل الآخر، فلو أنه سأل الآخر ينظر أن اتفقا فنعما، وإن اختلفا، فيه وجهان: أحدهما: أن يأخذ بقول أيهما شاء. والوجه الثاني: يأخذ بالأحوط والحظر. فلو كان في البلد فقيه ثالث لا يجب عليه أن يسأله، فلو أنه سأله، إن اتفق قول اثنين فيقبل قولهما، ويقع به الترجيح، وإن اختلف قول الكل، فيه وجهان كما ذكرنا.

مسألة: [العامي هل له مذهب أم لا]

مسألة: [العامي هل له مذهب أم لا] العامي هل له مذهب أم لا؟ اختلفوا فيه، منهم من قال: العامي لا مذهب له، لأنه لا يعرف الدلائل في المسألة، ففرضه التقليد، فعلى هذا له أن يسأل أي فقيه كان سواء كان شفعويا أو حنفيا. وقال الشيخ القفال رحمه الله عليه، العامي له مذهب، فإن كان شافعيا فليس له أن يقبل قول الحنفي، لأنه لما ميز بين مذهب ومذهب، واختار مذهبا على مذهب تبين عنده بالدليل أن له مذهبا، حتى لو كان في البلد شفعوي، وذاك حنفي ليس له أن يقبل قول الشفعوي، وعلى عكسه عكسه.

بل يجب عليه أن يسأل حنفيا إن كان ببلد آخر حتى يفتي له على مذهبه. العامي إذا سأل مسألة لفقيه، فإذا وقع له تلك الحادثة، مرة أخرى، هل يحتاج إلى أن يجدد السؤال عنه كل مرة أم لا. ينظر إن كان المفتي أفتى وأخبره بأني أفتي عن نص من جهة الله تعالى ومن جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع أو قياس جلي، فلا يجب عليه أن يجدد السؤال عند كل حادثة، وإن لم يخبره بأني أفتى عن نص، أو أفتاه بقياس من جهة نفسه، فليس له أن يعمل بذلك ما لم يسأله ثانيا، بل يجب عليه أن يجدد السؤال عند كل مرة، لأن المفتى إذا سأله رجل عن هذه المسألة يجب عليه أن يجدد الاجتهاد عند كل مرة. ولو كان العامي الذي سمع مسألة من مفتى يخبر الغير بذلك، هل يجوز لذلك الرجل أن يعمل بقوله؟ ينظر إن أخبره القاضي، أو المفتي من نص من جهة الله تعالى أو من جهة النبي صلى الله عليه وسلم جلي، يجوز لذلك الرجل أن يعمل بقوله ويكون مقلدًا للمفتي، وإن لم يخبره عن نص من جهة الله تعالى، أو من جهة النبي صلى الله عليه وسلم أو قياس جلي، فليس لذلك الرجل أن يعمل بقوله، بل عليه أن يسأل الفقيه هذا كما نقول في الأعمي، فإن عليه أن يقلد البصير في القبلة، فإن كان أعمي في مسجد، وكان هناك محراب دله على القبلة فعند كل صلاة لا يحتاج إلى أن يجدد السؤال عن القبلة، فإما إذا كان على مفازة، يجب عليه أن يجدد تقليد البصير في القبلة عند كل صلاة، لأن البصير يجدد الاجتهاد عند كل صلاة إذا كان في المفازة.

مسألة: العامي عند تقليد المفتي هل يسمى مقلدا؟

مسألة: العامي عند تقليد المفتي هل يسمى مقلدًا؟ العامي إذا قلد المفتي، هل يسمى هذا مقلدًا أم لا؟ قال الشيخ رضي الله عنه وأرضاه، عامة أصحابنا على أنه يكون مقلدًا، وحكي عن الأستاذ أبي القاسم الإمام، ولعله حكي عن الأستاذ الإمام أبي إسحاق الإسفرايني رحمه الله عليهما أن العامي إذا سأل فقيها عن مسألة فلا نسميه مقلدًا، لأنه اجتهد حتى ميز بين مذهب وبين مذهب، وميز بين الفقهاء والجهال، وميز ين الأفقه والأورع، فإنه بذل جهده، وطاقة وسعه بما أمكنه ذلك، فيكون هذا كالعالم إذا عرف المسائل بالدلائل، فلا يكون مقلدًا، كذلك هذا مثله. فأما العالم فرضه أن يعمل بعلم نفسه، ولا يجوز له أن يعمل بقول الغير ويقلده، لأن العالم له آلة الدرك والاجتهاد. ونعني بالعالم: أن يكون عالما بالكتاب والسنة، وأقاويل الصحابة، وآثار التابعين، وإجماع المسلمين، واختلافهم، ووجوه القياس، ولسان العرب.

فأما الكتاب: ينبغي ان يعرف ناسخه ومنسوخه،

وخاصه،

وعامه،

ومطلقه،

ومقيده،

ومجمله ومفسره، وأقاويل الصحابة والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف كيفية ترتيب الكتاب على السنة، والسنة على الكتاب، ويعرف وجوه القياس، ولكن إنما يشترط هذه الشرائط أن يعلم جُلَّ هذه الأشياء ومعظمها، ولا يتصوَّر في زماننا أن يكون شخص يتعلم هذه العلوم. فإذا بلغ الرجل محل الاجتهاد، فله أن يجتهد في المسائل، ويفتي على ما أدى اجتهاده إليه من جهة نفسه، وليس للعالم أن يقلد الغير ليفتي الغير قولاً واحدًا، فلو وقعت له حادثة ينظر إن كان في الوقت سعة، فليس له أن يقلد الغير قولا واحدًا، فأما إذا كان في الوقت ضيق، وخاف فوته، وأشكل عليه ذلك، هل يجوز له أن يقلد العالم أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد الغير. وحكي عن ابن سريج، أنه قال: لو نزلت بي نازلة، وضاق وقتها،

وخفت فوت الواجب علي فيها، فلي أن أقلد من هو في مثل حالي، ولأنه إذا لم يتفرغ إلى معرفته بالدليل، ويفوت الفريضة عن وقتها يجعله كالعامي في هذه الحادثة، فجاز له التقليد، فإذا قلت له التقليد فإنه يقلده. ولا يجب عليه القضاء بعد ذلك، وإن بان من بعد أنه كان مخطئًا، لأن الاجتهاد لا ينقض بالإجتهاد. وحكي أن ابن سريج كان يقلد الملاحين في القبلة. والوجه الثاني: ليس له أن يقلد الغير؛ لأن له آلة الدرك والاجتهاد، وبخلاف العامي، فعلى هذا يصلي على التخمين، وعليه القضاء، كمن اشتبه عليه جهة القبلة، وصلى إلى جهة من غير دليل، فيجب عليه القضاء، وإن بان من بعد أنه كان مصيبًا. وكذلك الأعمى إذا لم يجد من يدله على القِبلة، وصلى إلى جهة عليه القضاء كيف ما كان.

مسألة

مسألة إذا كان رجل في بلد وكان عاميًا، وكان هناك فقيهان، شفعوي وحنيفي، فعلى مذهب بعض الناس، ليس للعامي مذهب، له ان يسأل أيهما شاء، وعلى مذهب القفال، وهو الأصح أن له مذهبًا، فعلى هذا إن كان الرجل شفعويا يجب عليه أن يسأل الإمام الشفعوي، وليس له أن يسأل الحنيفي، وعلى عكسه عكسه، فإذا سأل الإمام الشفعوي يجب عليه أن يفتي على مذهب الإمام الشافعي، وليس له أن يفتي على مذهب أبي حنيفة، لأنه إنما تعمق في معاني مذهب الشافعي، وتبحر فيه، وما تعمق في معاني مذهب أبي حنيفة، وعلى عكسه عكسه. وقال رضي الله عنه: عندي أنه إذا كان في البلد فقيهان فإنه يسألهما، ويأخذ الأحوط، وما فيه الاحتياط أكثر والله تعالى أعلم بالصواب.

فصل في الإجماع

فصل في الإجماع يجب أن يعلم أن إجماع المسلمين يكون حجة مقطوعًا بها عند عامة

المسلمين، إلا ما حكي عن بعض الزنادقة أن الإجماع لا يكون حجة،

والدليل عليه قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم). فدل على أن الإجماع حجة، وقوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا) وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف).

فالله تعالى مدح هذه الأمة بأنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فدل على أنهم لا يجتمعون على الضلالة. يدل عليه قوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على ضلالة، الحديث وروى أنه عليه السلام قال: إن الله تعالى لا يجمع أمتي على الضلالة. وروى أنه قال: المسلمون شهداء الله في الأرض فما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا، فهو عند الله قبيح.

ولأن المسلمين مع اختلافهم هممهم، وتفاوت عقولهم، وتباين آرائهم لا يجتمعون على شيء، إلا ويكون الحق معهم لا محالة. فلو أنهم أجمعوا على شيء إلا واحدًا منهم. قال الشيخ: لا يكون الإجماع منعقدًا. وقال أهل الأصول: إن ذلك يكون إجماعًا، لأن الاعتبار بالأكثر. وقال عليه السلام: (عليكم بالسواد الأعظم). وهكذا لو خالفهم اثنان أو ثلاثة. ثم الإجماع على قسمين: إجماع من يعرفه الخاص والعام، وإجماع صدر عن شيء يعرفه الخاص دون العام. فأما ما يعرفه الخاص والعام كما نقول في فرائض الصلاة، وسنن الرابتة وصلاة العيدين، فمن خالف هذا الإجماع يكفر. والإجماع الذي يعرفه الخاص دون العام مثل مسألة العول، ونكاح المتعة، وبيع الدرهم بالدرهمين، فمن خالفه فإنه يفسق ويخطأ، ولا يكفر.

والإجماع تارة يكون إجماعا اتفقوا عليه ابتداء، كما نقول في الصلاة. وتارة يكون في الابتداء كان مختلفا فيه، ثم أجمعوا عليه، كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض إلى رحمة الله تعالى، اختلفوا في موضع دفنه،

صلوات الله وسلامه عليه حتى روى أبو بكر خبرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الأنبياء إنما يدفنون حيث يموتون، فرجعوا إلى قول أبي بكر، رضي الله عنه. وكذلك اختلفوا في توريث النبي صلى الله عليه وسلم حتى روى الصديق رضي الله عنه خبرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، فرجعوا إلى قوله، وكذلك اختلفوا في قتال مانعي الزكاة، حتى روى الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا، لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. فقال: أبو بكر، هذا من حقها، فرجعوا إلى قوله. ونعني بالإجماع، إجماع من كان من أهل الحل والعقد.

فأما أن يتوهم أن بأقصى الصين ففيها لا اعتبار بهذا التوهم، حتى إن المسلمين لو اجتمعوا على شيء، ثم بلغوا إجماعهم فقيهًا بأقصى الصين، فلا يجوز له مخالفهم. والإجماع على نوعين: إجماع صادر عن نص من جهة الله تعالى أو من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن قياس جلي، فمن خالف هذا الإجماع يكفر.

فمن اعتقد أن عائشة رضي الله عنها زنت يكن كافرًا بالله سبحانه، لأن الله تعالى، أنزل الآية في براءة ساحتها عن الإفك. وإجماع صدر عن قياس خفي، كما نقول في خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لما توفي اختلفوا فيه، فقالت الأنصار- منا أمير ومنكم أمير، فقال المهاجرون الأمير منا. حتى اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: لما ارتضى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ فقاسوا إمامة الدنيا على إمامة الدين، وهذا قياس خفي.

وهل هذا يكون حجة مقطوعًا بها؟ فوجهان: أحدهما: لا، لأن الأصل الذي قيس هذا عليه لم يكن مقطوعًا، به، كذا هذا. والوجه الثاني: الأصح أنه يكون حجة مقطوعًا بها.

فإذا قلنا: يكون حجة مقطوعًا بها، فمن خالفها يكون كافرًا. فصل الصحابة إذا قالوا قولا لا يخلوا إما أن ينتشر فيما بين الصحابة، أو لم

ينتشر فإن لم ينتشر فيما بينهم ينظر إن كان معه قياس خفي، فيقدم ذلك على القياس الجلي قولا واحدًا. وكذلك إذا كان معه خبر مرسل، فأما إذا كان قول الصحابي متجردًا عن القياس، هل يقدم القياس الجلي، على ذلك أم لا؟ فيه قولان: فعلى قوله الجديد: يقدم القياس الجلي عليه. وعلى قوله القديم: يقدم قول الصحابي على القياس الجلي، وعلى هذا يفسر به المجمل، ويخص به العموم، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم).

وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).

وروي أنه قال عليه السلام: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) ولأن لهم فضيلة مشاهدة الوحي، وفضيلة مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: (رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا) الآية. فأما وجه قوله الجديد: أن القياس يكون حجة من حجج الله تعالى، لاح لنا وجهه وأما قول الصحابي لم يلح لنا وجهه. ولأن الصحابي ممن يجري عليه الخطأ والسهو، ويقر على الخطأ، فلا يجوز أن نترك القياس الذي لاح لنا وجه بقول من لم يلح لنا وجهه. فأما إذا انتشر فيما بين الصحابة لا يخلو إما أن يكون ذلك من طريق الفتوي، أو من طريق القضاء. فإن كان ذلك من طريق الفتوي، فإن ذلك يكون حجة مقطوعًا بها. وهل يسمى ذلك إجماعًا أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لأن الظاهر أنه لو كان ذلك القول خلاف الكتاب أو السنة أو القياس الجلي، فإنهم يظهرون المخالفة، ولا يكتمون ولكن إنما يشترط انقراض العصر على ذلك قولا واحدًا. والوجه الثاني: لا يكون ذلك إجماعًا، لأنه يحتمل أن واحدًا منهم كان يعتقد بخلاف ذلك، ولكن لا يظهر ذلك.

ولأن الشافعي قال: ولا ينسب إلى ساكت قول. وإنما يعني بالإجماع: إجماع من كان من أهل الحل والعقد في زمانهم، ولا اعتبار بإجماع العوام، وإنما يشترط إجماع من تيقنا، أنه موجد في دار الإسلام، ولا اعتبار بالتوهم كما بينا. فأما الصحابي إذا قال قولاً، وانتشر ذلك فيما بين الصحابة، ولكن صدر على طريق القضاء، فما حكمه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما ذكرنا في القسم الأول. أحدهما: يكون حجة. والثاني: لا يكون حجة. ومن أصحابنا من قال: إن هذا لا يكون حجة قولا واحدًا، لأن القاضي لا سطوة يهاب من سطوته. والدليل عليه أن ابن عباس أظهر الخلاف في مسألة القول بعد وفاة عمر، فقيل له: هلا أظهرت الخلاف في زمانه؟

فقال: لأن الرجل كان مهيبًا فهبته.

وروي أنه قال: هبته، وقد كان والله مهيبًا رضي الله عنه. فدل على أن هذا لا يكون إجماعًا، بخلاف القسم الأول. فأما الصحابة لو اختلفوا في مسألة على قولين، ينظر؛ فلو أن واحدًا منهم رجع إلى قوله صاحبه، لا خلاف أن ذلك صار إجماعًا. فلو ماتوا على ذلك، لا خلاف أنه يجوز إحداث قول ثالث. فلو أن أهل العصر الثاني اتفقوا على قول أحدهما، فهل يكون إجماعاً مقطوعًا به أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أن هذا يكون إجماعًا، كما لو رجع أحدهما إلى قول الآخر. والثاني: لا يكون إجماعًا، لأن الصحابة بينوا أن هذا لا يكون مقطوعًا به، فلو أرادوا أن يجعلوا غير المقطوع به مقطوعًا به لا يجوز. كما لو أرادوا ان يجعلوا المقطوع به غير مقطوع به، لا يجوز.

فلو أن الصحابة اتفقوا على شيء، وأجمعوا عليه نطقا، فهل يشترط انقراض العصر على ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى والثاني: لا. فلو أن واحدًا منهم رجع عن ذلك، هل يعد خلافه خلافًا أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون خلافا، لأن قولهم صار حجة على غيرهم، فلو أن أهل العصر الثاني خالفوهم، لا يقبل قولهم، كذلك إذا رجع واحد منهم لا يعد خلافه خلافاً. والثاني: انه يعد خلافاً، وهذا بناء على ما ذكرنا، إن قلنا: إنه يشترط انقراض العصر في ذلك، فيعد ذلك خلافًا، وإلا فلا. يدل عليه ما روي أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه كان بـ (الكوفة) يخطب فقال في خطبته: اجتمع رأي ورأي أمير المؤمنين (عمر) رضي الله عنه ألا تباع أمهات الأولاد، وأنا أرى الآن أن يبعن، فقام عبيدة السلماني،

مسألة

وقال له: رأيك مع أمير المؤمنين أحب إلينا من رأيك وحدك، فأطرق رأسه ساعة ثم قال: اقضوا فيه ما أنتم تقضون، فإني أكره أن أخالف الجماعة، فأراد أن يرجع عن ذلك ولم يرجع. مسألة فلو أجمعوا على شيء إلا واحدًا، لا يكون إجماعًا، فإذا مات ذلك الواحد، وهم استداموا على ذلك، فالآن بعد موته صار إجماعًا، فأما إذا كان في زماني عامي، ثم صار فقيهًا، أو كان صبيًا ترعرع، وتفقه في الدين، فإذا بلغ وخالف، هل يعد خلافه خلافا أم لا؟ فيه وجهان: بناء على الأصل الذي ذكرنا، هل يشترط انقراض العصر أم لا؟ والدليل عليه ما روى أن ابن عباس كان تلميذ زيد بن ثابت، فلما تعلم الفرائض، وبلغ وصار من أهل الاجتهاد أخذ زمام بغلة زيد بن ثابت في بعض الأوقات، وقال له أنزل أبا هلك، فإن الذي احصى رمل عالج لم يجعل في المال نصفا وثلاثين. فقاله له زيد: خل زمام بغلتي، ما أجرأك على الله فأما إذا ولد ولد بعد إجماعهم وتفقه هل يعد خلافه خلافًا؟ يترتب على ما لو كان صبيا موجودًا، ثم تفقه إن قلنا هناك: لا يعد خلافه خلافا، فها هنا أولى، وإلا فوجهان.

فصل قال القاضي: قد ذكرنا ان الإجماع يكون حجة، وقد ذكرنا اختلاف الصحابة في مسألة. فلو أنهم اختلفوا في مسألة وصاروا فرقتين، ينظر فإن كانوا سواء في العدد، فلا يرجح أحدهما على صاحبه. ولو كان في إحدى الفرقتين كثرة، هل يرجح بذلك على الآخر؟ فعلى قوله القديم: يقع به الاحتجاج، ويقدم على الآخر. ولو كان في إحدى الفرقتين أبو بكر، وعمر وعثمان. قال الشافعي تقدم تلك الفرقة على الفرقة التي لم يكن فيها واحد، من هؤلاء الخلفاء، وسكت عن قول علي. فمن أصحابنا من قال: إنما سكت عن قول علي، لأنه ذكر الأكثر فاكتفي به عن ذكر الأقل، ويجوز أن يذكر معظم الشيء، ويكون ذلك قائمًا مقام الكل. كما قال تعالى: (فك رقبة) الآية. والرقبة: اسم لعضو مخصوص، ثم عبر بها عن الكل. وكما روى أنه عليه السلام قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تختلفوا عليه. الحديث، ولم يذكر جميع أفعال الصلاة كذا ها هنا.

وجواب آخر: نقول: إنما سكت عن قول علي رضي الله عنه، لأنه يزن إلى الشيعة والتشيع فينفي التهمة عن نفسه حتى لا تأثم الناس بسببه والدليل على هذا قوله رحمة الله عليه: إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي ومقدمة هذا البيت: يا راكبًا قف بالمحصب من منى .. واهتف بقاعد خيفها والناهضِ سحرا إذا فاض الحجيج إلى مني ... فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي والجواب الثالث: إنما ذكر قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم، على وجه الاحتجاج، لأن قول هؤلاء صدر عن إجماع المسلمين، فإن المسلمين كانوا مجتمعين في الآراء والهمم، وكانوا متفقين على كلمة واحدة، فالاحتجاج إنما وقع بكثرة المسلمين الذين وافقوهم. وأما قول علي رضي الله عنه لم يصدر عن جماعة المسلمين، لأنه لما آل الأمر إليه خرج من دار الهجرة إلى الكوفة، وخالفوه، ونابذوه، وقاتله أكثرهم، فلم يصدر قوله عن جماعة المسلمين، فلم يقع الاحتجاج بقوله لهذا المعنى، لا لأنه لم يكن من الخفاء الراشدين. فإذا الترجيح بماذا يقع.؟

إن قلنا: الترجيح يقع بقول الخليفة، فقول علي يكون حجة كقول أبي بكر، وعمر. وإن قلنا: الترجيح يقع بكثرة الجماعة من المسلمين، فلا يقع الترجيح بقول علي، فلو كان في إحدي الفرقتين أبو بكر، والأخرى عمر، تقدم الطائفة التي فيهم ابو بكر على عمر، ثم عمر على عثمان ثم عثمان على علي، على الترتيب الذي كانوا في الاستخلاف فإن كان في إحدى الفرقتين خليفة، وفي الأخرى كثرة. قال رضي الله عنه في الدرس العام، قول الخليفة يقدم على الكثرة، وقد قال في الدرس: التلخيص فيه وجهان. هذا كله في قول الصحابي. فأما الكلام في قول التابعين، فيجب أن تعلم أن إجماع كل عصر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة يكون حجة مقطوعًا بها على مذهب عامة العلماء. وقال بعض الناس/ إجماع الصحابة يكون حجة، وأما إجماع غيرهم لا يكون حجة، لأن لهم فضيلة المشاهدة للوحي، وفضيلة مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه) الآية. وهذا لا يصح لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية. مدح هذه الأمة بهذا، فلو كان بهم مخالفة لما أخفوا ذلك الشيء الذي يخالف النص، ويدل عليه قوله عليه السلام: إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة.

وما روينا من الأخبار قبل ذلك. هذا دليل على صحة ما قلناه، فأما التابعي إذا قال قولاً، وانتشر فيما بينهم، وانقرضوا وماتوا على ذلك، هل ذلك حجة كالصحابي أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون حجة كقول الصحابي. والثاني: لا يكون حجة. فأما التابعي إذا قال قولاً، ولم يكن معه قياس خفي، فالمذهب: أن القياس الجلي مقدم على قوله بخلاف الصحابي، والله أعلم بالصواب.

بسم الله الرحمن الرحيم مختصر المزني قال حدثنا الحسن بن محمد بن يزيد، قال حدثنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، قال: الحسن بن محمد بن عاصم قال المزني: اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق.

باب الطهارة

باب الطهارة قال الشافعي: قال الله عز وجل: (وأنزلنا من السماء ماء طهورًا). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته. قال رضي الله عنه: فإن قيل: فلم قال: باب الطهارة، ثم اشتغل بذكر أحكام المياه؟ قلنا: قال الشافعي: رحمه الله في جامع الكبير، باب الماء الذي يتطهر به أو نقول معناه أن الشافعي ذكر الكتاب على ترتيب حسن، فإنه اشتغل بذكر الطهارة، ثم بالصلاة وبالزكاة، كما قال عليه السلام: بني الإسلام على خمس، الحديث.

ولأنه لما افترض على المسلم الصلاة أولاً، فالصلاة لا تصح إلا بالطهارة، والطهارة لا تصح إلا بالماء، فلهذا اشتغل بذكر أحكام المياه. وكما قال الرسول عليه السلام: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم. فإن قيل: فلم أسند المزني كتاب الله تعالى إلى الشافعي فقال: قال الشافعي: قال الله تعالى: وأنزلنا من السماء ماء طهورًا. الاية. وكتاب الله تعالى، أشهر من أن يسند إلى أحد؟ قلنا إنما فعل ذلك، لأن الشافعي رحمه الله كانت عادته أنه إذا اراد أن يصدر بابًا، فإن كان في ذلك الباب آية تلاها، وإن كان هناك سنة رواها، وإن كان أثر حكاه، ثم رتب عليه مسائل الباب. فلهذا المعنى فعل ذلك حتى يعلم أن الشافعي هو المحتج بالآية لا هو. فإن قيل: فلم قال وأنزلنا، وهذا لفظ الجمع، والله تعالى واحد لا شريك له. قلنا إنما ذكر ذلك، لأن عادة الملوك والجبابرة أنهم يقولون، فعلنا كذا وصنعنا كذا والله تعالى أجبر الجبابرة والجبروت، والعظمة لا تكون على الحقيقة إلا لله تعالى.

قال: (من السماء)، والسماء: اسم لواحد من السموات السبع. قال الله تعالى: (سبع سموات طباقًا) وقال: (خلق السموات). وقيل: غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، والسماء اسم للسحاب، والسماء: اسم للمطر، واحدها سماء، كما قال الشاعر: فلو سقط السماء بأرض قوم ... رعيناها وإن كانوا غضابا والسماء: اسم للسقف. {ماء طهورًا}، اختلفوا فيه: قال (مالك) الطهور: الماء الذي يتكرر منه التطهير، كما يقال: صبور وشكور، وقبول للذي يقبل كثيرًا، ويصبر كثيرًا، ويشكر كثيرًا. ولهذا قال: الماء المستعمل يكون طهورا، وهذا قول قديم للشافعي. وعلى أصل أبي حنيفة الطهور، اسم للطاهر، وعدي هذا إلى جميع الطاهرات فقال كل مائع طاهر يجوز إزالة النجاسة به. وقال: إنه سمي طهورًا، لأنه اسم للمبالغة في الطهارة، كما قال الله تعالى: (وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا) الآية. وعلى أصل (الشافعي) رحمه الله: الطهور، ماء هو طاهر في نفسه، مطهر لغيره، ومنهم من قال: الطهور: اسم لما يتطهر به، كما يقال: سحور، وفطور،

فإن هذا اسم لما يتسحر به، ويفطر به، ويدل على صحة قولنا: قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) الآية. فالله تعالى سمي الماء مطهرًا. وروى أنه قال عليه السلام: (جعلت لي الأرض مسجدًا وترابها لي طهورًا) يعني: مطهرًا. فصل روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) الحديث. قال: ماء البحر يكون مطهرًا عند عامة العلماء.

وحكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [في] البحر نار ثم نار بحر ثم نار حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنور. وروى عن ابن عمر أنه قال: التيمم أعجب إلى من التوضؤ بماء البحر. والدليل على أن ماء البحر يكون طهورًا قوله تعالى (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) الآية. وقال سبحانه: (فأسكناه في الأرض) الآية. وقال تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) الآية، وقال في قصة نوح عليه عليه السلام: (يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء أقلعي). وقيل: إن الأرض بلعت ماءها، وبقي ماء السماء. فقيل: بقية ماء البحر هو الماء الذي أنزل من السماء، والدليل عليه ما روى أن جماعة من الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نركب أرماثًا لنا في البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر، فقال عليه السلام، (البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

الأرماث: جمع الرمث، وهو خشبات يربط بعضها ببعض، فيركب عليها في البحر، والرمث: الخشب الذي توقد به النار. وأما حديث عبد الله بن عمرو، إنما قال ذلك لهوله ولصعوبته. والدليل عليه أنه قال عليه السلام: (من ركب البحر فقد برئت منه الذمة). وقال الله تعالى في قصة المشركين: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) الآية. فأما ركوب البحر، إن كان الغالب منه السلامة والأمن فيجوز ركوب البحر، وإن كان الغالب منه الغرق والهلاك، فلا يجوز ذلك. وأما حديث عبد الله بن عمر معناه، لأن أسافر برًا، وأعوزني الماء وأتيمم أحب إلي من أن أسافر بحرًا، وأتوضأ بماء البحر لصعوبته. فإن قيل: لماذا قال: هو الطهور ماؤه، وما هذا التطويل؟ ويمكنه أن يقول: نعم؟ قلنا: إنما قال ذلك، لأنه صاحب الشرع له أن يبين الأشياء، لقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس) الآية. ولأنه إنما قال ذلك حتى لا يظن ظان أنه إذا كان معه ماء البئر لا يجوز التوضؤ بماء البحر.

فصل في [لحوم حيوانات البحر]

فإن قيل: لماذا أجاب عنه وعن غير؟ قلنا: لأنه بعث مبينا للخلق ما يحتاجون إليه، لا يجوز له تأخير البيان، عن وقت الحاجة، ولأنه لما علم جهلهم بأن ماء البحر يكون طهورًا مع ما قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورًا). فعلم أن جهلهم عن حيوانات البحر، مع قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتتة) يكون أكثر، فلهذا بين حكم ذلك، أو نقول: هذا بيان حكم البحر. أيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، بين أن حيوانات البحر تكون حلالا، ولو ماتت في الماء، لا يفسد الماء بذلك. فصل في [لحوم حيوانات البحر] في لحوم حيوانات البحر. الحيوان على ثلاثة أقسام: ما لا يعيش في الماء إلا عيش المذبوح، فإذا وقع في الماء، فإنه يكون حرامًا، إلاالجرادة. وما لا يعيش إلا في البحر، ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح.

منهم من قال: يحل الكل. ومنهم من قال: لا يحل إلا السمك المتعارف فيما بين الناس. ومنهم من قال: ما كان يشبه حيوانًا في البر، فإن كان ذلك الجنس من حيوانات البر يكون حلالاً، فإن ذلك يكون حلالا لو مات في الماء، وعلى عكسه عكسه. وإذا قلنا: لا يحل إلا السمك فما يشبه حيوانات البر الذي يكون مأكولاً، فإذا ذبح ذلك الجنس من البحر يكون حلالاً، ولو مات لا يكون حلالاً، قد ذكرنا هذه المسألة في موضعها. وما يعيش فيهما جميعًا لا يحل إلا السرطان على طريقة الحليمي. قال القاضي رحمه الله: ولكن لابد أن يذبح حتى يحل. وأما دم الحوت قالوا في دمه وروثه: هل يكون طاهرًا أم لا؟ فيه وجهان: ولو ذبح هل يحل أم لا؟ فيه وجهان. وابتلاع صغار الحي منه، هل يحلُّ أم لا؟ فيه وجهان: سواء كان طافيًا أو رأسه في الماء يكون حلالاً. وقال (أبو حنيفة): السمك الطافي يكون حرامًا. قالوا: ما علم أنه مات بسبب يكون حلالاً، وما علم أنه مات من غير سبب لا يخل، واستدل بقوله عليه السلام: «ما انحسر عنه البحر فكلوه، وما طفا على الماء فلا تأكلوه ...» الحديث.

قلنا: إنما قال ذلك استقذارًا وعيافة، بدليل ما روي أن أبا أيوب، أكل سمكًا طافيًا. فصل قال الشافعي: فكل ماء من بحر عذب أو مالح أو بئر أو سماء أو برد أو ثلج مسخن وغير مسخن فسواء، والتطهر به جائز، ولا أكره [الماء] المشمس، إلا من جهة الطب، لكراهية عمر لذلك، وقوله: إنه يورث البرص. قال رضي الله عنه: كل ما يكون طهورًا يجوز التوضؤ به سواء كان عذبًا أو مالحًا. فإن قيل: قال الله تعالى {ملج أجاج} الآية. فلم قال (الشافعي): (ملح)؟ قلنا: إنما قال (الشافعي): (أو أجاج). والخلل إنما وقع من جهة (المزني)، ثم نقول: يجوز أن يقال: مالح،

كما قال (خالد بن يزيد بن معاوية) يمدح امرأة: تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا فلو أنها للمشركين تعرضت ... إذن لدعوها دون أصنامهم ربا فلو تفلت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا قوله: (أو سماء) قال القاضي حسين: ماء السماء يجوز التوضأ به. قوله: (أو بئر) قال القاضي حسين: ماء البئر يجوز التوضؤ به. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر كان ماؤها نقاعة الحناء. (أو برد) قال القاضي حسين: ماء البرد أو الثلج يجوز التوضؤ به إذا أذيبا.

فأما استعمال الثلج والبرد ينظر، فإن كان في وقت شدة الجو، بحيث إنه لو أصاب العضو يذوب، يجوز استعماله، ويصح التوضؤ به، وإن كان لو أصاب العضو لا يذوب، لا يجوز التوضؤ به، فيحصل المسح بذلك، ولا يخصل الغسل. وقال الشافعي: أو ثلج أذيب والمزني أخل في النقل قوله: (مسخن). الماء المسخن يجوز التوضؤ به، لأنه ينفع البدن. وأما الماء المشمس، يجوز التوضوء به. قال الشافعي: (ولا أكره الماء المشمس) وقد كرهه كاره من جهة الطب، لأن الشيء لا يقال، يكره في الشريعة من جهة الطب. والدليل على هذا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دخل على عائشة، رضي الله عنها، وقد شمست الماء، فقال لها: (يا حميراء لا تفعلي هذا؛ فإنه يورث البرص).

وروى (لا تشمسي الماء فإنه يورث البرص ...) الحديث وروى عن عمر (أنه يكره ذلك). قال أصحابنا: إنما يكره التوضؤ بالماء المشمس إذا كان في البلاد الحارة في الصيف الصائف في الأواني الصفرية، ويكون مغطى الرأس، لأن قوة الماء تستخرج منه أشياء، وتقف على رأس الماء كالهباء المنثور، فيكون ذلك يؤدي إلى البرص. فأما في البلاد الباردة في الأواني الصفرية غير مغطي الرأس لا يكره.

فصل: في الطب

فصل: في الطب واعلم أن الطب يكون حقًا، والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما خلق الله داءً إلا خلق له دواء إلا السام. وروى أنه قال عليه السلام: (خير ما تداويتم به الحجامة والمشي). يعني: شرب شيء يمشي بطنه أي: يسهله. وروى أنه قال عليه السلام: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر). (لا عدوى): يعني، لا تتعدي العلة من شخص إلى شخص، وقد يتعدي إلى العضو من العضو.

وكذلك يتعدى البرص، والجذام من النسل إلى النسل. وروى أن رجلا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بعيرًا جربًا دخل على إبلي، فأجرب إبلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أجرب الأول). (ولا هامة): الهامة: الطير الذي يكون في الخربة، ويصيح في الليل، وكانوا يتشائمون بذلك، فقال عليه السلام: (ولا هامة). يعني: لا تتشائموا به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم: يجب الفأل الحسن، ويكره الطيرة. (ولا صفر): منهم من قال: لا تتشائموا بدخول صفر. ومنهم من قال: صفر: دويبة تقع في المعدة، وتهيج الجوع، والجوع يحصل من خواء المعدة. والله تعالى، يهيج الجوع في المعدة على الحقيقة. فصل وما عدا ذلك من ماء ورد أو شجر أو عرق ماء أو زعفران أو عصفر أو نبيذ أو ماء بل فيه خبز، أو غير ذلك، مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق، حتى يضاف إلى ما خالطه أو خرج منه، فلا يجوز التطهير به. قال القاضي حسين: جعل الماء ثلاثة أقسام: قسم: يجوز التوضؤ به بلا كراهية، كماء البحر وماء السماء، وأشباههما.

وقسم: يجوز التوضؤ به، ولكن يكره مثل الماء المشمس. وقسم: لا يجوز التوضؤ به؛ كهذه الأقسام التي نذكرها. أما الماء إذا طرح فيه الورد، وكان يسيرًا بحيث لا يغير طعم الماء، ولا لونه، ولا ريحه فلا يضر، وإن كان متفتتا، ويتغير الماء به لم يجز، وما الشجر الذي عصر من العروق، ويخرج منه الماء، فلا يجوز التوضؤ به. فأما إذا صب ماء الورد في الماء، ينظر إن كان قدرًا لو كان له لون يظهر لونه في الماء، لا يجوز التوضؤ به. وإن كان لو كان له لون لا يظهر، يجوز التوضؤ به، وهكذا نقول في الماء، المستعمل إذا صب في الماء المطلق. قوله: (أو عرق) وقريء: (أو عرق) بالكسر. قال القاضي حسين: فأما العرق فلا يجوز التوضؤ به. ويتصور أن يحصل العرق كثيرًا، كما في الحجيج في وقت الموسم، فغنهم يدخلون بيت الله الحرام، ويسيل منهم العرق كثيرًا، وكذلك الدابة إذا عدت يسيل منها العرق كثيرًا. وأما العرق: ماء الكرش لا يجوز التوضؤ منه قال الشافعي: في المبسوط، من نحر جزورًا، وأخذ كرشه، واعتصر منه ماء لم يكن طهورًا، وذلك في العرب العرباء أنهم كانوا إذا أرادوا التلصص

فإنهم يعطشون الإبل، ثم يوردونها الماء ويروونها، ويسدون فمها ومبالها، فإذا احتاجوا إلى الماء، فإنهم يفتحون عرقا على جانب اليسار يخرج منه الماء الصافي، ويشربون، وهذا الماء لا يجوز شربه إلا عند الضرورة. قوله: (وما الزعفران): قال القاضي حسين: أما ماء الزعفران لا يجوز التوضؤ به، ثم ينظر، فإن كان الزعفران يسيرًا، بحيث إنه لا يتغير الماء به، فيجوز التوضؤ به، فأما إذا تغير الماء به، إما طعمه أو لونه أو ريحه لا يجوز التوضؤ به. وقال أبو حنيفة: يجوز التوضؤ به ما دام رقته باقية، ويجري على أعضائه ولم يكن عن أبي حنيفة نص في هذا، ولكن حكى عن أبي يوسف هذا. ولا يجوز التوضؤ بالعصفر إذا استخرج منه الماء، أو يكون العصفر طرح في الماء حتى يتغير الماء بذلك. ولا يجوز التوضؤ بالنبيذ مسكرًا كان أو غير مسكر، وسواء كان متخذًا من التمر أو غيره. وقال الأوزاعي: يجوز التوضؤ بجميع الأنبذة.

وقال: أبو يوسف: لا يجوز التوضء بنيذ التمر. وعن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات: في رواية: يجمع بين التوضؤ بنبيذ التمر، وبين التيمم روى نوح بن مريم، هذا عنه. ورواية أخرى: لا يجوز التوضؤ بنيذ الخمر، وهذا روايه أبي يوسف. والرواية المشهور في الكتاب رواية محمد بن الحسن. أنه يجوز التوضؤ بنبيذ التمر، ولا يجمع بين التيمم، وبين ذلك. وقالوا: إنما يجوز التوضؤ بنبيذ التمر، دون سائر الأنبذة، وإنما يجوز إذا لم يكن مسكرا، فأما إذا كان مسكرا لا يجوز التوضؤ به، وإنما يجوز إذا كان مطبوخا لا نيئا، وإنما يجوز إذا كان مسافرا عادمًا للماء هكذا. وحكي عن المتأخرين منهم، قال: يجوز التوضؤ به إذا كان على حوالي البلد وقال أيضا: إذا كان نيئا يجوز التوضوء به.

قلنا: المسألة مبنية على أن النبيذ يكون نجسًا بدليل ما روي عن (عمر) وابن عمر، أنهما قالا: النبيذ يكون نجسًا. قوله: (أو ماء بُلَّ فيه خبز). قال القاضي حسين: أما الماء الذي بل فيه الخبز، ينظر إن كان الخبز يسيرًا طرح فيه، يجوز التوضؤ به، وإن كان كثيرًا بحيث يغير طعمه أو لونه أو ريحه، لا يجوز التوضؤ به. وكذلك الدقيق لو طرح في الماء ينظر، فإن كان الماء صافيًا يجوز التوضؤ به. وإن كان الماء كدرًا لا يجوز التوضؤ به. وكذلك لو طرح الرَّقادُ أو النُّخالة في القمقمة. فإن كان الماء صافيًا يجوز التوضؤ فيه، وإن كان الماء كدرًا لا يجوز التوضؤ به، فأمَّا إذا كان أسفل الماء كدرًا، وأعلاه صافيًا يجوز التوضؤ بالماء الصافي دون الكدر. قوله: «أو غير مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق حتى يضاف إلى ما خالطه، فلا يجوز التوضؤ به». قال القاضي حسين: معناه كل ما يضاف إلى ما استخرج منه، أو يضاف إلى ما خالطه، فلا يجوز التوضؤ به.

وقال الشافعي: كل ماء خلق الله تعالى على هيئته لم تدخله صنعة آدمي، يجوز التوضؤ به. فأما الماء الذي يكون متغيرًا بالتراب من منبعه، لا خلاف أنه يجوز التوضؤ به، لأنه لا يمكن صون الماء عنه غالبًا. وكذلك إن تغير بأن ينبت فيه طحلب يجوز التوضؤ به. هذا كله إذا كان الماء صافيًا أو كدرًا، ولكن يجري الماء على أعضاء الطهارة. فأما إذا كان ثخينًا، بحيث إنه لا يجري على أعضائه لا يجوز التوضؤ به. فأما إذا ألقي التراب في الماء، وتغير الماء به. هل يجوز التوضؤ به أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز التوضؤ به، لأنه يمكن صون الماء عنه غالبًا. والثاني: يجوز ذلك. فأما الماء إذا جرى على حجر النورة، والزرنيخ، وكان متغيرًا يجوز التوضؤ به. وكذلك لو كان الماء متغير لطول المكث في مقره، يجوز التوضؤ به، لأن الماء لابد له من مكان يستقر فيه.

فأما إذا ألقى النورة والزرنيخ في الماء، وتغير الماء، ينظر فإن كانت النورة طبخت ثم طرحت في الماء، وتغير الماء به، لا يجوز التوضؤ به بلا خلاف. فأما إذا لم يكن مطبوخًا ترتب على المسألة الأولى، وهو تغير الماء بالتراب الذي ألقي فيه، وها هنا أولى ألا يجوز التوضؤ به، والفرق أن التراب يكون طهورًا بخلاف النورة. وهكذا نقول في الماء الذي خرج من معدن الطيب، وكان الماء أسود أو أحمر، يجوز التوضؤ به. فأما إذا ألقي الكافور في الماء وتغير الماء به، فإن كان لا ينماع في الماء، يجوز التوضؤ به، وإن تغير الماء به، لأن ذلك تغير مجاورة، لا تغير مخالطة، كما لو تغير الماء بأن تطرح جيفة على شط نهر، وتروح الماء به، يجوز التوضؤ به، فأما إذا كان الكافور يتفتت في الماء، فإن تغير الماء به لا يجوز التوضؤ به، فأما القطران على نوعين: نوع ينماع في الماء، ويتغير الماء به، فلا يجوز التوضؤ به، وإن كان لا ينماع في الماء بحيث أن فيه دسومة تعلو الماء ولا تمازجه، يجوز التوضؤ به. فأما إذا طرح فيه الملح، وتغير الماء به. قال صاحب (التلخيص): إن كان الملح مائيًا، يجوز الوضؤ به، وإن كان جبليًا لا يجوز التوضؤ به.

وقال الشيخ القفال: لا يجوز التوضؤ به. فأما ماء الملاحة، هل يجوز التوضؤ به أم لا؟ قال صاب التلخيص: يجوز التوضؤ به. وقال الشيخ القفال، لا يجوز؛ لأن هذا لا يكون ماء، بل يكون عينًا، خلق الله تعالى، فيها منفعة للخلق، وليس كالماء بدليل أن طبعه يخالف الماء، لأن الماء يتجمد في الشتاء، ويذوب في الصيف، وأما ماء الملاحة يذوب في الشتاء، ويتجمد في الصيف، فلهذا فرقنا بينهما. فأما إذا تغير بأوراق الأشجار، فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجوز التوضؤ به، لأنه لا يمكن صون الماء عنه غالبًا كالتراب. والثاني: لا يجوز التوضؤ به، لأنه يمكن صون الماء عنه غالبًا بخلاف التراب. والثالث: أنه يفصل، فإذا كان خريفيا، يجوز التوضؤ به، وإذا كان ربيعيا لا يجوز التوضؤ به، لأن له رطوبة تمازج الماء، بخلاف ما إذا كان خريفيا، فلو وقعت الثمار في الماء، وتغير الماء، لأجل ذلك لا يجوز التوضؤ به قولا واحدًا، لأنه يمكن صون الماء عن الثمار غالبًا.

فصل: الما ماءان

وقل ما يوجد أن تكون الأشجار المثمرة مغروسة على حافات الأنهار. فصل: الما ماءان: ماء طاهر، وماء نجس. أما الماء النجس، لا يجوز التوضؤ به كيف ما كان، وأما الماء الطاهر على قسمين: ماء مطلق، وماء مضاف. أما الماء المطلق: يجوز التوضؤ به. وأما الماء المضاف على أربعة أقسام: قسم يضاف إلى محله ومقره، كما يقال: ماء السماء، وماء البئر والبحر والحوض، وماء الكوز، ونحوه يجوز التوضؤ به. وقسم يضاف إلى المجاور، مثل ما تغير الماء به برائحته، ويكون ذلك التغير تغير مجاورة يجوز التوضؤ به، كما لو تغير الماء بجيفة وقعت على شرط النهر، وتروح الماء بذلك. والقسم الثالث: الماء المضاف إلى مخالط، لا إلى مجاور، مثل ماء الزعفران، وماء الدقيق، وما أشبه ذلك، وقد ذكرناه. والقسم الرابع: إذا كان ذلك التغير يكون بما يضاف إلى ما استخرج منه، مثل ماء الزعفران، وماء الورد، وماء الشجر والعرق، فلا يجوز التوضؤ به، وكل ما لا يجوز التوضؤ به، لا تجوز إزالة النجاسة به.

وقال أبو حنيفة: كل مائع طاهر يزيل العين والأثر يجوز إزالة النجاسة به إلا الدهن، واللبن. وقال المتأخرون منهم: إن كان الدهن واللبن يزيل العين والأثر، يجوز أيضا إزالة النجاسات بهما، وإلا فلا. قال (أبو يوسف): إن كانت النجاسة على البدن لا يجوز إزالتها إلا بالماء، وإن كانت على محل آخر تجوز إزالتها بجميع المائعات، كما قال (أبو حنيفة) لنا أن نقول: خروج الحدث من مخرج الحدث يقتضي طهرين: طهرا يختص بمحل حدوثه، وطهرا لا يختص بمحل حدوثه. ثم اجتمعنا على أن الطهر الذي لا يختص بمحل حدوثه، وهو الطهارة الحكمية تختص بالماء، فهذا أولى، لأن هذا نجاسة عينية، وتلك حكمية، وحكم النجاسة العينية أقوي من الحكمية، لأن هذه عين، وتلك حكم. وايضا الماء المزال به النجاسة يكون نجسًا بالاتفاق، والماء المزال به الحدث لا يكون نجسًا بالإجماع. وأيضا لو تيمم لأجل النجاسة يجب عليه قضاء الصلاة. ولو تيمم لأجل عدم الماء لا يجب عليه قضاء الصلاة. وكذلك لو كان معه من الماء ما يكفي لطهارته، وكان على بدنه نجاسة، ويكفي أيضا ذلك الماء لإزالتها، فإنه يستعمل الماء في إزالتها، ويتيمم. كذلك الشرع ورد في الطهارة الحكمية بالمسح، ولم يرد بمثله في العينية، أعني: عن النجاسة العينية بالمسح. وكذلك ورد الشرع في الطهارة العينية بالجمع بين طهورين، وهو ولوغ الكلب، ولم يرد الشرع في الطهارة الحكمية بالجمع بين طهورين.

وكذلك النجاسة العينية تتعدي من البدن إلى غير البدن وأما النجاسة الحكمية لا تتعدي من البدن إلى غير البدن. فلما كانت النجاسة العينية أقوى من النجاسة الحكمية، ثم إنا أجمعنا على أن في النجاسة الحكمية لا تجوز إزالتها إلا بالماء، فالنجاسة العينية أولى ألا تجوز إزالتها إلا بالماء، والله أعلم بالصواب.

باب الآنية

باب الآنية قال الشافعي - رحمه الله - ويتوضأ في جلود الميتة إذا دبغت، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: أيما إهاب دبغ فقد طهر. قال رضي الله عنه: الأواني على قسمين: قسم يتخذ من الجلود، وقسم يتخذ من غير الجلود. فأما ما يتخذ من الجلود، ينظر، فإن كان من مأكول اللحم، وكان زكيا فيكون طاهرا، إلا أن يكون متضمخا بالدم، فإن ذلك يكون نجسًا، فيجب غسله، وإن كان ميتًا فإن الجلد ينجس بالموت على مذهب عامة العلماء، وقال الزهري: الجلد لا ينجس بالموت.

لنا ما روي أنه عليه السلام مر بشاة ميتة لميمونة، ملقاة على مزبلة، فقال هلا أخذتم إهابها فنتفعتم بها؟ فقالوا يا رسول الله، إنها ميتة، فقال عليه السلام: دباغها طهورها، وروي أنه قال: إنما يحرم من الميتة أكلها. ويدل عليه قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة. قالوا: لو كان ينجس بالموت لما يطهر بالدباغ كاللحم. قلنا: إنما يطهر بالدباغ ما كان يؤثر فيه الدباغ. والدباغ إنما يؤثر في الجلد دون اللحم. وقال أحمد بن حنبل: جلد الميتة لا يطهر بالدباغ.

دليلنا ما روينا من حديث شاة ميمونة، وبقوله عليه السلام: أيما إهاب دبغ فقد طهر. والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب حتى لا يختص بمأكول اللحم لا غير، وقال أبو ثور والأوزاعي: إن كان جلد حيوان مأكول اللح يطهر بالدباغ إذا مات، وإن كان غير مأكول اللحم، فلا يطهر جلده بالدباغ إذا مات. دليلنا: الخبر الذي روينا، ولأنه جلد ميتة يكون طاهرًا في حالة الحياة، فوجب أن يطهر بالدباغ. دليلة: جلد ما يؤكل لحمه. وهذا؛ لأن الدباغ يرد الجلد إلى حاله الأولى، وفي الابتداء الجلد يكون طاهرًا كيف ما كان، كذا بعد الدباغ وجب أن يكون مثله. فالواحد مطهري الجلد، فوجب أن يؤثر في مأكول اللحم لا غير، كالزكاة.

مسألة

قلنا: الدباغ أقوي في التطهير من الزكاة، لأن الزكاة تمنع حلول النجاسة، والدباغ يرفع النجاسة اللازمة فيه، والرافع يكون أقوى من المانع، كالعدة مع الردة والرضاع، فإن الردة والرضاع أقوي من العدة. وقال مالك يطهر الجلد ظاهرًا، ولا يطهر باطنًا، لأن العفص الذي ينثر عليه إنما يؤثر في الظاهر دون الباطن. وهذا لا يصح، لأن الدباغ يؤثر في الظاهر والباطن جميعًا، بدليل أنه يستخرج منه الفضول التي في باطنه، ويصيره إلى حالة لو أصابه الماء لا يفسده. مسألة قال الشافعي: وكذلك جلود ما لا يؤكل لحمه من السباع، إذا دبغت إلا جلد كلب أو خنزير، لأنهما نجسان وهما حيان. وقال أبو حنيفة: جلد الكلب يطهر بالدباغ. وجلد الخنزير لهم فيه ثلاث روايات: في رواية قالوا: لا جلد له يتسلخ. وفي رواية قالوا: يطهر بالدباغ. وفي رواية قالوا: لا يطهر بالدباغ. ونحن ندل على أصل وهو: أن الكلب نجس العين، بدليل حديث أبي قتادة، كنت أسكب الوضوء ... الخبر.

مسألة

مسألة قال الشافعي: وإنما يدبغ الجلد بما تدبغ به العرب، والعرب إنما تدبغ بالقرظ والشب، وكذلك كل ما كان في معناه، مثل: العفص المسحوق وقشور الرمان، والبروق. فيحصل الدباغ بذلك، ولا يختص بما تدبغ به العرب، كما في الاستنجاء.

قوله: ويتوضأ في جلود الميتة إذا دبغت. قال رضي الله عنه: اعترض على الشافعي، فإنه ذكر جميع الجلود في أول الباب، ثم قال: وكذلك جلد ما لا يؤكل لحمه، ولا يحسن أن يعطف البعض على الجملة، وإنما يعطف على البعض. قلنا: الشافعي: رحمه الله، إنما عطف هذا على معنى الخبر، وذلك أن الخبر إنما ورد في شاة ميمونة، فأراد أن يبين أن جميع الجلود تطهر بالدباغ حتى لا يظن ظان أن كل جلد لا يؤكل لحمه لا يطهر بالدباغ، خلافاً لما قال أبو ثور والأوزاعي، فقال الشافعي، كل جلد حيوان يدبغ فيطهر ذلك الجلد بالدباغ، إلا جلد الكلب والخنزير، فإن الكلب والخنزير نجسان في حال الحياة، والدباغ إنما يرد الجلد إل حاله الأولى. قال الشافعي: ولا يطهر بالدباغ إلا الإهاب وحده، ولو كان الصوف والشعر والريش لا يموت بموت ذوات الروح، أو كان يطهر بالدباغ، كان ذلك في قرن الميتة وسنها، وجاز في عظمها، لأنه قبل الدباغ وبعده سواء. قال القاضي حسين: إنما يطهر بالدباغ الإهاب وحده، فأما الشعر والظفر والسن لا يطهر بالدباغ. وفي رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، أن الشعر فيه الروح والحياة، ويموت بموت ذات الروح. وقال الشيخ أحمد البيهقي: قال الشافعي في الجامع: إن الشعر لا روح فيه.

وقال في كتاب الديات: إن الشعر لا روح فيه. وحكي إبراهيم البلدي، عن المزني أن الشافعي رجع عن تنجس شعر بني آدم. وفي رواية: رجع عن تنجس الشعور، فقد حصل فيها قولان فعلى القول الجديد: إن الشعر فيه الروح، يموت بموت ذات الروح، وينجس بالموت، ولا يطهر بالدباغ، وكذلك الظفر والسن والقرن. والقول الثاني: إن الشعر لا روح فيه، فعلى هذا جميع الشعور يكون طاهرا، لا روح فيها، سواء أخذ منه في حال الحياة، أو بعد الوفاة إلا شعر الكلب والخنزير، فإذا قلنا بقول الجديد: إن الشعر فيه الحياة.

فعلى هذا لا يخلو، إما أن يكون الحيوان مأكول اللحم، أو لا يكون مأكول اللحم. فإن كان مأكول اللحم، فإذا جز شعره في حال الحياة يكون طاهرًا، وكذلك لو أخذ منه بعد الذكاة يكون طاهرًا، وأما ما نتف منه في حال الحياة، فهل يكون طاهرًا أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون طاهرًا، وهو الأصح، كما لو أخذ منه على وجه الجز. والثاني: لا يكون طاهرًأ، لأنه لم يؤخذ منه بطريقة والنتف يكون كالوقذ والجز يكون كالذبح. فأما ما انتتف بنفسه، فإنه يكون طاهرًا. فأما الريش، ينظر إن قلع الجناح، وعليه ريش، فإن ذلك يكون نجسًا، وإن أخذ منه على وجه النتف، هل يكون طاهرًا أم لا؟ ينظر، إن كان على رأس الجناح قطعة لحم أو دم، فإنه يغسل، ويكون طاهرًا وإن لم يكن عليه دم ولا لحم، وكان عليه بلة، فإنه يكون طاهرًا، لأن تلك البلة تكون كالعرق، والعرق يكون طاهرًا. فأما شعر ما لا يؤكل لحمه، هل يكون طاهرًا أم لا؟ لا خلاف على قوله الجديد: إنه لا يكون طاهرًا، سواء أخذ منه في حال الحياة، أو بعد الممات، ولا خلاف أنه ما دام متصلا بالحيوان يكون طاهرًا، حتى لو أصاب ثوب إنسان، لا ينجس ثوبه، كعرقه سواء، فأما إذا ركب حمارًا

وانتتف شعر منه، والتصق بثيابه، لا تجوز الصلاة معه إلا أن يكون يسيرًا، فيكون معفوًا. قال رضي الله عنه: عندي أنه إن أخذ منه في حال الحياة، وجز منه، فها هنا فيه شيء، لأن عرقه يكون طاهرًا، ولكن المذهب ألا يكون طاهرًا. فأما الظفر والسن والقرن، لا خلاف أن فيه الحياة، ولا يجوز الانتفاع به إذا مات بخلاف الشعر. والفرق بينهما أن الظفر لا يكون مخلفا، والشعر يكون مخلفا. وكذلك الظفر لا يمكن الانتفاع به غالبًا، بخلاف الشعر. قال الله تعالى: (وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين) الآية. وسواء أخذ منه السن أو الظفر في حال الحياة، أو سقط منه في حال الحياة، فإنه يكون نجسًا. وكذلك القرن الذي يسقط عنه في حال الحياة، لا يكون طاهرًا، فأما شعر بني آدم، هل يكون طاهرًا أم لا؟ فيه وجهان: بناء على أصل. وذلك أن الآدمي إذا مات، هل ينجس بدنه بالموت أم لا؟ فيه قولان: فإذا قلنا ينجس بدنه بالموت، فشعره يكون نجسًا. وإذا قلنا: إنه لا ينجس بالموت، شعره يكون طاهرًا في حال الحياة. فأما شعر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يرتب على شعر الأمة.

إن قلنا: إن شعر سائر الخلق يكون طاهرًا، فشعر النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وإلا فوجهان: والأصح أن ذلك يكون طاهرًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم شعره بين أصحابه. وأصحابنا ذكروا وجهين في بوله ودمه، هل هو طاهر أو نجس؟ فعلى وجهين.

وقال أبو حنيفة، الشعر لا روح فيه، ولا ينجس بالموت، وهكذا يقول في الظفر والسن والقرن. فرع لو نتف ريش طائر مأكول اللحم، واتخذ منه منشفة، يكون طاهرًا على ظاهر المذهب. فصل الجلود الميتة إذا دبغت، وكان عليها شعور، فعلى مذهبه الصحيح، ورواية المزني والمرادي: أنه لا يطهر بالدباغ. وحكي الربيع بن سليمان الجيزي، قولا آخر عن الشافعي. أن الشعر يكون تابعًا للجلد، يطهر بطهارته، وينجس بنجاسته، فعلى هذا القول شعر الثعلب إذا مات، ودبغ جلده يكون طاهرًا، وكذلك شعر الهرة الإنسي، فاما الهرة الوحشي، لو قلنا: يحل أكله فيكون طاهرًا. وإن قلنا: لا يحل أكلهن فحكمه حكم الإنسي.

فصل في الدباغ

فصل في الدباغ قال الشافعي رحمه الله: إنما يدبغ بما تدبغ به العرب: القرظ والشب، وكذلك ما يقوم مقامه يحصل به الدباغ. قال الشافعي: وأقل الدباغ أن ينشف فضوله، وذهب رسومته وزهومته، ويطيب رائحته، ويصيره إلى حاله لو أصابه المائع لا ينتن. فأما بالتتريب والشمس لا يحصل الدباغ. وقال أبو حنيفة: يطهر بها الجلد. فأما إذا دبغ الجلد: فعلى قوله الجديد يكون طاهرًا ظاهره وباطنه، وعلى قوله القديم إنما يطهر ظاهرًا ولا يطهر باطنًا، فعلى قوله الجديد يجوز معه، وتجوز الصلاة عليه ومعه، ويجوز أكله إن كان جلد حيوان مأكول اللحم، وإن كان جلد حيوان غير مأكول اللحم، لا يجوز أكله، وعلى قوله القديم، لا يجوز أكله،

ولا تجوز الصلاة معه، ولا يجوز بيعه، ولا استعماله في الأشياء الرطبة، وهل يحتاج إلى غسله أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى لأنه إذا أصابه ما يدبغ به صار نجسًا. والثاني: لا بل انقلب الكل طاهرًا، كما نقول في العصير إذا صار خمرًا، ثم صار خلا، فإن أجزاء الدن تطهر بانقلاب الخل خمرًا، كذلك ها هنا. وأما الفتات الذي يتناثر منه، هل يكون ظاهرًا أم لا؟ فيه وجهان، كما ذكرنا. فإما إذا دبغ بماء نجس، أو بدواء نجس، هل يندبغ أم لا؟ فيه وجهان: فإن قلنا يندبغ فيجب غسله قولاً وحدًا. قال الشافعي رحمه الله عليه، ولو كان الصوف والشعر والريش لا يموت بموت ذات الروح، أو كان يطهر بالدباغ، كان ذلك في قرن الميتة وسنها، وجاز في عظمها؛ لأنه قبل الدباغ. قال رضي الله عنه عند مالك، رحمه الله، الظفر والقرن والسن فيه الحياة، وينجس بالموت ولا يطهر بالدباغ، وأما الشعر والصوف والريش، منهم من قال: لا روح فيه، ولا ينجس بالموت.

وتارة يقولون فيه الحياة، وكذلك يطهر بالدباغ. فتردد الشافعي في مذهبه، فألزمه بالطرفين، فقال: لو كان الصوف والشعر لا يموت بموت ذات الروح، أو كان يموت، ولكن يطهر بالدباغ يلزمك أن تقول مثل هذا في العظم والقرن، لأنه قبل الدباغ وبعده سواء. ومنهم من قال: الشافعي قصد بهذا الرد على أبي حنيفة ومالك، فقال: ولو كان الصوف والشعر والريش لا يموت بموت ذات الروح، يا أبا حنيفة أو كان يطهر بالدباغ يا مالك، كان ذلك في قرن الميتة وسنها. فأجاب عن قول مالك، ولم يجب عن قول أبي حنيفة، لأن عند أبي حنيفة حكم العظم حكم الصوف. ومنهم من قال: الجواب رجع إلى أبي حنيفة، ولكن إنما أراد أن يقيس غير المنصوص عليه على المنصوص عليه، ليكون كلامه أظهر، والله أعلم بالصواب. قال الشافعي: ولا يدهن من عظم فيل، واحتج بكراهية ابن عمر لذلك. قال القاضي حسين: وقد قريء بقراءتين: لا يدهن على وزن التفعيل. يعني: لا يمسح رأسه وبدنه بالدعن الذي كان في عظم الفيل وقريء على وزن الأفعال معناه، لا يستعمل ذلك الدهن، فينجس الموضع الذي أصابه الدهن. ولو اتخذ منه مشطًا، وسرح به لحيته، فإن كان رطبًا ينجس لحيته، وإن يابسًا، فلا ينجس لحيته ولو اتخذ منه مشطًا، وسرح به لحيته، فإن كان رطبًا ينجس لحيته، وإن كان يابسًا، فلا ينجس لحيته. وكره ابن عمر ذلك، والكراهية كراهية التحريم. قال الشافعي في موضع آخر، ولا تدهن السفن بشحوم الخنازير، وقال: ولا تصل ما انكسر بعظمه إلا بعظم ما يؤكل لحمه زكيا، فإن رفعه بعظم ميت أجبره السلطان على قلعه، وإن مات صار ميتًا كله.

هذه النصوص كلها تدل على أنه لا يجوز استعمال الشيء النجس. وقال في موضع آخر: ويستصبح بالدهن النجس. وقال في موضع آخر، ويلبس فرسه ودوابه كل جلد ما سوي الكلب والخنزير من جلد قرد وقيل وأسد، لأنه جنة للفرس، ولا يعبد على الفرس وقال في موضع آخر: ولا بأس أن يزبل الأرض بالسماد. وقال: ولا بأس أن يسجر التنور بعظام الميتة. وقال: إذا عجن بماء نجس أطعم فهوده وبراذينه ونواضحه. فقد اضطربت النصوص كما ترى. من أصحابنا من قال: في الكل قولان: أحدهما: لا يجوز استعماله؛ لا في البدن، ولا في غيره. والثاني: يجوز استعماله فيهما. وقال أبو بكر الفارسي، النجاسات على قسمين: مغلظة ومخففة. فأما المغلظة مثل نجاسة الكلب والخنزير، ولا يجوز استعماله لا في البدن ولا في غير البدن، والنص مخرج على هذا. وأما النجاسة المخففة لا يجوز استعماله في البدن، ويجوز استعماله في غير البدن. وتخرج النصوص على هذا صحيحة.

والنجاسة لا يجوز استعمالها في غير البدن، ولا في البدن إلا عند الضرورة، مثل ان يكون يخاف الهلاك من شدة الحر والبر يجوز له أن يبتدفأ بجلد الكلب والخنزير. قال الشافعي: فأما جلد كل ذي يؤكل لحمه، فلا بأس بالوضوء فيه وإن لم يدبغ. قال القاضي حسين: كل جلد يكون ذكيًا، ويؤكل لحمه يكون ذلك طاهرًا، فأما كل حيوان لا يؤكل لحمه، فلا يطهر جلده بالذكاة. وقال أبو حنيفة: كل حيوان لا يؤكل لحمه يطهر جلده بالدباغ أو بالذكاة. قال الشافعي: ولا أكره من الآنية إلا الذهب والفضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في جوفه نار جهنم، قال القاضي حسين: قريء هذا اللفظ بقراءتين: نارُ، نارَ. فإذا قريء بالرفع معناه: نار جهنم في بطنه. وإذا قرئ بالنصب معناه: يجر النار إلى جوفه، كما قال تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامي ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا) الآية. قد ذكرنا: أن الأواني على قسمين: قسم متخذ من الجلود، وقد ذكرنا الجلود. فأما ما يكون من غير الجلود، فإن ذلك يكون على قسمين:

متخذ من جوهر خسيس، ومتخذ من جوهر نفيس. فأما ما يكون متخذًا من جوهر خسيس، مثل: الخزفيات، والصفريات والنحاس، وما أشبه ذلك، فيجوز اتخاذه. فأما ما كان متخذًا من جوهر نفيس، فعلى قسمين، الدراهم والدنانير وغيرهما. فأما ما يكون متخذا من الدراهم والدنانير، فعلى قوله الجديد، يحرم استعماله وعلى قوله القديم: يكره استعماله، ولا يحرم. بدليل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الإناء الذهب والفضة، فقال إنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة، الحديث.

ووجه القول الأول ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، وبيده قطعة من الذهب، وبيده الأخرى قطعة من الحرير، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها، الحديث. ولأي معنى يجوز اتخاذه؟ فيه معنياه: أحدهما: يحرم استعماله لعين الذهب والفضة، ولما كان فيه من كسر نفس، الفقير، الذي لا يجد درهما ينفقه على نفسه، والمعنى الثاني: إنما يحرج للكبر والخيلاء، فعلى هذا لو اتخذ إناء من ذهب وموهمه بالنحاس، فهل يحرم ذلك أم لا؟ إن قلنا: إنما يحرم لعين الذهب والفضة، فها هنا يحرم اتخاذه. وإن قلنا: إنما يحرم للكبر والخيلاء، فها هنا لا يحرم، وعلى عكسه عكسه، وعلى هذا هل يجوز اتخاذه أم لا؟ فيه وجهان.

وكذلك الصائغ الذي يتخذ هذا، هل يستحق الأجرة على صنعته أم لا؟ فيه وجهان. وكذلك لو جاء إنسان وكسره، هل يجب عليه قيمة الكسر أم لا، فيه وجهان. وللشافعي ما يدل على أن له قيمة في موضعين. قال في كتاب الزكاة: الحلي إذا كان وزنه ألفًا، وقيمته مصوغًا ألفين، فإنما زكاته على وزنه، لا على قيمته. وقال في موضع آخر: ولو أصدق امرأته إناءين من ذهب، أو فضة وكسر أحدهما، ثم طلقها قبل الدخول. فإن في المسألة قولين: أحدهما: أن الزوج يأخذ نصف قيمة الإناء المنكسر، ويأخذ نصف الإناء الصحيح، ونصف قيمة الإناء المنكسر، وإن شاء يأخذ نصف قيمة الإناءين ويترك الإناء في يدها. قال الشافعي: فإن كان من ذهب فيقوم بالفضة، وإن كان من فضلة فيقوم بالذهب. فهذا دليل على أن له قيمة.

فأما القسم الثاني الذي يكون متخذا من جوهر نفيس غير الدراهم والدنانير، مثل البلور والجزع وأشباههما، فعلى قوله القديم يكره استعماله، وعلى قوله الجديد، هل يحرم استعماله أم لا؟ فيه وجهان بناء على المعنيين: إن قلنا: المعنى فيه عين الذهب والفضة، فها هنا لا يحرم. وإن قلنا: المعنى فيه الكبر والخيلاء، فها هنا يحرم اتخاذه. فلو أنه توضأ في إناء من ذهب أو فضة يصح وضوؤه، ولكن يكره. وقال داود وأصحاب الظاهر: لا يصح وضوؤه. وهكذا نقول في الدار المغصوبة: وفي الثوب المغصوب، لأن النهي إنما ورد عن استعماله، ولم يرد النهي في عين ما وقع به التوضؤ، فلو صب الدراهم في الكوز، وشرب منه الماء يجوز، ولا يكره، وكذلك لو كان بيده خاتم، فغرف من الماء غرفة، وشرب لا يكره، وكذلك لو اتخذ لنفسه أصبعا من فضة أو ذهب، أو يدا من فضة، أو ذهب، أو أنفا من ذهب يجوز، وكذلك لو اتخذ سنا من فضة يجوز.

فأما ما اتخذ لنفسه حليا من حلي الرجال، مثل الخاتم والمنطقة، وحلية، السيف يجوز. وكذلك لجام الدابة مثله، ولا يجوز أن يتخذ لنفسه خاتمًا من فضة، ويجعل أسنان خاتمه من ذهب، ولو اتخذ لنفسه خلخالا أو سوارا لا يجوز، لأن هذا ليس من حلي الرجال. وكذلك لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب الإبريسم. وكذلك لا يجوز أن يلبس الثوب الملحم، والثوب الذي يكون جميعه من الإبريسم. ولا يجوز أن يجلس على البساط الحرير، ولو غطاه بثوب، ثم جلس عليه يجوز حتى أفرط بعض أصحابنا، فقالوا: شهود النكاح لو جلسوا على الثوب الإبريسم صاروا فسقة، ولا ينعقد النكاح بشهادتهم، وهذا لا يصح، لأنه ليس كل ما يكون معصية يصير به فاسقًا ويكون مردود الشهادة، ولو اتخذ لنفسه مجمرًا من ذهب، أو فضة يكون حرامًا، فلو أن الرجل أراد أن يطيب ثيابه من مجمر من ذهب أو فضة ينظر، فإن طرح ثيابه عليه لا يجوز قولا واحدًا، وإن كان من بعيد، ويشتم رائحته لا يكون مكروهًا، ولو أنه استعمل ماء الورد من إناء من ذهب أو فضة لا يجوز. والحيلة فيه أن يصيب ماء الورد على يساره ثم يصيب من اليسار على اليمين

ويستعمله، ولو اتخذ مسمارًا، أو معلقة من فضة لا يجوز، ولو كان له قدح، وكان عليه سلسلة من فضة يجوز، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قدح فيه سلسلة من فضة. فأما لبس الحرير قد ذكرنا أنه حرام. فأما لبس الخز، هل يحرم أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح أنه حرام، لأنه كان من الإبريسم، ولكن هو غزل غليظ، فأما لبس الخز والعتابي والمصمت، فإن كان السدي من القطن يجوز لبسه، وإن كان السدي من الإبريسم لا يجوز لبسه. والحد فيه أنه إن كان الغالب منه من الإبريسم لا يجوز لبسه، وإن كان الغالب منه القطن، يجوز لبسه.

فأما الثوب الذي عليه طراز، فإن كان قدر أصبعين، أو ثلاثة أصابع يجوز، وإن اكن أكثر من ذلك فلا يجوز. والفرق بين هذا، وبين القليل من الذهب أنه لا يجوز أن يجعل أسنان خاتمه من الذهب، لأن الذهب شيء نفيس يعرفه الخاص والعام، وأما الحرير لا يعرفه إلا الخاص، هذا كله في حلي الرجال. فأما النساء: يجوز لهن أن يتحلين بحلي الذهب والفضة، ويلبس الحرير ولكن إنما يتحلين بما كان من حلي النساء غالبًا. فأما ما لا يكون من حلي النساء، مثل المنطقة وحلية السيف، فليس لهن ان يفعلن ذلك، وإنما يجوز لعن التحلي، بخواتيم الذهب، واتخاذ الخلخال، والسوار، ولبس الديباج، ولكن لا يجوز لهن أن يجلسن على الحرير، وعلى الديباج كالرجال. وقال أبو يوسف، يجوز لهن أن يجلسن على الديباج. وكذلك لا يجوز لهن أن يتخذن إناء من ذهب أو فضة كالرجال، قال الشافعي: وأكره ما ضبب بالفضة، لئلا يكون شاربًا على فضة، قال القاضي حسين: الإناء المنكسر إذا ضبب من فضة ينظر:

فإن كان ذلك مما يمس الفم لا خلاف أنه لا يجوز، وإن كان لا يمس الفم، فإن كان قليلا للحاجة، يجوز قولاً واحدًا. وكثيرًا لغير الحاجة لا يجوز قولاً واحدًا، وكثيرًا للحاجة، وقليلاً للزينة، فعلى وجهين:

أحدهما: يجوز هذا. والثاني: لا يجوز. قال الشافعي: ولا بأس بالوضوء من ماء مشرك، وبفضل وضوئه، ما لم يعلم نجاسته، توضأ عمر، رضي الله عنه، من ماء في جرة نصرانية. قال القاضي حسين: الكفار، على قسمين: قسم لا يتدينون باستعمال النجاسات، ولا يتناولونها، مثل اليهود والنصارى، فإن تحقق نجاسة على ثيابهم، أو على أوانيهم لا يجوز استعماله، وإن لم تتحقق النجاسة على ذلك يجوز استعماله. والدليل على هذا ما روى أن عمر، رضي الله عنه، توضأ من ماء في جر نصرانية، ولكن الأولى أن يحترز عن ذلك.

وقسم يتدينون باستعمال النجاسات مثل المجوس، فهل يجوز استعمال ثيابهم في الصلاة، وأن يتوضأ في أوانيهم أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الظاهر أنه يكون نجسًا، والدليل على هذا ما روى في حديث (أبي ثعلبة الخشني)، أنه قال: يا رسول الله، إنا ننزل بلاد المشركين، ونطبخ في قدورهم، أنه قال: يا رسول الله، إنا ننزل بلاد المشركين، ونطبخ في قدورهم، ونشرب من أوانيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، استغنوا عنها ما استطتعم، فإن لم تجدوا عنها بدا فادخضوها بالماء، فإن الماء طهورها. والقول الثاني: يجوز أن يصلي في ثيابهم، لأن الأصل طهارة الثوب، والإناء، وها هنا أصل، وذلك أنه إذا اجتمع الأصل والظاهر، فأيهما يغلب؟

فيه قولان، كما نقول في المقابر المنبوشة، فإنه لو تحقق أنها منبوشة قديمة لا تجوز الصلاة فيها، إلا أن يفرش ثوبًا فيصلي عليه، وإن كانت جديدة، وتتحقق أنها لم تكن منبوشة تجوز الصلاة هناك قولاً واحدًا. فأما إذا كان بعضها منبوشة، ولكن لا يتحقق، يتحمل هذا ويحتمل ذاك، فإن فيها قولين: أحدهما: يجوز له أن يصلي؛ لأن الأصل طهارة المكان، وأنها لم تكن منبوشة. والقول الثاني: أنه لا تصح الصلاة؛ لأن الظاهر أنه لا يكون إلا نجسًا. وهكذا القول في وحل الطريق إذا كان يحتمل هذا ويحتمل ذاك، فهل يكون طاهرًا أم لا؟

فيه قولان. وقال المراوزة، لو قال قائل إذا كان على ثوبك طين الطريق، فلو قال لك: نجس ثوبك، يجب عليه غسله، ولو قال: وحل ثوبك من الطرين، لا يجب غسله. فأما الصلاة في ثياب الصبيان الذين لا يميزون، هل يجوز أم لا؟ فيه قولان: أحدهما لا يصح، لأن الظاهر أن ذلك يكون نجسًا. والثاني: يجوز، لأن الأصل طهارة الثوب، وكذلك الصلاة في ثياب القصابين، والأساكفة الذين يستعملون الهلب، ولا يحترزون عنه. والله أعلم، بالصواب.

باب السواك

باب السواك قال الشافعي: وأحب السواك للصلوات، وعند كل حال تغير فيه الفم، عند الاستيقاظ من النوم، والأزم، وكل ما يغير الفم، لأن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة. قال رضي الله عنه: السواك والمسواك اسم للخشب الذي يوضع على الأسنان حتى يقلع الوضر. والسواك يكون سنة مستحبة، والفعل يكون من هذا: الاستياك ويقوي في السواك الإتيان بالسنة، والمقصود يحصل من ضمنه، وهو تطهير الفم، كما أن الرجل يقصد بالجماع النسب، قال الله تعالى (وابتغوا ما كتب الله لكم). أراد به: الولد. والمقصود يحصل في ضمنه، وهو اقتضاء الشهوة.

ومضاجعة الرجل مع امرأته سنة. ولهذا أمر الله تعالى في النشوز بالمفارقة فقال تعالى (واهجروهن في المضاجع) الآية. والأصل في السواك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة بسواك أفضل عند الله من سبعين صلاة بغير سواك.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: طهروا أفواهكم لقراءة القرآن. وروى العباس بن عبد المطلب، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم قلح، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، مالي أراكم تدخلون على قلحا؟ استاكوا؟ وروى عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا كان قام من الليل يشوص فاه. يعني: يستاك. وروى عنها أيضًا أنها قالت: كان السواك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلم من أذن الكاتب، ثم روت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يزال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه وما زال يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه سيحرم طلاقها، وما يزال يوصيني بالعبد حتى ظننت أنه يضرب له مدة فإن بلغها عتق، وما يزال يوصيني بالسواك حتى حسبت أن تدردر أسناني.

وروي: حتى يدردر أسناني. ويستحب السواك عند القيام إلى الصلاة، وعند كل حال تغير فيه الفم. مثل: الاستيقاظ من النوم، والأزم، وأكل ما يغير ما يغير الفم من الثوم والبصل والكراث، وكذلك لو سكت ساعة طويلة فيستحب له السواك، لأنه إذا انضمت شفتاه، وانطبقت فيتغير الفم بذلك. قال المزني: وأحب السواك للصلوات عند كل حال تغير فيه الفم، وهذا النص يدل على أنه إنما يستحب السواك إذا اجتمع شيئان: الصلاة، وتغير الفم. وليس كذلك، لأنه إذا وجد أحدهما يستحب له السواك، فلو أنه نقل: وعند كل حال، لما وقع الإشكال. قال وكل ما يغير الفم، قال القاضي حسين: وقريء وكلما تغير الفم. والأصح أن يقال: وأكل ما يغير الفم، لأنه نقل أولاً: وعند كل حال تغير

فيه الفم، ثم قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة. صدر الباب بأن السواك يكون مستحبًا. ونقل هذا الخبر على وجه الاحتجاج، وهذا الخبر دليل على نفي الوجوب، ونفي الوجوب لا يدل على أنه يكون مستحبًا. قال الشافعي: ولو كان واجبًا لأمرهم به، شق أو لم يشق. وعندنا يكون سنة مستحبة، وليس بواجب وقال أصحاب الظاهر، يكون واجبًا. دليلنا هذا الخبر. والسواك يكون عبادة بدليل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلاة بسواك أفضل عند الله من سبعين صلاة بغير سواك.

والسنة أن يستاك عرضًا، ولا يستاك طولا. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استاكوا عرضا ولا تستاكوا طولا. والسنة أن يستاك بخشب وسط، لا يكون حديدًا بحيث إنه يقرح اللثة، ولا يكون لينا بحيث إنه لا يقلع الوضر. قال الشافعي: ويستاك بخشب حريف. معناه: فيها حدة ولسع، حتى يقلع النكهة. كما يقال: خلف ثقيف، وبقل حريف، وخبز نظيف، ولحم مشوي، ما عابه أحد. ولو استاك بخرفة خشنة أو بالأصبع يحصل الاستياك بهذا. والسواك هل هو من سنن الوضوء أم لا؟ فيه وجهان.

وإنما يستحب السواك في جميع الأوقات، إلا أن يكون صائمًا، يكره له السواك بالعشي، ولا يكره له ذلك بالغداة. وقال أبو حنيفة: لا يكره له السواك في زمن ما. واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: خير خصال الصائم السواك. وقال مالك: إن كان صوم فرض، فهو كما ذكرنا، وإن كان نفلاً يستحب السواك في جميع الأحوال، حتى لا يتهم بأنه كان صائمًا، ليكون أبعد عن الرياء والسمعة، وإن كان فرضًا فيستحب إظهاره. قال الله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم). دليلنا أن نقول: إن هذا أثر العبادة إذا كان بعد العشي. فأما إذا كان قبل الزوال تغير الفم، إنما يكون من امتلاء المعدة، فيستحب إزالته، وأما إذا كان بعد الزوال، فإن ذلك يكون من الخواء، ويكون ذلك أثر العبادة. وأثر العبادة تكره إزالته، كما نقول في دم الشهيد.

والدليل على هذا، ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك). ولأن هذا أثر عبادة مستحبة ورد الشرع بها على لسان صاحب الشرع، فكره إزالته، وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهداء أحد: (زملوهم بكلومهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة، وأوداجهم تشخب دمًا اللون لون الدم، والريح ريح المسك). فدل على أنه يكره إزالة دم الشهيد، كذلك الخلوف يكون أثر العبادة، فتكره إزالته. قال رضي الله عنه: قد ذكرنا أن المزني، صدر الباب بأن السواك يكون مستحبًا، ثم نقل خبرًا يدل على على نفي الوجوب، وقال: (وعندي أن هذا إنما يعلم ذلك زيادة وتأكيدًا في الاستحبا، إلا أن الشافعي قال بعد هذا: ولو كان واجبًا لأمرهم به شق أو لم يشعق). وهذا دليل على نفي الوجوب - والله أعلم بالصواب.

باب نية الوضوء

باب نية الوضوء قال الشافعي: ولا يجزئ طهارة من غسل ولا وضوء ولا تيمم إلا بنية، واحتج على من أجاز الوضوء بغير نية، بقوله صلى الله عليه وسلم: (الأعمال بالنيات). ولا يجوز التيمم بغير نية، وهما طهارتان، فكيف يفترقان؟ قال القاضي حسين: الطهارة على نوعين: عينية، وحكمية. فالعينية، ما اختص وجوبها بمحل حلول موجبها، وذلك لا يحتاج إلى النية عند عامة أصحابنا. وقال ابن سريج، وسهل الصعلوكي، إنها تحتاج إلى النية.

والحكمية: ما يتعدى وجوبها عن محل حلول موجبها، مثل الوضوء والاغتسال والتيمم، والكل يحتاج إلى النية، سواء كانت بالمائع أو بالجامد. وقال أبو حنيفة: ما كان بالمائع لا يحتاج إلى النية، وما كان بالجامد يحتاج إلى النية. وقال زفر: الطهارة بالجامد لا تحتاج إلى النية. إذا ثبت هذا، فالكلام في النية يقع في أربعة مواضع: في أصل النية، ومحلها، ووقتها، وكيفيتها. أما أصل النية، فإنه واجب لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات) الخبر. وأما محل النية. اعلم أن محل النية الجنان، ولو نوي بالجنان، وتلفظ باللسان فهوا الأكمل، والأولى. ولو نوى بالجنان، ولم يتلفظ باللسان جاز. ولو تلفظ باللسان ولم ينو بالجنان لا يجوز.

لأن الشافعي رحه الله قال في كتاب الزكاة. لو قال عند الأداء: هذا عطاء الفرض جاز. من أصحابنا من قال: إنما جاز هناك أيضاً إذا نوى معه بالقلب. ومن أصحابنا من قال: يجوز هناك بمجرد التلفظ باللسان، والفرق بينهما وبين سائر العبادات، أن في الزكاة أداء الغير ينوب عن أداء من وجب عليه مع قدرته على الأداء. فكذا التلفظ باللسان جاز أن ينوب عن النية بالجنان، بخلاف سائر العبادات فأما وقت النية: اعلم أن للنية وقتين: وقت استحباب، ووقت إيجاب. فوقت الاستحباب: أن ينوي عند غسل اليدين، فلو نوي عند غسل اليدين، واستصحب النية إلى أن غسل جزءا من الوجه، أو عزبت نيته، ثم نوي عند أول غسل جزء من أجزاء الوجه، جاز. ولو عزبت نيته، ولم ينو عند أول غسل جزء من الوجه لا يجوز. ولو نوي عند المضمضة والاستنشاق، واستصحب النية إلى غسل أول جزء من الوجه جاز. وإن عزبت نيته، ولم ينو عند أول غسل جزء من الوجه اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: يجوز، لأنه نوي عند افتتاح الطهارة، والشروع فيها، فصار كما لو نوي عند تكبيرة الافتتاح للصلاة.

ومنهم من قال: لا يصح؛ لأنه لم ينو عند غسل أول فرض من فرائض الوضوء. ومنهم من قال: ينظر، إن انغسل في المضمضة والاستنشاق شيء من ظاهر الفم والأنف يجوز، وإلا فلا. وأما وجه الوجوب هو أن ينوي عند غسل أول جزء من الوجه، إلا أنه لا يحصل له فضيلة المضمضة والاستنشاق، فلو نوي عند غسل الوجه، واستصحب النية إلى آخر الوضوء، فهو المستحب.

وإن عزبت نيته بعد ذلك لا يضر لما فيه من التعذر والمشقة، فيعفي عنه كما في سائر العبادات، [حيث] تكفي النية إلى آخر جزء. فأما كيفية النية: الطهارة على قسمين: بالجامد مرة، وبالمائع أخرى. فما كان بالجامد كالتيمم، فإنه ينوي فيه استباحة الصلاة، لأن التيمم لا يرفع الحدث، بل يبيح الصلاة، بدليل انتفاضه بدون الحدث. والطهارة بالماء قسمان: طهارة رفاهية، وطهارة ضرورة. فالرفاهية: أن يتطهر الصحيح المقيم، فيتخير بين أن ينوي رفع الحدث واستباحة الصلاة. أو ينوي أداء أوامر الله تعالى وفرائضه. فلو نوي الطهارة فحسب. قال القاضي: عندي أنه لا يجوز، لأن الطهارة هي التنظيف ولو نوي التنظيف لا تصح طهارته، كذا هذا. فأما طهارة الضرورة، كطهارة المستحاضة، ومن به سلس البول، فإنه ينوي استباحة الصلاة عند عامة أصحابنا. وقال (القفال) و (الخضري): إنه يجمع بين نية رفع الحدث،

واستباحة الصلاة، لأن طهارته ترفع الحدث السابق، وتبيح الصلاة مع الحدث اللاحق. قال الشافعي: وإذا توضأ لنافلة أو لقراءة مصحب أو لجنازة أو لسجود قرآن أجزأ، وإن صلى به فريضة. قال القاضي حسين: جملة ما يتوضأ ويغتسل له ثلاثة أقسام: منها: ما تجب الطهارة له أو الغسل، كصلوات الفرض والنفل، وسجود التلاوة، والطواف والخطبة، ومس المصحف للمحدث وغيره. فلو توضأ بنية أحد هذه الأمور صحت طهارته، ويؤدي بها ما شاء من الصلوات. ومنها: ما لا تجب له الطهارة ولا تسن، كعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وزيارة الوالدين، والسلام على الناس. فلو توضأ بنية أحد هذه الأمور لا تصح طهارته. ومنها: ما تسن له الطهارة أو الغسل ولا تجب؛ مثل قراءة القرآن عن ظهر القلب، والمكث في المسجد في حق المحدث، أو العبور فيه في حق الجنب، والغسل للجمعة والأعياد، أو تجديد الطهارة. فلو نوي أحد هذه الأمور في الطهارة، فهل تصح أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا يجب له الوضوء. والثاني: تصح؛ لأنه مما تندب له الطهارة. والثالث: ينظر إن كان تندب له الطهارة لأجل الحدث والجنابة، مثل قراءة القرآن عن ظهر القلب، والمكث في المسجد، والعبور فيه؛ فتنعقد الطهارة بتلك، وإن كان تندب له الطهارة، لا لأجل الحدث، ولكن لأجل زيادة الثواب والدرجة، مثل الاغتسال للجمعة، والاغتسال للعيد، لا تصح الطهارة بتلك النية. فرع لو ترك لمعة من أعضاء طهارته في المرة الأولى، ثم غسلها في المرة الأخرى، ينظر، فإن كان ذاكرا لنية الفرض، جاز، وإن غسلها بنية النفل، هل تقع عن الفرض أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقع؛ لأن النفل لا يقوم مقام الفرض، كما لو ترك سجدة في صلب الجمعة، ثم سجد للسهو أو للتلاوة، فإنها لا تقوم مقام الفرض، كذا ها هنا.

والثاني: تقع عن الفرض. والفرق بينه وبين الصلاة: أن نية الطهارة تشتمل على الغسل مرة ومرتين، وثلاث مرات، ونية الصلاة لا تشتمل على سجدة التلاوة والسهو قطعًا ويقينًا، لأنها تطرأ عليها أحيانا، وأيضًا فإن الغسل عن النفل إنما يقع بعد فراغ المحل عن الفرض. فإذا ترك لمعة، ثم غسلها في المرة الثانية، فذاك المحل لم يفرع عن الفرض، فوقع عن الفرض في تلك المرة، لا عن النفل. فعلى هذا: المحدث إذا توضأ بنية تجديد الطهارة، فظن أنه لم يكن محدثًا ينبني على المسألة الأولى. إن قلنا هناك: لا يحسب عن الفرض، فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: يحسب عن الفرض، فها هنا وجهان. والفرق أن نية الطهارة تشتمل على الغسل مرة ومرتين وثلاثًا، يعني: نفلاً وفرضًا. فإذا غسلها في المرة الثانية صار مغسولاً بنية توجد من قبل. وها هنا نية رفع الحدث لا تشتمل على تجديد الوضوء، حتى لو أراد أن يجدد الوضوء بتلك النية لا يجوز، فإذا نوى تجديد الوضوء، فقد نوي ما لا يشتمل عليه نية في الابتداء، فلا يصح. فرغٌ هل تجب النية في غسل الميت أم لا؟ فيه وجهان مستنبطان من كلام الشافعي حيث قال: (لو غسل ثم خرج منه نجاسة أعاد عليه غسله)، وقريء غسله.

فمن قرأ غسله قال: أراد به غسل جميع أعضائه. ومن قرأ غسله اختلفوا فيه: فمنهم من قال: أراد به غسل أعضاء طهارته. ومنهم من قال: أراد به محل النجاسة فحسب. إن قلنا: إن الواجب فيه جميع الأعضاء، أو غسل الأعضاء الأربعة جعل فيه النية، لأنه جعل تعبدًا وطهارة حكمية. وإن قلنا: الواجب فيه غسل محل النجاسة، فلا تجب فيه النية كالطهارة العينية. فعلى هذا: لو مات ميت في الماء، هل يعاد غسله أم لا؟ إن قلنا: تجب فيه النية يعاد، وإلا فلا. وكذلك المجوسي لو غسل مسلمًا، هل يعاد غسله أم لا؟ فيه وجهان ينبنيان على هذا. قال الشافعي: وإن نوي فتوضأ، ثم عزبت نيته، أجزأته نية واحدة، ما لم يحدث نية أن يتبرد، أو يتنظف بالماء فيعيد ما كان غسله لتبرد أو تنظف. قال القاضي حسين: قد ذكرنا أنه إذا عزبت نيته لا يضره. فأما إذا نوى في أثناء الطهارة التبرد والتنظف، فإن كان ذاكرًا لنية الفرض لا يضر، وإن كان ناسيًا لها، ولم يكن رافضًا لها، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن الشافعي قال: (ما لم يحدث نية أن يتبرد أو يتنظف). والثاني: يجوز؛ لأنه لو جمع بينهما في الابتداء جاز، فكذا ها هنا.

وأول قوله أنه أراد به: إذا رفض نية الفرض، ثم أحدث نية التبرد والتنظف. إن قلنا: يجوز، فلا كلام. وإن قلنا: لا يجوز، فهل يستأنف الوضوء، أو يبني عليه، أم لا؟ فيه وجهان بناء على أصل، وهو أنه إذا فرق النية على أعضاء الطهارة، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لو فرق النية في الصلاة على أركان الصلاة. والثاني: يجوز. والفرق بينهما: أن الطهارة يجزئ فيها التفريق من حيث الزمان، فكذا من حيث النية بخلاف الصلاة. التفريع: إن قلنا: يجوز تفريق النية على أعضاء الطهارة، فها هنا يبني، وإن قلنا: لا يجوز، فها هنا يستأنف. فأما إذا رفض نية الفرض لا خلاف أنه لا يحسب ما غسل بعده عن الفرض، وإذا جدد نية الفرض، فهل يبني على الأول أو يستأنف؟ يخرج على ما ذكرنا من وجهين.

فرع إذا كان على أعضاء طهارته نجاسة، فيجب عليه غسله عن النجاسة، حتى يذهب عينها وأثرها، ثم يجب عليه غسله لأجل الطهارة فأما إذا أصاب دم الكلب محلاً، فغسل به مرة أو مرتين، أو ثلاثًا حتى ذهبت عين الدم، فهل تحسب هذه الغسلات عن السبع أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتسب له ذلك، كما في الاستنجاء لو حصل الإنقاء بالثلاث لا يجب عليه التكرار بعده، فعلى هذا لو ذهبت عين الدم في الكرة السابعة لا يجب عليه شيء. والثاني: أنه لا يحتسب له عن السبع، بل يجب عليه أن يغسله سبع مرات والتعفير، كما إذا كان على أعضاء طهارته نجاسة يجب عليسه غسل لأجل الخبث ثم لأجل الحدث. وهكذا لو أصاب أعضاء طهارته ولوغ الكلب، يغسله عشر مرات، سبع مرات لأجل الخبث، وثلاثا لأجل الحدث. فأما إذا كان على بدنه عجين أو طين، فغسله حتى زال عنه لا يحسب ذلك الغسل عن الطهارة. وكذا لو سال عن ذلك المحل إلى محل آخر، لأنه صار مستعملا، فلا يحصل به التطهير. فرع لو غسل وجهه ويديه ومسح رأسه، ثم زلت رجلاه، ووقع في الماء

فغسل رجليه، هل يحسب له عن الطهارة، أو يجب عليه غسل الرجلين، ثانيًا. المذهب أنه لا يجب عليه. وفيه وجه آخر: أنه يجب عليه ثانيًا، لأنه لم يقصد غسلهما، فجعل كما لم يوجد منه الغسل والله تعالى أعلم بالصواب.

باب سنة الوضوء

باب سنة الوضوء. قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده. قال المزني: أشك في ثلاث. قال الشافعي: فإذا قام الرجل إلى الصلاة من نوم، أو كان غير متوضيء، فأحب أن يسمي الله، ثم يغرق من إنائه على يديه، ويغسلهما ثلاثًا، ثم يدخل يده اليمني في الإناء، فيغرف غرفة لفيه وأنفه، ويتمضمض ويستنشق ثلاثًا، ويبلغ خياشيمه الماء إلا أن يكون صائمًا، فيرفق، ثم يغرف الثانية بيديه، فيغسل وجهه ثلاثًا، من منابت شعر رأسه، إلى أصول أذنيه، ومنتهى اللحية إلى ما أقبل من وجهه وذقنه، فإن كان أمردًا، غسل بشرة وجهه كلها، وإن نبتت لحيته، وعارضاه، أفاض الماء على لحيته وعارضيه، وإن لم يصل الماء إلى بشرة وجهه التي تحت الشعر أجزأه، إذا كان شعره كثيرًا، ثم يغسل ذراعه اليمني إلى المرفق، ثم اليسرى مثل ذلك، ويدخل المرفقين في الوضوء في الغسل ثلاثًا ثلاثًا، وإن كان أقطع اليدين، غسل ما بقي منهما إلى المرفقين، وإن كان أقطعهما من المرفقين، فلا فرض عليه فيهما، وأحب (زأن) لو مس موضعه الماء، ثم يمسح رأسه ثلاثًا، وأحب أن يتحرى جميع رأسه وصدغيه، يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما، إلى المكان الذي بدأ منه، ويمسح أذنيه ظاهرهما، وباطنهما بماء جديد، ويدخل إصبعيه في صماخي أذنيه، ثم يغسل رجليه ثلاثًا إلى الكعبين، والكعبان هما الناتئان، وهما مجتمع مفصل الساق والقدم وعليهما الغسل كالمرفقين،

ويخلل أصابعهما، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيط بن صبرة بذلك، وذلك أكمل الوضوء، إن شاء الله تعالى. قال القاضي حسين: أول سنن الوضوء التسمية عندنا، وليست بواجبة، حتى لو تركها لا يأثم. وقال الحسن البصري، وإسحاق بن راهويه، إنها واجبة، إلا أنه إن تركها ساهيًا تصح الطهارة. قال مالك وأهل الظاهر، إنها واجبة، ولا يجوز تركها عامدًا أو

ساهيًا، واستدلوا بقوله عليه السلام: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى في وضوئه. قلنا: أراد به نفي الفضيلة والكمال، لا نفي الأصل والجواز، لقوله عليه السلام: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وأمثاله. أو أراد به إذا لم يكن اسم الله في قلبه، ولم يكن ذاكرًا له بالقلب، مثل أن يتوضأ عابثًا لاهيًا بترك النية. قوله: (ثم يفرغ من الإناء على يديه).

قال القاضي حسين: غسل اليدين قبل إدخالها الإناء ثلاثًا سنة، سواء قام من نوم الليل، أو من نوم النهار، أو كان مستيقظًا وأراد الوضوء. وقال الحسن: إنه واجب، إلا أنه إن غمس يديه في الما، قبل الغسل يصير الماء مهجورًا، ولا يصير مستعملا ولا نجسًا، حتى لو أصاب موضعًا لا يجب غسل ذلك الموضوع عنه. وقال أحمد بن حنبل: إذا قام من نوم الليل وجب عليه غسل اليدين، وإن قام من نوم النهار لا يجب، لأن الحديث ورد في القيام من نوم الليل حيث قال عليه السلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده منه) فالبيتوتة تستعمل في نوم الليل. فأما نوم النهار يقال له: القيلولة. قلنا: الحديث محمول على الاستحباب، بدليل أنه قال: لا يدري، علقه بأمر موهوم، ولو كان واجبًا لما علقه بأمر موهوم، وإنما قال ذلك، لأن العرب هم المخاطبون به، وهم يستنجون بالأحجار، لقلة الماء، ثم ينامون في ثياب مهنهم ويعرقون، فربا يصيب أيديهم ذلك الموضع، وهم لا يشعرون بذلك، فأمر بغسل الدين على طريق الاستحباب. قوله: (ثم يدخل يده اليمني في الإناء، فيغرف غرفة لفمه وأنفه، ويتمضمض، ويستنشق ثلاثًا).

قال القاضي حسين: هذا ما نقله (المزني)، لم يرد به أن يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يتمضمض، ثم يشتنشق هكذا ست مرات. وإنما أراد به أن يتمضمض ثلاثًا، ثم يستنشق ثلاثًا، لأن الأصل في الطهارة، ألا ينتقل إلى عضو إلا بعد أن يفرغ من العضو الأول. وقال في رواية (البويطي): إنه يغرف غرفة لفيه، ويتمضمض بها ثلاثًا، ويغرف غرفة لأنفه، ويستنشق بها ثلاثًا، فحصل منه قولان. ومن أصحابنا من قال: الأولى أن يتمضمض بثلاث غرفات، ويستنشق بثلاث غرفات. قوله: (ويبلغ خياشيمه الماء). قال القاضي حسين: المبالغة سنة في المضمضة والاستنشاق، وهو أن يدخل الماء في فيه، ويمر أصبعه على لسانه ولثته وأسنانه، ويبلغ الماء أقصى الحنك، ويحركه. وفي الاستنشاق أن يأخذ الماء بالنفس، ويبلغ الماء أقصى الخياشيم، ثم يستنثر كالمتخط، هذا كله إذا لم يكن صائمًا، فأما إذا كان صائمًا فلا يبالغ. لما روى عنه عليه السلام، أنه قال: إلا أن تكون صائمًا فترفق.

قوله: (ثم يغرف الماء بيده، فيغسل وجهه ثلاثًا من مثلث شعر رأسه إلى أصول أذنيه، ومنتهي اللحية إلى ما أقبل من وجهه وذقنه). قال القاضي حسين: قال أصحابنا: أخل (المزني) في النقل حيث قال: (ومنتهى اللحية)، وهذا إنما يكون تحت الذقن، وربما يمتد إلى الحلق، ولا يجب غسل ما تحت الذقن. بل الصحيح ما قاله الشافعي في موضع آخر: (ومنتهي اللحيين). فعلى هذا: حد الوجه طولاً من منابت شعر الرأس إلى أطراف الذقن، وعرضاً من شحمة الأذن إلى شحمة الأذن، فإن كان أمردًا غسل جميع المحدود، وان نبت لحيته وعارضاه، فإنه يجب عليه إيصال الماء إلى تحت الحاجبين والأهداب، والعذارين والشارب، خفيفة كانت أو كثيفة. (والحاجبان): الشعر النابت على طرفه الجبهة. (والأهداب): الشعور النابتة حوالي العينين. (والعذاران): الشعور النابتة على الوجه بعد الأذنين. (والشارب): الشعور النابتة على الشفة العليا. ولأي معنى وجب إيصال الماء إلى تحت هذه الشعور؟ فيه معنيان: أحدهما: أن الغالب فيه الخفة، والكثافة فيه نادر.

مسألة

والثاني: لإحاطة المغسول بها، فعلى هذا هل يجب إيصال الماء إلى ما تحت العنفقة، وهي الشعور النابتة على الشفة السفلى؟ فإن كان خفيفًا، وكان حواليه مكشوفًا يجب. وإن كان كثيفا متصلا باللحية، فيه وجهان ينبنيان على المعنيين. إن قلنا: المعنى فيه الخفة، فها هنا يجب، لأن الغالب فيه الخفة. وإن قلنا بالمعنى الثاني فها هنا لا يجب. فأما العارضان: وهي الشعور النابتة على منبت الأسنان العليا؛ الصحيح أنه من اللحية. فأما اللحية، فإن كانت خفيفة: يجب إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة يجب إيصال الماء إلى ظاهرها دون باطنها. واختلف أصحابنا في حد الكثافة والخفة: منهم من قال: يرجع فيه إلى العرف والعادة، فكل ما يعد خفيفا في العرف، فهو خفيف، وكل ما يعد كثيفا فهو كثيف. ومنهم من قال: الخفيف ما يتراءى للناظر منه بشرة الوجه، والكثيف ما لا يتراءى له ذلك منه: والصدغ في الرأس، ولا يجب غسله مع الوجه، ويجوز المسح عليه. مسألة قال الشافعي في الكبير: وليس ما جاوز من شعر الأغم النزعتين من الرأس، وللأصلع مقدم الرأس صلعته من الوجه.

(الأغم): من تنبت الشعور على جبهته ورأسه، ينظر فيه. إن كان متصلاً بالحاجبين، يجب غسله مع الوجه، ما كان منه في حد الإستواء، وما كان في حد الاعتلاء، والانعطاف فهو من الرأس، وإن بقي بينه وبين الحاجبين فرجة ولم يكن متصلا بها، لا خلاف في أنه يجب غسل تلك الفرجة من البياض. والصحيح أنه يجب غسل الشعور، ما كان منه في حد الاستواء. وفيه وجه آخر: أنه لا يجب مأخوذا من قوله: حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس. (والأصلع): من لا ينبت على مقدم رأسه شعر، فحكمه ما ذكرنا: أن كل ما كان منه في حد الاستواء يجب غسله مع الوجه، وما كان منه في حد الانعطاف فهو في حكم الرأس. قوله: ثم يغسل ذراعه اليمني إلى المرفق. قال القاضي حسين: غسل اليدين مع المرفقين واجب. وقال (زفر): لا يجب غسل المرفق، واحتج بقوله تعالى: (إلى المرافق). والحد لا يدخل في المحدود. قلنا: أراد بها مع المرافق، وقد يذكر (إلى)، والمراد بها (مع) كقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم).

أي: مع أموالكم. وكما قيل: (الذود إلى الذود إبل). أي: الذود مع الذود، كذا ها هنا. وهكذا لو كان على ذراعيه شعور كثيفة يجب إيصال الماء إلى البشرة؛ لأنه يكون نادرًا، وكذا إذا نبتت للمرأة لحية يجب عليها إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة، لأنها تندر في النساء، ولهذا يستحب لها حلق اللحية، ونتفها دون الرجال؛ لأنها مثلة في حق النساء.

وهذا إذا كان سليم اليدين. فأما إذا كان مقطوع اليدين، فإن كان أقطع اليدين من الذراع غسل الباقي مع المرفق، وإن كان أقطعها من فوق الذراع سقط عنه الفرض، إلا أن المستحب له أن يمر يده المبتلة على العضو تشبيها بالغاسلين، كما قلنا في المحرم، إذا كان أقرع لا يجب عليه الحلق، ويستحب له أن يمر الموسى على رأسه تشبيها بالحالقين. وإن كان أقطعهما من المرفقين: نقل (المزني) أنه لا فرض عليه فيهما. ونقل (الربيع): وإن كان أقطعهما مع المرفقين لا فرض عليه فيهما. من أصحابنا من قال: الصحيح هذا، و (المزني) أخل بالنقل. ومنهم من قال: ما أخل بالنقل، لكن أراد به مع المرفقين. ومنهم من قال: ما أخل بالنقل، ولا نقول قوله. فحصل فيه قولان: أحدهما: يجب غسله. والثاني: لا يجب.

مسألة

ومن أصحابنا من قال: القولان ينبنيان على أن المرفق، هل يجب غسله تبعًا للذراع إذا كان صحيحًا أو متبوعًا؟ وفيه قولان: إن قلنا: يجب تبعًا له، فها هنا لا يجب غسله، لأنه إذا سقط الفرض عن المتبوع سقط عن التبع. وإن قلنا: متبوعًا يجب غسله. ومنهم من قال: القولان ينبنيان على أن المرافق ماذا؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه اسم لطرف عظم الذراع، وطرف عظم العضد، فعلى هذا يجب غسله. والثاني: أنه اسم لظرف عظم العضد متصلاً بعظم الساعد، فعلى هذا لا يجب غسله. مسألة لو تقشط جلدة من ذراعه فلا يخلو: إما أن تبقى متدلية؛ أو صارت ملتصقة. فإن بقيت متدلية واندملت وجب غسل كلا وجهيها، وما حواليها على الموضع الذي تقشطت منه. فأما إذا التصقت بآخر فلا يخلو: إما أن التصقت بالذراع؛ أو بالساعد. إن التصقت بالذراع، ولم يبق بينهما فرج وجب غسله ظاهرًا؛ إذ لا يمكن غسل باطنها.

وإن بقي بينهما فرجة وجب غسل ما تحته من الذراع، وغسل الجلدة ظاهرًا وباطنًا. وإن التصقت بالعضد، ولم يكن بينهما فرجة وجب غسل ما كان في محل الفرض، وما زاد عليه لا يجب غسله، وإن كان بينهما فرجة يجب غسل ما تحته من الذراع، ويجب غسل الجلدة ظاهرًا وباطنًا إلى محل الفرض، وما وراء ذلك يجب غسل الجلدة باطنًا، لأنه كان من ظاهر الذراع. فأما إذا تقشطت جلدة عضده، فإن بقيت متدلية، أو التصقت بلحم العضد فلا يجب غسله، وإن التصقت بلحم الذراع، فإن لم يكن بينهما فرجة وجب غسل ما كان في محل الفرض، وإن كان بينهما فرجة يجب غسل ما كان من الذراع، ولا يجب غسل الجلدة، لا ظاهرًا ولا باطنًا إلا الطرف الذي التصق بالذراع، فإنه يجب غسله بدل ما تحته من البشرة. ثم يمس برأسه ثلاثًا، والكلام فيه في فصلين: أحدهما: في بيان أقل ما يجزئ. والثاني: في بيان الأكمل والمستحب. وأما أقل ما يجزيء عندنا ما ينطلق عليه اس المسح، ولو كان قدر رأس

إبرة، كما قال الشافعي في أرش الموضحة، فإنه يجب إذا أوضحه، قدر رأس إبرة، كذا هذا. ومن أصحابنا من قال: أقل ما يجزيء مسح شعرات، كما في المحرم إذا أراد التحلل، فلا يحصل له ذلك إلا بحلق ثلاث شعرات.

والصحيح هو الأول، لأنه قال: (وامسحوا برؤوسكم) (والباء) للتبعيض، ولا تقتضي التقدير، بخلاف ما في الحج، لأن هناك قال: (ولا تحلقوا رءوسكم). يعني: شعور رءوسكم. وأقل الجمع الصحيح ثلاث. ولا فرق بين أن يمسح بيده، أو يأخذ خرقة مبتلة، أو خشبة مبتلة، ويمسح بهما رأسه، وكذا لا فرق بين أن سمح ظاهر الشعر، أو يترك ذاك، ويمسح البشرة. بخلاف ما قلنا في الوجه: أنه لو ترك ظاهر الشعور وغسل البشرة إنه لا يجوز. والفرق بينهما: أن الوجه اسم لما يواجه الإنسان به غيره، وذاك يقع على ظاهر الشعور، والرأس: اسم لما ترأس واعتلى. وهذا وقع على الكل، فإذا مسح على الشعر، فلا يخلو إما إن طال شعره، واسترسل عن حد الرأس، أم لا يسترسل، فإن نزل عن حد الرأس مثل الذوائب، وغيرها، فلو مسح على رأسه لا يجوز، ولو مسح على أصول الشعر، جاز، ولو مسح على ما هو منه في حد الرأس، لكنه زائل عن المنبت فوجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأنه في حد الرأس .. والثاني: لا؛ لأنه زائل عن المنبت، فصار كالنازل عن حد الرأس. فأما إذا طال شعره، وكان مستويًا، ولم يزل عن المنبت، فمسح عليه جاز، ولو زال عن المنبت، ولم ينزل عن حد الرأس، فوجهان: فأما إذا كان شعره جمة، مثل شعر الزنج، وكان بحيث لو مد يمتد، فلو مده ومسح على رأسه لا يجوز. ولو لم يرده ومسح عليه، فيه وجهان: الصحيح: أنه لا يجوز كالذؤابة. وفيه وجه آخر: أنه يجوز. فرع لو غسل رأسه بدل المسح. المذهب: أنه يجوز، ومن أصحابنا من قال: إنه لا يجوز، لأنه فرضه المسح، فلا يسقط بالغسل، كما لو مسح الأعضاء المغسولة لا يسقط الفرض عنه.

والفرق بينهما: أن الغسل يتضمن المسح، وزيادة. فقلنا: بأنه يقوم مقام المسح بخلاف المسح، فإنه لا يتضمن الغسل. فقلنا: بأنه يبقى الفرض عليه. فأما إذا وضع يده المبتلة على الرأس، فلم يمرها، عليه. المذهب: أنه يجوز. وقال (القفال): إنه لا يحصل المسح ما لم يمر يده عليه، وكذا لو قطر الماء على رأسه، إن سال حصل المسح، وإن لم يسل الماء: عامة أصحابنا على أنه حصل المسح به. وقال (القفال): إنه لا يحصل، ويشترط فعل المسح أو معناه. وكذا المرأة لو وضعت يدها المبتلة على الوقاية، ووصل البلل إلى شعرها، إن مرت يدها عليه، وكانت خفيفة أو كثيفة، ووصل الماء إلى الشعور حصل المسح، وإن لم تمرر اليد عليه، ولكن صارت الشعور مبتلة عند عامة أصحابنا هكذا. وقال (القفال): لا يحصل بها المسح.

فرع لو مسح برأسه، ثم حلق الشعور، أو غسل يديه، ثم قلم الأظافير، أو قطعت يداه، أو كشطت جلدة يديه، ولم يكن عليه نجاسة لم تجب عليه الإعادة، بخلاف ما لو نزع الخف حيث يجب عليه غسل الرجلين، أو الوضوء، لأن ذاك بدل عن الرجلين. فإذا نزع الخف بعد طهر المبدل، والأصل، فسقط حكم البدل، بخلاف ما نحن فيه. فأما إذا كان بعض رأسه محلوقًا دون البعض، فهو بالخيار بين أن يمسح على الشعور، أو على موضع الحلق أيضًا، كما ذكرنا من قبل، هذا كله كلام في الوجوب عندنا. وقال مالك: مسح جميع الرأس واجب، وقاسه على مسح الوجه واليدين في التيمم. ونحن نقول: إنه مسح بالماء، فلا يلزمه استيعاب بالمسح، دليله المسح الخفين. وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب، والدليل عليه الآية و (الباء) للتبعيض؛ ولأن المقادير لا تؤخذ قياسًا، ولا اجتهادًا. وقال أحمد: لو مسح على المشاوذ جاز. لما روى أنه - عليه السلام - جهز جيشًا، فأمرهم بالمسح على المشاوذ، والتساخين وهي الخفاف.

قلنا: نحمله على ما إذا مسح تحتها، ولا يرفعه من الرأس، بدليل الآية والله أعلم بالصواب. فأما الكلام في الاستحباب، فمسح جميع الرأس سنة، وكيفيته أن يضع يديه على مقدم رأسه، ويمرهما إلى مؤخر الرأس، ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه. ويعده مرة واحدة، ويفعل ذلك مرتين أخريين؛ لأنه إذا أمرهما إلى آخر الرأس، فقد ابتل به باطن شعور مقدم الرأس، وظاهر شغور مؤخر الرأس، فيحتاج إلى أن يعيد اليدين إلى الموضع الذي بدأ منه، حتى يبتل باطن شعور مؤخر الرأس، وظاهر شعور مقدمه ويحصل مسح الرأس، بخلاف ما قلنا في المشي بين الصفا والمروة: إنه لا يشترط فيه الذهاب والرجوع؛ لأن المقصود منه المشي بينهما، وقد حصل بالذهاب المشي، وعندنا التكرار فيه شرط كل مرة بماء جديد. وقال أبو حنيفة: التكرار فيه ليس بشرط، ثم قال في رواية: يمسح مرة واحدة، وقال في رواية: يمسح ثلاث مرات بماء واحد. دليلنا: أن نقيس هذا على سائر الأعضاء. قوله: (ثم يمسح أذنيه). قال القاضي حسين: مسح الأذنين سنة مستحبة عندنا، يمسحها ثلاثًا، ظاهرهما وباطنهما بماء جديد.

وكيفيته: أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويمر إبهاميه على ظاهرهما، ثلاث مرات. وقال أبو حنيفة: التكرار فيه ليس بسنة، ولا يمسح الأذنان بماء جديد، بل يمسحان بالماء الذي يمسح به الرأس. وأما مسح العنق لم ترد فيه سنة، وقد قيل: فيه وجهان. إن قلنا: يسن ذلك: يمسح بالماء الذي يمسح به الأذنان تبعًا لهما، لقوله عليه السلام: (مسح العنق أمان من الغل)

قوله: (ثم يغسل رجليه) قال القاضي حسين: غسل الرجلين واجب عندنا مع الكعبين. وقال زفر: غسل الرجلين واجب إلى الكعبين. كما قال في اليدين. وقالت الشيعة: إن فرضهما المسح دون الغسل. وقال أهل الظاهر: يجمع بين الغسل والمسح فيهما. وقال ابن جرير الطبري: يتخير فيهما بين المسح والغسل. والدليل على الكل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) ولا نشك أنه غسل الرجلين، وما مسح عليهما. إذا ثبت أن غسل الرجلين مع الكعبين واجب عندنا.

الكعبان: هما الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، ولكل رجل كعبان. وقال أبو يوسف: الكعبان هما الناتئان عند ظهر القدم.

وهذا لا يصح لما روى عن أبي هريرة أنه قال: كنا نلصق المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب، في الصلاة. وإنما يتحقق إلصاق الكعب بالكعب على قوله. قوله: (ويخلل بين أصابعهما) قال القاضي حسين: أصابع الرجلين لا يخلو إما أن تكون منفرجة، أو كانت منضدة بعضها على بعض. فإن كانت منفرجة بحيث يصل الماء إليه عند الصب. فالتخليل مسنون فيه، وليس بواجب، وإن كانت منضدة بعضها على بعض، بحيث لا يتخللها الماء بالصب، فالتخليل واجب فيه إذا أمكن إيصال الماء إليه من غير جرح وشق، وكيفيته أن يخلل بخنصره اليسرى، ويبدأ في التخليل بخنصر رجله اليمني من أسفل، ويختم رجله اليسرى.

والدليل على أن التخليل سنة ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (خللوا أصابعكم قبل أن تخلل بالنار). وروى عن لقيط بن صبرة، أنه قال: يا رسول الله، علمني الوضوء، فقال: أسبغ وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائمًا فترفق، وخلل بين أصابعك. وإسباغ الوضوء سنة، وإطالة الغرة، وهو أن يستوعب جميع الوجه، بالغسل ن ويغسل جزءا من الرأس معه، ويغسل اليدين إلى المنكبين، والرجلين إلى الركبتين. لما روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أمتي تبعث يومَ

القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل). قال الشافعي: وأحب أن يمر الماء على ما سقط من اللحية عن الوجه، وإن لم يفعل ففيها قولان: قال: يجزيه في أحدهما، ولا يجزيه في الآخر. قال المزني: قلت (أنا) (يجزيه) أشبه بقوله؛ لأنه لا يجعل ما سقط من منابت شعر الرأس من الرأس، فكذلك يلزمه ألا يجعل ما سقط من منابت شعر الوجه من الوجه. قال القاضي حسين: لا خلاف أنَّ ما كان من شعور اللحية بحذاء الوجه من الخدين، والأنف وغيره يجب غسله، فأما ما استرسل من اللحية بحذاء الصدر ففيه قولان: أحدهما: يجب غسله، لأن اسم الوجه من المواجهة، وذلك يقع عليه

بخلاف ما يتساقط عن حد الرأس، لأن الرأس اسم لما يترأس، وذلك لا يقع عليه هذا الاسم. والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني: أنه لا يجب غسله، واحتجَّا بأن ما نزل عن حد الرأس لا يعطي له حكم الرأس، حتى لا يجوز المسح عليه، فكذا ما نزل عن حد الوجه مثله. والجواب عنه ما ذكرنا. ثم نقول: ما نزل عن حد الرأس قد يعطي له حكم الرأس في حق الحلق والتقصير للمحرم، فكذلك ما نزل عن الوجه وجه أن يعطي له حكم الوجه بها، وهو الغسل، لأن الاحتياط في الموضعين إنما يكون بما ذكرنا. قال الشافعي: وإن غسل وجهه مرة، ولم يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء، ولم يكن فيهما قدر، وغسل ذراعيه مرة مرة، ومسح بعض رأسه بيده، أو ببعضها، ما لم يخرج عن منابت شعر رأسه أجزأه، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته. قال الشافعي: والنزعتان من الرأس، وغسل رجليه مرة مرة، وعم بكل مرة ما غسل أجزأه، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال: (هذا وضوء لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاة إلا به) ثم توضأ مرتين مرتين، ثم قال: من توضأ مرتين أتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال: وفي تركه أن يتمضمض ويستنشق ويمسح أذنيه ترك للسنة. قال القاضي حسين: أراد به ذكر فرائض الوضوء، وهي سبعة بالنية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب. وفي التتابع قولان:

قال في القديم، وهو مذهب مالك: إنه واجب، وقال في الجديد، وهو مذهب أبي حنيفة: إنه لا يجب. وأما سننه اثنتا عشرة: التسمية، وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، والمبالغة فيهما، والسواك في وجه، والتيامن، والتثليث، وإطالة الغرة، ومسح جميع الرأس، ومسح الأذنين، وتخليل اللحية، وتخليل أصابع الرجلين، وأن يقول في آخره: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدك ورسولك). فإن قيل: الشافعي أدخل في تضاعيف الكلام ما ليس منه؛ لأنه ذكر فرائض الوضوء، ثم احتج في (الوسط) بالخبر. وقال أيضًا: النزعتان من الرأس، ثم قال: ويغسل رجليه.

قلنا: هذا سائغ في كلام العرب يدل عليه قوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم). فالأول خطاب الحاضرين. والثاني خطاب للغائبين، وكما قال الشاعر: إن الثمانين وبلغتها .... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ثم احتجَّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم: «توضأ مرة مرة ...» الخبر. من أصحابنا من قال: إنما فعله في مجالس؛ لأنه لو فعله ثلاث مرات في مجلس واحد لأدى ذلك إلى غسل كل عضوٍ ست مرات، وهذا بدعة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من زاد عن الثلاث فقد أساء واعتدى وظلم». ومنهم من قال: إنما فعله في مجلسٍ واحد، ولا يكون بدعة في حقه؛ لأنه جلس معلمًا الأحكام للناس، بخلاف غير النبي.

قال: (وفي تركه أن يتمضمض، أو يستنشق) أراد به بيان المضمضة والاستنشاق، وأنهما سنتان في الوضوء، وفي الغسل من الجنابة. وقال أحمد بن حنبل وابن أبي ليلى: إنهما واجبتان فيهما. وقال أبو ثور وإسحاقُ: الاستنشاق واجب فيهما دون المضمضة. وقال أبو حنيفة: هما واجبتان في الغسل، سنتان في الوضوء. قال الشافعي: وليست الأذنان من الوجه، فيغسلان، ولا من الرأس، فيجزي مسحه عليهما؛ فهما سنة على حيالهما، واحتج بأنه لما لم يكن على ما فوق الأذنين مما يليهما من الرأس ولا على ما وراءهما مما يلي منابت الشعر من الرأس إليهما، ولا على ما يليهما إلى العنق مسح- وهو إلى الرأس أقرب- كانت الأذنان من الرأس أبعد. قال المزني: لو كانتا من الرأس أجزأ من حج - حلقهما عن تقصير الرأس؛ فصح أنهما سنة على حيالهما. قال القاضي حسين: فإن قيل: أخل المزني في نقله حيث قال: فيغسلان وجواب النفي بالفاء يكون منصوبًا، وعلامة النصب فيه إسقاط النون كقوله تعالى: (ولا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا). قلنا يجوز بالرفع أيضا كقوله: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون).

والثاني: أنه ما أخرج هذا الكلام مخرج النهي، ولكن أخرجه مخرج الاحتجاج، يعني: إنه لو كانتا من الوجه لغسلتا، ولو كانتا من الرأس لجاز المسح عليهما من مسح الرأس. واحتج به على مالك، حيث قال: إنهما من الوجه، بعدم وجوب غسلهما مع الوجه، وعلى أبي حنيفة حيث قال: الأذنان من الرأس، ولا يجوز المسح عليهما عن مسح الرأس. قال على رضي الله عنه: ظاهرهما من الرأس، فلا يجوز المسح عليهما، وباطنهما من الوجه، واحتج أيضا بأن البياض المستدير حوالي الأذنين أقرب إلى الرأس خلقة ومساحة من الأذنين، ثم ذاك ليس من الرأس، فهذا أولى. واحتج المزني أيضًا بأنهما لو كانت من الرأس لاكتفى بحلقهما في الإحرام، إلا أنهم يقولون: إنما لا يجزي عن حلق الرأس، لأن عندنا يشترط حلق ربع الرأس، وذلك دونه. قلنا: وجب أنه لو كمل معه حلق ربع الرأس يجوز، ومع ذلك لا يجوز عندكم. قال الشافعي: والفرق بين ما يجزيء من مسح بعض الرأس، ولا يجزئ إلا مسح كل الوجه في التيمم: أن مسح الوجه بدل من الغسل يقوم مقامه، ومسح بعض الرأس أصل لا بدل من غيره. قال القاضي حسين: أراد به مالكًا، حيث قال: مسح جميع الرأس واجب، وقاسه على مسح الوجه في التيمم، إن مسح الوجه هناك بدل عن الغسل فيقوم مقامه، ومسح بعض الرأس أصل، وليس ببدل عن غيره، فأني يستويان؟ قال الشافعي: وإن فرق وضوءه، وغسله، أجزأه، واحتج في ذلك بابن عمر، رضي الله عنهما.

قال القاضي حسين: التفريق فيهما إن كان يسيرًا جاز، وإن كان كثيرًا متفاحشًا، فإن كان لعذر بأن نفد ماؤه، فطلب أو خاف من سبع أو عدو فهرب وما في معناه فإنه يكون عفوًا. وإن لم يكن بعذر، ففيه قولان على ما ذكرنا. أحدهما: يكون عفوًا، لأن هذا معنى لا يضاد الوضوء بعد الفراغ، فصار كالأكل، وعكسه الحدث، واحتج فيه أيضا بابن عمر أنه كان في سوق المدينة، فتوضأ، فانتهي إلى المسح على الخفين، فمرت به جنازة، فقام وتبعها، ثم أتى المصلي، ودعاء بماء، ومسح به على الخفين، وكان بين المصلي بالمدينة وسوقها أكثر من زمان الجفاف، فدل على أنه يكون جائزًا. والثاني: لا يكون عفوا قياسًا على الصلاة، وحد التفاحش منه إذا مضى زمان يحصل فيه الجفاف حال اعتدال الهواء.

إن قلنا: لا يكون عفوًا فلا كلام، وإن قلنا: يكون عفوًا، فهل يحتاج فيه إلى تجديد النية أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن النية إنما شرعت للتمييز بين العادة والعبادة، وإذا طال الفصل فلا يحصل ذلك. والثاني: لا؛ لأن أصل النية حكمه باق، والاستدامة فيها ليس بشرط. إن قلنا: لا يحتاج إلى تجديد النية، فلا كلام. وإن قلنا: يحتاج إلى تجديد النية، فإذا نوى، فهل يبني على ما مضى أم يستأنف؟ فيه وجهان، بناء على أنه لو فرق النية على أعضاء الطهارة، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان على ما ذكرنا. قال الشافعي: لو بدأ بذراعيه قبل وجهه رجع إلى ذراعيه، فغسلها؛ حتى يكونا بعد وجهه؛ حتى يأتي الوضوء ولاء، كما ذكره الله تبارك وتعالى، قال:

(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وهكذا قرأه المزني: (إلى الكعبين) فإن صلى بالوضوء على غير ولاء، رجع فبني على الولاء من وضوئه، وأعاد الصلاة واحتج بقول الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفا، وقال: نبدأ بما بدأ الله به، قال: وإن قدم يسرى قبل يمني، أجزأه، قال أبو إبراهيم: إن قدم الوضوء، وأخر يعيد الوضوء والصلاة. قال القاضي حسين: الترتيب عندنا واجب في الوضوء، حتى لو نكس الطهارة بأن غسل رجليه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم غسل وجهه يحصل له غسل الوجه فحسب، حتى لو توضأ أربع مرات منكوسًا حصل له الطهارة، ولو غسل وجهه ويديه ورجليه، ثم مسح برأسه حصل له غسل الوجه واليدين ومسح الرأس، ويلزمه غسل الرجلين ثانيًا، وعلى هذا القياس نظائره. فرع لو دخل في الماء، وانغمس فيه، وخرج ينظر؛ فإن أقام فيه ريثما يجري الماء على أعضائه أربع مرات صحت طهارته، وإن مكث دون ذلك. هل تصح طهارته أم لا؟ فيه وجهان: بناء على أن الحدث هل يحل جميع البدن، أم يحل أعضاء الطهارة.

وفيه وجهان: أحدهما: أنه يحل جميع البدن بدليل أنه لا يجوز له مس المصحف بسائر الأعضاء غير أعضاء الطهارة. كما لا يجوز له مسه بأعضاء الطهارة، إلا أنه لا يكلف غسل جميع البدن في الوضوء، لما فيه من المشقة والتعب. والوجه الثاني: أن الحدث يحل أعضاء الطهارة فحسب، وإنما لا يجوز له مسح المصحف بسائر الأعضاء لاتصاله بأعضاء الطهارة. إن قلنا: إن الحديث يحل جميع البدن، فيصح طهارته هناك؛ لأنه أتي بالأفضل وهو الغسل، ولا مدخل للترتيب فيه، فعلى هذا لو ترك لمعة من جميع البدن لا يصح وضوؤه. وإن قلنا بالوجه الثاني، لا يصح وضوؤه إلا أنه يحصل له غسل الوجه فحسب؛ لأن الترتيب واجب عليهن وغسل سائر الأعضاء غير واجب، فلا يسقط الواجب بغير الواجب، وهكذا لو قام تحت المئزاب حتى انصب الماء

عليه، فإن كان بدفعات ومكث تحته قدر ما يجري الماء على أعضائه أربع مرات فلا كلام، وإن جري الماء على أعضائه دفعة واحدة، في حالة واحدة ينبني على ما ذكرنا من الوجهين. وهكذا لو وضع هامته على الأرض، وأمر غيره بأن يصب الماء على رجليه، على ما ذكرنا من التفصيل، فأما إذا أمر أربعة نفر بأن يغسل كل واحد منهم عضوًا من أعضاء طهارته دفعة واحدة، فيه وجهان: أحدهما: يصح وضوؤه؛ لأنه لم يقدم اليدين على الوجه، والبعض على البعض. والثاني: لا لعدم الترتيب، وكذلك لو استأجر رجلين ليحجا عنه، أحدهما حج الفرض، والآخر حج النفل، فحجا في سنة واحدة، وكذا في نظائرهما من رمي الجمر على ما سنذكره في موضعه، والله أعلم.

فرع إذا أحدث الرجل، ثم أجنب. اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يلزمه الوضوء والغسل، لأن موجب الطهرين مختلف، فصار كما لو قتل المحرم صيدًا مملوكًا في الحرم يلزمه القيمة لمالكه، والجزاء لله تعالى، وهذا مذهب أبي ثور. ومن أصحابنا من قال: يلزمه الغسل لا غير، ويدخل الصغرى في الكبرى؛ لأنها من جنسها، كما يدخل الحج على العمرة. ومنهم من قال: ما يتشاكل منهما يتداخل، وهو أصل الغسل، وما لا يتشاكل مهما لا يتداخل، حتى وجب عليه غسل جميع الأعضاء مرة واحدة، ويجب عليه مراعاة الترتيب في أعضاء الطهارة، كما لو قرن بين الحج والعمرة، ما يتشاكل منهما يتداخل، وما انفرد به أحدهما مثل الوقوف بعرفة يلزمه إتيانه، كذا ها هنا. فأما إذا أجنب، ولم يحدث، وإنما يتصور هكذا بأن نام قاعدًا ممكنًا مقعدته من الأرض، فاحتلم أو لف خرقة على جميع أعضائه، ثم أدخل الفرج في فرج أحد حتى حصل التقاء الختانين، فإنه يصير جنبا لا محدثًا لا خلاف أنه يلزمه غسل جميع الأعضاء دون الوضوء. فأما إذا أجنب ثم أحدث؛ هذه تنبني على المسألة الأولى. إن قلنا هناك: لا يتداخلان، فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: يتداخلان، فها هنا وجهان. والفرق أن هناك الكبرى لا يستقر عليه حكمها، فجاز أن تدخل على الصغرى، كما لو أدخل الحج على العمرة، جاز.

وها هنا الكبرى استقر عليه حكمها، فلا تدخل عليها الصغرى، كما لو أدخل العمرة على الحج لا يجوز في قول. فرع ابن الحداد على هذا، وقال: لو أن جنبًا اغتسل جميع بدنه إلا الرجلين، ثم أحدث فعليه غسل الأعضاء الثلاثة مرتبًا، وغسل الرجلين كيف شاء، وهذا إنما كان على مذهب من لا يحكم بطروء الحدث على الجنابة. فأما على المذهب الاخر يجب عليه غسل الرجلين لأجل الجنابة والوضوء كاملا مرتبًا، وفي وجه يجب الوضوء مرة واحدة مرتبًا، ولا يجب غسل الرجلين لأجل الجنابة. قال القفال: الترتيب واجب في الوضوء، إلا في ثلاث مسائل: إحدهما: هذه. والثانية: لو رأي على ثوبه بللاً. قال: هو بالخيار بين أن يقدر أنه مذي أو ودي أو بول، ويتوضأ، ويغسل الثوب، وبين أن يجعله منيا، ويغتسل ولا يغسل الثوب، فلو توضأ، ولم يغسل الثوب، وصلى فيه لا يجوز إلا أنه لا يجب عليه الترتيب في الوضوء، لاحتمال أنه ربما يكون منيا، ولا وضوء عليه مرتبًا، فقد تيقن غسل الأعضاء في الجملة، وشك في الترتيب.

الثالثة: الخنثى المشكل لو أولج ذكره في دبر رجل، فعلى المولج فيه الوضوء، ولا يجب عليه فيه الترتيب لاحتمال أن الخنثي كان رجلاً، وعليه غسل الأعضاء غير مرتب، إلا أنه رجع عن هاتين المسألتين، وقال: الأصل شغل ذمته بالصلاة، فإذا أتى بوضوء غير مرتب، فقد تحققنا أنه ما أتي بطهارة، لأن المولج إن كان رجلا فعليه الغسل، وهو ما أتي به، وإن كان امرأة فعليه الوضوء مرتبًا، وما أتي به. فرع لو أن جنبًا غسل جميع أعضاء وضوئه، ثم أحدث فعليه غسل باقي الأعضاء بلا خلاف، وعليه غسل الأعضاء الأربعة مرة واحدة على الترتيب في وجه. وفي وجه: مرتين: أحدهما مرتبًا، والآخر غير مرتب. وفي وجه: مرة واحدة مرتبًا. فأما إذا غسل جميع بدنه، إلا الأعضاء الأربعة، ثم أحدث غسل باقي البدن عن الجنابة، وغسل الأعضاء الأربعة مرة واحدة على الترتيب لأجل الحدث. فرع محدث ظن أنه كان جنبًا فاغتسل، فإن راعي فيه الترتيب فلا كلام، وإلا فوجهان بناء على أن الحدث يحل جميع البدن، أو يحل أعضاء الطهارة، وقد ذكرناه. فأما الجنب إذا ظن أنه كان محدثا، واغتسل بنية رفع الحدث، الصحيح أنه جائز، ولعل هذا أيضًا بناء على أن الحدث يحل جميع البدن أم لا؟

إن قلنا: يحل جميع البدن، صحت طهارته، وإلا فلا، لأن باقي الأعضاء لم يغسله بنية الفرض، فلم يحسب له عن الفرض، وما أتي بالترتيب في غسل الأعضاء الأربعة، فلا يحسب له عن الوضوء. فرع لو نسي الترتيب، فيه قولان: في الجديد: لا يجوز الوضوء. في القديم: جاز. فيخرج من مسألة نسيان قراءة الفاتحة في الصلاة، وفيه قولان: قال في الجديد: لاتصح الصلاة. وقال في القديم: صحت. وهكذا لو تيمم، ونسي الماء في رحله. وفي القديم: جاز، وفي الجديد: لا يجوز.

وإنما قال في القديم: لما روى أن عمر رضي الله عنه كان يصلي، وترك قراءة الفاتحة في ركعة، فلما فرغ منها قيل له ذلك، فقال: كيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسن قال: فلا بأس إذا. هكذا كله بيان مذهبنًا في الترتيب. وقال أبو حنيفة: الترتيب ليس بواجب. والدليل عليه ظاهر القرآن، حيث أمر بالبداية بغسل الوجه فالظاهر أن ما بدأ الله تعالى به قولا يلزمنا البداية به فعلا؛ كما في الصفا والمروة. قوله: (وتقديم اليمني على اليسرى) قال القاضي حسين: ويستحب تقديم اليمني على اليسرى في البدن والرجلين. وقال أحمد: إنه واجب، وهذا لا يصح، لأنهما في حكم عضو واحد، والله تعالى جمع بينهما بالذكر، وعد أعضاء الوضوء أربعة لا ستة، والترتيب ليس بشرط في العضو الواحد. قال الشافعي: ولا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهرًا. قال القاضي حسين: لا يجوز للمحدث مس المصحف، لا موضع المكتوب، ولا الحواشي والجلد، ولا الخريطة، ولا يجوز له حمل المصحف، ولا العلاقة

ولا الخريطة، ولا الصندوق، ولا الغلاف، فلو حمل المصحف بالعلاقة، قيل: فيه وجهان. والصحيح أنه لا يجوز، ولو كان في عدل محكم وحمل العدل، فيه وجهان. فأما مس كتب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وحمله يجوز للمحدث، لأنه كلام، وهكذا كتب الفقه والتعاليق إذا كان فيها آيات من القرآن يجوز للمحدث حملها، لأنه لا يقصد بها القرآن. فأما كتب التفاسير، فإن كتب على رسم القرآن بخط جلي، وكتب التفسير تحته بخط رقيق مقرمط، لا يجوز للمحدث مسه، وإن كتبت برسم التصانيف جاز. فأما كتبه القرآن، هل يجوز للمحدث؟

ينظر، فإن وضع المصحف على حجر، فلا يجوز. وإن وضعه على الأرض، فإن مست يده الحواشي والكاغد لا يجوز، وإلا فوجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لم يوجد المس باليد. والثاني: لا يجوز؛ لأن القلم متصل بيده، وهكذا إذا وضع المصحف على الرجل، وقلب الأوراق بالخشب، فيه وجهان. فأما الصبيان، فإنهم يمكنون من حمل الألواح مع الحدث، وهل يمكنون من حمل المصاحف مع الحدث، أم يكلفون الطهارة؟ فيه وجهان: أحدهما: تلزمهم الطهارة، كما إذا أرادوا الصلاة. والثاني: لا؛ لعدم التكليف في حقهم. وأما البالغ له أيضا حمل الألواح مع الحدث؛ لأنه لا يقصد به حمل القرآن، بل إنما يكتب عليه القرآن لأجل الحفظ لا للإثبات. وفيه وجه آخر، أنه لا يجوز؛ لأنه إنما جوز في حق الصبي لأجل الضرورة، ولا ضرورة في حق البالغ، فأما الطراز على الثوب، أو ما يكتب على المصلي من آيات القرآن، ونقش الخواتيم، فللمحدث مسه إذا لم يقصد به إثبات القرآن، بل المقصود منه النقش.

فأما التعاويذ يكره للمحدث حمله، وفي الدراهم المكتوب عليها: (قل هو الله أحد)، وجهان. وما يكتب على الحلاوى والأطعمة، فلا بأس بأكله، لو كتب على الجدار شيء، أو نقش على الخشب، فللمحدث مسه، فأما إحراق تلك الخشبة لا يجوز، لأن فيه إهانته. فأما تعليم القرآن للكافر إن توسم فيه آثار الميل إلى الإسلام جاز له ذلك، وإلا فلا يجوز. ولا يجوز حمل المصحف إلى دار الكفر، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهي عن ذلك، ويجوز أن يكتب رقعة إلى الكفار فيها آية من القرآن. كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم (الشام) كتابصا؛ فيه: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) الآية، ولا يمكن الصبيان من محو الألواح بالأقدام؛ لأن فيه تهاونًا به. هذا كله تفريع على مذهبنا.

وقال أبو حنيفة: يجوز للمحدث مس المصحف، لا موضع المكتوب، وهذا لا يصح لقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون). قال الشافعي: ولا يمتنع من قراءة القرآن إلا جنبًا. قال القاضي حسين: لا يجوز للجنب أن يقرأ شيئا من القرآن، وإن قل، ولو قرأ عصي الله تعالى ويأثم إذا قصد القرآن، فإذا قصد التبرك لافتتاح الأم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) جاز. أو ذكر الحمد على جهة الشكر، أو قال عند المصيبة: (إنا لله وإنا إليه راجعون). أو عند الخاتمة: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة)، وإلى آخره جاز. وقال أبو حنيفة في رواية: له أن يقرأ ما دون الآية. وفي رواية: ما دون ثلاث آيات، وفي رواية: ما لم يدخل في حد الإعجاز، وهذا لا يصح. لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن). فأما الحائض فلا تقرأ القرآن، وإن قل في ظاهر المذهب، كالجنب. وقال أبو ثور: قال أبو عبد الله: للحائض أن تقرأ القرآن.

منهم من قال: أراد به مالكًا، ومنهم من قال: أراد به الشافعي. ومنهم من قال أراد به أحمد، لأنه يكني هؤلاء بأبي عبد الله، فحصل فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لها قراءة شيء من القرآن كالجنب. والثاني جاز، لأن الحيض ربما يمتد إلى زمان طويل، أو كانت معلمة، فيؤدي إلى انقطاع كسبها لو منعناها عن القراءة، وربما تنسي في هذه المدة بخلاف مدة الجنابة، إلا أن هذا لا يصح، لأنه يمكنها أن تستخلف في التعليم، وتطالع في المصحف، ولا تقرأ كي لا ينقطع كسبها، ولا تنساه. يجوز للمحدث قراءة التوراة والإنجيل، وما نسخ من القرآن من سورة الحمد، وهو قوله: اللهم إنا نستعينك ... إلى آخره. وقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم). ومن قوله: (أنا الرحمن، وهي الرحم شققت الرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته). ومن قوله: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). والدليل على أنه لا يجوز للجنب قراءة القرآن ما روى أن عبد الله بن رواحة اتهمته امرأته بأنه قد ألم بجارية له، فقالت: إن لم تجامعها فاقرأ القرآن، فأخذ يقرأ:

شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا إلى آخر الأبيات، فقالت: صدقت وكذبت عيناي. واتفقوا على أن قراءة القرآن حرام غير جائز للجنب. فرع المستحب للمتوضي ألا يستعين بأحد على وضوئه، لما روى عنه عليه السلام أنه قال: أما أنا فلا أستعين بأحد على وضوئي

وكان عليه السلام، لا يكل أمر وضوئه، ولا يكل صدقته إلى الغير. ولو استعان جاز، لما روي عن المغيرة بن شعبة أنه قال: كنت أسكب له الوضوء. وروى عن أنس مثل ذلك فرع المستحب أن لا ينشف أعضاء الوضوء لما روى عن ميمونة أنها قالت: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بمنديل لينشف به أعضاء الوضوء فردني، ونفض يديه. ولو نشف جاز، لما روى عن عائشة، رضي الله عنها أنها قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها أعضاء الوضوء.

فرع إذا كان لرجل قدمان على ساق أو يدان على منكب، قال: كانا أسفل الكعبين والمرفقين لا خلاف أنه يجب غسلهما، كالإصبع الزائدة، وإن كانا فوق الكعبين، أو فوق المرفقين، فلا يجب غسلهما. فرع إذا كان على أعضاء طهارته ما يمنع وصول الماء إلى البشرة، مثل الشمع والشحم الذائب، ودهن السندروس، وعين الجبر وعين الحناء لا يصح وضوؤه، لأنه يمنع وصول الماء إلى البشرة. فأما أن الحناء والمداد وسائر الأدهان لا يمنع صحة الوضوء، لأن هذا الأشياء لا تمنع وصول الماء إلى البشرة، وإنما تمنع ثوبته عليها، والشرط هو المرور، وقد وجد. فأما قرار الماء على البشرة فليس بشرط، والله أعلم بالصواب.

باب الاستطابة

باب الاستطابة قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرهما بغائط ولا ببول، وليستنج بثلاثة أحجار، ونهي عن الروث والرمة. قال الشافعي: وذلك في الصحارى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جلس على لبنتين مستقبل بيت المقدس، فدل أن البناء مخالف للصحاري. قال القاضي حسين الاستطابة والاستجمار والاستنجاء واحد، لأن الاستطابة طلب الطيب. والاستجمار: طلب الجمار والأحجار. والاستنجاء: إزالة النجاسة، النجو، وهو العذرة. فالكل عبارة عن إزالة النجو عن محل مخصوص، والأصل فيه ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها بغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار.، ونهي عن الروث والرمة.

قوله: إنما أنا لكم مثل الوالد. له تفسيران. أحدهما: أن شفقتي عليكم كشفة الوالد على ولده، وأقيكم من عذاب النار كما يقي الوالد ولده من النار. والثاني: أنه قصد أن يذكر أمرًا يحتشم فبدأه بأن قال: إنما أنا لكم مثل الوالد، يعني: لا تحتشموا مني في تعلم آداب الطهارة وأمورها، كما لا يحتشم الولد من الوالد، ثم قال: (إذ جاء أحدكم الغائط): اسم للمكان المطمئن من الأرض، إلا أنه سمى النجو باسمه، ويعبر به عنه مجازًا، لكثرة خروج الناس إليه عند الحاجات. ثم قال: (ولا يستقبل القبلة): لا يجوز استقبال القبلة واستدبارها في الصحارى للغائط والبول، ويجوز كلاهما في البنيان. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستقبال فيهما، وعنه روايتان في الاستدبار:

إحداهما: يجوز فيهما. والثانية: لا يجوز فيهما. والحديث محمول على أن النهي ورد في الصحاري بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلس في بيت حفصة على لبنتين مستقبل بيت المقدس يقضي حاجته، ومن كان مستقبلا بيت المقدس بالمدينة كان مستدبر الكعبة، فدل على أن البناء مخالف للصحاري فيه، والبنيان ما كان مستقفا، أو كان محوطا، ويمكن تسقيفه فليس حكمها حكم البنيان إلا إذا كان بين يديه سترة من جدار وغيره، بحيث يستر أسفل بدنه، فإن حكمه حكم البنيان لما روى عن ابن عمر أنه حفزه البول، فأناخ راحلته، فتوجه للقبلة وبال قائمًا. ولأي معنى يكره الاستقبال والاستدبار في الصحارى؟ فيه معنيان: أحدهما: أن الصحارى لا يخلو عن مصلى يصلي فيه من ملك أو جني أو إنسي، فربما وقع على فرجه فيتأذى به، فأما الحشوش في البنيانات، فإنها موضع الشياطين، فيخلو عن المصلين فيه.

والثاني: أن الصحارى المكان فيها واصع، فلا تلحقه المشقة في ترك الاستقبال والاستدبار بخلاف البنيان، فإن المكان فيه ضيق، فربما تلحقه المشقة في ترك استقبال القبلة واستدبارها واتخاذ المستجمر والخلاء بجانب آخر، فلا يكون منهيا في البنيان، ثم قال عليه السلام، (وليستنج بثلاثة أحجار). العدد شرط في الاستنجاء. وأصل الاستنجاء واجب بدليل هذا الخبر، وإنما يكون الاستنجاء بالأحجار إذا لم يعدو المخرج، على ما سنبين بعده إن شاء الله تعالى. ثم نهي عن الروث والرمة. لا يجوز الاستنجاء بالأشياء من: (الروث والبعر والعذرة والسرجين، وأراد بالرمة العظم). ونبه في خبر آخر على المعنى، وقال: (أما الرمة فإنها زاد إخوانكم من الجن، وأما الروث فعلف دوابهم). قال الشافعي: وإن جاء من الغائط، أو خرج من ذكره، أو من دبره شيء، فليستنج بالماء، وليستطب بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع، ولا عظم.

قال القاضي حسين: الاستنجاء واجب في الجملة، إما بالماء أو بالأحجار، ولا يجب الجمع بينهما، بل يستحب ذلك، ويجوز الاقتصار على كل واحد منهما، إلا أن الأولى أنه إذا أراد الاقتصار على أحدهما أن يقتصر على الماء، لأنه أقوى في الإزالة، حيث يزيل العين، والأثر بخلاف الحجر. وقال أبو حنيفة، إن كان النجاسة، قدر الدرهم أو أقل فهو عفو، وهكذا قال في النجاسة في سائر البدن، وإن زاد على ذلك، فيجب إزالتها بالماء، ولا يجوز الاقتصار على الأحجار. والدليل عليه قوله عليه السلام: (وليستنج بثلاثة أحجار) أمر، والأمر على الوجوب، وروى أنه قال: (لا يجزيء أحدكم في الاستنجاء أقل من ثلاث مسحات). دل على أن الثلاثة تجزيء. إذا ثبت هذا؛ فالخارج قسمان: ريح، وعين. فأما الريح لا توجب الاستنجاء، لأن الاستنجاء كاسمه شرع لإزالة النجو، فإذا خرجت ريح فلم يوجد النجو حتى يزال. فأما العين فعلى قسمين: رطب، ويابس.

فأما الرطب فعلى قسمين: معتاد مثل البول والغائط، أو نادر مثل القيح، والدم والصديد، وغيره. فإن كان معتادًا؛ لا خلاف في أنه يجوز الاستنجاء فيه بالأحجار كما يجوز بالماء. فأما غير المعتاد، ظاهر ما نص ها هنا أنه يجوز الاستجاء فيه بالأحجار، لأنه قال: شيء، ولم يفصل. وقال في رواية الربيع: لو تخلي دما أو قيحًا، فليس له أن يستنجي بالأحجار. وقال في القديم، لو كان في جوف مقعدته بواسير، بالباء والنون، والصاد والسين، فخرج منها دم فلا يجزئه إلا الماء، فجعل بعض أصحابنا في المسألة قولين: أحدهما: يجوز الاقتصار فيه على الأحجار، كما في المعتاد. والثاني: لا؛ لأنه نادر، والرخصة وردت في المعتاد. ومنهم من قال: قول واحد إنه يجوز. وما قال في القديم أراد به إذا كان على بشرته قروح وبثور، فخرج منها دم فلا يجزئه إلا الماء، لأنها نجاسة خرجت من الظاهر. ومنهم من قال: في النقل تصحيف، لأنه قال: ولو كان في جوف معدته بواسير. فعلى هذا لو انثقبت ثقبة في بدنه، فخرج منه المعتاد، فإن كان تحت المعدة، فلا يخلو إما أن أنسد موضع المعتاد، أو لم ينسد موضع المعتاد، فإن انسد ذلك وخرج المعتاد من هذه الثقبة، لا خلاف أنه تنتقض طهارته. وهل يجوز الاقتصار فيه على الأحجار؟ فيه وجهان بناء على ما لو خرج غير المعتاد من مخرج المعتاد. إن قلنا هناك: يجوز اعتبارًا بالمخرج، فها هنا لا يجوز.

وإن قلنا هناك: لا يجوز اعتبارًا بالخارج، فها هنا يجوز. فعلى هذا تنتقض الطهارة بمس تلك الثقبة. وهل يجوز الحد بإيلاج الفرج فيها أم لا؟ فيه وجهان، والصحيح أنه لا يجب. فأما إذا خرج منه غير المعتاد تنتقض طهارته. وهل يقتصر على الأحجار؟ هل ينبني أيضًا على ما إذا خرج غير المعتاد من مخرج المعتاد. إن قلنا: لا يجوز فيه الاقتصار على الأحجار، فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: يجوز فها هنا وجهان. والفرق أن هناك المخرج معتاد، وها هنا المخرج والخارج كل واحد منهما غير المعتاد. فأما إذا لم ينسد موضع المعتاد وخرج المعتاد من هذه الثقبة، هل ينتقض به الطهارة أم لا، فيه قولان: أحدهما: ينتقض لوجود غير المعتاد. والثاني: لا. إن قلنا: ينتقض، فهل يجوز فيه الاقتصار على الأحجار؟ فعلى ما ذكرنا من الاختلاف، فأما إذا كانت الثقبة فوق المعدة، فإن لم ينسد موضع المعتاد، فلا ينتقض طاهرته، وإن انسد موضع المعتاد، فهذا ينبني على ما إذا كانت الثقبة تحت المعدة، وخرج منها المعتاد، ولم ينسد موضع المعتاد. إن قلنا هناك: لا ينتقض وضوءه، فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: ينتقض وضوءه، فها هنا وجهان. والفرق أن هناك صار الخارج مستحيلا متغيرا لخروجه من المعدة، وها هنا لم يتسحل، ولم يتغير لأنه لم يخرج من المعدة، فأشبه القيء.

فأما إذا كان جامدًا؟ قال المزني في الجامع الكبير، إن عليه الاستنجاء، ثم قال بعده بأسطر: ولو زجر فيلقي مثل البعرة، فبماذا يستنجي؟ فحصل فيه قولان: أحدهما: لا يجب إذ لا بلل فيه. والثاني: يجب لأنه لا ينفك عن البلل. وكذا القولان في المرأة إذا ولدت ولدا ولم تر الدم، هل يجب الاغتسال عليها أم لا؟ فيه قولان: وسيأتي بعد هذا. قال الشافعي: ولا يمسح بحجر قد مسح به مرة إلا أن يكون قد طهره بالماء. قال القاضي حسين: فلو استنجى بحجر، ثم غسله وجففه، لا خلاف أنه يجوز الاستنجاء به ثانيًا، وإن كان قبل التجفيف لا يجوز. فأما إذا رماه في المضحي حتى شرقت عليه الشمس أو هبت عليه الرياح حتى اندرست نجاسته، ظاهر ما نص ها هنا: أنه لا يجوز به الاستنجاء. وقال في الإملاء: لو استنجي بحجر، فألقاه في المضحاة حتى شرقت عليه الشمس جاز أن يستنجي به. وقال في القديم: إذا بيل على الأرض جاز الصلاة عليها. ولا يجوز التيمم بترابها، فحصل في وقوع التطهير بغير الماء قولان، لما ذكرنا من اختلاف النصين. إن قلنا: غير الماء يطهر، فقولان آخران: أحدهما: يطهر الظاهر والباطن. والثاني: يطهر الظاهر دون الباطن؛ لما قال في القديم.

وخرج الخضري على هذا وقال: إن قلنا: الشمس تطهر، فالنار أولى، لأنها تحلل النجاسة لقوتها، فعلى هذا لو طبخ آجر من طين نجس يصير طاهرًا وهذا مذهب أبي حنيفة. قال الشافعي: والاستنجاء من البول كالاستنجاء من الخلاء. قال القاضي حسين: فنذكر أولا حكم الاستنجاء من الخلاء، وقد ورد فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حجران للصفحتين وحجر للمسربة). وقال الشافعي في الكبير: يمسح صفحته اليمني بحجر، وصفحته اليسرى بحجر، ويحلق بالثالث. ولكن قال أصحابنا: لو فعل هكذا فلا يحصل إلا مرتين. قال الشيخ أبو زيد: يأخذ حجرًا بيده اليسرى، ويبدأ بمقدم صفحته اليمني، ويضعه في مكان طاهر، ثم يدير الحجر قليلا قليلا، حتى ترفع بكل جزء من الحجر الطاهر جزءا من النجاسة، ولا يجره جرا إلى أن ينتهي إلى مؤخر صفحته اليمني، ثم يمره على الصفحة اليسرى إلى أن ينتهي من الموضع الذي بدأ منه، ثم يأخذ حجرًا آخر، ويضعه في مكان طاهر من مقدم صفحته اليسرى، ويفعل ذلك مثل ما في الأول، ويديره إلى أن ينتهي إلى المكان الذي بدأ منه، ثم يأخذ حجرًا ثالثًا، ويحلق به المسربة.

فإن فعل هكذا صار مستوعبًا جميع المحل بالأحجار الثلاثة. وكلام الشافعي متأول على هذا المعنى، وإنما قلنا: لا يجره كي لا تتحول النجاسة من محل إلى محل، فحينئذ لا يجزئه إلا الماء، وإنما قلنا: يضعه على مكان طاهر، حتى يحصل له استيعاب المحل بالاستنجاء بالأحجار، كما قلنا في الطهارة: إنه يغسل جزءا من الرأس لاستيعاب الوجه بالغسل، هذا كله إذا كانت النجاسة على المحل الذي لاقاه عند الخروج من الباطن، حتى لو مشي خطوات حتى التصق إحدى الإلتين بالأخرى، وتنتقل النجاسة من محل إلى محل، فإنه لا يجزيء إلا الماء. فاما إذا لم يكن بجنبه ما يستنجي به، فلو زحف قليلا على رجليه ليأخذ الحجر، ولم تسطك إحدي الأليتين بالأخرى فلا بأس به. إذا ثبت هذا فقوله: الاستنجاء من البول كالاستنجاء من الخلاء يعني في الوجوب والعدد. فأما كيفيته أن يمسح العضو على جدار طاهر، أو أرض طاهرة إذا كانت صلبًا في ثلاثة أماكن. فلو فعل ذلك في ثلاث مرات في موضع واحد لا يجوز، ولا يجزئه بعده إلا الماء، وكذا لو وضع رأس الإحليل على الجدار ومسحه من أسفل إلى الأعلى لا يجوز، ولو مسح عليها من الأعلى إلى أسفل جاز. قال الشافعي: ويستنجي بشماله. قال القاضي حسين: السنة أن يستنجي بشماله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الاستنجاء باليمين، لأن اليمين معدة للكرامات، فتستعمل في الطاعات، وفيما يعلو من البدن. والشمال للإهانة فتستعمل في القاذورات.

قال الشافعي: وإن استطاب بما يقوم مقام الحجارة، من الخزف والآجر، وقطع الخشب، وما أشبه فأنقى ما هنالك أجزأه، ما لم يعد المخرج فإن عدا المخرج فلا يجزئه فيه إلا الماء. وقال في القديم: يستطيب بالأحجار- إذا لم يتنتشر منه إلا ما ينتشر من العامة في ذلك الموضع وحوله، والفرق بين أن يستطيب بمينه، فيجزئ وبالعظم، فلا يجزيء أن اليمين أداة، والنهي عنها أدب، والاستطابة طهارة، والعظم ليس بطاهر فإن مسح بثلاثة أحجار، فلم ينق أعاد، حتى يعلم أنه لم يبق أثرا إلا أثيرا لا صفا، لا يخرجه إلا الماء، ولا بأس بالجلد المدبوغ أن يستطاب به، وإن استطاب بحجر له ثلاثة أحرف كان كثلاثة أحجار، إذا أنقي، ولا يجزيء أن يستطيب بعظم، ولا نجس. قال القاضي حسين: النص ورد في الأحجار، إلا أن عندنا لا يختص جواز الاستنجاء بالأحجار. وقال داود: أنه يختص به، وقاسه على رمي الجمار. والفرق بينهما أنه غير معقول المعنى، فإنه لا يدري أنه يعني به الكرامة أو

الإهانة أو غيرهما، وها هنا المقصود منه الإزالة، فكل ما يحصل به الإزالة يجعل في معناه كالماء وحده. قال أصحابنا: كل عين جامدة طاهرة قالعة للنجاسات، غير محترمة ولا مخلفة يجوز الاستنجاء به. وعبر عنه الشيخ سهل الصعلوكي، بأن قال: كل ما نظف ونظف وانصرف فردا ولم يخلف بالاستعمال لهم يتلف يجوز الاستنجاء به، فعلى هذا ما كان لينا مثل الخرقة اللينة، والقطن اللين، والبيضة والزجاجة الملساء لا يجوز الاستنجاء به. وكذلك ما كان نجسًا أو كان رطبًا لا يجوز الاستنجاء به. ولو استنجي بشيء من هذه الأشياء، فلا يجزئه إلا الماء بعده. فأما إذا كان محترمًا لا يجوز الاستنجاء به. أما الخبر اللين، كما ذكروا الخبز اليابس لا يجوز الاستنجاء به، ولكن لو فعل بجهل فهل يسقط به الفرض؟ وجهان. وأما العظم، إن كان فيه رطوبة أو دسومة لا يجوز، وإن كان يابسًا خشنًا في سقوط الفرض، به وجهان. فأما أوراق المصحف لا يجوز الاستنجاء به، ولو اعتقد جوازه يكفر. ولكن لو فعله تهاونًا ففي سقوط الفرض به وجهان، ولا خلاف في جواز

الاستنجاء بالأوراق التي يكتب عليها التوراة، وفي هذه المواضع الثلاث إذا لم يحكم بسقوط الفرض عنه، فيجوز بعده الاستنجاء بالحجر، لأن هذه الأشياء في نفسها قالعة للنجاسة، بخلاف الرطب والأملس، لأنها تنقل النجاسة، ولا تقلعها، فأما الحممة. نص في «البويطي» على أنه لا يجوز الاستنجاء بالحممة، ونص في رواية الربيع على أنه يجوز بالمقابس أو المقانس، من أصحابنا من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من قال: بل على حالين: حيث قال: يجوز؛ أراد به إذا كان صلبًا لا يتناثر، وحيث قال: لا يجوز، أراد به إذا كان رخوًا يتناثر. فأما التراب نصَّ على جواز الاستنجاء به في القديم. وقال في موضع آخر: لا يجوز، فحصل فيه قولان. أحدهما: يجوز. والثاني: لا يجوز. ومنهم من قال: لا يجوز قولا واحدًا، وما ذكره في القديم أراد به إذا كان منعقدًا مثل المدر.

إن قلنا: يجوز، فيحتاج إلى أن يستنجي أربع مرات، لأنه إذا استنجى به مرة يلتصق التراب بالمحل. وفي الثانية يتناثر عن المحل. وفي الثالثة يلتصق بالمحل، فيحتاج إلى المرة الرابعة، كي يتناثر عن المحل، ويستحب له الخامسة لأجل الانتثار، والله تعالى أعلم بالصواب. قوله: (ما لم يعد المخرج ...). قال القاضي حسين: نقل المزني عن الجديد: إنما يجوز ما لم يعد الخارج المخرج، ونقل عن القديم، يستطيب بالأحجار، إذا لم ينتشر منه إلا ما ينتشر من العامة في ذلك الموضع وحوله. ونقل الربيع: ما لم يخرج إلى ظاهر الأليتين. من أصحابنا من جعل المسألة على ثلاثة أقوال إتباعًا للنص. والأصح أنها على قول واحد كما ذكره في القديم. والمزني أخلَّ بالنقل في الجديد، حيت ترك قوله وحوله. ما نقله الربيع موافق له، فإنه إذا لم يخرج إلى ظاهر الأليتين فلم ينتشر إلا ما ينتشر من العامة. فأما إذا خرجت النجاسة إلى ظاهر الأليتين لا خلاف أنه يغسل بالماء ما ظهر على الأليتين، فأما ما حوالي المخرج، فإن كان متصلا بما على ظاهر الأليتين لا يجزئه إلا الماء أيضا دون الأحجار، لأنه لا يتصور غسل البعض بالماء، لأن رطوبة المغسول تتعدى إلى الباقي. فأما إذا كان منفصلا عنه وبينهما فرجة، يجوز أن يقتصر فيه على الأحجار. قوله: (والفرق بين أن يستطيب بيمينه فيجزيء، وبالعظم لا يجزيء). قال القاضي حسين: لأن اليمين آلة صالحة للإزالة، إلا أن الاستعمال منهي، فحصلت به الإزالة معه، فأما العظم ليس بصالح للإزالة، فالقصور في الآلة،

فلا تحصل الإزالة، وصار هذا كالتوضؤ بالماء الطاهر في أواني الذهب والفضة يجوز، والتوضؤ بماء الورد في الأواني الخزفية لا يجوز. قوله: (وإن مسح بثلاثة أحجار فلم ينو أعاد). قال القاضي حسين: عندنا المعتبر في الاستنجاء بالأحجار أغلظ الأمرين من الإنقاء والعدد حتى لو لم ينق بالثلاث وجب عليه الزيادة حتى ينقي، ولو أنقى بالرابعة استحب له أن يأتي بخامس للإيتار. ولو أنقي بدون الثلاث لزمه إلى تمام الثالثة تعبدًا، وإن كان المقصود منه معقول المعنى كما قلنا في العدة: إنها شرعت لبراءة الرحم، وذلك يحصل بقرء واحد، ويجب قرءان آخران تعبدا كذا هذا مثله، فلو أنقى بواحدة، ثم ستنقي بعده مرتين، فهل يجوز استعمال تلك الحجرين في وقت آخر أم لا؟

فعلى وجهين: أحدهما: يجوز كما في رمي الجمار. والثاني لا: لأنه صار مستعملا، وأدي به الفرض، فصار كالماء المؤدي به الفرض مرة. وقال مالك: لا اعتبار فيه بالعدد، وقاسه على الاستنجاء بالماء، والدليل عليه قوله عليه السلام: (وليستنج بثلاثة أحجار.).

وظاهر الأمر على الوجوب، ولأنها عبادة ورد الشرع فيها بالأحجار، فتستوي فيها الثيب والأبكار، وللعدد فيه اعتبار دليله رمي الجمار. وليس كالماء؛ لأنه يفيد يقين الطهارة، والحجر يفيد من حيث الظاهر، فصار كالعدة بوضع الحمل مع العدة بالأقراء. قوله: (ولا بأس بجلد المدبوغ أن يستطاب به). قال القاضي حسين: وقال في رواية حرملة: لا يجوز الاستنجاء بشيء من الجلود، فحصل في جواز الاستنجاء بالجلد المدبوغ قولان، فأما المذكي. قال الشافعي: ولا أعرف شيئا أشبه باللحم من الجلد؛ لأن الشاة تسمط ويؤكل جلدها. فعلى هذا إن كان بعد الدباغ فعلى ما ذكرنا، وإن كان قبل الدباغ لا يجوز، لأنه في معنى الطعام، ولكن لو استنجى بالجانب الذي يلي الشعر جاز أيضًا؛ لأن الشعر يمنع وصول البلل إلى ما هو المأكول، وإن كان إلى جانب اللحم لا يجوز الاستنجاء به. قوله: (لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف كان كثلاثة أحجار إذا أنقى). قال القاضي حسين: لأن المقصود منه الإنقاء، والمعتبر فيه المسحات، وقد وجد. وقال داود: هو بمنزلة حجر واحد، وهذا لا يصح، لأن المقصود منه لما كان ما ذكرنا، فهذا الحجر ينزل منزلة ثلاثة أحجار في حصول المقصود به. فرع الخنثى المشكل له أن يقتصر على الأحجار في الدبر، ولا يجوز في المبالين إلا الماء لأجل الإشكال، فإذا ارتفع الإشكال يجوز له استعمال الحجر فيما هو دون الفرج.

فرع المرأة إذا كانت بكرًا لها الاقتصار على الأحجار في الفرجين، فأما الثيب لا يجوز لها الاقتصار على الأحجار في القبل إذا انتشر منها البول انتشارًا. قال القاضي: إن لم ينتشر فجازلها الاقتصار على الأحجار.

فرع ذكر أبو بكر الفارسي في عيون المسائل عن الشافعي أنه قال: لو تيمم، ثم استنجي لا يجوز، ولو توضأ بالماء ثم استنجي يجوز. من أصحابنا من جعل المسألتين على قولين نقلا وتخريجًا. ومنهم من أقر النصين قرارهما، وفرق بينهما بأن في التيمم طلب الماء شرط وواجب عليه الاستنجاء وذلك يبطل التيمم، فصار كما لو تيمم ثم رأي سوادا أو رفقة أو غيره يبطل تيممه حين يجب عليه طلب الماء بخلاف الوضوء، لأن طلب الماء هناك لا يبطل الوضوء. فإن قيل: لو كان على بدنه نجاسة فتيمم، وجب أن يبطل تيممه أيضا؛ لأن طلب الماء واجب عليه أيضا ها هنا. قلنا: إن كان عالمًا في ابتداء التيمم لا يبطل تيممه بعد ذلك، لأنه إذا طلب الماء في الابتداء فذاك الطلب يقع عنهما، لأن طلب الماء متعين عليه، لأنه لا يجوز فيه الاقتصار على الأحجار، فعلى هذا لو لم يعلم بالنجاسة حتى تيمم، أو طرأ النجاسة على بدنه بعد التيمم بطل تيممه بذلك؛ لأنه تجدد عليه الطلب لذلك.

فصل: في آداب قضاء الحاجة

فصل: في آداب قضاء الحاجة إذا أراد الرجل أن يتخلي، فالسنة أن يتباعد عن الناس حتى لا يطلع عليه أحد، وألا يرفع ذيله إلا بعد أن يدنو من الأرض، وألا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها في الصحارى، وأن يطلب مكانًا لينا رخوا كيلا يترشش البول عليه، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان في بعض أسفاره، فأخذه البول فنزل وكان يطلب دمثًا من تحت الحائط، وهو المكان اللين، ثم توجه للقبلة، وبال قائمًا، وقال: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرثد)، يعني: فليطلب مكانًا لينًا. وقيل: إنما بال قائمًا، لما به من وجع البطن، لأن العرب تعالج بالبول قائمًا لوجع البطن، وهي عادة أهل (هراة) فإنهم يبولون قيامًا في كل سنة مرة إحياء لتلك السنة، ولا يبول في الجحر، فإنه موضع الجن، ولا يستقبل وجهه إلى مهب الريح، كي لا يترشش عليه البول، ولا يبول تحت الأشجار، وعلى أفواه الطرق؛ لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: اتقوا

اللاعنين)، قيل: يا رسول الله، وما اللاعنان؟ قال: (أن يتخلي في طرق الناس وظلهم). وإذا فرغ من البول وجب عليه الاستبراء، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه). والاستبراء: أن يأخذ ذكره بيده اليسرى، ويمده مدا متفاحشًا حتى لو بقي في الإحليل قليل بلل لخرج بالمد. وروى عنه عليه السلام، أنه قال: إذا بال أحدكم فينثر، وفي رواية: فليستنثر.

يعني: فليمد الذكر مدًا متفاحشًا، ثم إن كان في هبوط فيرتقي إلى الصعود، وإن كان في صعود من الأرض، فينحدر إلى الهبوط أو يمشي خطوات ويقفز قفزات، ويتنحنح. وإذا أراد أن يدخل المستحم، فيبدأ باليسرى، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، اللهم إني أعوذ بك من الرجس الخبيبث المخبث الشيطان الرجيم. ولا يبول في المستحم لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (لا يبولن أحدكم في المستحم، فإن عامة الوسواس منه).

منهم من قال: أراد به ألا يبول في الموضع الذي يتغوط فيه، والصحيح أن المراد أنه لا يبول في المغتسل، كي لا يترشش عليه البول؛ لأن ذلك يشق عليه. وإذا خرج، فيبدأ برجله اليمني ويقول: غفرانك، غفرانك. والله تعالى أعلم بالصواب.

باب الحدث

باب الحدث قال الشافعي: والذي يوجب الوضوء الغائط والبول والنوم مضطجعًا وقائمًا وراكعًا، وساجدًا وزائلاً عن مستوى الجلوس، قليلاً كان النوم أو كثيرًا، والغلبة على العقل بجنون أو مرض، مضطجعًا كان أو غير مضطجع، والريح يخرج من الدبر، وملامسة الرجل المرأة، والملامسة: أن يفضي بشيء منه إلى جسدها، أو تفضي إليه، لا حائل بينهما، أو يقبلها، ومس الفرج ببطن الكف من نفس (ومن) غيره، من الصغير والكبير، والحي والميت، والذكر والأنثى، وسواء كان الفرج قبلا أو دبرا، أو مس الحلقة نفسها من الدبر، ولا وضوء على من مس ذلك من بهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا تعبد عليها، وكل ما خرج من دبر، أو قبل، من دود أو دم، أو مذي، او ودي، أو بلل، أو غيره، فذلك كله يوجب الوضوء، كما وصفت ولا استنجاء على من نام، أو خرجت منه ريح. قال القاضي حسين: ما يوجب الوضوء أربعة أشياء: اثنان متفق عليهما، وهو الخارج من السبيلين، والغلبة على العقل بأي سبب كان. واثنان مختلف فيها منها ما يوجب نقض الطهارة عندنا، ولا يوجب عند أبي حنيفة، وهو الملامسة، ومس الذكر ببطن الكف، ومنها ما يوجب نقض الطهارة عنده، ولا يوجب عندنا وهو الخارج من الباطن، إلى الظاهر، من غير السبيلين إذا كان متفاحشًا، والقهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود. ثم رجعنا القهقهرى إلى الأول فنقول: ما يخرج من السبيلين يوجب الوضوء عندنا على أي صفة كان، سواء كان ريحًا أو عيناً، نادرًا أو معتادًا، وإذا خرج من الدبر أو من القبل ريح.

وقال أبو حنيفة، خروج الريح من القبل لا يوجب نقض الطهارة، لأنه لا يتصور خروج الريح منه، وعندنا يوجب ذلك؛ لأن الرجل إذا كان أدر قد قيل بأنه يتصور خروج الريح من قبله. فعلى هذا إن تحقق ذلك منه يوجب نقض الطهارة، وإن وجد قلقلة في خصيته، او في بطنه، ولم يخرج منه شيء، فا تنتقض طهارته. وقال مالك: ما خرج منه نادرًا، مثل الدود والحصى والدم ونحوه، لا يوجب نقض الطهارة، واعتبر الخارج بالمخرج. وعلى هذا: الودي والمذي، لا يوجبان عند مالك، نقض الطهارة، ويدل عليه ما روى عن علي كرم الله وجه، أنه قال: كنت امرءا مذاء، واستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فسألت المقداد بن الأسود حتى سأل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم النبي عليه السلام، أنه سأل لأجلي، فقال: كل فحل مذاء مرة فلينضح ذكره بالماء وليتوضأ.

فرع لو أدخل مردودا في أحليله لا ينتقض طهارته بالإدخال فيه، سواء غيب الكل فيه، أو غيب البعض، ولكن هل يفسد صومه أم لا؟ فيه وجهان. وإن غيب الكل تجوز الصلاة معه، وإن غيب البعض دون البعض لا يجوز؛ لأن طرف الظاهر معه متصل بالباطن، وذلك نجس، فإذا أخرج المرود منه تنتقض طهارته بالإخراج. وكذا لو أدخل قطنة في رأس إحليله، هكذا لا تبطل طهارته، وفي فساد الصوم وجهان. وفي صحة الصلاة على ما بينا. ثم إذا نزع تبطل طهارته، كالمرود سواء. فأما إذا ابتلع خيطًا في نهار الصوم يفسد صومه، ولو ابتلعه في الليل، ثم أصبح صائمًا، وكان أحد طرفيه خارجا منه لو نزع الباقي يبطل صومه، ولو ابتلع الباقي يبطل صومه، وكذا لو أمر غيره بالقلع أو النزع، هكذا يبطل صومه اللهم إلا أن يجيء إنسان ويقلعه منه من غير إشارة منه، فإنه لا يضره ذلك، ولوتركه على حاله لا تصح صلاته، ويصح صومه، وأيهما يقدم تراعي صحة الصلاة بأن يبتلع الباقي، أو ينزع ما ابتلع أو صحة الصوم بأن يتركه على حاله. قال القاضي رضي الله عنه: يقدم الصوم على الصلاة؛ لأنه شرع فيه

ابتداء، فإذا تقدم الشروع فيه على الصلاة فيلزمه إتمامه، كما لو افتتح الصلاة بنية القضاء ثم تبين له إنه لم يبق من الوقت إلا قدر لو اشتغل بإتمام ما شرع فيه فاتته صلاة الوقت، لا يلزمه الخروج منه، بل عليه إتمام تلك الصلاة، لأنه شرع فيها أولا، كذا ها هنا. ومن أصحابنا من قال: تقدم الصلاة على الصوم، لأن حكم الصلاة أغلظ وآكد من حكم الصوم، بدليل أن تارك الصلاة يقتل، وتارك الصوم لا يقتل. فأما إذا كان بقرب من عرفات، ولم يبق من وقت الوقوف بعرفة إلا قدر يسير بحيث إنه لو اشتغل بصلاة العشاء الآخرة فاته الوقوف بعرفة، ماذا يفعل؟ الصحيح: أنه يترك الصلاة كيلا يفوته الوقوف، لأنه لو فاته الوقوف لما أمكنه إدراكه، إلا بعد سنة، بخلاف الصلاة. وفيه وجه آخر، أنه يقدم الصلاة عليه، لأن حكم الصلاة أقوى، وآكد من حكم الحج، بدليل ما ذكرنا. فأما إذا صبغ رجل رجلا ينتقض طهارة المصبغ، لأنه مس فرجه، ولا ينتقض طهارته، وهكذا لو جلس على خشبة، حتى دخل فيه هكذا لا تبطل طهارته، ولكن يفسد صومه، ولو قام منه تنتقض طهارته. قوله: (والنوم مضطجعًا، إلى أن قال: والغلبة على العقل). قال القاضي حسين: زوال العقل يوجب نقض الطهارة، سواء كان بالنوم، أو بالإغماء، أو بالجنون، أو بالسكر، كيف ما كان.

وقد قيل: إن من أغمي عليه يمني في الغالب، فعلى هذا إن تحقق خروج المني منه يلزمه الاغتسال، وإلا فيلزمه الوضوء، فأما النعاس، وهو ما يعرو الأجفان والقلب يقظان لا ينقض الطهارة. وحد النوم ما يزيل الاستشعار من القلب مع استرخاء المفاصل، وكذا الإغماء مثله. فأما الجنون: ما يزيل الاستشعار من القلب، مع بقاء الحركة في المفاصل، فإذا زال العقل بشيء من هذه الأشياء، سوى النوم تنتقض طهارته على أي حالة كان. فأما النوم: إن نام قاعدًا، ممكنا مقدته من الأرض، مفضيًا بها إليها، ظاهر المذهب أنه لا تنتقض طهارته. وحكي أبو عيسى الترمذي الحافظ، عن الشافعي قولا آخر: أنه تنتقض طهارته، فعلى هذا القول جعل نفس النوم حدثًا، وهو اختيار المزني. فإن قلنا: لا تنتقض طهارته على ظاهر المذهب، فلا فرق عندنا بين ان يستند بسناد، لو رفع ذلك السناد يسقط منه، ويبين ألا يسقط. وقال أبو حنيفة: إن استند بسناد لو رفع ذلك السناد يسقط تنتقض طهارته،

وإن كان لا يسقط لا تنتقض طهارته، فأما إذا نام ممكنًا مقعدته من الأرض، ثم كاد أن يسقط؛ فانتبه. ينظر: فإن انتبه قبل أن تزول مقعدته من الأرض، فلا بأس، وإن انتبه بعد أن زالت مقدته من الأرض تبطل طهارته. وقال أبو حنيفة: إن سقطت يده على الأرض ثم انتبه تبطل طهارته، وإن انتبه قبل أن تسقط يده على الأرض، فلا تنتقض فأما إذا نام زائلا عن مستوي الجلوس. قال في الجديد: تنتقض طهارته. وقال في القديم: لو نام في الصلاة لا تنتقض طهارته، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نام العبد في الصلاة باهي الله تعالى، به ملائكته، ويقول ملائكتي، انظروا إلى عبدي، روحه عندي وجسده في عبادتي). جعله مصليًا، ومن قال بالجديد أول هذا الخبر بأن قال: أراد به أنه في الصلاة حكما يثاب ثواب المصلين، إذا أراد الصلاة، فأخذه النوم. ونص في البويطي أنه إذا نام قائمًا، ولم تزل قدماه من الوسن لا تنتقض طهارته، فحصل فيه ثلاثة أقوال باعتبار النصوص. في الجديد: يبطل، سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة. وفي القديم إن كان في الصلاة لا تبطل، وإن كان خارج الصلاة يبطل.

وفي البويطي: إن لم تزل قدماه لا تبطل في الصلاة وخارج الصلاة، لأنه ذكر مطلقا، وإن زالت قدماه يبطل، فحاصل المذهب فيه أنه إذا نام خارج الصلاة، وزالت قدماه تنتقض طهارته، وإن لم تزل قدماه، ففيه قولان، فأما إذا كان في الصلاة، إن زالت قدماه تنتقض طهارته في الجديد. وفي القديم: لا تنتقض. وإن لم تزل قدماه، إن قلنا: خارج الصلاة لا تنتقض طهارته، فها هنا أولى. وإن قلنا: هناك تنتقض، فها هنا قولان. والفرق: أن حرمة الصلاة تمنع من انتقاض الطهارة ها هنا، بخلاف ذلك. فأما إذا نام في حال الركوع والسجود، أو صلى مضطجعا ونام، فيه قولان، وقال أبو حنيفة: إذا نام في الصلاة، أو خارج الصلاة على هيئة من هيئات الصلاة في حالة الاختيار لا يوجب نقض الطهارة، قوله: (وملامسة الرجل المرأة). قال القاضي حسين: إذا لمس الرجل امرأة أجنبية، أو زوجته، أو مدبرته، أو مكاتبته، أو أم ولده، أو أمته، منكوحة كانت أو غير منكوحة، ولا حائل بنهما تنتقض طهارته، بشهوة كانت أو بغير شهوة. فأما إذا لمس شعرها، نقل صاحب (التلخيص): أنه لا تنتقض طهارته. وقال هو في الظفر تخريجًا. وقال أصحابنا: في السن تفريعًا، فحصل في الكل وجهان:

أحدهما تنتقض طهارته، لأنه قال: الملامسة أن يفضي بشئ منه، وهذه الأشياء تسمى شيئا. والوجه الثاني: لا تنتقض؛ لأنه قال: إلى جسدها، وهذه الأشياء لا تسمى جسدًا. فعلى هذا، لو مش شعرها بشعره، أو ظفرها بظفره، إن قلنا هناك: لا تنتقض ها هنا أولى. وإن قلنا هناك: ينتقض فها هنا وجهان. ولفرق أن اسم الجسد لا ينطلق على الشعر والظفر، وقد وجد الشعر من الجانبين ها هنا، بخلاف ذلك وفي الملموس قولان. وبناء القولين فيه من اختلاف القراءتين في قوله تعالى: (أو لامستم النساء). فمن قال: (أو لامستم): تنتقض طهارة الملموسة، لأن الملامسة من المفاعلة وقد وجد منهما. ومن قرأ: (لمستم)، قال: لا ينتقض؛ لأن اللمس إنما وجد من اللامس لامن الملموس.

فأما المرأة إذا لمست رجلا حكمها حكم الرجل إذا لمس امرأة، وقيل: فيه قولان. لأنها ملومسة في الحالتين، لأن الغالب أن الرجال يحطون على النساء، فأما النساء فلا يحططن على الرجال، ولا يقصدنهم. فأما إذا لمس امرأة ميتة، هل تنتقض طهارته أم لا؟ فيه وجهان، بناء على أنه لو جمعها، هل يجب الحد عليه، وهل تغتسل لعله تغسل هي؟ فيه وجهان. فأما إذا مس ذوات المحارم. قال في الجديد: إنه تنتتقض طهارته.

وقال في القديم: لا تنتقض طهارته، لسلب الشهوة عن قلوب ذوي المحارم، ولو وجد فيهم شهوة، فلا بأس به، كما لو لمس غلامًا، وضي الوجه بالشهوة لا تنتقض طهارته. فأما الصغيرة إن كانت تشتهي، حكمها حكم البالغة، وإن لم تشته فيه وجهان. وفي العجوز الكبيرة وجهان، والصحيح أنه تنتقض طهارته، لأنها مما تشتهي لمن هو في مثل حالها.

وقال أبو حنيفة: لا تنتقض طهارته بالملامسة، إلا أن يتجردًا ويتعانقا، وينتشر منه. يدل عليه ما روى عن ابن عمر أنه قالأ: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة. وقال مالك: الاعتبار بالشهوة، حتى لو لمس بالشهوة تنتقض طهارته، وإن كان بينهما حائل، ولو لمس بغير شهوة لا تنتقض طهارته، وإن لم يكن بينهما حائل. والدليل عليه الخبر. قوله: (مس الفرج ببطن الكف). قال القاضي حسين: إذا مس ذكر إنسان ببطن الكف تنتقض طهارته، سواء مس فرج نفسه، أو فرج غيره، وسواء كان من حي أو ميت، صغيرًا أو كبيرًا. فإذا مسه برءوس الأصابع أو بخلال الأصابع: فيه وجهان

ولو مسه بظهر الكف لا ينتقض وجهاً واحدًا، وكذا لو مس الخصيتين أو الأليتين، أو ما بين القبل والدبر، لا ينتقض طهارته. فأما إذا جب ذكره من الأصل، ومس تلك الثقبة، حكمه حكم ما إذا مس حلقة الدبر، تنتقض طهارته في الجديد، لأن بيان أحد النظيرين بيان للآخر، كقوله عليه السلام: (من أعتاق شركًا له من عبد) قال: والأمة في معناه. وقال في القديم: إنه لا تنتقض طهارته، وفي الممسوس قول واحد، إنه لا تنتقض طهارته، لأنه لم يتحقق المس. ولو مس فرج ميت؛ نص ها هنا على أنه تنتقض طهارته. ولو مس ميتة نص على أنه لا تنتقض طهارته. من أصحابنا من جعل فيهما قولين نقلا وتخريجًا. ومنهم من قال بينهما، وقال: إنما تنتقض الطهارة باللمس لما فيه من التلذذ والشهوة، وقد عدم هذا المعنى بالموت، وإنما تنتقض الطهارة بالمس لهتك حرمة الفرج، وهذا المعنى موجود بعد الموت. وهكذا قال: لا فرق بين أن يمس ذكر الصغير، أو الكبير، ونص في لمس الصغيرة على أنه لا تنتقض الطهارة، منهم من جعل فيها قولين. ومنهم من فرق بينهما بما ذكرنا. فأما لو مس ذكرًا مقطوعًا نص على أنه تنتقض طهارته، ولو لمس يدًا مبانة، نص على أنه لا تنتقض طهارته.

منهم من جعل فيها قولين. ومنهم من فرق بما ذكرنا من المعنى. وهل يجوز النظر إلى فرج الصغيرة: إن كانت تشتهي لا يجوز، وإن لم تكن صغيرة تشتهي فجائز، بخلاف اللمس، لأن حكم النظر أخف من حكم اللمس، ألا ترى أن الصائم لو نظر فأنزل لا يفسد صومه، ولو قبل أو لمس فأنزل يفسد صومه، والله أعلم بالصواب. قوله: (ولا وضوء على من مس ذلك من بهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا تعبد عليها). قال القاضي حسين: وعني بعدم الحرمة جواز النظر إليه، وبعدم التعبد عدم وجوب الستر. وقال في القديم: إنه يوجب نقض الطهارة.

فأما إذا أدخل يده إلى فرجها، إن قلنا: باللمس تنتقض الطهارة، فها هنا أولى. وإن قلنا لا تنتقض، فها هنا وجهان. والفرق أن حكم الإيلاج أغلظ من حكم اللمس. بدليل وجوب الحد به في حال بخلاف اللمس. فإن قيل في الصغير: لا تعبد عليه، فوجب ألا تنتقض الطهارة بمس ذكره. قلنا: هو محل التعبد في الحال. وفي ثاني الحال بخلاف البهيمة. وقال أبو حنيفة: مس الفرج لا يوجب نقض الطهارة، دليلنا عليه ما روت بسرة بنت صفوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ).

قال الشافعي: ونحب للنائم قاعدًا أن يتوضأ، ولا يبين لي أن أوجبه عليه، لما روى أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء، فينامون أحسبه قال: قعودا وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان ينام قاعدا، ويصلي فلا يتوضأ. قال المزني: قد قال الشافعي، لو صرنا إلى النظر كان إذا غلب عليه النوم، توضأ بأي حالاته كان. قال المزني: قلت [أنا] وروى عن صفوان بن عسال أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا، إذا كنا مسافرين أو سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من بول وغائط ونوم. قال المزني فلما جعلهن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي في معنى الحدث واحدًا، استوي الحدث في جميعهن، مضطجعا كان أو قاعداً، ولو اختلف حدث النوم لاختلاف حال النائم، لاختلاف كذلك حدث الغائط والبول، ولأبانه عليه السلام، كما أبان أن الأكل في الصوم عامدًا مفطر، وناسيًا غير مفطر. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء) مع ما روى عن عائشة رضي الله عنها: (من استجمع نومًا مضطجعًا أو قاعدًا) وعن أبي هريرة، (من استجمع نومًا فعليه الوضوء، عن الحسن/ إذا نام قاعدًا أو قائمًا توضأ. قال المزني: فهذا اختلاف يوجب النظر، وقد جعله الشافعي في النظر في معنى من أغمى عليه كيف كان توضأ، فكذلك النائم، في معناه، كيف كان توضأ، واحتج الشافعي في الملامسة، بقول الله جلا وعز (أو لامستم النساء) وبقول ابن عمر، قبلة الرجل امرأته، وجسها بيده من الملامسة، وعن ابن

مسعود قريب من معنى قول ابن عمر، واحتج في مس الذكر، بحديث بسرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مس أحدكم ذكره، فليتوضأ). قال القاضي حسين: قد ذكرنا ذلك، وعلق القول به، لأنه قال: ولا يبين لي أن أوجبه عليه. والمزني جعل نفس النوم حدثًا، وقاسه على البول والغائط، واستدل بما روى عن صفوان بن عسال المرادي، أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام، ولياليهن إلا من جنابة، لكن من بول وغائط ونوم. ثم قال: (لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الحدث، ثم الحدث يوجب نقض الوضوء في أي حالة كانت، كذا النوم مثله.

واستدل أيضًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء). وعن عائشة: من استجمع نوما توضأ مضطجعًا أو قاعدًا. فلما ستقل بأخبار رواها الشافعي، رحمه الله ورجع إلى الترجيح بقول الشافعي. ولو صرنا إلى النظر كان إذا غلب عليه النوم توضأ بأي حالاته كان. أجاب أصحابنا بأن قالوا: ما رواه من الأخبار لا تعارض أخبار الشافعي، لأنه روى عن أنس بن مالك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء، فينامون أحسبه قال: قعودًا.

وروي عن ابن عمر أنه كان ينام قاعدًا، فيصلي ولا يتوضأ. وحديث حذيفة أنه قال: كانت نمت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قاعدًا فوضع رجل يده على كتفي، فالتفت، فإذا مر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أمن هذا وضوء؟ فقال عليه السلام: لا، حتى تضع جنبك على الأرض. وهذه الأخبار خاصة في محل النزاع. وما رواه عام، والخاص يقدم على العام، على أن حديث صفوان ورد لبيان أن المسافر يمسح ثلاثة أيام ولا يجب عليه نزع الخف قبل مضيها. والخطاب إذا سيق لبيان ومقصود لا يستدل بعمومه في حكم آخر، بل يعرض عنه في غير المقصود. وهذا كقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم). الاية. فسيق الخطاب لبيان إباحة الأكل والشرب للصائم إلى طلوع الفجر، ثم لا يستدل به في إباحة المأكولات والمشروبات لو وقع الاختلاف فيها. وقد قيل: إنه يجوز أن يكون الشيئان عديلين في اللفظ، قريبين في النطق، مختلفين في الحكم، كقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وقوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده). وقوله عليه السلام: إنه نهي عن كسب الحجاج ومهر البغي وحلوان الكاهن

وقوله عليه السلام: (إذا نامت العينان استطلق الوكاء). قلنا: إذا نام قاعدًا لا يستطلق وكاؤه إذا كان متمكنًا، فهذا لا حجة لك فيه، وقول الشافعي: لو صرنا إلى النظر، يعني لولا الأخبار الواردة فيه لجوزنا ذلك. قال الشافعي: وقاس الدبر بالفرج، مع ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا مست المرأة فرجها، توضأت، واحتج الشافعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت: من اعتق شركًا له في عبد، قوم عليه، فكان الأمة في معنى العبد فكذلك الدبر في معنى الذكر، قال: وما كان من سوى ذلك في قيء، أو رعاف، أو دم خرج من غير مخرج الحدث، فلا وضوء في ذلك، كما أنه لا وضوء في الجشاء المتغير، ولا البصاق لخروجها من غير مخرج الحدث، وعليه أن يغسل فاه، وما أصاب القيء من جسده، واحتج بأن ابن عمر عصر بثرة بوجهه، فخرج منها دم فدلكه بين أصبعية، ثم قام إلى الصلاة، ولم يغسل يده، وعن ابن عباس قال: (اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك) وعن ابن المسيب أنه رعف، فمسح أنفه بصوفه، ثم صلى، وعن القاسم، ليس على المحتجم وضوء. قال القاضي حسين: قيل: أخل المزني في نقل هذا الكلام من وجهين: أحدهما: أنه قال: قاس الدبر بالفرج، ولا يقال: قست الشيء بالشيء، وإنما يقال: قست الشيء على الشيء. والثاني: قاس الدبر بالفرج، وكان من حقه أن يقول: بالذكر، لأن النص ورد فيه.

قلنا: النص أيضًا ورد في الفرج، وهو ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا مست المرأة فرجها توضأت. أو إنما قاس بالفرج الذي هو مقيس على الذكر. فالشافعي ألحق قبل المرأة بالذكر؛ لأنه أشبه به من الدبر، ثم ألحق الدبر بقبل المرأة. وهذا داب القائسين، أن يلحق الشيء بالأشبه، فالأشبه والأقرب. أو قاس الدبر باسم الفرجية، أي ألحقه بالذكر لعلة كونه فرجًا. أو نقول: أراد بالفرج الذكر، لأن اسم الفرج ينطلق على الذكر، يدل عليه قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون). وأراد بالفرج الذكر. بين الشافعي رحمه الله أن بيان حكم أحد النظيرين في الشريعة، يجعل بيانًا لهما. كما قال عليه السلام: من أعتق شركا له من عبد، الخبر. نص علي العبد، ثم ألحقنا الأمة به، لأنها في معناه، كذلك فيما نحن فيه، وإذا وقع النص على الذكر، فالدبر في معناه، فقسناه عليه.

فصل: في مسائل ذكر الخنثى

فصل: في مسائل ذكر الخنثى والكلام في هذا الباب يقع في فصول الطهارة والحيض والرضاع. جملة مسائل الخنثى تدور على نكتة واحدة، وهو أن تتمسك فيها باليقين، ونطرح الشك. أما أحكامه في الطهارة، فلذلك في ثلاثة فصول: المس، واللمس، والإيلاج. أما المس، فلا يخلو الخنثى إما أن يكون ماسًا أو ممسوسًا، فإن كان ماسًا فلا يخلو إلا أن يكون من نفسه، أو من غيره. فإن مسه من نفسه، نظر، فإن مس الدبر انتقض وضوؤه في الجديد. وإن مس أحد المبالين لم ينتقض، لأنه إذا مس الذكر يحتمل أنه امرأة، وذلك عضو زائد، وإن مس القبل يحتمل أنه رجل، وهو شق فيه، وإن جمع بينهما فعليه الوضوء، ولو مس أحدهما وصلى ثم مس الآخر لم يجز له ان يصلي صلاة أخرى، لأنا تيقنا انتقاض طهره حين جمع بينهما الان، بخلاف الابتداء. ولو توضأ، ثم مس الآخر، فله أن يصلي، وإن تيقنا انتقاض طهره في أحد الصلاتين. ولا يلزمه إعادة واحدة منهما، لأنهما حادثتان أمضيتا بالإجتهاد، ولم يدر عين ما وقع الخطأ فيه، فلا ينتقض ذلك إلا باليقين، كما لو صلى اربع صلوات إلى أربع جهات بالاجتهاد، لا يلزمه إعادة شيء منها عند عامة أصحابنا، إلا عند الإمام أبي إسحاق الإسفرايني رحمه الله عليه، وليس كما لو نسي صلاة

من صلاتين، حيث يلزمه إعادتهما، لأن هناك تحققنا اشتغال ذمته بالفرض، وما من صلاة شرع فيها، إلا ويحتمل أن الفرض غيره. وفي مسألتنا عقد كل واحدة من الصلاتين على اعتقاد الصحة، ولم يظهر عين ما أخطأ فيها، وكذا لو صلى صلاتين ثم تيقن الحدث في إحداهما، يلزمه إعادتهما، لأن اشتغال ذمته بهما متيقن. وفراغ ذمته عنهما مشكوك، وها هنا لم نتيقن الحدث في الصلاة الأولى. فأما إذا مس الذكر أيامًا، ثم تبين أنه كان رجلا، هل يلزمه إعادة الصلاة في تلك الأيام؟ فيه جوابان ينبنيان على ما لو صلى إلى جهات مختلفة، ثم تبين له يقين الخطأ، فهل تلزمه إعادة تلك الصلوات أم لا؟ وفيه قولان. وأما إذا مس فرج الغير، فلا يخلو، إما أن مسه من واضح أو مشكل، فإن مسه من واضح، فعليه الوضوء، سواء مس القبل، أو الذكر لأنه إما أن يطون رجلا أو امرأة، وأيهما كان ينتفض وضوؤه بمس الفرج، وإن كان الممسوس مشكلا. فإن مس دبره فعلى ما ذكرنا، وإن مس أحد مباليه لم ينتقض، لأنه لو مس الذكر يحتمل أنهما امرأتان، وهو عضو زائد، وإن مس القبل، يحتمل أنهما رجلان، وهو شق فيه، وإن جمع بينهما في المس انتقض وضوؤه لا محالة، وهكذا لو مس الذكر من مشكل والقبل من مشكل آخر ينتقض وضوؤه كما لو مسهما من واحد. فأما إذا كان الخنثى ممسوسًا، فلا يخلو، إما أن يكون الماس واضحًا أو مشكلا، فإن كان واضحًا، إن مس الدبر فمعلوم، وإن مس أحد مباليه، فإن كان رجلا، ومس الذكر ينتقض، لأنه إن كان رجلا، فقد مس ذكره، وإن كانت امرأة فقد لمسها، وإن مس القبل، فلا شيء عليه، لاحتمال أنه كان

رجلا، وذلك خرق فيه، وإن كان الماس امرأة، فإن مست القبل، فعليها الوضوء، لما ذكرنا في المعنى، وإن مست الذكر، فلا شيء عليها، لأنه يحتمل أنه امرأة، وذلك عضو زائد عليها. فأما إذا كان الماس مشكلاً، فإن مس الدبر فعليه الوضوء، وإن مس أحد مباليه، فلا شيء عليه، لأنه إذا مس الذكر، يحتمل أنهما امرأتان، وإن مس القبل يحتمل أنهما رجلان، ولو جمع بينهما فعليه الوضوء. فأما إذا كان خنثيان، مس أحدهما قبل صاحبه، ومس الآخر ذكره، فقد انتقض وضوء أحدهما لا بعينه، لأنهما إن كانا رجلين فقد انتقض وضوء ماس الذكر منهما، وإن كانا امرأتين فقد انقض وضوء ماس القبل، وإن كان أحدهما رجلا، والآخر امرأة، فوضوؤهما منتقض على تنزيل الأحوال كلها. انتقاض وضوء أحدهما يقين، غير أنا لا نحكم بانتقاض طهارتهما، لما ذكرنا أنا نبني الحكم على اليقين، واليقين معدوم في حق كل واحد منهما، وهذا كما لو طار طائر، فقال رجل: إن كان هذا غرابا، فامرأته طالق، إلى آخره. والخنثى لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة بالخنثى حتى نقول: لا يجوز لأحدهما أن يفتدى بصاحبه، وأما الكلام في اللمس فلا يوجب ذلك انتقاض طهارته، سواء لمس رجلا أو امرأة، أو لمسه رجل أو امرأة، فإن لمسهما أو لمساه، حينئذ انتقض الوضوء لا محالة. لأنه إما أن يكون رجلا أو امرأة، وأما الكلام في الإيلاج، فلا يخلو الخنثى إما أن يكون مولجًا أو مولجًا فيه، فإن كان مولجًا فيه نظر في المولج. فإن كان واضحًا إن أولج في دبره، فعليهما الغسل، وإن أولج في قبله فلا شيء على واحد منهما، لاحتمال أن الخنثي رجلا، وذلك شق فيه. وإن كان المولج مشكلا فإن أولج في دبره فعلى المولج فيه الوضوء، لأنه خرج منه شيء، ولا شيء على المولج لاحتمال أنهما امرأتان وإن أولج في قبله، فلا شيء على واحد منهما لاحتمال أنهما رجلان، وذلك شق فيه.

فأما إذا كان الخنثى مولجًا، نظر في المولج فيه، فإن كان واضحًا ينتقض وضوؤه، لخروج الخارج منه رجلا كان أو امرأة، أولج في قبلها أو في دبرها. فأما حكم المولج إن كان المولج فيه رجلا، فعليه الوضوء، لأنه إن كان رجلا، فقد لزمه الغسل، وإن كانت امرأة، فقد لزمها الوضوء بحكم الملامسة، والوضوء يقين، وإن كان المولج فيه امرأة، فلا وضوء على المولج أيضًا، سواء أولج في قبلها، أو دبرها لاحتمال أنه امرأة وذلك عضو زائد، وإن كان المولج فيه مشكلا، فقد ذكرنا حكمه، ولو أن خنثيان أولج أحدهما في دبر صاحبه، والآخر في قبله، فعلى المولج في دبره الوضوء، بخروج الخارج منه، وعلى المولج، في قبله، الوضوء، أيضا؛ لأنه إن كان امرأة، فقد خرج من قبلها شيء، وإن كان رجلا، فقد لزمه الغسل بإيلاجه في دبر صاحبه، والله تعالى أعلم بالصواب. قوله: (وما سوى ذلك من قيء أو رعاف). قال القاضي حسين: فقد ذكرنا أن خروج الخارج من غير السبيلين لا يوجب نقض الطهارة عندنا. وقال أبو حنيفة: كل نجس سيال يخرج من باطن البدن، إلى ظاهره يوجب نقض الطهارة، مثل القيء، والرعاف ودم الفصد، والحجامة، وما وقف على فم المخرج فلا يوجب وإن خرج منه، ثم أخذ بقطن، ولم يسل، فإن كان بحيث إنه لو لم يؤخذ بالقطن لسال، يوجب نقض الطهارة وإلا فلا. فأما القيء إن كان ملء الفم يوجب، ودونه لا يوجب، فإن دميت لثته، فإن كان الغالب الدم، فعليه الوضوء، وإن كان الغالب الريق، فلا وضوء عليه.

والرعاف إن أخرج إلى ظاهر القصبة يوجبه، وإلا فلا. والدليل على بطلان مذهبه ما روى أن ابن عمر عصر بثرة بوجهه، فخرج منها دم، فدلكه بين أصبعيه، ثم قام إلى الصلاة، ولم يغسل. وعن ابن عباس: (اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك). وعن ابن المسيب: أنه رعف، فمسح أنفه بصوفة، ثم صلى. والمعنى فيه: أنه لو خرج منه ريح، لا يوجب نقض الطهارة، ومن مخرج الحدث يوجب ذلك، وأن الاعتبار بالمخرج من الخارج، والله أعلم بالصواب. قال الشافعي: وليس في قهقهة المصلي، ولا فيما مست النار وضوء؛ لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة، فصلى، ولم يتوضأ.

قال القاضي حسين: أما القهقهة لا توجب نقض الوضوء في الصلاة، وخارج الصلاة.

وقال أبو حنيفة: في الصلاة يوجب نقض الوضوء فرضًا كان أو نفلاً، ووافقنا في صلاة الجنازة. وقال الشيخ أبو طاهر الزيادي: لا يتصور الخلاف في هذا؛ لأنه إذا قهقه، فقد قال: تبطل صلاته، ووجد النافي خارج الصلاة، فلا يتصور وجود القهقهة في الصلاة، حتى تبطل الطهارة، فإذا مست النار شيئا، فأكله لا يوجب الوضوء عندنا. وعند داود: كل ما مسته النار يوجب، ويروون خبرًا فيه، وهو ما روي

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (توضئوا من أكل ما مسته النار، ولو كان من ثور أقط). وهو محمول على اليد والفم، فقد يطلق الوضوء، ويراد به غسل اليد والفم، كما قال عليه السلام: (الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم). وقال أحمد: أكل لحم الجزور يوجب دون غيره. واستدل بما روى أنه عليه السلام سئل، وقيل له أيصلي في معاطن الإبل؟ فقال: لا. وقيل له: أيصلى في مرابط الغنم؟ فقال: نعم. وقيل له: أنتوضأ من أكل الشاة؟ قال: لا. قيل له: أنتوضأ من لحم الجزور؟ فقال: نعم.

وذاك محمول أيضًا على غسل اليد والفم، لما فيه من الدسومة، فخصه به لذلك، واستدل الشافعي على داود بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة فصلى، ولم يتوضأ. قوله: (وكل ما يوجب الوضوء، فهو بالعمد والسهو سواء). قال الشافعي وكل ما أوجب الوضوء، فهو بالعمد والسهو سواء. قال القاضي حسين: أراد به مالكًا في الملامسة واللمس، وقد ذكرنا حكمه قبل ذلك. قال الشافعي: ومن استيقن الطهر، ثم شك في الحدث، أو استيقن الحدث، ثم شك في الطهر، فلا يزول اليقين بالشك. قال القاضي حسين: هذا أحد دعائم الشرع، أن كل أصل تمهد وتحقق وجوده، وشك في زواله، نتمسك باليقين، فإذا ثبت هذا، أو أنه تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو تيقن في الحدث، وشك أنه هل توضأ أم لا؟ يبني على اليقين، سواء كان في الصلاة، طرأ ذلك الشك، أو خارج الصلاة.

وقال مالك: إن طرأ في الصلاة مضى عليها، وإن طرأ خارج الصلاة يلزمه الوضوء. ونحن نقيس على ما لو طرأ في الصلاة، ووافقنا فيما إذا كان على اليقين من الحدث، وشك في الطهارة أنه يبني على اليقين. فرع. قال صاحب التلخيص: لو تيقن الطهارة والحدث، وشك في أسبقهما.

فنقول له: قدم وهمك على ما قبل طلوع الفجر، فإن كنت متطهرًا، فأنت الآن محدث، وإن كنت محدثًا، فأنت الآن متطهرٌ. قال القفال: هو استنبط هذه المسألة من جمع ابن سريج الخبرين في مس الذكر. فإن بسرة روت أنه عليه السلام، قال: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ. وروى طلق أنه قال عليه السلام في ذاك الخبر: هل هو إلا بضعة منك. قال ابن سريج: الأصل أن لا وضوء بمس الذكر، وخبرنا مخالف لذلك الأصل، وخبركم مطابق له، ويحتمل أن خبرنا ورد قبل خبركم، ناسخًا له، ثم خبركم ورد بعده، ونسخ خبرنا، فيؤدي إلى القول بالنسخ مرتين، ويحتمل أن خبركم ورد قبل خبرنا، موافقاً له، وخبرنا ورد ناسخًا لخبركم، فيؤدي إلى النسخ مرتين، فوجه الشبه بينهما أنا إن قدرنا سبق المطابق على المخالف، وصرنا إلى المخالف، فكذلك فيمن تيقن الحدث والطهر، وشك في أسبقهما، فأحذ بالمخالف الأصل الممهد عنده، حتى لو كان قبله متطهرًا يجعله محدثًا، ولو كان محدثًا يجعله متطهرًا.

فرع إذا شك أنه هل نام، وتيقن الطهر، فهو متطهر، والأصل عدم النوم، فإن تيقن رؤيا رآها، وشك في النوم، فهو محدث، لأن الرؤيا لا تنفك عن النوم، فإن قيل: فهلا جعلتموه متطهرًا، على تقدير أنه نام قاعدًا، ورأى رؤيا؟ قلنا: لأنا لم نتحقق إلصاق مقعدته بالأرض، لو قال: نمت قاعدًا، ورأيت رؤيا، فهو متطهر أيضًا. فرع لو رأي منيا في ثوبه، فإن لبسه هو وغيره، فلا غسل عليه لاحتمال أنه مني غيره، وكذلك لو نام مع غيره فيه هكذا، وإن لم يكن لبسه غيره فيجب الغسل، وإعادة الصلاة من آخر يوم نام في ذلك الثوب، والاحتياط أن يعيد الصلاة من أول يوم نام في ذلك الثوب. فرع لو أن جماعة متناعسين في مكان، فسمع منهم صوت، وكل واحد منهم جعل الذنب على صاحبه، فلهم أن يصلوا منفردين ومقتدين بالغير، وأئمة للغير، لأن عنده أنه متطهر. فأما إذا اقتدى بعضهم بالبعض. قال صاحب (التلخيص) والداركي: لم يجز.

وهذا بناء على أصله أن الاجتهاد في حدث الغير لا يجوز، إذ ليس له أمرة على حدث الغير. قال ابن الحداد: جاز اقتداء البعض بالبعض، وجوز الاجتهاد في حدث الغير، وفرع عليه. وقال: لو كانوا خمسة، وأم كل واحد منهم في صلاة من الصلوات الخمس، فعلى كل واحد منهم أن يعيد آخر صلاة كان فيها، مأمومًا في الجملة على إمام العشاء إعادة المغرب، وعلى المأمومين في العشاء إعادة العشاء، والمعنى فيه ظاهر. والله أعلم بالصواب.

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل قال الشافعي: أخبرنا الثقة، هو الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت: إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا. ورواه من جهة أخرى عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا التقى الختانان، وجب الغسل. قال: حدثنا إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن عامر الدمشقي وغيره، قالوا: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي في هذا الحديث: مثله. قال: وإذا التقى الختانان، والتقاؤهما: أن تغيب الحشفة في الفرج، فيكون ختانه حذاء ختانها، فذاك التقاؤهما، كما يقال: التقى الفارسان، إذا تحاذيا، وإن لم يتضاما. قال المزني: التقاء الختانين: أن يحاذي ختان الرجل ختان المرأة، لا أن يصيب ختانه ختانها، وذلك أن ختان المرأة مستعل، ومدخل الذكر أسفل من ختان المرأة. قال المزني: وسمعت الشافعي يقول: العرب تقول: إذا حاذى الفارس الفارس: التقى الفارسان. قال القاضي حسين: موجبات الغسل أربعة. اثنان تختص بهما النساء، وهما الحيض والنفاس.

واثنان يشترك فيهما الرجال والنساء، وهما الجنابة والموت. وأما الجنابة تقع بشيئين، نزول الماء، والتقاء الختانين. فأما نزول الماء يوجب الاغتسال، سواء كان في النوم، أو في اليقظة لشهوة أو غير شهوة، بسبب أو بغير سبب، أو لضعف به، أو لمرض أصابه، أو بالإغماء، أو على أي صفة كان يوجب الاغتسال. وقال أبو حنيفة: إن كان بغير الشهوة لا يوجبه. دليلنا قوله عليه السلام: الماء من الماء، ولم يفصل.

فأما التقاء الختانين يوجب الغسل بمجرده من غير الإنزال وقال الأعمش وأهل الظاهر: إنه لا يوجبه. والمسألة تلقب بأن الإكسال، هل يوجب الاغتسال؟ واختلف الصحابة فيه أيضًا، وروى عن عمر وجماعة من المهاجرين مثل قولنا. وروى عن عثمان وجماعة من الأنصار أنهم قالوا: لا يوجب الغسل، فرجعوا فيها إلى عائشة، فقالت عائشة رضي الله عنها: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا، فانقطع الخلاف فيما بينهما، ورجعوا إلى قولها.

وروي عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان وجب الغسل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: إذا قعد بين شعبها الأربع، والتصق ختانه بختانها وجب الغسل، أنزل الماء أو لم ينزل. ولأنه حكم يتعلق بالجماع، فيتعلق بالتقاء الختانين. دليله سائر الأحكام المتعلقة بالجماع من حصول الإحصان، والتحليل، ووجوب الحد وغيره. ويعني بالتقاء الختانين: تغييب الحشفة حتى لو غيب الحشفة في فرج بهيمة، أو في دبر آدمي، رجلا كان أو امرأة، وجب عليه الاغتسال.

وقال أبو حنيفة: إنه لو أولج في دبر إنسان لا يلزمه الغسل، إلا أنهم يستنكفون عنه الآن، وربما يسلمون وجوب الغسل به، وفساد العبادات، ومذهبهم الأول، هذا إذا كان ذكره سليمًا، فإن كان بعضه مقطوعًا، فإن بقي منه قدر الحشفة وغيبه يتعلق به وجوب الغسل،، وسائر الأحكام، وإن بقي دونه فلا يتعلق به الغسل، إلا بالإنزال. فأما يتعلق به الغسل، إلا بالإنزال. فأما التقاء الختانين في القبل تحاذيهما، دون تضامهما. قال المزني: وهو أن يحاذي ختان الرجل ختان المرأة، لا أن يصيب ختانه ختانها، وذلك أن ختان المرأة مستعل، ومدخل ذكر الرجل أسفل من ختان المرأة، فإذا غيب بقدر الحشفة تحاذي الختانان، ووجب الغسل. تقول العرب: التقى الفارسان إذا تحاذيا وتقابلا، وإن لم يتضاما. قال أصحابنا: كل حكم يتعلق بالجماع، يتعلق بتغييب جميع الحشفة. وقال أبو طاهر الزيادي، فساد صوم المرأة يحصل بأدني تغييب الحشفة فيها، ويسقط عنها الكفارة، لأنها صارت مفطرة قبل تغييب جميع الحشفة، فصار كما لو أكلت أو شربت ثم وطئت. أما في باب الحج، وجب عليها الكفارة. لأن الكفارة هناك يتعلق وجوبها بجماع تام، وفي باب الصوم وجبت بهتك حرمة الصوم بجماع تام، ولم تبق صائمة عند تمام الجماع. قال أصحابنا: يتصور وجوب الكفارة عليها بالجماع بأن كانت ناسية للصوم، أو مكرهة على الجماع، ثم طاوعت في خلاله أو نائمة فتيقظت في خلاله، فإنه وجب عليها الكفارة في هذه المواضع. قال المزني: قال الشافعي: وإن أنزل الماء الدافق متعمدًا، أو نائمًا، أو كان ذلك من المرأة، فقد وجب الغسل عليهما، وماء الرجل الذي يوجب الغسل: هو المني الأبيض الثخين الذي يشبه رائحة الطلع.

قال القاضي حسين: لا فرق بين الرجل والمرأة في أنه إذا نزل منه الماء يلزمه الغسل بأي حال كانت. وروى أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أو ترى المرأة في منامها ما يرى الرجل في منامه؟ فقال: نعم. فقالت أم سلمة: فضحت النساء فضحك الله. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: مه يا ام سلمة، بم يشبه الرجل أخواله، وأعمامه؟ إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أعمامه، وإذا غلب ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أخواله. ثم أقبل عليها وقال لها: إذا هي رأت ذلك فلتغتسل. ثم ذكر صفة المني، وهو أن يكون أبيض، رائحته، تشبه رائحة الطلع أو العجين، وإنما تشبه رائحته رائحة الطلع، لما روى أن الله تعالى قضى في سابق علمه أنه إذا خلق آدم، وفضل فضلة من ذلك التراب، يخلق منه النخلة، ولهذا قال عليه السلام. أكرموا عماتكم. يعني: النخلة.

ومن أوصافه أنه يخرج بدفقة ولذة، يعقه فتور، وقد يصفر ويرق لعارض من علة أو كثرة جماع. ومني المرأة أصفر رقيق. قال المزني: فمتي خرج المني من ذكر الرجل، أو رأت المرأة الماء الدافق، فقد وجب الغسل عليهما، وقبل البول وبعده سواء. قال القاضي حسين: أراد به مالكًا حيث قال: إذا غسل، ثم خرج منه مني، فإن كان قد بال، فعليه الاغتسال ثانيًا، وإن لم يكن قد بال، فعليه الاغتسال ثانيًا، وإن لم يكن قد بال، فهو بقية الماء الذي اغتسل له مرة، فلا يوجب الغسل ثانيًا. وهذا لا يصح، لأن الموجب للغسل نزول الماء وخروجه إلى الظاهر، لا

سيلانه من محل إلى محل في الباطن، لقوله صلى الله عليه وسلم: الماء من الماء، يعني: استعمال الماء إنما يجب بزول الماء. فرع إذا خرج من المرأة مني الرجل. قال أصحابنا: لا يلزمها الاغتسال. قال القاضي رضي الله عنه: إنما لا يلزمها ذلك إذا أنزل الرجل الماء، ونزل ماؤه منها عقيبه. فأما إذا مكث بعد ذلك ساعة، ينبغي أن يلزمها ذلك، لأن منيها يختلط بمني الرجل، فإذا خرج لا يخلو عن منيها لا محالة. قال المزني: وتغتسل الحائض إذا طهرت والنفساء إذا ارتفع دمها. قال القاضي حسين: لماذا غاير بينهما في اللفظ؟ من أصحابنا من قال: إنما غاير بينهما تحسينا للعبارة، فإن العرب تستحسن المغايرة في العبادات، فإن العرب تستحسن المغايرة في العبادات. ومن أصحابنا من قال: إنما غاير بينهما، لأن أحدهما يخالف الآخر في الحكم. ألا ترى أنها لو رأت الدم، وانقطع فيما دون يوم وليلة لا يجعل دم حيض، ولا يجب به الغسل. وفي النفاس لو رأت الدم لحظة يلزمها الاغتسال، فلهذا غاير بينهما في اللفظ، يعني: تغتسل الحائض إذا طهرت من الحيض، لا بمجرد انقطاع كل دم،

والنفساء تغتسل إذا انقطع دمها، أي دم كان، فلو أنها أتت بولد، ولم تر الدم، هل يلزمها الاغتسال أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لعدم دم النفاس. والثاني: نعم؛ لأن خروج الولد لا ينفك عن بلل الدم، ولأن الولد مني منعقد يخرج منها، فصار كما لو كان مائعًا، وتسمي هذه المرأة، (ذات الجفافة). فرع إذا ألقت مضغة يلزمها الاغتسال، ولو ألقت علقة، فيه وجهان لما ذكرنا.

فرع لو استدخلت منى زوجها أو مني أجنبي بالشبهة، لا خلاف في ثبوت النسب، ووجوب العدة به، على ظاهر المذهب وسقوط الحد. فأما في تقدير المهر، وثبوت الرجعة، ووجوب الغسل وجهان. فرع إذا لف خرقة على ذكره، وأولج، وغيب الحشفة يجب الغسل والحد. قال القاضي رضي الله عنه، هذا إنما يكون إذا كانت الخرقة رقيقة، بحيث تصل حرارة أحدهما إلى الآخر، ويصير بلل أحدهما إلى الآخر. فأما إذا كانت خشنة كثيفة، فلا. فرع إذا أسلم الكافر، ولم يكن جنبًا، لا يجب عليه الغسل، بل يستحب له ذلك، وإن أجنب في الكفر، فإن لم يكن قد اغتسل، فعليه الغسل بعد الإسلام.

وإن كان قد اغتسل، ففي وجوب الغسل عليه بعد الإسلام. وجهان: أحدها: يعيد كالوضوء، إذ لا نية للكافر. والثاني: لا؛ لأن من جنس الغسل ما يصح في حالة الكفر، وهو اغتسال الذمية من الحيض، إذا كانت تحت مسلم لحقه، فإنا نحكم بصحته لحق الآدمي كذا لحق الله تعالى.

باب غسل الجنابة

قال المزني: باب غسل الجنابة قال الشافعي: يبدأ الجنب، فيغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء، ثم يغسل ما به من الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل أصابعه العشر في الإناء، ثم يخلل بها أصول شعره، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات، ثم يفيض الماء على جسده، حتى يعم جميع جسده وشعره وبشره، ويمر يديه على ما قدر عليه من جسده. وروى نحو هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن ترك إمرار يديه على جسده، فلا يضره، وفي إفاضة النبي صلى الله عليه وسلم الماء على جلده دليل على أنه إن لم يدلكه، أجزأه، وبقوله: إذا وجدت الماء، فأمسسه جلدك. قال: وفي أمره الجنب المتيمم، إذا وجد الماء، اغتسل، ولم يأمره بوضوء، دليل على أن الوضوء ليس بفرض. قال القاضي حسين: ولم يذكر التسمية من أصحابنا من قال: إنما لم يذكر التسمية ها هنا، لأنه قد ذكرها في الوضوء، فاكتفى به ها هنا. ومنهم من قال: إنما لم يذكرها، لأنه ليس بمستحب للجنب، لأنه يمنع من قراءة القرآن، بخلاف المحدث. والصحيح أن يقال: يستحب له حسب ما يستحب للمحدث، لأنه يجوز للجنب التسمية، لا على قصد قراءة القرآن، فلهذا لم يذكرها. قال القاضي رضي الله عنه: لا يستحب عندي، بل يجوز إن لم يقصد قراءة القرآن.

ومن أصحابنا من قال: الأولى أن نقول: بسم الله العظيم الحليم، الحمد لله على الإسلام، حتى لا يكون على نظم القرآن، ثم يغسل يديه ثلاثًا على ما ذكرنا في الوضوء، ثم يغسل ما به من الأذى من أسافل بدنه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، يعني كاملا، ويتخير بين أن يؤخر غسل الرجلين إلى آخر الاغتسال، لما روت ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هكذا. وبين أن يقدمه على غسل البدن. لما روت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هكذا، وهذا الوضوء ليس بواجب في ظاهر المذهب. وقال أبو ثورٍ: إن أحدث مع الجنابة يلزمه الوضوء. يدل عليه قوله عليه السلام للجنب المتيمم: «إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك». ولم يأمره بالوضوء. قال: ويدخل أصابعه العشر في الماء، أو يصب الماء على يديه، ويخلل بهما أصول الشعر ليسهل وصول الماء إلى باطن الشعور، فإن اتصال الماء في الجنابة إلى تحت الشعور واجب.

لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تحت كل شعرة جنابة فبُلُّوا الشعر، وأنقوا البشرة»، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات من ماء، ويفيض الماء على الجسد ثلاثًا، ويمر الماء على ما قدر عليه من الجسد. هذا كله بيان الأكمل والمستحب، والدلك ليس بواجب عندنا، خلافًا لمالك رحمه الله. وقدر الفرض: إيصال الماء إلى جميع البدن مرة واحدة والدلك، وإمرار الماء ليس بشرط، وعند مالك ذلك واجب. يدل عليه قوله عليه السلام: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت»، ولم يذكر الدلك وغيره. قال المزني: وإن ترك الوضوء، للجنابة، والمضمضة، والاستنشاق، فقد أساء، ويجزئه، ويستأنف المضمضة والاستنشاق.

وقد فرض الله عز وجل، غسل الوجه من الحدث، كما فرض غسله مع سائر البدن من الجنابة، فكيف يجزئه ترك المضمضة والاستنشاق من أحدهما، ولا يجزئه من الآخر. قال القاضي حسين: سماه مسئا بترك هذه الأشياء، لأنها سنة مؤكدة، وبتاركها سمى مسيئا لا محالة. وأمر باستئناف المضمضة والاستنشاق دون الوضوء لمعنيين: أحدهما: أن الخلاف في المضمضة والاستنشاق مع أبي حنيفة، وذاك ظاهر حينئذ. والخلاف في الوضوء مع أبي ثور، وهو لا يعد خلافه خلافًا لأنه نبغ بعده، والثاني: أن الماء قد وصل إلى أعضاء الطهارة، كما لو وصل إلى سائر البدن، ما عدا الأنف والفم، فأمر بإيصال الماء إليهما، حتى يصل إلى جميع البدن عمومًا، والله أعلم بالصواب. قال المزني: وكذلك غسل المرأة إلا أنها تحتاج من غمر ضفائرها، حتى يبلغ الماء أصول الشعر أكثر مما يحتاج إليه الرجل. وروى أن أم سلمة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه، للغسل من الجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء. قال القاضي حسين: لا فرق بين غسل الرجل، وغسل المرأة، ومن كان منهما صاحب ضفيرة يحتاج إلى غمر ضفائره، إذا منع وصول الماء إلى البشرة

وقال مالك: لا يجب ذلك للمرأة، واستدل بما روى عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنفقضه للغسل من الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي عليك الماء. قلنا: إنما لم يأمرها بنقضها، لأنها كانت منفرجة متجافية، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يمنع وصول الماء إلى البشرة، بدليل قوله عليه السلام: تحت كل شعرة جنابة. الخبر قال المزني: وأحب أن يغلغل الماء في أصول الشعر، وكيفما وصل الماء إلى شعرها وبشرها أجزأها. قال القاضي حسين: أي يحرك الماء في أصول الشعر، وكيف ما وصل الماء إلى أصول الشعر أجزأه. قال المزني: وكذلك غسلها من الحيض والنفاس، ولما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالغسل من الحيض] قال: خذي فرصة والفرصة القطعة من مسلك فتطهري بها، فقالت عائشة رضي الله عنها، تتبعي بها أثر الدم.

قال الشافعي: فإن لم تجد فطيبًا، فإن لم تفعل فالماء كاف. قال القاضي حسين: غسل الحيض كغسل الجنابة، وهل يجب عليها إدخال الماء في الفرج، وإدخال الأصبع في الفرج، فيه أوجه: أحدها: يجب فيهما، لأنه صار في حكم الظاهر. والثاني: لا، لأنه يزيده فسادًا. والثالث: يجب ذلك في الغسل من الحيض، دون الجنابة، لأنها نجاسة عينية، بخلاف الجنابة. وقال القفال: ما يبدو منها عند القعدة يجب إيصال الماء إليه. قال المزني: وما بدأ به الرجل والمرأة في الغسل أجزأهما. قال: وإن أدخل الجنب أو الحائض أيديهما في الإناء، ولا نجاسة فيهما، لم يضره. قال القاضي حسين: الترتيب في الغسل لا يجب، لأنه كعضو واحد، ولا ترتيب في عضو واحد في الوضوء، كذا هذا. قوله: وإن أدخل الحائض أو الجنب أيديهما في الإناء، ولا نجاسة فيها لم يضره. قال القاضي حسين: لأنك ذلك العضو ليس بنجس، وإن وجب غسله، هذا إذا لم ينو الغسل، فإن نوى الغسل، سنذكر حكمه بعد هذا إن شاء الله تعالى. مقدم على قوله: وما بدأ. وقوله: ولما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصل. إذا اغتسلت من الحيض تحتاج أن تستعمل فرصة من مسك، فتطهر بها في باطن فرجها، لتقطع رائحة أذى الحيض.

والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: اغتسلي ثم خذي فرصة من مسك فتطهري بها. فلم تعرف المرأة ذلك فسألته ثانيًا، فقال لها: ويحك تطهري بها. فقالت عائشة: ففطنت لذلك، فأتيتها وقلت لها: تتبعي بها أثر الدم. والمستحب هو المسك، فإن لم تجد، فطيب آخر، فإن لم تجد، فالماء كاف. فرع قد ذكرنا أن المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء لا ينجس الماء، لأن يده لا تنجس بكونه محدثًا أو جنبًا، وإن وجب غسله.

لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمشي في بعض الأيام، فاستقبله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده ليصافحه. فقبض أبو ذر يده عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وذهب واغتسل، ثم عاد معتذرًا إليه، وقال: يا رسول الله، إني ما كرهت مصافحتك، ولكني كنت جنبًا، فال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو علمت أن المؤمن لا يخبث، وأن المؤمن ليس ينجس؟ وفي رواية: إن المؤمنين إذا تصافحا تحاتت عنهما خطاياهما، كما يتحات عن الشجرة ورقها. فأما حكم الماء، هل يصير الماء مستعملا أم لا؟ إن لم ينو الطهارة لا يصير الماء مستعملاً. فأما إذا نوى الطهارة أولا يذكر حكم المحدث، فإن المحدث إذا نوي الوضوء، لا يصير الماء مستعملا، حتى إذا فرغ من غسل الوجه، فإذا أراد غسل اليدين، فإن أدخلهما الإناء، هل يصير الماء مستعلما أم لا؟ ظاهر ما نص ها هنا: أنه لا يصير الماء مستعملا، لأنه قال: ثم يغرف غرفة، ويغسل بها يديه، فعطف على غسل اليدين. ومن أصحابنا من قال: يصير الماء مستعملاً، لأنه تأدى به الفرض مرة. وإن قلنا: يصير مستعملاً، فمن أي وقت يصير مستعملاً. فيه وجهان: أحدهما: من وقت ملاقاة يده أول جزء من الماء.

والثاني: متى انفصل يده من الماء، فعلى هذا الماء الذي أخذه بيده، على الوجه الأول يكون مستعملاً. وعلى الوجه الثاني: لا يكون مستعملاً. وهكذا لو أخذ الماء بيمينه ليغسل به يساره، أو أخذ بيساره ليغسل به يساره، أو أخذ بيساره ليغسل به يمينه يصير مستعملاً. ولو أخذ بكفه بنية أن يغسل به الذراع. قال القاضي رحمه الله: بأنه يجوز، وفيه إشكال. إذا قلنا: بأنه يصير الماء مستعملا إذا أدخل يده في الإناء، فالحيلة فيه أنه إن كان الإناء صغيرًا يفرغ منه الماء على كفهه، إذا بلغ إلى غسل اليدين في الطهارة، فإذا غسل الكف حينئذ يدخله في الإناء، ويأخذ الماء منه إلى أن يغسل باقي الأعضاء، ولا يضره ذلك. أو أمر غيره بأن يصب الماء على يده، أو يأخذ الماء بفيه، ويصب الماء على يده، أو يأخذ الماء بطرف ثوبه، أو لحيته، إن كانت طويلة، ويعصره على يده، أو يوقفه عليه، حتى يتقاطر منه الماء على كفه، ويصير مغسولا، ثم يأخذ الماء من الإناء هذا كله في المحدث. فأما إذا أراد الجنب أن يدخل يده في الإناء لا بنية رفع الجنابة، لا يصير الماء مستعملا. وإن نوي ذلك، هل يصير الماء مستعملا؟ على ما ذكرنا من الاختلاف في المحدث، ولا يمكنه أن يأخذ الماء بفيه، ولكنه يمكنه أخذ الماء بطرف ثوبه، أو يأمر غيره أن يصب الماء على يده، ويمكنه أيضا أن يأخذ الماء بغير نية الجنابة، ثم بعد ذلك ينوي ذلك؛ حتى تصير يده مغسولة حالمًا نوى. ثم لو أخذ الماء بعده لباقي الأعضاء لا يضره، ولا تتصور هذه الحيلة في حق المحدث، لأنه قد سبق نيته على غسل اليدين عند ابتداء غسل الوجه.

فأما إذا كان الماء دون القلتين، وأراد الشروع فيه، إن لم ينو الجنابة، فلا يصير الماء مستعملا، وإن نوى يصير الماء مستعملاً، وهل ترتفع الجنابة عنه أم لا؟ ينبني على ما ذكرنا من الوجهين، في أنه متى صار الماء مستعملاً. إن قلنا بالوجه الأول، لا ترتفع عنه الجنابة. وإن قلنا بالوجه الثاني، ترتفع عنه الجنابة. فأما إذا مقل في الماء غير ناو، بشيء، ثم نوى الجنابة لا خلاف أنه ترتفع جنابته، ويصير الماء مستعملاً. فأما إذا شرع في الماء إلى السرة ثم نوى، لا خلاف أنه ترتفع الجنابة من أسافل بدنه. فأما إذا مقل بعده في الماء، أو أخذ الماء بيده، وغسل باقي الأعضاء، فيه وجهان على ما ذكرنا. وهذان الوجهان إنما تكون في حقه لا في حق غيره، حتى لو جاء آخر، وأخذ منه الماء، فإنه يكون مستعملا في حقه وجهاً واحدًا، ولا يحصل به التطهير. فأما إذا كانا جنبين أو ثلاثة أو أكثر، مقلوا في الماء ونووا، واتفقت نيتهم ترتفع عنهم الجنابة، ويصير الماء مستعملاً، كما قلنا في حق الواحد، وإن اختلفت نيتهم، ترتفع جنابة من سبقت نيته عنه، ويصير الماء مستعملا به، ولا ترتفع الجنابة عن الباقين.

باب فضل الجنب وغيره

باب فضل الجنب وغيره قال الشافعي: أخبرا مالك [بن أنس] عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، حتى توضأ الناس من عند آخرهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: كان الرجال والنساء يتوضئون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد جميعًا. وروى عن عائشة أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تعني من الجنابة وأنها كانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض. قال الشافعي: [ولا] بأس أن يتوضأ ويغتسل بفضل الجنب والحائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل وعائشة من إناء واحد، فقد اغتسل كل واحد منهما بفضل صاحبه. قال: وليست الحيضة في اليد، ولا المؤمن بنجس، إنما تعبد بأن يماس الماء في بعض حالاته. وكذلك ما روى ابن عمر: أن كل واحد توضأ بفضل وضوء صاحبه، في كل ذلك دللة أنه لا توقيت [بما] يتطهر به المغتسل والمتوضي، إلا الإتيان بالماء على ما أمره الله عز وجل به، وقد يخرق بالكثير، فلا يكفي، ويرفق بالقليل فيكفي. قال: وأحب أن ينقص عما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بالمد، واغتسل بالصاع.

قال القاضي حسين: ولم يرد به أن للجنب فضلاً على المتطهر؛ لأنه إن لم يكن متقاصرًا عنه، فلا مزية له عليه، وإنما أراد به فضل ماء الجنب، وذلك ينقسم قسمين: قسم ينفصل عن أعضائه، وإن كان في المرة الأولى يكون مستعملا لا يجوز التطهير به، وإن كان في المرة الثانية أو الثالثة، فيه وجهان، وله باب مفرد. والقسم الثاني: ما يفضل من الماء في الإناء، ولا يستعمله الجنب عندنا، يجوز استعماله في الوضوء والغسل، سواء فضل من الرجل أو من المرأة. وقال أحمد: لا يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة، وهل للمرأة أن تتوضأ بفضل وضوء الرجل؟ فيه روايتان عنه.

والدليل عليه ما روى ابن عمر أنه قال: كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد جميعًا. وإنما ذكر ذلك؛ لأن من عادة العرب أن يتخذوا حجرًا كبيرًا، ويحفروا فيه حفرة، ثم يصبون فيه الماء، ويتوضئون منه، ولا شك أن كل واحد منهم يتوضأ يفضل صاحبه. وروى أن الصحابة اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأذن المؤذن، فخرج من كل له أهل ودار إلى أهله وداره، وبقي في المسجد من ليس له أهل يأوى إليه، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمشربة فيها ماء، فجعلوا يشرئبون إليه. أي: ينظرون إليه. فقال عليه السلام: ما لكم؟ فقالوا: يا رسول الله، خرج كل من كان له أهل ودار إلى أهله وداره، وليس لنا أهل ودار نأوى إليه. فوضع النبي عليه السلام- أصابعه على المشربة، وقال لهم: هلموا إلى الوضوء المبارك. وكانت لا تسع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم لضيقها. قال أنس: ورأيت الماء ينبع من تحت أصابعه- صلى الله عليه وسلم - حتى توضأ الناس من عند آخرهم.

قيل له: كم كان القوم؟ قال: من سبعين إلى ثمانين. ولا شك فيه أن كل واحد منهم يتوضأ بفضل وضوء صاحبه. وروى عن عائشة رضي الله عنها- أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة، وكنا كظئرين كل واحد يقول لصاحبه: أبق لي. دل على جوازه. قوله: (وفي ذلك)، دلالة على أنه لا وقت فيما يظهر به المغتسل، أي: لا قدر فيه، والوقت هو القدر، يعني: قدر الماء يختلف باختلاف حال المتوضيء، فمن أخرق لا يجتزيء بالكثير إذا لم يحسن، ومن رفق يجتزئ بالقليل إذا أحسن ذلك، والمستحب ألا ينقص في وضوئه عن المد، وفي غسله عن صاع. لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه توضأ بالمد، واغتسل بالصاع. والمد: رطل وثلث.

والصاع: أربعة أمداد، وهي خمسة أرطال وثلث. وقيل: الصاع ها هنا: أربعة أمداد. وكيف ما غسل وعم الأعضاء بإيصال الماء إليها أجزأه، فلا خلاف فيه، والله أعلم بالصواب.

باب كيف التيمم

قال المزني: [باب كيف التيمم] قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء.). وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم، فمسح وجهه وذراعيه. قال: ومعقول أنه إذا كان بدلاً من الوضوء على الوجه واليدين أن يؤتى بالتيمم على ما يؤتى بالوضوء عليه. وعن ابن عمر أنه قال: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين. قال القاضي حسين: التيمم في اللغة: هو القصد إلى الشيء. يدل عليه قول الشاعر حيث قال: وما أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير أيهما يليني أأالخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني وفي الشريعة: عبارة عن إيصال التراب إلى الوجه والكفين مع إنضمام النية إليه.

والأصل في ذلك قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا). وسبب نزول هذه الأية، ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة مريسيع، فافتقدت عائشة عقدًا لها من جزع ظفارى، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أقمت بنا هذه الليلة لأطلب عقدي لعلي أجد ما أضللت، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، فلما أصبح الناس أصبحوا على غير ماء، وفي القوم بعضهم جنب، وبعضهم محدث، فجاءوا متشاكين إلى أبي بكر، رضي الله عنه، وكان خطيب القوم أسيد بن حضير، فقال: ألم تر ما فعلت ابنتك احتبست برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين حتى أصبحنا وليس معنا ماء، فغاظ ذلك أبا بكر، فقام وتقلد سيفه، حتى دخل على عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائمًا ورأسه في حجرها.

قالت عائشة: فشتمني ما شاء الله أن يشتمني، وضربني ما شاء الله أن يضربني، ونخسني بغمد سيفه [حتى] الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي مخافة أن ينتبه، ثم خرج أبو بكر من عندنا، واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه عند الوحي، فلما سري عنه دعا الناس، وتلا عليهم قوله: فلم تجدوا ... الآية. فسر به سرورًا شديدًا، ثم جاءوا شاكرين إلى أبي بكر فقالوا: ما أعظم بركاتكم يا آل أبي بكر، ما نزل الله تعالى بكم نازلة إلا كان للمسلمين فيها راحة، وفسحة، ورخصة. ومن جهة الخبر ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التراب طهور المؤمن ولو لم يجد الماء عشر حجج. وفي حديث آخر: التراب كافيك وإن لم تجد الماء عشر حجج. وقوله عليه السلام: جعلت لي الأرض مسجدًا وترابها لي طهورًا.

وفيه دليل أن التيمم لم يكن لغير هذه الأمة. قال: والتيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين مع المرفقين. قال القاضي حسين: أراد به مالكًا حيث قال: ضربة لليدين إلى الكوعين واستدل بالآية. وقال: ذكر الله اليد مطلقًأ، وإذا اطلق يحمل على اليد إلى الكوع، لا إلى المرفق كما في آية السرقة. قلنا: ذكر الله تعالى اليد مقيدًا إلى المرفق في آية الوضوء، وأطلق ها هنا فيحمل المطلق على المقيد، كما قعلنا في مواضع كثيرة. وروى أيضًا عن عمر أنه كان لا يرى التيمم عن الاغتسال حتى قال عمار بن ياسر. ألا تذكر حيث كنا بالبقيع في الإبل، فأجنبنا فتمعكت في التراب، وأخرت الصلاة، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وسألناه عن ذلك فقال لي: (صرت حمارًا يا عمار يكفيك ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.) فثبت أن التيمم في جميع الأحوال على العضوين، ولا يجوز استيعاب جميع البدن، ولا الأعضاء الأربعة، لأن مبناه على التخفيف، سواء تيمم للجنابة أو للحدث أو للمعة، وإن قلت. ويلزمه استيعاب محل الغسل من الوجه واليدين، لأنه قال: (ومعقول أنه إذا كان بدلا من الوضوء على الوجه واليدين أن يؤتى بالتيمم على ما يؤتى بالوضوء عليه).

فرع قد ذكرنا أن القصد إلى التراب شرط في التيمم، حتى لو وقف في مهب الريح حتى سفت الريح التراب على أعضاء التيمم لا يصح تيممه، بخلاف الوضوء، لأن هناك النية شرط لا القصد إلى أحد الماء، وها هنا بخلافه، ولكن لا فرق بين أن يقصد إلى أخذ التراب بيده، أو بخشبة، أو بأي شيء كان بعد أن وجد منه القصد إليه ولا فرق أيضا بين أن يأخذ التراب من الأرض، أو من الثواب، أو من الشجر وغيره، إذا كان المكان طاهرًا، وضرب يده عليه وتعلق باليد. فأما إذا ضرب يده على ظهر كلب عليه غبار. إن تحقق أنه أصابه، وهما جافان يابسان جاز. وإن تحقق أن أحدهما إما الكلب أو التراب كان رطبًا لا يجوز. وإن اشتبه عليه ذلك، فعلى وجهين، لأنه تقابل فيه الأصل والظاهر. وللشافعي قولان في الأصل والظاهر إذا تقابلا. فأما إذا ضرب يده على ظهر حمار، وليس عليه نجاسة، وعليه غبار جاز، فأما إذا ضرب يده على رأس نفسه، إذا كان عليه تراب، أو على ظهره، أو بطنه، فمسح به أعضاء التيمم جاز، ولو كان على وجهه، فضرب يده عليه، ومسح به الوجه، لا يجوز، لأنه يأخذ التراب من أعضاء التيمم، ويرده إلى أعضاء التيمم، وإن أخذه من اليدين، ومسح به الوجه، فيه وجهان: أحدهما: لا يجو؛ لأنه أخذه من عضو التيمم.

والثاني: يجوز؛ لأنه يرده إلى عضو آخر. وكذا لو أخذ من إحدى اليدين، ومسح به اليد الأخرى، فيه وجهان؛ لأن اليدين في الحقيقة عضوان. وكذا لو مسح وجهه، ثم مسحه بخرقة، ثم وقع عليه الغبار، وضرب يده عليه ليمسح به اليدين، فيه وجهان على ما ذكرنا من المعنين. فأما إذا ضرب يده على بطن امرأة أو ظهرها وعليها غبار، إن كان كثيرًا كثيفا، بحيث لا تصل يده إلى بشرتها جاز، وإلا فلا، لأنه يصير محدثًا بالملامسة، فصار كما لو أخذ التراب، ثم أحدث، ليس له استعماله، بل يحتاج إلى الأخذ ثانيًا. فأما إذا نوى عند أخذ التراب، والقصد إليه، ثم غربت نيته قبل مسح الوجه به. قال القاضي رحمه الله: كنت أقول بأنه جائز؛ لأنه قرن النية بأول ركن من أركان التيمم، وهو القصد إلى التراب، فصار كما لو قرن النية إلى أول جزء من الوجه في الوضوء. والآن أقول: لا يجوز هذا؛ لأن الركن الحقيقي في التيمم مسح الوجه واليدين والنية والترتيب، فينبغي أن ينوي عند مسح الوجه، كما في الوضوء. فأما القصد إلى التراب، فهو شرط لدخول الوقت سواء، إلا أن الصحيح هو الأول، بدليل أنه لو أخر التراب، ثم أحدث لا يجوز له استعماله، إلا بقصد جديد، ونية أخرى، فأما إذا يممه غيره، فإن كان معذورًا بأن كان مقطوع اليدين، أو مريضًا، وما شابهه فيجوز، وإن لم يكن به عذر، فوجهان: أحدهما: يجوز كما لو وضأه رجلٌ. والثاني: لا؛ لأن القصد ها هنا شرط، ولم يتحقق منه، ولأن هذا ضعيف، فيحتاج إلى قصده ليقوى بخلاف الطهارة بالماء.

إن قلنا: لا يجوز، فلا كلام. وإن قلنا: يجوز، فالنية تجب على الآمر لا محالة؛ لأنه هو التيمم والمتعبد، والعبادة حصلت على يده، إلا أن أمره به يجعل قصدًا منه حكمًا، وينوي عند ضرب المأمور يده على التراب، وهذا يقوي الوجه الأول في المسألة قبلها، فلو أنه أحدث بعد ضرب اليد على التراب، وبعد النية، أو الأمر أحدث لا يضر، بخلاف ما لو أخذ التراب بنفسه، ثم أحدث حيث بطل ذلك الأخذ؛ لأن هناك وجد القصد الحقيقي منه، والحدث منه فيبطله. وأما ها هنا لم يوجد منه القصد حقيقة، فصار كما لو استأجر رجلا ليحج عنه، وهو مغصوب يصح. ولو جامع في تلك المدة لا يفسد ذلك الحج؛ لأنه أمر، وليس بحاج على الحقيقة. فأما إذا تمعك في التراب، ونوى، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه لم يوجد منه القصد إلى أخذ التراب، ورده إلى محل التيمم. وكذلك إذا مد يديه، وجاز آخر حتى أهال التراب على يديه، فيه وجهان. وكذا لو وقف في مهب الريح حاسرًا يديه، حتى سفت الريح التراب على يديه. فيه وجهان على ما ذكر. فأما إذا كان في كميه تراب، فضرب يديه على التراب، وصح به جاز بلا خلاف، لأنه وجد القصد الصحيح. قال الشافعي: والتيمم أن يضرب بيديه على الصعيد، وهو التراب من كل أرض، سبخها، ومدرها، وبطحائها وغيره، مما يعلق باليد منه غبار، ما لم تخالطه نجاسة، وينوي بالتيمم الفريضة، فيضرب على التراب ضربة، ويفرق

أصابعه؛ حتى يثير التراب، ثم يمسح بيده وجهه، كما وصفت في الوضوء، ثم يضرب ضربة أخرى كذلك، ثم يمسح ذراعه اليمني، فيضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمني وأصابعها ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه، ثم يدير كفه إلى بطن الذراع ثم يقبل بها إلى كوعه، ثم يمرها على ظهر إبهامه، ويكون بطن كفه اليمني باقية، لم يمسها شيء من يده، فيمسح بها اليسري، كما وصفت في اليمني ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعهما، فإن أبقي شيئا مما كان يمر عليه في الوضوء، حتى صلى، أعاد ما بقي عليه من التيمم ثم، يصلي، وإن بدأ بيديه قبل وجهه، كان عليه أن [يعود ويمسح] يديه، حتى يكونا بعد وجهه مثل الوضوء سواء، وإن قدم يسرى يديه على اليمني، أجزأه. قال القاضي حسين، الكلام فيما يجوز به التيمم، وفيما لا يجوز به التيمم، أن كل ما كان صعيدًا يجوز به التيمم على اختلاف ألوانه، ومما لا فلا. وجملة أنواعه ما ذكر في الكتاب، من كل أرض سبخها ومدرها وبطحائها وغيره. أراد بالسبخ: التراب الذي لا ينبت. وأراد بالمدر: التراب الحر المنبت. وأراد بالبطحاء: الرقاق الذي يكون في مسيل الوادي المختلطة بالأحجار، إذا كان له غبار يعلق باليد على أي لون كان أسود أو أبيض أو أحمر،

وكذا الطين الأرمني مثله، جاز التيمم به، لأنه من جنس التراب، إذا كان له غبار. فأما الرمل: قال في موضع: يجوز به التيمم، وقال في موضع: لا يجوز. اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: المسألة على حالين. حيث قال: يجوز، أراد به إذا كان فيه غبار يعلق بالوجه. وحيث قال: لا يجوز، أراد به إذا لم يكن فيه غبار. وأما ما استخرجته الأرضة من الطين، نظر إن استخرجته من الخشب، لا يجوز، لأن ذلك نحالة الخشب، وإن استخرجته من الجدار، جاز، ولا عبرة بتلك الرطوبة، لأن ذلك من لعابه، ولعابه طاهر. فأما الحجر المسحوق، والخزف المسحوق، والآجر المسحوق، والزرنيخ

والنورة والجص، والكحل، وسائر طبقات الأرض، لا يجوز التيمم به، وكذا لا يجوز التيمم بالتراب المستعمل نص عليه، وأراد بالتراب المستعمل: ما يتناثر من أعضاء الوضوء، وينفصل عنه إذا جمع، لا يجوز التيمم به، كما إذا توضأ، وتقاطر الماء من أعضائه، لا يجوز التوضؤ به ثانيًا. فأما ما بقي من هذا التراب في الموضع الذي ضرب عليه اليد، يجوز التيمم به، حتى لو أن جماعة تيمموا وضرب كل واحد منهم يده على محل واحد، يجوز، وكل واحد منهم متيمم بفضل تراب صاحبه، كما في الوضوء. وقال أبو حنيفة: يجوز التيمم بجميع طبقات الأرض إذا كان لا ينطبع بالنار مثل النورة والزرنيخ وغيرهما. فأما ما ينطبع بالنار مثل سحالة الذهب والفضة والحديد، لا يجوز التيمم به. وأيضا قال: لو ضرب يده على صخرة صماء، ولم يعلق بيده شيء جاز، ولو ضرب بيده على التراب، ثم نفض التراب عن يديه، ومسح به المحل، يجوز، وعندنا: لا يجوز في المسألتين، والدليل عليه الخبر أمر بالتراب.

والمعنى فيه: أنه طهر بالمسح، فيقتضي ممسوحا، دليله المسح على الخفين. وقال مالك: لو ضرب يده على الشجر والحشيش يجوز، وإن لم يكن عليه غبار؛ لأن عنده يجوز التيمم بكل ما يتصاعد من الأرض. ونحن روينا عن ابن عباس أنه قال في تفسيره للصعيد: التراب الحر المنبت، ويدل عليه قوله عليه السلام: التراب كافيك، نص على التراب، دل على أن غير التراب لا يقوم مقامه. قوله: ما لم تخالطه نجاسة. قال القاضي حسين: التراب إذا خالطه النجاسة لا يجوز التيمم به، قلت النجاسة أو كثرت، بخلاف الماء؛ لأن النجاسة القليلة تستهلك في الماء

الكثيرة؛ لأنها تخالط الماء، ولا تستهلك في التراب، لأنه جامد لا يخالط النجاسة، لكن يجاورها، فأما إذا خالطه شيءٌ من الطاهرات مثل الزعفران وغيره، فإن كان كثيرًا لا يجوز. وإن كان قليلا، فيه وجهان: أحدهما: يجوز قياسًا على الماء. والثاني: لا يجوز. والفرق بينهما: أنه صار مستهلكًا في الماء، بخلاف التراب، وأيضا فإن للماء لطافة تخلص إلى العضو، ولا يمنعه الخليط، بخلاف التراب، والله أعلم بالصواب. قوله: (وينوي بالتيمم الفريضة). قال القاضي حسين: من أصحابنا من قال: أراد به صلاة الفريضة. ومنهم من قال: أراد به فرض التيمم. فعلى هذا: هل يجوز التيمم للنافلة فيه قولان مستنبطان من هذا. إن قلنا: إن المراد به صلاة الفريضة، لا يجوز. وإن قلنا: أراد به فرض التيمم، يجوز؛ لأن التيمم فرض للنافلة، كما هو فرض للفريضة، لأن كل ما كان من شرائط الصلاة، فتستوي فيه الفرائض والنوافل. إن قلنا: لا يصح التيمم للنافلة، فلا كلام. وإن قلنا: يصح، ففي جواز أداء الفرض به قولان.

في الجديد: لا يجوز؛ لأنه لم ينو استباحة فعل الفريضة، والفريضة أقوي من النافلة، فلا يتأدى القوي بالضعيف. وفي القديم: جاز؛ لأنه طهر جاز أداء النفل به، فجوز أداء الفرض به كالوضوء، وكذا القولان في المستحاضة إذا توضأت للنافلة: أحدهما: يجوز كما لو توضأت للفريضة. والثاني: لا يجو، لأن ذاك التيمم طهارة ضرورة، جوزت لأجل الضرورة، ولا ضرورة ها هنا في النافلة، بخلاف الفرض، وكذا المغصوب، إذا استأجر رجلاً، ليحج عنه حجة التطوع، فيه قولان.

وكذا لو أوصى بأن يحج عنه بعد موته حجة التطوع، فيه قولان، والمعنى فيهما ما ذكرنا. فأما إذا نوى استباحة صلاة الفرض، لا خلاف أنه يجوز، ولو نوى استباحة الصلاة فحسب.

إن قلنا: يجوز التيمم للنافلة، فها هنا أولى. وإن قلنا: لا يجوز، ففي هذا جوابان ينبنيان على أصل، وهو أنه إذا نذر نذرًا مطلقًا ماذا يلزمه؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه أقل ما أوجبه الله تعالى من جنسه. والثاني: يلزمه أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى، من جنسه شرعًا، إن قلنا بالقول الأول: يجوز. وإن قلنا بالقول الثاني: يجعل كما لو تيمم للنافلة، وقد ذكرنا حكمه. فأما إذا تيمم لصلاة الفريضة، هل يجوز له أداء النافلة، أم لا؟ يختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: يجوز، سواء كان قبل أداء الفريضة، أو بعد أداء الفريضة، لأن كل طهارة جاز أداء الفرض به، فلأن يجوز أداء النفل به أولى. ومنهم من قال: لا يجوز، لا قبله ولا بعده، لأنه طهارة ضرورة، ولا ضرورة في حق النافلة. وقال البويطي: يجوز بعد الفريضة، ولا يجوز قبلها، لأن النفل ها هنا تبع

فلا يسبق المتبوع، وهذا لا يصح، لأن النفل في جميع المحال تبع لها، تقدم أو تأخر كما قلنا في التناكرية، فإنهم تبع للأمير تقدموا عليه في الطريق أو تأخروا عنه. فرع قال ابن الحداد: لو تيمم لفائتة قبل دخول وقت فريضة، ثم دخل وقت الفريضة، لا يجوز له أن يصلي به فرض الوقت، ولو تيمم بعد دخول الوقت لصلاة الوقت، ثم ذكر فائتة، له أن يصلي به تلك الفائتة. اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: لا يجوز أن يصلي به تلك الفائتة، كما لا يجوز أن يصلي بالتيمم في المسألة الأولى فرض الوقت، لأن عدم التذكر ها هنا، كعدم دخول الوقت هناك، لأن وقت الفائتة يدخل بالتذكر لما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم (من نسى صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره). ومنهم من قال: يجوز أن يصلي الفائتة، ويجوز أن يصلي بالتيمم في المسألة الأولى فرض الوقت أيضا؛ لأن كل تيمم يجوز أداء فريضة به، يجوز أداء كل الفريضة به. ومنهم من قال: كما ذكره ابن الحداد: الأول: لا يجوز أن يصلي به فرض الوقت، لأنه غير واجب عليه وقت التيمم، بل وجب عليه بعد دخول الوقت.

والثاني: يجوز أن يصلى به صلاة الفائتة، لأنه واجب عليه وقت التيمم، فأما إذا تذكر فائتة بعد دخول الوقت، ثم تيمم لها يجوز له أن يصلي بها صلاة الوقت، وكذا لو تيمم لصلاة الوقت، يجوز أن يصلي به الفائتة، وكذا لو تذكر فائتتين، وتيمم لإحداهما، يجوز له أن يصلي الأخرى. فأما إذا تيمم لفائتة ذكرها، لا يجوز، وكذا لو تيمم لفائتة بعينها، ثم تبين أن الفائتة غيرها لم يجز أيضًا. فأما إذا تيمم لفائتة بعينها، ثم ذكر فائتة أخرى، هل يجوز له أن يصلي به الفائتة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لأن وقت تلك الفائتة دخل وقتها بالتذكر، فكأنه تيمم قبل دخول وقت الفريضة. والثاني: جاز، لأنه تيمم لصلاة فريضة، وصح تيممه. فأما إذا تيمم لفائتتين معًا فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو توضأ لصلاتين. والثاني: لا يجوز، لأنه لا يجوز له أداؤهما. فإذا نوى لهما فقد غير نية التيمم عن موضوعها، فلا يجوز. فعلى هذا لو توضأ لصلاة واحدة، ولا يبغي غيرها، يجوز ويصلي به ما شاء من الصلوات وإن بقي غيرها فأوجه: أحدهما: تصح طهارته ويلغو التقييد، ويصلي به ما شاء. والثاني: لا تصح طهارته؛ لأنه غير نية الطهارة عن موضوعها. والثالث: تصح طهارته لتلك الصلاة لا غير، وهذا ضعيف.

قوله: (فيضرب على التراب ضربة، ويفرق أصابعه). قال القاضي حسين: المزني أخل في نقل هذا الكلام، حيث ذكر تفريق الأصابع في المرة الأولى، وإنما يلزمه في المرة الثانية لأن التخليل بين الأصابع يجب في المرة الثانية. والصحيح ما قال الشافعي: ولا يفرق بين أصابعه، ثم صور الشافعي، رحمه الله التيمم بضربتين: ضربة للوجه، ويمسح بها وجهه على الوجه الذي ذكرنا في الوضوء، ثم يضرب ضربة أخرى يمسح بهما يديه. وكيفيته: أن يضع باطن أصابعه اليسرى على ظهر أصابعه اليمني، بحيث لا يصل رءوس أصابع اليسرى عن عرض أصابع اليمني، ولا رءوس أصابع اليمني عن أصابع اليسرى عرضًا، ثم يمرها على ظهر الكف والذراع إلى المرفقين، ثم

يديرهما على المرفق، ويرفع الإبهام، ثم يضع بطن كفه اليسرى على باطن الذراع، ويمرها إلى الكف، ثم يمر باطن إبهام يده اليسرى على ظهر إبهام يده اليمني، ويفعل باليد اليسرى مثل ذلك ثم يمسح إحدي الراحتين بالأخرى، إن بقي عليه غبار، وإلا فيأخذ ثانيًا، ويخلل بين الأصابع. وإنما ذكر الشافعي، رحمه الله هذا التدقيق ردًا على مالك، حيث قال: التيمم خصة النبي صلى الله عليه وسلم بضربتين، ولو كان مسح اليدين إلى المرفقين، لما قال هكذا، لأنه لا يتصور بالضربة الواحدة، إيصال التراب من اليدين إلى المرفقين وإلا فالحكم لا يختص به، حت لو تيمم بعشرين ضربة جاز، لأن الشرط إيصال التراب إلى محل التيمم، لا الضربات، فلو فرق الأصابع في المرة الثانية، دون الأولى جاز، ولو فرقها في المرة الأولى، دون الثانية لا يجوز، ولو فرق الأصابع فيهما، هل يجوز ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن التراب يتخلل بين الأصابع في المرة الأولى، فيؤدي إلى أن يتقدم مسح بعض اليدين على الوجه، وهذا لا يجوز، لأن الترتيب فيه شرط. والثاني: جاز لأنه إذا مسح الوجه، فلم يبق على يده كثير غبار، فلا يمنع من إيصال التراب إليه في الضربة الأولى. فقلنا: بأنه جاز، ولو بقي التراب فيما بين الأصابع في المرة الأولى، فوجب عليه أن يمسح بين الأصابع بخرقة، أو بشيء، حتى يتناثر التراب عنه، ثم يضرب ضربة أخرى لليدين، ويجوز. قوله: (فلو أبقى شيئا مما عليه من الوضوء) الفصل. قال القاضي حسين: أراد به ردًا على أبي حنيفة حيث قال: لو ترك لمعة من أعضاء التيمم، جاز.

وعندنا: لا يجوز، وإن كان قليلاً، ونحن نقيس على الطهارة. قوله: (وإن بدأ بيديه قبل وجهه أعاد). قال القاضي حسين: أراد به الترتيب، وهو واجب في التيمم، سواء كان التيمم لأجل الحدث، أو الجنابة؛ لأنه يختص بعضوين بخلاف الغسل بالماء. قال أصحابنا رحمهم الله: فرائض التيمم وأركانه [سِتَّةٌ] (سنة!): القصد إلى التراب، والنية، ومسح الوجه كله، ومسح اليدين إلى المرفقين، والترتيب، والتتابع في أحد القولين. وفيه وجه آخر: أن في التتابع قولاً واحدًا، لأنه إذا مسح وجهه، ثم مشى زمانًا قبل أن يمسح يديه، فيتوهم وجود الماء فيما بينهما، فيلزمه طلبه، وطلب الماء إذا وجب عليه بطل تيممه. فأمَّا إذا كان جالسًا في موضع واحد لا يتأتى هذا، وفي التتابع قولان، كما في الوضوء. فأمَّا دخول الوقت وطلب الماء، وعدمه بعد الطلب من الشرائط، كاستقبال القبلة، وستر العورة، ودخول الوقت في صلاة الفريضة. والسنة فيه: التسمية، والبداية باليمين، فأما التثليث والتكرار فيه ليس سنة، بل يقبح، ويغير اللون بخلاف الماء، وكذلك إيصال التراب إلى البشرة ليس بسنة، بخلاف الوضوء، وكذا ليس بواجب فيما وجب إيصال الماء إليه في الطهارة، لأنه لا يمكن ذلك للكثافة، بخلاف الماء. فعلى هذا لو كان على يديه شعور لا يجب عليه إيصال التراب إلى البشرة، وكذلك المرأة إذا نبتت لها لحية لا يجب عليها إيصال التراب إلى ما تحتها على الصحيح من المذهب. وفيه وجه: أنه يجب. قال القاضي رحمه الله: سألت القفال رحمه الله عن تجديد التيمم: أسنة هو؟

فقال لي: كدت تغالطني، التجديد لا يتصور في التيمم، لأن التيمم إنما يجوز بعد طلب الماء، وطلب الماء يبطل التيمم، فإذا تيمم ثانيًا، فيكون هو الفرض، لأنه بطل الأول بخلاف الوضوء، والله تعالى أعلم بالصواب. قال المزني: ولو نسي الجنابة، فتيمم للحدث، أجزأه، لأنه لو ذكر الجنابة، لم يكن عليه أكثر من التيمم. قال المزني: ليس على المحدث عندي معرفة أي الأحداث كان منه، وإنما عليه أن يتطهر للحدث، ولو كان عليه معرفة أي الأحداث كان منه، كما عليه معرفة أي الصلوات عليه، لوجب لو توضأ من ريح، ثم علم أن حدثه بول، أو اغتسلت امرأة تنوي الحيض، وإنما كانت جنبًا أو من حيض، وإنما كانت نفساء، لم يجزيء أحدًا منهم، حتى يعلم الحدث الذي تطهر منه، ولا يقول بهذا أحد نعلمه، ولو كان الوضوء يحتاج إلى النية لما يتوضأ له، لما جاز لمن يتوضأ لقراءة مصحف أو لصلاة على جنازة، أو تطوع، أن يصلي به الفرض فلما صلى به الفرض، ولم يتوضأ للفرض أجزأه ألا ينوي لأي الفروض، [ولا لأي الأحداث توضأ،] ولا] الأحداث اغتسل. قال القاضي حسين: قال أصحابنا: العلة التي ذكرها المزني فاسدة؛ لأن هذه توجب أنه لو كان عليه فائتة قدرها ظهرًا فقضاها بنية الظهر، ثم بانت أنها كانت عصرًا، أن لا إعادة عليه، لأنه لو ذكرها لم يكن عليه إلا أن يصلي أربع ركعات، وإنما العلة فيه أن نية رفع الحدث والجنابة لا تشترط في التيمم بحال. وإذا لم تجب عليه ذلك لم يضره الغلط فيهما. قال أصحابنا: جملة ما يعذر فيه من الغلط في النية والتعيين، وما لا يعذر فيه ينقسم ثلاثة أقسام: قسم لا يشترط فيه النية، لا جملة ولا تفصيلا، أعني به التعيين، فإذا نوي وعين وأخطأ لم يضره، مثل مكان الصلاة وزمانها إذا نواها، مثل أن ينوي أنه

كان في مسجد كذا، فكان غير ذلك، أو يوم الخميس فكان غير ذلك، لم يضره ذلك. فإن قيل: هذا يشكل بأعداد ركعات الصلاة، لا يجب عليه تعيينها، ولو عين وأخطأ لا يجوز. قلنا: لأنه إذا نوي الظهر خمس ركعات، فلم يأت بالظهر فلا يجوز. وقسم يشترط أصل النية والتعيين، كالصلوات والصيامات، فالخطأ فيه يمنع الإجزاء. وقسم يشترط فيه أصل النية، دون التعيين، كالاقتداء بالإمام، أصل النية فيه شرط، وتعيين الإمام ليس بشرط، وأصل النية في جواز الجنازة شرط، وتعيين الميت ليس بشرط، وأصل نية الاعتكاف عن الكفارة في الكفارات شرط، وتعيين الكفارة ليس بشرط. وأصل النية في أداء الزكاة شرط، والتعيين ليس بشرط، فلو أنه عين في هذه المواضع، وأخطأ لم يجز حتى لو عين الميت، أو الإمام، أو كفارة الظهار، وتبين بخلافه لا يقع مجزئًا. فكذا لو كان له مال بـ (سرخس)، ومال بـ (نيسابور)، وكل واحد منهما نصابًا، فأخرج الزكاة عن المال الذي كان بـ (سرخس)، ثم تبين أنه كان تالفًا لا يقع عن المال القائم بـ (نيسابور).

ومسألتنا من قبيل قسم الأموال، فإن نية رفع الحدث والخبث ليس بشرط، بل عليه نية استباحة الصلاة فحسب. فإذا نوى استبحاة الصلاة، ولكن قدر نفسه جنبًا، فبان محدثًا، أو محدثًا فبان أنه جنب، لم يضره الخطأ، وما وقع فيه الخطأ لم يجب عليه ذلك. قال أصحابنا: ظاهر ما نقل المزني يوجب أن التيمم يرفع الحدث، ثم شيعه بما يقويه حيث قال: (ليس على المحدث معرفة أي الأحداث يتطهر له). والصحيح أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأنه لو كان يرفعه لما بطل برؤية الماء كالوضوء. ومن أصحابنا من قال: يرفع الحدث لصلاة واحدة دون غيرها، لأنه يجوز أداؤها به لا غير. فعلى هذا، لو نوى رفع الحديث به على قول من قال: يرفع الحدث يجوز، والصحيح أنه لا يرفع الحدث وينوي فيه استباحة الصلاة. قال القاضي: ويمكن أن يفرع هذا الأصل على فرع منصوص عليه، وهو أن التيمم بنية النفل، هل يصح أم لا؟ فيه قولان: إن قلنا: يصح وهو قوله الجديد، جعله كالوضوء، فيرفع الحدث كذاك. وإن قلنا: لا يصح، لم يجعله كالوضوء، فلا يرفع الحدث، وهذا أصل مستنبط من فرع، لا يتخرج إلا على هذا الأصل. فرع لو كان حدثه البول، فتوضأ بنية رفع حدث النوم، أو الغائط، أو أخطأ من الجنابة أو الحيض أو النفاس في الغسل، إن كان جاهلاً به، تصح طهارته.

وإن كان عالمًا به يصح أيضًا على الصحيح من المذهب. وفيه وجه آخر: أنه يصح، وسواء أخطأ من النوع إلى النوع، أو من الجنس إلى الجنس، لأن نية ذلك غير متعينة عليه. وقال مالك: رحمه الله: لا يجوز، سواء أخطأ من الجنس إلى الجنس، أو من النوع إلى النوع، وبه قال البويطي، والربيع بن سليمان المرادي. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن إن أخطأ من النوع إلى النوع جاز، وإن أخطأ من الجنس إلى الجنس لا يجوز. واحتج المزني على مخالف الشافعي بفصلين: أحدهما: يخص ربيعة، والثاني يعم الجميع. أما ما يلزم ربيعة وحده. قال: لو كان الخطأ من الجنس إلى الجنس يمنع الإجزاء، لكان الخطأ من النوع إلى النوع في معناه والذي يلزم الكل. قال: الطهارة لها طرفان: طرف يتطهر له وهو الصلاة، وما في معناها، وطرف يتطهر عنه، وهو الأحداث. ثم لو عين صلاة استباحها، وسماها في الوضوء، فلا يتعين ما نواها،

فكذلك إذا عين حدثًا بالرفع وجب أن ترفع جميع الأحداث، ولا يضره التعين. قوله: (وإذا وجد الجنب الماء بعد التيمم اغتسل، وإذا وجد الذي ليس بجنب توضأ). قال القاضي حسين: أراد به: أن التيمم لا يرفع الجنابة والحدث، بل يبيح الصلاة، ثم إذا وجد الماء يعود إلى ما كان عليه، فإن كان جنبًا اغتسل، وإن كان محدثًا توضأ، وما مضى لا إعادة عليه. قال المزني: وإذا وجد الجنب الماء بعد التيمم، اغتسل، وإذا وجده الذي ليس بجنب، توضأ، وإذا تيمم ففرغ من تيممه بعد طلب الماء، ثم رأي الماء، فعليه أن يعودإلى الماء، وإن دخل في الصلاة، ثم رأي الماء بعد دخوله، بني على صلاته وأجزأته الصلاة. قال المزني: وجود الماء عندي ينقض طهر التيمم في الصلاة وغيرها سواء، كما أن ما ينقض الطهر في الصلاة وغيرها سواء، ولو كان الذي منع نقض طهره الصلاة، لما ضره الحدث في الصلاة، وقد أجمعوا والشافعي [منهم] أن رجلين، لو توضأ أحدهما، وتيمم الآخر في سفر، لعدم الماء، أنهما طاهران، وأنهما قد أديا فرض الطهر، فإن أحدث المتوضي ووجد المتيمم الماء: أنهما في نقض الطهر قبل الصلاة سواء، فلم لا كانا في نقض الطهر بعد الدخول فيها سواء؟ وما الفرق، وقد قال فيه جماعة العلماء: إن عدة من لم تحض الشهور، فإن اعتدت بها إلا يومًا، ثم حاضت: أن الشهور تنتقض [بوجود] الحيض في بعض الطهر، فكذلك التيمم ينتقض، وإن كان في الصلاة وجود الماء، كما ينتقض طهر المتوضي، وإن كان في الصلاة إذا كان الحدث، وهذا عندي بقوله أولى. قال القاضي حسين: المتيمم إذا رأي الماء، فإن كان قبل الشروع في الصلاة يبطل تيممه، ويلزمه استعمال الماء عند عامة العلماء.

إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال له: أن يصلي بذلك التيمم. فإما إذا وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لم تلزمه إعادة الصلاة عند عامة العلماء. وقال طاوس اليماني: إن كان الوقت باقيًا تلزمه إعادة الصلاة بالتوضؤ بالماء. فأما إذا وجد الماء في خلال الصلاة، نص ها هنا على أنه يبني على صلاته، ونص في المستحاضة على أنه إذا انقطع دمها في خلال الصلاة لا يبني عليه من أصحابنا من قال: فيه قولان، نقلا وتخرجا، وهو ابن سريج. ومن أصحابنا من فرق بينهما بأن المستحاضة يتجدد لها الحدث، فأي حدث لم تتطهر له؟ فقلنا بأنها تعيد الطهارة، بخلاف المتيمم، فإنه لم يتجدد له حدث لم يتطهر له، فقلنا بأنه يمضي على صلاته. وحكي أبو بكر الفارسي في عيون المسائل في المستحاضة قولين: قال أصحابنا: النص ما ذكرنا عن الشافعي، وهو إنما أخرج القول الآخر من كيس نفسه إن قلنا في المستحاضة: لا تبني على صلاتها، فإذا اغتسلت وعادت، فهل تبني على الصلاة، أم تستأنف الصلاة؟ حكمها حكم من سبقه الحدث، وهو في الصلاة. في الجديد: يستأنف.

وفي القديم: لا يستأنف. وإذا قلنا: المتيمم يبني على صلاته، فهل يستحب له الخروج من الصلاة، وأداء تلك الصلاة بالوضوء؟ ذكر أصحابنا فيه وجهين. قال القاضي رضي الله عنه: عندي يكره له إبطال العبادة، والخروج عنها وجهًا واحدًا. ولكن الوجهان في أنه، هل يستحب له أن يقلب الصلاة نفلاً، ويسلم عن ركعتين أم لا؟ فيه وجهان مستنبطان من مسألة، وهي أن رجلا لو افتتح الصلاة منفردًا، ثم تقدم الامام للجماعة. قال في الجديد: يستحب له أن يقلب الفرض نفلا، ويسلم عن ركعتين، ويقتدي بالإمام في الصلاة الفرض، كذا ها هنا يستحب له ذلك. وفيه وجه آخر: أنه يستحب ها هنا. والفرق بين هذا، وبين تلك المسألة: أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الواحد وأنها أكثر ثوابًا منها. فقلنا: يستحب له الخروج عنه بنية النفل، والاقتداء بالإمام ليحوز فضيلة الجماعة، وها هنا الصلاة بالتيمم، كالصلاة بالوضوء في الفضيلة، فقلنا بأنه لا يستحب له الخروج عنه. وفرق آخر: وهو أن هناك لو صلى منفردًا، ثم أدرك الجماعة يستحب له إعادة تلك الصلاة بالجماعة، وها هنا لو صلى بالتيمم، ثم قدر على الماء لا يستحب له إعادة تلك الصلاة بالطهارة بالماء. وقال أبو حنيفة: المتيمم إذا راي الماء في خلال الصلاة تبطل صلاته، وهو اختيار المزني، واستدل بأن قال: رؤية الماء في الصلاة لو لم تبطل التيمم، لوجب ألا تبطله خارج الصلاة، وكذا في الصلاة مثله كالحدث، وقال: لو أن

رجلين توضأ أحدهما، وتيمم الآخر في سفر لعدم الماء أنهما طاهران، فإن أحدث المتوضيء، ووجد المتيمم أنهما في نقض الطهر قبل الصلاة سواء. فلم لا كانا في نقض الطهر بعد الدخول فيها سواء، وما الفرق؟ واستدل بالمعتدة بالأشهر، إذا حاضت قبل انقضاء الأشهر، أن الشهور تنتقض لوجود الحيض، كذا هذا مثله. قلنا: مجرد رؤية الماء لا يبطل التيمم خارج الصلاة، وإنما القدرة على استعماله تبطله. ألا ترى أنه لو كان يحتاج إلى ذلك الماء ليشربه، أو لدابته لا يلزمه استعماله، ويجعل عاجزًا عنه شرعًا، كالعاجز طبعًا، كذلك ها هنا. وأما مسألة العدة حجة عليكم، لكن هناك ما مضى لا يحكم ببطلانه، بل يحتسب ذلك عندنا قرءا واحدًا، كذا ها هنا، وجب ألا تبطل، ثم ليس وزان مسألتنا منه أن لو شرع في النكاح بعد انقضاء الأشهر، ثم رأت الدم، لأن المقصود من العدة النكاح، فلا جرم لا يلزمها شيء، وزانه في مسألتنا أن لو شرع في التيمم الذي هو بدل عن الوضوء، ثم رأي الماء لا جرم يبطل تيممه، ولا فرق عندنا بين المتنفل، والمفترض، إلا أن الشافعي قال: المتنفل إذا رأي الماء في خلال الصلاة، أحب أن يسلم من ركعتين. قال أصحابنا: صورة المسألة إذا كان قد أطلق النية أو قيدها بأربع ركعات. فأما إذا نوى ركعتين، لا يجوز له الزيادة عليها. قال الشيخ القفال: وإن قيد بركعتين يجوز له الزيادةن لأن رؤية الماء لا تبطل صلاته، ويجعل كما لو لم ير الماء.

فرع إذا فرغ من الصلاة التي رأي فيها الماء، هل يجوز له أن يتنفل بذلك التيمم؟ فإن كان موجودًا معه، أو تلف بعد خروجه عن الصلاة، أو في الصلاة، ولم يكن عالمًا به، لا يجوز له ذلك، وإن تلف في الصلاة، وكان عالمًا به يجوز له النافلة بذلك التيمم. وكذا لو رأي سرابًا ظنه ماء، أو رأي خضرة أو طيورًا يقعن ويجتمعن على موضع، أو رأي ركبانًا أو رجلا لابسًا لشيء يبطل تيممه، لتوهم وجود الماء، ولو رأي رجلا عريانًا لا يبطل تيممه. فأما إذا سمع أحدًا يقول: معي ماء يبطل تيممه، ولو سمع أحدًا يقول: أو دعني فلان ماء، لا يبطل تيممه. ولو قال: عندي ماء، أو دعنيه فلان. قال أصحابنا: يبطل تيممه. قال القاضي: عندي هذا بناء على أنه لو قال لفلان: على ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير، هل يلزمه الألف، أو هل يقطع آخر كلامه عن أوله، وفيه قولان: إن قلنا هناك: تلزمه الألف ها هنا يبطل أيضًا تيممه، والله أعلم بالصواب. قال المزني: ولا يجمع بالتيمم صلاتي فرض، بل يجدد لكل فريضة طلبًا للماء وتيمما بعد الطلب الأول، لقوله جل وعز (إذا قمتم إلى الصلاة)، وقول ابن عباس: لا تصلي المكتوبة إلا بتيمم، قال: ويصلي بعد الفريضة النوافل، وعلى الجنائز، ويقرأ في المصحف، ويسجد سجود القرآن. قال القاضي حسين: وهم أبو إسحاق المروزي من هذا، حيث قال: إنه لا يجوز للمتيمم الجمع بين الصلاتين، لأنه يحتاج إلى طلب الماء لكل صلاة،

فربما طال الفصل بينهما، فينقطع نظم الجمع، ولأنه إذا قدم العصر إلى الظهر، فيؤدي إلى التيمم قبل دخول وقت الفريضة، وهذا لا يجوز. قلنا: هذا لا يصح، لأن الطلب للماء في الصلاة الثانية أخف من طلبه في المرة الأولى، لأنه يكفيه أن يلتفت يمينا وشمالا، ويمشي عشر خطوات، وفي هذا لا يطول الفصل، لأنه من مصلحة الصلاة، فصار كالإمامة. واما الثاني يقول: إذا قدم العصر إلى الظهر، فوقت الظهر صار وقتا لها ها هنا، فالتيمم إنما يكون بعد دخول وقت الفريضة، إذا تم ما عذرك، فيما لو أخر الظهر إلى وقت العصر، فإنه لا يؤدي إلى ذلك، ومع هذا عندك لا يجوز. دل أن كلام الشافعي، رضي الله عنه محمول على أنه لا يجوز الجمع بين الفريضتين بتيمم واحد، أراد به ردًا على أبي حنيفة، حيث قال: له أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل، كالوضوء سواء، ولا يبطل التيمم بخروج الوقت، ودخوله. وقال في طهر المستحاضة: إنه يبطل بخروج الوقت، ولا يبطل بدخوله حتى

لو تطهرت قبل الزوال، ثم دخل وقت الظهر لا تبطل طهارتها، ولو تطهرت بعد الزوال، ثم خرج وقت الظهر تبطل طهارتها، فنقيس عليه، فنقول طهارة ضرورية، فلا يجمع بين صلاتي فرض. دليله طهر المستحاضة، فأما إذا تيمم لصلاة فريضة، وأدى بها الفريضة، هل يجوز له أن يصلي به صلاة الجنازة. نص ها هنا على أنه يجوز، ونص في موضع آخر: لا يجوز صلاة الجنازة راكبًا. وقضية أحد النصين تخالف قضية الآخر من أصحابنا من جعل فيه قولين نقلا وتخريجًا: أحدهما: يجوز راكبًا، وبالتيمم الذي أدى به الفرض مرة. ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين، حيث قال: لا يجوز راكبًا، أراد به إذا كان متعينًا لتلك الصلاة، ولم يكن هناك غيره، وحيث قال: يجوز ما أدى الفريضة بتيمم واحد، أراد به إذا كان معه جماعة لا يتعين عليه. ومن أصحابنا من فرق بين النصين، بأن هناك إنما لا يجوز راكبًا لأنه يؤدي إلى الإخلال بما هو الركن فيها، وهو القيام، وهذا غير موجود ها هنا. فأما إذا تيمم لفريضة، لا خلاف أنه يجوز أن يؤدي به صلاة الجنازة، فأما إذا أدي به صلاة الجنازة، فهل يؤدي به الصلاة الفريضة أم لا؟ ينبني على ما قبله. إن قلنا: يجوز أداء صلاة الجنازة بعد ما أدي الفرض بيمم واحد، فها هنا يجوز، وإلا فلا. فأما إذا تيمم لصلاة الجنازة، وأدي به صلاة الجنازة، فهل يجوز له أن يؤدي

به صلاة الفرض؟ فعلى ما ذكرنا وإن لم يؤد به صلاة الجنازة، فهل يجوز أن يؤدي به الفريضة؟ فعلى ما ذكرنا أيضًا، إن جعلناها كفرائض الأعيان، وإلا فعلى الجديد تجوز، وعلى القول القديم لا يجوز كما في النفل. فأما إذا تيمم لفريضة، وأدي به الفريضة، هل يجوز له أن يؤدي به المنذورة؟ هذا ينبني على أن النذر، هل يحمل على أقل إيجاب الله تعالى أو على أقل ما يتقرب إليه من جنسه شرعًا؟ وفيه قولان: إن قلنا: يحمل على أقل إيجاب الله تعالى فها هنا لا يجوز، وإن قلنا بالقول الثاني: فجاز. وإن لم يرد به الفريضة، لا خلاف أنه يجوز به المنذور في ظاهر المذهب. فأما إذا تيمم لصلاة المنذورة، ثم صلى المنذورة أو لم يصل، هل يجوز أن يصلي بذلك التيمم صلاة الفرض أم لا؟ فيه جوابان بناء على ما ذكرنا من الأصل، وفيه قولان. فأما إذا تيمم لصلاة الفرض.

وإن أدى به الفرض لا يجوز أن يطوف به طواف الفرض، وكذا إن تيمم لطواف الفرض يجوز أن يؤدي به صلاة الفرض. وإذا صلى لا يجوز له الطواف بذلك التيمم، فأما إذا طاف أولا لا يجوز أن يصلي به الفرض. وهل يجوز أن يصلي به ركعتين الطواف أم لا؟ فيه قولان بناء على أن ركعتي الطواف، هل هما نفل أو فرض؟ إن قلنا: نفل جاز، وإن قلنا: فرض لا يجوز على الصحيح من المذهب. وفيه وجه آخر: إنه يجوز، لأنه تبع للطواف، بخلاف سائر الفرائض. قال المزني: وإن تيمم بزرنيخ، أو نورة، او ذراوة ونحوه، لم يجزه. قال القاضي حسين: والذراوة، دقاق القصب، وعندنا لا يجوز التيمم بهذه الأشياء. وقال أبو حنيفة: النورة والزرنيخ، إن كانا مطبوخين لا يجوز، وإلا فجاز. وحكى أن أنسًا أتهم بسرقة الذريرة والشحم، فقال: إن كان صادقًا، فيغفر الله لي، وإن كان كاذبًا، فيغفر الله له. وأراد به: أنه لما غسل النبي صلى الله عليه وسلم بقي شيء [من] الذريرة من الحنوط، فأخذه أنس تبركًا به. وقيل: إنه اشترى لحمًا من القصاب، فوضعه على الوضم، فالتصق به قليل من شحم، ولا يعلم ذلك فاتهم بهما لأجله.

فرع قال ابن الحداد: لو نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة، يلزمه أن يصلي خمس صلوات بتيمم واحد، لأن الفرض عليه واحد لا بعينها. وقال صاحب التلخيص: يصلي خمس صلوات بخمس تيممات؛ لأنه ما من صلاة يشرع فيها إلا وهو يعتقد أنها الفرض عليه، حتى لو لم يعتقد ذلك، لا يخرج عن الفرض باليقين. فأما إذا نسى صلاتين من صلوات يوم وليلة. فعلى قول صاحب (التلخيص): يصلي خمس صلوات بخمس تيممات. وعلى قول ابن الحداد: يصلي ثماني صلوات بتيممين، فيصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب بتيمم، ثم يتيمم ثانيًا، ويصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكذا لو نكس ذلك بأن يصلي المغرب والعصر والظهر والصبح بتيمم واحد، ثم يتيمم، ويصلي العصر والظهر والصبح والعشاء جاز. وينبغي أن تكون المتروكة في الثانية هي التي ابتدأ بها في المرة الأولى. فأما إذا تيمم، وصلى أولا المغرب والعشاء والصبح والظهر، ثم يتيمم،

ويصلي العصر، والظهر والعصر جاز أيضًا، لأن المتروكة في الثانية المغرب، وهي المبتدأة في المرة الأولى. فأما إذا عكس بان صلى المغرب والعشاء والصبح والظهر بتيمم واحد، ثم تيمم وصلي العصر والمغرب والعشاء والصبح لا يجوز، ولم يخرج عنها بذلك لجواز أن يكون الفائتتان الصبح والظهر، وقد أدى الصبح في المرة الأولى، ولم توجد الظهر في المرة الثانية، فبقيت عليه. فأما إذا نسي ثلاث صلوات من صلوات يوم وليلة، فعلى طريقة صاحب التلخيص: الخطب سهل، فيصلي خمس صلوات بخمس تيممات وعلى طريقة ابن الحداد: يصلي تسع صلوات بثلاث تيممات، يصلي الصبح والظهر والعصر بتيمم، ويصلي الظهر والعصر والمغرب بتيمم آخر، ويصلي العصر والمغرب والعشاء بتيمم آخر. فأما إذا نسي أربع صلوات من صلوات يوم وليلة، فعلى طريقة صاحب التلخيص: يصلي خمس صلوات بخمس تيممات. وعلى طريقة ابن الحداد: يصلي ثماني صلوات بأربع تيممات، يصلي الصبح والظهر بتيمم، والظهر والعصر بتيمم آخر، والعصر والمغرب بتيمم آخر، والمغرب والعشاء بتيمم آخر. فأما إذا نسي صلاتين من صلوات يومين وليلتين. فأن علم أنهما كانا مختلفين، فحكمه حكم ما إذا نسي صلاتين من صلوات يوم وليلة. وإذا علم أنهما كانتا متفقتين، أو لم يعلم أنهما كانتا متفقتين أو مختلفتين، فعلى طريقة صاحب التلخيص: يصلي عشر صلوات بعشر تيممات. وعلى طريقة ابن الحداد: يصلي عشر صلوات بتيممين.

وقال القفال: يصلي عشر صلوات بخمس تيممات، يصلي الصبح والظهر بتيمم، والظهر والعصر بتيمم آخر، هكذا إلى تمام العشر. فرع. إذا أراد أن يتمم لنافلة لا سبب لها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. هل يجوز أم لا؟ هذا ينبني على أنه لو صلي في هذه الأوقات صلاة لا سبب لها. هل يصح أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح لورود النهي عنها. والثاني: يصح، والنهي محمول على التنزيه إن قلنا: تصح الصلاة في هذه الأوقات، فيصح تيممه لها. وإن قلنا: لا تصح، فلا يصح لها. فأما إذا تيمم قبل ذلك، ثم دخل عليه الوقت الذي تكره فيه الصلاة، لا خلاف أنه لا يبطل تيممه. فرع إذا تيمم لفريضة، وصلي الفريضة منفردًا، ثم أدرك الجماعة، وأراد أن يصلي بالجماعة. ثانيًا: هل يحتاج إلى التيمم أم لا؟ إن قلنا: إن الفريضة منها الأولى، فلا يتيمم للثانية على ظاهر المذهب.

وإن قلنا: إن كل واحد منهما فرض، فيتيمم للثانية. وإن قلنا: إن الفرض منهما، أحدهما لا بعينه، إلا أنه يحتسب الله، تعالى بالأكمل والأفضل. حكمه حكم ما لو نسي صلاة من صلاتين، وأراد أن يعيدهما بالتيمم، وقد ذكرناه. فرع: إذا أراد أن يتيمم لصلاة الجنازة، عليه أن يتيمم لها بعد الفراغ عن غسل الميت، وإن كان قبل التكفين، لا يجوز الصلاة عليه بعد الغسل وقبل التكفين. ولو تيمم قبله لا يجوز، والمستحب أن يتيمم بعد أن يكفن الميت، لأن الصلاة عليه قبل التكفين يكون مكروهًا، وإن كان جائزًا. فرع: إذا تيمم ثم ارتد - والعياذ بالله بطل تيممه، ولو توضأ، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، هل يبطل وضوؤه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يبطل ذلك كالتيمم. والثاني: لا، والفرق أن التيمم ضعيف، فإنه يبطل بوجود ما يمنعه من استباحة الصلاة، بدون الحدث من رؤية السراب والركب، ووقوع الطير وغيره،

فجاز أن تبطل بالارتداد، لأنه يمنع من استباحة الصلاة، بدون الحدث، أما الوضوء طهارة قوية، فلا يبطل بوجود ما يمنعه من استباحة الصلاة من غير الحدث، وكذا لا يبطل بالارتداد، والله أعلم بالصواب.

باب جامع التيمم والعذر فيه وغيره

باب جامع التيمم والعذر فيه وغيره. قال الشافعي رحمه الله: وليس للمسافر أن يتمم إلا بعد دخول وقت الصلاة وإعواز الماء بعد طلبه. قال القاضي حسين: أباح الله تعالى في كتابه التيمم في حالين، السفر، والمرض، لقوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر) إلى قوله: (فيمموا صعيدًا طيبًا). والمعنى المبيح في الحقيقة للتيمم واحد، وهو العجز عن استعمال الماء غير أن العجز تارة يكون لعدمه، وتارة مع وجود، إما لمرض أو لحاجته إليه، لسقيه او لسقي دابته. وقوله تعالى: (فلم تجدودا ماء). يعني: فلم تقدروا على استعمال الماء فتيمموا إذا ثبت هذا القول، لا يجوز التيمم إلا بعد دخول الوقت. وعند أبي حنيفة: يجوز قبل دخول الوقت كالوضوء. دليلنا أن نقول: إن التيمم أبيح للضرورة، فوجب أن يباح عند نهاية الضرورة، كأكل الميتة، ونهاية الضرورة بعد افتراض الفعل عليه، وذلك إنما يكون بعد دخول الوقت. أو نقول: طهارة ضرورة، فإذا وجدت قبل دخول الوقت، لا يجوز أداء فرض الوقت به. دليله المستحاضة إذا توضأت قبل دخول الوقت العصر، ثم دخل وقت العصر، لا يجوز لها أداء العصر به.

فأما إذا طلب الماء، فلم يجده واجب عليه أن يتيمم لعذر السفر لا لعذر المرض، وإنما يجب عليه الطلب بعد دخول الوقت، حتى لو طلب قبل دخول الوقت، بحيث إنه لما فرغ عن الطلب دخل الوقت، لا يجوز. كما لو أذن لغير الصبح قبل دخول الوقت، فلما فرغ عن الأذان دخل الوقت لا يجوز. وإنما قلنا: لا يجوز الطلب قبل دخول الوقت، لأنه إنما وجب لأجل المطلوب، وذاك يجب بعد دخول الوقت، فلما كان المقصود يجب بعد دخول الوقت، فكذا التبع مثله، وكيفية الطلب: أن يطلب الماء أولا في رحله، ثم من رفقائه، وإذا راى خضرة أو طيورًا يجتمعن في موضع، فيسأل هناك، ولو كان على صعود ينحدر إلى الهبوط، ولو كان في هبوط يرقي إلى الصعود، وإن كان في قاع من الأرض يمشي قدر غلوة سهم من الجوانب الأربع، فإن أعوذ الماء حينئذ يتيمم. فأما إذا أمر عبده، أو واحدًا من رفقائه يطلب الماء لأجله، يجوز ذلك، بخلاف ما لو أمر غيره ليجتهد له في القبلة. والفرق بينهما: أن أمر القبلة خفي غير معاين، فربما يخفي على أحد، ولا يخفي على غيره؛ لأن مبناه على الاجتهاد، فلا يقوم اجتهاد غيره مقام اجتهاده فيه. وأما رؤية الماء شيء مشاهد معاين يستوي فيه الكل، إذ ليس مبناه على الاجتهاد فجاز أن يقوم غيره فيه مقامه. فإذا طلب واحد الماء بغير أمره، لا يسقط بذلك فرضية الطلب عنه، لأنه لم يوجد من جهته، لا الطلب، ولا الأمر بالطلب والقصد به. قال المزني: وللمسافر أن يتيمم أقل ما يقع عليه اسم سفر، طال أو قصر؛ واحتج في ذلك بظاهر القرآن، وبأثر ابن عمر.

قال القاضي حسين: الرخص المتعلقة بالسفر ثمانية: أربعة لا تجوز إلا في السفر الطويل، وهي: القصر، والمسح ثلاثًا، والإفطار، والجمع على أحد القولين. وأربعة يجوز فيهما، وهي: ترك الجمعة، وأكل الميتة، والتيمم، والصلاة على الراحلة. وفيه قول آخر: إنه لا يجوز إلا في الطويل. قال المزني: ولا يتيمم مريض في شتاء، ولا صيف إلا من به قرح له غور، أو به ضني من مرض يخاف أن يمسه الماء أن يكون منه التلف أو يكون منه المرض المخوف، لا لشين، ولا لإبطاء برء. قال: في القديم: يتيمم، إذا خاف، [إن مسه الماء، شدة المرض]. قال القاضي حسين: المريض إذا كان به مرض، مثل وجع الضرس، أو العين، أو الصداع، او حمي خفيفة لا يتضرر باستعمال الماء لا يباح له التيمم. وقال أهل الظاهر: يجوز له ذلك، واستدلوا بظاهر القرآن.

والدليل عليه ما روي عن جابر أنه قال: كنا جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، فأصابت أحدنا شجة في رأسه، واحتلم في تلك الليلة، فقال للقوم: هل تجدون لي رخصة؟، فقالوا: لا.

فاغتسل، فدخل الماء شجته، فمات منه فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله، فهلا سألوا إذ لم يعلموا، فإن سفاء العي السؤال؟ يكفيه ان يعصب عليه عصابة ويمسح عليها، ثم يغسل ما قدر عليه، ويتيمم للباقي. وروى عن عمرو بن العاص أنه قال: ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذا السلاسل، فاحتلمت، وكانت ليلة باردة، فتيممت وصليت بالقوم، ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم بعده فقال: صليت بالناس وأنت جنب. فقلت: سمعت الله تعالى يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر دليل من ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه يجوز التيمم للجنابة، كما جاز من الحدث. والثاني: على أنه يجوز للمتوضيء الاقتداء للمتيمم، خلافًا لمحمد بن الحسن والثالث: على أنه إذا لم يخف الهلكة، والتلف على نفسه لا يجوز له التيمم. فأما إذا خاف التلف على نفسه، أو على عضو من أعضائه أو الزيادة في العلة إن استعمل الماء، فإنه يباح له التيمم. هذا إذا أخبره به طبيب، حاذق في صناعته، مسلم عدل فأما إذا أخبره طبيب حاذق كافر، لا يجوز له التيمم لقوله: لأن ما كان من أمر الديانة لا يعتمد فيه على قول الكافر؛ لأنه متهم فيه. ولو كان فاسقا مسلماً، فيه وجهان:

أحدهما: يعتمد على قوله، لأنه لا تهمة في حقه فيما يرجع إلى العبادة. والثاني: لا؛ لأنه لا يقبل قوله في الشهادات ونحوها. وكذا في المرأة والعبد وجهان. وفي الصبي المراهق وجه واحد: أنه لا يعتمد على قوله؛ إذ لا قول له، فأما إذا خاف شدة الضنى. قال في القديم: يتيمم إذا خاف من شدة الضنى. وفي الجديد: لا يباح له التيمم، فحصل فيه قولان: أحدهما: لا يجوز، لأنه أبيح للضرورة فيعتبر فيه نهاية الضرورة، وهو خوف التلف. والثاني: يجوز لأن شدة الضنى تقضي على خوف التلف إذا كثر، وهذا كالقولين في وقت جواز أكل الميتة، وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز إذا خاف على نفسه الهلاك لو لم يأكل.

والثاني: يجوز إذا اشتد به الجوع، وقل صبره. ومنهم من قال: يتيمم قولا واحدًا، لما ذكرنا من المعنى، وما قاله في الجديد محمول على ما إذا كان لا يفضي إلى إبطاء البرء، وكان المرض يسيرًا. وأما إذا خاف من استعماله الماء الشين، فلا يباح له التيمم بذلك. وإن خاف إبطاء البرء، نص ها هنا على أنه لا يجوز له التيمم لأجله، وجمع بينه وبين الشين. وفيه وجه آخر: أنه يباح له التيمم، لأن ذلك يفضي إلى شدة الضنى، ويؤدي إلى التلف في الآخرة، وفي كل موضع أبحنا له التيمم. فإذا صلى به لا يعيد، لأن المرض عذر عام، كعدم الماء في السفر، فأما إذا كان به جراحة يمكنه غسل ما حواليها، ولو وجد من يعينه على ذلك، فتيمم، وصلي أعاد الصلاة، لأنه عذر نادر. وكذلك المريض الذي يقدر على استعمال الماء لو وجد من يقربه منه، ويعينه عليه، فصلي بالتيمم لعدم المعين، أعاد لأنه عذر نادر. وكذا لو جاء رجل، وحول وجهة المصلي عن القبلة، تلزمه الإعادة، لأن النوادر من الأعذار لا تسقط الإعادة، بخلاف الأعذار العامة. فأما المسافر إذا لم يجد الماء والتراب، هل يصلي أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصلي، وهو قول القديم، ومذهب أبي حنيفة. والثاني: وهو قوله الجديد يصلي لحرمة الوقت، ويعيد لأنه نادر، ويكون ذلك تشبيهًا بالمصلين. ثم لو كان جنبًا لا يجوز له أن يقرأ سورة الفاتحة. وهل يجوز له قراءة غير الفاتحة أم لا؟

الصحيح أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن القراءة مما تسقط بالأعذار إذا كان أميًا ونحوه. فجاز أن يسقط أيضًا بعذر الجنابة. وفيه وجه آخر، أنه يقرؤها. فأما إذا تكلم في تلك الصلاة عامدًا، أو أحدث فيها عامدًا تبطل صلاته. ولو رأى الماء في خلالها هل تبطل تلك الصلة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل كسائر الصلوات. والثاني تبطل: لأن هذه ليست بصلاة على الحقيقة، بل يكون تشبيها بالصلاة، وهكذا حكم المقيم إذا لم يجد الماء في الحضر على ما ذكرنا. فأما المسافر إذا وجد الماء، وخاف التلف إن اغتسل من شدة البرد. إن وجد آلة تسخين الماء، فعليه أن يسخن الماء، ولا يتيمم، وكذلك إذا كان معه ثوب أمكنه أن يغسل اعضاءه قليلا قليلا، ويجففه به ودفئها، فعليه أن يفعل ذلك ولا يتيمم. فإن لم يجد شيئًا مما ذكرنا يتيمم، ويصلي. ثم إن كان ذلك في الحضر يعيد الصلاة، وإن كان في السفر، فيه جوابان: أحدهما: بلى، لأنه عذر نادر في الحضر والسفر، بخلاف عدم الماء في السفر. والثاني: لا تلزمه الإعادة؛ لأن مثل ذلك لا يندر في السفر بخلاف الحضر. قال المزني: قال، وإن كان في بعض جسده، دون بعض، غسل ما لا ضرر عليه ويتيمم، لا يجزئه أحدهما دون الآخر. قال القاضي حسين: إذا كان بعض اعضاء طهارته صحيحا، وبعضها جريحًا

قال ها هنا: يغسل الصحيح، ويتيمم للجريح على الوجه واليدين، وخرج فيه قول آخر: أنه يقتصر فيه على التيمم ما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء طهارته في قول يتيمم، ويترك الماء، والصحيح هو الأول. والفرق بينهما: أن في تلك المسألة القصور في الالة، فجعل كالعدم، كما إذا وجد بعض الرقبه في باب الكفارات، يجعل كعدم الكل في جواز الانتقال إلى الصيام، وها هنا القصور في المحل، فصار كما لو كان فقد بعض الأعضاء، فإنه يغسل الباقي لا محالة، كذا هذا، ولا فرق بين ان يكون الأكثر صحيحًا، أو جريحًا. وقال أبو حنيفة: إن كان الأقل صحيحا يقتصر على التيمم، وإن كان الأكثر صحيحا يقتصر على الماء، ولا يجمع بينهما أصلا. فنقول: استعمال الماء في بعض أماكنه لا يسقط فرض ممكنه قياسًا على فقد الأعضاء، وإذا ثبت الجمع بينهما، فالمذهب أنه بالخيار في البداية، إن شاء بدأ بالغسل، وإن شاء بدأ بالتيمم. وفيه وجخ آخر، أنه يبدأ بالغسل خرج مما إذا وجد من الماء بقدر ما لا يكفيه لأعضاء طهارته. وقلنا: يلزمه استعمال الماء أولا، وكذلك ها هنا، والأصح هو الفرق، وهو أن المبيح للتيمم هناك عدم الماء، مما لم يغن الموجود لا يتحقق العدم، وها هنا المبيح للتيمم الجراحة وهي في الحالين سواء، فعلى هذا لو كان جنبًا، وعليه جراحة فعلى الصحيح من المذهب أنه يتخير بين أن يغسل ما قدر عليه أولا، ثم يتيمم للباقي، وبين أن يتيمم أولا ثم يغسل، لأنه لا ترتيب في الاغتسال. فأما المحدث إذا كان على بعض أعضاء طهارته جراحة إن قلنا، بأنه لا يشترط الترتيب فيه، يتوضأ أولا ثم يتيمم. وإن قلنا: بأنه يعتبر الترتيب، فإن كانت الجراحة على الوجه يتخير على المذهب الصحيح بين أن يغسل الوجه، ثم يتيمم، وبين أن يتيمم، ثم يغسل

الوجه، ولكن ما لم يفرغ عن غسل الوجه والتيمم، لا يجوز له غسل اليدين، وكذا لو كانت الجراحة على اليدين، فإنه يغسل الوجه أولا، ثم يتخير في اليدين بين أن يغسلهما أولا، ثم يتيمم، وبين أن يتيمم أولا، ثم يغسل اليدين، فإذا فرغ عنهما يمسح برأسه، وإن كانت الجراحة على رأسه، وقل ما تتصور جراحة تعم جميع رأسه، فإن تصور، يغسل الوجه واليدين، ثم يتيمم، ثم يغسل الرجلين، وإن كان على الرجلين يغسل الوجه، واليدين، ويمسح برأسه، ثم يتخير في الرجلين بين البداية بغسلهما، وبالتيمم كما ذكرنا. وأما إذا كان على وجهه، وعلى يديه ورجليه جراحات، فعلى قول من يقول: الترتيب ليس بشرط فيه، وإنما يشترط في طهر واحد دون طهرين. ها هنا يتوضأ، ويكفيه تيمم واحد بعد الفراغ عن الوضوء. وعلى القول الذي يقول: يعتبر الترتيب فيه، ففي الترتيب فيه وجهان. والصحيح على هذا الوجه: أنه لا يجب الترتيب، واختيار القفال الجريان على ترتيب فرض كل عضو، يغسل الوجه ثم يتيمم، ثم اليدين، ثم يتيمم ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه ثم يتيمم. فأما إذا دخل وقت فريضة أخرى، فعليه أن يتيمم ثانيًا، لأنه لا يمكن أن يؤدي إلا فرضًا واحدًا، ويغسل ما بعده من الأعضاء الصحيحة على المذهب الذي يوجب الترتيب، فإن كانت الجراحة على الوجه لا يغسل الوجه واليدين. لكن يتيمم، ويتم الطهارة بالغسل. ولو كان على الرجلين يتيمم فحسب. وعلى القول الذي نقول: لا يراعي فيه الترتيب، لا يلزمه إلا التيمم فحسب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه غسل ما قبل العضو الذي عليه الجراحة، وما بعده أيضا مخرج من تفريق الوضوء، وفيه قولان.

وهذا لا يصح، لأن هذا تفريق بعذر، وذاك عفو بلا خلاف. فأما إذا اندملت الجراحة غسل مكان الجرح، وما بعده، لمراعاة الترتيب على المذهب الصحيح. وهل يلزمه غسل ما قبله. على ما ذكرنا، منهم من جعل فيه قولين من تفريق الوضوء، والصحيح ما ذكرنا، ولو كان جنبًا يغسل مكان الجرح فحسب، إلا على قول من قال في المحدث: يغسل ما قبله من قول تفريق الوضوء. وها هنا: نقول يغسل جميع البدن، والصحيح هو الأول. فأما إذا ظن الاندمال بأن توهم الاندال، فنزع الخرقة عنه، فإذا هي بحالها لم يلزمه تجديد التوهم بخلاف ما إذا توهم وجود الماء، وطلب فلم يجده حيث يلزمه تجديد التيمم، لأن طلب البرء غير واجب عليه. إذ الأصل بقاؤه، وفي الماء الطلب الواجب عليه، إذ الأصل وجوده، والله أعلم بالصواب. قال المزني: وإن كان على قرحخ دم، يخاف إن غسله تيمم، وأعاد إذا قدر على غسل الدم. قال القاضي حسين: يعني يغسل النجاسة، ويعيد الصلاة، لأن التيمم لا يرفع النجاسة، سواء كانت القروح على أعضاء الطهارة، او على غيرها. وقال أبو حنيفة والمزني، لا إعادة عليه. قال المزني: وإن كان في المصر في حش أو موضع نجس، أو مربوطًا على خشبة، صلى يوميء ويعيد، إذا قدر. قال القاضي حسين، المحبوس في الحش لا يسعه ترك الصلاة؛ لعدم طهارة المكان، بل عليه أن يصلي على حسب حاله، على حسب ما نذكر في كتاب الصلاة إن شاء الله.

وتلزمه الإعادة عندنا. وقال أبو حنيفة والمزني: لا تلزمه الإعادة. وكذلك المربوط على الخشب يصلي بالإيماء، ويعيد خلافًا لهما. قال المزني: ولو ألصق على موضع التيمم لصوقًا، نزع اللصوق وأعاد. قال القاضي حسين: إذا كان عليه جراحة يمكنه غسله في الطهارة، فإنه يرفع اللصوق، ويغسل ما تحته. وقوله: (وأعاد): هذا تعليم، ولا يجب عليه ذلك. ومنهم من قال: أراد به إذا لم يمكنه إيصال الماء إليه، وعليه نجاسة، فإذا اندمل ينزع اللصوق، ويغسل ذلك الموضع واعاد، يعني: الصلوات. قد ذكرنا أنه إذا كان محبوسًا في حش، أو مربوطًا على خشبة أنه يصلي على حسب ما أمكنه، وأعاد خلافًا للمزني. ونص في موضع آخر على أنه لو غرقت السفينة، ووقع إنسان على لوح منها، وصلى أياما لا يقضى الصلاة التي يصليها نحو القبلة، ويقضي التي يصليها غير مستقبل القبلة. من أصحابنا من جعل في المسائل كلها قولين نقلا وتخريجًا. احدهما: تلزمه الإعادة في الكل، لأن هذه أعذار نادرة، فلا تسقط الإعادة، والثاني: لا يلزمه في الكل، كما قال المزني. فإذا قلنا: يقضي ففرضه من الصلاتين ماذا؟ من أصحابنا من قال: الثانية فرضه، لأن الأولى ليست بصلاة ذات ركوع وسجود وقيام وقراءة، بل تشبهًا بالمصلين.

وقال الشيخ القفال: بل فرضه الثانية، والأولى أيضًا، لأنه وجد منه أداء بعض الأركان في الأولى، فترك البعض، والقياس أن يلزمه قضاء ما ترك من الأركان، إلا أنه لا يمكنه قضاؤها على الانفراد، فيلزمه قضاء صلاة كاملة، لأن الصلاة الواحدة لا تتجزأ، وما لا يتجزأ فيجعله بعضه كلا. وفائدته إن قلنا: إن فرضه الثانية يجوز له أن يصليها بالتيمم الأول على ظاهر المذهب. وإن قلنا: كل واحد منهما يكون فرضًا، فيحتاج إلى تيممين. قال المزني: ولا يعدو بالجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلا على وضوء، كالخفين، فإن خاف الكسير غير متوضيء التلف، إذا ألقيت الجبائر، ففيها قولان: أحدهما: يمسح عليها ويعيد ما صلى، إذا قدر على الوضوء. والقول الآخر: لا يعيد، وإن صح حديث علي رضي الله عنه، أنه انكسر أحد زنديه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر قلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. قال المزني: أولى قوليه بالحق عندي أن يجزئه، ولا يعيد، وكذلك كل ما عجز عنه المصلي، وفيما رخص له في تركه، من طهر ولا غيره، وقد أجمعت العلماء والشافعي معهم: ألا تعيد المستحاضة والحدث في صلاتها دائم، والنجس قائم ولا المريض الواجد للما، ولا الذي معه الماء يخاف العطش، إذا صليا بالتيمم، ولا العريان، ولا المسابف يصلي إلى غير القبلة يومي إيماء فقضى ذلك من إجماعهم على طرح ما عجز عنه المصلي، ورفع الإعادة وبالله التوفيق. وقد قال الشافعي رحمه الله، من كا معه ماء يوضئه في سفره، وخاف العطش، [فهو] كمن لم يجد. قال المزني: وكذلك من على قروحه دم، يخاف إن غسلها، كمن ليس به نجس.

قال [الشافعي]: ولا يتيمم صحيح في مصر لمكتوبة، ولا لجنازة، ولو جاز ما قال غيري، يتيمم [للجنازة]، لخوف الفوت، لزمه ذلك، لفوت الجمعة والمكتوبة، فإذا لم يجز عنده، لفوت الأوكد، كان من أن [يجوز] فيما دونه أبعد، وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يصلي على جنازة إلا متوضئًا. قال القاضي حسين: الجبائر جمع جبيرة، وهي اسم للخشبة التي توضع على الكسر، وتترك عليه حتى يندمل. ثم المزني أخل بالنقل، لأن ما نقله توهم ألا يضع الجبائر على ما حواليه من الصحيح، وليس كذلك، بل له أن يدخل شيئًا من الصحيح فيها، لأنه إذا وضع بحيث لا يجاوز الكسر شيئًا لا يلتئم. والشافعي قال: في موضع الكسر وحوله. والمزني حذف قوله: وحوله، وينبغي ان يضعه على الطهارة، لأنه ساتر، يريد المسح عليه كالخفين. ويجب المسح على الجبائر، وهل تستوعب الجبيرة بالمسح أم لا؟ فيه جوابان: أحدهما: لا لأنه مسح بالماء فصار كالمسح على الخفين. والثاني: يلزمه، لأنه بدل في محل مغسول، فأشبه التيمم، وليس كالمسح على الخفين، لأن المسح على الجبيرة لا يتقدر بزمان دون زمان، ولا يختلف بالسفر والحضر، بخلاف المسح على الخفين، وهل يلزمه التيمم بعد أن مسح على الجبيرة أم لا؟ ظاهر النص أنه يقتصر على مسح الجبيرة، ونص في الكبير على وجوب التيمم. منهم من جعل ذلك على قولين: أحدهما: لا يجب، لأنا أوجبنا عليه المسح بدلا عن المحل المغسول، ولا توجب عليه بدلا آخر.

والثاني: يجب عليه، كما إذا كان بعض أعضاءه صحيحًا، وبعضه جريحًا، وفي الخبر ما يدل عليه أيضًا، لأنه قال في تلك القصة المعروفة: كان يكفيه أن يعصب على رأسه عصابة ويمسح عليها ثم يغسل ما قدر عليه، وتيمم للباقي. ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين: حيث قال: (يتيمم)، أراد به: أنه إذا كان بصفة لو رفع الجبيرة، لا يمكنه استعمال الماء، فصار كمن كان بعض أعضاءه صحيحًا، وبعضه جريحًا، وحيث قال: لا يتيمم، أراد به: إذا كان بصفة لو رفع الجبيرة يمكن غسل ما تحته، وإذا أوجبنا التيمم فيتيمم لكل فريضة، ويغسل ما بعده من الأعضاء، مراعاة للترتيب وما قبله لا يجب عليه في ظاهر المذهب على ما ذكرنا. فأما إذا اندمل، ونزع الجبيرة، يغسل ذلك المحل، ثم لو كان جنبًا لا يجب عليه غسل شيء بعده، على ظاهر المذهب، وإن كان محدثًا يغسل ما بعده من الاعضاء مراعاة للترتيب. وهل يغسل ما قبله؟ فعلى ما ذكرنا. وهل يلزمه إعادة الصلوات التي صلاها بالمسح على الجبيرة؟ ينظر: فإن وضعها، وهو على الطهارة في القديم يلزمه. وفي الحديد: قولان. وإن وضعها على غير الطهارة في الجديد يلزمه. وفي القديم قولان. فإما إذا اندملت الجبرة وهو لا يشعر بذلك حتى صلى عليه صلوات، تلزمه الإعادة، لأنه نادر، وقد وجد التفريط منه.

وهكذا إذا أوتي انفه أو خدش صدره، فألصق به قشر الباقلاء. أو غيره، حكمه حكم الجبيرة. قال الشافعي: إن صح حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسح على الجبيرة ولم يأمره بالإعادة قلت به، وإنما توقف فيه، لأن في إسناده خللا وهو مرسل وعنده المرسل ليس بحجة. واختيار المزني في الصلاة ألا يعيدها، ولا يختص ذلك به عنده، بل كلما تركه المصلي، من أركان الصالة وشرائطها للعجز لا يعيد الصلاة لأجله، وكذا لو كان على قرحه دم يخاف التلف من غسله، والمحبوس في الحش، والمربوط، على الخشب، يصلي بالإيماء، ولا يعيد على أصله. واحتج على أصل الشافعي بالمسافر والمريض إذا عجز عن استعمال الماء، والمريض إذا عجز عن القيام، والعاجز عن الستر يصلي عريانًا، ويترك القبلة في حالة المسابقة، وكذلك المستحاضة، ومن به سلس البول، لا يلزمه إعادة الصلاة، والنجس بهما قائم. وكذلك سائر الأعذار مثله. قال أصحابنا: الأعذار قسمان: عامة تسقط الإعادة، مثل عدم الماء في السفر، والعجز عن استعماله في المرض. ونادرة: وهي قسمان: أحدهما: يمتد ويدوم كالاستحاضة، وسلس البول، فسقطت الإعادة أيضًا، لأنا [إن] أوجبنا عليهما الإعادة يتضرران بذلك، لأن هذا معنى يمتد ويدوم دهرًا، فتلحقها المشقة، والضرر في وجوب الإعادة أيضًا. وقسم لا يدوم، وهي التي تنازعنا فيها من الدم على القروح، وعدم الماء في الحضر، وانكسار العظم، وأمثالها، فإنها لا تسقط الإعادة أيضًا.

فرع: إن كان معه ماء فأراقه، واحتاج إلى التيمم، فهل تلزمه إعادة تلك الصلاة أم لا؟ إن كان أراق الماء قبل دخول الوقت أي: وقت الصلاة، فلا إعادة عليه، بل يتيمم، ويصلي، وإن أراقه بعد دخول الوقت، فإن كان له فيه غرض صحيح بأن يغسل به نجاسة عليه، او نقي ثوبه من الدرن للتجمل، أو اغتسل للتبرد، فلا إعادة عليه أيضًا. وإن لم يكن له غرض في الإراقة يتيمم، ويصلي. وفي وجوب الإعادة عليه جوابان: أحدهما: لا يجب لأنه كان عادمًا للماء حالة التيمم. والثاني: يجب لأنه تعلق فرض الصلاة بالوضوء بذلك الماء فإذا أراق، فقط فرط في الإراقة فعوقب عليه. وهما كالقولين في المبتوتة في مرض الموت، هل تستحق الميراث أم لا؟ أحدهما: بلي؛ لأن حقها تعلق بما له في مرض موته، وهو بالطلاق، قصد حرمانها عن الميراث، فرد عليه قصده، وعوقب عليه بذلك.

والثاني: لا تستحق، لأنها صارت مبانة عنه، كسائر الأجانب إن قلنا: يعيد الصلاة ها هنا، فكم يعيد؟ فيها جوابان: أحدهما: يعيد صلاة واحدة، وهي أقل ما يؤدي بذلك الوضوء والثاني: يعيد الصلوات التي يمكنه أداؤها بذلك الوضوء في العرف والعادة. وهما كالقولين فيما إذا أعطي لاثنين من كل صنف في باب الزكاة، أو أوصى بشيء للفقراء، فأعطاه لاثنين منهم كم يغرم للثالث. فيه قولان: أحدهما: الثالث. والثاني: أقل ما يعطي له إن قلنا هناك: يغرم له الثلث ها هنا، يقضي ما يمكنه من الصلوات بذلك الوضوء. وإن قلنا هناك: يغرم له أقل ما يعطي له. فها هنا: يقضي صلاة واحدة. وهكذا حكم ما إذا كان له ثوب، فخرقه، ومزقه على ما ذكرنا من الفصل في إراقة الماء إلى آخره.

فأما إذا وهب الماء، إن كان قبل دخول الوقت، فعلى ما ذكرنا من الإراقة، وإن كان بعده، ففي صحة الهبة وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه من أهل التمليك. فعلى هذا، لا يلزمه إعادة الصلاة؛ لأنه له فيه مثوبة، ومحمدة ومنة عليه. والثاني: لا يستحق الهبة، لأنه مستحق الصرف إلى عبادة، فعلى هذا يسترد الماء، وإلا فيلزمه قضاء الصلوات التي صلاها ما دام الماء في يده، فإذا زال عن يده لا إعادة عليه بعده. ثم ينظر، إن أتلف هو الماء يلزمه بالضمان. وإن تلف في يده، فيه وجهان. أحدهما: لا ضمان، لأن الفاسد يأخذ حكم الصحيح في الضمان، كالإجارة.

والرهن.

والثاني: يلزم الضمان، كالإعارة الفاسدة. قوله: ولا يتيمم صحيح في مصر للمكتوبة، ولا لجنازة. وقال أبو حنيفة: للمقيم الصحيح أن يتيمم لصلاة الجنازة عند خوف الفوت مع وجود الماء، لأن عنده لا تقضي تلك الصلاة بعد الفوات، وقال: أداؤها بعد التيمم خير من تركها. والشافعي رحمه الله ألزمه صلاة الجمعة، فإنها لا تقضي إذا فاتت،

وهي آكد، لأنها فرض عين، ومع ذلك لا يجوز بالتيمم عند خوف الفوت، واستدل أيضًا بأثر ابن عمر. قال الشافعي: وإن كان معه في السفر من الماء ما لا يغسله للجنابة، غسل أي بدنه شاء، وتيمم وصلى. وقال في موضع آخر، يتيمم ولا يغسل من أعضائه شيئا، وقال في القديم، لأن الماء لا يطهر بدنه بغسل البعض. قال المزني [قلت أنا]: هذا أشبه بالحق عندي، لأن كل بدل لعدم فحكم ما وجد من بعض المعدوم حكم العدم، كالقاتل خطأ، يجد بعض رقبة، فحكم البعض [كحكم العدم]، وليس عليه إلا البدل، ولو لزمه غسل بعضه، لوجود بعض الماء، وكذلك البدل، لزمه عتق بعض رقبة لوجود البعض، وكمال البدل، ولا يقول بهذا أحد نعلمه، وفي ذلك دليل، وبالله التوفيق. قال القاضي حسين، يغسله للجنابة، إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء طهارته، إن كان محدثًا، أو لجميع بدنه إن كان جنبًا. قال في الجديد: يستعمل ما وجده، ويتيمم للباقي. وقال في القديم: يقتصر على التراب، وهو مذهب أبي حنيفة. واحتج المزني بأن كل أصل له بدل ينتقل إليه عند عد الأصل، فقدم بعضه كعدم كله، كالرقبة، في الكفارة. والفرق بينهما أن إعتاق بعض الرقبة لا يفيد شيئا لا في الحال، ولا في ثاني الحال، وها هنا استعمال بعض الماء، يفيد الطهارة في ثاني الحال، حتى لو وجد الماء بعده يبني على غسل ما مضى. والثاني: أن هناك الشرع ما ورد بإعتاق بعض الرقبة ابتداء، فلهذا لا يؤمر هو به. وها هنا قد ورد الشرع بغسل بعض الأعضاء دون البعض، بأن كان بعض

أعضاءه جريحًا، وبعض أعضائه صحيحًا، وأيضا أن هناك جوز الانتقال إلى البدل إذا لم يجد الرقبة، وبعض الرقبة لا يسمى رقبة. فقلنا: بأنه جاز الانتقال إلى البدل، وها هنا إنما يجوز الانتقال إلى التراب إذا لم يجد الماء، وبعض الماء يسمى ماء. فأما واجد بعض التراب، بحيث لا يكفيه لأعضاء تيممه، يلزمه استعماله، لأن ها هنا ليس للتراب بدل يصار إليه بخلاف الماء إذا كان عليه نجاسات، ووجد من الماء لا يكفيه لغسل الكل. الصحيح أنه يلزمه استعماله، لأن النجاسة مما لا يتجزأ زوالا وحصولاً. وفيه وجه آخر، أنه لا يلزمه استعماله، لأنه لا يطهر البدن تطهيرًا يباح معه الصلاة. فأما إذا وجد بعض خرقة، وجب عليه أن يستر به عورته وجهًا واحدًا، لأنه يلزمه ستره عن أعين الناظرين. ثم ينظر فإن كان يكفيه البعض، فيستر به السوئتين، لأن حكمهما أغلظ، وأفحش من باقي المحل، وإن كان يكفي لأحدهما دون الآخر. القاضي رحمه الله، إن كان رجلا يستر به الدبر، وإن كان امرأة يستر به القبل، لأن ما بدا من الرجل من العورة بالدبر أغلظ، فيه وأكثر. والمغلظ في قبل المرأة أكثر من المغلظ في دبرها في أعين الناظرين. إذا تيمم ثم وجد الماء في إناء، ولم يدر أنه هل يكفيه لأعضاء طهارته أم لا؟ فإنه يبطل تيممه. وإذا علم بأنه لا يكفي لأعضاء طهارته يقيًا، ينبني على ما ذكرنا. وإن قلنا: إنه لو وجد في الابتداء يلزمه استعماله، فها هنا يبطل تيممه. وإن قلنا هناك: لا يلزمه استعماله، فها هنا لا يبطل تيممه.

فأما إذا وجد ماء في إناء، ولم يدر أنه طاهر أم نجس يبطل تيممه، وإن كان الماء نجسًا، فأما إذا تحقق نجاسة الماء عند الرؤية لا يبطل تيممه. فأما الجنب، إذا غسل جميع بدنه، وترك لمعة من بدنه لعدم الماء، ثم أحدث وطلب الماء، ولم يجده وتيمم ثم وجد من الماء قدر ما يكفيه لتلك اللمعة. إن قلنا: لا يلزمه استعماله في الحدث لو وجد قبل التيمم، فها هنا لا يبطل تيممه، بل يغسل به تلك اللمعة ويصلي. وإن قلنا: يلزمه استعماله، فها هنا يبطل تيممه، لأنه لم يتعين عليه استعماله في احدهما دون الآخر. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله، وأحب تعجيل التيمم، لاستحبابي تعجيل الصلاة. وقال في الإملاء، لو أخره إلى آخر الوقت، رجاء أن يجد الماء كان أحب إلي. قال القاضي حسين: إذا دخل وقت الصلاة، وهو عادم للماء، إن تحقق عدم الماء في أجزاء الوقت، فالمستحب له تعجيل الصلاة في أول الوقت وكذلك إذا احتمل وجوده في آخر الوقت، واحتمل عدمه هكذا. فأما إذا تيقن وجود الماء في آخر الوقت، فهل يجوز له تعجيل الصلاة، فعلى قولين: أحدهما: لا يجوز، لأن تيقن القدرة على الماءـ وأداء الصلاة به في الوقت، والثاني: نعم، لأنه عادم للماء، وقد دخل الوقت. فأما إن ترجي وجود الماء في آخر الوقت، وهي مسألة الكتاب، لا خلاف أن له التعجيل، وفي الاستحباب قولان: أحدهما: يعجل ليحوز فضيلة أول الوقت.

والثاني: يؤخر، ليحوز فضيلة الوضوء. واختيار المزني التعجيل. وقال: (ما كان أداؤه أفضل بالوضوء). يعني: الصلاة في اول الوقت، (كان أداءه أفضل بالتيمم)، كصلاة الجماعة، قال المزني: [قلت أنا]، كأن التعجيل عندي بقوله أولى، لأن النسة أن يصلي ما بين أول الوقت وآخره، فيما كان أعظم لأجره في أداء الصلاة بالوضوء، فالتيمم [مثله]، وبالله التوفيق. قال القاضي حسين: لم يرد به آخر الوقت، وإنما أراد به آخر أول الوقتن لأن أول الوقت يمتد إلى انتصاف الوقت، حتى لو قال لامرأته، أنت طالق مع آخر أول الوقت، يقع الطلاق، عليها عند انتصاف الوقت. ولو قال: أنت طالق آخر أول اليوم، تطلق قبل الزوال. ولو قال: أول آخر اليوم، تطلق بعد الزوال، والله أعلم. قال الزني: فإن لم يجد الماء، ثم علم أنه [كان] في رحله أعاد. قال القاضي حسين: من أصحابنا من قال: هذه المقالة غير صحيحة، لأنه قابل العلم بعدم الوجود. والصحيح أن يقابل الوجود بالعدم. والشافعي قال: ولو نسي الماء في رحله، ثم علم، إذا ثبت هذا إذا علم أن في رحله ماء فنسيه، وتيمم وصلي، قال ها هنا: يلزمه الإعادة. وفيه قول مخرج: أنه لا يلزمه الإعادة. من مسألة نسيان الفاتحة في الصلاة ونسيان الترتيب في الوضوء. وقال في الكبير: لو تيمم، ثم عبر على بئر بقربه لا إعادة عليه.

اختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل في وجوب الإعادة عليه قولين نقلا وتخريجًا. ومنهم من فرق بينهما، وقال بأنه ها هنا إذا علم، ثم نسي، فإنه وجد التفريط من جهته، حيث لم ينعم النظر في الطلب إذ يمكنه طلب الماء في رحله، وهناك في البئر لم يعلم به، ولم يوجد التقصير منه في الطلب، لأنه لا يمكنه أن يفتش جميع وجه الأرض، وزان مسألتنا أن لو كان عالمًا به، ثم نسيه، فلا جرم تلزمه الإعادة، ووزانه من مسألتنا أن لو لم يعلم بوجود الماء في رحله بأن جاء آخر ووضعه فيه، ولا يخبره بذلك، لا جرم لا يلزمه الإعادة. وهكذا لو نسي رحله فيما بين الرجال، ولم يطلبه حكمه حكم ما لو نسي الماء في رحله. فأما إذا أضل رحله فيما بين رحال الناس، أو أضل رجل ماءه فيما بين رحال نفسه، فالصحيح أنه لا يلزمه الإعادة، لأنه لم يوجد التفريط من جهته في الطلب. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه إعادة الصلاة، هذا لا يصح لأن الناسي غير عادم للماء، بل هو مفرط، لأنه لم ينعم النظر، والله تعالى إنما أباح التيمم عند عدم الماء، فلتزمه الإعادة لهذا. قال المزني: وإن وجده بثمن في موضعهن وهو واجد الثمن، غير خائف، إن اشتراه، الجوع في سفره، فليس له التيمم، [وإن] أعطيه بأكثر [من] الثمن، لم يكن عليه أن يشتريه، ويتيمم. قال القاضي حسين: إذا لم يكن معه في السفر ماء، ومعه ثمن الماء. ينظر فيه، فإن كان لا يفضل عن حاجته، بأن يكون ما معه من المال قدر ما يستنفقه في ذهابه وجوعه لا يلزمه شراء الماء، وإن كان يفضل عنه ينظر فإن وجد الماء بأكثر من ثمن المثل لا يلزمه الشراء قلت الزيادة أم كثرت، وثمن المثل اختلفوا فيه:

منهم من قال: هو أجرة نقله من مكان الوجود إلى مكان العز، لأن الماء لا يتقوم. ومنهم من قال: هو في مكان العز كسائر المتقومات، فيجب قيمة مثله في ذلك المكان، وإن وجده يباع بثمن مثله وجب عليه شراؤه. فأما إذا كان معه ماء، ولكن يحتاج إليه لسقيه، او لسقي دابته او يحتاج إلى ثمنه لأجل النفقة يجوز له التيمم، ولا يلزمه استعمال الماء. فأما إذا وجد من يبيعه الماء بالنسئة، إن لم يكن له المال ببلده لا يلزمه شراؤه، وكذا إن كان له مال ببلده، ولكن يباع زائدًا على ثمن مثله، لأجل النسيئة لا يلزمه أيضًا. فأما إذا بيع منه نسئة بما يباع نقدًا، وضرب له أجل يتمكن من دفع الثمن إليه إذا رجع إلى بلده يلزمه شراؤه. ولو وهب منه الماء يلزمه القبول، لأن الماء أصله على الإباحة، فلا تلحقه المنة في قبوله. ولو وهب منه ثمن الماء لا يلزمه قبوله، لأنه يلحقه فيه منة، ولا يكلف الإنسان التزام المنة. فأما إذا وجد بئرًا، ولم يجد آلة الاستقاء فلو وجد من يعيرها منه يلزمه قبوله، إذ ليس فيه كبير منة. ولو وهبها منه لا يلزمه القبول، فأما إذا وجدها بالثمن، فهو كالماء سواء.

وقد ذكرنا حكمه، فأما إذا وجدها بأجرة المثل، ووجد ذلك هكذا يلزمه أن يستأجرها ولا يتيمم. فأما إذا كان معه ثياب يمكنه أن يشد البعض بالبعض، ويجعله حبلا يستقي به الماء. إن كان لا ينقص من ثمنه إلا قدر ما يستأجر به الرشا، أو يشتري به الرشا، يلزم ذلك. وإن كان ينقص من ثمنه أكثر من ذلك، لا يلزمه ذلك، وكذا لو كان عليه كرباس، بحيث أنه لو شقه، ويشد البعض بالبعض يمكنه أن يستقي به الماء، فعلى ما ذكرنا إن كان ينتقص منه مثل ما يستأجر به الرشا، أو أقل من ذلك وإلا فلا. فأما إذا كان له عبد في السفر، لا يلزمه أن يشتري له بالماء ألبتة. بل له أن يتيمم بخلاف الثوب، فإنه يلزمه أن يشتري ما يستر به عورته، لأن ذلك إنما يجب عليه لحق البلاد كيلا ينظر إليه الناس. وها هنا تمحض ذلك حقًا لله تعالى. وفرق بينهما كما في حق الصبي والمجنون. فأما العبد إذا احتاج إلى الماء ليسقيه يلزمه شراء الماء، وكذا لو كان معه دابة من حمار أو غيره، يلزمه أن يقوم بكفايتها، وكذا لو كان معه من الماء والشعير وغيرهما. وكذا لو كان معه كلب عطشان، يلزمه تحصيل الماء لأجله إذا كان كلب صيد، أو ماشية أو حرث، ثم ينظر، فإن وجد من يبيعه الماء بثمن المثل يلزمه ذلك.

وإن وجد من يبيعه بأكثر من ثمن المثل، فعليه أن يشتريه، وليس له أن يكابره، ويقاتله عليه، وهل تلزمه الزيادة على ثمن المثل إذا اشتراها بالزيادة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لأن هذا عقد جائز صدر من أهله، فيجوز كما لو باعه غير الماء بأضعاف ثمنه. والثاني: لا يجوز: لأنه كالمكره في قبول هذه الزيادة في حال وجوب شراء الماء عليه، فلم ينعقد البيع في حق الزيادة، لكونه مكرها في ذلك. فأما إذا لم يبعه صاحبه منه لا يخلو. أما إن كان صاحبه محتاجًا إليه، أو لم يكن محتاجًا إليه، فإن لم يكن محتاجا إليه يجوز له أن يكابره، ويأخذ منه الماء لكلبه، ودابته، كما يأخذ منه الماء لنفسه، وإن أبي الدفع إلى صاحب الماء يكون هدرًا.

ولو أبى الدفع على هذا القاصد يكون دمه مضمونًا عليه، وهكذا إذا احتاج إليه صاحبه للوضوء، وهناك مضطر إليه ليسقيه، يلزمه الدفع إليه، ويتيمم هو. فأما إذا كان كلبه يحتاج إلى طعام، ومع آخر شاة، فهل له أن يكابره على أخذ الشاة منه لكلبه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، كما قلنا في الماء. والثاني: لا، لأنه كما للكلب حرمة، لأنه ذو روح، وكذا الشاة فاستويا. فأما إذا كان صاحبه محتاجًا إليه، فلا يجوز لغيره أن يكابره، ولو كابره على أخذه، فأتي الدفع على صاحبه الماء يكون دمه مضمونا عليه ولو أبي الدفع على القاصد يكون دمه هدرًا، لأن صاحب الماء لو آثره على نفسه، ودفع الماء إليه له ذلك. وفيه قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). فأما إذا احتاج إليه لوضوئه، وهناك جنب، أو محدث فليس له الإيثار، لأنه يعود إلى أمر العبادة. فإن فعل فهو مسألة الهبة، وقد ذكرناها، وإن كان صاحبه احتاج إليه في المنزل الثاني. وهناك من يحتاج إليه في المنزل الأول. فيه وجهان: أحدهما: صاحبه أولى لأنه لم يفضل عن حاجته، وهو مالكه. والثاني: غيره أولى لتحقق الحاجة في حقه في الوقت، وتلك حاجة موهومة في ثاني الحال. فأما إذا كان معه ثوب، وغيره محتاج إليه، حكمه حكم الماء، وقد ذكرناه.

فإن كان يحتاج إلى ذلك الثوب ليستر العورة في الصلاة فإن باعه بثمن المثل، يلزمه الشراء، وإن باعه بأكثر من ثمن المثل، لا يلزمه ذلك. ولو احتاج إليه لشدة البر المفرط، فإن باعه بأكثر من زيادة مثله، ففي الزيادة وجهان، كما ذكرنا، وإن لم يبعه منه، فهل له أن يكابره على أخذه منه، فعلى ما ذكرنا في الماء. فرع: لو اجتمع نفر على رأس بئر، وآلة الاستقاء مع احدهم يعرها للباقي ينظر فيه، فمن علم أن النوبة تئول إليه قبل خروج الوقت يصبر حتى تئول النوبة إليه ويصلي في الوقت بالوضوء، وإن علم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الخروج ما حكمه؟ لم ينص على ذلك، ولكن نص في موضع آخر على أن جماعة لو كانوا في سفينة، وفيها مكان واحد للقيام. فمن علم أن النوبة ينتهي إليه قبل خروج الوقت صبر. ومن علم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت يصلي قاعدًا في الوقت. ونص على أن جماعة لو كانوا عراة، ومع أحدهم ثوب يعيره من أصحابه واحدًا فواحدا. فمن علم أن النوبة تأتيه قبل خروج الوقت صبر. ومن علم أن النوبة لا تأتيه إلا بعد خروج الوقت، لا يصلي عريانًا في الوقت، بل يصبر حتى يصل مع الستر خارج الوقت. قال القفال: لا أعلم فرقا بين المسألتين، وجعل المسألة على قولين.

ومن أصحابنا من أقر النصين قرارها، وفرق بينهما بأن ترك القيام أخف حكما في الصلاة من ترك الستر، لأنه قد يسقط القيام، بعذر المرض وغيره. وقد يجوز تركه في النوافل مع القدرة عليه. فإنه لا يسقط في أي صلاة كانت مع القدرة عليه، ولأن للقيام بدلا، وهو القعود، وليس للستر بدل. فلهذا أمره بالصلاة في الوقت قاعدًا، ولم يأمره بها في الصلاة عاريًا، جئنا إلى مسألتنا إن جعلنا في المسألتين قولين. ففي هذه المسالة أيضًا قولان. وإن فرقنا بينهما هناك، فمسألتنا نظير مسألة السفينة، لأن للوضوء، بدلا وهو التيمم، قال المزني، ولو كان مع رجل ماء، فأجنب رجل، وطهرت امرأة، من الحيض، ومات رجل ولم يسعهم الماء، كان الميت أحبهم إلي: أن يجاد بالماء عليه، ويتيمم الحيان، لأنهما قد يقدران على الماء، والميت إذا دفن، لم يقدر على غسله، فإن كان مع الميت ماء، فهو أحقهم به، فإن خافوا العطش، شربوه، ويمموه وأدوا ثمنه في ميراثه. قال القاضي حسين صورة المسألة اجتمع جنب، وحائض طهرت، وميت لم يغسل، وهناك ماء يكفي لأحدهم، فالميت به أولى يغسل به، ويتمم الحيان، لأن أمر الميت يفوت ويمكنها استعمال الماء في المستقبل وصورة المسألة فيما إذا كان الماء مباحًا أو جاء أحد به، وجاء به على أحدهم لا على التعين. وأما إذا كان لأحد الجنبين فهو أولى به، فلو كان هناك ميت وحي عليه نجاسة، وهناك ماء مباح فوجهان. أحدهما: الميت أولى لما ذكرنا.

والثاني: من عليه النجاسة أولى لأحدهما. فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: الجنب أولى؛ لأن وجوب الاغتسال في حقه منصوص عليه بقوله تعالى: (وإن كنتم جنبًا فاطهروا). وأيضًا فإنه يمنع عن قراءة القرآن على قول القديم، ولأن الصحابة اختلفوا في تيمم الجنب، دون تيمم الحائض. والثاني الحائض، أولى لأن حكم الحيض أغلظ بدليل أنه يحرم القربان إليها والجنابة بخلافه. والثالث: هما سواء، يقرع بينهما. فأما إذا كان هناك محدث يقرع بنهما. فأما إذا كان هناك محدث وجنب. إن كان الماء يكفي المحدث دون الجنب، فهو أولى، لأنه يكمل طهارته، وإن كان يكفي الجنب، ولو استعمله المحدث يفضل للجنب شيئًا منه، فيه وجهان: أحدهما: الجنب أولى، لأن الجنابة أغلظ حكمًا. والثاني: المحدث أولى، لأنه يكمل به طهارته، ويفضل للجنب بعضه. هذا إن قلنا: إن وجدنا بعض الماء يلزمه الاستعمال، وإلا فالجنب أولى، وإن كان للميت ماء، فالميت أولى به، فأما إذا كان الحي مضطرًا إليه، فالمضطر أولى، والميت يتمم. قال: (ويؤدي ثمنه في ميراثه). قال القاضي حسين: وعني بالثمن القيمة. فإن قيل: لم أوجب قيمته، وهو من ذوات الأمثال؟ قلنا: لأن الماء يقوم في مكان العز، ويضمن بالمثل في مكان الإباحة، فلو أوجبنا المثل.

ها هنا: يتضرر به الميت، حتى لو ظفر الوارث به في مكان للماء فيه قيمة، فله أن يغرمه المثل. فأما إذا كان في مكان لا قيمة للماء فيه، وغرمه القيمة ثم اجتمع في مكان للماء فيه قيمة، فهل له أن يسترد القيمةن ويغرمه المثل؟ فيه وجهان: وهكذا لو أتلف حنطة على إنسان بـ (مرو الروذ) ثم القيمة، ليس له أن يغرمه المثل، بل يغرمه قيمة الحنطة، ب (مرو الروذ)، ولو اجتمع في المكان الذي أتلف فيه الحنطة. هل له أن يرد عليه القيمة ويسترد المثل؟ فعلى وجهين، وكذا لو أتلف على إنسان جملاً في الصيف، ثم ظفر به في الشتاء، وغرمه القيمة، ثم دخل الصيف. فهل له رد القيمة، واسترداد المثل؟ فعلى وجهين، والله أعلم بالصواب.

باب ما يفسد الماء

باب ما يفسد الماء. الماء على قسمين: قليل وكثير. ويعني بالقليل ما يتقاصر عن القلتين، وبالكثير ما بلغ القلتين فصاعدًا، وسيأتي حكم الكثير. فأما القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة. وقال مالك: لا ينجس ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، كالماء الكثير واستدل عليه بقوله عليه السلام: خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه.

ولم يفصل بين القليل والكثير. قلنا: هذا عام فنحمله على الكثير بدليل قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا». فمفهومه يدل على أن القليل بخلافه. قال المزني: قال الشافعي-رحمه الله-: وإذا وقع في الإناء نقطة خمر، أو بول أو دم، أو أي نجاسة كانت مما يدركه الطرف، فقد فسد الماء، ولا تجزئ به الطهارة. قال القاضي حسين: خص بدركها الطرف بالذكر. من أصحابنا من قال: المزني أخل بالنقل، لأن الشافعي إنما فصل بين ما يدركها الطرف، وبين ما لا يدركها الطرف في الثياب لا في الماء. فإنه قال في القديم: وإن كان على ثوبه قدر كف من دم، فهو معفو، وإن كان من سائر النجاسات، إن كان مما لا يدركها الطرف فمعفو، وإن كان مما يدركها الطرف، فليس بمعفو. وقال في الجديد: إذا كان عليه قدره دم البراغيث، من الدم الذي خرج من بدنه، فهو معفو، وسائر النجاسات لا يعفى عنها، أدركها الطرف، أو لم يدركها. واستدل على قوله القديم بما روي عن جعفر بن عبد الله بن محمد الباقر أنه قال: لقد هممت أن أتخذ ثوبًا للمغتسل لما رأيت أن الذباب تقع على النجاسات، ثم تطير على الثياب، إلا إني رأيت السلف لا يتحرزون عن ذلك فتركته.

فحاصل المذهب: أن ما يدركها الطرف ينجس به الماء والثوب. فأما ما لا يدركها الطرف: من أصحابنا من جعل في الثوب والماء قولين: أحدهما: ينجس به الماء والثوب. والثاني: ينجس به الماء دون الثوب. والفرق بينهما أن الماء يمكن صونه، وتغطيته في الأواني، كي لا يقع فيه الذباب، ولا يتعذر ذلك، بخلاف الثياب. وأيضا فإن الذباب إذا طار من النجاسة، فتجف رجله في الهواء، ثم لو وقع على الثوب، وكان الثوب يابسًا، فإنه لا يؤثر فيه بخلاف الماء، فإنه مائع فإذا لاقاه الماء يترطب رجله فينجس به الماء. قال المزني: وإن توضأ رجلٌ، ثم جمع وضوءه في إناء نظيف، ثم توضأ به، أو غيره، لم يجزه، لأنه أدي به الفريضة مرة، وليس بنجس لأنه النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ولا شك أن من بلل الوضوء [ما] يصيب ثيابه، ولا نعلمه غسله، ولا أحدًا من المسلمين فعله، ولا يتوضأ به، لأن على الناس تعبدًا في أنفسهم بالطهارة من غير نجاسة، وليس على ثوب، ولا أرض تعبد ولا أن يماسه ماء من غير نجاسة. قال القاضي حسين: الماء المستعمل على قسمين: مستعمل في الحدث، ومستعمل في الخبث. فأما المستعمل في الحدث فهو الذي استعمل في طهارة الفرض في المرة الأولى، وأدى به حكمي من حيض أو جنابة. ظاهر المذهب: أنه طاهر غير مطهر. وفيه قول قديم للشافعي، وهو مذهب مالك أنه طهور، وحكي عيسى بن أبان عن الشافعي هذا القول.

قال ابن سريج: وهم في نقل هذا القول، فظن أن مذهبه أن الماء المستعمل طهور لكثرة ما رأي الشافعي يحتج على أبي يوسف فيه على أنه طاهر. وعن أبي حنيفة روايتان. وقال أبو يوسف/ إنه نجس، وعندنا يكون طاهرًا على ظاهر المذهب.

ولأي معنى صار مستعملاً.؟ فيه معنيان: أحدهما: لأنه أدي به الفرض مرة، وقد نص عليه الشافعي في أول الفصل.

والثاني: أن يستعمل، ويؤدي به العبادة، مستنبط من قوله، لأن على الناس تعبدًا في أنفسهم بالطهارة، وليس على الثوب تعبد، ولا على أرض تعبد. فعلى هذا: إذا استعمل الماء في الكرة الثانية والثالثة في الوضوء، أو جدد الوضوء أو اغتسل للجمعات، أو الأعياد أو الصبي المراهق يتوضأ. هل يكون طهورًا أو لا؟ فيه وجهان ينبنيان على المعنيين. إن قلنا: إن المعنى فيه أنه أدي الفرض به، وهذه المياه لم يؤد بها الفرض، فيكون طهورًا. وإن قلنا بالمعنى الثاني: فلا يكون طهورًا، لأنه أدي به العبادة. فأما الذمية إذا طهرت من الحيض، واغتسلت لقربان الزوج إليها. إن قلنا بالمعنى الأول: يصير الماء مستعملا. وإن قلنا بالمعنى الثاني: لا يصير الماء مستعملا، لأنه لم يؤد به العبادة. فرع: الماء المستعمل في إزالة الحدث، هل يجوز إزالة الخبث به فوجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن للماء قوتين: قوة رفع الحدث، وقوة رفع الخبث. والثاني: لا، لأن هذا ما لا يرفع الحدث، فلا يرفع الخبث، وكذا الماء المستعمل في إزالة الخبث. فهل تجوز إزالة الحدث به؟

فوجهان على ما ذكرنا. فرع: فأما إذا جمع الماء المستعمل في إناء حتى بلغ قلتين. فيه قولان: أحدهما: يعود طاهرًا مطهرًا، لأنه صار إلى حاله، ولو كان عليه في الابتداء لم يحكم بكونه مستعملا، كالمياه النجسة، إذا جمعت حتى بلغت قلتين. والثاني: لا بخلاف الماء النجس، لأن العلة لنجاسة القلة، وقد ارتفعت العلة إذا بلغت قلتين، وها هنا العلة فيه كونه مستعملا، وهذه الصفة تكون مع كثرة الماء، ولاترتفع عنه إذا بلغ قلتين. فرع: لا خلاف أن تجديد الوضوء سنة لقوله عليه السلام: الوضوء شطر الإيمان. وروى عنه عليه السلام، أنه قال: من جدد الوضوء جدد الله إيمانه، فلو توضأ، ولم يصل به شيئا يكره له تجديد الوضوء، لأنه يؤدي إلى الزيادة على الثلاث في كل عضو. وإن توضأ وصلى به الفرض، فإن أراد أن يصلي فرضًا آخر يستحب له تجديد الوضوء، وإن أراد أن يصلي به النافلة، هل يستحب له تجديد الوضوء أم لا؟

فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن العادة ما جرت بتجديد الوضوء للنافلة. والثاني: بلى؛ لأنه قد أدى بالوضوء فرضًا واحدًا. فأما إذا توضأ وأدي به صلاة التطوع، ثم أراد أن يصلي صلاة الفرض، فهل يستحب له تجديد الوضوء أم لا؟ فيه وجهان ينبنيان على المعيين في الماء المستعمل. إن قلنا: إن الماء إنما يصير مستعملا إذا أدى به الفرض، فها هنا لا يستحب له تجديد الوضوء. وإن قلنا: بأن الماء إنما يصير مستعملا إذا أدى به العبادة فها هنا يستحب له تجديد الوضوء ثانيًا. فأما الماء المستعمل في إزالة الخبث فلا يخلو إما أن ينفصل عن المحل، ويحكم بطهارة المحل، أم لا يحكم بطهارته، فإن حكم بطهارة المحل، ينظر في الماء، فإن لم يكن متغيرًا. الظاهر من المذهب: أنه طاهر. وحكي أبو القاسم الأنماطي قولا آخر: أنه يكون نجسًا، وهو مذهب أبي حنيفة وفيه قول قديم، وهو مذهب مالك، أنه يكون طهورًا، والمذهب الأول فأما إذا كان الماء متغيرا فإنه يكون نجسًا وفي المحل وجهان: أحدهما يكون طاهرًا، لأن النجاسة انتقلت منه إلى الماء. والثاني: يكون نجسًا، لأنه بقي على المحل بلل، وهو بعض الماء، والماء الواحد لا ينقسم في الطهارة والنجاسة. فأما إذا لم يحكم بطهارة المحل، بأن انفصل الماء عنه، وعين النجاسة على المحل باق، والماء متغير، فهما نجسان الماء والمحل، فأما إذا انفصل الماء غير متغير، والعين على المحل قائمة.

فالمحل نجس لا محالة، فأما حكم الماء يبني على المسألة الأولى إن قلنا هناك: يكون الماء نجسًا، فها هنا أولى. وإن قلنا: لا يكون نجسًا فها هنا فيه وجهان. والفرق أن هناك انفصل عن محل طاهر، وها هنا انفصل عن محل نجس، ثم ذكر ابن سريج في غسالة النجاسة ثلاثة معان: أحدهما: أن حكم الماء بعد ما انفصل عن المحل حكم الماء قبل إيراده على المحل، وهذا ينزع إلى القول القديم. والثاني: أن حكمه حكم المحل قبل ورود الماء عليه. والثالث: أن حكمه حكم المحل بعد ورود الماء عليه، وفائدته إنما تظهر في غسالة ولوغ الكلب إذا أصاب محلا، فينبني على المعاني الثلاثة التي ذكرناها في غسالة غير الكلب، فإن أصابه في المرة أولى. إن قلنا: إن حكمه حكم الماء قبل إيراده على المحل لم يجب غسله منه. وإن قلنا: إن حكمه حكم المحل قبل إيراد الماء عليه لم يجب غسله سبع مرات، ويجب التعفير. وإن قلنا: إن حكمه حكم المحل بعد إيراده الماء عليه، فيجب غسله ست مرات ثم إن وجد التعفير في محل الولوغ، فلا يجب ها هنا في الموضع الذي تقاطرت إليه وإلا فعليه التعفير، وعلى هذا القياس لو تقاطر من المرة الأولى والثانية والثالثة، فأما إذا تقاطر من المرة السابعة. إن قلنا: إن حكمه حكم الماء قبل إيراده على المحل، فلا يجب غسله. وإن قلنا: إن حكمه حكم المحل قبل إيراد الماء عليه، فيجب غسله مرة واحدة، وحكم التعفير على ما ذكرنا. وإن قلنا: إن حكمه حكم المحل بعد إيراد الماء عليه لا يجب غسله أيضًا، وفي غسلات الكلب إذا جمعت وجهان:

أحدهما: أنها نجسة ما لم تبلغ قلتين. والوجه الثاني: أنها طاهرة، لأن مجموعها طهرت المحل، فصار كغسالة غير الكلب، والله أعلم بالصواب. قال المزني: وإذا ولغ الكلب في الإناء، فقد نجس الماء، وعليه أن يهريقه، ويغسل منه الإناء سبع مرات، أولاهن بالتراب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القاضي حسين: إذا ولغ الكلب فيه فقد نجس الماء وعليه أن يهريقه، ويغسل الإناء منه سبع مرات، أولاهن أو آخرهن بالتراب. وقال أبو حنيفة: يغسل ثلاث مرات، ولا يجب التعفير، وكذا عند حكم سائر النجاسات الحكمية، والدليل عليه حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب. ولا نعنى بالتعفير إن نلقي التراب الجامد في الإناء، ونمسح به الإناء أو الطين، إذا كان متجمدًا غير سيال يلقى فيه، وتحركه فيه، بل نعنى به أن نلقي التراب في واحد من الغسلات السبعة مع الماء، حتى يتكدر الماء به، فيكون محسوبًا، ولو كان الماء كدرًا بالتراب بأن كان في وقت الربيع، فإنه يقوم مقام التعفير. فأما الغسلة الثامنة هل تقوم مقام التراب أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لأن الماء أبلغ قوة في التطهير.

والثاني: لا؛ لأن النص ورد في التراب تعبدًا. وهي يقوم غير التراب من الأشنان، والصابون والنخالة مقام التراب أم لا؟ فيه قولان نص عليهما في الجديد: أحدهما: لا؛ لورود النص في التراب. والثاني: وهو اختيار المزني، نعم، لأنها طهارة ورد الشرع بها بالجامد فلم يختصر بذلك الجامد كالاستنجاء وكالدباغ ثم اختلفوا في محل القولين منهم من قال: القولان في جميع المحال كلها. ومنهم من قال القولان عند عدم التراب، لأن الشافعي، قال وإن كان في بحر لا يجد فيه ترابًا، فأما إذا وجد التراب قول واحد: أنه لا يجوز. ومنهم من عكس ذلك وقال: عند وجود التراب قولان. قال: فإن كان في بحر، لا يجد فيه ترابًا، فغسله بما يقوم مقام التراب في التنظيف من أشنان أو نخالة، أو ما أشبهه ففيه قولان: أحدهما: ألا يطهر إلا بأن يماسه التراب. والاخر: يطهر بما يكون خلفا من تراب، أو انظف منه [مما] وصفت، كما نقول في الاستنجاء. قال المزني: قلت أنا: هذا أشبه بقوله: لأنه جعل الخزف في الاستنجاء، كالحجارة لأها لا تقي إنقاءها، فكذلك يلزمه أن يجعل الأشنان كالتراب، لأنه ينقي نقاءه، أو أكثر وكما جعل ما عمل عمل القرظ والشث في الإهاب في معنى لقرظ والشث، فكذلك الأشنان في تطهير الإناء في معنى التراب. قال المزني: [الشث شجرة تكون بالحجاز]. قال القاضي حسين: أراد به أن الغالب أن التراب لا يوجد في البحر، كما نص على الحجر في الاستنجاء، فذكره لا لتعليق الحكم.

فأما عند عدم التراب قول واحد: أنه يجوز. فإذا قلنا: غير التراب في الإناء يقوم مقامه، ففي التراب أولى، وإلا فوجهان، والفرق أن تأثير الأشنان والصابون أقوي في الثوب. وأيضا إن العادة ما جرت باستعمال التراب في غسل الثياب، لأنه مما يفسده بخلاف الأواني. فأما إذا أصاب الأرض ولوغ الكلب، ففي اعتبار التعفير وجهان: الأظهر: أنه لا يعتبر، لأنه يحصل في كل مرة. والثاني: بلي، للنص. فأما إذا ولغ الكلب في إناء، ثم غمس الإناء في ماء لا يخلو، إما أن يكون الماء جاريًا أو راكدًا، فإن كان جاريًا إن تركه فيه ريثما يجري الماء عليه سبع جريات فذاك. والثامنة هل تقوم مقام التعفير؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين: وإن أخرجه في الحال فعلى وجهين: أحدهما: عاد طاهرًا لأنه صار إلى حالة لو كان عليها لم ينجس بالولوغ. والثاني: لا، ويحتسب ذلك غسلة واحدة. وإن كان الماء راكدًا، فإن غمسه فيه، وخضخض الماء فيه سبع مرات فذاك، وإن أخرجه في الحال لا يعود طاهرًا، وإن تركه فيه زمانًا، ولم يحرك الماء، فيه وجهان. فأما دم الكلب وبوله في ظاهر المذهب كريقه إذا راعينا المعنى، وهو قوله الجديد، وإن راعينا النص، وهو قوله القديم حكمه حكم سائر النجاسات، وكذلك إن مس قوائمه، أو بجزء من أجزائه موضعًا رطبًا إن راعينا القياس، وهو قوله الجديد يلزمه غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، وإن راعينا النص،

وهو قوله القديم حكمه حكم سائر النجاسات، وكذا حكم الخنزير حكم الكلب في الجديد، لأنه أسوأ حالاً منه، إذ هو متفق في تحريمه، والكلب مختلف فيه. وفي القديم إذا راعينا النص حكمه حكم سائر النجاسات. فرع: لو ولغ كلبان في إناء واحد وأكثر لا تجب فيه الزيادة على السبع، بخلاف ما لو بال رجلان في أرض يصب عليه ذنوبان من الماء، لأن ذلك لإذهاب عين النجاسة فكلما أزدادت النجاسة زيد في الماء بخلاف ما نحن فيه. قال المزني: رحمه الله، ويغسل الإناء من النجاسة سوى ذلك ثلاثًا، أحب إلى فإن غسله واحدة، تأتي عليه، طهر، وما مس الكلب والخنزير من الماء من ابدانهما نجسة، وإن لم يكن في أبدانهما قذر. قال القاضي حسين: فقد ذكرنا حكم نجاسة الكلب والخنزير، وأما نجاسة سواهما، إن كانت عينية فعليه إزالة العين، فإن لم يذهب الأثر، فعليه أن يغسله بالأشنان وغيره، ويستقصى فيه، فإن لم يذهب فالظهر أنه يكون معفوًا لما روى عن عائشة، رضي الله عنها أنها قالت كنا نغسل الثياب من دم الحيض وتبقي فيه بقعة، أو بقع، فنمسحها بالحناء، ونصلي فيها. وإن كانت حكمية فنغسلها إلى أن يغلب على ظنه طهارته، ولا يعتبر فيه العدد. ومن أصحابنا من قال: إنه يصب عليه سبعة أضعاف النجاسةن والصحيح هو الأول، ويدل عليه حديث أسماء. وقوله: (ثم اغسليه بالماء)، قال القاضي حسين، ليس فيه ذكر عدد، ولا شيء، ولكن يستحب عندنا غسله ثلاث مرات.

وقال أبو حنيفة: إنها واجبة، وقد ذكرناه. فأما إذا انغمس الثوب في نجاسة من بول وغيره، ثم غسل بماء معلوم القدر، وانفصل منه الماء، ووزن بعده، فإن زاد الماء على مقداره يكون نجسًا، لا محالة، وإن لم يكن متغيرًا، لأن هذه الزيادة أقوى دليل على نجاسته من التغيير. ثم المزني احتج على أبي يوسف في أن الماء المستعمل طاهر، حيث قال: إنه ماء طاهر منفصل عن محل طاهر، فالنجاسة من أين. فاعترضوا عليه بأن قالوا: عندكم لو كان الماء القليل في إناء فنجس، وفي إناء آخر مثله، وكان نجسأ ثم جمعا في إناء واحد، وبلغا قلتين يصيران طاهريين، وهذا ماء نجس اجتمع مع ماء نجس فالطهارة من أين.؟ جوابه ما ذكرنا أن العلة فيه القلة عندنا وقد ارتفعت بالجمع والكثرة، والثاني: قالوا: إذا غر العبد بأمة فولدت منه، قلتم،: بأن الولد حر، وهذا مولد بين رقيقين، والحرية من أين؟ جوابه: أنه وطئها على زعم أن ولده يكون حرًا منها، فإذا غر بالأمة صار الولد حرًا لغروره بذلك. واحتج مالك في كونه طهورًا، وقاسه على الثياب أنه يجوز أن يتأدى به فرائض كثيرة، فكذا الماء مثله، وهذا شرط من شرائط الصلاة، كالستر، سواء قلنا: الفرق بينهما أن العادة جرت أن الناس يصلون في ثوب واحد أيامًا، بخلاف الماء، وأيضا فإنه جامد، فلم يصر مختلطًا به، ولا مستعملا في شيء حقيقة، بخلاف الماء. قال المزني: واحتج بأن الخنزير أسوأ حالا من الكلب، فقاسه عليه، وقاس ما سوى ذلك من النجاسات على أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت أبي بكر في دم الحيضة، يصيب الثوب، أن تحته، ثم تقرصه بالماء، وتصلي فيه، ولم يوقت في ذلك سبعًا، قال القاضي حسين: أسار الحيوانات على نوعين، فإن كان الحيوان نجس

العين كالكلب والخنزير والمتولد منهما، أو من أحدهما، سؤر الكل نجس، فأما ما كان طاهر العين، فسؤره يكون طاهرًا يستوي فيه الآدمي وغيره من البهائم والسباع وغيره. فأما الهرة فسؤرها طاهر، فأما إذا أكلت نجاسة، ثم ولغت في ماء قليل في الحال حكم بنجاسة ذلك، ولو تحقق طاهرة فمها، ثم ولغت في الماء القليل لا يحكم بنجاسته فلو عادت، ثم عادت وولغت ينظر فإن لم يكن هناك ما يتوهم أنها ولغت فيه، وطهرت فمها فإنه يحكم بنجاسة ذلك الماء، ولو بقيت مدة يحتمل ورودها على ماء كثير بأن كان ماء كثير قريب من ذلك الموضع فوجهان: أحدهما: يحكم بطهارته لاحتمال ورودها على الماء الكثير. والثاني: لا يحكم لأنا تيقنا نجاسة فمها، وشككنا في الطهارة، فاجتمع فيه الأصل والظاهر، وكل مسألة اجتمع فيها الأصل والظاهر، فيه قولان للشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ما كان مأكول اللحم، فسؤره يكون طاهرًا، إلا سؤر الدجاجة، فإنه يكون مكروهًا لأنها تأكل العذرة، وما كان غير مأكول من الحيوان، فسؤره يكون نجسًا، وقال سؤر الحمار والبغل مشكوك فيه. قال المزني: واحتج في جواز الوضوء بفضل ما سوى الكلب والخنزير بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر: قال نعم، وبما أفضلت السباع كلها، وبحديث أبي قتادة رضي الله عنه في الهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس وبقوله عليه الصلاة والسلام إذا سقط الذباب في الطعام، فامقلوه، فدل على أنه ليس في الأحياء نجاسة إلا ما ذكرت من الكلب والخنزير. قال القاضي حسين: وقال سؤر الحمار والبغل مشكوك فيه، وأما الخيل عند محمد، فسؤرها طاهر، وعند أبي حنيفة، مشكوك فيه كالبغل، وسؤر سباع

الطيور مكروهة، وسؤر سباع البهائم نجسة، لأنها تأخذ الماء بمشفريها، وذلك لحم، وتتعدى النجاسة إلى الماء بخلاف سباع الطيور، فإنهن يأخذ الماء بالمخالب، وذلك عظم لا تتعدي النجاسة منهن إلى الماء، فيدل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل، أيتوضأ بما أفضلت الحمر، قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها. والدليل عليه حديث أبي قتادة في الهرة إلى قوله: إنها من الطوافين عليكم، وبقوله: إذا سقط الذباب في الطعام فامقلوه.

فدل أنه ليس سؤرهن بنجس إلا سؤال الكلب والخنزير، قال القاضي حسين: قوله: والذباب لا يؤكل لم يرد به أنه ليس مأكولا، إذ لا يشتبه ذلك على أحد، ولكن قصد به التعليل، وأنه غير مأكول، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقله في الطعام. دل على أن الحكم لا يدور على المأكول في طهارة السؤر ونجاسته، كما قال أبو حنيفة، بل الأمر على ما بيناه. وقوله: (وغمس الذباب في الإناء ليس يقتله). قال القاضي حسين: إنما قال ذلك مع أبي حنيفة، حيث أستدل به على أن ما ليس له نفس سائلة من الحيوانات إذا مات في طعام لا ينجسه عنده، ووجه الاستدلال له أنه أمر بالغمس فيه، فلو كان ينجسه إذا مات فيه لما أمر بذلك. فأما ألبان ما لا يؤكل لحمه لا لحرمته، فنجسة على ظاهر المذهب. والقياس أنها طاهرة كالعرق والريق، إلا أن الصحيح أنها نجسة، لأن اللبن مما يتغذى به، كاللحم سواء، وإنما يعفي عن العرق والريق وغيره لعموم البلوى به. وقال الإصطخري: لبن الأتان طاهر كعرقه. قال المزني: فإن مات ذباب أو خنفساء أو نحوهما في إناء، نجسه. وقال في موضع آخر، إن وقع الماء أو نحوهما في إناء، نجسه. وقال في موضع آخر: إن وقع في الماء الذي ينجسه مثله، إذا كان مما له نفس سائلة. قال المزني: هذا أولى بقول العلماء، وقوله معهم أولى به من انفراده عنهم، قال: وإن وقعت فيه جرادة ميتة، أو حوت، لم تنجسه، لأنهما مأكولان ميتين.

قال: ولعاب الدواب، وعرقها قياسًا على بني آدم. قال: وأيما إهاب ميتة دبغ بما يدبغ به العرب أو نحوه، فقد طهر، وحل بيعه، ويتوضأ فيه، إلا جلد كلب، أو خنزير، لأنهما نجسان، وهما حيان، ولا يطهر بالدباغ عظم، ولا صوف، ولا شعر، لأنه قبل الدباغ وبعده سواء. قال القاضي حسين: إذا مات في الماء القليل حيوان لا يخلو، إما أن يكون آدميا، أو غير آدمي، فإن كان آدميا، ففيه جوابان بناء على أن الآدمي، هل ينجس به، الماء. وقسم لا يؤكل لحمه، وهو قسمان: قسم له نفس سائلة إذا مات في الماء القليل ينجس الماء. وقسم ليس له نفس سائلة، وهو قسمان: منها ما يكون نشوءه في الطعام، كدود الباقي والخلي والتفاح ونحوه، فلا ينجس محل نشوئه إذا مات فيه للضرورة العامة، وإن أخرج من هذا المحل، ثم رد إليه، أو مات في غير محل نشوئه حكمه حكم ما ليس نشوءه في الطعام مثل الخنفساء والوزغ والعقرب وغيرها. وفيه قولان: في رواية محمد بن إسحاق بن خزيمة عن المزني: أنه ينجس بالموت. وفي رواية عدنان: لا ينجس. وقال أبو حامد قولا واحدًا: أنه ينجس بالموت، ولكن القولان في تنجس الماء به.

وقال القفال: القولان في أنه هل ينجس بالموت أم لا؟ إن قلنا: ينجس بالموت فينجس الماء به، وإلا فلا. فأما دود القز، فإنه طاهر في حال حيته، ويجوز لانتفاع به، ويجوز بيعه، والصلاة معه ثم إذا مات، هل ينجس بالموت أم لا؟ فيه قولان. فأما براز دود القز ورقه، هل يجوز بيعه والصلاة معه، إن قلنا: إذا مات لا ينجس، فيجوز ذلك، وإن قلنا: ينجس بالموت فلا يجوز، وإن قلنا: لا يجس بالموت، هل يجب غسل اليلح إذا مات فيه؟ إن قلنا ينجس بالموت، يجب غسله، وإلا فلا، فأما الهلب إذا خرز به خف لا تجوز الصلاة معه، فإذا غسل هل تجوز الصلاة معه؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى. والثاني: لا؛ لأنه لا يتصور غسل باطنه، فإن الماء لا يدخل تحت تلك الثقبة التي أصابها الهلب وفيه الخرز، فلا يتحقق طهارته، ثم ذكر الشافعي رحمه الله ما يطهر بالدباغ وما لا يطهر، وقد أطلنا الكلام فيه فيما تقدم فلا يفيد، والله أعلم بالصواب.

باب الماء الذي ينجس، والذي لا ينجس

باب الماء الذي ينجس، والذي لا ينجس قال الشافعي: أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير المخزومي، عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان الماء قلتين، لم يحمل نجسًا، أو قال: خبثًا. وروى الشافعي أن ابن جريج رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يحضر الشافعي [ذكره]: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان الماء قلتين، لم يحمل نجسًا، أو خبثًا، وقال في الحديث: بقلال هجر. قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر، فالقلة تسع قربتين، أو قربتين وشيئا، قال القاضي حسين: قد ذكرنا حكم الماء القليل، وهو ما يتقاصر عن قلتين، والكلام في هذا الباب في حكم الماء الكثير، والماء الكثير هو أن يبلغ قلتين. واختلف أصحابنا في قدر القلتين. منهم من قال: القلتان خمسمائة من؛ لأن القلة اسم لما يستقل به البعير، والبعير إنما يستقل بمائتين وخمسين منا. ومنهم من قال: القلتان ثلاثمائة من، لأن بعران العرب كانت صغارا لا تستقل بأكثر من وسق، وهو ستون صاعًا، فيكون مائة وستين منا، والقلتان ثلاثمائة وعشرون منا، فيذهب الوعاء والحبال عشرين منا، ويبقى الماء الخالص ثلاثمائة من. ومنهم من قال: وهو الصحيح إن القلتين مائتان وخمسون منا لما روي

عنه عليه السلام، أنه قال: إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر لم يحمل خبثًا أو نجسًا. قال ابن جريج: رأيت قلال (هجر) فكانت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئًا. قال الشافعي: الاحتياط أن يجعل الشيء نصفا، لأن العرب إذا ذكروا عددا أو شيئا، أرادوا بالشيء النصف، أو ما دونه، فتكون القلتان خمس قرب، كل قربة تكون خمسين منا، فجملتها مائتان وخمسون منا، وحده في الماء الكثير ذراع وربع في ذراع وربع طولا وعرضًا وعمقًا. واختلف أصحابنا في أن هذا القدر تحديد أم تقريب. فإن قلنا: إنه تحديد لو انتقص منه شيء، حكمه حكم القليل، وإن كان ما انتقض منه نصف من أو أقل منه، كما قلنا في نصاب الذهب والفضة، في باب الزكاة، لما كان ذلك القدر تحديدًا إذا انتقص منه شيء، قل أم كثر سقط الزكاة، وإن قلنا: أنه تقريب، فعلى هذا لو انتقص منه من أو منان أو ثلاثة لا يدخل في حد القلتين. واختلف أصحاب أبي حنيفة في حد الماء الكثير فسئل محمد بن الحسن عن ذلك، فقال: هو أن يبلغ مسجدي هذا، فذرع مسجده، فقيل: إنه ثمان في ثمان. وقيل: إنه عشر في عشر. وقيل: إنه خمس عشرة في خمس عشرة. وقيل: إنه عشرون في عشرين. ومنهم من قال: حد الماء الكثير هو أنه إذا حرك أحد جوانبه لا يتحرك الآخر.

ومنهم من قال: حده إذا وقعت النجاسة في الماء، فكل موضع تيقن وصول النجاسة فيه فيحكم بنجاسته، وإلا فلا، حتى إن البحر العظيم إذا وقعت فيه نجاسة، تنجس ما يلى موضع النجاسة ما يحتمل وصولها إليها، فأما ما لا يحتمل لا يحكم بنجاسته. دليلنا عليه قوله عليه السلام: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا). يعني: يدفع الخبث عن نفسه، كما يقال: فلان لا يحمل الضيم، يعني يدفع الضيم والظلم عن نفسه. فإن قيل: هذا مجمل لا يمكن الاستدلال به، لأن القلة اسم لأشياء كثيرة، فإنه يقال لرأس الحبل، قلة، ولقامة الإنسان قلة، وللكيزان الصغار قلة، ولما يستقله البعير قلة. فإذا كان هذا الاسم متشركا بين أشياء، فلا يجوز تخصيصه بشيء دون شيء، إلا بدليل. قلنا: القلة وإن كانت لأشياء، إلا أنه إذا ذكرت مقرونة باسم الماء، فإنه يعرف منه ويفهم ما ذكرنا. وكلام صاحب الشرع إذا أطلق، فإنه يحمل على ما والمعهود والمتعارف بين الناس، هذا كما قال عليه السلام: في العينين الدية. فإنه يحمل على عين الإنسان أعني الجارحة المخصوصة، حين ذكرها مقرونة باسم الدية، وإن كان اسم العين ينطلق على أشياء من عين الشمس، وعين الماء وغيرها.

كذا هذا مثله على أن ما ذكرتم لا يصلح أن يكون حدًا، لأن الحد ما يكون معلومًا، ويكون جامعًا مانعًا. وقولكم: بأن حده أن يكون عشرًا في عشر، فقد وجد منكم اضطراب متفاحش على ما حكيناه، ولئن قلتم: حده ما إذا حرك أحد جوانبه تحرك الجانب الآخر. هذا لا يكون جامعًا مانعًا، لأنه قد يختلف باختلاف حال المحرك، فإن المحرك لو كان قليلا، ربما يتحرك به الجانب الآخر، ولو كان عصفورا لا يتحرك به الجانب الآخر. ولئن قلتم: بأن ما يلي النجاسة من الماء يكون نجسًا، وما سواه طاهرًا، وهذا يؤدي إلى أن نحكم بأن البحر العظيم إذا وقعت فيه نجاسة أن يكون جميع مائة نجسًا بأن يصب نجاسة في كوز ماء، ثم يصيب الكوز في الحوض، فيصير الكل نجسًا، ثم يصب الحوض في الغدير، فيصير نجسًا، ثم يصب الغدير في الوادي، فيصير نجسًا، ثم يصب الوادي في البحر العظيم حتى لو وصل ماؤه إلى جميع البحر، فيصير الكل نجسًا فهذا فاسد جدًا. واحتج الشافعي: رحمه الله أيضا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها المحائض، ولحوم الكلام، وما ينجي الناس. فقال عليه السلام: خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه أو لونه أو رائحته. واختلفوا في إلقاء هذه النجاسات في بئر بضاعة. منهم من قال: كان أهل الجاهلية يلقونها فيها. وقيل: كان في الإسلام يفعلون ذلك مغايظة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: إن البئر كانت في وهدة من الأرض، وكان على فوهه مزلة تطرح فيها هذه النجاسات، فكانت تهب الريح وتلقيها فيها. واحتجوا بما روى عن ابن عباس أنه نزح زمزم من زنجي مات فيه. أجاب الشافعي عنه بأربعة أجوبة في سطرين: أحدهما: قال: إنا لا نعرفه، وزمزم عندنا، يعني مكة، ونحن أهل مكة فكيف بلغكم ذلك؟ فأشار إلى ضعف هذا الأثر. وقد روى عن سفيان أنه لم ينزح زمزم في الجاهلية، ولا في الإسلام. والثاني: قال: روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع لا يجنبن الماء والأرض والثوب والبدن، يعني: لا يضربك بحيث يجتنب عنهن، ثم قال: وهو لا يخالف النبي عليه السلام يعني الحديث المعروف. والثالث: قال: يحتمل أنه إنما نزح؛ لأن الدم قد ظهر عليه وغير لونه، أو جعله تظيفا لا واجبا، لأنه معد للشرب. وقيل: إنه ماء جار، فلا يتصور نزحه بوجه ما. قال المزني: قال الشافعي: فالاحتياط أن تكون القلتان خمس قرب. قال: وقرب الحجاز كبار، واحتج بأنه قيل: يا رسول الله، إنما تتوضأ من بئر بضاعة وهي تطرح فيها المحايض ولحوم الكلام، وما ينجي الناس، فقال: الماء لا ينجسه شيء، قال ومعنى لا ينجسه شيء، إذا كان كثيرًا لم يغيره النجس. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خلق الماء طهورًا، لا ينجسه شيء إلا ما غير ريحه أو طعمه. وقال فيما روى عن ابن عباس: أنه نزح زمزم من زنجي مات فيها: إنا لا

نعرفه، وزمزم عندنا، وروى عن ابن عباس أنه قال: أربع لا يخبثن فذكر الماء منها، وهو لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون الدم ظهر فيها، فنزحها، إن كان فعل أو تنظيفا، لا واجبًا. قال: وإذا كان الماء خمس قرب كبار من قرب الحجاز، فوقع فيه دم أي نجاسة كانت، فلم [تغير] طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، لم ينجس، وهو بحاله طاهر، لأن فيه خمس قرب، فصاعدًا، وهذا فرق ما بين الكثير الذي لا ينجسه إلا ما غيره وبين القليل الذي ينجسه ما لم يغيره، فإن وقعت ميتة في بئر، فغيرت طعمها، أو ريحها أو لونها، أخرجت الميتة ونزحت البئر، حتى يذهب تغيرها، فتطهر بذلك. قال: وإذا كان الماء أقل من خمس قرب، فخالطته نجاسة، ليست بفائحة نجسته، فإن صب عليه ماء، أو صب على ماء آخر، حتى يكون الماءان جميعًا، خمس قرب فصاعدًا، لم ينجس واحدٌ منهما صاحبه. [قال]: فإن فرقا بعد ذلك، لم ينجسا بعد ما طهرا إلا بنجاسة، تحدث فيهما. قال القاضي حسين: وهذا ركاكة في اللفظ، حيث قال: الماء إذا كان خمس قرب فلم ينجس بوقوع النجاسة فيه، إذا لم يغير طعمه أو لونه أو رائحته، لأنه خمس قرب، جعل صورة المسألة دليلا في المسألة، والشافعي لم يقل هكذا، وإنما قال: لأنه كثير، فجعل الكثرة حدا، أو علة ذلك. إذا ثبت هذا جملة المياة قسمان: راكد وجار. فالراكد إذا وقعت فيه نجاسة لا يخلو إما أن يكون دون القلتين، أو قلتين فصاعدًا. فإن كان دون القلتين، فلا يخلو إما أن تكون النجاسة ذائبة أو جامدة. فإن كانت ذائبة تنجس الماء، سواء تغير الماء به، أو لم يتغير، وإنما يصير طاهرًا بأمرين:

أحدهما: زوال التغير. والثاني: بلوغ القلتين، حتى لو صب فيه ماء أو نبع فيه ماء، ولم يبلغ قلتين لم يطهر، وإن زال تغيره، وكذا لو بلغ قلتين، ولم يزل التغير. فإما إذا بلغ قلتين، وزال التغير حينئذ يصير طاهرًا. فأما إذا كان أكثر من قلتين، فوقعت فيه نجاسة، فلا ينجس ما لم يغير أحد أوصافه الثلاث، فإذا غير أحد هذه الأوصاف يحكم بنجاسته، ثم إنما يظهر ذلك بأن زال تغيره، وهذا إنما يحصل بأن يصب فيه ماء آخر، أو نزح منه الماء، أو نبع فيه الماء، أو هبت عليه الرياح أو مرت عليه الايام، أو أشرقت عليه الشمس، أو نبت فيه العشب، أو الطحلب، فإذا زال تغيره بأحد هذه الأشياء يحكم بطهارته فأما إذا ألقي فيه شيء من الزعفران، أو الكافور، أو شيء له رائحة طيبة، فزال التغير به لا يعود طاهرًا، لأن هذه الأشياء تخفي اللون وتفشي الرائحة، ولا تزيل التغير، ولو ألقي فيه التراب حتى تغير لونه، فيه قولان: أحدهما: أنه كالزعفران، فإنه يغطيه ولا يزيل. والثاني: أنه كالماء؛ لأنه طهور كالماء، بخلاف الزعفران. فأما إذا كانت النجاسة مستجدة، ووقعت فيما دون القلتين ينجس الماء بها، سواء، تغير أحد أوصافه الثلاث، أو لم يتغير وقد ذكرناه. فأما إذا كان الماء قلتين فحسب. قال في الجديد: يكون نجسًا، ولا يسعه استعماله، ولا الاغتراف منه، لأنه يلزمه أن يتباعد عن النجاسة بقدر قلتين، وهذا لا يتصور في القلتين، حتى لو صب فيه الماء، بحيث إنه بلغ مبلغا يمكنه أن يرفع الماء، وبينه وبين النجاسة قلتان، جاز. وقال في القديم: إنها كالنجاسة الذائبة، حتى أنه يجوز أن يغرف منه، ويستعمله إذا لم يكن متغيرا من أي موضع شاء، وهذا القول أصح في هذه

المسألة؛ لأنا لو أخذنا بقوله الجديد، فنوجب أن البحر إذا وقعت فيه نجاسة جامدة أن يكم بنجاسة جميع ماء البحر، لأن الماء الذي يجنب النجاسة نجس، وذاك متصل بما يليه، وكل جزء منه يتصل بالآخر إلى آخر البحر، وهذا لا يقول به أحد. فرع: إذا وقعت نجاسة في بئر فيه ماء قدر قلتين، ثم استقى منها الماء بالدلو على قوله القديم، فلا يخلو إما أن دخلت النجاسة أولا في الدلو، أو دخل الماء أولا فيه. فإن دخل الماء فيه أولا، فلا يخلو الماء إما أن يدخل فيه الماء دفعة واحدة، أو دفعات، فإن دخل فيه الماء دفعة واحدة أولا، دون النجاسة فباطن الدلو والماء الذي فيه طاهر، وظاهره وما في البئر نجس، وإن دخل فيه الماء بدفعات فالكل نجس نعني ظاهر الدلو وباطنه وما في البئر. فأما إذا دخلت النجاسة أولا في الدلو، فلا يخلو، إما أن دخلت النجاسة اولا، ثم الماء أو دخلا معا، أو دخل الماء أولا، ثم النجاسة، فإن دخلت النجاسة أولا، ثم الماء، او دخلا معا، فما في الدلو نجس، وظاهر الدلو وما في البئر طاهر، فإن تقاطر منه شيء في البئر يصير الكل نجسًا. فأما إذا دخل الماء أولا في الدلو، ثم النجاسة فظاهر الدلو وباطنه، وما في البئر نجس. فلو ابتل الحبل، حتى سقط الدلو في هذه المسائل عاد الكل طاهرًا، لأن المائين صارا ماء واحدا، ودخلا في حد الكثرة وفي كل موضع حكمنا بنجاسة ماء البئر، فإنما يطهر إذا زال عنه التغيير، إذا كان الماء أكثر من قلتين. وإن كان دون قلتين فأمره بين على ما ذكرنا. فأما إذا كان أكثر من قلتين، ولم يزل تغييره حتى نزح الماء، أي ماء البئر

كله يجب غسل البئر، وإنما يمكن غسلها بأن يصب فيها الماء، حتى بلغ قلتين، أو ينبع فيها الماء، ويبلغ قلتين، ويرش على جوانبه الماء، ويغسل منه ما أصابه من الماء النجس إن تصور ذلك. فأما إذا كان الماء أكثر من قلتين، فنزح بعضه، وزال التغير، فلا يخلو إما أن بقي قلتان، أو أقل من ذلك، فإن بقي قلتان صار طاهرًا، وإن كان دونه، فلا يعود طاهرًا ما لم يصب فيه الماء حتى يبلغ قلتين، أو ينبغ فيه ماء حتى يبلغ ذلك. وقال أبو حنيفة / لو وقع ذنب فأرة في بئر ينزح ماء البئر كله، ولو وقعت فيها فأرة، أو ما في جرم الفأرة ينزح منها عشرون دلوًا، ولو وقعت فيها حمامة، أو ما في جرمها نزحت منها أربعون دلوًا مع الميتة. ولو وقعت فيها شاة، وما في جرمها ينزح منها ستون دلوًا. ولو وقعت فيها بقرة، أو حمارة، أو آدمي ينزح ماء البئر كله. فأما إذا كان الماء أكثر من قلتين، فعلى قوله القديم: إذا وقعت فيها، ولم تتغير أحد أوصافه الثلاثة، يكون الكل طاهرًا، وله أن يغترف منه من أي موضع شاء. وعلى قوله الجديد: ينبغي أن يكون بينه وبين موضع النجاسة قدر قلتين من الماء، فلو كان دون ذلك لا يجوز له الاغتراف منه. قال القفال: أصحابنا لم يذكروا في كيفية اعتبار القلتين حدا، وقالوا: لو كان في بحر عظيم، وتباعد عن النجاسة قدر نصف ظفر واغترف منه يجوز، لأنه في العمق قد بلغ قلالاً كثيرة. وعندي: يجب أن يكون موضع النجاسة والاغترف منه قدر قلتين على استواء الأضلاع الطول والعرض والعمق، إن كان مساوي الأضلاع، فأما إذا كان متفاوت الأضلاع فلا يجوز، وينبغي أن يكون على أصله بينه وبين الماء قلتان،

طولا وعرضًا وعمقًا، وهو أن يكون ذراعًا وربعًا عرضًا، في عمق ذراع وربع، إن كان له عرض، وإن لم يكن فيعتبر الطول والعمق. فأما إذا تباعد عنه بقدر قلتين من جهة من الجهات الثلاثة، دون الباقي فلا، إذ لو جاز ذلك لجاز في البحر العظيم، إذا تباعد عن النجاسة قدر نصف ظفر أن يغترف منه، لأنه في العمق قد بلغ قلالا لا يعلمها إلا الله تعالى وعلى هذا القول الماء الممتد على وجه الأرض في الصحراء إذا كان ما تحته كله نجسًا من مرابض الغنم ونحوه، فأخذ منه الماء بالكوز، فلا يجوز أخذه ما لم يبلغ من جرم الكوز إلى النجاسة قدر قلتين عمقًا وطولاً. فأما إذا كان أقل من ذلك، فإنه لا يجوز هذا كله، إذا كان الماء راكدًا، فأما إذا كان الماء جاريًا، فلا يخلو إما أن كانت النجاسة ذائبة، أو لم تكن فإن كانت ذائبة، فهي تجري مع الماء لا محالة، فالجرية التي فيها النجاسة نجسة، وما قبلها، وما بعدها، وما حواليها طاهر. فإن كانت النجاسة بولا يعلو زبدها الماء، فحكمها حكم النجاسة الجامدة، وذلك لا يخلو، إما أن يجري مجرى الماء، أم لا؟ فإن كان يجري مع الماء فما قبلها، وما بعدها طاهر، وما حواليها على قوله القديم: طاهر. وعلى قوله الجديد: إن بلغ قلتين، طاهر، وإن كان دونه نجس. فأما إذا كانت واقفة والماء يجري عليها، فإن لم يتراد الماء عنها، فما فوقها طاهر، وما دونها إن اجتمع في موضع قدر قلتين، فهو طاهر يجوز أن يأخذ منه، وإن لم يجتمع في موضع قدر قلتين، وكان تجري على سمت النهر ممتدًا، فإن لم يتباعد الماء عنه بقدر قلتين، فهو نجس، وإن تباعد منه بقدر قلتين، فوجهان: أحدهما: هو نجس أيضًا، لأن لكل جرية حكمًا على حدة، وبأن انتقل من موضع إلى موضع لا تنعدم النجاسة.

والثاني: هو طاهر، لأنه تباعد عن النجاسة، وبلغ قلتين فصار كما لو اجتمع في موضع هذا المقدار، ونظيره ما لو نقب جدار إنسان في شارع الطريق فانثالت الحنطة منه قدرًا يبلغ قيمتها نصابًا، فهل يجب عليه القطع؟ فعلى وجهين: فأما إذا كان يتراد الماء عنه، فحكم ما فوقها حكم ما تحتها، وقد ذكرنا حكمه، والله أعلم بالصواب. فرع: لو اتخذ خليجًا من نهر كبير إلى ساقية يجري الماء فيها، ويخرج من جانب آخر، فحكم الخليلج والساقية حكم ماء النهر، وحكم الكل حكم الماء الجاري فأما إذا اتخذ خليجًا من نهر كبير إلى حوض، أو إلى غدير، وكان الماء ينصب فيه، ويستقر فيه، فحكم الخليلج حكم الماء الجاري، وحكم الحوض حكم الماء الراكد. فلو أنه امتلأ الحوض واستوى ماؤه بماء النهر، حكم ماء الخليج والحوض حكم الماء الراكد. وكذا لو اتخذ على شط البحر غديرًا يدخل فيه بعض ماء البحر، ويصفو فيه، حكمه الحكم الماء الراكد، وإن كان متصلا بالبحر. فأما إذا اتخذ حوض، على سمت نهر كبير يدخل الماء فيه، ويخرج من جانب آخر وكان على سمت النهر، فحكمه حكم الماء الجاري. فأما إذا كان على غير سمت النهر، بأن اتخذ ساقية من النهر إليه، ويدخل فيه الماء، ويخرج من موضع آخر، ينظر فإن كان الماء يخرج منه سريعًا، ولا يقف فيه، ثم يخرج بأن كان المخرج على الجانب الذي فيه المدخل، وكان الماء يدخل فيه، ويضرب على الجانب الذي بحذائه، ثم ترتد عنه إلى المخرج، ويخرج فإن حكم الحوض حكم الماء الراكد، وحكم الساقية حكم النهر.

فأما إذا كان المخرج بحذاء المدخل، الظاهر أن حكمه حكم الماء الجاري. فأما إذا كان في موضع ماء بلغ قلتين، إلا رطلا، وكان طاهرًا فغمست فيه قرقارة فيها رطل ماء نجس، وفيه وجهان: أحدهما: يطهر ماء القرقاوى، ولا ينجس ماء الحوض، لأنهما ماءان بلغا قلتين، ثم فرقا في إناءين. والثاني: لا يطهر ماء القرقارة، لأنه لم تختلط بماء الحوض، بدليل أنه لو كان الماء الذي فيه حارًا يبقى حارًا، ولو كان باردًا يبقى كذلك، فعلى هذا ينجس ماء الحوض، وعلى عكسه لو كان ماء الحوض بلغ قلتين، وإلا رطلا، وكان نجسًا، فغمست فيه قرقارة فيها رطل ماء طاهر، فيه وجهان: أحدهما: يطهر ماء الحوض، لأنهما ماءان بلغا قلتين، وإن لم يكن متغيرًا، ثم فرقا في موضعين. والثاني: لا يطهر ماء الحوض، ولا ينجس ماء الكوز لعدم الاختلاط بينهما على ما ذكرنا. وفي هذه الصورة لو صب فيه رطل بول لا يعود طاهرًا، لأنه لم يبلغ الماء قلتين لأن البول ليس بماء. فعلى هذا إذا لم يكن متغيرًا، ولو صب فيه رطل من ماء الورد، وأيضا لا يعود طاهرًا كالبول، لأن ماء الورد لا يصير طهورا بالكثرة، فإنه لو بلغ قلالا لا يعود طهورا، كالبول سواء، ولو صب فيه رطل من الماء المستعمل، هل يعود الكل طاهرًا أم لا؟ هذا ينبني على أن الماء المستعمل إذا اجتمع حتى بلغ قلتين، هل يصير طهورًا أم لا؟ إن قلنا: يصير طهورًا، فيطهر جميع الماء، كما لو صب فيه رطل ماء نجس، أو طاهر، وإلا فحكمه حكم ماء الورد.

فأما إذا كان الماء أقل من قلتين، ووقعت فيه نجاسة، وصب عليه ماء طاهر أو نجس حتى يصير الماءان معا قلتين، ولم يكونا متغيرين يعود الكل طاهرا، حتى لو فرق في إنائين لم ينجسا، إلا بنجاسة تحدث فيهما، هذا إذا كانت النجاسة ذائبة. فأما إذا كانت جامدة، فإذا خرجا من موضع، وبلغا قلتين، على المذهب القديم، عاد طاهرا. وعلى المذهب الجديد، لم يعد طاهرًا، فلو فرقا في إناءين دفعة واحدة، فما بقي فيه الناجسة صار نجسًا على القولين، وما لم تكن فيه نجاسة بقي طاهرا على قوله، القديم. وعلى قوله الجديد: عاد نجسًا، وإن فرقا في إناءين بدفعات عاد الكل نجسا، قال المزني: وإن وقع في الماء القليل ما لا يختلط به، مثل العنبر، أو العود، أو الدهن الطيب، فلا بأس به، لأنه ليس [مخلوطًا] به. قال القاضي حسين: فإنه لا يمنع جواز التوضؤ، وإن غلب على أحد أوصافه، لأن ذلك بالمجاورة، وجعل كما لو تريح الماء بالجيفة الملقاة على شط البحر، وإن كان مما يختلط به مثل الزعفران وغيره يفترق فيه الحكم بين القلة والكثرة، وقد استقصينا القول فيه في أول الكتاب فلا نعد، والله أعلم بالصواب. قال المزني: وإذا كان معه في السفر إناءان يستيقن أن أحدهما قد نجس، والآخر [ليس] ينجس تأخي، وأراق النجس على الأغلب عنده، وتوضأ بالطاهر لأن الطهارة تمكن والماء على أصله طاهر. قال القاضي حسين: إذا كان معه أواني بعضها طاهر، وبعضها نجس، واشتبه عليه ذلك، فإنه يتحرى ويستعمل أحدها بالتحرى، لأن هذا شرط من شرائط

الصلاة، فيجوز الاجتهاد فيه عند الاشتباه، كالقبلة، وسواء عندنا أن يكون عدد الطاهر أقل، أو أكثر، أو هما سواء. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا إذا كان عدد الطاهر أكثر، ووافقنا في الثياب فنقول: ما جاز التحرى فيه عند الاشتباه إذا كان عدد الطاهر أكثر جاز، وإن كان عدد الطاهر أقل، دليله الثياب، وهل يحتاج في التحرى إلى ضرب من الدليل أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكفيه غلبة الظن؛ لأن الأصل أن الماء على الطهارة، وعليه يدل النص، لأنه قال: أراق النجس على الأغلب عنده. والثاني: لابد في التحرى من ضرب من الدليل، كما في سائر المتجهدات من القبلة، واجتهاد، واجتهاد القاضي في القضاء وغيره. والدليل مثل: إن رأي أحدهما قد انكشف عن الغطاء، أو رأي بللا على شفة أحدهما، ورأي أحدهما يتحرك فيه الماء، أو رأي رجل الكلب أقرب إلى أحدهما: وأبعد من الآخر، ويشم من أحدهما رائحة كريهة. فإن قيل: أليس أن في باب القبلة لا يجوز الاجتهاد بغلبة الظن، وها هنا قلتم، بأنه يجوز في وجه، فما الفرق بينهما؟ قلنا: الفرق بينها أن جهة القبلة مشاهدة معاينة يمكن معرفتها حقيقة ويقينا، إذا أنعم النظر والاجتهاد فيها، فلهذا لا نكتفي فيه بمجرد غلبة الظن، حين لم يتعذر عليه معرفتها بالدليل، أما طهارة الماء ليس بشيء مشاهد يمكن معرفته قطعًا ويقينا. وقلنا: بأنه يكتفي فيه بلغبة الظن، تيسيرا عليه.

إذا ثبت هذا ينظر، فإن لم يتبين له الطاهر من النجس بالاجتهاد، والتحرى، وغلبة الظن، فله أن يتيمم، ويصلي ولكن تلزمه الإعادة، لأن معه ماء طاهرًا بيقين، ولكن الحيلة فيه أن يصب أحدهما، أو يريق أحدهما في الآخر، حتى لا تلزمه الإعادة، بخلاف ما إذا كان معه ماء طاهر متين الطهارة بيقين، فأراقه بعد دخول وقت الصلاة، حيث يلزمه إعادة الصلاة في وجه، لأن هناك هو غير محتاج إلى إراقته، وها هنا يحتاج إلى إراقته، تحرزًا عن استعمال الماء النجس. فأما إذا ظهر له الطاهر من النجس بالتحرى يلزمه استعماله، ولا يجوز له التيمم، ولو توضأ وصلي، ثم أحدث، ودخل عليه وقت صلاة أخرى، يلزمه التحرى فيه ثانيًا، كما في وجه القبلة، ثم ينظر فإن بقي من الماء الأول شيء وأدي اجتهاده إليه توضأ به، ويصلي كما فعل في الابتداء، وإن تيقن نجاسته بأن وجد في أسفل الإناء بعرة، أو أخبر به عدل أو ما أشبه ذلك، يلزمه ان يتوضأ بالثاني، ويغسل من بدنه وثوبه ما يصل إليه من الماء الأول، ويعيد ما صلى بذلك الوضوء، وإن أدي اجتهاده إلى الماء الذي في الإناء الآخر، ولم يعلم قط ما طهارته، فإنه لا يستعمله، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، بل يريق أحدهما، أو يصب أحدهما في الآخر، ويتيمم، ولا يعيد الصلاة. فأما إذا ترك الإناءين على حالهما، وتيمم، وصلي، فإن كان في الأول من الماء قدر ما يتمكن ان يتوضأ به يلزمه إعادة الصلوات ما دام ذلك معه، وإن كان بقي فيه قدر ما لا يكفي لأعضاء طهارته، فهذا ينبني على أنه لو وجد ذلك القدر من الماء المتيقن طهارته، هل يلزمه استعماله أم لا. إن قلنا: يلزمه استعماله، فها هنا ما دام ذلك القدر معه تلزمه إعادة الصلوات.

وإن قلنا: لا يلزمه استعماله، جعل كما لو صبه، ولا يلزمه إعادة الصلوات. فإن قيل: أليس إنه إذا اجتهد في القبلة، فأدى اجتهاده إلى جهة، فصلى لها، ثم أدي اجتهاده في الصلاة الثانية إلى جهة أخرى، فإنه يصلي إلى الجهة الثانية، وفيه نقض الاجتهاد. قلنا: ليس هذا كالقبلة، لأن الصلوات تجوز من غير جهة القبلة في الجملة، أما لعذر المسابقة أو السفر وغيره فيجوز أن يؤمر له بالصلاة إلى تلك الجهة. أما الصلاة بالماء النجس قط لا تجوز في حال من الأحوال، فلهذا لم يؤمر بذلك ثانيًا. وأما إذا كان معه إناءان: أحدهما طاهر، والآخر نجس، واشتبه عليه ذلك. ومعه إناء آخر طاهر بيقين هل يجوز له التحري في الإناءين، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز للقاضي أن يقضي في الحادثة بالاجتهاد مع وجود النص. والثاني: يجوز، والفرق بينهما أن هناك وجد النص في محل الاجتهاد، وهي الحادثة، فقلنا: بأنه لا يجوز الحكم به، وها هنا لم يوجد النص في محل الاجتهاد، ولأن أحدهما ممتاز عن الآخر صورة ومحلا، فقلنا: بأنه جائز. فإما إذا كان معه إناءان: أحدهما ماء، والآخر بول، واشتبه عليه ذلك، هل يجوز له التحرى فيه أم لا؟ إن قلنا: بأنه يستعمل بغلبة الظن، ها هنا لا يجوز. وإن قلنا: انه يستعمل بالدليل، ها هنا وجهان: أحدهما: يجوز. والثاني: لا يجوز، لأن البول ليس له أصل في الطهارة يمكنه رده إليه بالتحري بخلاف الماء، لأن أصله على الطهارة، فيمكنه رده إليه بالتحري، إذا شك في طهارته، ويتسمك فيه بالأصل.

فأما إذا كان معه إناءان: أحدهما ماء، والآخر ماء الورد، هذا ينبني على أنه إذا كان معه إناءان: أحدهما طاهر، والاخر نجس، وشك فيهما، ومعه إناء متيقن الطهارة، فهل له التحرى فيه أم لا؟ إن قلنا: إن هناك لا يجوز له التحري فيهما، فها هنا مثله، ويستعمل أحدهما، ثم الثاني على الترتيب. وإن قلنا: يجوز له التحري فيه، ها هنا ينظر، إن قلنا: إنه يستعمل الماء بغلبة الظن، ها هنا لا يجوز له التحري فيه، بل يستعمل كليهما. فإن قيل: إذا قلتم، فيستعمل كليهما، فإنه لا يدري أن طهارته من الماءين بماذا تحصل يقينا، ويقين الطهارة شرط لصحة الصلاة، إذ النية شرط شرط في الطهارة، فما لم يتيقن طهارة الماء لا يمكنه أن يجزم النية فيه. قلنا: مثله يجوز عند الاشتباه والضرورة، كما لو نسي صلاة من خمس صلوات، فإنه يصلي خمس صلوات، ويحتاج في كل واحدة منها إلى نية الفرض، وإن لم يمكنه جزم النية في الكل، فجوزناه هكذا هذا. فأما إذا كان معه إناءان من ألبان النعم، أحدهما طاهر، والاخر نجس، أو إناءان من خل ودهن وغيره من المائعات، واشتبه عليه ذلك لا يجوز له التحري فيه، كما قلنا في الإناءين من الماء. فأما إذا كان أحدهما لبن النعم، والآخر لبن ما لا يؤكل لحمه، أو كان أحدهما خلا، والآخر خمرا حكمه حكم الإنائين، أحدهما ماء، والآخر بول واشتبه عليه ذلك. فأما إذا كان له دنان من خل وخمر في بيت، فدخل البيت في ليلة ظلماء، وكان معه إناء صغير يغمسه في أحدها، ويأخذ منه قدرا، ويصبه في موضع آخر، ثم يغمس ذلك الإناء في الاخر، ويأخذ منه قدرًا، ويصبه في ذلك الموضع، ثم اشتبه عليه الدنان، واجتهد فيهما، فإن أدى اجتهاده إلى أن ما أخذ منه أولا طاهر، والآخر نجس، وإن أدى اجتهاده إلى أن الطاهر الذي أخذ

منه ثانيًا، فالأول والثاني نجسان، لأنه إذا دخل الإناء في الدن الأول صار نجسًا بزعمه، فإذا أدخله في الثاني تنجس به، فيصير الكل نجسًا. فأما إذا كان معه شاتان مسلوختان، اشتبه عليه المذكاة منهما في الميتةـ، الصحيح: أنه لا يجوز له التحري فيهما، لأن الأصل في الميتات الحرمة، وبالشك لا يجوز استباحتها، بخلاف الماء، فإن الأصل في المياه الإباحية، فإذا وقع فيه الشك تمسك بما هو الأصل فيه بالاجتهاد، وزانه أن لو تحقق أن كل واحدة منهما مذكاة، إلا أن إحداهما مسمومة، والأخرى غير مسمومة، واشتبه عليه المسموم منهما، فإنه يجوز له التحري فيه كالماء سوى. فأما إذا اشتبه عليه غنيمة بين أغنام الناس، أو رحله بين رحال الناس، أو برج حمامه بين حمامات الناس، فإنه يجوز له التحري في هذه المواضع كلها. فأما إذا وجد فلذة لحم ملقاة في الطريق، ولم يكن ملفوفًا بخرقة، ولا بشيء، فالظاهر أنها تكون ميتة، وإنما وقعت في فم طائر، أو غيره ويكون حرامًا، فأما إذا وجده في مكتحل أو خرقة، وما أشبه ذلك فالظاهر أنها مذكاة، ويكون مباحًا، إلا إذا كان في تلك البلدة مجوس ومسلمون، فاختلط البعض بالبعض، فحينئذ الظاهر أنه لا يباح له تناوله. فأما إذا اشتبه امرأته فيما بين جماعة من النسوة لا يجوز له التحرى فيه، لأن الأصل في الفروج التحريم، ولا يجوز استباحتها بالاجتهاد، وعند الشك، ولأنه لا ضرورة له إلى ذلك، لأنه يمكنه أن يعقد على واحدة منهن عقد النكاح، فأما إذا اشتبه عليه واحدة من محارمه بين جماعة من النساء، أو اختلط محارمه بنساء بلدة بعينها ينظر فإن كان نساء تلك البلدة محصورات معدودات لا يجوز له التزوج بواحدة منهن بالاجتهاد، لأن ذلك قد وقع نادرًا، ويمكنه الانتقال إلى غيرهن، فأما إذا كان نساء تلك البلدة غير محصورات، فيجوز له التزوج بواحدة بامرأة غريبة منهم، فيجوز ذلك لأجل الضرورة، والله أعلم.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين. قال الشافعي: أخبرنا الثقفي، يعني عبد الوهاب، عن المهاجر أبي مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، وإذا تطهر، ولبس خفيه فله أن يمسح عليهما، قال: وإذا تطهر الرجل المقيم؛ بغسل، أو وضوء، ثم أدخل رجليه الخفين، وهما طاهرتان، ثم أحدث، فإنه يمسح عليهما من وقت ما أحدث يومًا وليلة، وذلك إلى الوقت الذي أحدث فيه، فإن كان مسافرًا، مسح ثلاثة أيام ولياليهن إلى الوقت الذي أحدث فيه. المسح على الخفين جائز عندنا، وعندنا عامة العلماء، إلا ما حكي عن الشيعة

أنهم قالوا: لا يجوز، وهو مذهب علي كرم الله وجهه. واستدلوا عليه بما روي عن علي أنه قال: لا أبالي أأمسح على خفي أو على ظهر بعيري؟!

.............

قلنا: هذا محمول على ما إذا مسح عليه بعد انقضاء المدة، أو على غير كمال الطهارة بدليل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة إذا تطهر، فلبس خفيه أن يمسح عليهما. وحديث صفوان بن عسال دليل عليه أيضًا. والمعنى فيه أن الناس يضطرون إلى لبس الخف حضرًا، وسفرًا، وقد جرت

عادتهم باستدامته، وتلحقهم المشقة العظيمة في نزعه، فرخص لهم المسح عليه، كما رخص لهم الفطر والقصر وسائر أنواع الرخص، فإذا ثبت هذا نقول: إنما يجوز المسح على الخفين إذا تطهر، ثم لبس الخفين على كمال الطهارة، ثم إن كان مقيمًا له أن يمسح عليهما يومًا وليلة، وإن كان مسافرًا ثلاثة أيام ولياليهن، ويحتسب ابتداء المدة عندنا من وقت الحدث، حتى لو

توضأ، ولبس الخفين، وصلي بذلك يومًا أو أكثر منه، ثم أحدث يجوز له أن يمسح عليه، وبيتدئ مدة المسح من هذا الوقت، وعلى عكسه لو أحدث، ولم يتوضأ حتى مضى يوم وليلة في الحضر، وثلاثة أيام ولياليهن في السفر، فقد تم مدة المسح، وليس له المس عليه، بل يجب عليه نزع الخف. وقال أحمد: الاعتبار بفعل المسح حتى لو أحدث ولم يمسح ولم يصل، ومضت أيام كثيرة، ثم مسح عليهما يحتسب ابتداء المدة من وقت المسح. دليلنا عليه أنه إذا أحدث فقد دخل وقت جواز الرخصة، وهو المسح، فإذا انقضت من ذلك الوقت مدة المقيم، أو المسافر وجب أن يرفع حكمه، لأن العبادات يدخل وقتها بدخول الزمان، ويفوت بفوات الزمان، وإن لم يوجد فعل العبادة، كما في الصوم والصلاة وكذا عبادة المسح مثله. وعندنا: أقصى ما يجوز الصلاة بالمسح على حكم لبس واحد في الحضر ست صلوات، ويصور كأنه أحدث في آخر وقت الظهر، ويتوضأ، ويمسح عليهما، فيصلي الظهر، ثم العصر، ثم المغرب والعشاء والصبح لمواقيتها، ثم الظهر في أول وقتها في اليوم الثاني، فإن جمع الصلاتين لعذر المطر، فيكون سبع صلوات. وفي السفر أقصى ما تتأدى به ست عشرة صلاة، وإذا جمع سبع عشرة على هذا القياس. قال المزني: وإذا جاوز المقدار، فقد انقطع المسح، فإن توضأ، ومسح وصلى بعد ذهاب وقت المسح، أعاد غسل رجليه والصلاة. قال القاضي حسين: قد ذكرنا مدة المسح والوقت الذي تنعقد فيه مدة المسح، فإذا مضت المدة التي ذكرناها، فقد انقطع حكم المسح، ولا يجوز له أن يصلي بما مسح في المدة، ولا بمسح جديد ينشئه، كما لو نزع الخفين في المدة، أو بعد انقضائها، ويلزمه غسل الرجلين، وفي وجوب استئناف الوضوء، قولان، وسيأتي ذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى.

قال المزني: ولو مسح في الحضر، ثم سافر مسح مسح مقيم، ولو مسح مسافرًا، ثم أقام، مسح مسح مقيم. قال القاضي حسين: إذا اشترك الحضر والسفر في لبس الخف، ففيه مسائل: إحداها: أنه يتوضأ في الحضر، ولبس الخف، ثم سافر، وأحدث، له أن يمسح مسح المسافرين، بلا خلاف. فأما إذا أحدث في الحضر وسافر قبل المسح فإنه يمسح مسح المسافرين. وقال المزني: يمسح مسح المقيمين، وجعل دخول وقت العبادة كوجودها حقيقة. قلنا: الزمان لا يراد لعينه، فلم يتعلق به حكم اشتراك الحضر والسفر، وإنما المقصود فعل العبادة، ولم يشترك فيه الحضر والسفر. وعند المزني: لو أنشأ السفر بعد دخول الوقت، وقبل فعل الصلاة لا يجوز له القصر، وما ذكرناه دليل عليه في المسألتين. فأما إذا أحدث في الحضر، وتوضأ، ثم سافر، أو مسح على أحد الخفين، ثم سافر، ومسح على الخف الآخر، له أن يمسح مسح المسافر، والحد فيه أنه مهما سافر قبل أن أكمل مسحًا في الحضر بعد لبس الخفين على الطهارة، ثم توضأ، ومسح عليه، ثم سافر، فإنه يمسح مسح المقيمين عندنا. وقال أبو حنيفة: يمسح مسح المسافرين، وقاسه على ما إذا سافر، ومسح في السفر، ثم أقام، فإنه يمسح مسح المقيمين اعتبارًا بالانتهاء كذا هذا مثله. دليلنا عليه عبادة منعقدة اجتمع فيها حكم الحضر والسفر، فغلب الحضر فيها على السفر. دليله الصلاة، فإنه لو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر بأن كان في سفينة سارت السفينة، أو افتتح الصلاة في السفينة، فصار مقيمًا بأن اتصلت السفينة بالبلد، وكذا إذا أصبح في يوم من رمضان صائمًا، ثم سافر لا يباح له الإفطار

تغليبًا للحضر على السفر، كذا ها هنا مثله، بخلاف ما ذكرنا من المسائل قبلها، لأن هناك لا تنعقد قربة المسح مسحًا في الحضر، وزانه أنه لو نوى الصوم، ثم سافر قبل طلوع الفجر، وها هنا بعكسه على ما بنا. فأما إذا كان مسافرًا، أو أحدث، ومسح عليهما، ثم أقام فإنه يمسح مسح المقيمين، لما ذكرنا من المقيمين ثم ينظر فإن لم تمض مدة مسح المقيم، له أن يمسح عليهما إلى انقضاء تلك المدة، وإن مضت تلك وزادت على يوم وليلة من وقت الحدث، أو لم تزد ثم أقام ليس له المسح عليهما، وعليه نزعهما، وغسل الرجلين، وقال المزني: كل يوم وليلة في السفر مقابل بثلث يوم في الحضر، فعلى هذا إن مضى يوم وليلة في السفر بعد الحدث، فله أن يمسح عليها بعد الإقامة ثلثي يوم وليلة، وإن كان قد مضت يومان وليلتان في السفر، مسح في الإقامة ثلث يوم وليلة، وهذا لا يصح، لأنه لو ابتدأ المسح في الحضر لا تستعمل هذه المقابلة، ولا نقول: مضى في الحضر ثلث يوم، يجوز له إذا سافر أن يمسح يومين، وإن مضى في الحضر ثلاثة أيام يجوز له إذا سافر أن يمسح يومًا، فكذلك فيما نحن فيه، وجب أن يكون مثله. فأما إذا شك في أنه، هل ابتدأ المسح في الحضر، أو في السفر، وهو مسافر فإنه يمسح مسح المقيمين أخذا باليقين، كما لو شك في انقضاء مدة المسح يلزمه نزع الخف احتياطًا، وإن كان الظاهر أن المدة لم تنقض، وأنه مسح وهو مسافر، وقال صاحب التلخيص، الأصل أن كل ما تمهد، وتقرر في الشريعة، فالأصل بقاؤه، ولا يجوز تركه، والنزول عنه بالشك، إلا في مسائل وذكر هاتين المسألتين من جملتها. وأيضا قال في المستحاضة: إذا شكت في خلال الصلاة في انقطاع دمها لا يجوز لها إتماما الصلاة، والأصل سيلان الدم بها، وكذا إذا صلى في ليلة ظلماء في السفر، فدخل بلدة لم يدر أنها بلدة الإقامة ام لا، لا يباح له القصر، وإن

كان الأصل أنه مسافر، وكذا لو دخل بلدة، ثم شك في أنه، هل نوي الإقامة فيها أم لا، فلا يباح له الترخص برخص المسافرين، وإن كان الأصل أنه لم ينو الإقامة، وكذا لو شك في يوم الجمعة، انه هل انقضي وقت الظهر أم لا؟ فلا يجوز له أن يتم الصلاة جمعة، بل يلزمه إتمامها ظهرًا، والأصل بقاء الوقت، فيترك الأصل بالشك في هذه المسائل. قلنا: نحن ما تركنا الأصل بالشك ألبتة في هذه المسائل ولكن قلنا في باب المسح: الأصل غسل الرجلين عليه، وفي باب الصلاة الأصل اشتغال ذمته بها، ووجوب الظهر عليه أربعًا، إلا أنه جوز له، ورخص له في تركها عند استجماع شرائط، ووجود أسباب، فإذا وجد الشك منه في وجود سبب الرخصة، فالأصل أنه لم يوجد ذلك، فتركنا الرخصة بالأصل، وتمسكنا بالقين، لا أن نترك الأصل بالشك. إذا ثبت هذا نقول: لو انه شك في الحضر، أو في السفر قد ذكرنا أنه يأخذ باليقين، ويقتصر على مسح المقيمين، فإن لم يفعل، وصلي في اليوم الثاني بحكم هذا المسح، ثم ظهر له في اليوم الثالث حقيقة الحال بأنه مسح على الخفين في السفر، أعاد ما مضى في اليوم الثاني على الشك، وله أن يمسح في اليوم الثالث إلى تمام مدة مسح المسافرين، من اليوم الأول، ثم ينظر، فإن كان قد مسح في زمان الشك أعاد المسح، وإن كان على مسحه في اليوم الأول لو تصور ذلك اكتفي به كما لو شك في خلال الصلاة أنه هل نوى القصر أم لا؟ ثم ذكر أنه نواه يلزمه الإتمام، وجعل كما لو بقي على الشك، لأن الصلاة عبادة واحدة مرتب بعضها بالعبض، فإذا ألزمه الإتمام في البعض لزمه في الجميع، بخلاف المسحات، فإنها عبادات لا يترتب بعضها بالبعض بدليل أن فساد البعض لا يوجب فساد الباقي فجاز أن يختلف فيه الحكمان. فأما إذا شك في أنه هل صلى بالمسح أربعا أو خمسًا، فيجعل في حق الصلاة بالأقل، وهو الأربع، وفي حق المسح بالأكثر اعتبارًا باليقين، وكانت النكتة في الموضعين واحدًا والحكم مختلف.

قال المزني: وإذا توضأ، فغسل إحدى رجليه، ثم أدخلها الخف، ثم غسل الأخرى، ثم أدخلها الخف، لم يجزئه، إذا أحدث، أن يمسح، حتى يكون طاهرا بكماله قبل لباسه أحد خفيه، فإن نزع الخف الأول الملبوس قبل تمام طهارته ثم لبسه، جاز له أن يمسح لأن لباسه مع الذي قبله بعد كمال الطهارة، قال المزني: كيفما صح لبس خفيه على طهر جاز له المسح عندي. قال الشافعي: وإن تخرق من مقدم الخف شيء، بان منه بعض الرجل، وإن قل لم يجزه أن يمسح على خف غير ساتر لجميع القدم، وإن كان خرقه من فوق الكعبين، لم يضره ذلك، ولا يمسح على الجوربين، إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين حتى يقوما مقام الخفين وما لبس من خف خشب، أو ما قام مقامه أجزأه أن يمسح عليه، ولا يمسح على جرموقين. قال في القديم، يمسح عليهما. قال المزني: قلت أنا: ولا أعلم بين العلماء في ذلك اختلافا وقوله معهم أولى به من انفرداه عنهم، وزعم أنه إنما يريد بالمسح على الخفين، المرفق، فكذلك الجرموقان مرفق، وهو بالخف شبيه. قال القاضي حسين: إذا توضأ أو غسل إحدي رجليه، وأدخلها في الخف، ثم غسل الرجل الثانية وأدخلها في الخف، ثم أحدث وتوضأ لم يجز له أن يمسح عليها لأنه لم يلبسهما على كمال الطهارة حتى لو نزع قبل الحدث الخف الأول الملبوس، ثم لبسه ثانيًا جاز له المسح عليهما.

وقال أبو حنيفة والمزني: له أن يمسح عليهما قبل النزع، وجعلوا دوام اللبس كالابتداء، وقاسوه على اليمين، فإنه لو حلف ألا يلبس، فاستدام اللبس يحنث في يمينه، كما لو ابتدأ اللبس يحنث في يمينه. قلنا في باب المسح: الدوم لا يجوز أن يجعل كالابتداء، ألا ترى أنه لو أحدث بعد اللبس يجوز له المسح على الخفين، ولو ابتدأ اللبس بعد الحدث لا يجوز له ذلك، وأما مسألة اليمين معارض بمثله، فنقول: المحرم إذا لبس المخيط يلزمه الفدية، ثم لو استدام ذلك لا يلزمه شيء، ولو نزع ولبس ثيابًا، المخيط يلزمه الفدية، ثم لو استدام ذلك لا يلزمه شيء، ولو نزع ولبس ثيابا تلزمه الفدية ثانيًا، ففرق بين الاستدامة والابتداء هناك، فتعارضا وتساقطا، وبقي الدليل لنا في باب المسح ولا تعارض فيه. فأما إذا لبس الخف على الحدث، ثم توضأ وصب الماء في خفيه حتى تغسلت رجلاه، فإنه تصح طهارته، ولكن لا يجوز له المسح إذا أحدث، فلو أنه نزعهما ثم لبسهما قبل الحدث حينئذ له المسح عليها، وعند أبي حنيفة والمزني، له ذلك قبل النزع، وهكذا إذا مضت مدة المسح، وتوضأ أو كان

على الوضوء، فصب الماء في خفيه، حتى تغسلت رجلاه، يجوز له المسح عندهما إذا أحدث. وعندنا لا يجوز لأن شرط جواز المسح لبس الخف على كمال الطهارة، ولم يوجد في هذه المسائل، وعندهم حصوله على كمال الطهارة لابسًا للخفين. قوله: وإن تخرق من مقدم الخف شيء، وأراد بالمقدم موضع القدم لا ضد المؤخر، لأن المقدم والمؤخر، من الخف سواء في حكم الخرق، فإذا تخرق الخف ينظر فإن كان في غير محل المغسول لا يضر ذلك، وإن كان الخرق فيما يوازي يصير هذا بدل البدل. قلنا: يجوز مثله، كما في باب الكفارة أن الصوم بدل عن الاعتكاف، والإطعام بدل عن الصوم، فيكون بدل البدل كذا هذا مثله، ونعنى بالجرموقين الخف الذي يلبس فوق الخف، ويستوي فيه الخف المتخذ من اللبد والصوف وغيرهما وصورة القولين إذا كان كل واحد منهما صالحا للمسح عليه عمد الانفراد ويكون مستجمعًا للشرائط الثلاث. فأما إذا كان الأسفل مخرقا يجوز المسح على الأعلى، بلا خلاف، وإن كان الأعلى مخرقا لم يجز المسح قولا واحدًا، بل يمسح على الأسفل، فيدخل اليد تحته، ويمسح على ما يوزاي المغسول من الأسفل. التفريع إن قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، فلا كلام وإن قلنا: يجوز المسح عليه، فعلى أي معنى يجوز؟ ذكر ابن سريج فيه ثلاثة معان: أحدهم: الأعلى مع الأسفل بمنزلة الطهارة مع النظافة في الخف الواحد.

والثاني: الأعلى بدل الأسفل، والأسفل بدل الرجل، وفائدته إنما تظهر في مسائل: فمنها: أنه إذا لبس الجرموقين فوق الخفين على كمال الطهارة، ثم نزع الجرموقين، إن جعلناهما بمنزلة الطهارة جاز المسح على الخفين، كما لو لبس خفا ذا طاقتين، فيقشط الطاقة العليا منه، وإن جعلنا الأسفل بمنزلة اللفاف لزمه نزع الخف الأسفل أيضًا، وغسل الرجلين، وفي استئناف الوضوء قولان. وإن جعلناهما بدل الأسفل مسح على الأسفل، وفي استئناف الوضوء قولان. وإن نزع أحدهما إن جعلناهما كالطهارة لم يضر، كما لو تقشط بعض الطاقات من أحد الخفين، وإن جعلناهما كالخف، والأسفل كاللقاف لزمه نزع الجرموق الآخر مع الأسفلين، وغسل الرجلين، واستئناف الوضوء، في أحد القولين، وإن جعلناهما بدل الأسفل نزع الجرموق من الآخر، ومسح على الأسفل، ويدخل يده في الجرموق الآخر، ومسح على الخف الأسفل منه، وفي استئناف الوضوء قولان. فأما إذا لبس في الابتداء أحد الجرموقين دون الآخر، إن جعلناهما بمنزلة الطهارة جاز، ويكون كما إذا كان لأحد خفيه طاقة، وللآخر طاقتان، وإن جعلنا الأسفل بمنزلة اللفافة يجوز، كما لو لبس الخف في إحدي الرجلين مع اللفافة، وفي الأخرى بدونها، وإن جعلناهما بدل البدل، فكذلك لا يجوز، لأن فيه جميعًا بين البدل والمبدل. فأما إذا لبس الجرموقين بعد الحدث، وقبل الطهارة، والمسح، إن جعلناهما كالطهارة جاز، كما لو ألصق بالخف طاقة بعد الحدث، وإن جعلناهما كالخفين والأسفلين، كاللفافة لم يجز، وكذلك إذا جعلناهما بدل الأسفلين، لأن شرط صحة البدل وقوعه على كمال الطهارة كالأصل سواء. فأما إذا أحدث بعد لبس الخفين، فتوضأ، ومسح عليهما، ثم لبس الجرموقين، إن جعلنا كالطهارة جاز له المسح عليهما، كما لو وقع خفه بعد

المسح عليه، وإن جعلناهما كالخفين والأسفلين كاللفافتين، هذا ينبني على أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث أم لا؟ إن قلنا: إنه يرفع الحدث جاز المسح عليهما، لأنه حصل لبسهما بعد كمال الطهارة. وإن قلنا: لا يرفع الحدث لا يجوز، وإن جعلناهما بدل الأسفلين جاز، كما لو غسل الرجلين قبل الحدث، إذ المسح عليهما بمنزلة الغسل عند عدم الخف، فأما إذا انخرق أحدهما، فلا يخلو، إما أن يخرق الأعليان، أو الأسفلان. فإن تخرق الأعليان، فحكمهما حكم ما لو نزعهما، وقد ذكرناه، وإن تخرق أحد الأعليين، فحكمه حكم ما لو نزع أحدهما، وقد ذكرنا حكمه، وإن تخرق الأسفلان لا يضر. أما على الأول؛ لأن حكمه حكم ما لو تغيرت الطاقة السفلي من خفه، وعلى المعنى الثاني جعل كما لو تخرق اللفافة. وعلى المعنى الثالث، لأن الأعليين صارا أصلا، وارتفع حكم الأسفلين. ولو تخرق أحدهما لم يضره على المعنى الأول والثاني، لما ذكرناه ويضره على المعنى الثالث، ويلزمه نزع الأعلى من الرجل الذي لم ينخرق خفها الأسفل، ويبطل حكم المنخرق، فيصير الأعلى المنخرق مع الأسفل الآخر في الرجل الأخرى أصلا، وإنما كان كذلك، لأنا لو جوزنا له المسح على الأعليين كان جامعًا بين البدل والمبدل، لأن الأعلى في الرجل الذي لم ينخرق الأسفل فيها بدل، وفي الأخرى أصل، إذ المنخرق لا حكم له، وإن كان أحد الأسفلين منخرقا في الابتداء، فلبسهما، والأعليين فوقهما حكمه حكم ما لو لبس الجرموق في إحدى الرجلين، وقد ذكرناه. فأما إذا انحرق الخف والجرموق لا يخلو، إما أن تخرقا من رجل واحد، ومن رجلين، فإن كان من رجل واحد لا يخلو إما أن تخرقا من موضع واحد، أو من موضعين، فإن تخرقا من موضع واحد، فحكمه حكم ما لو تخرقا بخف، وقد ذكرناه.

وإن تخرقا في موضعين مختلفين على المعنى الأول لا يضر، وعلى المعنى الثاني مثله، وعلى المعنى الثالث يضره، ويجب نزع الخفين وغسل الرجلين، ولا يصير جامعًا بين الأصل والبدل وقد ذكرنا. فأما إذا كانا من رجلين على المعنى الأول والثاني لا يضر، وعلى المعنى الثالث يجب نزع الكل، وغسل الرجلين، وفي استئناف الوضوء قولان. فرع: المستحاضة إذا توضأت، ولبست الخف، ثم أحدثت حدثًا غير الدم قبل أن صلت فريضة، فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لها المسح عليهما، لأن طهر المستحاضة لا يرفع الحدث، وإنما جوزنا لها فعل الصلاة للضرورة، ولا ضرورة بنا إلى أن تجوز صلاتها بالمسح، إذ المسح إنما جاز بعد كمال الطهارة، وطهارتها ناقصة. والثاني: لها المسح عليه، لأن طهرها يرفع الحدث في الصلاة الواحدة، فأما إذا أدت به فريضة، ثم أحدثت لا يجوز لها أن تمسح على الخف لفريضة أخرى، لأن طهرها انعقد لفريضة واحدة، وهكذا حكم المتيمم إذا لبس الخف بعد التيمم ثم وجد الماء، هل له المسح على الخفين. فإن كان قبل أن صلي به صلاة ما، فيه وجهان بناء على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وإن كان بعد أن أدي به الصلاة لا يجوز وجها واحدًا، وكذلك إذا كان ببعض أعضائه جراحة، فتيمم للجريح، وغسل الصحيح، ولبس الخف، ثم أحدث، هل له أن يمسح على الخف؟ فعلى وجهين، كما ذكرنا في التيمم، وإن كان بعد أداء فريضة لا تجوز.

قال المزني: قال: وإن نزع خفيه بعد مسحهما، غسل قدميه. وفي القديم، وكتاب ابن أبي ليلى يتوضأ. قال المزني: [قلت أنا]: والذي قبل هذا أولى، لأن غسل الأعضاء لا ينتقض في السنة إلا بالحدث، وإنما انتقض طهر القدمين، لأن المسح عليهما كان لعدم طهورهما كمسح التيمم لعدم الماء، فلو كان وجود المعدوم من الماء بعد المسح يبطل المسح، ويوجب الغسل، كان كذلك طهور القدمين بعد المسح، يبطل المسح ويوجب الغسل، وسائر الأعضاء سوى القدمين مغسول، ولا غسل عليها ثانية إلا بحدث ثان. قال القاضي حسين: إذا انقضت مدة المسح فنزع الخفين، أو نزعهما قبل انقضاء المدة، وهو على الطهارة، فعليه غسل الرجلين. وفي وجوب استئناف الوضوء قولان: أظهرهما، وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني، أنه لا يجب. والقول الثاني: نقله المزني عن القديم، وفي كتاب ابن أبي ليلى: أنه يجب اختلف أصحابنا فيه.

منهم من قال: هما قولا تفريق الوضوء، وليس بصحيح، لأن القولين هناك في التفريق بغير العذر. فأما العذر قول واحد: أنه يجوز، وها هنا هذا التفريق بعذر. ومنهم من قال: إنهما ينبنيان على أن المسح على الخفين، هل يرفع الحدث أم لا؟ فعلى جوابين: أحدهما: لا كالمسح في التيمم، لأنه مسح بالجامد، فكان أضعف. والثاني: نعم كمسح الرأس. إن قلنا: يرفع الحدث، فها هنا تلزمه الطهارة، لأنه إذا نزع الخفين عاد الحدث في الرجلين، والحدث إذا عاد في البعض عاد في الكل، لأنه لا يتجزأ، وإن قلنا: لا يرفع الحدث لا يجب إلا غسل الرجلين، واحتج المزني على اختياره بالتيمم إذا وجد الماء. قال: لا يلزمه إلا غسل ما ينوب المسح عنه، وترك غسله كذا هذا مثله. قلنا: مسألة التيمم حجة عليك، لأن هناك لا يجوز الاقتصار على محل

الغسل عند وجود الماء في الغسل فكذلك فيما نحن فيه وجب أن يكون مثله، والله تعالى أعلم بالصواب.

باب كيف المسح على الخفين

باب كيف المسح على الخفين قال المزني: قال الشافعي: أخبرنا ابن أبي يحيى، عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله، واحتج بأثر ابن عمر: أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله. قال: وأحب أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمني على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمني إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه. قال: فإن مسح على باطن الخف، وترك الظاهر عاد، وإن مسح على الظاهر، وترك الباطن أجزأه، وكيفما أتي بالمسح على ظهر القدم بكل اليد أو بعضها، أجزأه. قال القاضي حسين: وفيه فصلان: أحدهما: في بيان أقل ما يجزيء وبيان المستحب. والثاني: في كيفية المسح. أما بيان أقل ما يجزيء هو أن يمسح قدر ما يتعلق عليه اسم المسح، كما ذكرنا في مسح الرأس.

وعند أبي حنيفة قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع رجل كل أحد، كما قال في الخرق. وعندنا: لا يختص المسح باليد حتى لو مسح بخرقة، أو خشبة جاز، وكذا لو غسل الخف بدل المسح، أو وضع اليد المبتلة عليه ولم يمرها عليه أو قطر الماء عليه، وسأل جاز على قول الأصحاب، وعند الشيخ القفال لا يجوز، كما ذكرنا في مسح الرأس. فأما بيان الأفضل، وهو أن يستوعب ما يوازي المغسول من الخف بالمسح، ويمسح أعلاه وأسفله. وقال أبو حنيفة: لا يجوز المسح على أسفل الخف، ويدل عليه ما روى أنه، عليه السلام مسح أعلى الخف وأسفله، والمعنى فيه أنه موضع من الخف يوازي المغسول فكان محلا للمسح كظهر الخف. وأما كيف استيعاب الخف بالمسح، فهو أن يضع كفه اليمني على ظهر الأصابع، وكفه اليسرى تحت العقب، ويمر اليمني إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف الأصابع، ولا خلاف في جواز الاقتصار في المسح على ظهر الخف، فلو اقتصر على أسفل الخف، قال ها هنا: ولو مسح على الباطن، وترك الظاهر أعاد.

وقال في موضع آخر: لم يعد. منهم من قال: يجوز الاقتصار على أسفل الخف. وقوله: أعاد، أراد به إذا أدخل يده في الخف، ومسح على باطن الخف لما روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، لكن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهور الخف خطوطًا بالأصابع. ولو مسح على العقب، فمرتب إلى الأسفل، إن جوزنا الاقتصار عليه، فها هنا أولى، وإلا فوجهان، لأن العقب أقرب إلى ظهر الخف، وإلى ما هو في حكم الأعلى، ومنهم من عكس في الترتيب، وقال: إن قلنا هناك: لا يجوز، فها هنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن النص هناك ورد في أسفل الخف، دون العقب، فأما إذا مسح على منقار الخف لا يجوز، لأنه لا يوازي محل المغسول، فإذا نزع بعض الخف ينظر فيه، فإن بلغ بحيث أنه لو كان في الابتداء لا يجوز المسح عليه ها هنا يبطل حكم المسح عليه، وإلا فلا، والله أعلم بالصواب.

باب الغسل للجمعة والأعياد، وما جاء فيهما

باب الغسل للجمعة والأعياد، وما جاء فيهما. قال المزني: قال الشافعي: والاختيار في السنة لكل من أراد صلاة الجمعة الاغتسال لها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الغسل واجب على كل محتلم، يريد وجوب الاختيار لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم: من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل. وقال عمر لعثمان رضي الله عنهما حين راح/ والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل، ولو علما وجوبه لرجع عثمان، وما تركه عمر. قال: ويجزيه غسله لها، إذا كان بعد الفجر، وإن كان جنبًا، فاغتسل لهما جميعًا أجزأه. قال: وأحب الغسل من غسل الميت. قال: وكذلك الغسل للاعياد سنة اختيارًا، وإن ترك الغسل للجمعة والعيد أجزأته الصلاة، وإن نوي الغسل للجمعة والعيد، لم يجزه من الجنابة، حتى ينوي الجنابة. قال القاضي حسين: غسل الجمعة سنة مؤكدة، وليس بواجب. وقال داود: إنه واجب ويأثم بتركه غير أنه لو تركه تصح الصلاة دونه. واستدل بقوله عليه السلام، غسل الجمعة واجب على كل محتلم.

ولأن العرب من عادتهم أنهم إذا بالغوا في شتم رجل يقولون: أنت شر ممن لا يغتسل يوم الجمعة. قلنا: أراد بالمحتلم من وقع له الحلم، فصار بالغا، كما قال عليه السلام لا تصلي الحائض إلا بخمار. وأراد به البالغة التي هي من أهل الحيض، وأراد بالوجوب وجوب الندب، والاستحباب والاختيار لا التحتم، كما يقال: حق فلان واجب على فلان، يعني على طريق الاختيار، بدليل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل، أي بالسنة أخذ ونعمت أي نعم الخصلة الأخذ بالسنة. وعن عائشة أنها قالت: كان الناس في أول الإسلام عمال أنفسهم، وكان عامة لبوسهم الصوف، وكانوا يروحون إلى المسجد في ثياب مهنهم، تعرق أبدانهم، وتفوح منهم رائحة الصنان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: لو اغتسلتم. دل على أنه يكون على طريق الاختيار، ويدل عليه ما روى أن عمر رضي

الله عنه كان يخطب فدخل عثمان وتخطي رقاب الناس، فقال له عمر، أي وقت هذا. فقال عثمان رضي الله عنه كنت في السوق سمعت النداء فوالله ما زدت على الوضوء، فقال والوضوء أيضا أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالغسل يوم الجمعة. قال الشافعي ولو كان واجبًا لرجع عثمان ولما تركه عمر. قال القاضي رضي الله عنه: استنبطت من هذا الحديث معنى، وذلك أن الرجل المحتشم الذي يحترم، ويكرم في المجالس يجوز أن يتخطي رقاب الناس، ويخرق الصفوف حتى يأخذ مكانه إذا كان محتشمًا في الدين، فأما إذا كان من أبناء الدنيا، فلا. وروى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض فاستخلف أبا بكر رضي الله عنه ليصلي بالناس، فلما وجد من نفسه خفة خرج من بيته، ودخل المسجد، وهو يهادي بين رجلين، ورجلاه يخطان الأرض، ويخرق الصفوف حتى وقف على يسار أبي بكر، والمستحب أن يغتسل عند الخروج إلى المسجد، فلو اغتسل قبله، وبعد طلوع الفجر جاز، ولو أحدث بعده لا يضره خلافاً للمالك. فأما إذا اغتسل قبل طلوع الفجر لا يجوز، ولو اغتسل للعيد قبل طلوع الفجر، فوجهان، والفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن غسل الجمعة إنما سن لإزالة الرائحة الكريهة، وإذا طال الفصل تعود الرائحة ثانيًا، وغسل العيد للزينة، وأثر الزينة يبقى. الثاني: أن الغالب أن أهل الرساتيق والقرى إنما يقصدون صلاة العيدين من مواضع بعيدة فلو قلنا: لا يحتسب الغسل له، إلا بعد الفجر شق، وتعذر عليهم ذلك في الطريق خلاف الجمعة، وغسل يوم العيد سنة في حق النساء والرجال والصغار والكبار، ومن حضر المصلي ومن لم يحضر

وفي الجمعة وجهان: أحدهما: هكذا. والثاني: أنه سنة في حق من أراد حضور المسجد، والفرق بينهما ما ذكرنا قبله. فأما الجنب إذا اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة بنية غسل الجمعة والجنابة أجزأه، وارتفعت الجنابة، وحاز فضيلة غسل الجمعة، لأنه لو اغتسل بنية الجنابة وحدها يحصل له ذلك، فإذا نوى فقد أتي بما يتضمنه غسله، فصار كما إذا دخل المسجد، وأدي الفريضة بنية الفريضة، وتحية المسجد يجوز، لأنه لو لم ينو تحية المسجد، فإنه يدخل في ضمنها تحية المسجد، وكذا لو طاف طواف القدوم، ونوى طواف الزيارة والقدوم جاز عنهما، وهذا مطرد إلا في مسألة واحدة: وهي أنه إذا أدرك الإمام في الركوع، فلو كبر بنية افتتاح الصلاة والركوع لا يجوز، لأن محل تكبرة الافتتاح غير محل تكبرة الركع، فإن محل تكبيرة الافتتاح حالة القيام، ومحل تكبيرة الركوع عند الهوى منه، فلما اختلف محلاهما لا يمكنه الجمع بينهما في النية بخلاف ما نحن فيه. فأما إذا اغتسل بنية غسل الجمعة، وكان جنبًا، هل ترتفع الجنابة عنه أم لا؟

فعلى ما ذكرنا من الأوجه الثلاث، إن قلنا: ترتفع، فتحصل له فضيلة غسل الجمعة. وإن قلنا: لا ترتفع الجنابة، فهل تحصل له فضيلة غسل الجمعة؟ فوجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه نوى له. والثاني: لا لبقاء الجنابة فيه. قال المزني: وأولى الغسل أن يجب عندي بعد غسل الجنابة الغسل من غسل الميت، والوضوء من مسه مفضيًا إليه، ولو ثبت الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت به ثم غسل الجمعة، ولا نرخص في تركه، ولا نوجبه إيجابًا لا يجزيء غيره. قال المزني: إذا لم يثبت، فقد ثبت تأكيد غسل الجمعة، فهو أولى، وأجمعوا أنه من مس خنزيرًا، أو مس ميتة: أنه لا غسل، ولا وضوء عليه إلا غسل ما أصابه، فكيف يجب عليه ذلك في أخيه المؤمن؟ قال القاضي حسين: الغسل من غسل الميت سنة مؤكدة. وفيه قول آخر: أنه واجب، لأنه علق القول فيه بقوله: لو ثبت الحديث في ذلك لقلت بوجوبه. روى عنه عليه السلام أنه قال: من غسل ميتا فليغتسل ومن مس ميتًا فليتوضأ. وروى: ومن حمل ميتًا فليتوضأ.

وروي أنه لما مات أبو طالب جاء علي كرم الله وجهه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم [قال] إن أبي عمك الشيخ الضال قد توفي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم غسله وكفنه وادفنه ولا تحدث بعد ذلك أمرًا حتى آمرك بذلك. فهذب وغسله وكفنه ودفنه، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: اذهب واغتسل. إن قلنا: إنه ليس بواجب، فهل كان آكد من غسل الجمعة، أو غسل الجمعة آكد منه فوجهان: أحدهما: غسل الميت آكد، لأنه اختلف قوله في الوجوب. والثاني: غسل الجمعة آكد، لاختلاف العلماء في وجوبه، ولورود الأخبار الصحيحة فيه، والوجهان يقربان من أن ركعتي الفجر آكد أم الوتر؟ فيه وجهان: أحدهما: ركعتا الفجر، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.

وقال في الوتر: إن الله تعالى زادكم صلاة خيرًا من حمر النعم، ألا وهي الوتر. وما كان في مقابلة الدنيا وما فيها، فإنه يكون آكد وأقوى مما يكون في مقابلة حمر الغنم. والثاني: أن الوتر أقوي لاختلاف العلماء في وجوبه، ولورود الأخبار الصحيحة فيه. اختلف المزني أنه لا يجب الوضوء بمس الميت، حيث قال: لو مس ميتًا أو حنزيرًا فإنه لا غسل ولا وضوء عليه، فكيف يجب عليه ذلك في أخيه المؤمن.؟ قلنا له: على القول الذي يقول: إنه يجب، إنما ذلك لحرمته، لا لنجاسته، لأنه لو مس خنزيرا، أو شيئا من النجاسات لا تلزمه الطهارة، ومثله لو مس امرأة، وجبت عليه الطهارة، وإنما افترقا في ذلك بعلة الاحترام والحرمة، لا بعلة النجاسة كذا هذا مثله، والله أعلم بالصواب.

كتاب الحيض

كتاب الحيض باب حيض المرأة وطهرها واستحاضتها. قال الشافعي رحمه الله قال الله جل ثناؤه: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن). قال الشافعي: من المحيض (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) قال الشافعي: تطهرن بالماء. قال: وإذا اتصل بالمرأة الدم، نظرت، فإن كان دمها ثخينا محتدمًا يضرب إلي السواد له رائحة، فتلك الحيضة نفسها فلتدع الصلاة، فإذا ذهب ذلك الدم، وجاءها الدم الأحمر الرقيق المشرق فهو عرق، وليست الحيضة، وهو الطهر وعليها أن تغتسل كما وصفت وتصلي ويأتيها زوجها ولا يجوز لها أن تستظهر بثلاثة أيام، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا ذهب فاغسلي الدم عنك، وصلي. ولا يقول لها النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب قدرها إلا وهي به عارفة. قال: وإن لم ينفصل دمها بما وصفت لك، فتعرفه، وكان مشتبهًا، نظرت إلى ما كان عليه حيضتها فيما مضى من دهرها، فتركت الصلاة للوقت الذي كانت تحيض فيه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتنظر عدة الليالي، والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها ما أصابها، فلتدع الصلاة فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب، ثم تصلي.

قال القاضي الإمام: الحيض في اللغة عبارة عن السيلان. يقال: حاض الماء وسلل الماء إذا سأل. وفي الشريعة: عبارة عن دم يرخيه الرحم. أول ما ابتلي بالحيض أمنا حواء، فإنه قيل: بأنها لما كسرت شجرة الحنطة ودميت الشجرة، فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لأدمنيك، كما أدميت هذه الشجرة، فابتليت به حواء، وجميع بنات آدم إلى قيام الساعة. والأصل فيه قول الله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ...)، الاية. أراد بالمحيض الحيض، لا زمانه ولا مكانه بدليل أنه قال: أذى، وصفه بالأذى، وهو النجاسة والزمان والمكان لا يوصفان به، ثم قال: فاعتزلوا النساء في المحيض. وروى أن اليهود كان من عادتهم أنهم يعتزلون النساء في حالة الحيض أشد الاعتزال، وأنهم لا يؤاكلوهن، ولا يشاربوهن، ويحبسونهن، في موضع ويناولونهن الطعام على رأس الخشبة، وكان من عادة النصارى أنهم يقربون النساء في حالة الحيض أكثر مما يقربونهن في حالة الطهر، تقربًا به إلى الله تعالى، فلما أنزل الله تعالى هذه الاية ظن المسلمون أنهم أمروا باعتزال

كاعتزال اليهود، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك، فقال لهم: افعلوا كل شيء إلا الجماع، فغاظ ذلك اليهود حين سمعوا هذا القول فقالوا: إن هذا الرجل لا يدع شيئا من ديننا إلا ويخالفنا فيه، وسمع ذلم مهم سعد بن معاذ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال ائذن لي في جماعهن مغاظة لليهود فتغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظنا أنه وجد عليه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية فبعث إليه شيئا منها فعلمنا أنه ما وجد عليه. قوله: ولا تقربوهن. الله تعالى حرم الوطء في زمان الحيض، هذا مما لا خلاف فيه، فأما ما سوى الوطء، فإنه جائز ما فوق السرة، وتحت الركبتين، فأما بين السرة والركبتين هل يجوز الاستمتاع بها أم لا؟ قال في الجديد وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز. وقال في القديم: وهو قول محمد بن الحسن: إنه جائز.

وجه قول القديم ما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت في الخميلة مع النبي صلى الله عليه وسلم فانسللت منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مالك أنفست، قلت نعم، قال ذلك شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم فإذا كان ذلك فخذي ثياب حيضتك وشدي مئزرك وعودي إلى مضجعك، قالت: ففعلت ذلك ثم عدت إلى مضجعي، فنال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا الجماع وفي رواية أخرى: إلا ما تحت الإزار. وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا بأس إذا اتقي الحجران، ولم ترد به التثنية، بل أرادت به الفرج.

وأما وجه قوله الجديد: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وفي رواية يوشك أن يخالط الحمى. والمعنى فيه أنه ربما كان الزوج شابًا شبقًا، فحمله عليه شدة شبقه، وفرط شهوته على مجامعتها فيقع في الحرام، فيمنع عنه كي لا يقع في الحرام. إذا ثبت أن الوطء حرام، فلو استحله يكفر بذلك، لأنه خالف نص التنزيل، ولكن لو ارتكبه تهاونًا به يعصي، ويأثم ويستغفر الله تعالى لا يلزمه شيء على الصحيح من المذهب، وقوله الجديد. وقال في القديم: يلزمه شيء على ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روى عن عمر أنه قال: يلزمه إعتاق رقبة. وروى عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا، عليه ومرفوعًا عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ولو وطئها والدم غبيط فليتصدق بدينار ولو وطئها في آخر الدم فليتصدق بنصف دينار. والصحيح قول الجديد. وإذا حكمنا بتحريم الوطء، فإنما يرتفع التحريم إذا انقطع دمها واغتسلت لقوله تعالى حتى يطهرن، يعني ينقطع حيضهن: فإذا تطهرن، يعني اغتسلن، فأتوهن هذا شرط، والعرب تستحسن إتباع الشرط الشرط، كما لو قال الزوج لامرأته، لا تكلمي زيدا فإذا كلمت زيدًا، ودخلت الدار، فأنت طالق، فإنما يقع الطلاق عليها عند وجود شرطين كذا هذا.

وقال أبو حنيفة: إن انقطع دمها لأكثر الحيض يجوز للزوج غشيانها قبل الاغتسال، وإن انقطع دمها لأقل الحيض، فلا يجوز له قربانها، إلا بعد أن تغتسل أو تتيمم، ويدخل عليها وقت من أوقات الصلاة. فرع إذا قالت المرأة: حضت ينظر فيه، فإن صدقها الزوج على ذلك يحرم عليه غشيانها، وإن كذبها الزوج لا يحرم عليه ذلك، لأنه ربما تكون سيئة الخلق بذئة، فأرادت أن تمنع نفسها عن الزوج تعنتا، بخلاف ما لو علق طلاقها بحيضها، فقالت: حضت وقع الطلاق عليها، كذبها الزوج، أو صدقها لأن هناك وجد صنع من جهته، حيث علق طلاقها بشيء لا يمكنه الوقوف عليه، إلا بالرجوع إلى قولها، فوجد تفريطه من جهته، وها هنا لم يوجد منه صنع ولا تفريط من جهته القول قوله. فأما إذا اتفقا في الحيض، ثم اختلفا في انقطاع الدم، فقالت المرأة، ما انقطع دمي، والزوج يخالفها فيه، فالقول قولها، لأن الأصل بقاء الحيض.

فصل: الأحكام المتعلقة بالجنابة

فصل: الأحكام المتعلقة بالجنابة تتعلق بالحيض، وللحيض أحكام لا تشاركها الجنابة فيها: منها: أن الحيض يجعل الطلاق بدعيا، بخلاف الجنابة، وزنه يمنع الزوج من غشيانها بخلاف الجنابة، وأنه يمنع الحائض من العبور في المسجد قبل التعصيب وبعده فيه وجهان: والجنابة بخلافه، وفي غير هذه الأحكام يستويان فيه، من تحريم الصلاة، والطواف وغيرهما، والطواف أيضا كالصلاة، بدليل انه يحتاج إلى الطهارة كالصلاة. ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطواف صلاة غير أن الله تعالى أباح فيه الكلام فمن ينطق فلا ينطق إلا بخير، فلو صامت في أيام الحيض لا يصح صومها، ولو نذرت الحائض الصوم مطلقا يصح نذره، ولو نذرت صيام

أيام الحيض، فإنه لا يصح نذرها، لأن ذلك الزمان غير قابل للصوم ولا للعبادة. واختلف أصحابنا في أن الحيض، هل يمنع وجوب الصوم أم لا على وجهين: أحدهما: يمنع وجوبه والقضاء في ثاني حال وإنما يكون بأمر ثان. والثاني: انه لا يمنع وجوبه والقضاء في ثاني حال، إنما وجب بدلا عما فات عنها في وقت الوجوب، بدليل أنه يقال لها: اقضي الصوم الذي فات منك، ولا يجب عليها قضاء الصلوات. والدليل عليه ما روى أن معاذة العدوية جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت لها: ما بال الحائض تدع الصيام والصلاة، فتؤمر بقضاء الصوم، ولا تؤمر بقضاء الصلاة. فقالت لها عائشة/ أحرورية أنت؟ كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ندع الصوم والصلاة في زمان الحيض، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. ولم يذكر فيه معنى. وأصحابنا ذكروا معنيين في الفرق بينهما: أحدهما: أن الصلاة لما أمر الشرع بتركها لا يجب قضاؤها، كما لو صلى المريض قاعدًا، أو مضطجعًا، ثم برئ من المرض لا تلزمه الصلاة قائمًا حين جوز له ترك القيام فيها. وكذلك المسافر إذا قصر الصلاة، ثم أقام لا يلزمه قضاؤها تامًا حين جوز له تركها كذا مثله. وأما الصوم إذا أمر بتركه يجوز أن يجب قضاؤه، كما في حق المسافر كذا هذا. والثاني: أنا لو أوجبنا عليها قضاء الصلوات أدى ذلك إلى الإضرار بها، لأن

الحيض ربما يدوم شطر دهرها، فيؤدي إلى أن تستغرق جميع عمرها بالصلاة، بعها أداء، وبعضها قضاء، بخلاف الصوم فإنه لا يجب في كل سنة إلا شهرا، ووجوب الصوم عليها قضاء لا يؤدي إلى ذلك، لأنه يمكنها أن تصوم ستة عشر يومًا في أحد عشر شهرًا، وكذا أكثر ما يلزمها من قضاء الصوم أن لو دام الحيض شطر عمرها قد ذكرنا أن الوطء، وسائر الأحكام إنما يرتفع بالاغتسال، بعد انقطاع الدم إلا وجوب الصوم، فإنه يجب وتسرع فيه إذا انقطع دمها، وإن لم تغتسل ووجوب الغسل عليها لا يمنع جواز الصوم. فأما إذا لم تجد الماء، فلا يجوز للزوج قربانها إلا بعد التيمم، ولكن لا تحتاج في كل وطأة إلى تيمم آخر، بخلاف صلاة الفرض، لأن الوطء غير واجب، فيضاهي صلاة النافلة، فإذا وجدت الماء تغتسل، كما لو كان جنبًا وتيمم، ثم وجد الماء يلزمه الاغتسال كذا هذا. فأما إذا لم يجد الماء والتراب، فإنه لا يحل للزوج غشيانها ألبتة، وإن جوزنا لها الصلاة على قوله الجديد، ولكن تلك ليست بصلاة على الحقيقة، بدليل أنا نمنعها عن قراءة القرآن فيها، ونوجب عليها قضاء تلك الصلوات. فأما المجنونة إذا حاضت، وانقطع دمها لا يحل للزوج غشيانها، بل يغسلها الولي حتى يحل للزوج غشيانها، فإذا أفاقت الصحيح أنه يلزمها الاغتسال ثانيًا. وكذا الذمية إذا حاضت وانقطع دمها لا يحل لزوجها المسلم غشيانها، ما لم تغتسل فإن قيل: الغسل عبادة يشترط فيها النية، وهي ليست من أهل العبادة، قلنا: زوجها ينوي الاغتسال لها، وينوب عنها في النية. فإن قيل: وجب أن تقولوا في المسألة هكذا. قلنا: الفرق بينهما أن المسلمة من أهل الاعتقاد والنية، فتؤخذ هي بذلك بخلاف الذمية. وأيضا فإن الاغتسال في المسلمة إنما جعل تعبدًا إلا أنه يتضمن التنظف،

والاغتسال من الذمية، وإنما أمرت به تنظفا، لا تعبدًا، فلهذا فرق بينهما في النية، فإذا أسلمت الصحيح أنه يلزمها الاغتسال ثانيًا. فأما الصبية إذا جومعت، فإنها تغتسل للجنابة، فإذا بلغت الصحيح أنه لا يلزمها الإعادة، لأنها أدت وظيفة وقتها وفريضة مثلها، وكمال حالها لا يوجب عليها الإعادة. دليله: إذا صلت في أول الوقت، ثم بلغت في آخره، ودليله الأمة إذا صلت في أول الوقت ثم عتقت في آخره. قيل: دم الحيض يخالف دم الاستحاضة اسمًا ومحلا وحكمًا. أما الاسم، فإنه يقال له: دم الحيض، وكذلك دم الاستحاضة، وأما المحل فإن هذا دم يرخيه الرحم، وذلك إنما يسيل من عرق ينقطع وأما الحكم فإن الأحكام المتعلقة بالحيض لا تتعلق بدم الاستحاضة، بل حكمه حكم الحدث، ودم الاستحاضة على نوعين: نوع يتصل به دم الحيض، ونوع لا يتصل بدم الحيض. فأما ما لا يتصل به مثل الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين إذا رأت الدم، فذاك دم استحاضة والكبيرة إذا رأت الدم، وانقطع فيما دون يوم وليلة، فحكمها حكم الحدث. وأما الذي يتصل بدم الحيض كالبالغة إذا رأت الدم، وجاوز خمسة عشر يومًا، فنتكلم فيه، ونذكر أولا أحاديث خبرًا في المميزة، وخبرًا في المعتادة وخبرًا في المبتدأة. أما في المميزة ما روى أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر.

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم دعي الصلاة أيام أقرائك، فإذا ذهب ذلك عنك فاغتسلي وصلي. وفي رواية أخرى: إن دم الحيض أسود يعرف، وإن له رائحة فإذا كان ذلك فلتدعي الصلاة فإذا جاء الآخر فاغتسلي وصلى. وفي بعض الروايات: إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي. وفي بعض الروايات: إن ذلك داء عرض أو عرق انقطع. وأما في المعتادة ما روى أن امرأة جاءت إلى أم سلمة فسألتها حتى تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال عليه السلام، لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتدع الصلاة فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم تستثفر بثوب ثم تصلي.

وأما في المبتدأة: ما روى أن حمة وأم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوجة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني امراة استحاض فلا أطهر. فقال لها: إني أنعت لك الكرسف. وفي رواية: إني أبعث إليك الكرسف. فقالت: هو أشد من ذلك. فقال عليه السلام لها احتشي، قالت هو أشد من ذلك، قال فلتستثفري بثوب، قالت هو أشد، فإني أثجه ثجا، قال تحيضي في عم الله ستًا أو سبعًا ميقات حيض النساء وطهرهن، فإذا كان ذلك فاغتسلي وصلي ثلاثًا وعشرين يومًا وافعلي ذلك في كل شهر.

وقد قيل بأن هذا الحديث إنما ورد في المعتادة، فعلى هذا لم يرد في المبتدأة خبر. وقيل: بأنها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وقد ابتليت به سبع سنين، وكانت إذا شرعت في الصلاة تضع إداوة بين رجليها، فإذا فرغت من الصلاة صارت الإداوة ممتلئة من الدم، والله تعالى أعلم بالصواب.

فصل: المستحاضة على خمسة أقسام: مبتدأة، ومعتادة، ومميزة، وناسية، وذات تلفيق.

فصل: المستحاضة على خمسة أقسام: مبتدأة، ومعتادة، ومميزة، وناسية، وذات تلفيق. وإن شئت تقول: المستحاضة على قسمين: مبتدأة ومعتادة. والمبتدأة على قسمين: مميزة وغير مميزة. والمعتادة على قسمين ناسية وغير ناسية. أولا: نذكر حكم المميزة: والمميزة ما إذا رات الدم على لونين: أحدهما أقوى من الآخر، فالذي أقوى منهما يكون حيضًا، مثل أن ترى الدم، بعضه أسود، وبعضه أحمر، فالأسود يكون حيضًا، وكذا لو رأت بعضه أحمر، وبعضه أصفر، فالحمرة يكون حيضًا، وإنما يمكنها التمييز إذا وجدت ثلاث شرائط: إحداها: أن دم القوى لا ينتقص من يوم وليلة، وهو أقل الحيض، ولا يجاوز خمسة عشر يومًا، وهو أكثر الحيض، وأن الدم الضعف لا ينتقص عن خمسة عشر يومًا، وهو أقل الطهر، وإنما يمكنها التمييز في الثاني، لأن في الشهر الأول تؤمر فيه بترك الصلاة والصوم، رجاء أن ينقطع دمها على خمسة عشر يومًا، فإذا جاء الشهر الثاني، واستمر بها ذلك، فكلما جعلنا لها حيضًا من الشهر الثاني، تتحيض من الشهر الأول مثله، وتتطهر في الباقي، وتغتسل ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر، وتقضي ما فاتها من الصلوات في الشهر الأول في أيام الاستحاضة إذا ثبت هذا، فنذكر فيه أربعة فصول: فصل/ فيما إذا تقدم الدم القوي على الضعيف. وفصل، فيما إذا تقدم الدم الضعيف على القوي.

وفصل فيمن اجتمع في حقها التمييز والعادة. وفصل في بيان الاستظهار. أما الفصل الأول: وهو إذا تقدم القوي على الضعيف: مثل أن تكون امرأة رأت أول ما رأت الدم خمسة أيام دمًا أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، ثم استمر بها الدم في الشهر الثالث، فإذا يجعل لها من كل شهر خمسة ايام حيضا، والباقي استحاضة، فأما إذا مضت خمسة أيام من الشهر الأول دما أسود، ثم استمر بها الدم في الشهر الثاني. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، حكمة حكم ما إذا تكرر في الشهر الثاني: واستمر بها الدم في الشهر الثالث. وإن قلنا: إن العادة لا تثبت بمرة واحدة، حكمة حكم المبتدأة، إذا استمر بها الدم في الشهر الأول، وفيه قولان: أحدهما: ترد إلى أقل الحيض، وهو يوم وليلة. والثاني: ترد إلى غالب عادات النساء، هو سنة أو سبعة. فأما إذا رأت أول ما رأت الدم خمسة أيام دما أسود، ثم رات الحمرة إلى آخر الشهر، ثم رأيت في الشهر الثاني ستة أيام دمًا أسود، ثم رأت الحمرة إلى آخر الشهر، وفي الشهر الثالث رأت هكذا، ثم أطبق بها الدم، فتجعل لها من الشهر الأول خمسة أيام حيضًا، والباقي استحاضة، ومن الشهر الثاني والثالث، وسائر الشهور ستة أيام حيضًا، والباقي استحاضة. فأما إذا رأت في الشهر الأول خمسة أيام أسود، والباقي أحمر، ثم في الشهر الثاني رأت ستة أيام أسود، ثم استمر بها الدم. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، فحكمه ما ذكرنا، ففي الشهر الأول حيضها خمسة أيام، وفي الشهر الثاني: وسائر الشهور حيضها ستة أيام. وإن قلنا: إن العادة لا تثبت بمرة واحدة، فحيضها خمسة أيام من كل شهر؛

لأن الخمسة قد تكررت في الشهرين، فأما إذا رأت اولا ستة أيام دمًا أسود، ثم رأت الحمرة إلى آخر الشهر، ثم رأت في الشهر الثاني خمسة أيام دما أسود، ثم رأت الحمرة إلى آخر الشهر، ورأت في الشهر الثالث هكذا، ثم استمر بها الدم، وانتقص من حيضها يوم، وزاد في طهرها يوم، وهكذا في سائر الشهور، حيضها في كل شهر خمسة أيام. فأما إذا رأت في الشهر الأول ستة أيام أسود، والباقي حمرة، ثم في الشهر الثاني رأت خمسة أيام أسود، والباقي حمرة، واستمر بها الدم. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، فحكمه على ما ذكرنا وإن قلنا: إن العادة لا تثبت بمرة واحدة، فيجعل حيضها من كل شهر خمسة أيام، لأن الخمسة قد تكررت في الشهرين، لأن الستة خمسة بزيادة واحد، وفي هذه الصورة لو كانت معتادة وعادتها أن ترى الدم في كل شهر سبعة أسود، ثم جاء شهر، ورأت خمسة أيام أسود، ثم احمر دمها إلى آخر الشهر، ورأت في الشهر الثاني هكذا، واستمر بها الدم، فهذه تغيرت عادتها، وانتقلت من سبعة إلى خمسة. فأما إذا لم تتكرر في الشهر الثاني، بل استمر بها الدم. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، فعلى ما ذكرنا. وإن قلنا: لا تثبت بمرة واحدة، فترد إلى عادتها الأولى، وهي سبعة أيام في كل شهر. الفصل الثاني: فيما إذا تقدم الدم الضعيف على القوي، مثل إن رأت خمسة أيام من أول الشهر دما أحمر، ثم رأت الخمسة الثانية دما أسود، ثم احمر الدم، إلى آخر الشهر، ورأت على هذا التفصيل في الشهر الثاني، ثم استمر بها الدم في الشهر الثالث ماذا حكمه، هذا يبني هل يترك ابتداء الدم أم لا؟ وفيه وجهان:

أحدهما: يترك ابتداء الدم، لأن الخمسة الثانية دم أسود، فيكون قويًا في لونه، وذلك دليل في نفس الدم. والثاني: لا يترك، لأن لأول الدم قوة السبق، وللدم الأسود قوة اللون، فقد استويا، فإن أمكن الجمع بينهما يجمع، وإلا فيذكر حكمه. إن قلنا: إن ابتداء الدم يترك، فيجعل لها في كل شهر الخمسة الثانية حيضًا، والباقي استحاضة، عشرون بعدها وخمسة قبلها. وإن قلنا: إنه لا يترك ابتداء الدم، فيكون حيضها من كل شهر عشرة أيام، والباقي استحاضة. هذا إذا تكرر في الشهر الثاني. فأما إذا لم يتكرر الدم بهذه الصورة في الشهر الثاني، ولكن استمر بها الدم في الشهر الثاني. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، فحكمه على ما ذكرنا. وإن قلنا: إن العادة لا تثبت بمرة واحدة حكمها حكم المبتديء. وفيه قولان على ما ذكرناه. فأما إذا رأت خمسة أيام من أول الشهر، دمًا أحمر، وعشرة أيام دمًا أسود، ثم احمر ادم، إلى آخر الشهر، أو رأت عشرة أيام دمًا أحمر، وخمسة دمًا أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، وهكذا رأت في الشهر الثاني، واستمر بها في الشهر الثالث حكمه ما ذكرنا. إن قلنا: يترك ابتداء الدم، فيجعل أيام السواد حيضًا، والباقي استحاضة. وإن قلنا: لا يترك، فيجمع بينهما، ويجعل خمسة عشر يومًا حيضًا من كل شهر، والباقي استحاضة، وإن استمر بها الدم في الشهر الثاني، فيبني على أن العادة هل تثبت بمرة واحدة أم لا؟

إن قلنا: إنها تثبت بمرة واحدة، فحكمه ما قد ذكرنا، وإلا ففيه قولان كالمبتدأة. فاما إذا رات خمسة أيام دمًا أحمر، ثم رأت أحد عشر يومًا دمًا أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، أو رأت أحد عشر يومًا دما أحمر، وخمسة أيام دمًا أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، وتكرر في الشهر الثاني، على هذه الصورة، واستمر بها الدم في الشهر الثالث. إن قلنا: إن ابتداء الدم يترك، فحكمه ما ذكرنا يجعل أيام السواد حيضًا، والباقي طهرًا. وإن قلنا: إنه لا يترك ابتداء الدم، فيه وجهان: أحدهما: أنه يجعل زمان السواد حيضًا، لأنه لا يمكن الجمع بينهما. والثاني: حكمها حكم المبتدأة، وفيه قولان: فأما إذا استمر بها الدم في الشهر الثاني، ولم يتكدر. إن قلنا إن العادة تثبت بمرة واحدة، فحكمه ما ذكرنا. وإن قلنا: لا تثبت العادة بمرة واحدة، فحكمها حكم المبتدأة، وفيه قولان: فأما إذا رأت خمسة عشر يومًا دمًا أحمر، ثم اسود الدم، فهل تؤمر بترك الصلاة والصوم أم لا؟ إن قلنا: إن ابتداء الدم يترك، فتؤمر بتركهما، ثم ينظر إن انقطع السواد على خمسة عشر يومًا، وهكذا في الشهر الثاني يجعل حيضها من كل شهر النصف الأخير منه، والباقي استحاضة. وإن قلنا: إن ابتداء الدم لا يترك فيه وجهان: أحدهما: أنها تؤمر بتركها، ويجعل زمان السواد حيضًا، لعدم إمكان الجمع بينهما على ما ذكرنا. والثاني: لا تؤمر بتركهما، وحكمها حكم المبتدأة، وفيه قولان.

وإن لم ينقطع السواد على خمسة عشر يومًا، بل جاوزه ذلك في الشهر الثاني دون الأول، هذا ينبني على أن العادة، هل تثبت بمرة واحدة أم لا؟ إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة حكمه ما ذكرنا. وإن قلنا: لا تثبت بمرة واحدة حكمها حكم المبتدأة، وفيه قولان. فأما إذا جاوز الدم الأسود على خمسة عشر يومًا في الشهر الأول، فحكمها حكم المبتدأة أيضًا، وفيه قولان، وقد ذكرناه. فأما المعتادة إذا كانت عادتها أن ترى كل شهر خمسة أيام دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، فجاء شهر، ورأت الخمسة الأول دمًا احمر، وفي الخمسة الثانية دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، وتكرر في الشهر الثاني هكذا، واستمر بها الدم في الشهر الثالث. إن قلنا: إن ابتداء الدم يترك فيكون حيضها الخمسة الثانية من كل شهر، وقد زاد في طهرها في الشهر خمسة أيام، فتصير ثلاثين يومًا، ويعود طهرها في سائر الشهور إلى ما عليه، وهو خمسة وعشرون يومًا. وإن قلنا: إن ابتداء الدم لا يترك، فيكون حيضها عشرة أيام من كل شهر، وعشرون يومًا طهرًا، وقد بقي طهرها في الشهر الأول على ما كان. وأما في الشهر الثاني والثالث انتقص من طهرها خمسة أيام، وزاد في طهرها خمسة أيام. فأما إذا لم يتكرر في الشهر الثاني، بل طبق بها الدم. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، فحكمها كما ذكرنا. وإن قلنا: إنها لا تثبت بمرة واحدة، فإنها ترد إلى عادتها من قبل، وهو خمسة أيام من قبل أن للعادة تأثيرًا في كثير من الأحكام، وأنها محكمة في الشريعة في معرفة الحرز في باب القبض في المبيع، وفي النقود والمرجل، وغير ذلك.

فأما إذا رأت في الخمسة الثالثة دمًا أسود، ثم احمر الدم ورأت في الشهر الثاني هكذا، ثم استمر بها الدم في الشهر الثالث فحكمها كما ذكرنا. إن قلنا: إن ابتداء الدم يترك، بجعل حيضها الخمسة الثالثة، وزاد في طهرها خمسة أيام في الشهر الأول. وإن قلنا: إن ابتداء الدم لا يترك، فيكون حيضها خمسة عشر يومًا، وطهرها خمسة عشر يومًا من كل شهر، وإن لم يتكرر في الثاني. هذا ينبني على أن العادة هل تثبت بمرة واحدة أم لا؟ إن قلنا: إنها تثبت بمرة واحدة، فحكمها كما ذكرنا، وإلا فترجع إلى عادتها وهو خمسة أيام من أول كل شهر، والباقي استحاضة. فأما إذا رأت السواد في الخمسة الرابعة. إن قلنا: يترك ابتداء الدم، فيكون حيضها الخمسة الرابعة، فيزيد في طهرها خمسة عشر يومًا في الشهر الأول. وإن قلنا: إنه لا يترك، فيه وجهان: أحدهما: يجعل حيضها في الخمسة الرابعة أيضا لعدم إمكان الجمع بينهما. والثاني: ترد إلى عادتها الأصلية، وهو خمسة أيام من أول الشهر، هذا إذا تكرر في الشهر الثاني. وإن لم يتكرر فعلى ما ذكرنا من قبل فأما إذا رأت السواد في الخمسة الخامسة من الشهر، وتكرر هكذا في الشهر الثاني. إن قلنا إن ابتداء الدم يترك، يجعل حيضها الخمسة السادسة، ويزيد في طهرها، عشرون يومًا من الشهر الأول. وإن قلنا: إنه لا يترك ابتداء الدم، فيكون لها حيضتها من الشهر الأول: إحداهما: الخمسة الأولى.

والثانية: الخمسة الخامسة. لأنه قد يخلل بينهما أقل الطهر، وهو خمسة عشر يومًا. وأما في سائر الشهور فيه وجهان: أحدهما: يجعل الخمسة الخامسة حيضًا، ولا يجعل لها حيضتان احتياطًا، والثاني: ترد إلى عادتها الأصلية، وهكذا حكم ما لو رأت السواد في الخمسة السادسة على هذا التفصيل. وكذا حكم ما لو لم يتكرر في الشهر الثاني، على ما ذكرنا من البناء غير مرة. والله أعلم بالصواب. فأما بيان الاستظهار، والاستظهار، هو طلب الظهر، والاستظهار: الاستعانة على طلب الطلب. فقوله: لا تستظهر، يعني لا تستعيني بمدة الثلاث على طلب الظهر أراد به ردًا على مالك. فإن عنده في الشهر الثاني: إذا انقضت مدة التمييز أو العادة. قال: الحائض تجلس ثلاثة أيام بعده. وتستظهر رجاء أن ينقطع دمها لثلاثة أيام. وعندنا: ليس لها ذلك، بل إذا مضت تلك المدة تغتسل، وتصلي وتصوم، وما ذكرنا أولى، لأن فيه مراعاة الاحتياط، وهو وجوب العبادات عليها.

فصل في المبتدأة

فصل في المبتدأة إذا رأت الدم بعد استكمال تسع سنين، وجاوز الدم خمسة عشر يومًا. ففيه قولان إذا رأت الدم على لون واحد: أحدهما: ترد إلى يوم واحد؛ لأنه حيض بيقين، والحيض لا يكون أقل من يوم وليلة. والثاني: أنها ترد إلى غالب عادات النساء، وهو ست أو سبع. وهذا إنما يكون في الشهر الثاني. فأما في الشهر الأول، إذا رأت الدم فإنها تترك الصوم والصلاة، رجاء أن ينقطع الدم على خمسة عشر يومًا. فإذا زاد على ذلك، حينئذ تغتسل، وتصلي في آخر الشهر. ثم في الشهر الثاني، فيه قولان: إن قلنا: إنها ترد إلى أقل الحيض. فإذا مضى يوم وليلة تغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر. وتقضي صلاة أربعة عشر يومًا من الشهر. وإن قلنا: إنها ترد إلى غالب عادات النساء. إن ردت إلى الست، إذا مضت ستة أيام تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر، ونقضي صلاة تسعة أيام من الشهر الأول. وإن قلنا: ترد إلى سبعة أيام، فإذا مضت سبعة أيام تغتسل، وتصلي، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر، وتقضي صلاة ثمانية أيام من الشهر الأول.

وحكى البويطي عن الشافعي قولا آخر: أنها ترد إلى أقل الحيض، وأقل الطهر فيجعل لها من أول كل شهر يومًا وليلة حيضًا، وخمسة عشر يومًا طهرًا، ثم يومًا وليلة حيضًا، ثم خمسة عشر طهرًا، والأول أحوط. فإذا قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة، أو إلى ست أو سبع، لا خلاف أن ذلك القدر من الزمان لها حيض بيقين، فتترك الصلاة والصوم في ذلك الزمان، وما جاوز الخمسة عشر من الزمان يكون لها طهرًا بيقين يلزمها الصلاة والصوم فيها، ويأتيها زوجها فيه. فأما ما زاد على يوم وليلة، أو على ست أو سبع إلى تمام خمسة عشر يومًا، ماذا حكمه؟ فيه قولان: أحدهما: أنه تستعمل الاحتياط فيها، فتصلي، وتصوم وتقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، ولا يأتيها زوجها. وإنما قلنا: لا تقضي الصلاة، لأنها إن كانت حائضًا فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرًا، فقد أدت الفريضة. وإنما قلنا: بأنها تقضي الصوم احتياطًا، لاحتمال أنها تكون حائضًا، ولا يصح منها ذلك الصوم. والقول الثاني: أنها لا تستعمل الاحتمال فتصلي، وتصوم، ويأتيها زوجها، ولا يلزمها قضاء شيء من العبادات، كما في الزمان الزائد على خمسة عشر يومًا. قال المزني: والصفرة والكدرة في أيام الحيض، حيض ثم إذا ذهب ذلك، اغتسلت وصلت، وإن كان الدم مبتدئًا لا معرفة لها به، أمسكت عن الصلاة، ثم إذا جاوزت خمسة عشر يومًا استيقنت أنها مستحاضة، وأشكل وقت الحيض عليها من الاستحاضة، فلا يجوز لها أن تترك الصلاة إلا أقل ما تحيض له النساء، وذلك يوم وليلة، فعليها أن تغتسل وتقضي الصلاة أربعة عشر يومًا.

قال الشافعي: وأكثر الحيض خمسة عشر، وأكثر النفاس ستون يومًا. قال الشافعي: الذي يبتلي بالمذى، فلا ينقطع مثل المستحاضة، يتوضأ لكل صلاة فريضة بعد غسل فرجه وتعصيبه. قال القاضي حسين: إذا رأت الدم على أي لون كان، وانقطع على خمسة عشر يومًا، فإن الكل يكون حيضًا. وإن زادت على ذلك، فقد ذكرنا حكمه. وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو إسحاق المروزي، إن الصفرة في أيام العادة ليست حيضًا. وقيل بأن أبا إسحاق المروزي رجع عن ذلك. وقال: الصفرة والكدرة في زمان إمكان الحيض حيض؛ لأنه وجد لذلك نصا من الشافعي في كتاب العدة، فعلى هذا إذا رأت خمسة أيام دمًا أسود، وخمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دمًا أصفر، وانقطع على خمسة عشر يومًا، فإن عندنا وعند أبي إسحاق الكل يكون حيضًا، لأن الصفرة وجدت في زمان إمكان الحيض، وبمثله لو رأت خمسة ايام دمًا أصفر، فإنه يكون حيضًا وجد في زمان إمكان الحيض، لأنه قد تخلل بينهما أقل الطهر. وفرع أصحابنا على قول أبي سعيد، وقالوا: إن الصفرة والكدرة عنده إنما لا تكون حيضًا، إذا لم يتقدمه دم قوى. فأما إذا تقدمه دم قوي، فإنه يكون حيضًا، ثم اختلفوا في مقدار الدم القوى. منهم من قال: يشترط فيه أن يرى يومًا وليلة دما قويًا، ثم ترى الصفرة والكدرة حتى تجعل الكل حيضًا، لأن الدم القوي إذا لم يكن له حكم الحيض بانفرداه لا يستتبع غيره في الحكم، نظيره إذا كان بين رجلين ثلاثون من الغنم مختلطًا، ولكل واحد منهما مائة من الغنم على الانفراد، فلا يثبت بينهما حكم الخلطة.

فأما إذا كان بينهم أربعون من الغنم خلطة، ولكل واحد منهمنا مائة من الغنم، حينئذ يثبت بينهما حكم الخلطة في الكل لما ذكرنا من المعنى. ومنهم من قال: ينبغي أن يتقدمه دم قوي، وإن كان لحظة. ومنهم من قال: ينبغي أن يتقدمه دم قوي، ويتأخر عنه دم قوي، ثم اختلفوا فيه. منهم من قال /: ينبغي أن يتقدمه دم قوي يوما وليلة ويتأخر عنه هكذا. ومنهم من يعتبر من الدم القوي لحظة في الابتداء، ولحظة من الانتهاء فحسب. فرع إذا رأت خمسة صفرة، وخمسة كدرة، وخمسة سودًا. على مذهب أبي إسحاق، والإصطخري: حيضها في أيام السواد؛ لأنهما يعتبران بقدر الدم القوي. وعلى مذهب الأصحاب: الكل حيض، فعلى هذا: إذا رأت عشرة أيام دمًا، أحمر، وعشرة أيام دمًا أصفر، ورأت في الشهر الثاني هكذا، واستمر بها الدم يجعل لها عشرة أيام من كل شهر حيضًا عندنا وعندهما، والباقي طهرًا. وإن لم يتكرر في الشهر الثاني. وقلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة هكذا. وإن قلنا: إن العادة لا تثبت بمرة واحدة، فإنها ترد إلى غالب عادات النساء، أو إلى يوم وليلة، وقد ذكرنا فيه قولين. وعندهما: حيضها عشرة أيام فحسب. فأما إذا رأت أولا عشرة أيام دمًا أصفر، ثم رأت عشرة أيام دمًا أحمر، أو

أسود، ورأت في الشهر الباقي هكذا، واستمر بها الدم في الشهر الثالث عندنا، هذا بناء على أن ابتداء الدم هل يترك أم لا؟ وقد ذكرنا من قبل: وعندهما: لا تجعل أيام الصفرة حيضًا، بل يكون حيضها أيام الحمرة إذا رأت الحمرة، أو السواد إن رأت السواد. فصل: المعتادة إن كانت عادتها أن ترى في كل شهر خمسة أيام دمًا أسود، والباقي يكون طهرًا، فجاء شهر، ورأت خمسة أيام دمًا أسود وطبق بها الدم إلى آخر الشهر أسود، فإنها ترد إلى عادتها، وهي خمسة أيام، إذ لا يمكنها التمييز في هذه الحالة. فأما إذا رأت عشرة أيام دمًا أسود، وانقطع على ذلك، فإن تكرر هكذا في الشهر الثاني، فقد تغيرت عادتها، وانتقلت من خمسة إلى عشرة، وإن لم يتكرر في الشهر الثاني. إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، فذاك. وإن قلنا: إنها لم تثب بمرة واحدة، فإنها ترد إلى عادتها الأصلية، وهي خمسة أيام في أول كل شهر. فأما إذا رأت عشرة أيام دمًا أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر، ورأت في الشهر هكذا، فهذه امرأة اجتمع لها التمييز والعادة، وأيهما يقدم. فيه قولان: أحدهما: التمييز يقدم على العادة، لأن ذاك دليل على نفس الدم. والثاني: العادة تقدم على التمييز؛ لأنها مستقيمة متيقنة.

وقال أبو حنيفة: لا يعمل بالتمييز لا في هذا المحل، ولا في محل ما، بل ينظر فيه. فإن كانت معتادة، فإنها ترد إلى عادتها، وإن كانت مبتدأة، فإنها ترد إلى أكثر الحيض، وهو عشرة أيام عنده. وهذا كله كلام فيما إذا كانت لها عادة واحدة مستقيمة. فأما إذا كانت لها عادات مختلفة، فلا يخلو إما أن يكون لها دور مستقيم، ومناوبة لا تختلف، أو لم يكن لها دور مستقيم. فإن كان لها دور مستقيم، مثل أن رأت الدم شهرًا ثلاثة أيام، وشهرًا خمسة أيام وشهرًا سبعة أيام، ثم استقامت عادتها على هذا التفسير، واستقرت، وإنما تستقيم تلك في ستة أشهر ليحصل تكرار العادات مرتين، وكذا لو رأت في شهرينن ثلاثة ثلاثة، وفي شهرين خمسة خمسة، وفي شهرين سبعة سبعة. واستقرت على ذلك، فحصل لها دور مستقيم في سنة كاملة. إذا ثبت هذا، فلو جاءها شهر، واستمر بها الدم ماذا حكمه؟ فيه قولان: أحدهما: يرد إلى ما كانت حيضتها قبل شهر الاستحاضة. فإن كانت حيضتها قبل شهر الاستحاضة، سبعة أيام، فإذا ترد إلى سبعة في كل شهر بعده. وإن كانت خمسة فترد إلى خمسة. وإن كانت ثلاثة فترد إلى ثلاثة. والباقي من الشهر بعد مضي هذه العادات طهر. والقول الثاني: أنها ترد إلى دورها المستقيم، ومناوبتها التي لا تختلف، فعلى هذا إن كانت عادتها قبل الشهر الذي استحيضت فيه ثلاثة، فيجعل لها

في هذا الشهر خمسة أيام حيضًا، والباقي طهرًا، وفي الشهر الثالث تستأنف، ويجعل لها ثلاثة أيام حيضًا، ثم في الشهر الثاني خمسة أيام حيضًا على هذا القياس. فأما إذا لم يكن لها دور مستقيم، ومثل أن ترى شهرًا ثلاثة أيام حيضًا، وشهرًا تسعة أيام حيضة وشهرًا خمسًا، وربما تقدم السبعة على الثلاثة، وربما يتكرر الثلاثة في شهرين متواليين. وربما يتوسط بينهما عادة أخرى. فإذا جاءها شهرًا واستمر بها الدم. فها هنا ول واحد: أنها ترد إلى عادتها قبل شهر الاستحاضة لا محالة. فإن كان عادتها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة خمسة أيام، فيجعل لها من كل شهر خمسة أيام حيضًا، والباقية طهرًا. وعلى هذا القياس أبدًا إن قلنا في القسم الأول، إنها ترد إلى دورها المستقيم على الترتيب، فإنها لا تستعمل الاحتياط. وإن قلنا بأنها ترد إلى حيضتها قبل شهر الاستحاضة، كما قلنا في القسم الثاني. هل تستعمل الاحتياط أم لا؟ فيه جوابان ينبنيان على المبتدأة. إن قلنا: ترد إلى يوم وليلة، أو إلى ست وسبع، هل تستعمل الاحتياط من ذلك الوقت إلى تمام خمسة عشر أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا هناك: لا تستعمل الاحتياط فهذا مثله. وإن قلنا هناك: تستعمل الاحتياط، فها هنا تستعمل الاحتياط من أقل عادتها إلى أكثر عادتها في قضاء الصوم والصلاة.

بيانه: أنها لو كانت حيضتها قبل أشهر الاستحاضة سبعة أيام، ففي هذا الشهر رددناها إلى سبعة أيام، فإذا مضت سبعة أيام من الشهر الذي استحيضت فيه، فإنها تغتسل، وتقضي الصلاة من أقل عادتها، وهو ثلاثة أيام إلى أكثر عادتها، وهوسبعة أيام لاحتمال أن دمها قد انقطع على ثلاثة أيام، والباقي يكون استحاضة، وتقضي صوم سبعة أيام احيتاطًا؛ لأن الحائض تقضي الصوم في جميع الأحوال. وإن كانت عادتها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة خمسة أيام، فرددناها في شهر الاستحاضة إلى الخمسة. فإذا مضت خمسة أيام منه تغتسل وتصلي. فإذا مضت يومان بعده إلى تمام السبعة تغتسل هنا، وتصلي، وتقضي الصلاة من أقل عادتها، وهو الثلاث إلى أوسط عادتها، وهو الخمسة، ولا تقضي الصلاة من الخمسة إلى السبعة، لأنها إن كانت حائضًا في تلك المدة فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرًا في تلك المدة، فقد أدت الصلوات بالطهارة، وتقضي صوم سبعة أيام لا محالة، ولا يأتيها زوجها إلى تمام سبعة أيام احتياطًا، وإن كانت عادتها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة ثلاثة أيام، فإنا نردها إلى الثلاثة في شهر الاستحاضة، فإذا مضت الثلاثة تغتسل ثانيًا وتصلي. ثم إذا مضت سبعة أيام تغتسل ثانيًا، ولا تقضي شيئًا من الصلوات، لأنها إن كانت حائضًا، فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرًا، فقد أدت فريضة الوقت، بالطهارة بعد مضي ثلاثة أيام من الشهر، ولكن تقضى الصوم كله احتياطًا، لاحتمال أنها تكون حائضًا إلى تمام سبعة أيام، ولا يصح منها الصوم في زمان الحيض وكذا لا يأتيها زوجها إلى تمام سبعة أيام احتياطًا، والله أعلم بالصواب.

فصل في الناسية

فصل في الناسية وهي على قسمين: منها من لم تذكر شيئًا من وقت حيضها، ولا من وقت طهرها، ولا تذكر وقت انقطاع الدم. ومنها من لم تذكر شيئًا من وقت طهرها، أو وقت انقطاع الدم. فأما إذا لم تذكر شيئا من وقت حيضها، ولا من وقت طهرها، ولا من وقت انقطاع الدم، فتسمى هذه ناسية متحيرة، لأنها تحيرت في أمر نفسها، وحيرت العالم في شأنها. وذلك يتصعد في موضعين: أحدهما: أن تكو صغيرة مجنونة، فبلغت، واستمر بها الدم، ثم أقامت بعد ذلك، والدم بها مستمر. والثاني: أنها بالغة، وتحيض مرارًا، ثم جنت أعواما كثيرة، وأقامت، والدم بها مستمر ونسيت أيام حيضها وطهرها، ووقت انقطاع دمها، فماذا حكمها؟ فيه قولان: أحدهما: أن حكمها حكم المبتدأ؛ لأن الشافعي قال: وإن ابتدأت مستحاضة تركت الصلاة يومًا وليلة، عطفها على المبتدأة، فترد إلى يوم وليلة، أو إلى ست أو سبع على ما ذكرنا في المبتدأة، ثم ينظر فإن كانت صغيرة، وبلغت مجنونة، وأقامت، فإنها ترد إلى يوم وليلة، من كل شهر عددي، وهو ثلاثون يومًا ليس لها أصل قبل هذا.

وإن كانت بالغة، وجنت، ثم أفاقت، وقلنا: بأنها ترد إلى يوم وليلة، وأنها ترد إلى ذلك من الشهر الهلالي، لأنه كان لها أصل مستقيم قبل ذلك. وقال القفال: إنها ترد إلى يوم وليلة من وقت الإفاقة؛ لأن ذلك أول وقت تلاقيها الخطاب. والقول الثاني: وهو قوله الجديد، أنه ليس لها طهر بيقين، ولا حيض بيقين، فتستعمل الاحتياط، فتصوم وتقضي وتصلي وتقضي، ولا يأتيها زوجها أبدًا. وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ما من زمان من الأزمنة، إلا ويتصور لها الحيض فيه، والطهر وانقطاع الدم فيه. ولكن على القولين معا: لو كانت معتدة تنقضي عدتها بمضى ثلاثة أشهر، لأنا لو قلنا: لا تنقضي بمضي هذه المدة، لأدى ذلك إلى إلحاق الضرر بها وبه، لأنها تبقي في حبالته ابد الدهر، ويتضرر هو بإدرار النفقة عليها. وكيفية الاحتياط في العبادات: نذكر أولا الصلاة: فنقول: إذا دخل وقت الظهر تغتسل، وتصلي الظهر، وإذا دخل وقت العصر تغتسل، وتصلي العصر، وإذا غربت الشمس تغتسل، وتصلي المغرب، ثم تتوضأ وتقضي الظهر، ثم تتوضأ وتقضي العصر، ثم إذا غاب الشفق تغتسل وتصلي صلاة العشاء ثم إذا طلع الفجر تغتسل وتصلي الفجر، ثم تتوضأ وتقضي المغرب، ثم تتوضأ، وتقضي العشاء، ثم إذا طلعت الشمس تغتسل وتقضي الصبح. فإنها تصلي في يوم وليلة عشر صلوات بست اغتسالات، وأربع طهارات. وإنما قلنا: إذا غربت الشمس تتوضأ بعد الاغتسال، وتقضي صلاة الظهر، ثم تتوضأ وتقضي صلاة العصر، لاحتمال أنه ربما انقطع دمها قبل غروب الشمس، بقدر ركعة، ويلزمها صلاة العصر والظهر بذلك.

وإنما قلنا: لا تغتسل لهما، لأنها اغتسلت بعد غروب الشمس. فإن انقطع دمها قبل غروب الشمس، فقد وجد الاغتسال مرة، وإن لم ينقطع ذلك قبل غروب الشمٍس، فلا قضاء عليها للظهر والعصر، وهكذا العلة في إيجاب قضاء المغرب والعشاء عليها بعد طلوع الفجر، وفي إيجاب قضاء الصبح عليها بعد طلوع الشمس على ما بينا. ومن أصحابنا من قال: إنها إذا غربت الشمس تغتسل، وتصلي الظهر قضاء ثم تتوضأ، وتقضي العصر، ثم تغتسل فتصلي المغرب، لأنه ربما ينقطع دمها قبل غروب الشمس، ويلزمها قضاء الصلاتين الظهر والعصر، فلتغتسل للظهر، ولا تغتسل ثانيًا للعصر، لما ذكرنا من قبل، بل تتوضأ لها لكونها مستحاضة، وتغتسل للمغرب، لاحتمال أن دمها انقطع بعد غروب الشمس، وهكذا قال في ما بعد طلوع الفجر: تغتسل وتقضي المغرب، ثم تتوضأ، وتقضي العشاء، ثم تغتسل وتؤدي الفجر، فإنها تصلي في يوم وليلة عشر صلوات بثماني اغتسالات، وأربع طهارات على قوله. والصحيح هو الأول؛ لأن هذا يؤذن بأنه يجب عليها قضاء صلاة المغرب أبدًا، لاحتمال أن دمها يعود قبل غروب الشمش، وقبل أن تصلي المغرب، فتقع صلاة المغرب في زمان الحيض في الحالتين، وليس فيه من الاحتياط شيء، فأما إذا كان عليها صلاة واحدة قضاء، فإنها تحتاج إلى أن تصلي ثلاث مرات بثلاث اغتسالات، حتى تخرج منها صلاة صحيحة بيقين. وكيفيته: أن تغتسل، وتصلي الصلاة، ثم تمهل قدر إمكان الاغتسال وأداء هذه الصلاة، وتفعل مثلا في وقت يكون فراغها من الاغتسال والصلاة، ومدة الإمهال توافق أول طلوع الشمس، ثم تغتسل من أول وقت الاغتسال ابتداء إلى تمام خمسة عشر يومًا في أي وقت شاءت، وإن شاءت في اليوم الأول، وإن شاءت في اليوم الثاني والثالث، وإن شاء في اليوم الرابع عشر وغيرها، ثم إذا

قضت من أول ما اغتسلت وصلت في الابتداء خمسة عشر يومًا فإنها تمهل قدر إمكان اغتسال وأداء صلاة، ثم تغتسل وتصلي فتخرج من هذه الصلوات صلاة واحدة أو صلاتان بيقين الطهارة في وقت الطهر، لأنا قد قررنا أنه انقطاع دمها قبل الاغتسال، والصلاة التي أتت بها ابتداء، فالصلاة الأولى والثانية تقعان في زمان الطهر لا محالة، لأن الطهر لا يكون أقل من خمسة عشر يومًا، وإن قدرنا أن انقطاع دمها في خلال الصلاة الأولى، فإن الصلاة الثانية تقع في زمان الطهارة لا محالة لما ذكرنا. وكذا لو قدرنا أن انقطاع دمها بعد الفراغ من الصلاة الأولى وقبل الصلاة الثانية، وإن كان بعد الصلاة الأولى والثانية. فإن الصلاة الثالثة تقع في زمان الطهر بيقين، لأجل أن الطهر لا ينقص عن خمسة عشر يومً، وإن قدرنا أن ابتداء حيضها قبل الاغتسال الأول فإن الصلاة الثالثة تقع في زمان الطهر لا محالة من قبل أن الحيض لا يزيد على خمسة عشر يومًا، وكذا لو قدرنا أن ابتدأ دمها في خلال الصلاة الأولى، وإن قدرنا أن ابتداء دمها بعد الفراغ غير الصلاة الأولى والثانية، فإن الصلاة الأولى تقع في الطهر لا محالة، فإذا ثبت هذا وأنعمت النظر فيه، وتأملته جدًا ظهر لك صحة ما قلناه. فأما إذا كان عليها قضاء صلاتين مثلا صبح وظهر، فإنها تغتسل وتصلي الصبح، ثم تمهل قدر إمكان الاغتسال، وأداء تلك الصلاة على التقدير الذي بيناه من قبل، ثم تغتسل وتصلي الظهر ثم تمهل قدر إمكان الاغتسال وأداء تلك الصلاة، ثم تغتسل وتصلي الصبح في أول الوقت الذي اغتسلت فيه للصبح إلى تمام خمسة عشر يومًا، ثم تمهل بعده قدر إمكان الاغتسال، وأداء تلك الصلاة، وتغتسل وتصلي ثالثا الصبح، وكذلك تفعل لأجل الثانية بأن تغتسل وتصلي الظهر ثانيا، من الوقت الذي اغتسلت فيه للظهر إلى تمام خمسة عشر يومًا من ذلك الوقت، ثم بعده تمهل قدر إمكان الاغتسال وأداء

تلك الصلاة، ثم تغتسل، وتصلي ثالثا الظهر، وكذا القياس فيما إذا كان عليها قضاء صلوات كثيرة على ما بيناه، والله أعلم. فأما إذا أرادت الطواف بالبيت فيحتاج أن تطوف ثلاث مرات بثلاث اغتسالات على الوجه الذي بيناه في الصلاة بأن تغتسل، وتطوف سبع مرات بالبيت، ثم تغتسل وتطوف بالبيت هكذا من أول ما اغتسلت ابتداء إلى تمام خمسة عشر يومًا منه في أي وقت شاءت، ثم بعد ذلك تمهل قدر إمكان اغتسال، وطواف سبع مرات بالبيت، ثم تغتسل، وتطوف بالبيت سبع مرات، وهل تحتاج إلى الاغتسالات لأجل ركعتي الطواف أم لا؟ هذا ينبني على أن ركعتي الطواف فريضة أم سنة.؟ فإن قلنا: إنها فريضة، فيحتاج إلى الاغتسالات لها ثانيا، وإلا فلا. وقال القفال: سواء قلنا، فرضًا أو سنة لا يحتاج فيه إلى الاغتسال ثانيا، لأنها تبع للطواف، وليست بمتبوعة بنفسها، بخلاف سائر الصلوات، فأما إذا كان عليها قضاء صوم واحد، فإنها تصوم يومًا، ثم تمهل يومًا، ثم تصوم يوما من اليوم الأول إلى تمام خمسة عشر يومصأ منه في أي يوم شاءت، ثم تمهل يوم السادس عشر، وتصوم يوم السابع عشر، فيحصل لها صوم يوم في زمان الطهر لا محالة، على الترتيب الذي ذكرنا في قضاء الصلاة حرفا بحرف، سواء قدرنا أو لا انقطاع الدم، أو قدرنا لها ابتداء الدم، لأن دم الحيض لا يزيد على خمسة عشر يومًا. والطهر لا أقل من خمسة عشر يومًا. وإنما قلنا: إنها تمهل في اليوم الثاني، ولا تصوم فيه، لأنها لو صامت في اليوم الثاني: فلا يحصل لها صوم يوم كامل بيقين في زمان الطهر، لاحتمال أن دمها ينقطع في خلال يوم الثاني، فلا يصح صومها في اليوم الأول والثاني، ومن وقت انقطاع إذا جعلناها خمسة عشر يوما طهرًا. فإن آخر الطهر يكون في خلال يوم السابع عشر منه، ولا يصح أيضًا صوم

ذلك اليوم لاجتماع الحي والطهر فيه، فقلنا: بأنها لا تصوم يوم الثاني، وإنما تصوم مكانه يوم الثالث أو الرابع إلى مضى خمسة عشر يومًا من أول يوم صومها ليقع يوم السابع وقت الطهر لا محالة، لو قدرنا انقطاع دمها في خلال اليوم الذي تصوم فيه ثانيًا. وإنما قلنا بأنها تصوم يومًا في خلال اليوم الذي تصوم فيه ثانيًا، وإنما قلنا بأنها تصوم يوما في خلال هذه الأيام، حتى يخرج لها صوم كامل بيقين في زمان الطهر، لأنه ربما ينقطع دمها في خلال اليوم الأول الذي تصوم فيه، فلا يصح صوم ذلك اليوم. ويمتد زمان الطهر من وقت انقطاع الدم خمسة عشر يومًا، فيكون آخر وقت الطهر في آخر يوم السادس عشر إلا شيئًا. فلو صامت في ذلك اليوم السابع عشر يقع صومها في يوم الحيض، فثبت أنه لابد من صيام ثلاثة أيام في سبعة عشر يومصا على الوجه الذي وصفناه. حتى يخرج منه صوم يوم واحد، في زمان الطهر بيقين. فأما إذا كان عليها قضاء يومين من الصوم، فإنها تصوم يومين مثلا من أول الشهر، ثم تصوم يوم السابع عشر، والثامن عشر منه، وتصوم يومين فيما تخلل بينها من الأيام. إن شاءت متصلا باليومين الأولين، وإن شاءت وصلتهما باليومين الأخيرين، وإن شاءت صامتهما في الوسط على الانفراد، وكذا إذا وجب عليهما قضاء ثلاثة أيام. فإنها تصوم ثلاثة أيام مثلا من أول الشهر، وتصوم يوم السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر منه، وتصوم بينهما يومين إن شاءت وصلتهما بالثلاث الأول، وبالثلاث الآخر، أو صامتهما في الوس على الانفراد فتحتاج إلى صوم ثمانية أيام ليحصل لها صوم ثلاثة أيام، بيقين في زمان الطهر، فأما إذا وجب عليها قضاء أربعة أيام في الصوم، فإنها تصوم مثلا من

أول الشهر أربعة أيام، وتصوم يوم السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرين منه، وتصوم بينهما يومين أبدًا على التفسير، الذي ذكرنا، فتحتاج فيه إلى صوم عشرة أيام، وهكذا القياس فيما رذا كان الواجب عليها صوم خمسة أيام، أو أكثر من ذلك، فنحتاج أن نصوم ضعفي تلك الأيام، ونصف مثله على ترتيب الذي بيناه. فأما إذا جاء شهر رمضان، وصامت الشهر كله، وخرج الشهر كاملا، فإنه يحصل لها من صوم الشهر أربعة عشر يومًا، ونقدر فيه الاحتياط، كان انقطاع دمها يكون في خلال يوم منه. وانتهاء مدة الطهر يقع في خلال يوم منه، فيكون طهرها في أربعة عشر يومًا، ويقع بعض الطهر في يوم وبعضه في يوم، فيصير ستة عشر يومًا يبقى له أربعة عشر يومًا كاملا، فيها طهر بيقين، ثم تصوم شهرًا آخر إذا خرج كاملا، ويحصل لها حيض على هذا التقدير أربعة عشر يومًا، ويبقى عليها صوم يومين، وقد ذكرنا الكلام في كيفية قضاء يومين من الصوم. فأما إذا وجب عليها صوم شهرين متتابعين في الكفارة فإنها إذا صامت أربعة أشهر كوامل يحصل لها صوم ستة وخمسين يومًا، ويبقى عليها صوم أربعة أيام متتابعات، فإنه تصومها في عشرين يومًا متتابعة، حتى يحصل لها منه أربعة أيام متتابعات باليقين، وكذا لو كان عليها صوم ثلاثة أيام متتابعات من كفارة اليمين، فإنها تصوم تسعة عشر يومًا متتابعة ليحصل لها منه ثلاثة أيام متتابعات. وهذا لما قدرنا من ابتداء رؤية دمها في خلال اليوم، ليحصل انتهاء مدة الحيض في خلال يوم السادس، ليحصل لها ثلاثة أيام كوامل في زمان الطهر، قال المزني: ولو كان عليها قضاء يوم واحد، فإنها تصوم يومين بينهما خمسة عشر يومًا. قال أصحابنا: فيه خلل من وجهين. أحدهما: أنه قال: تصوم يومين.

وقد ذكرنا أنها تحتاج إلى قضاء صوم ثلاثة أيام على ما بيناه. والثاني: قال: بينهما خمسة عشر [يومًا]. وينبغي أن يقول: بينهما أربعة عشر يومًا حتى يقع أحد اليومين في زمان الطهر على ما بينا. ومن أصحابنا من قال: ليس فيما نقله خلل. وقوله: (يصوم يومين). قال القاضي حسين: أراد به في موضع أنها تعرف أن انقطاع دمها في زمان الليل، ولا يتبعض أيام طهرها، فها هنا تحتاج إلى صوم يومين في سبعة عشر يومًا، الأول، واليوم السابع عشر منه، ولا تصوم فيما توسط بينهما. ومن أصحابنا من قال: أراد بقوله خمسة عشر يومًا. يعني: عد أحد طرفيه معه. يعني: أربعة عشر يومًا، ومعه اليوم الأول، ومثله يجوز. كما قال الشافعي في السفر الطويل في موضع، وهو أن يكون ستة وأربعين ميلا. وفي موضع ثمانية وأربعين ميلا وعدا الميلين في طرف الارتحال، والنزول في هذا الموضع، وفي ذلك الموضع لم يعد هكذا، هذا مثله. فصل: في الناسية التي تعرف شيئًا من وقت حيضها، أو من وقت طهرها، أو تذكر وقت انقطاع الدم. والحد فيه أن كل زمان لا يحتمل إلا الحيض، فيكون فيه حيض بيقين، وكل

زمان لا يحتمل فيه إلا الطهر، فيكون طهرًا بيقين، وكل زمان يحتمل فيه الحيض والطهر وانقطاع الدم، فيكون طهرا مشكوكًا فيه، فتؤمر بالاغتسال عند كل صلاة، وكل زمان يحتمل فيه الحيض والطهر دون انقطاع الدم، فيكون حيضًا مشكوكًا يتوصل لكل صلاة. فإذا قالت: لا أذكر شيئًا، إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، أو كنت أخلط بياض الشهر بسواد الشهر، وكلاهما واحد، فيكون لحظتان حيض بيقين: لحظة من آخر الشهر ولحظة من أول الشهر، فبعد ذلك إلى تمام خمسة عشر يومًا من الشهر إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ويحتمل انقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة، ثم بعد ذلك لها لحظتان: طهر بيقين لحظة من آخر الخامس عشر، ولحظة من أول ليلة السادس عشر، ثم بعد ذلك إلى آخر الشهر، إلا لحظة يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ولا يحتمل انقطاع الدم، فيكون ذلك حيضا مشكوكًا فيه، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئًا، إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر بيوم كامل، فيكون لها يومان وليلة، حيض بيقين يوم الثلاثين من الشهر الماضي، والليلة الأولى من الشهر الثاني، واليوم الأول منه، ثم بعد ذلك يحتمل الطهر والحيض، وانقطاع الدم إلى تمام ليلة الخامس عشر منه، تغتسل لكل صلاة في هذه المدة، ثم بعد ذلك يوم الخامس عشر، وليلة السادس عشر، ويوم السادس عشر لها طهر بيقين، ثم بعد ذلك إلى يوم الثلاثين منه حيض مشكوك فيه تتوضأ لكل صلاة، لأنه يحتمل الحيض والطهر، ولا يحتمل انقطاع الدم. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئا، إلا أني كنت أخلط بياض الشهر بياض الشهر، فيكون لها لحظتان، وليلة واحدة: حيض بيقين لحظة من آخر الشهر ولحظة من أول الشهر ولحظة من أول يوم منه، فبعد ذلك إلى تمام خمسة عشر يومًا من الشهر، إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ويحتمل انقطاع الدم، فتؤمر بالاغتسال لكل صلاة إلى مضى تلك المدة،

بعد ذلك، تلك الحظة وليلة السادس عشر، ولحظة من يوم السادس عشر لها، طهر بيقين، ثم بعد ذلك لها حيض مشكوك فيه إلى آخر الشهر، إلا لحظة، لأنه يحتمل فيه الحيض، ويحتمل الطهر، ولا يحتمل انقطاع الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئا إلا أني كنت أخلط سواد الشهر بسواد الشهر، فيكون لها لحظتان، ويوم كامل حيض بيقين لحظة من آخر ليلة يوم الثلاثين، يوم الثلاثين فيه، ولحظة من أول الشهر، فبعد ذلك إلى تمام ليلة الخامس عشر منه، إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل فيه الحيض، ويحتمل فيه الطهر، ويحتمل انقطاع الدم، فتؤمر بالاغتسال عند كل صلاة في هذه المدة، ثم بعده تلك اللحظة من آخر ليلة الخامس عشر، ويوم الخامس عشر منه، ولحظة من أول ليلة السادس عشر لها طهر بيقين، ثم بعد ذلك إلى آخر ليلة يوم الثلاثين، إلا لحظة لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض، ويحتمل الطهر، ولا يحتمل انقطاع الدم، فتتوضأ لكل صلاة في المدة. فأما إذا قالت: كت أخلط سواد الشهر ببياض الشهر، فيكون لها يوم وليلة، ولحظتان حيض بيقين: لحظة من آخر ليلة الثلاثين، ويوم الثلاثين من آخر الشهر، وليلة الأولى من الشهر الثاني، ولحظة من أول يوم منه بعده إلى تمام ليلة الخامس عشر منه، إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ويحتمل انقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة في هذه المدة، ثم بعد تلك اللحظة التي بقيت من ليلة الخامس عشر، ويوم الخامس عشر، وليلة السادس عشر، ولحظة من أول السادس عشر لها طهر بيقين، ثم بعده إلى آخر ليلة يوم الثلاثين منه، إلا لحظة لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض والطهر دون انقطاع الدم، فتتوضأ لكل صلاة في تلك المدة. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئًا، إلا أني كنت لا أخلط الشهر بالشهر، فيكون لها لحظتان طهر بيقين: لحظة من آخر الشهر، ولحظة من أول الشهر، ثم بعده إلى تمام يوم وليلة، ولحظة من الليلة الثانية من الشهر لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل فيه الطهر، ويحتمل فيه الحيض ولا يحتمل انقطاع الدم، لأن

الحيض لا ينقطع فيما دون يوم وليلة، فتتوضأ فيه لكل صلاة، ثم بعده إلى آخر الشهر لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ويحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر، إلا لحظة. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئا إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس منه حائضًا، فيكون لها خمسة أيام من أول الشهر، ولحظة من آخر الشهر حيض بيقين، وبعده إلى تمام خمسة عشر يومًا، إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ويحتمل انقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة في هذه المدة، ثم بعد تلك اللحظة، وخمسة أيام بعده إلى تمام العشرين لها طهر بيقين، ثم بعد ذلك إلى آخر الشهر، إلا لحظة لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر والحيض، دون انقطاع الدم فيه، فتتوضأ لكل صلاة في هذه المدة. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئًا، إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس والعشرين حائضًا، فيكون لها من يوم الخامس والعشرين إلى آخر الشهر، ولحظة من أول الشهر حيض بيقين، ثم بعده إلى تمام ليلة العاشر من هذا الشهر لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل فيه الحيض، ويحتمل فيه الطهر، ويحتمل فيه انقطاع الدم، فتغتسل عند كل صلاة في هذه المدة، ثم بعده إلى تمام الخامس عشر منه لها طهر بيقين، ثم بعده إلى تمام ليلة الخامس والعشرين لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل فيه الحيض والطهر دون انقطاع الدم، فتتوضأ لكل صلاة في هذه المدة. فأما إذا قالت كنت أخلط الشهر بالشهر، إلا أني كنت يوم الخامس منه طاهرًا، فيكون لها لحظتان حيض بيقين: لحظة من آخر الشهر، ولحظة من أول الشهر، ثم بعده إلى تمام أربعة أيام لها طهر مشكوك فيه، يحتمل فيه الحيض والطهر وانقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة في تلك المدة، ثم بعده إلى تمام خمسة عشر يومًا، ولحظة من أول السادس عشر لها طهر بيقين، ثم بعده يكون

لها حيض مشكوك إلى آخر الشهر، إلا لحظة، لأنه يحتمل الحيض، ويحتمل الطهر، دون انقطاع الدم، فيتوضأ فيه لكل صلاة. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئًا، إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس والعشرين طاهرًا، فيكون لها لحظتان حيض بيقين: لحظة من آخر الشهر، ولحظة من أول الشهر، ثم بعد ذلك إلى تمام خمسة عشر يومًا من الشهر، إلا لحظة يكون طهرا مشكوكا فيه، تغتسل لكل صلاة في هذه المدة، لأنه يحتمل الحيض ويحتمل الطهر، ويحتمل انقطاع الدم بعد ذلك إلى تمام خمسة وعشرين يومًا منه، إلا لحظة يكون لها طهر بيقين، ثم بعده إلى آخر الشهر، إلا لحظة يكون لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل فيه الحيض، ويحتمل فيه الطهر دون انقطاع الدم، فتتوضأ لكل صلاة في تلك المدة. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئًا، إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس منه حائضًا، فيكون لها لحظتان طهر بيقين: لحظة من آخر الشهر، ولحظة من أول الشهر، ثم بعده إلى يوم الخامس لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض ويحتمل الطهر، ولا يحتمل انقطاع الدم، فتتوضأ لكل صلاة في تلك المدة، ثم لها يوم الخامس حيض بيقين من أول يوم الخامس إلى تمام ليلة العشرين لها طهر مشكوك فيه، يحتمل الحيض والطهر، وانقطاع الدم فإذا مضى يوم الخامس بعد ذلك تغتسل لكل صلاة إلى انتهاء تلك المدة ثم من العشرين إلى آخر الشهر، ولحظة لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: لا أذكر شيئًا، غير أني أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس والعشرين حائضًا، فيكون لها لحظتان من أول الشهر وآخره طهر بيقين، ومن أول الشهر إلى تمام يوم العاشر لها طهر بيقين، ثم بعد ذلك إلى يوم الخامس والعشرين لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض والطهر ولا يحتمل انقطاع الدم، فتتوضأ لكل صلاة، ثم يوم الخامس والعشرين لها حيض بيقين، ثم ما بعده إلى آخر الشهر، إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل فيه الحيض والطهر وانقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة.

فأما إذا قلت: كنت لا أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس منه طاهرًا، فيكون لها لحظتان طهر بيقين: لحظة من آخر الشهر، ولحظة من أول الشهر، ثم بعده يكون لها يوم وليلة حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض، ويحتمل الطهر، ويحتمل انقطاع الدم، لأن الدم لا ينقطع في أقل من يوم وليلة تتوضأ لكل صلاة، ثم بعد ذلك إلى يوم الخامس مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض والطهر، ويحتمل انقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة ثم يوم الخامس لها طهر بيقين، وبعده يوم وليلة حيض مشكوك فيه تتوضأ فيه لكل صلاة، ثم بعده إلى آخر الشهر لها طهر مشكوك فيه، لأنه يحتمل الحيض والطهر، ويحتمل انقطاع الدم، فتغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر إلا لحظة. فأما إذا قلت: كنت لا أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس والعشرين طاهرًا، فيكون لها لحظتان طهر بيقين: لحظة من آخر الشهر، ولحظة من أوله، ثم يكون لها يوم وليلة حيض مشكوك فيه، تتوضأ لكل صلاة، ثم بعده إلى يوم الخامس والعشرين لها طهر مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ويحتمل انقطاع الدم فيه، فتؤمر بالاغتسال لكل صلاة، ثم يوم الخامس والعشرين لها طهر بيقين، ثم بعده يوم وليلة لها حيض مشكوك فيه، لأنه يحتمل الطهر ويحتمل الحيض ولكن لا يحتمل انقطاع الدم فيما دون يوم وليلة، فتتوضأ لكل صلاة فريضة، ثم بعده إلى آخر الشهر، إلا لحظة لها طهر مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل الحيض، ويحتمل الطهر، ويحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل لكل صلاة فريضة في تلك المدة، وقس على هذا نظائر هذه المسائل في هذا الباب. والله اعلم بالصواب.

فصل في الإضلال

فصل في الإضلال: إذا قالت: أضللت ثلاثة في كل شهر، ولا أذكر شيئا، غير أني كنت يوم الثالث، أو يوم الثامن والعشرين حائضًا، فاليوم الأول والثاني، والثالث لها حيض مشكوك فيه، تتوضأ لكل صلاة، واليوم الرابع والخامس لها طهر مشكوك فيه، تغتسل لكل صلاة ثم بعد ذلك من انقضاء يوم الخامس، إلى انقضاء يوم الخامس والعشرين لها طهر بيقين، ثم بعده إلى انقضاء يوم الثامن والعشرين لها حيض مشكوك فيه، وبعده إلى آخر الشهر لها طهر مشكوك فيه. فأما إذا قالت: أضللت خمسة في كل شهر، ولا أذكر شيئًا، غير أني كنت يوم الخامس، أو يوم الخامس والعشرين حائضًا، فالخمسة الأولى لها حيض مشكوك فيه، ثم بعده إلى انقضاء يوم التاسع لها طهر مشكوك فيه، ثم بعده انقضاء يوم العشرين لها طهر بيقين، ثم بعده إلى انقضاء يوم الخامس والعشرين لها حيض مشكوك فيه، ثم بعده إلى انقضاء يوم التاسع والعشرين لها طهر مشكوك فيه، واليوم الثلاثين لها طهر بيقين فأما إذا قالت: أضللت أياما في أيام، إلا أني كنت أعرف أيام المنسي، وأيام المنسي فيها كأنها قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول من الشهر، فاليوم الأول والثاني والثالث لها حيض مشكوك فيه، تتوضأ لكل صلاة، ثم بعده إلى انقضاء يوم العاشر لها طهر مشكوك فيه، تغتسل لكل صلاة، ثم بعده إلى آخر الشهر لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت أربعًا في العشر الأول من الشهر، فهكذا من أول الشهر إلى انقضاء أربعة أيام لها حيض مشكوك فيه، ثم بعده إلى انقضاء يوم العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين.

ولو قالت: أضللت خمسة في العشر الأول من الشهر، فالخمسة الأولى لها حيض مشكوك فيه، والخمسة الثانية لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: أضللت ستة في العشر الأول، فها هنا يقدم حيضها لأقصى ما يمكن تقديمه، ويؤخره أقصى ما يمكن تأخيره، ثم ما دخل في الحسابين يكون لها حيض بيقين، وما بقي من أول أيام المؤخرة يكون لها حيض مشكوك فيه، وما بقي من آخر أيامه المؤخرة يكون لها حيضا مشكوكًا، وما بقي من آخر أيامه المقدمة ليس لها طهر مشكوك فيه. فعلى هذا إذا قدمنا حيضها يكون ابتداؤه من أول الشهر، وانتهاؤه إلى انقضاء يوم السادس. ولو أخرنا حيضها يكون ابتداؤه يوم الخامس، وانتهاؤه يوم العاشر من الشهر، واليوم الخامس والسادس دخلا في الحسابين، فيكونان حيضا بيقين، ومن أول الشهر إلى يوم الخامس لها حيض مشكوك فيه، ومن انقضاء يوم السابع إلى آخر العشرة لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين ولو قالت: أضللت سبعة في العشر الأول، فإذا قدمنا حيضها يكون انتهاؤه يوم السابع من الشهر، وابتداؤه من أول الشهر. ولو أخرنا حيضها يكون ابتداؤه من يوم الرابع من الشهر، وانتهاؤه يوم العاشر منه، فيكون يوم الرابع والخامس والسادس والسابع دخلت في الحسابين، فيكون حيضا بيقين، ثم بعده إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه، ثم باقي الشهر لها طهر بيقين، ومن اول الشهر إلى يوم الرابع لها حيض مشكوك فيه، وقس على هذا إذا قالت: أضللت ثمانية، أو سبعة من العشر الأول. فأما إذا قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت يوم الثالث حائضًا، فاليوم الأول والثاني لها حيض مشكوك فيه، واليوم الثالث لها حيض بيقين، واليوم الرابع والخامس لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين.

فأما إذا قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت يوم الثامن حائضًا فالخامس الأولى لها طهر بيقين، واليوم السادس والسابع لها حيض مشكوك فيه، واليوم الثامن لها حيض بيقين، واليوم التاسع والعاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. وأما إذا قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول وكنت يوم الثالث، أو يوم الثامن حائضا، فاليوم الأول والثاني والثالث لها حيض مشكوك فيه، واليوم الرابع والخامس لها طهر مشكوك فيه، واليوم السادس والسابع والثامن لها حيض مشكوك فيه، واليوم التاسع والعاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت يوم الثاني، أو يوم الثامن منه حائضًا، فاليوم الأول والثاني والثالث لها حيض مشكوك فيه، ويوم الرابع لها طهر مشكوك فيه، ويوم الخامس لها طهر بيقين، ويوم السادس والسابع والثامن لها حيض مشكوك فيه، ثم بعده إلى آخر يوم العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت أربعة في العشر الأول، وكنت يوم الثالث، أو يوم الثامن حائضًا، فاليوم الأول والثاني، والثالث، والرابع لها حيض مشكوك فيه، واليوم الخامس والسادس لها طهر مشكوك فيه، واليوم السابع والثامن لها حيض مشكوك فيه، واليوم التاسع والعاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر يكون طهرًا بيقين. فأما إذا قالت: أضللت ستة في العشر الأول، وكنت يوم الثالث، أو يوم الثامن حائضا، فاليوم الأول والثاني والثالث والرابع لها حيض مشكوك فيه، واليوم الخامس والسادس حيض بيقين، لأنها دخلا في الحسابين، والباقي إلى تمام العشرة طهر مشكوك فيه. فأما إذا قالت: أضللت أربعة في العشر الأول، وكنت يوم الثالث منه حائضا، فاليوم الأول والثاني حيض مشكوك فيه، واليوم الثالث والرابع حيض

بيقين، واليوم الخامس والسادس طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت أربعة في العشر الأول، وكنت يوم الثامن منه حائضًا، فاليوم الأول والثاني والثالث والرابع لها طهر بيقين، واليوم الخامس والسادس لها حيض مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. فأما إذا قالت أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت يوم الأول منه طاهرًا، ينظر فيه. فإن قالت: إن طهري كان متتابعًا، فيكون لها من أول الشهر إلى انقضاء يوم السابع طهر بيقين، ثم بعده إلى آخر يوم العاشر لها حيض بيقين، وباقي الشهر لها طهر بيقين. وإن لم تقل: إن طهري متتابع، فيكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت ثلاثة في تسعة أيام، فاليوم الأول من الشهر طهر بيقين، واليوم الثالث والرابع لها حيض مشكوك فيه، واليوم الخامس، وما بعده إلى انقضاء العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت في اليوم الثاني منه، طاهرًا. إن قالت: إن طهري كان متتابعًا يكون لها من أول الشهر إلى آخر يوم السابع طهر بيقين على ما ذكرنا، وبعده إلى آخر يوم العاشر حيض بيقين، وباقي الشهر طهر بيقين. وإن لم تقل: إن طهري متتابع، فيكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت ثلاثة في ثمانية، فاليوم الأول والثاني لها طهر بيقين، واليوم الثالث والرابع والخامس لها حيض مشكوك فيه، ثم بعده إلى انقضاء يوم العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر يكون لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت أربعة في العشر الأول، وكنت يوم الثامن منه حائضًا،

فاليوم الأول والثاني والثالث والرابع لها طهر بيقين، واليوم الخامس والسادس لها حيض مشكوك فيه، واليوم السابع والثامن لها حيض بيقين، واليوم التاسع والعاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت يوم الأول منه طاهرًا، ينظر فيه، فإن قالت: إن طهري كان متتابعًا، فيكون لها من أول الشهر إلى انقضاء يوم السابع بيقين، ثم بعده إلى آخر يوم العاشر لها حيض بيقين، وباقي الشهر لها طهر بيقين. وإن لم تقل: إن طهري متتابع، فيكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت ثلاثة في تسعة، فاليوم الأول من الشهر طهر بيقين، واليوم الثاني، والثالث والرابع لها حيض مشكوك فيه، واليوم الخامس وما بعده إلى القضاء يوم العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت ثلاثة في العشر الأول، وكنت يوم الثاني منه طاهرا. إن قالت: إن طهري كان متتابعًا، يكون لها من أول الشهر إلى آخر يوم السابع طهر بيقين على ما ذكرنا، وبعده إلى آخر يوم العاشر حيض بيقين، وباقي الشهر طهر بيقين. وإن لم تقل: إن طهرى متتابع، فيكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت ثلاثة في ثمانية، فاليوم الأول والثاني لها طهر بيقين، والثالث والرابع والخامس لها حيض مشكوك فيه، ثم بعده إلى انقضاء يوم العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر يكون لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: أضللت أربعة في العشر الأول، وكنت يوم الأول منه طاهرًا، فإن قالت: إن طهري كان متتابعًا، فمن أول الشهر إلى انقضاء مدة يوم السادس، وليلته لها طهر بيقين، ثم بعده إلى آخر يوم العاشر لها حيض بيقين، وباقي الشهر لها طهر بيقين، وإن لم تقل: إن طهري متتابع، فيكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت أربعة في تسعة أيام، وقد ذكرنا مثاله.

فأما إذا قالت: أضللت خمسة في العشر الأول، وكنت يوم الأول منه طاهرًا. فإن قالت: كان طهري متتابعًا، فالخمسة الأولى لها طهر بيقين، والخمسة الثانية لها حيض بيقين، وباقي الشهر لها طهر بيقين. وإن لم تقل: إن طهري متتابع، يكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت خمسة في تسعة، فاليوم الأول لها طهر بيقين، واليوم الثاني والثالث والرابع والخامس لها حيض مشكوك فيه، واليوم السادس لها حيض بيقين، لأنه دخل في الحسابين، وبعده إلى آخر العاشر لها طهر مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر بيقين، وقس على هذا إذا قالت، أضللت ستة، أو سبعة أو ثمانية في العشر الأول وكنت اليوم الأول منه طاهرًا على التفسير الذي بينا له أمثلة. فأما إذا قالت: أضللت خمسة في العشر الأول، وكنت يوم العاشر طاهرًا، فإن قالت: إن طهري كان متتابعًا فيكون لها الخمسة الأولى من الشهر حيض بيقين، والباقي طهر بيقين، وإن لم تقل، إن طهري كان متتابعًا، فيكون حكمها حكم ما لو قالت: أضللت خمسة في تسعة أيام، فاليوم الأول والثاني والثالث والرابع لها حيض مشكوك فيه، واليوم الخامس لها حيض بيقين، لأنه دخل في الحسابين، واليوم السادس والسابع والثامن والتاسع لها طهر مشكوك فيه، واليو العاشر إلى آخر الشهر لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: أضللت خمسة في العشر الأول، وكنت يوم الأول حائضًا فالخمسة الأولى لها حيض بيقين، والباقي لها طهر بيقين. ولو قالت: أضللت خمسة في العشر الأولن وكنت يوم العاشر حائضا، فالخمسة الأولى لها طهر بيقين، والخمسة الثانية لها حيض بيقين، وباقي الشهر لها طهر بيقين. فأما إذا قالت: أضللت خمسة في الشهر، ولا أعرف شيئًا، فالخمسة الأولى لها حيض مشكوك فيه، وباقي الشهر لها طهر مشكوك فيه

ولو قالت: أضللت خمسة في الشهر، ولا أذكر شيئا غير أني أعلم أن انقطاع دمي كان في وقت الزوال، فالخمسة الأول من الشهر يكون لها حيضًا مشكوكًا فيه، ثم بعده تغتسل كل يوم وقت الزوال، وتتوضأ لسائر الصلوات إلى آخر الشهر، وهكذا لو قالت في هذه الصورة أني أعلم ان انقطاع دمي كان في الليل، فالخمسة الأولى لها حيض مشكوك فيه، وبعده إلى آخر الشهر تغتسل لصلوات الليل، وتتوضأ لصلاة النهار. ولو قالت: أعلم أن انقطاع دمي كان في النهار تغتسل لصلوات النهار، وتتوضأ لصلوات الليل من انقضاء يوم الخامس، إلى آخر الشهر، ولو دخل عليها شهر رمضان، فإنها تصوم الشهر كله، ويحصل لها منه صوم خمسة وعشرين يومًا، إذا خرج الشهر كاملا. وقالت: أعلم يقينا أن انقطاع دمي كان في الليل، وعليها قضاء خمسة أيام، ويمكنها قضاء خمسة أيام بأن تصوم عشرة أيام متتابعة، أو تصوم ستة أيام، ثم تصوم يومًا، وتمهل أربعة أيام، ثم تصوم يومًا. ولو قالت: أعلم أن انقطاع دمي في النهار، فإنها تصوم ستة أيام قضاء، ويمكنها ذلك بأن تصوم ستة أيام كاملة. والله تعالى أعلم.

فصل في التلفيق

فصل في التلفيق وصورته: أن ترى المرأة زمانًا طهرًا، وزمانًا حيضًا وزمانًا طهرًا، وزمانًا حيضًا، فهل تلفق الدماء أم لا؟ فيه قولان: أحدهما وهو الصحيح، أن الدماء لا تلفق، ويجعل زمان النقاء المتخلل من الدماء حيضًا؛ لأن الغالب من عادات النساء أن الدما لا يسيل عنهن على الدوام، بل يسيل ساعة، وينقطع أخرى. والقول الثاني: أنها تلفق، وهذا غير منصوص عليه، ولكن خرج هذا من مناظرة جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن رحمها الله في مسألة الأقراء هل هي إطهارة أم حيض؟ فقال الشافعي: إنها إطهار. وقال محمد: إنها حيض، فقال له محمد: ما تقول فيما إذا رأت المرأة يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، ويومًا دماً ويوما طهرًا؟ فقال: أجعل زمان النقاء طهرًا، أو زمان الدماء حيضًا. فقال له محمد: يلزمك أن تحكم بانقضاء العدة بمضى ستة أيام. فقال: لا أحكم بذلك من قبل أن الله تعالى، إنما حكم بانقضاء العدة بمضي ثلاثة أطهار كوامل، وهذا طهر واحد مفرق. إذا ثبت هذا، وقلنا: إن الدماء لا تلفق، فكم يعتبر من الدم حتى يستتبع الباقي، ويجعل الكل حيضًا؟

اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ينبغي أن يتقدمه أقل الحيض، ويتأخره أقل الحيض، حتى يستتبع النقاء المتخلل بينهما حيضًا، لأنها إذا لم يثبت لها حكم الحيض في نفسه، فلا يستتبع الغير في ذلك الحكم، كما ذكرنا من الخلطة في باب الزكاة. وقال أبو بكر المحمودي: إن رأت من الدماء، بحيث إنها لو جمعت بلغت أقل الحيض، فيستتبع الباقي حيضًا، وإلا فلا. وقال أبو القاسم الأنماطي: إذا رأت ساعة دمًا، وثلاثة عشر، وأربعة عشر يومًا طهرًا وساعة دمًا، فإنها لا تلفق الدماء، وتجعل الكل حيضًا. وأيضا إذا قلنا: إنها لا تلفق، فابتداء حيضها من أي يوم يعتبر في الشهر الثاني، فالحد فيه أن نأخذ نوبتين، نوبة من زمان حيضها، ونوبة من زمان طهرها، ثم تضربها في عدد يبلغ ثلاثين، أو ما يقرب من الثلاثين. مثاله: امرأة رأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، فتأخذ يومين وتضربها في خمسة عشر يومًا، فيبلغ ثلاثين، فيكون يوم الحادي والثلاثين ابتداء حيضها في الشهر الثاني. ولو رأت يومًا دمًا، ويومين طهرًا، أو يومين دمًا، ويومًا طهرًا، فتأخذ ثلاثة أيام، وتضر بها في عشرة أيام، فتبلغ ثلاثين على ما بينا، وهكذا لو رأت ثلاثة أيام دمًا، ويومين طهرًا أو ثلاثة أيام طهرًا، ويومين دمًا، فتأخذ خمسة أيام، وتضربها في ستة، فتبلغ ثلاثين على ما ذكرنا، وهكذا لو رأت ثلاثة أيام دمًا، وثلاثة أيام طهرًا، فتأخذ ستة أيام، وتضربها في خمسة، فتبلغ هكذا. فأما إذا رأت يومين دمًا، أو يومين طهرًا، فيه وجهان: أحدها: أنه يأخذ أربعة أيام، ويضربها في سبعة أيام، فبلغت ثمانية وعشرين يومًا، فيكون ابتداء حيضها يوم التاسع والعشرين.

والوجه الثاني: وهو الصحيح: أنه يأخذ أربعة أيام، ويضربها في ثمانية، فتبلغ اثنين وثلاثين يومًا، ويكون ابتداء حيضها يوم الثالث والثلاثين، وهذا أولى لأنه مهما أمكننا، أن نخيضها في شهر واحد، إلا مرة واحدة، لا نحيضها، مرتين. فأما إذا رأت ثلاثة أيام دما، وأربعة أيام طهرًا، أو على عكسه، فتأخذ سبعة أيام. وفيه وجهان ظاهران: أحدهما: أنه يضربها في أربعة، فتبلغ ثمانية وعشرين يومًا، ويكون ابتداء حيضها يوم التاسع والعشرين لأن هذا أقرب إلى الثلاثين. والثاني: أنه يضربها في خمسة، فتبلغ خمسة وثلاثين يومًا، ويكون ابتداء حيضها يوم السادس والثلاثين وهذا أولى، لما ذكرنا من المعنى من قبل. فأما إذا رأت أربعة أيام دمًا، وأربعة أيام طهرًا، فتأخذ ثمانية أيام، وتضربها في أربعة على الصحيح من المذهب. وفيه وجه آخر أنها تضرب في ثلاثة، ويكون ابتداء حيضها في الخامس والعشرين. والأول أصح. إذا ثبت هذا، نقول: امرأة رأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، لا يخلو إما أن جاوز ذلك أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يومًا، أو انقطع على خمسة عشر يومًا فيجعل الكل حيضًا. وإن قلنا: إن الدماء تلفق فيجعل زمان الدماء حيضًا، وزمان النقاء طهرًا، فإن جاوز خمسة عشر يومًا، فلا يخلو إما أن كانت مبتدأة أو معتادة. فإن كانت مبتدأة. قال الشافعي: رحمه الله تعالى: إنها تقضي صوم خمسة عشر يومًا، وصلاة سبعة

أيام، وصورة المسألة فيما إذا كانت تصلي وتصوم في أيام النقاء، وإنما أجاب الشافعي على القول الذي يقول: إن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة، ولكن فيه إشكال عظيم، لأن قضية قوله: إنها تقضي صوم خمسة عشر يومًا، أن يقول: وتقضي صلاة أربعة عشر يومًا، لأنه إذا لم يحكم بصحة الصوم في أيام النقاء وجب ألا يحكم بصحة الصلاة أيضا في أيام النقاء. وقضية قوله: إنها تقضي صلاة سبعة أيام، أن يقول: وتقضي صوم ثمانية أيام؛ لأنه لما حكم بصحة الصلاة في زمان النقاء، وجب أن يحكم بصحة الصوم في ذلك الزمان، ثم اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: الأمر على ما نص عليه في الموضعين، وفرق بينهما بأن قال: الصوم أقوى، وآكد وأسرع ثبوتًا من الصلاة، لأن الحيض لا يمنع وجوب الصوم، وإنما يمنع الجواز، فتردد صومها بين الجواز، وعدم الجواز، والأصل عدم الجواز، فقلنا بأنه لا يجوز لحصول التردد فيه، والأصل وجوبه، فقلنا: يلزمها قضاء الكل. فأما الصلاة، فإن الحيض يمنع وجوبها، فترددت بين الوجوب وعدم الوجوب، فالأصل بألا تجب، فقلنا: بأنه لا يلزمها قضاء صلاة أربعة عشر يومًا. ومن أصحابنا من جعل فيها قولين نقلا وتخريجًا. أحدهما: أنها تقضي صوم خمسة عشر يومًا، وصلاة أربعة عشر يومًا. والقول الثاني: أنها تقضي صلاة سبعة أيام، وصوم ثمانية أيام. ومنهم من قال: إنما أجاب في الصوم على القول الذي قال: إن الدماء لا تلف. وفي الصلاة على القول الذي قال: إنها تلفق، وهذا أضعف الوجوه، لأنه لا يحسن أن يجيب في مسألة واحدة في سطر واحد على قولين مختلفين.

قال أبو زيد: في وجوب الصوم قولان: أحدهما: يلزمها قضاء خمسة عشر يومًا. والثاني: قضاء ثمانية أيام، ولم يتعرضا للصلاة، إلا أن أبا زيد قال: القولان ينبنيان على أن الخنثى إذا اقتدى بامرأة مرارًا، ثم تبين أنه كان امرأة، فهل يلزمها قضاء تلك الصلوات التي صلتها خلف المرأة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه تبين أنه امرأة، واقتداء المرأة بالمرأة جائز. والثاني: بلى لأن التردد حالة الاقتداء موجود والشك في صحة الاقتداء ثابت، فيلزمها القضاء، لأن الاقتداء مع الشك لا يصح إن قلنا هناك، لا يلزمها القضاء، ها هنا تقضى صوم ثمانية أيام. وإن قلنا هنا: يلزمها القضاء، فها هنا تقضي صوم خمسة عشر يومًا لأن الشك والتردد في صحته حالة الأداء موجود. وقال أبو بكر القفال: القولان ينبنيان على المبتدأة، إذا ردت إلى يوم وليلة، أو إلى ست أو سبع، فهل يلزمها الاحتياط من ذلك الوقت، إلى تمام خمسة عشر يومًا، أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا هناك: يلزمها الاحتياط، ها هنا تصوم خمسة عشر يومًا قضاء. وإن قلنا: لا يلزمها الاحتياط، فها هنا تقضي صوم ثمانية أيام، وهذا البناء أولى؛ لأن الشافعي قال: وهكذا تفعل في كل شهر، والمبتدأة هي التي تفعل هكذا، فإلحاقها بالمبتدأة أولى لهذا المعنى. إذا ثبت هذا نقول: في الشهر الأول تغتسل، وتصلي في زمان النقاء، رجاء ألا يعود الدم ثانيًا.

فأما في الشهر الثاني: إن قلنا إنها ترد إلى يوم وليلة، فيجعل لها يوم وليلة حيضًا، والباقي طهرًا، سواء قلنا: إن الدماء تلفق أو لا تلفق. وإن قلنا: إنها ترد إلى ست أو سبع، هذا يبني على أن الدماء تلفق أم لا؟ إن قلنا إنها لا تلفق ينظر فيه. إن قلنا: إنها ترد إلى تسع، فيجعل لها سبعة أيام حيضًا، والباقي طهرًا، وإن قلنا: إنها ترد إلى ست، فيجعل لها خمسة أيام حيضًا، لأن يوم السادس يوم النقاء، وإنما يجعل زمان النقاء حيضًا، إذا تقدمه أقل الحيض، ويتأخره أقل الحيض، وها هنا لم يتأخر أقل الحيض، لأنا جعلنا ما وراءه طهرًا. وإن قلنا: إن الدماء تلفق، هذا يبني على أن الدماء تلفق من أيام خمسة عشر، أو من أيام المردود إليه. إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، إن رددناها إلى سبع يجعل لها يوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر والثالث عشر حيضًا، والباقي يكون طهرًا. وإن رددناها إلى ست يجعل لها يوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر حيضًا، والباقي يكون طهرًا. وإن قلنا: إن الدماء تلفق من أيام المردود إليه، إن رددناها إلى سبع يجعل لها أربعة أيام حيضا، اليوم الأول والثالث والخامس والسابع، وإن رددناها إلى ست يجعل لها ثلاثة أيام حيضًا، اليوم الأول والثالث والخامس. فأما إذا رات يومين دما، ويومين طهرًا، إن لم تجاوز خمسة عشر يومًا. إن قلنا: إن الدماء لا تلفق يكون الكل حيضًا. وإن قلنا: إنها تلفق، فيكون زمان الدم حيضًا، وزمان النقاء طهرًا، وإن جاوز خمسة عشر يومًا.

إن قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة يجعل لها يوم وليلة حيضًا، سواء قلنا: إنها تلفق أم لا تلفق. وإن قلنا: إنها ترد إلى ست أو سبع، هذا ينبني على أن الدماء تلفق أم لا. إن قلنا: إنها لا تلفق، يجعل لها ستة أيام حيضًا، سواء قلنا: إنها ترد إلى سبع، أو إلى ست، لما ذكرنا من المعنى من قبل. وإن قلنا: إن الدماء تلفق من أيام خمسة عشر، أو من الأيام المردود إليها، إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، ينظر فيه. إن قلنا: إنها ترد إلى سبع، فيكون لها سبعة أيام حيضًا، اليوم الأول والثاني والخامس والسادس والتاسع والعاشر والثالث عشر، وإن رددناها إلى ست، فيكون لها ستة أيام حيضًا، اليوم الأول والثاني والخامس والسادس والتاسع والعاشر. وإن قلنا: إنها تلفق من أيام المردود إليه. إن قلنا: إنها ترد إلى سبع، فيكون لها أربعة أيام حيضًا، الأول والثاني والخامس والسادس، وهكذا لو قلنا، إنها ترد إلى ست. فأما إذا رأت يومًا دمًا وليلة طهرًا، فإن لم تجاوز خمسة عشر يومًا. إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فيكون الكل حيضًا. وإن قلنا: إنها تلفق، فتكون الأيام حيضًا، والليالي طهرًا. فإما إذا جاوز خمسة عشر يومًا لا يخلو إما أن قلنا إنها ترد إلى يوم وليلة، أو قلنا: إنها ترد إلى ست أو سبع. إن قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة هذا يبني على أن الدماء تلفق أم لا تلفق، فلا يكون لها حيض بيقين، إلا على قول من يقول: إن أقل الحيض يوم، فيكون لها يوم حيض.

وإن قلنا، إ الدماء تلفق، فهذا ينبني على أن الدماء هل تلفق من أيام خمسة عشر، أو من أيام المردود إليه. إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، فيكون لها يومان حيضًا. وإن قلنا: إنها تلفق من المردود إليه، فالصحيح أنه لا يكون لها حيض، لأن الحيض لا ينقص عن يوم وليلة. وقال الشيخ أبو بكر المحمودي: لها يومان حيض؛ لأني أستحي أن أقول في امرأة ترى الدم طول عمرها، ولا يكون لها شيء منه حيضًا. قال القفال: الدليل يعمل العجائب، والأحكام إنما تنبني على الدلائل لا على الاستحياء. فأما إن قلنا: إنها ترد إلى ست أو سبع، هذا ينبني على أن الدماء تلفق أو لا تلفق. إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فيكون لها سبعة أيام، وست ليالي حيضًا إن رددناها إلى سبع. وإن رددناها إلى ست، فيكون لها ستة أيام، وخمس ليال حيضًا وإن قلنا: إنها تلفق، هذا ينبني على أن الدماء تلفق من أيام خمسة عشر، أو من أيام المردود، وفيه قولان. إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، إن رددناها إلى سبعة يكون لها أربعة عشر يومًا حيضًا، سوى لياليهن. وإن رددناها إلى ست يكون لها اثنى عشر يومًا حيضًا، سوى لياليهن. وإن قلنا: إنها تلفق من أيام المردود إليه، إن قلنا إنها ترد إلى سبعة يكون لها سبعة أيام حيضة، سوى لياليهن. وإن قلنا: إنها ترد إلى ست يكون لها ستة أيام حيضًا، سوى لياليهن، والله أعلم بالصواب.

هذا كله كلام فيما إذا كانت مبتدأة. فأما إذا كانت معتادة، مثل ان كانت عادتها أن ترى كل شهر خمسة أيام دمًا، فجاءها شهر، ورأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا لا يخلو إما أن جاوز خمسة عشر يومًأ، أو لم يجاوزها. فإن لم يجاوز خمسة عشر يومًا، هذا ينبني على أنَّ الدماء هل تلفق أم لا؟ إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فحيضها خمسة أيام متتابعات، وهي أيام عادتها فحسب، والباقي يكون استحاضة إلى آخر الشهر. وإن قلنا: إن الدماء تلفق، هذا ينبني على أنها من أيام خمسة عشر، أو من أيام المردودة. إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، فحيضها يكون خمسة أيام: اليوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع. وإن قلنا: إنها تلفق من أيام المردودة، فحيضها يكون ثلاثة أيام: اليوم الأول والثالث والخامس. فأما إذا كانت عادتها أن ترى كل شهر خمسة أيام دمًا، فجاءها شهر، ورأت يومًا طهرًا، ويومًا دمًا، فلا يخلو إما أن انقطع على خمسة عشر يومًا، أو جاوز ذلك. فإن انقطع على ذلك، إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فحيضها يكون ثلاثة عشر يومًا من يوم الثاني إلى آخر يوم الرابع عشر، فاليوم الأول والخامس عشر يكونان من أيام الطهر، لأنه لم يتخللا بين دمي الحيض. وإن قلنا: إن الدماء تلفق، فيوم الدم حيض، ويوم النقاء طهر. فأما إذا جاوز خمسة عشر يومًا، هذا يبني على أن العادة، هل تثبت بمرة واحدة، أم لا؟ وفيه قولان:

إن قلنا: إن العادة لا تثبت بمرة واحدة، هذا يبني على أن الدماء، هل تلفق أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فيكون لها ثلاثة أيام حيضًا، اليوم الثاني والرابع، لأنها رأت فيهما الدم واليوم الثالث، لأنه تخلل بين دمي الحيض، فأما اليوم الأول والخامس لم يتخللا بين دمي الحيض، فيجعلان طهرًا. وإن قلنا: إن الدماء تلفق، هذا يبني على أن الدماء هل تلفق من أيام خمسة عشر، أو من أيام المردودة، وفيه قولان: إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، فحيضها يكون أربعة أيام: اليوم الثاني والرابع والسادس والثامن، لأنها لم تصر منتقلة من عادة إلى عادة أخرى، حتى يلتقط لها خمسة أيام حيضًا من أيام خمسة عشر، وفي في الأول كانت طاهرًا. وإن قلنا: إن الدماء تلفق من أيام المردود إليها، فيكون حيضها يومين: الثاني والرابع. فأما إذا قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة، هذا يبني على أن الدماء هل تلفق أم لا؟ إن قلنا: إنها لا تلفق، فيكون حيضها خمسة أيام من أول يوم الثاني إلى آخر يوم السادس. وإن قلنا: إنها تلفق، هذا يبني على أن الدماء تلفق من أيام خمسة عشر، أو من المردودة إليها. إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، فحيضها يكون خمسة أيام اليوم الثاني والرابع والسادس والثامن والعاشر.

وإن قلنا: إنها تلفق من أيام المردودة إليها فحيضها يكون ثلاثة أيام: اليوم الثاني والرابع والسادس. فرع: إذا جاوز الدم خمسة عشر يومًا، قد ذكرنا أنها صارت مستحاضة مبتدأة كانت أو معتادة، سواء كان الدم الذي رأت في اليوم الخامس عشر متصلا بالدم الذي رأت في اليوم السادس عشر أو كان منفصلاً عنه. وقال محمد ابن بنت الشافعي: إن كان متصلا به، فكما زعمتم، وإن كان منفصلا عنه، فيجعل الكل حيضًا عنده. بيانه على قوله: أنها لو رأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، وجاوز خمسة عشر، فيكون حيضها خمسة عشر يومًا، لأن الدم الذي رأت في اليوم الخامس عشر غير متصل بدم في اليوم السادس عشر. فأما إذا رات يومين دمًا، ويومًا طهرًا، فيكون حيضها أربعة عشر يومًا، ولو رأت يومين دمًا، ويومين طهرًا، فيكون حيضها أربعة عشر يومًا أيضًا، ولو رأت ثلاثة أيام دمًا، وثلاثة أيام طهرًا، فيكون حيضها خمسة عشر يومًا، لو رأت أربعة أياما دمًا، وأربعة أيام طهرًا، فيكون حيضها اثنى عشر يومًا. ولو رأت خمسة أيام دمًا، وخمسة أيام طهرًا، فيكون حيضها خمسة عشر يومًا. ولو رأت ستة أيام دمًا، وستة أيام طهرًا، فتكون مستحاضة، لأن الدم الذي رأت في اليوم الخامس عشر اتصل بالذي رأت في السادس عشر.

مسألة تبتلى بها النساء غالبًا. وصورتها أن ترى امرأة كل شهر خمسة أيام دمًا، فجاءها شهر، ورأت فيه خمسة أيام دمًا، وانقطع على عادتها، ثم عاودها الدم في ذلك الشهر، فلا يخلو إما أن عاودها بعد مضي خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، أو عاودها قبل مضي خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم الأول. فإن عاودها بعد مضي خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم فلا يخلو إما ان تخلل بين الدمين أقل الطهر أم لا. فإن تخلل بينهما أقل الطهر، مثل إن عاودها الدم في اليوم الحادي والعشري من ابتداء الدم، أو فيما وراء ذلك من يوم الثاني والعشرين وأكثر، فإنه يكون حيضًا، آخر يبتدأ له حكم نفسه، ويقتطع حكمه عن الأول، ويجعل كما لو كانا شهرًا وشهرين. فإما أن يتخلل بينهما أقل الطهر، مثل أن عاودها الدم في اليوم السادس عشر إلى يوم العشرين من ابتداء الدم، فيكون ذلك دم فساد تتوضأ لكل فريضة، ولا تغتسل، لأنه لا يمكن أن تجعل ذلك حيضًا آخر، لأنه لم يتخلل بينهما أقل الطهر، ولا يمكن التلفيق بينه، وبين الدم الأول، لأن التلفيق إنما يتصور في الدم الذي يوجد في زمان أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يومًا. فأما إذا عاودها الدم قبل مضى خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، مثل إن عاودها الدم في اليوم الحادي عشر، أو الثاني عشر، أو الخامس عشر من ابتداء الدم، فلا يخلو إما أن انقطع على خمسة عشر يومًا من ابتداء دم الأول، أو لم ينقطع على ذلك، فإن انقطع على خمسة عشر يومًا من دم الأول، فهذا ينبني على قولي التلفيق إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فيكون زمان الدماء حيضًا وزمان النقاء طُهرًا.

فأما إذا جاوز خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، فتكون مستحاضة ترد إلى عادتها القديمة، وهي خمسة أيام من كل شهر. فأما إذا كانت عادتها أن ترى كل شهر سبعة أيام، فجاءها شهر ورأت خمسة أيام دمًا، ثم انقطع الدم، ثم عاودها الدم، فلا يخلو إما أن يكون عاودها بعد مضي خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، أو قبل مضى خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، فإن عاودها بعد مضي خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، فإن تخلل بين الدمين أقل الطهر، فيكون لها حيضتان في هذا الشهر، وقد ذكرناه. وإن لم يتخلل بينهما أقل الطهر، فالثاني يكون دما فساد، وقد بينا من قبل فأما إذا عاودها الدم قبل مضي خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، فإن انقطع على خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، فهذا ينبني على قول التلفيق، وقد ذكرناه. وإن لم ينقطع على خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، هذا ينبني على أن الدماء هل تلفق أم لا؟ إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، ويتصور فيما إذا عاودها بعد انقضاء سبعة أيام من ابتداء الدم، فيكو لها خمسة أيام حيضا الخمسة الأول. وإن قلنا: إن الدماء تلفق إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، فيكون لها سبعة أيام حيضًا الخمسة الأولى، وتلتقط يومين بعده من الأيام التي رأت فيها الدم. وإن قلنا: إنها تلفق من الأيام المردودة إليها، فيكون لها خمسة أيام حيضًا. فأما إذا عاودها الدم يوم السابع، إن انقطع على خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم، فيبني على قولي التلفيق، وإن جاوز على ذلك. إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فيكون لها سبعة أيام متتابعات حيضًا، وإنما جعلنا اليوم السادس، وإن لم تر فيه الدم حيضًا، لأنه تخلل بين دمي الحيض.

وإن قلنا: إن الدماء تلفق، إن قلنا: إنها تلفق من أيام خمسة عشر، فيكون لها سبعة أيام حيضًا، الخمسة الأولى، واليوم السابع والثامن. وإن قلنا: إنها تلفق من الأيا المردودة إليها، فيكون لها ستة أيام حيضًا، الخمسة الأولى واليوم السابع.

فصل: لا خلاف أن أكثر الحيض عندنا خمسة عشر يومًا. فأما أقل الحيض، قال ها هنا: يوم وليلة. وقال في موضع آخر: إنه يوم اختلف أصحابنا فيه. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه يوم وليلة. والثاني: أنه يوم، لأن هذا أمر مبناه على الوجود، فربما وجد الشافعي نسوة ثقات يخبرنه بأن النساء قد يحض يومًا دون الليلة فأخذ بقولهن. ومنهم من قال: قول واحد: أقل الحيض يوم وليلة، وهو الصحيح، وما نص عليه في الموضع الذي ذكر أنه يوم ذلك مطلق، وما نص عليه ها هنا مقيد فيحمل المطلق على المقيد. وقال أبو حنيفة: أكثر الحيض عشرة أيام، وأقله ثلاثة أيام. والدليل عليه ما روى عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه - أنه قال: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا، وما زاد على ذلك، فهو استحاضة فأما أكثر النفاس، فإنه يكون ستين يومًا، ولا نهاية أقله عندنا. وقال أبو حنيفة: أكثره أربعون يومًا. واختلف الرواية عنه في أقله، في رواية أحد عشر يومًا، وفي رواية خمسة وعشرون يومًا. وقال المزني: أقل النفاس أربعة أيام.

مسألة

وقال: إنما قلت ذلك؛ لأني وجدت أن أكثر النفاس يكون أربعة أضعاف أكثر الحيض وجب أن يكون أربعة أمثال أقل الحيض اعتبارًا به. مسألة. إذا ولدت المرأة ولدًا، ولم تر الدم، هل يلزمها الاغتسال أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لمعنيين: أحدهما: أنه خرج منها مني متجمد منعقد، وهو الولد، ولو خرج منها المني سائلا مائعًا يلزمها الاغتسال، كذا إذا كان متجمدًا مثله. والثاني: أنَّ خروج الولد قط لا ينفك عن قليل الدم، فيلزمها الاغتسال لذلك. والوجه الثاني: لا يلزمها الاغتسال، لأنها لم تر الدم، ووجوده متعلق برؤية الدم. فرع: الحامل إذا رأت الدم، هل يكو ذاك دم حيض أم لا؟ فيه قولان: في الجديد: أنه دم حيض ويتعلق به جميع أحكام الحيض إلا أنه لا يتعلق به انقضاء العدة فحسب. وفي القديم، وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يكون دم حيض، بل يكون دم فساد، تتوضأ لكل صلاة.

إن قلنا: إنه دم حيض، فلو انقطع ذلك، ثم ولدت ولدًا، أو رأت دم النفاس، ينظر فإن تخلل بينهما أقل الطهر، مثل أن مضى خمسة عشر يومًا من وقت انقطاع دم الحيض، إلى وقت رؤية دم النفاس، فالأول دم الحيض، والثاني دم النفاس. فأما إذا لم يتخلل بين انقطاع دم الأول، ورؤية الثاني أقل الطهر فيه وجهان: أحدهما: أن الأول دم فساد، وليس بدم حيض. والثاني: لا، بل الأول دم حيض أيضًا، وإنما يعتبر تخلل أقل الطهر بين دمي الحيض إذا كانا من جنس واحد. فأما إذا كانا من جنسين مختلفين فلا دم. فرع: إذا ولدت ولدًا، ورأت الدم مرة، ثم ولدت ولدًا آخر، ورأت الدم، فالدم الأول الذي رأته قيل أن تلد الولد الثاني ماذا حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يكون دم نفاس، لأن ذاك دم رأته عقيب خروج الولد منها. والثاني: أنه لا يكون دم نفاس، لأن ذاك دم رأته، ورحمها مسغولة بالولد. إن قلنا أنه ليس بدم نفاس، فهل يكون دم حيض أم لا؟ فعلى ما ذكرنا من قبل. وإن قلنا: إنه دم نفاس، فهل تعتبر مدة النفاس من وقت الدم الذي رأته عقيب انفصال الأول منها، أو يعتبر من وقت خروج الولد الثاني منها، فيه وجهان:

أحدهما: أنه يعتبر من وقت خروج الولد الأول منها، إذ لو اعتبرنا من وقت خروج الولد الثاني منها لأدى ذلك إلى أن تزيد مدة النفاس على ستين يومًا. والوجه الثاني: أنه يعتبر من وقت خروج الولد الثاني منها، وإنما قلنا ذلك، لأنهما نفاسان يعتبر لكل واحد منهما مدة على الانفراد إلا أن ما بقي من الأول يتداخل من الثاني، لأنهما من جنس واحد، فصار هذا، كما لو طلق امرأته ثلاثا، ومضى عليها قرء واحد، ث وطئها بالشبهة يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء لأجل الوطء بالشبهة، وعليها قرءان لأجل الطلاق، فيتداخلان فيها؛ لأنهما من جنس واحد كذا ها هنا مثله. فرع: وأما إذا انقطع دم النفاس فيما دون انقضاء ستين يومًا ثم عاودها الدم، ينظر فيه، فإن عاودها الدم قبل مضى خمسة عشر يومًا من وقت انقطاع الدم، فذاك دم نفاس فينبني على قولي التلفيق. إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فيجعل الكل دم نفاس، ويلزمها قضاء صيامات صامتها في أيام النقاء. وإن قلنا إن الدماء تلفق، فيجعل أيام الدم نفاسًا، وأيام النقاء طهرًا. فأما إذا عاودها الدم بعد مضي خمسة عشر يومًا من وقت انقطاع الدم. الصحيح أنه يكون دم حيض، فيستأنف له الحكم، وفيه قول آخر: أنه يكون دم نفاس، لأنه عاود قبل انقضاء مدة النفاس، فيكون ذاك دم نفاس. إن قلنا: إنه يكون دم نفاس، فينبني على قولي التلفيق، وقد ذكرنا. فأما إذا ولدت ولدًا، ولم تر الدم، ثم رأت الدم بعد ذلك قبل انقضاء مدة النفاس ماذا حكمه؟ ينظر فيه: فإن رأت الدم قبل مضي خمسة عشر يومًا من وقت الولادة،

فيكون ذلك دم نفاس، ولكن لا يلزمها قضاء الصيامات التي صامتها قبل ذلك في أيام النقاء، لأن هناك لم يوجد الدم منها حالة الولادة، حتى تلفق الدماء بعضها بالبعض، فإن رأت الدم بعد مضي خمسة عشر يومًا من وقت الولادة. الصحيح أنه يكون دم حيض. وفيه وجه آخر: انه يكون دم نفاس، وقد ذكرناه. فأما إذا انقطع دمها على ستين يومًا، ثم عاودها الدم، ينظر فيه، فإن عاودها الدم بعد مضي خمسة عشر يومًا من وقت انقطاع الدم، فيه وجهان: أحدهما: أنه يكون دم نفاس. والثاني: أنه يكون دم حيض، وإنما يعتبر أن يتخلل بين الدمين أقل الطهر، إذا كانا من جنس واحد، وقد ذكرنا. فأما إذا لم ينقطع دمها على ستين يومًا، فصارت مستحاضة، ثم ينظر فيها، فإن كانت مبتدأة. إن قلنا: إن المبتدأة إذا جاوز دمها على خمسة عشر يومًا أنها ترد إلى أقل الحيض، ها هنا ترد إلى لحظة واحدة فيلزمها قضاء صوم الكل، وصلاة الكل. وإن قلنا: إنها ترد هناك إلى غالب عادات النساء، وهو ست أو سبع، فها هنا ترد أيضا إلى غالب عادات النساء، وهو ست أو سبع، فها هنا ترد أيضًا إلى غالب عادات النساء في النفاس، وهو أربعون يومًا. وإن كانت معتادة مثل أن ولدت ولدين، ورأت كل مرة دم النفاس أربعين يومًا، أو خمسين أو ثلاثين يومًا، أو ما أشبه ذلك، وانقطع عليه، فولدت ولدًا ثانيًا، واستمر بها الدم حتى جاوز ستين يومًا، فإنها ترد إلى عادتها المستقيمة، وإن ولدت ولدًا ورأت الدم، وانقطع على ما دون ستين يومًا، ثم ولدت ولدًا، آخر، وجاوز دمها على ستين يومًا.

إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة ترد إلى عادتها من قبل، وإلا ففيه قولان كما قلنا في المبتدأة. فأما إذا كانت مميزة بأن رأت عشرين يومًا، أو ثلاثين يومًا دمًا أسود، ثم احمر الدم، أو اصفر حتى جاوز ستين يومًا، فإنها تؤمر بالتمييز، ويجعل أيام السواد نفاسًا، والباقي استحاضة، فإن كانت ناسية، ففيه قولان: أحدهما: حكمها حكم المبتدأة، وفيه قولان. والثاني: أنها تؤمر بالاحتياط فتصوم وتصلي ولا يأتيها زوجها أبدًا، وقد بينا كيفية الكل فيما تقدم.

المستحاضة إذا أمرت بالوضوء لكل صلاة، فإنها تتوضأ بعد دخول الوقت، وتصلي به فريضة واحدة، وما شاءت من النوافل، لأن هذه طهارة ضرورية، فأشبه التيمم، وينبغي أن تشرع في الصلاة عقيب فراغها من الطهارة، حتى لو أخرت ذلك حتى تيقنت خروج شيء منها تبطل طهارتها، ويلزمها أن تعصب فرجها بعصابة، وتشدها شدًا قويًا في الابتداء. وهل يلزمها تجديد التعصيب لكل صلاة، وغسل الفرج أم لا؟ ينظر فيه إن زالت العصابة عن موضعها يلزمها ذلك، وإلا فيه وجهان. وصدر الوجهين من كلام الشافعي حيث قال: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة فريضة بعد غسل فرجها، وتعصيبه، ويحتمل أنه أراد به في كل مرة تتوضأ، بعد ما غسلت الفرج ابتداء، وعصبته بعصابة، فبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة، وهكذا إذا بطل طهارتها قبل أن تؤدي بها صلاة بنوم، أو بحدث آخر، فإنها تتوضأ، ولكن هل يلزمها تجديد العصابة؟ فعلى وجهين. فأما إذا كانت في نهار الصوم، وعصبت فرجها، وحشت فيه خروقا، هل يفسد صومها بإدخال ذلك الشيء في فرجها؟ قال القاضي: في كره لا يفسد صومها، لأنها مضطرة إلى ذلك، وقال بعد ذلك: يفسد صومها، لأنه وجد إدخال شيء فيها، فأشبه الحقنة ونحوها. وقال أبو حنيفة: المستحاضة تصلي بطهارة واحدة ما شاءت من الفرائض والنوافل، ولا تبطل طهارتها بدخول الوقت، وإنما يبطل ذلك بخروج الوقت وقد ذكرنا ذلك في التيمم.

فرع: فأما إذا انقطع دم المستحاضة ينظر فيه، فإن كان انقطاعه زمنا مثل أن انقطع مدة يمكنها تجديد الطهارة فيها، وأن تصلي ركعتين، فإنه يبطل طهارتها، سواء كانت في الصلاة، أو خارج الصلاة، وإن كان دون ذلك، ثم عاودها الدم لم يحكم ببطلان طهارتها، وهذه المسألة وتسأل، فيقال: طهارة لا تبطل بوجود الحدث، وتبطل بعدم وجود الحدث ماذا تكون. فيقال: طهارة المستحاضة بعد انقطاع الدم تبطل إذا لم يعادوها الدم، حتى إذا مضت مدة إمكان الطهارة، وصلاة ركعتين، ولا تبطل إذا عاودها الدم قبل ذلك. فأما سلس البول والذي يبتلى بالمذي، فإنه يتوضأ لكل صلاة أيضًا، وهل يحتاج إلى غسل فرجه، وتعصيبه كل مرة، فعلى وجهين. فأما من به دماميل يسيل منها الدم، فإنه لا يتوضأ لكل صلاة، ولكن هل يلزمه غسل القروح والتعصيب لكل صلاة، فعلى وجهين. والله أعلم بالصواب.

التعليقة القاضي أبو محمد الحسين بن محمد بن أحمد المروروذي

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم قال القاضي الإمام رضي الله عنه: الصلاة في اللغة على وجوه: منها ما يكون بمعنى الدعاء، كقوله تعالى: (وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم)، أي ادع لهم، والدليل عليه قول الشاعر: وصهباء طاف يهوديها ... وأبرزها وعليها ختم وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم يعني: دعا لدنِّها، ونفث كي لا يعان، يعني: لا يصيبه العين. وقوله: «وارتسم» أي: ختم. ومنها: أن الصلاة تكون للتعظيم والتواضع، يقال: صلى فلان لفلان إذا عظمه، لأن الصلاة مشتق من الصلا، وهو ظهر الإنسان، فكان الواحد من العرب إذا دخل على واحد من الملوك والجبابرة، فإنه يحني ظهره له تواضعًا له وتعظيمًا له. وقيل: معنى قول المسلمين: (اللهم صل على محمد)، أي: عظم محمدًا في الدنيا والآخرة. في الدنيا: بإعلاء كلمته، وإظهار دعوته، وكمال شريعته وتكثير أمته. وفي الآخرة، يرفع درجاته، وتكثير مثوباته، وتبليغه المقام المحمود الذي وعد به.

والصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الناس: الدعاء. والدليل عليه قوله تعالى [صلوا عليه وسلموا تسليما] أي ادعوا له. إن قلنا: إن الصلاة بمعنى الدعاء إنما تسمى الصلاة الشرعية صلاة؛ لأنها تشتمل على الدعاء، ولا تنفك عنه، والعرب تسمي الشيء باسم ما يتضمنه، كما قال الله تعالى (وقرآن الفجر) أراد به صلاة الفجر، وإنما سماها قرآنا، لأنها لا تنفك عن قراءة القرآن فيها. وقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) أراد به الخطبة، وإنما سماها قرآنا، لأنها لا تخلو عن قراءة القرآن، كذا هذا. وإن قلنا: إن الصلاة في اللغة بمعنى التعظيم والتواضع فإنما تسمى الصلاة الشرعية صلاة، لأن الإنسان يحني فيها ظهره في الركوع والسجود تعظيمًا لله تعالى وتواضعًا له سميت صلاة لهذا المعى. والصلاة في الشرع عبارة عن أركان مخصوصة، وأفعال معلومة وأذكار معهودة. والأصل في وجوب الصلاة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة) وقوله تعالى: (ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة). والسنة قوله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس، الحديث إلى آخره. وقوله عليه السلام: الصلاة عماد الدين، فمن تركها متعمدًا فقد كفر.

وقوله عليه السلام: العهد ما بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها كفر. وأما الإجماع، فهو معقد لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا خلفهم عن سلفهم على وجوب أصل الصلاة، وإن اختلفوا في تفاصيلها وأحكامها. ثم هي مؤقتة بمواقيت لا يجوز إخراجها عنها، والدليل عليه قوله تعالى:

(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتا) أي: واجبًا مؤقتا. وقوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون) وقوله تعالى: (حين تمسون) أراد به صلاة المغرب والعشاء. وحين تصبحون أراد به: صلاة الصبح وعشيا، اراد به: العصر، وحين تظهرون أراد به الظهر. وقيل: حين تمسون العصر وعشيا العشائين. وقوله تعالى:) أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل (يدخل فيه صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقوله: (وقرآن الفجر) اراد به: صلاة الصبح. وقوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفى النهار) أراد بأحد طرفيه: الصبح والظهر، وبالآخر العصر والمغرب، (وزلفا من الليل) أراد به: صلاة العشاء، والدليل عليه من جهة الخبر ما روى اب عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل عند باب الكعبة مرتين. وفي رواية: أمني جبريل عند باب الكعبة مرتين، فصلى بي الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس. وفي رواية: حين زاغت الشمس، والعصر حين صار ظل كل شيء مثله، والمغرب حين غربت الشمس. وفي رواية: حين حل فطر الصائم، والعشاء حين غاب الشفق، والصبح حين طلع الفجر الصادق، وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، والعصر حي صار ظل كل شيء مثليه، والمغرب في الوقت الذي صلاه في اليوم الأول، والعشاء حين ذهب ثلث الليل.

وفي رواية: حين ذهب نصف الليل، والصبح حين أسفر، ثم قال: هذا وقتك ووقت الأنبياء، والوقت ما بين هذين. والدليل عليه ما روى أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن مواقيت الصلاة فقال له: أقم عندنا، فأقام الأعرابي عنده، فصلى به النبي عليه السلام يومين مثل مثل ما صلى به جبريل عليه السلام، ثم قال: أين السائل عن مواقيت الصلاة فتمثل الأعرابي قائمًا، وقال: ها أنذا يا رسول الله فقال عليه السلام: الوقت ما بين هذين. إذا ثبت هذا قول: الصلاة مقدرة محصورة بخمس صلوات، والدليل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثلكم ومثل الصلوات الخمس، كرجل على باب داره نهر جار يغتسل منه كل يوم خمس مرات، أيبقى ذلك من درته شيئًا، قالوا: لا، قال: فذلكم الصلوات الخمس. وهذا معنى قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات، أراد بالحسنات الصلوات الخمس، يعني يكفرن السيئات.

وكان في أول ما فرض الله عز وجل، خمسين صلاة واجبة على ما روى في قصة المعراج، فردت من خمسين إلى خمسة من حيث العدد، لا من حيث الثواب لما روى عنه عليه السلام أنه قال: الحسنة بعشر أمثالها الحديث. قال المزني: قال الشافعي: والوقت للصلاة وقتان: وقت مقام ورفاهية، ووقت عذر وضرورة .. قال القاضي حسين: قوله: الوقت للصلاة وقتان، إنما بدا ببيان المواقيت لأن وجوب الصلاة يتعلق بدخولها ويفوت بخروجها، فقال: الوقت للصلاة وقتان: وقت مقام ورفاهية، ووقت عذر وضرورة، أراد بوقت المقام والرفاهية، وقت المقيم المترفه الذي لم يحدث له معنى بحال، ووقت العذر: وقت المسافرين في الجمع، ووقت الممطور في المطر، ووقت الضرورة وقت من وجب عليه الصلاة في آخر الوقت بإدراك جزء منه بارتفاع العوارض فيه من الجنون والإغما والكفر والصغر، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، واعترض عليه ابو بكر الفارسي. وقال: لما قال: الوقت للصلاة وقتا، فحصره بوقتين، ثم ذلك ثلاثة أوقات. وقيل: هو ال يزال ينتقد على المزني حتى صنف كتاباًا وسماه كتاب المنتقد على المزني قلنا: قد قيل، إن هذا غاية في البلاغة فإن العرب إذا ذكروا جملة تنقسم أقسامًا يقسمونها قسمين، ثم يقسمون كل قسم منها قسمين أو أكثر، كما يقال: من في البلدة، فيقال: في البلدة أهلها وغير أهلها، فيقال: من غير أهلها؟ فيقال أهل نيسابور، ومرو وأهل هراة وبلخ، فكذا ها هنا، كأن المزني، قال: الوقت وقتان، وقت مقام ورفاهية، ووقت غير مقام ورفاهية ثم ذاك ينقسم إلى وقت معذور غير مضطر، ووقت معذور مضطر.

قال المزني: فإذا زالت الشمس، فهو أول من وقت الظهر والأذان، ثم لا يزال وقت الظهر قائًمًا، حتى يصير ظل كل شيء مثله. قال القاضي حسين: إنما بدأ الشافعي رحمه الله ببيان وقت الظهر اقتداء بجبريل عليه السلام في بيان المواقيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتبركًا بالنبي عليه السلام في بيان المواقيت للاعرابي، ولأن تلك أول صلاة وجبت بعد طلوع الشمس، لقوله تعالى (لدلوك الشمس)، ووقت الظهر يدخل بزوال الشمس. قال الشافعي: رحمه الله ومعرفة زوال الشمس يقرب في البلاد الحارة ويبعد في البلاد الباردة، وإنما قال هكذا، لأنه قد قيل: في بلاد الحارة في (صنعاء اليمن) في الصيف الصائفن إذا استوت الشمس، في كبد السماء، لم يبق للشيء ظل ألبتة في هذه البلاد، إذا كانت على خط الاستواء في أطول يوم في السنة، بل يقع ظل الرجل تحت قدمه، وتقع الشمس في جوانب البيت، ولا يبقى لجانب ظل، وتقع الشمس في أسفل البئر، ولا يبقي لجوانبه ظل. فعلى هذا في هذا اليوم إذا زالت الشمس وظهر للشيء أدنى ظل فقد دخل وقت صلاة الظهر. فأما في سائر الأيام في البلاد الحارة، أو في جميع الأيام في البلاد الباردة التي هي على بعد من خط الاستواء، فإنما يمكن معرفة الزوال بأن ينصب شيئا له سمك في الأرض، فإذا طلعت الشمس وقع ظل كل شيء من جانب المغرب، ثم مهما زاد للشمس، ارتفاعا ازداد الظل انتقاصا وتقلصًا إلى وقت الزوال، فطريق معرفته أن يخط على الخشبة خطوطًا، ثم ينظر فيها، فمهما كان الظل في النقصان علم أنه لم تزل الشمس فإذا استوت الشمس يقف لحظة لا يطهر فيه شيء من النقصان ثم يأخذ في الزيادة والتحول نحو الشمال، فإذا زاد على ما وقف عليه أدني زيادة وتحول، فقد دخل وقت الظهر، ثم لا يزال وقت الظهر قائمًا حتى يصير ظل كل شيء مثله وأراد به من محل الإزدياد مثل المقياس،

حتى لو كان ظل الباقي وقت الزوال ذراعًا، والمقياس سبعة أذرع، فإذا صار الظل ثمانية أذرع، فقد فات وقت الظهر، ويمكن لكل أحد أن يعرف ذلك بنفسه، فإن قامة كل إنسان تكون سبعة أقدام بقدمه، ولكن القدم الأول تحسبه من نصف القدم. وللظهر أربعة أوقات: وقت الفضيلة، ووقت الاختيار، ووقت الجواز، ووقت العذر، فإذا صار ظل كل شيء مثل نصفه، فالنصف الأول منه وقت الفضيلة، والنصف الآخر منه وقت الاختيار ثم من ذلك الوقت إلى أن صار ظل كل شيء مثله من حين ما زالت الشمس وقت الجواز. وأما وقت العذر إذا جمع بين الظهر والعصر في وقت العصر. قوله: فإذا جاوز ذلك بأقل زيادة، فقد دخل وقت العصر والأذان، ثم لا يزال وقت العصر قائمًا، حتى يصير ظل كل شيء مثليه، فمن جاوزه، فقد فاته وقت الاختيار ولا يجوز أن أقوله فاتته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر. لا يزال وقت العصر قائمًا إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه. قال القاضي حسين: إنما اعتبر هذه الزيادة لتحقق خروج وقت الظهر، ودخول وقت العصر، إذ لا يتحقق ذلك إلا بزيادة شيء، ولو صلى الظهر في ذلك الوقت يكون قضاء. وقال المزني ومالك وعبد الله بن المبارك، لا يخرج وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله، ويمضي قدر إمكان أن يصلي فيه أربع ركعات، ولكن يدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، حتى لو أن رجلين صليًا في ذلك الوقت: أحدهما: العصر والآخر الظهر، يكون كل واحد منهما مؤديًا ولا يكون قاضيًا، واحتجوا في ذلك بما روى أن جبريل عليه السلام صلى،

بالنبي عليه السلام في اليوم الأول العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى به في اليوم الثاني الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، دل على أن ذلك القدر من الوقت وقت لكل الصلاتين. قلنا: أراد به صلى في اليوم الأول العصر يعني شرع فيها بعد ما صار ظل كل شيء مثله، وباليوم الثاني يعني بعد ما فرغ من صلاة الظهر صار ظل كل شيء مثله، ومثله يجوز كما يقال: دخلت الدار حين خرج فلان يعني: عقيب خروجه منها، كذا هذا مثله، ثم لا يزال وقت العصر قائمًا إلى غروب الشمس، وللعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت جواز ووقت كراهية، ووقت عذر. أما إذا صار ظل كل شيء مثليه، يزول وقت الفضيلة والاختيار، لأن وقت الفضيلة يمتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ومثل نصفه، ووقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت الجواز من غير كراهية يمتد إلى أن تصفر الشمس، ووقت الجواز مع الكراهية يمتد إلى أن تغرب الشمس، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المنافقين، ووقت العذر إذا صلى الظهر والعصر في وقت الظهر. وقال أبو حنيفة: يمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، وخالفه فيه صاحباه، وحكى عن أبي يوسف،، أنه قال: صاحبنا لم يرض مخالفة الرسول عليه السلام، حتى خالف جبريل عليه السلام. ووقت الظهر عند أبي حنيفة أطول من وقت العصر، لأنه يجعل وقت الظهر على ما جعله الشافعي وقتًا للظهر، ووقتًا للعصر فضيلة واختيارًا وعندنا وقت العصر أطول، والدليل عليه إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أنه لو صلى بعد أن اصفرت الشمس، فإنه يكون أداء ولكن يكون مكروهًا، وقال الإصطخري: إنها تكون قضاء، واستدل بقوله- عليه السلام:

تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم إلى أن تكاد الشمس تغرب ثم يقوم وينقر أربع نقرات لا يذكر الله تعالى إلا قليلاً. ولنا قوله عليه السلام: من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، والله أعلم. قال المزني: فإذا غربت الشمس، فهو وقت المغرب والأذان، ولا وقت للمغرب إلا وقت واحد، فإذا غاب الشفق الأحمر، وهي الحمرة فهي أول وقت العشاء الآخرة والأذان، ثم لا يزال وقت العشاء قائمًا، حتى يذهب ثلث الليل. قال القاضي حسين: إذا غربت الشمس دخل وقت المغرب، وفي الجديد له وقت واحد، وإنما يعرف ذلك بالعقل، وهو أن يمضي بعد غروب قدر أذان وإقامة، وثلاث ركعات بسور قصار، وركعتين خفيفتين، وفي إمكان الطهارة وجهان، والدليل عليه حيث جبريل عليه السلام على ما يمر، وقال في القديم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، إنه يمتد وقتها إلى غيبوبة الشفق، إلا أن الخلاف يبقى أيضا بيننا، وبين أبي حنيفة على هذا القول، لأن الشفق عندنا هو الحمرة، وعنده هو البياض، وذاك يسقط بعد الحمرة، فعلى هذا للمغرب أربعة أوقات من غروب الشمس إلى انتصاف الوقت: فالنصف الأول منه: وقت فضيلة: والنصف الأخير منه: وقت الاختيار ثم بعده وقت الجواز إلى غيبوبة الشفق، ووقت العذر إذا جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء.

فإن قيل: لا يجوز أن يقال: إن للمغرب وقتًا واحدًا؛ لأنه يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب وم شرط صحة الجمع أن يقع أداء الصلاتين في وقت إحداهما دل على أن وقت المغرب يمتد أكثر مما وصفتم، حين كان يصح الجمع فيه بين الصلاتين. قلنا: أما على القول القديم لا يتأتي على ما قلناه. هذا السؤال. واما على قوله الجديد فيه جوابان: أحدهما: أن نقول: لا نسلم أن شرط صحة الجمع ما ذكرتم، بل شرط صحة الجمع أن يؤمر بأداء إحدى الصلاتين في وقتها، ثم يوجد أداء الأخرى عقيبها فحسب. وجواب آخر نقول: عندنا وقت المغرب يمتد إلى أن يصلي خمس ركعات متوسطات، ويمكنه الجمع بينهما في هذا الوقت بأن يصلي المغرب ثلاث ركعات ويصلي العشاء ركعتين إن كان مسافرًا، ولا يصلي السنة حتى يقع الكل في وقت المغرب، وإن كان مقيمًا يقع بعض صلاة العشاء في الوقت، فيجعل كما لو وقع الكل في الوقت في أحد الوجهين عندنا على ما سنذكره من بعد إن شاء الله عز وجل فإذا غاب الشفق، وهو الحمرة، فهو أول وقت العشاءا الآخرة، والأذان إذا غاب الشفق يدخل وقت العشاء قائمًا إلى أن يطلع الفجر، الصادق. والتعجيل فيه أفضل أم التأخير؟ فيه قولان: أحدهما: التعجيل فيه أفضل كما في سائر الصلوات. والثاني: أن التأخير فيه أفضل لقوله عليه السلام، لولا أن أشق على أمتي لأمرتههم بتأخير العشاء إلى ثلث الليل.

وفي رواية: إلى نصف الليل. إذا قلنا: إن التأخير أفضل ففيه قولان آخران: أحدهما: أنه يؤخر إلى ثلث الليل. والثاني: أنه يؤخر إلى نصف الليل. وللعشاء أربعة أوقات: وقت الفضيلة، ووقت الاختيار، ووقت الجواز، ووقت العذر. أما وقت الفضيلة يمتد إلى سدس الليل. إذا قلنا: إن التأخير أفضل إلى ثلث الليل، فوقت الاختيار يمتد إلى ثلث الليل. وإن قلنا: إن التأخير أفضل إلى نصف الليل، فوقت الفضيلة يمتد إلى ربع الليل، ووقت الاختيار يمتد إلى نصف الليل، ثم بعد ذلك يمتد وقت الجواز إلى طلوع الفجر، ووقت العذر إذا جمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، ولو صلى في نحر السحر يكون أداء. وقال الإصطخري: إنه يكون قضاء. قوله: إذا طلع الفجر فقد دخل وقت الصبح. قال القاضي حسين: والفجر فجران: الأول: يسمى الفجر الكاذب، فإنه يكون مستطيلا كذنب السرحان، ثم يعقبه ظلام أظلم ما يكون.

والثاني: يسمى الفجر الصادق، ويكون مستطيرًا، وينتشر في الآفاق، ويزداد البياض إلى أن تطلع الشمس، ويتعلق به الأحكام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا، حتى يطلع الفجر المستطير، ثم يمتد وقت الصبح إلى أن تطلع الشمس، وللصبح ثلاثة أوقات: من أول طلوع الفجر إلى الأسفار، ووقت الفضيلة، ووقت الاختيار. أحدهما: في النصف الأول منه. والآخر: في النصف الثاني بعده إلى طلوع الشمس وقت الجواز. فرع: فهذه الأوقات التي ذكرنا هل هي وقت للدخول في الصلاة، أو للدخول والخروج؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه وقت للدخول فيه دون الخروج. والثاني: انه وقت لهما جميعًا، فعلى هذا لا خلاف في أنه لو افتتح الصلاة في أول الوقت، وطول القراءة حتى بلغ الوقت آخره، ثم يسلم قبل خروج الوقت، فهل يصير به عاصيًا أم لا؟ فيه وجهان: إن قلنا: إن الوقت وقت للدخول دون الخروج فإنه لا يصير به عاصيًا. وإن قلنا: إنه وقت للدخول والخروج، فإنه يصير به عاصيًا، والدليل على الوجه الأول: ما روى أن أبا بكر الصديق صلى بالناس صلاة الصبح، وطول

القراءة، فلما فرغ من الصلاة قال له عمر: ما كدت تسلم حتى كاد حاجب الشمس أن يطلع، فقال: لو طلعت الشمس ما وجدتا غافلين. ولأنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب. وهل تكون قضاء أو أداء.؟ ينظر فيه، فإن صلى ركعة في الوقت، ثم خرج الوقت فالظاهر من المذهب أن الكل أداء لقوله عليه السلام: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ولأنا أجمعنا على أن المسافر إذا صلى ركعة، فخرج وقت الصلاة، له أن يقصر الصلاة على القول الذي قلنا: إنه لو نسي صلاة في الحضر، فتذكرها في السفر يلزمه إتمامها. وفيه وجه آخر: أن الركعة المفعولة خارج الوقت تكون قضاء، لأنه يستحيل أن يصلي خارج الوقت وتكون أداء، وقد يجوز أن تتبعض عبادة واحدة في الأداء والقضاء كالصوم، فإنه لو شرع في صوم النفل، ثم نذر الإتمام في خلال اليوم، فيصير الباقي فرضًا، والصحيح هو الأول. فأما إذا صلى في الوقت أقل من ركعة، فإنه يكون قضاء على ظاهر المذهب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الركعة بالذكر. قال القاضي رحمه الله: يحتمل وجهين، بناء على أنه إذا أدرك المعذور من وقت العصر قدر تحريمة، هل تلزمه صلاة العصر أم لا؟ إن قلنا هناك: تلزمه صلاة العصر، فها هنا تكون أداءً، وإلا فلا.

قال المزني: ولا أذان إلا بعد دخول وقت الصلاة خلا صلاة الصبح، فإنه يؤذن لها بليل، وليس ذلك بقياس، ولكن اتبعنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا، حتى ينادي ابن أم مكتوم). ثم لا يزال وقت الصبح قائمًا بعد الفجر ما لم يسفر، فإذا طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة منها، فقد خرج وقتها، فاعتمد في ذلك على إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. قال القاضي حسين: إنما أراد بقوله: ليس بقياس، يعني على سائر الصلوات لا أنه مخالف للقياس، لأنه يقتضي ذلك قياسًا من قبل أن الناس لا يكونون مستعدين لصلاة الصبح، بل كانوا نائمين، وبعضهم محدث، وبعضهم جنب، والأذان شرع للإعلام. فقلنا: بأنه يؤذن قبل دخول الوقت، حتى ينتبه الناس، ويتوضأ المحدث، ويغتسل الجنب حتى يحوزوا فضلية أول الوقت، ولا تفوتهم تلك الفضيلة، بخلاف سائر الصلوات فإن الغالب م حال الناس أن يكونوا أيقاظًا منتبهين، ويكونوا مستعدين للصلاة، والقائلون قليلون، وأيضا إنما ينامون استراحة في ثياب البذلة، ولا ينزعون الثياب، بخلاف زمان الليل، فلهذا لا يؤذن في سائر الصلوات بل دخول وقتها. وقال أبو حنيفة: لا يؤذن قبل الوقت، والدليل عليه قوله عليه السلام: إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشروا حتى ينادي ابن أم مكتوم. دل على جوازه، والمعنى فيه ما بينا من قبل، والله أعلم بالصواب.

قال: والوقت الآخر هو وقت العذر والضرورة، فإذا أغمي على رجل، فأفاق، وطهرت امرأة، من حيض أو نفاس، وأسلم نصراني، وبلغ صبي قبل مغيب الشمس بركعة أعادوا الظهر والعصر، وكذلك قبل الفجر بركعة، أعادوا المغرب والعشاء، وكذلك قبل الشمس بركعة، أعادوا الصبح، وذلك وقت إدراك الصلوات في العذر والضرورات، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أدرك ركعة من العصر، قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح، قبل أن تطلع الشمس، فقد ادرك الصبح، وأنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، فدل على أن وقتهما للضرورات واحد، وقد قال الشافعي، إن أدرك الإحرام في وقت الاخرة، صلاهما جميعًا. قال المزني: ليس هذا عندي بشيء، وزعم الشافعي أن من أدرك من الجمعة ركعة بسجدتين، أتمها جمعة، ومن أدرك منها سجدة أتمها ظهرًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة. ومعنى قوله عندي إن لم تفته، وإذا لم تفته صلاها جمعة، والركعة عند الشافعي بسجدتين. قال المزني: قلت: وكذلك قوله عليه السلام: من أدرك من الصلاة ركعة، قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، لا يكون مدركًا لها إلا بكمال سجدتين فكيف يكون مدركًا لها، والظهر معها بإحرام قبل المغيب؟ فأحد قوليه يقضي على الآخر. قوله: والوقت الآخر هو وقت العذر والضرورة. قال القاضي حسين: المزني لم يذكر تفسير العذر، واقتصر على تفسير وقت الضرورة، فوقت العذر هو وقت الظهر للعصر، والعصر للظهر، والمغرب

للعشاء والعشاء للمغرب، عند الجمع بينهما وقد ذكرنا، فإذا أراد الجمع بين الصلاتين فهو بالخيار بين أن يقدم العصر، ويصليها في وقت الظهر، وبين أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر، ويصليهما في وقت العصر، فإذا نقل العصر إلى الظهر، وجمع بينهما في وقت الظهر، فالترتيب فيه شرط، فينبغي أن يصلي الظهر أولا، ثم العصر حتى لو قدم العصر على الظهر لا يجوز. وإنما قلنا ذلك لأن صلاة العصر أديت في غير وقتها، إنما تكون تبعًا لصلاة الظهر، فلابد من سبق المتبوع لتتحقق التبعية، وكذلك تشترط فيه الموالاة، وهو ألا يفصل بينهما إلا قدر إقامة، ولو فصل بينهما أكثر من ذلك لا يصح الجمع، لأنه انقطع نظم الجمع، ويكون وقت الظهر وقت العصر إلا قدر ركعتين من أول وقت الظهر إذا أراد القصر، وكان مسافرًا، أو قدر أربع ركعات إذا أراد الإتمام. فأما إذا أراد أن ينقل الظهر إلى العصر، ويصليهما في وقت العصر بالجمع، فيجب عليه أن ينوي ذلك قبل خروج وقت الظهر، كي لا يصير عاصيًا به، وهل يشترط فيه الترتيب أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى لأنه لما أخر صلاة الظهر إلى وقت، فقد جعل هذا الوقت وقتًا للظهر، فصار كما لو جمع بينهما في وقت الظهر. والثاني: لا لأن ها هنا صلاة العصر أديت في وقتها لا تكون تبعًا لغيرها، فلا يشترط فيه الترتيب، وفي الموالاة أيضا وجهان، إلا أنه إن ترك الوالاة لا يحصل له ثواب الجمع فعلى هذا إن قلنا: إن الترتيب فيه ليس بشرط، فيكون جمع وقت العصر وقتًا للظهر. وإن قلنا: إن الترتيب فيه شرط، فيكون جميع وقت العصر وقتًا للظهر إلا قدر ركعتين، أو أربع ركعات من آخر وقت العصر على ما بينا. وفيه وجه آخر: أن جميع وقت العصر وقت لصلاة الظهر إلا قدر ركعة واحدة من آخر وقت العصر، لأنه إذا أدرك ركعة، فقد أدرك وقت العصر كله.

فأما وقت الضرورة وهو الوقت الذي يصير الشخص فيه من أهل وجوب الصلاة عليه بزوال العذر، مثل الكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق والحائض إذا طهرت، والمغمى عليه إذا زال إغماؤه في آخر وقت العصر، أو في آخر وقت العشاء، أو في آخر وقت الصبح، والله أعلم بالصواب. فأما إذا زالت هذه الأعذار قبيل غروب الشمس، وبقي من الوقت قدر ركعة صار مدركًا للعصر. وفي اشتراط إمكان الطهارة قولان: وإذا قلنا: إنه يصير مدركًا للعصر، فهل يصير مدركًا للظهر، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: بلى لأنهما صلاتان يتفق وقتهما في وقت العذر، فكذا في وقت الضرورة. والثاني: لا، لأنه لم يدرك شيئا من وقت الظهر، فلا يلزمه ذلك، كما لا يلزمه الصبح، فعلى هذا لا يصير مدركًا للظهر إلا بإدراك خمس ركعات من آخر وقت العصر. وفي إمكان الطهارة قولان: أحدهما: بلى يشترط إمكانها، لأن الصلاة لا تصح بدونها. والثاني: لا؛ إذ ليس من ضرورة صحة الصلاة وجود الطهارة في الوقت، فعلى هذا إذا أدرك خمس ركعات من آخر وقت العصر، وقلنا: إنه يصير مدركًا للظهر والعصر معًا، فأربعة منها تجعل للظهر، والخامسة للعصر، أو على عكسه، فعلى وجهين: أحدهما: للظهر؛ لأنها السابقة. والثاني: للعصر، والخامسة للظهر لأنها تبع للعصر في هذا الموضع. وفائدة الخلاف تظهر في المغرب مع العشاء إن قلنا الأربعة للعصر لم يصر مدركًا، للمغرب هناك إلا بإدراك خمس ركعات من آخر وقت العصر.

وإن قلنا: هي للظهر، فيصير مدركًا للمغرب بإدراك أربع ركعات. فأما إذا أدرك من آخر وقت العصر قدر تحريمه، أو ما دون الركعة، فهل يصير مدركًا للعصر أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما: بلى لأنه أدرك حرمة الوقت. والثاني: لا وبه قال أبو حنيفة والمزني، لأنه ليس بصلاة وفي الخبر ركعة مذكورة لا غير. فإذا قلنا: يصير مدركًا، ففي إمكان الطهارة قولان. وهل يصير مدركًا للظهر أم لا؟ فعلى قولي: إن قلنا: لا يصير مدركًا للظهر بهذا القدر، فعلى هذا يصير مدركًا لها إذا أدرك من آخر وقت العصر قدر أربع ركعات وتحريمة، وفي إمكان الطهارة قولان، ثم في كيفيته وجهان: أحدهما: يجعل أربع ركعات للظهر، والتحريمة للعصر. والثاني: على العكس منها. وفائدته أيضا تظهر في المغرب والعشاء، وذاك معلوم فخرج من هذه الجملة ثمانية أقوال: أحدهما: تلزمه الصلاتان بإدراك تحريمة. والثاني: بإدراك تحريمة وطهارة. والثالث: بإدراك أربع ركعات وتحريمة. والرابع: بإدراك أربع ركعات وتحريمة وطهارة. والخامس: بإدراك ركعة. والسادس: بإدراك ركعة وطهارة.

والسابع: بإدراك خمس ركعات. والثامن: بإدراك خمس ركعات، وإمكان الطهارة، وهكذا الأقوال الثمانية في المغرب والعشاء إذا أدرك قبل طلوع الفجر، شيئًا من الوقت على التفصيل، الذي ذكرنا. وفيه أربعة أقوال أخر: التاسع: يصير مدركًا لها بإدراك ثلاث ركعات وتحريمة. والعاشر: بإدراك ثلاث ركعات، وتحريمة، وإمكان الطهارة. والحادي عشر: بإدراك أربع ركعات. والثاني عشر: بإدراك أربع ركعات وطهارة، وإنما يحصل فيه اثنا عشر قولا، لما ذكرنا من الوجهين، إذا أدرك خمس ركعات، في آخر وقت العصر، فهل يكون اربع ركعات للعصر وواحدة للظهر، أو على عكسه؟ وفائدته تظهر في المغرب والعشاء حتى يحصل فيه هذه الأقوال. فأما في صلاة الصبح إذا أدرك شيئًا من وقت الصبح قبل طلوع الشمس بماذا يصير مدركًا لها؟ فيه أربعة أقوال: في قول: يصير مدركًا لها بقدر تحريمة. وفي قول: بقدر تحريمة، وإمكان طهارة. وفي قول: بقدر ركعة. وفي قول: بقدر ركعة وإمكان طهارة. هذا كله كلام فيما إذا وجد زوال الأعذار في آخر الوقت. فأما في أول الوقت إذا مضى مه شيء، ثم وجدت الأعذار مثل أن جن، العاقل، وحاضت المرأة، أو نفست أو أغمي عليه.

قال أبو يحيى البلخي من أصحابنا: حكمه حكم آخر الوقت حرفا بحرف حتى لو أدرك من أواخر الوقت قدر ركعة ثم طرأ عليه العذر يلزمه الظهر، وفي العصر قولان، ولو أدرك ما دون الركعة، فعلى قولين. والصحيح أنه لا يصير مدركًا للصلاة ما لم يدرك قدر الإمكان من فعل صلاة تامة، وهو قدر ما يصلي أربع ركعات حتى يصير مدركًا لها؛ لأنه استقر عليه الفرض، فلا يسقط عنه بعارض العذر، ولا تلزمه صلاة الثانية أيضًا، والفرق بين هذا، وبين آخر الوقت أن في آخر الوقت يمكنه عقد الصلاة في الوقت، والبناء عليه بعد خروج الوقت، فجاز أن يقال: إنه يلزمه ذلك بإدراك ركعة وما دونها. فأما في أول الوقت بخلافه، لأنه لا يمكنه البناء عليه، ولا يمكنه الشرع فيها قبل دخول الوقت، فافترقا لهذا المعنى، وزان مسئلتنا منه أنه لو زال العذر قبيل غروب الشمس، ولم يبق سليم الحال إلى إمكان فعل الصلاة بأن عاوده العذر بعد غروب الشمس فلا جرم. قلنا: لا يلزمه شيء، لأن الإمكان شرط الاستقرار على ما بينا؛ فعلى هذا لو عاوده العذر بعد إمكان الصلاتين، ثبتتا في ذمته إلى أن يزول العذر ثانيًا، وإن عاوده بعد إمكان أحدهما ثبتت تلك الصلاة في ذمته لا غير. وقال أبو حنيفة: إن أدرك من آخر وقت العصر قدر تحريمة لا يصير مدركًا لها، ولو أدرك قدر ركعة يصير مدركًا للعصر دون الظهر، فنقول: كل من لزمه عصر يومه لزمه ظهر يومه. دليله: من لم يكن به عذر، أو كان ولكن زال بعد ما صار ظل كل شيء مثله، ونصف مثله والأصل مركب. واختار المزني القول الذي قلنا: إنه لا يصير مدركًا للعصر بقدر تحريمة، واحتج بقوله عليه السلام: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.

النبي صلى الله عليه وسلم قيده بإدراك ركعة لا غير، وقال أيضًا بأن الإنسان لا يصير مدركًا للجمعة بما دون الركعة، وإنما يصير المسبوق مدركًا للجمعة بركعة كاملة. قلنا: أما الخبر نحمله على أنه إذا أدرك ركعة من العصر تكون صلاته أداء لا قضاء، ولو أدرك منه دون ذلك يصير قضاء على ما ذكرنا من قبل. وأما الجمعة نقول في الفرق بينهما أن الإدراك إدراكان: إدراك إسقاط وإدراك إلزام. فأما إدراك الإسقاط يشترط فيه كمال المدرك، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركًا للدركعة، لأن ذاك إدراك إسقاط، لأنه يسقط به عن نفسه القيام والقراءة، بل يشترط فيه كمال المدرك، وهو أن يدرك الركوع هكذا في إدراك الجمعة إدراك إسقاط؛ لأنه أراد به إسقاط ركعتين عن نفسه، فيشترط فيه كمال المدرك وهو ركعة تامة. وأما إدراك الإلزام لا يشترط فيه كمال المدرك، وسواء فيه بين اليسير والكثير احتياطًا للعبادات، كما لو اقتدى المسافر بالمقيم، فيلزمه الإتمام، سواء أدرك ركعة أو دونها، فكذا فيما نحن فيه إدراك إلزام، فسوى فيه بين القليل والكثير، فإن قيل: أليس أن المزني قال في أول الفصل: إذا أغمي على رجل فأفاق قبل مغيب الشمس، بركعة أعاد الظهر والعصر، ثم قال في آخره: إن أدرك الإحرام في وقت الآخر صلاهما جميعًا، وهذا ركاكة في اللفظ بل الأولى أن نقلب القصة، ونقول: إن أدرك ركعة صلاهما، وإن أدرك تحريمة أعادهما. قال القاضي رضي الله عنه: ليس هذا تحلل من جهته؛ لأنه لم يرد به أن يصليهما في الوقت، وإنما أراد به في الموضعين أن يصليهما خارج الوقت، ويكون الكل قضاء، لأنه لا يمكنه الاشتغال بالصلاة في الوقت، سواء أدرك ركعة، أو ما دون الركعة لوجوب الاغتسال، أو الطهارة عليه.

فرع: لو طلع الشمس في صلاة الصبح لا يبطلها عندنا. وقال أبو حنيفة: طلوع الشمس في خلال الصلاة يبطلها، سواء كانت الصلاة نقلا أو فرضًا، وسواء طلعت الشمس قبل فراغه عن التشهد، وقبل السلام. ووافقنا في أن غروب الشمس في خلال الصلاة لا يبطلها، فنقول: صلاة وجدت في إحدى طرفي النهار، فخروج الوقت فيها لا يبطلها قياسا على ما لو وجدت في الطرف الآخر. فرع: إذا أغمي على إنسان إغماء يستغرق جميع وقت العذر والضرورة تسقط تلك الصلاة عنه؛ بيانه بأنه لو أغمي عليه قبيل الزوال وأفاق بعد غروب الشمس سقط عنه صلاة الظهر والعصر، وكذا لو أغمي عليه قبيل غروب الشمس وزال عنه بعد طلوع الفجر سقط عنه صلاة المغرب والعشاء وهكذا لو أغمي عليه قبيل طلوع الفجر، وزال عنه بعد طلوع الشمس يسقط عنه صلاة الصبح. وقال أبو حنيفة: إن استوعب الإغماء يومًا وليلة يسقط عنه الصلوات الخمس، وإن كان دون ذلك لا يسقط عنه شيء منها، ثم اختلفوا فيه. منهم من اعتبر الزمان الذي يجب فيه الصلوات الخمس، ومنهم من اعتبر قدر مضي يوم وليلة بيانه لو أغمي عليه قبيل الزوال بلحظة، ثم زال عنه الإغماء بعد طلوع الشمس بلحظة إن راعينا القول الأول قالوا: لا يلزمه شيء من صلوات الخمس، وإن راعينا القول الثاني قالوا: يلزمه الكل، ولا خلاف أنه لو زال عنه بعيد الزوال، من اليوم الثاني لا يلزمه شيء من الصلوات لوجود كلا المعنيين. فصل: الصلاة تجب بأول الوقت عندنا، حتى لو أدرك قدر إمكان الفعل من أول الوقت فلم يفعل حتى مات لقي الله تعالى، والفرض في ذمته.

وفي إمكان الطهارة وجهان، وهل يعصي بترك الفعل في أول زمان الإمكان أم لا؟ إذا مات فوجهان: أحدهما: بلى، كما في الحج. والثاني: لا؛ لأن آخر الوقت معلوم فلا ينسب إلى التفريط بالتأخر، بخلاف الحج، فإن آخر العمر غير معلوم، فالتأخير فيه إنما يجوز بشرط السلامة ولا خلاف أنه لو درك من أول الوقت دون قدر إمكان فعل الصلاة لا يلزمه شيء حتى لو مات لا يصير عاصيًا، ولا فرض في ذمته. وقال أبو حنيفة: لا تجبر الصلاة بأول الوقت ولو أداها يسقط عنه الفرض، ثم اختلفوا فيه. منهم من قال: إنها إذا أديت في أول الوقت وقعت نفلاً، لكنها يسقط بها الفرض وهي تمنع وجوب الفرض. وهذا لا يصح لأنه يؤدي إلى يعيش الإنسان مائة سنة لا يصلي لله فيه فرضًا، ولا يؤاخذ به، وأيضًا فإنه لا يجوز أن يصير النفل فرضًا في الأصول في إسقاط الفرض. ومنهم من قال: وقعت موقوفًا، فإن بقي إلى آخر وقت الصلاة تبين أنها وقعت فرضًا، وإن مات تبين أنها وقعت نفلاً. ومنهم من قال: يجب في جزء من أجزاء الوقت من أوله إلى آخره، فإذا أداها وقعت فرضًا، كالمعسر إذا حج وقع فرضًا، وإن لم يكن واجبًا عليه. ومنهم من قال: يتعين عليه بفعله، كالأشياء الثلاثة في الكفارة، والله أعلم بالصواب.

باب صفة الأذان وما يقام له من الصلوات ولا يؤذن

باب صفة الأذان وما يقام له من الصلوات ولا يؤذن. الأذان في اللغة: هو الإعلام لقوله تعالى: وأذن في الناس بالحج. أي أعلمهم: وسمى الأذان أذانًا، لأنه به يعلم الناس أمر مواقيت الصلاة، إذا دعوا إليها، والأصل في الأذا حديث الرؤيا، كان النبي صلى الله عليه وسلم مكث بـ مكة، ثلاث عشر سنة، وكان يصلي بلا أذان، ولا إقامة، ولا جمعة ولا جماعة، وفي

ثلاث سنين منه كان الإسلام مخفيا، وفي عشر سنين كان الإسلام ظاهرًا، فلما هاجروا إلى المدينة، وبنوا المسجد أمروا بالجمعة والجماعة، واشتغل الناس بمكاسبهم، فكانوا لا يشعرون بدخول وقت الصلاة، فاجتمعوا في موضع، وقالوا: ينبغي أن يكون لنا علامة نعرف بها مواقيت الصلاة، وتآمروا في ذلك زمانًا. فقال بعضهم: ندجن بالنهار، ونوقد بالليل، فقالوا: لانريد هذا، لأن هذا علامة المجوس، فلا نفعلها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم ننفخ في البوق. وقال الآخرون تلك علامة اليهود فلا نريدها. وقال بعضهم نضرب بالناقوس، فقال الآخرون: تلك علامة النصارى فلا نفعلها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فتفرقوا عن ذلك المكان ورجعوا إلى منازلهم، فلما كان من الغد جاء عبد الله بن زيد ب عبد ربه الأنصاري فقال: يا رسول الله إني كنت بين النائم واليقظان، فرأيت ملكًا ينزل من السماء، وبيده ناقوس، وعليه ثياب خضر فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: ما تصنع به، فقلت: ندعوا الناس إلى الصلاة. فقال أفلا أدلك على ما هو خير منه؟ فقلت: نعم، فصعد نشرًا من الأرض، واستقبل القبلة، وقال: الله أكبر، الله أكبر ... إلى آخر الأذان، ثم استأخر غير بعيد وأقام. وفي رواية: وأقام مثل ذلك. قال: فبينما نحن كذلك حتى جاء عمر رضي الله عنه مسرعًا، وكا يجر رداءه، وقال يا رسول الله والله بعثك بالحق نبيا لقد رأيت في المنام مثل ما أرى هذا الرجل ثم اجتمع على ذلك بضعة عشر نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يذكر مثل ذلك الرؤيا لنفسه، فلما دخل وقت الظهر، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله: قم وألقه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك.

فقال: ائذن يا رسول الله حتى أؤذن مرة، فأذن له في ذلك فأذن، فكان أول من أذن في الإسلام عبد الله بن زيد. قال المزني: قال الشافعي: ولا أحب للرجل أن يكون في أذانه وإقامته إلا مستقبلا القبلة. ال القاضي حسين: السنة في الأذان والإقامة أن يكون المؤذن مستقبل القبلة، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خير المجالس ما استقبلت به القبلة. ولو ترك ذلك أساء ويجزئه. فأما الخطبة: السنة فيها أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس، لأنها إعلام للحاضرين دون الغائبين.

فلو أنه استقبل القبلة فيها، واستدبر الناس، فيه وجهان: أحدهما: يصح كما في الأذان فترك السنة. والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يحصل به الإعلام، وفيه ترك الأدب جدًا. قال المزني: لا تزول قدماه، ولا وجهه عنها، ويقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. قال القاضي حسين: المستحب له ألا يلتوي في الأذان يمينا وشمالا، إلا أنه يلوي شق وجهه في الحيعلتين على ما سنذكره، ولا تزيل القدمين عن مكانهما، سواء كان في المئذنة، أو على وجه الأرض. وقال أبو حنيفة: إن كان على المئذنة يدور حولها. والدليل عليه ما روى سويد بن غفلة عن بلال انه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنا، أو أقمنا أن نستقبل القبلة، ولا نزيل أقدامنا عن مواضعها. قال المزني: ثم يرجع فيمد صوته، فيقول: أشهدُ أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حتى على الفلاح، حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة مثل هذا الأذان. قال القاضي حسين: الترجيع في الأذان أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، ويقول: أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، يختص بهما صوته، بحيث يسمع أهل المسجد فحسب، ثم يرفع صوته، ويمده مدًا ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، بصوت عال، بحيث يسمع جميع أهل المحلة.

فلو ترك الترجيع اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: يستأنف الأذان. ومنهم من قال: يصح الأذان. ونقل أحمد، والبيهقي عن الإمام الشافعي أنه قال: لو ترك الترجيع لا يصح أذانه. وفيه إشكال؛ لأنه أتى بأصل الأذان فوجب أن يصح، كما لو ترك التكبيرات السبع والخمس في صلاة العيدين، فإنه تصح تلك الصلاة. وقال أبو حنيفة: الترجيع بدعة. يدل عليه ما روى الشافعي عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عبد الملك عن أبي محذورة عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد الله بن محيريز أخي أبي محذورة، قال: كنت في حجر عمي أبي محذورة، فقلت له: يا عماه، إني خارج (إلى الشام)، وإني أسأل عن تأذينك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرني عن تأذينك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني كنت عاشر عشرة من الصبيان، إذ قفل النبي صلى الله عليه وسلم من (حنين)، ونزل في الأبطح في قبة من أدم، فخرج بلال وأذن للصلاة، فكنا نستهزئ به، ونصرخ، ونحكي الأذان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، على بهم، فما لبثنا، إذ وقفنا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من الذي سمعت منكم صوته عالبًا، فأشاروا إلى جهتي وصدقوا فيه، فحبسني النبي صلى الله عليه وسلم وأرسلهم، ثم قال لي: قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم ارجع وامدد صوتك، وقل: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، وأشهد أن محمدًا رسول الله مرتين)، قال: فرجعت، ومددت صوتي حتى كاد أن ينفلق صدري،

أو أعضائي إلى آخر الأذان، فلم يكن أحد أبغض إلي في ذلك الوقت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كلمات أبغض إلي من كلات يلقنيها، ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، وأمرها على صدرها، فلما بلغت يده صدري انقلب، ذلك البغض محبة، فلم يكن أحد في ذلك الوقت أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كلمات أحب إلي من تلك الكلمات التي يلقنيها، ثم رمي إلي صرة فيها شيء من الفضة. فقلت: يا رسول لله ولني تأذين مكة، فكتب كتابًا إلى عتاب بن أسيد، وهو أمير مكة بذلك قال: وكان يرجع في الأذان، وكذلك أولاده توارثوا ذلك عنه خلفهم عن سلفهم. وقال الشافعي رحمه الله: رأيت من أولاد أبي محذورة بمكة، من يرجع في الأذان حتى خرج أبو طالب المعدي الملون وغير ذلك. قال المزني: ويلتوي في حي على الصلاة حي على الفلاح، يمينًا وشمالاً، ليسمع النواحي. قال القاضي حسين: السنة أن يلوي شدقه في الحيعلتين يمينًا وشمالاً، ولا يلوي نفسه عن القبلة، وإنما يكون يلوي شق وجهه.

وفي كيفيته وجهان مستنبطان من هذا النص: أحدهما: أنه يلتوي في حيعلتي الصلاة يمينًا، وفي حيعلتي الفلاح شمالاً، وفي وجه يلتوي في الأولى من حي على الصلاة يمينًا، وفي الثانية شمالاً، وفي الأولى من حي على الفلاح يمينًا، وفي الثانية شمالاً. والفرق بينه وبين الشهادتين أن ذاك خطاب مع الآدميين، وسائر الكلمات محض ذكر الله تعالى، فلا يجوز ترك الاستقبال فيها، كالسلام في الصلاة مع سائر الأذكار. فأما في الخطبة لا يشرع فيها الالتواء يمينًا وشمالاً، لأن ذلك خطاب وإعلام للحاضرين، وليس من الأدب في الخطاب مع الحاضرين أن يلوي وجهه عنهم بخلاف الأذان والإقامة، فإنه خطاب وإعلام للغائبين، فإذا ولي شدقه، فيكون أبلغ في الإعلام. والدليل على أنه سنة في الأذان ما روى عن بلال أنه كان يلوي شدقه في أذانه يمينًا وشمالاً إذا بلغ حي على الصلاة حيَّ على الفلاح.

فرع الصبي العاقل إذا أذن يحتسب أذانه، والمرأة إذا أذنت لا يحتسب أذانها، والفرق بينهما أن المرأة لا يشرع الأذان ولا يسن لها الأذان. وأما الصبي فهو من أهل الأذان، ومن جنس من يشرع الأذان في حقهم. فأما البالغ إذا أذن قائمًا فلم يرفع صوته، فإنه لا يصح، لأن المقصود منه الإعلام، ولم يحصل المقصود به، ولو أذن قاعدًا، ترك السنة ويجزئه. ولو أذن مضطجعًا فيه وجهان، كما لو صلى النافلة مضطجعًا فيه وجهان، قال المزني: وحسن أن يضع أصبعيه في أذنيه. قال القاضي حسين: المستحب للمؤذن أن يدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه، لأن ذلك أطن للصوت وأجمع لخروج الصوت العالي. فإن قيل: إنكم لا تقولون بالاستحسان، والشافعي رحمه الله، قال بالاستحسان في أربعة مواضع:

أحدها: هذا. والثاني: قال إرسال ابن المسيب حسن. والثالث: قال: أستحسن المتعة بثلاثين درهما. والرابع: قال: رأيت في الحكام من يستحلف على المصحف، وذاك عندي حسن. قلنا: ليس هذا قول مجرد الاستحسان في هذا المواضع، وإنما هذا قول بالاستحسان، وبالدليل معه. أما في هذا المعنى إنما قال؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام، وإذا وضع أصبعيه في أذنيه، فيكون ذلك أبلغ في الإعلام. وإنما قال في إرسال ابن المسيب: حسن؛ لأنه ما من حديث أرسله ابن المسيب إلا وجده مسندًا من غيره، ولهذا قال: فتشت مراسيل ابن المسيب فوجدت كلها مسانيد. وأما في المتعة، إنما قال ذلك المعنى، وهو أن الزوج يوحشها بالطلاق، فقدر المتعة بثلاثين درهما في مقابلة ما يوحشها، كي يرضيها بذلك. وأما في باب الأيمان فإنه قال بالاستحسان لمعنى مقترن به، وهو أن الأيمان إنما شرعت للردع والزجر، فإذا وقعت بالمصحف، فيكون ذلك أبلغ في الردع والزجر. قال المزني: ويكون على طهرٍ. قال القاضي حسين: المستحب أن يكون المؤذن متطهرًا، لأن الأذان دعاء إلى الصلاة ومشروع لها، وهو حث على حضورها فأقل ما فيه أن يكون الداعي متهيئًا لها صالحًا لأدائها، ليحسن منه الدعاء إليها. ولأنه قيل: إن السُّنة للمؤذن أن يصلي ركعتين بعد فراغه من الأذان، وإنما

يتهيأ له ذلك، إذا كان متطهرًا حال الأذان، ويدل عليه قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله). أي: أذن، وقوله: صالحًا يعني: صلى ركعتين عقيبه، هكذا ورد في التفسير والله أعلم بالصواب. قال المزني: فإن أذن جنبًا، كرهته، وأجزأه. قال القاضي حسين: أذان الجنب يقع موقعه، إلا أنه مكروه إن كان خارج المسجد، وإن كان في المسجد أيضًا يقع موقعه، إلا أنه يأثم بالمكث في المسجد، وقال في (الكبير): وأنا للأذان جنبًا أكره مني للأذان محدثًا، وأنا للإقامة محدثًا أكره مني للأذان محدثًا، وإنما كانت في الجنابة أكثر، لأن أمر الجنب أغلظ من أمر المحدث، لأنه يحرم اشياء لا يحرمها المحدث، ولا ترتفع إلا بالغسل، فربما يطول الفصل بينه وبين الإقامة، وإنما كانت الكراهية في الإقامة من المحدث أكثر، لأن الإقامة يعقبها عقد الصلاة، وهو إذا كانت محدثًا لا يمكنه عقد الصلاة مع الناس، فلو انتظره الإمام شق ذلك عليه وعلي الناس، ولو تركه يظن الناس به ظن السوء، ويتهمونه في دينه. قال المزني: وأحب رفع الصوت؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به. قال القاضي حسين: لما ذكرنا أنه شرع للإعلام، يدل عليه ما روى عن النبي

صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد الخدري، إني أراك رجلا تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو في باديتك، ودخل عليك وقت الصلاة، قم وأذن وارفع صوتك، فإنه لا يسمع صوتك حجر ولا مدر إلا ويشهد لك به يوم القيامة. والدليل عليه: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يغفر للمؤذن مد صوته قيل في تفسيره: إنه إذا مدَّ صوته، فكل من يسمعه يستغفر له، فيغفر له بسببه، وقيل: معناه: إنه إذا مده صوته مدت له الرحمة بقدر مد الأذان، والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن زيد بإلقائه على بلال، لأنه كان أندى صوتًا منه.

قال المزني: وألا يتكلم في أذانه، فإن تكلم لم يعد. قال القاضي حسين: إن تكلم في أذانه، وكان يسيرًا، بحيث إنه لم يطل الفصل يبني عليه. وإن طال الفصل حكمه حكم الإغماء إذا اعتراه في خلال الأذان، وحكمه حكم ما لو أغمي عليه في خلال الخطبة، وفيه قولان: أحدهما: يبني عليه غيره. والثاني: لا يبني عليه غيره. إن قلنا: هناك لا يبني عليه غيره في الخطبة، ففي الأذان أولى. وإن قلنا: هناك يبني عليه غيره، ففي الأذان وجهان. والفرق أن في الخطبة لا يؤدي إلى التباس الأمر على الناس، لأن ذاك خطاب للحاضرين بخلاف الأذان، فإنه إذا اختلفت الأصوات التبس الأمر على الناس فيظنونه استهزاء. فأما إذا أفاق هو، فهل يبني على خطبته أم لا؟ فمرتب على بناء الغير. إن قلنا: هناك يجوز لغيره البناء، فهو بالبناء عليه أولى، وإلا فوجهان. والفرق أنه يبنى ذلك على كلام نفسه فبناؤه أولى من بناء غيره؛ لأن ذاك أقرب إليه إن قلنا: في الخطبة يبني هو عليه، ففي الأذان يبني، وإلا فلا، وحكم الكلام فيه حكم ما لو أغمي عليه، وقد ذكرنا. فأما إذا ارتد في الأذان، قال الشافعي: لا يبني هو وغيره عليه. اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان كالأعمى سواء.

ومنهم من قال: قول واحد أنه لا يبني في الردة؛ لأن الردة تحبط الأعمال المفروغة عنها بخلاف الإغماء، إلا أن هذا لا يصح، لأن عندنا الردة لا تحبط الأعمال، وإنما ذاك مذهب أبي حنيفة، فعلى هذا قوله: لا يبني هو وغيره، إنما أجاب هذا على أحد القولين، أو ذكر على وجه الاستحباب، أو أراد به إذا ذكر بعض الكلمات في حال الردة لا يبني عليه، بل يبني على ما وجد منه من الكلمات في حالة الإسلام قال المزني: وما فات وقته، أقام ولم يؤذن. واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس يوم الخندق، حتى بعد المغرب بهوى من الليل، فأمر بلالاً، فأقام لكل صلاة، ولم يؤذن، وجمع بعرفة بأذان وإقامتين، وبمزدلفة بأقامتين، ولم يؤذن فدل على أن من جمع في وقت الأولى منهما، فبأذان، وفي وقت الآخرة، فبأقامة وغير أذن. قوله: وما فات وقته أقام ولم يؤذن. قال القاضي حسين: اما إذا فاتته صلاة واحدة لا خلاف أنه يسن له الإقامة، وفي الأذان اختلف قوله فيه. قال في الجديد: لا يؤذن لها بل يقيم. وقال في القديم: يؤذن لها ويقيم وقال في الإملاء: إن رجا اجتماع الناس أذن وأقام، وإلا فلا. ففي القديم جعل الأذان لحق الفرض، في الجديد لحق الوقت. وفي الإملاء لحق الجماعة. ووجه قوله القديم وهو مذهب أبي حنيفة أنها صلاة مفروضة فيؤذن لها كسائر الصلوات.

ووجه قوله في (الإملاء)، أن الأذان لدعاء الناس وعمارة الجماعات، والفائتة لا يجتمع فيها العامة، فإن رجا اجتاعهم أذن، وإلا فلا. ووجه قوله الجديد: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس يوم الخندق، حتى فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، فأمر بلالا أن أقام لكل صلاة، ولم يؤذن وفي رواية أذن للأولى وأقام للبواقي. والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الغزوات فأعياهم سير الليل، فقالوا: لو عرست بنا يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني أخاف أن يناموا عن صلاة الصبح فمن يكلؤنا، فقال بلال: أنا أكلؤكم، فناموا، واستند بلال إلى رحله، فنام فما أيقظهم إلا حر الشمس، فانتبه من القوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان جهوري الصوت، فقال الصلاة الصلاة، فانتبه الناس من صوته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ببلا فأتي به، فقال أين ما قلت؟ فقال بلال أخذ بعيني ما أخذ بأعينكم، فقال عليه السلام: صدق بلال، فإن أنفسنا بيد الله، إن شاء أمسكها، وإن شاء حبسها اخرجوا من هذا الوادي فإن به شيطانا فاقتادوا واغير بعيد. فنزلوا فأمر بلالا بأن أقام للصلاة، دل على أن الأذان لها ليس سنة. فأما إذا كانت عليه فوائت كثيرة. ففي قوله الجديد: يقيم لكل واحدة منهن ولا يؤذن. وفي قوله القديم: يؤذن لها ويقيم للبواقي.

فأما إذا كان عليه فائتة، ودخل الوقت، وأراد فرض الوقت أذن لها، وأقام، ولم يؤذن للفائتة؛ لأنها مؤداة على أثر فرض الوقت، بل يقيم لها، وإن بدأ بالفائتة، فعلى ما ذكرنا من القولين، فإن أقام لها فإنه يؤذن، ويقيم لفرض الوقت، لأنهما صلاتان، منفردتان لا يتعلق حكم إحداهما بالأخرى. وفيه وجه آخر: أنه يؤذن لفرض الوقت؛ لأنه يؤدي إلى سبق الإقامة على الأذان. والصحيح هو الأول؛ لأن الأذان لحق الوقت، ولدعاء الناس إلى الصلاة، والناس يشتركون في فرض الوقت. فأما في الجمع بين الصلاتين، ينظر فيه إذا نقل العصر إلى الظهر يؤذن للظهر، ويقيم ثم يقيم للعصر، وإن نقل الظهر إلى العصر. إن قلنا: الترتيب شرط، هل يؤذن للظهر أم لا؟ يترتب على الفائتة، إن قلنا: يؤذن للفائتة، فها هنا أولى، وإلا فوجهان. وإن قلنا: إن الترتيب فيه ليس بشرط يؤذن، ويقيم للعصر، ثم يقيم للظهر. قال المزني: ولا أحب لأحد أن يصلي في جماعة، ولا وحده إلا بأذان وإقامة، فإن لم يفعل، أجزأه. قال القاضي حسين: المستحب للمنفرد أن يؤذن ويقي، كما إذا صلى بالجماعة.

والدليل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان أحدكم بأرض فلاة ودخل عليه وقت الصلاة، فلو صلى بغير أذان ولا إقامة صلى وحده ولو صلى وأقام صلى ومعه ملكاه، ولو صلى بأذان وإقامة صلى معه صف من الملائكة أوله بالمشرق وآخره بالمغرب. قيل: بأنه أراد به بالمدينة، لأن المدينة على يسار الكعبة، فيصير هناك صف أو له بالمشرق وآخره بالمغرب، وأما في بلادنا هذا لا يتصور ذلك. وقيل: بأنه اراد به التقدير يعني لو فعل هكذا صلى ومعه صف من الملائكة يبلغ هذا المقدار، قال المزني: وأحب للمراة أن تقيم، فإن لم تفعل أجزأها. قال القاضي حسين: وأما الأذان لا يستحب لها؛ لأنه شرع فيه رفع الصوت، وليس للمرأة أن ترفع صوتها. ولهذا قلنا: لا يجوز للمراة أن تجهر في صلاة الجهر، ولا أن ترفع صوتها بالتكبير. قال المزني: ومن سمع المؤذن، أحببت أن يقول مثل ما يقول إلا أن يكون في صلاة، فإذا فرغ قاله، وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر.

قال القاضي حسين: المستحب للسماع أن يعيد كلمات الأذان على هيئتها إلا الحيعلتين، فإنه يقول في حي على الصلاة والفلاح، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان، لأن ذلك ليس بثناء، بل دعاء مجرد للناس إلى الصلاة، وإذا كان في أذان الصبح، وقال المؤذن: الصلاة خير من النوم، فيقول السامع: صدقت وبررت، وفي كلمتي الإقامة يقول: اللهم أقمها وأدمها، واجعلني من صالح أهلها. وفي رواية: اقامها الله وأدامها، ما دامت السموات والأرضون. وإذا فرغ المؤذن من الأذان، فالسنة للسامع أن يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الدرجة والوسيلة والرفعة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، كي يغبطه الأولون والآخرون، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سمع الأذان وقال مثل مقالته وشهد مثل شهادته، فقد حلت له شفاعتي. وفي رواية: وجبت له شفاعتي، وهذا كله إذا كان خارج الصلاة. فأما إذا كان في الصلاة. قال في الجديد: لا يقول شيئًا. وقال في القديم: يقوله.

ولا خلاف أنه لا يستحب له إعادة الأذان، وفي (الكبير) قال: يعيدا بعد فراغه من الصلاة، وهل يكره له ذلك في الصلاة أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما: بلى؛ لأن حرمة الصلاة تمنعه من أن يدخل فيها غيرها. والثاني: لا؛ لأنها أذكار، فأشبه سائر الأذكار، وإذا كان يقرأ القرآن فسمع صوت المؤذن، فالمستحب له إعادة الأذان معه، لأن ذاك يفوت، وقراءته القرأن لا تفوت، فعلى هذا إذا أجاب في الصلاة، إن كان في خلال الفاتحة تبطل القراءة، ويستأنف القراءة، ولا تبطل الصلاة، وإن كان في غير الفاتحة، فإنه لا تبطل الصلاة. ولو قال في الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله هكذا، فأما إذا قال فيه مثل ما قال المؤذن، إن كان عالمًا بأنه في الصلاة، وأن ذلك خطاب الآدميين تبطل صلاته. وإن كان جاهلاً بالصلاة لا تبطل. وإن كان جاهلاً بحكمه ففيه وجهان: إن كان لا تبطل صلاته، فعليه سجدتا السهو، وهكذا لو قال في جواب قوله: الصلاة خير من النوم، صدقت، وبررت بطلت صلاته. ولو قال: الصلاة خير من النوم هكذا، لأن هذا خطاب مع الآدميين، وإنه كلام وليس بذكر، ولو قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبطل صلاته. ولو قال: قد قامت الصلاة بطلت صلاته، كما لو قال دخل وقت الصلاة. ولو قال: اقامها الله، أو اللهم أقمها وأدمها لم تبطل صلاته، وهذا لو سلم على المصلي أولا لم يستحق عليه الجواب، ولو فرغ من صلاته لا يلزمه ذلك أيضًا؛ لأنه هو الذي ضيع حقه إذ لم تكن الصلاة محلا للسلام، ولو رد جوابه في الصلاة، إن قال: وعليك السلام، إن كان عالمًا به بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً لم تبطل، ولو قال: وعليه السلام لم تبطل صلاته، لأنه دعاء

له، والصلاة محل الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، وهكذا إذا شمت عاطسًا في الصلاة، إن قال: يرحمك الله بطلت صلاته إن كان عالمًا به، وإلا فلا. ولو قال: يرحمه الله لم تبطل، ولو رد السلام بإشارة اليد فلا بأس، والله أعلم. قوله: (وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر). قال القاضي حسين: وإنما قال ذلك، لأن الأذان لدعاء الناس إلى الصلاة، والناس يكونون مجتمعين، فلا يحتاجون إلى جامع يجمعهم، وأيضًا السفر يؤثر في إسقاط بعض الفرائض، فأثره في التخفيف في باب السنن أظهر. وقال أبو حنيفة: تركه في الحضر أخف، وعلل بكثرة المؤذنين في الحضر، فترك الأذان فيه لا يتضمن إبطال ما هو من شعار الإسلام، بخلاف السفر وجوابه ما ذكرنا. قال المزني: والإقامة فرادي، إلا أنه يقول: قد قمات الصلاة، مرتين، وكذلك كان يفعل أبو محذورة مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي حسين: هذا مذهبه في الجديد. وقال مالك: يوتر كلمات الإقامة حتى التكبير، فإنه يقول في الابتداء، الله أكبر فحسب، وكذا قال في آخره: الله أكبر لا إله إلا الله، ويقول: قد قمات الصلاة مرة واحدة، وبه قال الشافعي في القديم. وعند أبي حنيفة الإقامة مثني مثني، كالأذان وفيها زيادة كلمتي الإقامة. والدليل على صحة قولنا ما روى عن ابن عمر، رضي الله عنه أنه قال: كان الآذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثني مثني، والإقامة فرادى إلا قوله: قد قامت الصلاة، فإنه يقولها مرتين. وروى عن أنس بن مالك، رضي الله عنه أنه قال: ذكر الناس والناقوس، وذكر النصارى والمجوس فأمر بلال بأن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.

ومن أصحابنا من قال: إن رجع في الأذان، فالسنة أن يثني الإقامة، وإن لم يرجع فيه، فإنه يفرد الإقامة، واحتج فيه بما روى عن أبي محذورة أنه قال: لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات الأذان تسع عشرة كلمة، وكلمات الإقامة سبع عشرة كلمة إذا وجدت مثني مثني، والصحيح: أن الإقامة فرادى، سواء رجع في الأذان، أو لم يرجع. قال المزني: فإن قال قائل: قد أمر بلال بأن يوتر الإقامة. قيل له: فأنت تثي (الله أكبر، الله أكبر) فتجعلها مرتين. قال القاضي حسين: منهم من قال: هذا سؤال من مالك على الشافعي. ومنهم من قال: هذا سؤال من مذهبه القديم على مذهبه الجديد. وبيانه أن نقول: يوتر الإقامة، ثم نقول في قوله: قد قامت الصلاة مرتين وفي قوله: الله أكبر مرتين، وهذا يكون مثني مثنى. فأما وأنت تقول: الإقامة فرادي ثم يثني قوله: الله أكبر مرة في أول الإقامة، ومرة في آخرها فما عممت كلمات الإقامة في الإقامة، إلا أن الصحيح أن نقول: أردنا بقولنا الإقامة فرادى، يعني على شطر كلمات الأذان إلا قوله: قد قامت الصلاة، فإنه يقولها مرتين. وقال المزني: قد قال في القديم: يزيد في أذان الصبح التثويب، وهو: الصلاة خير من النوم، مرتين، ورواه عن بلال مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي رضي الله عنه وكرهه في الجديد، لأن أبا محذورة لم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال المزني: وقياس قوليه: أن الزيادة أولى به في الأخبار كما أخذ في التشهد بالزيادة، وفي دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت بزيادة أنه صلى فيه، وترك من قال: لم يفعل. قوله: وقال في القديم، ويزيد في صلاة الصبح التثويب. قال القاضي حسين: التثويب أن يقول المؤذن في أذان الصبح بعد ما قال حي

على الفلاح مرتين: الصلاة خير من النوم مرتين، وإنما سمى تثويبًا، لأنه يثوب ويرجع من دعائه للناس إلى الصلاة إلى دعائه للناس إلى الصلاة، لأن قوله: حي على الصلاة دعاء لهم الصلاة، ثم بعد الفرغ عن الحيعلتين عاد إلى عائهم إلى الصلاة بقوله: الصلاة خير من النوم. وكرهه الشافعي في الجديد، وعلل بأن أبا محذورة لم يحكه، وإنما قال ذلك لأن الشافعي رحمه الله اعتمد في الأذان على أذانه، والصحيح أن التثويب مستحب قولا واحدًا؛ لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر عن الصلاة ذات يوم، فجاء بلال إلى حجرته، وقال الصلاة، وفي رواية: الصلاة خير من النوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، اجعلها في أذان الصبح. وفي رواية: اجعلوها في أذانكم. وروى عن علي، رضي الله عنه، التثويب، روى أنه كان يقول: حي على خير العمل وبه أخذت الشيعة. ويحمل قوله في الجديد على أنه لم يبلغه الخبر. واختار المزني في التثويب: واحتج بأن فيه زيادة، والأخذ بالزيادة في العبادات أولى، ولهذا أخذ الشافعي في التشهد بقول ابن عباس، لأن فيه زيادة، وأخذ.

بقوله من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وصلى فيه، وترك قول من روى أنه لم يصل فيه، لأن فيه زيادة كذا هذا. قلنا: الأخذ بالزيادة إنما يكون أولى، إذا كان ذلك الشيء مستترًا مخفيا مستترًا عن الناس كما رويت الخبرين. فأما إذا كان شائعًا مستفيضًا فيما بين الناس، فلا يكون فيه الأخذ بالزيادة أولى، ألا ترى أنه لو جاء واحد، وأخبر بأن الخطيب قد سقط عن المنبر يوم الجمعة، واندقت عنقه، وكذبه أهل الجماعة لا يقبل قوله باعتبار أن فيه زيادة. وكذا لو أخبر بأني رأيت الأمير راكبًا على حمار منكوسًا، ويدور عليه في السوق، وكذبه أهل السوق فإنه لا يقبل قوله، فكذا الأذان بمثابته، لأنه يكون على رأس المئذنة، وكان سمعه أكثر الناس، فلا يكون الأخذ بالزيادة، فيه أولى، بل الصحيح ما ذكرنا من تأويل قوله في الابتداء. قال المزني: وأحب ألا يجعل مؤذن الجماعة إلا عدلا ثقة لإشرافه على الناس. قال القاضي حسين: ينبغي أن يكون المؤذن عدلا في دينه، وأن يكون ثقة كي يحافظ على الناس أوقات الصلاة، فأما إذا استخف بالأذان بأن يؤذن مرة في أول الوقت، ومرة في آخرة، ومرة خارج الوقت، أو كان جاهلاً بأوقات الصلاة فإنه يعزل ويولي غيره. وقوله: لإشرافه على الناس، له تأويلان:

أحدهما: على عورات الناس واطلاعه على منازلهم، لأن المستحب أن يؤذن على مكان مرتفع ليحصل به الإعلام، فإذا لم يكن عدلاً ثقة ربما ينظر إلى عورات الناس. والثاني: أراد به لإشرافه على مواقيت الصلاة، فينبغي أن يكون أمينًا لكي لا يخون الناس في الأوقات بالتقديم والتأخير. قوله: (وأحب أن يكون صيتًا). قال القاضي حسين: لأن المراد به الإعلام فيستحب أن يكون رفيع الصوت لزيادة الإعلام، ويدل عليه قول عليه السلام لعبد الله بن زيد: القه على بلال فإنه أندى صوتًا منك. قال المزني: وأحب أن يكون صيتًا، وأن يكون حسن الصوت؛ لأنه أرق لسامعهِ. قال القاضي حسين: وهو كما قال؛ لأنه دعاء إلى العبادة، والداعي إذا كان حسن الصوت تصغى إليه الأذان والطباع، وإذا كان سمج الصوت تبو عنه الطباع والأذان فينبغي أن يكون حسن الصوت لترق به القلوب، وتميل إليه الطباع. قال المزني: وأحب أن يؤذن مترسلاً بغير تمطيط - ولا يغني فيه. قال القاضي حسين: والترسل أن يأتي بكلمات الأذان مفصلاً مبنيًا على التؤدة والتأني واحدة بعد واحدة من غير تمطيط، أي: تمديد، ولا يعي فيه، أي: لا محاورة فيه في المد وقريء، ولا يتغني فيه، أي: لا يؤذن بحيث يشبه الغناء. قال المزني: وأحب الإقامة إدراجًا مبينًا.

قال القاضي حسين: وهو أن يأتي بكلماتها حدرًا واحدًا فواحدًا، ولا يأتي بها مترسلاً، روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر). وفي رواية: فاحزم، واجعل ما بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل عن آكله، والشارب عن شربه، والمعتصر لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني. معناه: لا تقوموا بعد الإقامة إلى الصلاة حتى تروني وقد قمت. قال المزني: كيفما جاء بهما، أجزأ. قال القاضي حسين: معناه كيف ما جاء بإلاان والاقامة مترسلا أو حادرا قائمًا أو قاعدًا، مستقبل القبلة أو مستدبرها، على مكان مرتفع أو على وجه الأرض أجزأه. قال المزني: وأحب أن يكون المصلي بهم فاضلاً، عالمًا قارئًا، وأي الناس أذن، وصلى أجزأه. قال القاضي حسين: هذه المسألة ليست من مسائل هذا الباب، لكنه ذكرها في مقابلة ما قال في أن المؤذن لا يجعل إلا عدلا ثقة، ينبغي أن يكون الإمام عالمًا قارئًا، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن استووا فأعلمهم بالسنة، فإن استووا فأقدمهم هجرة.

قوله: (وأي الناس أذَّن وصلى أجزأه) إذا كا يحسن القراءة على ما سنذكره في بابه إن شاء الله تعالى. قال المزني: وأحب أن يكون المؤذنون اثنين، لأنه الذي حفظناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال، وابن أم مكتوم، فإن كان المؤذنون أكثر، أذنوا واحدًا بعد واحد. قال القاضي حسين: السنة أن يكون المؤذن أكثر من واحد، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنا: بلال وعبد الله بن أم مكتوم. وقيل: كان أربعة م المؤذنين: بلال، وعبد الله بن أم مكتوم، وسعد القرظي، وأبو محذورة، إلا أن هذا ذكر لعائشة، فأنكرت ذلك وقالت: بل كان له مؤذنان: بلال، وعبد الله بن أم مكتوم، وهو كما قالت، لأن أبا محذورة كان يؤذن بـ (مكة)، وسعد القرظي يؤذن بمسجد (باء). إذا كان في مسجد مؤذنان فيؤذنان على الترتيب فإن كان في أذان الصبح يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجرن والآخر بعده وإذا أذن قبل طلوع الفجر متى يؤذن؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يؤذن بعد ثلث الليل إلى قبيل طلوع الفجر. والثاني: أنه يؤذن من بعد مضى نصف الليل إلى قبل طلوع الفجر، والوجهان ينبنيان على أن وقت الاختيار لصلاة العشاء إلى متى يمتد؟ وفيه وجهان، والصحيح أنه يؤذن في نحر السحر كي لا يؤدي إلى اشتباه الأمر على الناس أن هذا أذان الصبح، أو أذان العشاء، فأما في سائر الأوقات، إن كان في الوقت سعة هكذا يؤذن واحد بعد واحد على الترتيب، فإن تشاحوا في ذلك أقرع فيما بينهم، فمن خرجت قرعته أولا بدأ هو بالأذان أولا، وإنما يقيم من أذن أولا. والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأسفارـ وكان بلالٌ

غائبًا، فأذن زياد بن الحرث الصدائي قبل طلوع الفجر، فحضر بلال بعد طلوع الفجر والأذان، وأراد أن يقيم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن أخا صداء أذن وإن من أذن أولا فليقم. فأما إذا كان في الوقت ضيق، أذن كل واحد منهم في ناحية في المسجد، إن كان في ساحته سعة، بحيث لو أذن كل واحد في كل ناحية منه لا يؤدي إلى التشويش على الناس، وإن اجتمعوا في موضع واحد وأذنوا دفعة واحدة، إن اتفقت أصواتهم يجوز، وإن اختلفت أصواتهم لا يجوز، بل يؤذن واحد منهم كي لا يؤدي إلى تهويش الأمر على الناس، فإذا اجتمعوا في الأذان يقرع فيما بينهم في الإقامة. قال المزني: ولا يرزقهم الإمام، وهو يجد متطوعًا. قال القاضي حسين: إذا وجد الإمام من يؤذن متطوعًا فليس له أن يستأجر واحدا بالأجرة، لأن منزلة الإمام من مال بيت المال منزلة الوصي من مال اليتيم، ثم الوصي لو وجد من يعمل في مال اليتيم متطوعًا لس له أن يستأجر من يعمل في ماله بالأجرة كذا الإمام مثله.

قال المزني: فإن لم يجد متطوعًا فلا بأس أن يرزق مؤذنا واحدًا، ولا يرزقه إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يرزقه من الفيء، ولا من الصدقات لأن لكل مالكًا موصوفًا. قال القاضي حسين: للإمام أن يرزق المؤذن، لأنه من المصالح بلا خلاف، وله استئجار المؤذن على الأذان، وكذا يجوز الاستئجار على الطاعات عندنا من تعليم القرآن والحج. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وهذا لا يصح، لأنه استأجره على عمل معلوم لا يجب عليه، وينتفع به غيره، لأن نفعه عائد إلى جميع المسلمين، فإنهم يطلعون به على دخول أوقات الصلوات، فيجوز كما لو استأجره لبناء المسجد والقناطر والرباطات، فإن كان البلد يشتمل على مساجد فله أن يرزق عددًا من المؤذنين إن لم يمكن جمع الناس في مسجد محلة واحدة، وإن أمكن جمعهم في مسجد واحد فيها وجهان: أحدها: يستأجر واحدًا فحسب لا حاجة به إلى الزيادة على مؤذن واحد. والثاني: يستأجر أكثر من واحد، كي لا يؤدي إلى تعطيل المساجد، وأيضًا مهما كثرت الجماعات كثر الثواب؛ لأن أداء الجماعات في المساجد أولى من أدائها في مسجد واحد، فأما إذا وجد من يؤذن متطوعًا، وليس برفيع الصوت، فهل له أن يستأجر من كان حسن الصوت أم لا؟ فيه قولان بناء على ما إذا طلق امرأته، وله منها ولد صغير، ووجد من يرضعه مجانًا، وهي لا ترضعه إلا بالأجرة فيه قولان: أحدهما: أن الأم أولى لقوله تعالى: (فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن)؛ ولأن شفقتها أكثر عليه من شفقة الأجنبية. والثاني: أن الأجنبية أولى؛ لأنها تطوعت به.

إن قلنا: الأم أولى فهنا يستأجر من كان أحسن صوتًا منه. وإن قلنا: الأجنبية أولىن فها ها لا يستأجر. قال القفال: عندي لا يجوز الاستئجار على التأذين، لأنه إن كان على العين، فالأذان كان لأوقات الصلاة، فيصير إجارة في المدة القابلة، وذلك لا يجوز، وإن كان في المدة فهو ينتفع به، كما أن غيره ينتفع به، فلا يجوز، الدليل عليه الإقامة. قوله: (ولا يرزقه إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم):، وهو كما قال؛ لأنه يعد لمصالح المسلمين، وأهم المصالح أمر الأذان وقد أخل المزني بالنقل ها هنا، حيث قال: ولا يجوز أن يرزقه من الفيء، وخمس خمس الفيء من جملته. والشافعي قال: ولا يجوز أن يرزقه من غيره من الفيء، ولا خلاف أنه لا يرزقه من أربعة أخماس خمس الفيء، ولا من أربعة أخماس الغنيمة، وهل له أن يرزقه من أربعة أخماس خمس الفيء؟ فعلى قولين بناء على أن أربعة أخماس الفيء لم تكن، وفيه قولان: أحدهما: للمرتزقة خاصة. والثاني: لمصالح المسلمين. قال المزني: وأحب الأذان؛ لما جاء فيه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأئمة ضمناء، والمؤذنون امناء، فأرشد الله الأئمة واغفر للمؤذنين. قال القاضي حسين: اختلف أصحابنا في أن التأذين أفضل أم الإقامة؟ منهم من قال: التأذين أفضل لقوله عليه السلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة).

ولما روي عنه عليه السلام، أنه قال: الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء، فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين. جعل النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن أمينًا، والإمام ضمينًا، ومعلوم أن حال الأمين أحسن وأمثل من حال الضمين، وأيضا دعا للمؤذنين بالمغفرة والأئمة بالرشد، والرشد يقتضي سبق الإضلال. ومنهم من قال: الإمامة أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى الإمامة ولم يؤذن قط.

وأيضا قال: الإمامة، يحتاج فيها الإنسان إلى تعلم أركاها وهيئاتها، وغير ذلك من تنقية الثوب وغيره، فيكون الثواب فيها أكثر لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة في تلك القصة المعروفة: (أجرك على قدر نصبك). ومن قال بالأول أجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما لم يؤذن، لأن المؤذن ينبغي أن يكون منتظرًا، والإمام منتظرًا فلو أذن صار منتظرًا، وذاك لا يجوز وأيضا الأذان دعاء إلى الصلاة وحث عليها، وكان أمر النبي صلى الله عليه وسلم واجبًا، فلو أذن وجب على من يسمع أذانه الحضور إلى الجماعة، وحضور الجماعة أمر مستحب غير واجب. والدليل عليه أنه تلزمه الإجابة إذا دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمعاذ بن جبل فدعاه وهو في الصلاة فلم يجبه، فلما فرغ من صلاته أتاه معتذرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم. ولهذا قلنا: لو دعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا في الصلاة، فأجابه لا تبطل صلاته؛ لأن ذاك واجب عليه، وأيضا فإنه لو أذن لاحتاج فيه إلى أن يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر النبوة من نفسه إلا عند دعوة الخلق إلى الله تعالى، فأما فيما سواه من سائر الأعمال فلا، وأيضا فإن فيه ترك النظم الذي هو سنة في الأذان.

قال المزني: ويستحب للإمام تعجيل الصلاة لأول وقتها، إلا أن يشتد الحر فيبرد بها في مساجد الجماعات، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله، وأقل ما للمصلى في أول وقتها: أن يكون عليها محافظًا، ومن المخاطرة بالنسيا والشغل والآفات خارجًا، ورضوان الله، إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين، والله أعلم. قوله: (ويستحب للإمام تعجيل الصلوات لأول وقتها). قال القاضي حسين: عندنا تعجيل الصلوات في أوائل أوقاتها أفضل إلا في يوم الغيم، فإنه يؤخر قدر ما يتحقق له دخول الوقت، وكذا في العشاء الآخرة قولان، وقد ذكرنا في أول كتاب الصلاة، وهكذا إذا كان في الصيف الصائف في الحر الشديد، لا خلاف أن الإبراد بالظهر مستحب،، وهل يكون التعجيل أفضل أم الإبراد به؟ فيه وجهان: أحدهما: التعجيل أفضل، والإبراد رخصة كما في سائر الصلوات. والثاني: أن الإبراد أفضل لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم. وروى عنه عليه السلام انه قال: اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب أكل بعضي بعضا فأذ لها في نفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدونه من الحر في الصيف م سموم جهنم، وأشد ما تجدونه من البرد في الشتاء من زمهرير جهنم.

ولا نعني بالإبراد أن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، وإنما نعني به أن يقف ريثما يقع ظل الشمس في وسط السكك، ولا يتأذى الإنسان بحر الشمس في الخروج إلى المساجد، فأما إذا كان يصلي في بيته، أو في مسجد كبير لا يؤذيه حر الشمس فوجهان: أحدهما: لا يستحب له التأخير، إذ لا ضرورة به إلى ذلك. والثاني: يستحب له ذلك، لأن ذاك ثبت رخصة ثبتت في حق الناس كافة، كما قلنا في رخص المسافرين، فإنه يثبت في حق من كان في المهد ولا يلحقه النصب والثقب، كما يثبت في حق الرجالة الذين تلحقهم المشقة الشديدة، والوجهان ينبنيان على أصل، وهو أن الجمع بين الصلاتين بعذر المطر في مسجد في كن من الأرض هل يجوز أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا هناك لا يجوز، فها هنا يستحب له الإبراد. وإن قلنا هناك: لا يجوز، فها هنا لا يستحب له ذلك. وقال أبو حنيفة: التأخير في الصلوات افضل في الصسيف إلا في صلاة المغرب، فإن التعجيل فيها أفضل، فأما في الشتاء التعجيل في الظهر أفضل إلا إذا كان في يوم الغيم فإن التأخير فيه أفضل ليتحقق دخول الوقت له، والتأخير في صلاة العصر أفضل إلا إذا كان في يوم الغيم، فإن التعجيل فيها أفضل؛ لأنه بتأخير الظهر أمن وقوع العصر قبل وقتها، والتعجيل في صلاة المغرب أولى، إذا إذا كان في يوم الغيم، فإن التأخير فيه افضل ليتحقق دخول وقته، والتأخير في العشاء أفضل، إلا إذا كان في ليلة الغيم، والتأخير في صلاة الصبح أفضل إلا غداة الجمع بـ (مزدلفة)، فإن التعجيل فيها أفضل.

والدليل عليه قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى). قال الشافعي في تأويلها: وأقل ما للمصلى في أول وقتها أن يكون عليها محافظًا، ومن المحافظة بالنسيان والشغل، وإلا فات خارجًا، واختلف الناس في تفسير قوله تعالى: (والصلاة الوسطى). قال الشافعي: رحمه الله: أراد به صلاة الصبح لقوله تعالى: (وقوموا لله قانتين). وقال أهل التفسير: أراد به صلاة العصر. وقيل: أراد به صلاة الظهر. وقيل: أراد به صلاة المغرب أو العشاء، والدليل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله. قال الشافعي: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين. قال الصديق رضي الله عنه/ رضوان الله أحب إليّ من عفوه.

والدليل عليه أيضًا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل، وقيل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وفي رواية: لأول وقتها، قيل: ثم أي قال: ثم بر الوالدين، قيل ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله. وروى عنه عليه السلام أنه قال لعلى كرم الله وجهه: يا على لا تؤخر أربعًا. الحديث. رورى أنه قال: سيكون في آخر الزمان أمراء وأئمة يؤخرون الصلاة عن أول وقتها، فإذا أدركتموهم، فصلوا أنتم في أول مواقيتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة. أي: نافلة. قال الشافعي رحمه الله في القديم: العفو عفوان، عفو عن التقصر، وعفو التوسعة، والفضل في غير ذلك إلا أن يؤخر بترك ذلك الغير، وأراد بالعفو عن التقصير إذا عفا عن الجاي والمجرم. وأراد بعفو التوسعة ما يثبت رخصة من الشارع.

وأراد بقوله: والفضل في ذلك يعني الإتمام أفضل في العبادات إلا إذا أمر بترك الإتمام. معناه: أن تأخير الصلاة عن أول وقتها رخصة، والتعجيل فيها أفضل إلا إذا أمر أيضًا بالتأخير، كقوله عليه السلام: أبردوا بالظهر، ولهذا قال: الصوم في رمضا في حق المسافر أفضل من الفطر إلا إذا كان مريضًا ضعيفا أجهده الجوع والعطش، فإن الإفطار له افطار، والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل ينضح له الماء ويظلل، فقيل: من هذا؟ فقال: هذا أبو إسرائيل نذر لله تعالى، أن يصوم، ولا يفطر ويمشى ولا يركب ولا يستظل. فقال عليه: السلام: إن الله تعالى لغني عن تعذيبه نفسه، مروه فليفطر وليركب وليستظل. وقوله عليه السلام: المؤذن أولى بالأذان، والإمام أولى بالإقامة، لم يرد به المؤذن يؤذن، والإمام يقيم، بل معناه أن المؤذن يقيم بإذن الإمام، وبإشارته، لأنه ربما ينظر محتشمًا في الدين أو غيره فلا يقيم إلا بإذنه لهذا المعنى، والله أعلم بالصواب.

باب استقبال القبلة ولا فرض إلا الخمس

باب استقبال القبلة ولا فرض إلا الخمس كانت القبلة في ابتداء الإسلام بيت المقدس، ثم نسخت وحولت إلى الكعبة بدليل ما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم مكث بـ مكة ثلاث عشرة سنة بعد أو اوحي إليه، وقبلته بيت المقدس، وكا يقف بين الركنين اليمانيين، ويستقبل القبلتين فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه استقبال الكعبة، لأن المدينة على يسار الكعبة، ومن استقبل بيت المقدس بـ (المدينة) يكون مستدبر الكعبة، وكان يشق ذلك عليه، وكان يتمني أن تكو قبلته الكعبة، لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأيضا فإن اليهود كانوا يعيرونه بذلك، ويقولون: هذا لو كان نبيا حقا لكان له قبله دون قبلتا، فشاور في ذلك، جبريل عليه السلام يوما، فقال جبريل: إنك لعبد عند الله تعالى بمكان وإنا لا نؤمر بالسؤال فسل الله تعالى تعطه، وفي رواية تجب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم بعد ما صلى الظهر إلى الصحراء ودعا الله تعالى، وكا يقلب عينيه إلى السماء انتظارًا للوحي، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، الآية فسر به النبي صلى الله عليه وسلم سرورًا شديدًا، ثم رجع وصلى العصر نحو الكعبة، وفي القوم رجل من أهل قباء فخرج في الحال إلى قباء وكان القوم في صلاة العصر، فأخبرهم بأن القبلة قد حولت، فاستداروا وبنوا على صلاتهم، فلما سمع اليهود ذلك، قالوا للمسلمين، إذا قد ضاعت صلواتكم التي صليتموها نحو: (بيت المقدس) فأنزل الله تعالى، قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)، أي: صلواتكم.

قال المزني: قال الشافعي: ولا يجوز لأحد صلاة فريضة، ولا نافلة، ولا سجود قرآن، ولا جنازة إلا متوجهًا إلى البيت الحرام ما كا يقدر على رؤيته إلا في حالتين: إحداهما: النافلة في السفر راكبًا وطويل السفر وقصيره سواءٌ. وروى عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في السفر، أينما توجهت به، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير، وأن عليًا، رضي الله عنه، كان يوتر على الراحلة. قال الشافعي: وفي هذين دلالة على أن الوتر ليس بفرض، ولا فرض إلا الخمس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي حين قال: هل علي غيرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا إلا أن تطوع. قال القاضي حسين: قال أصحابنا: استقبال القبلة في جميع الصلوات شرط إلا في حالتين: إحداهما: في النافلة في السفر. والثانية: في حال المسابقة. أما النافلة في السفر على الراحلة يجوز إذا كات المواضع التي يلاقيها بدنه

وثوبه طاهرة من السرج، والإكاف والقربوس وغيره، فأما إذا كان آخذا باللجام وكانت الحكمة نجسة، فيه وجهان بناء على ما إذا صلى وبيده حبل، وأحد طرفيه مشدود في عنق كلب، هل تصح صلاته أم لا؟ فيه وجهان كذا وكذا، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ويوميء فيهما إيماء، ولو سجد على ظهر الدابة، ووضع جبهته على السرج، وكانت الشكيمة بيده يجوز أيضاً، ولكن لا تجب عليه ذلك، فأما إذا وطئت الدابة نجاسة لا تبطل صلاته، كما لو صلى على سرير وقوائمه في النجاسة، وهل يلزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة أم لا؟ ينظر فيه، فإن كان سفره نحو القبلة لا خلاف أنه يلزمه استقبال القبلة في جميع أركان الصلاة، فأما إذا لم يكن سفره نحو القبلة، ووجه دابته لا إلى القبلة، ولا إلى الطريق الذي يريده، فإنه يلزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة، ثم يحول وجه دابته نحو الطريق. فأما إذا كان وجه دابته نحو الطريق الذي يريده، نص في موضع على أنه يلزمه أن يستقبل القبلة عند افتتاح الصلاة، ونص في موضع آخر على أنه لا يلزمه ذلك. اختلف أصحابنا فيه، ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه ذلك، كما لا يلزمه أن يستقبل القبلة في سائر أركان الصلاة.

والثاني: أنه يلزمه ذلك، لأنه لا يشق عليه استقبال القبلة عند الشروع في الصلاة. ومن أصحابنا من قال: ليست المسألة على قولين، بل المسألة على حالين، حيث قال: يلزمه ذلك أراد به إذا لم تكن الإبل، وكان يتعذر عليه تحويل وجهها إلى القبلة، فأما إذا شرع في الصلاة، ثم حول وجه الدابة عن القبلة، وكان طريقه نحو القبلة، إن كان عامدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا، فإن كان يسيرًا لا تبطل صلاته، وإن كان كثيرًا. قال الشافعي: ولو تمادى وكان مخطئًا، أو ساهيًا تبطل صلاته. هذا النص يدل على أن العمل الكثير مع السهو يبطل الصلاة، والأكل الكثير مع النسيان يبطل الصوم، وفي الكل وجه آخر انه يعذر فيه؛ لوجود النسيان، كما لو كان يسيرًا، فأما إذا تحولت الدابة بنفسها، وعدلت عن جهة القبلة، فإن ردها إلى جهة القبلة فلا كلام، وإن تركها كذلك، وكان عالمًا بذلك بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا فعلى ما ذكرنا، فأما إذا أعداها، وأجراها جريًا شديدًا فإن كان له فيه غرض بأن فعل ذلك لخوفه من عدو ونحوه لا تبطل صلاته، وإلا فوجهان. فأما إذا كان ماشيًا فإنه يلزمه استقبال القبلة في ثلاثة مواضع: عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع، وعند السجود، وينبغي أن يسجد على وجه الأرض، ولا يلزمه الجلوس في التشهد والسلام، ولا استقبال القبلة فيما بينهما. فأما إذا كان سفره نحو القبلة فيلزمه استقبال القبلة في جميع الصلاة، ولو تخطي على النجاسة بطلت صلاته، فأما إذا كانت النجاسة بين خطوتيه على الأرض، ولم يصبها رجلاه، فيه وجها بناء على ما إذا سجد على الأرض، وكان عليها نجاسة بحذاء صدره ولم تلاقها ثوبه، هل تبطل صلاته أم لا؟ فيه وجهان، فأما إذا عدا عدوًا شديدًا إن كان الغرض له في ذلك لا تبطل صلاته.

فيه وجهان وقد ذكرناه. وقال أبو حنيفة: تجوز النافلة في السفر راكبًا، ولا تجوز ماشيًا. قلنا: إحدي حالتي السفر فتجوز الصلاة فيها دليله الحالة الأخرى. قال القفال: سألت الشيخ أبا زيد فقلت له: لماذا جوز الشافعي، رضي الله عنه، صلاة النفل في السفر راكبًا وماشيًا غير مستقبل القبلة؟ قال: لأن للناس أورادًا كثيرة، وربما تحتاج إلى الخروج في السفر في معاشه ومكاسبه، فلو قلنا: إنه لا يجوز له النافلة في السفر، لأدى ذلك إلى أن يشتغل بالأوراد وينقطع عليه معاشه. وقال أيضا: سألت أبا عبد الله الخضري عن هذا. فقال: ربما كان للإنسان أوراد كثيرة، وخرج إلى السفر في بعض حوائجه، لأمر معاشه ومعاده، فلو قلنا: لا يجوز له النافلة في السفر لأدى ذلك إلى أن يشتغل بأمر معاشه، وتنقطع أوراده. قال القفال رحمه الله، انظروا إلى فضل ما بين العقيدتين، فإن أبا زيد كان رجلا زاهدًا عالمًا، وكان مشتغلا بعبادة الله تعالى، فلهذا قدم أمر الدين على أمر الدنيا في الجواب عنه. فأما أبو عبد الله فإنه كان مشغولا بأمر الدنيا، وكان يصلي مثل ما يصلي الفقهاء في العادة، فلهذا قدم أمر الدنيا على أمر الدين، فأما إذا كان في الحضر عامة أصحابنا على أنه لا تجوز النافلة في الحضر راكبًا. وحكم عن أبي سعيد الإصطخري أنه كان يقول بأنه يجوز، ووروى أنه كان محتسبًا بـ (بغداد)، وكان يطوف في السكك، ويصلي راكبًأ، فأما إذا صلى ماشيًا في الحضر، فهل يجوز أم لا؟

يترتب على ما إذا صلى راكبًا، إن قلنا ذاك لا يجوز فهذا أولى به، وإن قلنا بأن ذاك يجوز فها هنا وجهان، والفرقُ أنه إذا كان ماشيًا في الحضر لا ضرورة به إلى ذلك لأنه يمكنه أن يدخل المسجد، ويصلي فيه ما شاء، بخلاف ما إذا كان راكبًا. فرع إذا كان على الراحلة في السفر، وكان يمكنه أن يصلي النافلة نحو القبلة، فهل يلزمه ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه استقبال القبلة في جميع أركان الصلاة؛ لأنه لا يشق عليه ذلك، ولا يجوز له ترك استقبال القبلة بالاختيار من غير ضرورة، كما إذا كان طريقه نحو القبلة. والوجه الثاني: أنه يجوز له ترك استقبال القبلة، لأن ذلك وقع نادرًا، فصار كما إذا لم يمكنه ذلك، فأما إذا أمكنه أن يصلي على ظهر الفيل قائمًا مستقبل القبلة إن كان الفيل مشدودًا جاز، كما لو كان على سرير وإن كان يسير في الأرض ففيه وجهان: أحدهما: يجوز كما إذا كان في سفينة، وهي تجري في البحر. والثاني: لا يجوز؛ والفرق بينهما أن العادة جارية بأن الإنسان يبقي في السفينة شهرًا ودهرًان فتجعل السفينة في حقه من البحر كالبيت من الدار في حق البرى وها هنا ما جرت العادة بأن يبقى الإنسا على ظهر الدابة أكثر من يوم أو نصف يوم، وقد قيل بالفرق بينهما أن فعل الدابة مضاف إلى صاحبها بدليل أنه لو طاف راكبًا يجوز وبدليل أنه لو دخل دار إنسانن وهتك حرزه، وأخذ المتاع، ووضعه على ظهر الدابة وأخرج الدابة من الحرز يلزمه القطع، كما لو أخرجه بنفسه بخلاف السفينة إلا أن هذا لا يصح وذلك أن الدابة كما

احتاجت إلى مسير يسيرها، فالسفينة احتاجت إلى مجرى يجريها فلا فرق بينهما، فأما إذا كان في السفينة فلا يجوز له أن يصلى الفرض قاعدًا مع القدرة على القيام، خلافا لأبي حنيفة، واستدل بما روى أنس بن سيرين أن أنس بن مالك كان يصلي في السفينة الفريضة قاعدًا. قلنا: نحمله على ما إذا كان لعذر من دورا الرأس وغيره، وعندنا إذا كان بهذه الصفة يجوز أيضا، فأما إذا هبت الريح، وحولت السفينة من جانب إلى جانب حتى حولت وجهه عن القبلة، فإنه لا تبطل صلاته، بخلاف ما إذا كان في الصلاة في البر، وجاء إنسان وحول وجهه عن القبلة فإنه تبطل صلاته، والفرق بينهما أن هذا نادر، فلهذا تبطل به الصلاة، وفي البحر عذر عام، لأن الغالب أن الرياح تهب وتحول السفينة من جانب إلى جانب في ساعة واحدة مرارًا كثيرة. فرع: إذا كان على الدابة في السفر، ودخل عليه وقت الصلاة، وكان يخاف من أنه لو نزل وصلى الفريضة على وجه الأرض ربما ينقطع عن الرفقة، أو يخاف على نفسه، أو على ماله، فإنه يصلي على ظهر الدابة لحرمة الوقت. وهل يلزمه إعادة تلك الصلاة؟ قال القاضي رحمه الله: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يلزمه ذلك كما لو كان في حالة المسابقة، ويخاف على نفسه، فإنه يصلى على حسب حاله ولا يعيدها. والثاني: أنه يلزمه ذلك؛ لأن هذه عذر نادر لا يدوم بخلاف حالة المسابقة، والله أعلم بالصواب، فأما إذا شرع في صلاة النافلة راكبًا، ثم وصل بلد إقامته،، أو بلغ المنزل فإنه ينزل من البداية، ويبني على صلاته. إذا قلنا: إنه لا تجوز النافلة على الراحلة في الحضر.

وإن قلنا: بأنها تجوز، فإنه لا يلزمه النزول من البداية، بل له أن يتمها على ظهر الدابة، فأما إذا اجتاز ببلدة في وسط الطريق، ولم ينو الإقامة فيها، بل دخلها مجتازًا ينظر فيه، فإن لم يكن له فيها أهل ومال، فإنه لا يلزمه النزول، بل يصلي راكبًا، وحكمه حكم المسافرين. فأما إذا كانت بلدة له فيها أهل، ومال وغيرهما مثل أن كان في (مرو الروز) مسافر من بلخ إلى نيسابور، فاجتاز في وسط الطريق بـ (مرو الروز) أم لا؟ فيه جوابا بناء على انه إذا دخل فيها، هل يجوز له الترخص برخص المسافرين من القصر والإفطار ونحوه؟ وفيه قولان بناء على ما لو كان في لجة البحر في سفينة، أو كان في وسط المفازة ونوى الإقامة هل يصير مقيمًا أو لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يصير مقيمًا اعتبارا بالنية والثاني: لا لعدم الأهل والمال وصلاحية المحل. إن قلنا: هناك يصير مقيمًا لوجود النية، فها هنا لا يصير مقيمًا لعدم النية منه، وإن قلنا: لا يصير مقيمًا لعدم الأهل والمحل، فها هنا يصير مقيمًا فيه لوجودهما. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلي على راحلته، في السفر أينما توجهت به، وأنه عليه السلام كان يوتر على البعير، وأن عليا كان يوتر على الراحلة. قال: وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض، وأراد به ردًا على أبي حنيفة: حيث قال: إنه واجب، لأنه لو كان واجبًا لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، على البعير كسائر الواجبات. والدليل على أنه ليس بواجب ما روى أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، كم علي من الصلوات في كل يوم وليلة؟ فقال عليه

السلام: خمس صلوات، فقال الأعرابي: هل علي غيرها يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: لا إلا أن تطوع. وجه الدليل منه من خمسة أوجه: أحدهما: أنه سئل عن الصلوات الفرض، فقال: خمس صلوات، فلو قلنا: إن الوتر فرض لأدى ذلك إلى أن الفرض ست صلوات، وهذا يخالف قوله عليه السلام فلا يجوز. والثاني: أنه قال: هل علي غيرها؟ فقال: لا يعني بدون الخمس. والثالث: قال: إلا أن تطوع سمى ما زاد على الصلوات الخمس تطوعًا. والرابع: في آخر الحديث الأعرابي، قال، والله لا أزيد ولا أنقص، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح الأعرابي إن صدق. وفي رواية: دخل الأعرابي الجنة إن صدق. وفي رواية من أراد أن ينظر إلى وجه رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى وجه الأعرابي، فلما حلف أنه لا يزيد عليه لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. والخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مدحه، وأثني عليه إذا سمع منه هذا القول، ولو كان الوتر واجبًا عليه لما استحق به المدح والثناء، وإنما استحق اللوم والتوبيخ والعقاب، لأن حد الواجب ما يستحق اللوم على تركه لا ما يستحق البناء على تركه.

قال المزني: والحالة الثانية: شدة الخوف/ لقول الله عز وجل، فإن خفتم، فرجالا أو ركبانًا. قال ابن عمر: مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. قال القاضي حسين: إنما اشتغل ببيان الوتر في خلال الحالتين، ويكون ذلك اعتراضًا في الكلام، وهذا سائغ في لغة العرب، وقد تقدم ذكره إذا كان في حال المسابقة يجوز له أن يصلي الفريضة ماشيًا وراكبًا، ومستقبل القبلة أو غير مستقبلها، كيف ما أمكنه ذلك، ولا تلزمه الإعادة. وقال أبو حنيفة: يصلي فيه راكبًا ولا يصلي ماشيًا، والدليل عليه قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانًا، الآية. قال ابن عمر: مستقبلي القبلة وغير مستقبلها. قال نافع: لا أرى أنه يذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المزني: فلا يصلي في غير هاتين الحالتين، إلا إلى البيت، إن كان معاينًا، فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة. قال القاضي حسين: قد ذكرنا أنه في غير هاتين الحالتين لا تجوز الصلاة إلا مستقبل القبلة، ثم يظر فإن كان بـ: (مكة) لا يجوز له أن يؤدي الفريضة بالاجتهاد لأن الاجتهاد في محل النص محال، سواء كان يصلي مشاهد الكعبة او كان في دار من دور مكة وجب عليه إصابة عين الكعبة إذا كان يصلي مشاهدًا للكعبة، ويجب أن يكون جميع بدنه محاذيا للكعبة إذا كان يصلي مشاهدًا للكعبة ويجب أن يكون جميع بدنه محاذيًا للكعبة دون البعض ففيه قولا يقربان مما إذا طاف بالبيت فإنه يبتديء الطواف من الحجر الأسود، وينبغي أن يحاذي الحجر الأسود بجميع بدنه فلو أنه يحاذي الحجر ببعض بدنهن هل يحسب له ذلك الشوط من الطواف أم لا؟ فيه قولان كذا هذا مثله، فأما إذا صلى بالجماعة عند الكعبة فإن الإمام يقف عند مقام إبراهيم عليه السلام ويستقبل الكعبة.

فأما المأمومون فينبغي لهم أن يقوموا حوالي الكعبة حتى يكون الكل محاذين للكعبة. فأما إذا سووا الصفوف من وراء الإمام، فكل من كان محاذيًا بالجهة الكعبة بجميع بدنه لا تصح صلاته، وكل من كان محاذيًا للكعبة ببعض بده دون البعض ففيه قولان، وهكذا حكم الصف الثاني والثالث. وقال أبو حنيفة: تصح صلاة الكل، لأن عنده إصابة عين الكعبة ليست بشرط بل إصابة جهة الكعبة شرط، وهكذا عندنا من كان غائبًا عن الكعبة الصحيح أنه ينوي ويعتقد إصابة عين الكعبة، وفيه قول آخر ينوي إصابة جهة الكعبة، والنص يدل عليه، لأنه قال: وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد وبالدلائل على صواب جهة الكعبة، وقال بعده: ومن اجتهد فصلى إلى الشرق، ثم رأى القبلة إلى المغرب استأنف، لأن عليه أن يرجع من خطأ جهتها إلى يقين صواب جهتها، فإن قيل: كيف يعتقد من كان غائبًا عنها إصابة عين الكعبة، ولا يمكن لكل من كان غائبًا أن يقف محاذيًا لها؛ لأن عين الكعبة صغير. قلنا: الشيء إذا وقع في محاذاة الشيء فكل ما كان أبعد منه كان أقرب منه محاذاة، ألا ترى أن قرص الشمس مثل رغيف في أعيننا، ومع ذلك يمكن لكل واحد من المشرق إلى المغرب محاذاتها مع ما بينهما من البعد، وكذلك لو كان جماعة في صحراء، فظهر لهم ميل، وكل واحد منهم يقول: إنه يحاذي الميل، وإن كان إذا دنا منهم في الحقيقة واحد منهم كان محاذيًا له لا غير كذا هذا مثله. فأما إذا صلوا خلف الإمام حلقة حول الكعبة، فإن كان بعض المأمومين أقرب إلى البيت من الإمام ينظر فيه، فإن كان في غير الجهة التي توجه الإمام إليها لا يضر، وإن كان في الجهة التي توجه الإمام إليها لا تصح صلاته، والحد منه أنه

إذا تقدم المأموم في الجهة التي يتوجه الإمام إلى تلك الجهة لا تصح صلاته، لأنه لا يتحقق منه الاقتداء به لتقدمه على الإمام في تلك الجهة. وقال مالك: تصح صلاته كما لو تقدم عليه، وكان في غير الجهة التي توجه إليها الإمام، وهكذا قال في سائر الأماكن قياسًا على هذا الموضع. وقيل: إن هذا قول قديم للشافعي، والفرق بينهما ما ذكرنا أن في سائر الأماكن فيما إذا كان في الجهة التي توجه الإمام إليها كان مستدبرا للإمام، فلا تصح صلاته بخلاف ما إذا كان في غير الجهة التي توجه الإمام إليها. فأما إذا كان الإمام والقوم في البيت فإنه لو استقبلهم الإمام وهم يستقبلونه، أو استدبرهم وهم يستدبرونه، أو وقف الإمام بجنب المأموم على يمينه، أو على يساره، فإنه تصح صلاتهم، ولو استقبلهم الإمام وهم يستدبرونه لا تصح صلاتهم، لأنهم تقدموا على الإمام في الجهة التي توجه الإمام إليها، فلا تصح صلاتهم كما لو كان خارج البيت فلو استقبلهم الإمام وهم يستقبلونه تصح صلاتهم، ولو استقبلهم وهم يستدبرونه لا تصح، ولو استدبرهم الإمام وهم يستقبلونه تصح، ولو استدبرهم وهم يستدبرونه أيضًا لا تصح، لأنهم لم يتوجهوا نحو القبلة. فأما إذا كان الإمام خارج البيت والقوم في البيت، فلو استقبلهم الإمام، وهم يستقبلونه تصح، وإن استدبرهم أو استقبلهم وهم يستدبرونه لا تصح صلاتهم ولو وقفوا بحذاء الباب، وكان الباب مجافًا أو كان مفتوحًا، وكانت العتبة قدر مؤخرة الرحل حكمه حكم سائر الجوانب، وإن كانت لاطئة بالأرض، ولم يبلغ طولها ذلك القدر، وكان يحاذي للباب، فإنه لا تصح صلاته لأنه لم يتوجه إلى غير الكعبة. وقال مالك: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الآفاق.

وقال أبو حنيفة: المشرق قبلة لأهل المغرب، والمغرب قبلة لأهل المشرق، والجنوب قبلة لأهل الشمال، والشمال قبلة لأهل الجنوب. فأما إذا كان نائيًا عن (مكة) نظر فيه، فإن كان بـ (المدينة) فلا يجوز له أن يجتهد في القبلة أيضا يصلي نحو قبلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كالنص أيضا، فأما إذا كان في غير المدينة من سائر البلاد، فإذا دخل مسجدًا، وفيه محاريب لا يجوز له أن يجتهد في القبلة، بل يصلي مستقبل القبلة باعتبار تلك المحاريب، ولو استدبر تلك المحاريب لا يجوز. فأما إذا انحرف عنها قليلا بالاجتهاد يجوز، فأما إذا دخل مسجدا منها في ليلة ظلماء فإن وجد فيه محرابًا يصلي إلى جهته، وإن لم يجد شيئًا من المحاريب يصلي على البحث ويقضي، وإن وجد فيها كوة واحدة فإنها كالمحراب، فأما إذا كان فيه ثقب كثيرة على جوانب المسجد، وكان الكل على نمط واحد، فإنه يصلي ويعيد، فلو كان على واحدة منها علامة المحراب بأن كان بجنبه وتد السراج ونحوه، فإنه يصلي نحوه ولا يعيد. فأما إذا كان في الصحراء وهناك محراب متخذ من حجر وغيره، فإن كان ذلك الطريق مما يمد به الخلق كثيرًا والجم الغفير، وكان المحراب قديمًا فإنه يصلي نحوه ولا يجتهد في القبلة، فإن كان المحراب محدثًا أو لم يمر به الخلق الكثير فإنه لا يصلي به، بل يجتهد في عين القبلة، فأما إذا كان في الصحراء، ولم يجد المحراب فإنه يجتهد في القبلة، ويصلي حتى لو صلى من غير الاجتهاد على التبخيت فإنه يعيد الصلاة وإن أصاب عين الكعبة كما لو حكم الحاكم من غير الاجتهاد جزافًا فإنه لا يصح، وإن أصاب حكمه موافقًا للنص والقياس. فأما معرفة دلائل القبلة، هل تكون فرضًا على الكافة، أو فرضًا على الكفاية؟

فعلى قولين: أحدهما: أنه يكون فرضًا على الكافة، لأنه لا يتعذر على كل أحد معرفتها، بخلاف دقائق المسائل. والثاني: يجب على الكفاية، فعلى هذا إذا كان في الصحراء فإن أدى اجتهاده إلى جهة أو لم يكن م أهل الاجتهاد إن قلنا: إن المعرفة دلائل القبلة تكون فرضًا على الكافة، فليس له أن يقلد أحدًا في ذلك، بل يصلي على التبخيت ويعيد. وإن قلنا: يكون فرضًا على الكفاية، فعلى هذا يقلد من كان عارفًا بها، ويصلي ولا يعيد، وحكم الأعمي إذا دخل مسجدا في البلدة كحكم البصير إذا دخل ذلك المسجد في ليلة ظلماء وقد ذكرنا. وأما معرفة القبلة إنما يكون بدلائل كثيرة أقواها القطب، وأضعفها ريح الشمال، فأما القطب فإنه كوكب صغير في بنات نعش الصغرى، فينبغي أنه إذا وقف الإنسان في الصلاة أن يكون ذلك الكوكب خلف أذنه اليمني بحيث إنه لو سلم أول تسليمة يقع بصر عينه اليمني عليه، وقد يستدل أيضًا عليها بالشمس والقمر والنجوم وكذلك إذا هبت ريح الشمال في بعض البلاد، فإنه يمكن أن يستدل بها على جهة القبلة، لأنها تهب على يسار القبلة، فيجعلها الإنسان على يمينه ويصلي إلى تلك الجهة، وتصح صلاته وهو أضعف الدلائل عليه، والله أعلم بالصواب.

مسألة

مسألة قد ذكرنا أنه إذا كا في الصحراء فإنه يصلي بالاجتهاد في جهة القبلة حتى لو صلى من غير الاجتهاد على التبخيت فإنه لا يصح، وإن تبين له أنه أصاب جهة القبلة، لأنه ترك ما هو فرض عليه، فإذا دخل عليه وقت الصلاة، فاجتهد في القبلة، وأدى اجتهاده إلى جهة، فإنه يصلي إليها، فإذا دخل عليه وقت صلاة أخرى، فإنه يجب عليه أن يجتهد في القبلة ثانيًا، فلو اجتهد وإن أدى اجتهاده إلى تلك الجهة بعينها فلا كلام. فأما إذا أدى اجتهاده إلى جهة أخرى ينظر فيه، فإن كان اجتهاده الثاني دون اجتهاده الأول، فإنه لا عبرة به أيضًا، ويصلي إلى الجهة التي صلى إليها أولا، وإن كان مثل اجتهاده الأول، فإنه يكون كالمتحير يصلي إلى أي الجهتين شاء، ويقضي الصلاة الثانية دون الأولى، ولكن لا يعصي بذلك حتى لو صلى إلى جهة ثالثة فإنه يعصي ويأثم، ويلزمه قضاء تلك الصلاة. فأما إذا كان اجتهاده الثاني أقوي من اجتهاده الأول، فإنه قد تغير اجتهاده، وينحرف إلى الجهة الأخرى، ويصلي إليها، ولا قضاء عليه، وكذلك إذا دخل عليه وقت صلاة ثالثة أو رابعة، وأكثر على التفصيل الذي ذكرنا حتى لو كان اجتهاده الثالث أقوي من الثاني، وأكثر على التفصيل الذي ذكرنا حتى لو كان اجتهاده الثالث أقوي من الثاني، فإنه يصلي إليها، وكذا لو كان اجتهاده الرابع أقوى من الثالث حتى لو صلى أربع صلوات إلى أربع جهات بأربع اجتهادات، فإنه يصح ولا قضاء عليه. قال أبو إسحاق الإسفراييي الأستاذ الإمام رحمة الله عليه: إنه إذا صلى أربع صلوات إلى أربع جهات بأربعة اجتهادات يلزمه قضاء الكل؛ لأنه تيقن أنه مصيب في واحدة منهن، ومخطيء في الثلاثة ولا يمكنه معرفة الخطأ من الصواب منهن، فيلزمه قضاء الكل ليتحقق فراغ ذمته عن الكل كما لو نسي صلاة من صلوات يوم وليلة، فإنه يلزمه قضاء خمس صلوات لما ذكرنا من المعنى كذا هذا مثله.

قلنا: فرق بينهما، لأن هناك إذا صلى صللاة أو اثنتين، فلا يعتقد يقينًا أنه قد صلى الصلاة المنسية، وأنها سقطت عنه قطعًا، لأنه ربما كانت من الصلوات التي لم يقضها بعد، والأصل شغل ذمته بالصلاة، فقلنا بأنه لا يحكم بفراغ ذمته إلا بقضاء الكل، وأما ها هنا ما من صلاة يصليها إلى جهة إلا ويعتقد أنه أدى ما كلف به، وسقط عنه فرض الوقت، فلهذا لا يلزمه قضاء الكل. فإن قيل: إذا دخل عليه وقت الصلاة وجب أن يقولوا: إنه لا يصلي بالاجتهاد إلى جهة، بل يصلي تلك الصلاة إلى أربع جهات حتى يتيقن سقوط الفرض عنه قطعًا، كما لو نسي صلاة من صلوات الخمس. قلنا: فرق بينهما، وذلك لأن هناك لا يلوح له بالاجتهاد والتحري دلالة تدل على أن المنسية ماذا منه؟ فهذا قلنا: إنه لا يشتغل هناك بالاجتهاد، بل يصلي الكل، وها هنا للقبلة أمارات ودلالات، فربما تلوح له دلالة تدله على جهة القبلة، فقلنا بأنه يصلي بالاجتهاد والتحري، فأما إذا دخل في الصلاة بالاجتهاد، وصلي ركعة، ثم تغيرا اجتهاده في الركعة الثانية إلى جهة أخرى، ينظر فيه: فإن كان اجتهاده الثاني أقوى من اجتهاده الأول، فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، ولا تبطل صلاته، وهكذا لو تغيرا اجتهاده في الركعة الثالثة والرابعة إلى جهة أقوى من الجهة التي تقدمت، فإنه يتحول إليها، حتى لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بأربعة اجتهادات، فهل يصح ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يصح كما لو صلى أربع صلوات بهذه الصفة. والثاني: لا يصح، والفرق بينهما أن الصلاة الواحدة عبادة واحدة لا تتجزز في البطلان والصحة، بل آخرها متصل بأولها، ويتداعي فساد آخرها إلى فساد أولها، فجاز أن يقال بأنها تبطل بتغيير الاجتهاد فيها بخلاف الصلوات، لأن كل واحدة منهن لا تكو مرتبطة بالأخرى، وفساد البعض لا يوجب فساد الكل في ذلك، فأما إذا كان اجتهاده الثاني مثل اجتهاده الأول، فإنه لا ينحرف إلى تلك

الجهة، بل يصلى إلى الجهة الأولى، ولا تلزمه الإعادة، والفرق بين هذا وبين ما إذا تغير اجتهاده في الصلاتين في وقتيهما، أن ها هنا انعقد له هذا الاجتهاد، فلو قلنا: إنه تلزمه إعادة الصلاة ينحرف إلى الجهة الثانية لأدى ذلك إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهناك لم ينعقد له الاجتهاد في الصلاة الثانية فوجوب القضاء عليه لا يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد عروض مسألتا منه الصلاة الأولى هناك أنه لما انعقد له الاجتهاد فيها، وفرع عنها، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك، لا جرم لا يلزمه قضاء تلك الصلاة، كي لا يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد. قال المزني: فإن اختلف اجتهاد رجلين، لم يسع أحدهما اتباع صاحبه. قال القاضي حسين: إذا كان جماعة في الصحراء، ودخل عليهم وقت الصلاة، واجتهدوا في القبلة ينظر فيه، فإن أدي اجتهاد كل واحد منهم إلى جهة، فإن كان واحد منهم يصلي إلى الجهة التي أدى اجتهاده إليها، ولو صلوا جماعة صحت صلاة الإمام، وبطلت صلاة المأمومين، فأما إذا أدى اجتهاد الكل إلى جهة واحدة، فإنه يجوز لهم أن يصلوا جماعة وفرادى، فلو اقتدوا بواحد منهم، ثم تغير اجتهادهم في حال الصلاة، لا يخلو إما أن تغير اجتهاد المأمومين، أو تغير اجتهاد الإمام، فإن تغير اجتهاد المأمومين، أو تغير اجتهاد واحد من المأمومين، فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، وماذا حكم صلاته؟ قال الشافعي: ومن جوز الخروج عن صلاة الإمام بغير عذر، وقال: لا يبني على صلاته، فإنه يستأنف الصلاة، وإنما قال بغير عذر، لأنه إذا تغير اجتهاده

تبين أنه لم يكن معذورًا فيه، بل هو مفرط في ذلك، لأنه وجب عليه في الابتداء أن يبالغ في الاجتهاد، ويستقصي ويمعن النظر فيه، فإذا تغير اجتهاده تبين أنه كان مفرطًا فيه إذا أخرج نفسه عن صلاة الإمام. اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: فيه قولان، سواء كان معذورًا فيه، أو لم يكن معذورًا فيه، ومنهم من قال القولان فيما إذا كان معذورا فيه، فأما إذا لم يكن معذورًا فيه قوله واحد، أنه تبطل صلاته ومنهم من قال القولان فيما إذا لم يكن معذورًا فيه، فأما إذا كان معذورًا فيه قول واحد: أنه لا تبطل صلاته. فحصل في مسألتنا من صلاة المأمومين بعدما تحرفوا إلى الجهة الثاية قولان: أحدهما: أنه بطلت صلاتهم. والثاني: أنها لا تبطل صلاتهم، ولهم أن يبنوا على صلاتهم فأما إذا تغير اجتهاد الإمام، فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، وماذا حكم صلاة القوم قال الشافعي رضي الله عنه: القياس أنه كالمسألة الأولى، اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: فيها قولان، كما في المسألة الأولى. ومنهم من قال: ها هنا الصحيح أنهم يبنون على صلاتهم، لأنهم كانوا معذورين في ذلك، إذ لا يمكنهم أن يحفظوا اجتهاد الإمام كي لا يتغير ولم يوجد التفريط من جهتهم في ذلك، فعلى هذا تأويل قوله: إنه كان كالمسألة الأولى يعني في إخراج أنفسهم عن صلاتهم الإمام. قال المزني: فإن كان الغيم، وخفيت الدلائل على رجل، فهو كالأعمي. وقال في موضع آخر، ومن دله من المسلمين وكان أعمي، وسعه اتباعه، ولا يسع بصيرًا خفيت عليه الدلائل اتباعه. قال المزني: لا فرق بين من جهل القبلة، لعدم العلم، وبين من جهلها، لعدم البصر، وقد جهل الشافعي من خفيت عليه الدلائل كالأعمى، فهما سواء.

قال القاضي حسين: يحتمل أن المراد بالنص الأول أنه إذا كان عاميًا لا يعرف دلائل القبلة، فيجوز له أن يقلد في ذلك عالما، كالاعمى سواء. والنص الثاني: يدل على أنه لا يجوز له تقليده، بل عليه أن يتعلم دلائل القبلة، وقد ذكرنا وجهين في أن تعلم دلائل القبلة، هل هو فرض على العين أو فرض على الكفاية؟ والوجها مستنبطان من هذين النصين، ويحتمل أن المراد بالنص الأول أنه إذا كان عارفًا بدلائل القبلة، ولكن كان اليوم يوم الغيم، وخفيت عليه الدلائل، فإنه يجوز له ها هنا التقليد كالأعمى سواء. والنص الثاني يدل على انه لا يجوز له التقليد في هذه الحالة أيضًا، وقد ذكرنا أيضا في مسائل التقليد، أن العالم إذا نزلت به نازلة في حق نفسه، وضاق به الوقت، هل يجوز له أن يقلد فيه عالمًا أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له ذلك، لأنه من أهل الاجتهاد. والثاني: يجوز له ذلك، وروى عن ابن سريج أنه كان يقلد الملاحين في السفينة في البحر في أوقات الصلوات، وكان يقول إذا نزلت بي نازلة، وضاق بي الوقت، وخفت فوت الفريضة على نفسي، فلي أن أقلد فيه من هو في مثل حالي، فأما الأعمي ففرضه التقليد، ولا يجوز له أن يصلي على التبخيث، ولا بالاجتهاد، اللهم إلا أن يدخل مسجدًا في البلدة، ووجد المحراب على جانب من الجوانب الأربعة بالمس باليد، فإنه يصلي إليها، وقد ذكرنا ذلك، وهكذا له أن يتحرى في الإناءين بمثل ذلك بأن اشتم من أحدهما رائحة كريهة، أو وجد الماء يتقلقل في أحد الإنائين دون الثاني، فإنه يستعمل أحدهما بالاجتهاد، وهو والبصير فيه سواء.

وأما إذا كان في الصحراء، فلا يمكنه الاجتهاد في القبلة ألبتة، بل فرضه التقليد فحسب، ولو كان له أوراد معلومة، أو عمل واصب يمكنه أن يعرف بها أوقات الصلاة، ولا يمكنه أن يعرف بها جهة القبلة ألبتة، لأن ذلك لا يدل عليها، فلو أنه أخبره بصير بجهة القبلة، فإنه يصلي إلى تلك الجهة، ثم ينظر، فإن أخبره عن حقيقة الحال بأن قال له: صل إلى هذه الجهة؛ لأن الشمس تغرب في هذه الجهة، أو تطلع الشمس من تلك الجهة، أو كان القطب خلف أذنك اليمني، فإنه إذا دخل عليه وقت صلاة أخرى، وكان جالسًا على ذلك المكان، ولا يتحول عنه، فإنه يصلي إلى تلك الجهة ثانيًا وثالثًا، ولا يسأل أحدًا عن شيء. فأما إذا أخبره بالاجتهاد، لا بحقيقة الحال، فإنه إذا دخل عليه وقت صلاة أخرى، فإنه يسأل بصيرًا آخر عن جهة القبلة، سواء تحول عن ذلك المكان أو لم يتحول عنه، لأنه لو وجد من يسأل عنه في الكرة الأولى لزمه أنه يسأل عنه ثانيًا، كما أن البصير لو أراد أن يصلي بنفسه ثانيًا يلزمه، الاجتهاد ثانيًا، فحكم الأعمي فيه حكم البصير. قال المزني: ولا يتبع دلالة مشرك بحال. قال القاضي حسين: إذا قلنا: بأنه يقلد غيره، فينبغي أن يقلد رجلا مسلمًا عدلا عارفًا بدلائل القبلة، حتى لو كان كافرًا، فلا يجوز له أن يقلده في ذلك، وهكذا لا يجوز أن يعتمد على قول المشرك فيما يرجع إلى أمر الدين لا في المداواة وما أشبهها. فأما الفاسق فهل يعتمد فيه على قوله أم لا؟ فيه وجهان، فأما العبد والمرأة له أن يعتمد فيه على قولهما. وأما المراهق قال القفال، سألت أبا زيد عن ذلك، فقال: نص الشافعي على انه لا يجوز له أن يقلد المراهق في أمر القبلة، ثم سألت أبا عبد الله الخضري،

عن ذلك فقال: لا يجوز له تقليده نصًا، فأخبرته بقول أبي زيد فقال: أنا لا أتهمه في ذلك، ويحتمل، أن الشافعي، رحمه الله، أراد بذلك النص إذا دله فإنه يجوز، وبالنص الثاني أراد أراد أنه أخبره بجهة القبلة باجتهاد من قبله. فأما إذا قال له: إني رأيت الشمس تطلع من هذا الجانب، أو تغرب من هذا الجانب، أو رأيت القطب من هذا الجانب، فإنه يأخذ بقوله، ويصلي إلى تلك الجهة، وليس هذا بتقليد منه له، لأنه لما أخبره عن حقيقة الحال، ولم يخبره عن تحر واجتهاد، فصار هذا كالعالم إذا أفتى عاميًا في مسألة، وأخبره بأنه أفتى له بنص من كتاب أو سنة، فيجوز له أن يفتي لغيره في تلك المسألة، ولو أفتى له العالم بالاجتهاد، فحينئذ لا يجوز له أن يفتي لغيره في تلك المسألة بذلك الاجتهاد. فأما تقليد المؤذن ينظر فيه، فإن كان عارفاً، لأوقات الصلاة له يقلده في أوقات الصلاة، وإن لم يكن عارفًا بها، فليس له أن يقلده في شيء من أوقات الصلاة. فأما الديك فهل يجوز أن يعتمد على صياحه في وقت صلاة الصبح، في يوم الغيم، ينظر فيه، فإن اختبره في الأيام المنكشفة، ووجده يصيح في وقت الصبح في جميع الأيام، فإنه يجوز له أن يعتمد فيه صياحه، وإلا فلا، وقد ذكرنا أنه إذا كان للرجل أوراد معلومة، أو عمل واصب، فإنه يجوز له أن يعتمد على ذلك في معرفة أوقات الصلاة دون معرفة القلة. قال المزني: قال الشافعي: ومن اجتهد فصلى إلى المشرق، ثم رأى القبلة إلى الغرب استأنف، لأن عليه أن يرجع من خطأ جهتها إلى يقين صواب جهتها، قال القاضي حسين: إذا صلى إلى جهة ثم تبين له يقين الخطأ ويقين الصواب، فهل يلزمه إعادة تلك الصلاة أم لا؟ فيه قولاه:

أحدهما: أنه يلزمه ذلك كما لو حكم الحاكم بالاجتهاد، ثم تبين أنه خالف النص في ذلك. والثاني: لا يلزمه ذلك، لأنه أدى ما كلف، وقول من اجتهد فصلى هذا يدل على أنه إنما تبين له يقين الخطأ من بعد فراغه من الصلاة، لن قوله: فصلى إنما يستعمل فيما إذا فرغ عن الصلاة، فأما قبل الفراغ عنها لا يقال: إنه صلى. وقوله: استأنف، هذا اللفظ يدل على أنه كان في خلال الصلاة، لأنه لو كان بعد الفراغ عنها، يقال: أعاد ولا يقال: استأنف، فحصل من هذا أنه إذا تبين له ذلك بعد الفراغ من الصلاة قولان. فأما إذا ظهر له يقين الصواب من الخطأ في حال الصلاة، فيه قولان، مرتبان على ما إذا بدا له ذلك بعد الفراغ من الصلاة. إن قلنا هناك: يستأنف فها هنا أولى. وإن قلنا: هناك: لا يستأنف فها هنا وجهان، والفرق أن هناك إنما ظهر له بعد فراغه من الصلاة، وها ها قبل فراغه عن الصلاة، فيكون بالاستئناف أولى إذا تبين له يقين الخطأ، ولم يتبين له يقين الصواب، فيه وجهان مرتبا على الأول. إن قلنا: إنه إذا تبين له يقين الصواب لا يستأنف، فها هنا أولى وإلا فوجهان: والفرق أن هناك تبين له يقين الصواب، فكان أولى بوجوب الاستئناف بخلاف ما نحن فيه. قال المزني: ويعيد الأعمى ما صلى معه، متى أعلمه، وإن كان شرقًا، ثم رأى أنه منحرف وتلك جهة واحدة، كان عليه أن ينحرف ويعتد بما مضى، وإن كان معه أعمى، ينحرف بانحرافه، وإذا اجتهد به رجل، ثم قال له رجل آخر، قد أخطأ بك، فصدقه تحرف، حيث قال له، وما مضى مجزئ عنه، لأنه اجتهد به من له قبول اجتهاده.

قال المزني: رحمه الله: قد احتج الشافعي في كتاب الصيام فيمن اجتهد، ثم علم أنه أخطأ، أن ذلك يجزئه، بأن قال: وذلك أنه لو توخي القبلة، ثم علم بعد كمال الصلاة: أنه أخطأ أجزأت عنه، كما يجزئ ذلك في خطأ عرفة، واحتج أيضا في كتاب الطهارة، بهذا المعنى، فقال إذا تأخى في أحد الإنائين، أنه طاهر والآخر نجس، فصلى ثم أراد أن يتوضأ ثانية، فكان الأغلب عنده: أن الذي ترك هو الطاهر، لم يتوضأ بواحد منهما، ويتيمم، ويعيد كل صلاة صلاها بتيمم، لأن معه ماء متيقنًاـ، وليس كالقبلة يتأخاها في موضع، ثم يراها في غيره لأنه ما م ناحية إلا وهي قبلة لقوله. قال المزني: فقد أجاز صلاته، وإن أخطأ القبلة في هذين الموضعين، لأنه أدى ما كلف ولم يجعل عليه إصابة العين، للعجز عنها في حال الصلاة. قال المزني: وهذا القياس على ما عجز عنه المصلى في الصلاة، من قيام، وقعود وركوع، وسجود وستر أن فرض الله كله ساقط عنه، دون ما قدر عليه من الإيماء عريانًا، فإذا قدر من بعد، لم يعد فكذلك إذا عجز عن التوجه إلى عين القبلة، كان عنه أسقط، وقد حولت القبلة، ثم صلى أهل قباء ركعة إلى غير القبلة، ثم أتاهم آت، فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا وبنوا بعد يقينهم، أهم صلوا إلى غير قبلة، ولو كان صواب عين القبلة المحول إليها فرضًا ما أجزأهم خلاف الفرض، لجهلهم به، كما لا يجزيء من توضأ بغير ماء طاهر لجهله (به)، ثم استيقن أنه غير طاهر فتفهم رحمك الله. قال المزني: ودخل في قياس هذا الباب، أن من عجز عما عليه من نفس الصلاة، أو ما أمر به فيها، أو لها: أن ذلك ساقط عنه، لا يعيد إذا قدر، وهو أولى بأحد قوليه، من قوله فيمن صلى في ظلمة، أو خفيت عليه الدلائل، أو به دم، لا

يجد ما يغسله به، أو كان محبوسًا في نجس: أنه يصلي كيف أمكنه ويعيد إذا قدر. قوله: ويعيد الأعمي ما صلى معه متى أعلمه، فإذا صلى الأعمي بتقليد من كان بصيرًا، ثم بان للبصير يقين الخطأ ويقين الصواب، ففي كل موضع قلنا: يجب على البصير إعادة الصلاة. قلنا: إنه يجب على الأعمى إعادتها أيضًا، وفي كل موضع. قلنا: إنه إذا تغير اجتهاده ينحرف إلى تلك الجهة. قلنا: إن الأعمى ينحرف إلى تلك الجهة أيضًا، وفي كل موضع قلنا: إنه إذا تغير اجتهاده يمنة أو يسرة. فإنه ينحرف إليها، فيكون حكم الأعمي فيها حكم البصير الذي قلده الأعمى في ذلك حرفًا بحرف، والنص يدل عليه؛ لأنه قال: وإن كان شرقًا، ثم رأى أنه منحرف وتلك الجهة واحدة، فإن عليه أن ينحرف ويعيد بما مضى، وإن كان معه أعمى انحرف بانحرافه. ... فرع إذا اجتهد رجلان أو جماعة، فاتفق اجتهاد الكل إلى جهة واحدة، وشرعوا في الصلاة بالجماعة، ثم تغيرا اجتهاد المأمومين يمنة أو يسرة، ماذا حكمه؟ نقدم على هذا مقدمة، وهي لو كان في ابتداء الصلاة، وقبل الشروع فيها أدى اجتهاد الكل إلى جهة واحدة إلا أنه تغير اجتهاد الإمام في تلك الجهة يمنة أو يسرة، فهل يجوز لغيره الاقتداء به أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الشافعي -رحمه الله- قال: لو اختلف اجتهاد رجلين لم يسع لأحدهما اتباع صاحبه. والثاني: يجوز، ويحمل النص على ما لو تغير اجتهادهما في جهتين مختلفتين،

وها هنا في جهة واحدة، وكان الاختلاف يسيرًا فكان معفوا، فلا يمنع صحة الاقتداء، والله أعلم بالصواب. قوله: إذا صلى الأعمى بالتقليد، ثم قال له رجل آخر: قد أخطأ بك فلان، ينظر فإن كان في خلال الصلاة، وكان الآخر عنده دون الأول أو مثله، فلا يلتفت إلى قوله، بل يمضي في صلاته، وإن كان أرجح من الأول عنده، فإنه إن قال: أخطأ بك في التحرف يمنة أو يسرة، فإنه ينحرف ويمضي في صلاته، ولا إعادة عليه، وإن قال: أخطأ بك في الجهة، فيخرج على القولين وقد ذكرناهما. فأما رذا كان قبل الشروع في الصلاة ينظر فيه، فإن كان الثاني دون الأول عنده في الاجتهاد، فإنه لا يصدقه، بل يصدق الأول فيه، وإن كان دون الأول، فإنه كالمتحير يصلي إلى أي الجهتين شاء ويعيد، وإن كان أرجح من الأول، فإنه يصدقه، ويصلي إلى الجهة التي دله عليها. فأما إذا شرع في الصلاة بدلالة بصير، ثم ارتد بصيرًا في خلال الصلاة، فإن قلنا: يجوز له التقليد في الابتداء لو كان بصيرًا، فها هنا يمضي في صلاته. وإن قلنا: هناك لا يجوز له التقليد، فها هنا وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه تبطل صلاته، لأنه بصير، فلا يجوز له التقليد، كما لو كان في ابتداء الصلاة. والثاني: أنه لا تبطل صلاته؛ لأن صلاته انعقدت في الابتداء بالتقليد، ففي الدوام مثله؛ لأن الدوام ينبني على الابتداء، فأما إذا كف بصره في خلال الصلاة، ثم قال له آخر: فإن احتمل أنه تحول عن ذلك المكان، فإنه يعتمد على قوله في ذلك، وإلا فلا. فإن قيل: قد قلتم بأنه إذا شك في أنه هل صلى ثلاثًا، أو أربعًا يبني على اليقين، ويطرح الشك، فوجب أن يقولوا ها هنا، لا يصلي بالاجتهاد، بل يؤخر الصلاة حتى يتيقن له إصابة عين القبلة.

قلنا الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن هناك ليس لذلك أمارات ودلالات تلوح له أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، فلهذا قلنا: إنه يترك الاجتهاد، ويأخذ باليقين، وها هنا للقبلة أمارات ودلالات تعرف بها جهة القبلة، فقلنا: بأنه يجتهد فيها حتى تلوح له تلك الدلالة. وأيضا إن هناك لو قلنا: إنه لا يجتهد، ويبني على اليقين لا يؤذي إلى إخراج الصلاة عن وقتها، فقلنا: بأنه جائز، وها هنا لو قلنا: بأنه لا يجتهد، ويترك حتى يتبين له يقين الصواب لأدى ذلك إلى خروج الصلاة عن وقتها، وهذا لا يجوز. وقال أبو حنيفة: لو صلى ثم تبين له يقين الصواب، ويقين الخطأ لا يلزمه الإعادة، وهو اختيار المزني، واحتج عليه بمسائل: منها: أن الأسير في أيدي الكفار إذا اشتبه عليه شهر رمضان، فإنه يصوم شهرًا بالاجتهاد، وإن وافق ذلك الشهر غير الشهر أي شهر رمضان لا قضاء عليه. قلنا: فيه تفصيل على المذهب، إن وافق ذلك الشهر شهرًا قبل شهر رمضان فإنه يلزمه القضاء، وإن وافق شهرًا بعده لا يلزمه القضاء، لأن الواجب عليه ما أتى به، وفي الجملة الفرق بينهما أن الصوم يجوز له تأخيره عن وقته باختياره مع علمه بذلك بعذر المرض والسفر ونحوهما، فجاز أن يقال بأنه لا يلزمه القضاء، وها هنا لا يجوز له ترك استقبال القبلة باختياره مع علمه بذلك، فقلنا: بأنه يلزمه القضاء إذا تحقق منه ترك استقبال القبلة. واحتج أيضًا بأن الحجيج لو وقفوا بعرفة غالطين يوم العاشر، فإنه يجزيهم حجهم ولا قضاء عليهم. قلنا: له فيه تفصيل أيضا، والصحيح أنهم إذا كانوا خلقًا كثيرًا لا يلزمهم الإعادة، والفرق بين هذا وذاك من وجهين:

أحدهما: أنا لو أمرناهم بالقضاء، لأدى ذلك إلى إلحاق الضرر بالخلق الكثير والجمع الغفير، بخلاف ما نحن فيه. والثاني: أن هناك لا يؤمن من وقوع مثله في القضاء، كما وقع في الأداء، فلو أمرناهم بذلك لأدى ذلك إلى أن يتكرر القضاء عليهم مرارًا، وها هنا إذا تعين له يقين الصواب، لا جرم لا نأمره بقضاء الصلاة لأنه ربما يقع مثله في القضاء كما لو وقع مثله في الأداء، واحتج أيضا في كتاب الطهارة بهذا المعنى في الإناءين إذا أدى اجتهاده، واستعمله، ثم في وقت صلاة أخرى أدى اجتهاده إلى أن الذي نزل هو الطاهر. قال: لم يتوضأ بواحد منهما، بل يتيمم ويعيد، ولا حجة له فيه، لأن وزان مسألتنا منه أن لو تحقق له أنه استعمل الأول وهو نجس، فلا جرم قلنا بأنه يلزمه إعادة الصلاة. فأما إذا لم يتحقق له نجاسة الأول، فلا يلزمه إعادتها، فوزانه من مسألتنا أن لو صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم تغير اجتهاده في الصلاة الثانية إلى جهة أخرى لا يلزمه قضاء الأولى دل على أنه لا فرقا بينهما ثم أخذ يفرق بينهما. فقال: ليس كالقبلة يتأخاها في موضع ثم يراها في غيره، لأنه ليس من ناحية إلا وهي قبلة لقوم، أراد به إذا صلى إلى جهة، ثم تبين له يقين الصواب، فإن تلك الجهة كانت قبلة لقوم في الجملة، فجاز ألا يؤمر بإعادة الصلاة إليها، فأما إذا تيقن أنه استعمل الماء النجس، فإن ذلك لا يكون طاهرا في حق واحد ما، فلهذا قلنا: تلزمه إعادة الصلاة ثانيًا، واختلف أصحابنا في قوله: ليس من ناحية إلا وهي قبلة لقوم. فمنهم من قال: أراد به أن المشرق قبلة لأهل المغرب، والمغرب قبلة لأهل المشرق على قول بعض الناس. ومنهم من قال: أراد به أن كل جهة قبلة لصلاة الفرض في حق المستأنف،

والصلاة النفل في حق المسافر والعذر عنه، إن تلك الجهة وإن صارت قبلة لقوم في حال، فإنما صارت قبلة لهم بعذر وبضرورة ثبتت في حقهم، وها هنا لم يوجد ذلك المعنى في حقه، فأشبه ما إذا تطهر ثم تبين له أنه استعمل الماء النجس فيلزمه إعادة الصلاة لكونه غير معذور فيه كذا هذا، وهذا هو الجواب عن قوله: إنه أدى ما كلف. قلنا لا نسلم، بل أدى غير ما كلف، لأنه مفرط فيه، بل الواجب عليه أن يمعن في الطلب، ويبالغ فيه حتى يبين له في الابتداء ما يبين في الاخرة، فأشبه ما إذا طلب الماء، ونسي الماء في رحله، وصلى فإنه تلزمه الاعادة كذا هذا مثله، واحتج أيضا بما إذا عجز المصلي عنه في الصلاة من القيام، أو القعود، أو الركوع والسجود أو الستر، أو كان محبوسًا في حش، أو به دم سائل، فإنه يصلي كيفما أمكنه، وأن فرض الله كله ساقط عنه دون ما قدر عليه من الإيماء عريانًا، فإذا قدر من بعد لم يعد، والعذر عنه ما ذكرنا في باب التيمم، أن الأعذار على قسمين والفرق بينهما ما ذكرنا من أنه قد تحقق العذر في حقهم فلهذا أسقط عنهم الصلاة ها هنا بعكسه، واحتج أيضًا بقصة أهل قباء، أنهم كانوا في الصلاة، فأخبرهم آت أن القبلة حولت، فاستداروا وبنوا بعد يقينهم انهم صلوا إلى غير قبلة، أو كان صواب عين القبلة المحول إليها فرضًا لما أجزأهم خلاف الفرض لجهلهم به، كما لا يجزئ من توضأ بغير ماء طاهر لجهله، ثم استيقن أنه غير طاهر. قلنا: الفرق بينهما أن قبلتهم في الابتداء التي توجهوا إليها، فإذا نسخت فحكم النسخ لا يلحقهم إلا بعد بلوغ الخبر إليهم، فلهذا لا يطالبون بقضاء ما مضى قبل بلوغ النسخ إليهم، وها هنا بخلافه. قال المزني: قال الشافعي: ولو دخل غلام في صلاة، فلم يكملها أو صوم يوم، فلم يكمله، حتى استكمل خمس عشرة سنة، أحببت أن يتم، ويعيد، ولا يبين أن عليه إعادة.

قال المزني: لا يمكنه صوم يوم، هو في آخره غير صائم، ويمكنه صلاة هو في آخر وقتها غير مصل، ألا ترى أن من أدرك ركعة، من العصر قبل الغروب، أنه يبتديء العصر من أولها، ولا يمكنه في آخر يوم أن يبتديء صومه من أوله، فيعيد الصلاة لإمكان القدرة ولا يعيد الصوم، لارتفاع إمكان القدرة، ولا تكاليف مع العجز. قال القاضي حسين: إذا بلغ الصبي في خلال الصلاة المكتوبة، الصحيح من المذهب أنه يمضى في صلاته ولا إعادة عليه، وفيه قول آخر أن عليه إعادتها، لأنه قيد القول فيه حيث قال: ولا يبين لي إعادة، فأما إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره، فإنه لا إعادة عليه وجهًا واحدًا. وقال أبو حنيفة: إنه تلزمه الإعادة هنا هنا، فأما إذا بلغ في خلال النهار، وكان صائمًا فينظر فيه، فإن نوي الصوم من الليل، فإنه لا يلزمه قضاء صوم ذلك اليوم، وإن نوي الصوم من النهار أو كان مفطرًا ماذا حكمه؟ سنذكر هذا فيما بعد إن شاء الله عز وجل، وإما يتصور البلوغ في خلال الصلاة بالسن دون الاحتلام، لأنه إذا احتلم فقد بطلت صلاته. وقال المزني: إنه إن بلغ في خلال الصلاة تلزمه إعادتها، ولو بلغ في خلال الصوم لا تلزمه إعادته، وعلل بأنه قال: لا يمكنه صوم يوم هو في آخره غير صائم، ويمكنه صلاة هو في آخر قتها غير مصل. من أصحابنا من قال: إنه أخل بالنقل، لأن مؤدي قوله أن يقول: لا يمكنه صوم يوم هو في أوله غير صائم، لأن مقصوده منه أني لا أوجب عليه صوم باقي اليوم لارتفاع إمكان القدرة لأنه لا يتصور أن يكون في آخر اليوم صائمًا وفي أوله مفطرًا، لأن صوم الفرض لا يتجزأ ولا يتبعض. ومن أصحابنا من قال: ليس فيه كثير خلل، لأنه إذا لم يكن صائمًا في آخر اليوم لا يكون في أوله أيضاً، بخلاف الصلاة فإنه يجوز أن يصلي في آخر

وقتها دون أوله، وفي أوله دون آخره، فوجد إمكان القدرة فيها، فوجب عليه إعادتها. قلنا له: أي الرجلين أنت؟ فإن قلت: إذا صلى في أول الوقت، وبلغ في آخر الوقت يلزمه قضاؤها، فالكلام معك فيه كالكلام مع أبي حنيفة، فنقول: صلى وظيفة وقته، وفريضة مثله، فحدوث الكمال بعده لا يوجب عليه الإعادة، دليله: الأمة إذا صلت مكشوفة الرأس في أول الوقت، ثم عتقت في آخر الوقت لا يلزمها قضاؤها، كذلك هذا مثله. ولئن قلت: إنه لا يلزمه قضاؤها فقد مكنت من ثغرة النحر، ويلزمك الفرق بينهما. فرع: قال ابن الحداد: إذا صلى الصبي في أول الوقت صلاة الظهر يوم الجمعة، ثم بلغ قبل أن يصلي الجمعة، فإنه تلزمه صلاة الجمعة، ولو صلى العبد أو المسافر في اول الوقت صلاة الظهر يوم الجمعة، ثم عتق العبد، وأقام المسافر قبل أن يصلي الجمعة، فإنه لا يلزمهما صلاة الجمعة. والفرق بينهما بأن مؤدى الصبي يكون نفلا، فلهذا يؤمر بالجمعة ومؤداهما يكون فرضا، فلهذاا لم يؤمر بالجمعة. قلنا: من أصحابنا من قال: إنه أخطأ في الفتوى وفي العلة. إما في الفتوي فإنه أجاب بهذا على مذهب أبي حنيفة، لأن عنده ان الصبي إذا صلى في اول الوقت، ثم بلغ قبل خروج الوقت يلزمه قضاؤها، وكثيرًا ما يغلط إلى مذهب أبي حنيفة. وأما الخطأ في العلة حيث قال: مؤدى الصبي يكون نفلا وليس كذلك، لأنه أدى فرض مثله، ووظيفة وقته كالبالغ سواء.

قال القفال: رحمه الله الفتوى كما ذكر، ولكن المعنى فيه غيره، وهو أن الصبي مندوب بالحضور إلى الجمعة، ومأمور بذلك، ومضروب عليها إذا تركها فلهذا قلنا: بأنه يلزمه الحضور إلى الجمعة، لأنه ترك ما هو مندوب إليه، حيث صلى في أول الوقت، وأما العبد والمسافر غير مأمورين بالجمعة ولا مندوبين إليها، فلهذا لا يلزمها الجمعة ها هنا، لأنهما لم يتركا ما كان يندبان إليه، والله تعالى أعلم بالصواب.

باب صفة الصلاة وما يجوز منها، وما يفسدها وعدد سجود القرآن وغير ذلك

باب صفة الصلاة وما يجوز منها، وما يفسدها وعدد سجود القرآن وغير ذلك. قال الشافعي: وإذا أحرم إمامًا أو وحده، نوى صلاته في حال التكبير، لا قبله ولا بعده ولا يجزئه إلا قوله: الله أكبر، أو الله أكبر. أما إذا أراد الصلاة فإنه يحتاج إلى النية لها، ومتى ينوي لا خلاف أنه لو نوى بعد التكبير، فإنه لا يجوز، وكذا لو نوي قبل التكبير بلفظة ثم عزبت نيته قبل أن يبتديء التكبير، فإنه لا يجوز، فلو وزع النية على حروف التكبير. من اصحابنا من قال: إنه يجوز، لأن الشافعي رحمه الله قال: وينوي في حال التكبير لا بعده ولا قبله. والصحيح أنه لا يجوز، لأنه إذا افتتح التكبير، ولم يوجد منه إتيان جميع النية، فقد أخلى بعض أركان الصلاة عن النية فلا يجوز، كما لو نوي بعد التكبير. وقوله: حال التكبير لا بعده ولا قبله، محمول على ما إذا نوى قبل التكبير، ويستصحب النية إلى أن فرغ عن التكبير، قاله ابو على السنجي رحمه الله عليه والمذهب الصحيح انه لا يجزيء عن هذا. ومن أصحابنا من قال: وهو القفال رحمه الله، إنه لو نوى قبيل التكبير، ويستصحب النية إلى أن افتتح التكبير، فإنه يكتفي، وإن لم يستصحبها إلى أن فرغ عن التكبير، لأنه قرن النية بالتكبير.

فلو قلنا: إنه يلزمه استصحاب النية إلى الفراغ عنه لكان ذلك تكرارًا للنية، وذلك غير واجب عليه، كما أنه لا يلزمه استصحاب النية في آخر الصلاة، والصحيح هو الأول، وإنما قلنا، ذلك لأن الواجب عليه أن يأتي بالنية عند افتتاح الصلاة، ويداوم عليها إلى أن تنعقد له الصلاة، وإنما تنعقد له الصلاة إذا فرغ عن التكبير ولو أتى ببعض أجزاء التكبير، فإنه لا تنعقد له الصلاة. وقال أبو حنيفة: لونوى في بيته ان يخرج ويصلي في المسجد، فإنه يصح، وإن عزبت نيته بعد ذلك لا يضره. قال القاضي رحمه الله: سألت أبا علي النسفي عن هذا، فقال: عندنا إنما يجوز ذلك، إذا لم يخطر بباله شيء آخر إلى أن يدخل في الصلاة، فلو كان الأمر كما ذكر لم يبق بيننا وبينه فيه خلاف، فأما كيفيته فالصلاة على قسمين: فرائض، وغير فرائض. فأما غير الفرائض على قسمين: نوافل وسنن. فأما النوافل، فإنه ينوي فيها الصلاة مطلقًا، بأن يقول: نويت الصلاة، أو

نويت أن أصلي، ويكفيه ذلك، فأما السنن، فإنه يحتاج فيها إلى أصل النية، وإلى تعييها بأن يقول: نويت أصلي سنة الوقت، فإن كان صبحًا، فينوي سنة صلاة الصبح، وإن كان مغربًا فينوي سنة صلاة المغرب، وأما الفرائض على قسمين: أداء وقضاء. فأما الأداء فالأكمل فيه أن ينوي أداء صلاة الظهر فرض الوقت لله تعالى، وإنما قلنا: إنه ينوي أداء؛ لأن الصلاة قد تكون قضاء، وقد تكون أداء، فهو ينوي الأداء كي يتميز به عن القضاء. وإنما قلنا: ينوي صلاة الظهر، لأن الصلاة قد تكون ظهرًا، وقد تكون غير الظهر فينوي الظهر لكي يتميز عن غير الظهر. وإنما قلنا: ينوي فرض الوقت؛ لأن الظهر قد تكون فرضًا، وقد تكون غير الفرض بأن يصلي الظهر وحده، ثم أدرك الجماعة ويصليها بالجماعة ثانيًا، فإن إحداهما تكون فرضًا، والأخرى نافلة، وأيضا فإنه يجوز أن تكون الصلاة فرض الوقت عليه، ولا يكون طهرًا بأن يذكر فائتة عليه لقوله عليه السلام: من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها، لا وقت لها غيره، وأيضا قد تكون ظهرًا في الوقت، ولا تكون أداء بأن شرع في صلاة في وقتها، ثم أفسدها وكان الوقت باقيًا يلزمه أن يصليها في الوقت فائتة بنية القضاء وإنما قلنا: ينوي لله تعالى في الإخلاص لقوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، فلو نوى في صلاة الظهر مثلا أداء فرض الوقت لله تعالى، فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأن فرض الوقت لا يكون إلا ظهرًا. والثاني: لا يجوز لما ذكرناه أنه يجوز أنه يكون فرض الوقت، ولا يكون ظهرًا، وهكذا لو نوى أداء صلاة الظهر، ولم ينو فرض الوقت فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن صلاة الظهر لا تكون إلا فرضًا. والثاني: لا يجوز لما ذكرنا أنه يجوز أن تكون صلاة الظهر، ولا تكون فرضا وهكذا لو لم ينو لله تعالى فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الصلاة لا تقع إلا لله تعالى. والثاني: لا؛ لأن المبالغة في الإخلاص شرط بدليل الاية، ولا خلاف إنه إذا لم ينو اليوم، ولا أعداد الركعات، فإنه يجوز، وكذلك لو لم ينو الصلاة بأن نوى فرض الوقت ظهرًا، أو ظهرا لوقت فرضًا، فإنه يصح. فأما إذا كان مأمومًا، فإنه أيضا ينوي الاقتداء بالإمام، فلو ترك ذلك لا تحصل له فضيلة الجماعة، وهل تصح صلاته أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا؛ لأنه وقف أفعاله على أفعال غيره، فلا تصح صلاته. والثاني: بلى، لأنه أتي بجميع أركان الصلاة وشرائطها. فأما الإمام فالصحيح من المذهب أنه لا يلزمه نية الجماعة، لأنه لا يقتدي بأحد حتى ينوي ذلك.

وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق رحمه الله: إنه ينوي الجماعة، وعلل بأنه أحد ركني الجماعة، فتلزمه نية الجماعة دليله المأموم. قلنا: بينهما أن المأموم يكون تبعا له في الصلاة فيحتاج إلى نية الاقتداء به لتصح التبعية له في الصلاة، بخلاف الإمام، فإنه يستتبع المأموم في الصلاة. الدليل عليه: أنه يوجب أشياء على الإمام، والمأموم لا يوجب عليه شيئًا، فأما إذا صلى رجل منفردًا، ثم جاء آخر واقتدى به، فإنه يحصل للمقتدي ثواب الجماعة، وماذا حكم المقتدى به؟ قال القاضي رحمه الله: سألت الشيخ القفال رحمه الله عن هذه المسألة فقال إنما يحال في هذا على فضل الله تعالى، في ألا يحرمه فضيلة الجماعة، لأنه يكون سببًا لتحصيل فضيلة الجماعة لغيره، فالأولى ألا يحرم عنها فأما في الجمعة فالأفضل أن ينوي صلاة الجمعة فرض الوقت لله تعالى مقتديًا بالإمام فرضًا، وإنما ينوي فريضة الاقتداء، لأن الاقتداء بالامام في الجمعة يكون فرضًا وفي سائر الصلوات لا يكون فرضًا، ولو نوي صلاة الجمعة لله تعالى الصحيح من المذهب أنه لا يجوز، لأن الجمعة لا تصح إلا بجميع اركانها وشرائطها، ولا تقع إلا فريضة، ولا تصح إلا في الوقت، ولا يجوز الاقتداء بالإمام، فلو نوى صلاة الظهر مقصورة لله تعالى. من أصحابنا من قال: هذا بناء على أن الجمعة فرض على حدة أم ظهر، مقصور؟ وفيه قولان: إن قلنا: إنه يكون فرضًا على حدة فلا يجوز، وإلا فجاز، فأما إذا كانت الصلاة قضاء، فإنه ينوي قضاء صلاة الظهر فرضًا لله تعالى، وإن أراد أن ينوي قضاء أول ظهر كانت عليه، أو آخر ظهر كانت عليه، وهذا غير واجب عليه. وقال أبو حنيفة: إنه واجب عليه، وعندنا لو نوى مطلقًا يجوز، فأما إذا عين اليوم، وأخطأ بأن ينوي قضاء صلاة الظهر الذي فاتت عنه من يوم الخميس،

وذاك يكون في يوم السبت، أو الجمعة، فإنه لا يجوز، ولو عين اليوم في الأداء، ثم أخطأ تصح صلاته. والفرق بينهما أن في الأداء ينوي فرض الوقت، فقد وجدت الإشارة فيغلب على العبارة، وتصح صلاته، وفي القضاء لم توجد الإشارة حتى يغلب على العبارة. فقلنا: إنه لا يصح القضاء، فأما إذا نوى الأداء، في صلاة القضاء، أو القضاء في صلاة الأداء، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن القضاء غير والأداء غير.

والثاني: جاز، لأن الأداء والقضاء في اللغة شيء واحد. قال الله تعالى فإذا قضيتم مناسككم، أي أديتموها، وقال الله تعالى فإذا قضيت الصلاة، أي أديت، ويقال: اقض ديني، معناه: أد ديني، فعلى هذا لو أفسد صلاة الوقت، فأراد قضاءها، مقتضى قول أصحابنا: إنه ينوي القضاء، لأنه يقضي ما التزمه في الذمة، لأن الشروع يلزم الفرض في الذمة بدليل أن المسافر لو نوي إتمام الصلاة، وشرع فيها، ثم أفسدها لا يقضيها مقصورة، بل تامة، لأنه التزم الإتمام، وهذه المسألة تلزم فيما لو شرع في صلاة التطوع ثم أفسدها، فإن عندنا لا يجب عليه قضاؤها والعذر فيه أنه فرض التزمه بعقده، لأن الفرض على المسافر الإتمام كما على المقيم، إلا أنه جوز له القصر، فإذا لم ينوي القصر، فقد التزم الفرض بعقده. وأما هذا تطوع شرع فيه، فلم يلزمه بحكم عقده، وإذا أفسد الصلاة التي شرع فيها بنية القصر، وقلنا: لا يقضي المقصورة مقصورة يلزمه الإتمام في الوقت ايضًا، وينوي القضاء على مقتضي قول أصحابنا، وعلى ما قاله الشيخ القفال يتخير فيه بين نية الأداء، ونية القضاء. فرع وإذا ترك ركعتي الفجر حتى صلى الصبح، أو طلعت الشمس فهي قضاء، فينوي القضاء على طريقة الأصحاب، وقبل طلوع الشمس يحتمل وجهين: أظهرهما: أنها أداء، لأن الوقت قائم، فهذا وقت لها بدليل أنه لو لم يكن صلى الصبح كان هذا وقتًا لها، فعلى هذا ينوي الأداء على طريقة الأصحاب. والثاني: يكون قضاء، لأن وقتها قبل فعل الفرض، فعلى هذا ينوي القضاء [و] على قول الشيخ ينوي كيف شاء.

فرع: لو اقتدي برجل ظنه إمامًا، فبان أنه مأموم بعد الفراغ من الصلاة. قال: يجب أن يخرج على الوجهين: لأنه وقف أفعاله على أفعاله، وقد ذكرنا من قبل إلا أنه مشكل، وذلك، لأن من أصلنا أنه لو كان الإمام جنبًا، أو محدثًا لا تلزمه الإعادة، وإن وقف أفعاله على أفعاله. فصلٌ: رجلان يصلي كل واحد منهما بجنب صاحبه، إن كان الإمام والمأموم بينا لكل واحد منهما فذاك، وإن اشتبه الأمر ففيه أربع مسائل: إحداهما: أن يكون عند كل واحد منهما أنه مقتد بصاحبه، فالصلاتان باطلتان، لأنه لو اقتدى بمن هو مقتد بالغير لم تصح صلاته، فإذا اقتدي بمن هو مقتد به أولى الا تصح. فإن قيل: اليس أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، ويصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم كانوا يصلون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه. قلنا: أبو بكر لم يكن إمامًا للقوم، وإنما كان كالمترجم بينهم على أفعاله. والثانية: أن يشك كل واحد منهما في أنه إمام أو مأموم، فالصلاتان باطلتان أيضا، لأن على المأموم نية الاقتداء يقينًا. والثالثة: أن يشك أحدهما في أنه إمام أو مأموم، ولم يشك الاخر، بل كان يعرف نفسه إمامًا او مأمومًا. قال الشافعي: رضي الله عنه، صلاة الشاك باطلة، وصلاة من لم يشك لم تبطل. قال أصحابنا: صلاة من لم يشك إنما لم تبطل إذا كان عنده أنه إمام أو منفرد، فأما إذا كان عنده أنه مأموم تبطل صلاته، لأنه يجوز أن يكون الثاني

مقتديًا به، ومن صلى خلف رجل ظن أنه مقتد برجل آخر لم يصح، فإذا ظن أنه مقتدى به أولى ألا يصح. الرابعة: أن يكون عند كل واحد منهما أنه إمام، فالصلاتان صحيحتان، لأن الإمام كالمنفرد، وإذا اقتدى برجلين لم تصح صلاته، لأنهما لا يتفقان، والواجب على المأموم متابعة إمامه، ولا يمكنه متابعة شخصين لاختلاف آرائهما، ولو اقتدى بأحدهما لا يعينه أيضا لا تصح صلاته. فصل رجل شرع في الصلاة، ثم شك هل نوى أم لا؟ فإن لم يتذكر لم تصح صلاته، لأن الأصل عدم النية، وإن تذكر نظر فيه، فإن تذكر قبل أن عمل عملا على قرب الفصل صحت صلاته، وإن تذكر بعد أن عمل عملا بطلت صلاته، والعمل ما قاله الشافعي: أن يكون قائمًا فيركع، أو راكعًا فيقوم أو قائمًا فيسجد، لأنه نص عليه. وقال: إنه إن أحدث فعلا بطلت صلاته، وإن لم يحدث فعلا صحت صلاته، فأما إذا شك فيه حالة القيام وسكت سكوتًا طويلا، ثم تذكر فيه وجهان بناء على أنه لو سكت في حالة القيام من غير عرض سكوتًا طويلا هل تبطل صلاته ام لا؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل، يجعل طول السكوت منه بمنزلة إحداث فعل. والثاني: لا؛ لأنه لم يأت بفعل، ولا ينقطع به نظم الصلاة.

إن قلنا: إن هناك لا تبطل، فها هنا أولى. وإن قلنا: هناك تبطل، فها هنا وجهان، والفرق أن هناك لم يكن له غرض ومقصود في السكوت، فأولى أن تبطل به صلاته بخلاف ما نحن فيه، وهكذا لو شك فيه في خلال الفاتحة، وسكت سكوتًا طويلاً فيه وجهان، كما لو كان في قراءة غير الفاتحة. إن قلنا: تبطل صلاته فلا كلام. وإن قلنا: لا تبطل صلاته يلزمه استئناف الفاتحة، لأنه إذا سكت سكوتًا طويلا ينقطع به نظم القراءة. فأما إذا شك فيه قبل قراءة الفاتحة، ثم قرأ الفاتحة في زمان الشك، ثم تذكر أنه نوي الصلاة، المذهب أنه لا تبطل صلاته. وقال أبو يحيى البلخي: تبطل صلاته، لأن عنده تكريم الفاتحة كتكرير الركوع والسجود، وعلى هذا لو كرر قراءة الفاتحة، هل تبطل صلاته أم لا؟ عند عامة أصحابنا لا تبطل، وعنده تبطل، وقال: لأنه ركن، فأشبه الركوع والسجود. قلنا: إنه ركن بالقول، وحكم القول أخف من حكم الفعل. فإن قيل: ما الفرق بينه، وبين ما لو شك أنه صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ عليه ان يقوم ويصلي ركعة أخرى في زمان الشك، ولا تبطل صلاته بهذا الفعل في زمان الشك، ولو شك في أصل النية، ثم أحدث فعلا بطلت صلاته. قلنا: لأن هناك تيقن انعقاد صلاته، وشك في أفعاله، فلم يغير وها هنا الشك وقع في أصل انعقاد الصلاة، ففعله في حال الشك لا يعتمد عليه أصلا. فإن قيل: ما الفرق بين ما لو شك في أصل النية ثم تذكرها حكمهم بصحة الصلاة، وبين ما لو شك في نية القصر، ثم تذكر أنه نواه، فإنه يلزمه الإتمام؟ قلنا: الفرق بينهما إذا شك في نية القصر تأدى جزء من صلاته على حكم

الإتمام، والصلاة إذا تأدى جزء منها على حكم الإتمام لزمه الإتمام، كما لو اقتدى بمقيم قبل السلام بجزء، يلزمه إتمام الصلاة، وها هنا يشك في أصل النية، فما بعد الشك إلى التذكر ليس من الصلاة، فأقضى ما فيه أنه أتى بفعل يضاد الصلاة، والفعل اليسير في أثناء الصلاة لا يبطل الصلاة. فأما إذا شرع في الصلاة، ثم شك أنه هل ترك مسح الرأس في الطهارة أم لا؟ نقدم على هذا مقدمة، وهو أنه لو شك في أنه هل ترك مسح الرأس أم لا بعد فراغه من الوضوء ماذا حكمه.؟ فيه قولان: قال في القديم: لا شيء عليه، لأن الأصل كمال الطهارة. وفي الجديد، عليه مسح الرأس، لأن الأصل أنه لم يات به جئنا إلى مسألتنا، إن قلنا بالقول القديم، فها هنا لا شيء عليه فلا يضره ذلك الشك وإن قلنا بقوله الجديد، حكمه حكم ما لو شك في نية الصلاة، وقد ذكرناه، ولو شك أنه نوي العصر أو الظهر، وكان عليه فائتة العصر أو الظهر تذكر معقوده. قال الشيخ القفال رحمه الله، إنه تبطل صلاته، لأن ما مضى في زمان الشك يكون نفلا، فصار كما لو قلب الفرض نفلا، ولو قلب الفرض نفلا يبطل فرضه، فها هنا، وإن لم يغير النية فقد شك في وجودها، فحل محل تغيير النية إلى فرض آخر، وليس كما لو شك في أصل النية، فتذكر بعد العمل، لأن ها هنا شك في صفتها دون أصلها. قال القاضي رحمه الله: عندي حكمه حكم ما لو شك في أصل النية وقد بينها، ولو شك في نية الاقتداء بالامام، وكان في خلال الصلاة نقدم على هذا مقدمة، وهي أنه إذا تابع الإمام في أفعال الصلاة، ولم ينو الاقتداء به، فيه وجهان: أحدهما: بطلت صلاته لأنه وقف أفعاله على أفعاله.

والثاني: لا يبطل، لأنه يسير، فيعفى عنه، جئنا إلى مسألتنا، إن قلنا هناك: لا تبطل صلاته، فها هنا مثله، وإن قلنا هناك: تبطل صلاته فها هنا حكمه حكم ما لو شك في أصل النية، وقد ذكرنا، وإن شك في نية الاقتداء بعد الفراغ من الصلاة، فحكمه حكم ما لو شك في ركن من أركان الصلاة بعد السلام، فإن كان قد طال الفصل يستأنف، فعلى هذا في وجوب الاستئناف الوجهان. وفيه قول آخر: أنه يبني، فعلى هذا لا شيء عليه، فأما إذا شك في أصل النية قبل قراءة الفاتحة، قرأ الفاتحة في زمان الشك، وقلنا: إنه لم تبطل صلاته إذا تذكر أنه نوي، فلا تحسب له قراءة الفاتحة، بل عليه أن يقرأ ثانيًا، لأنه قرأ في حال الشك، نظيره المسافر إذا شك أنه مسح في السفر، أو في الحضر فمضى على الشك، ومسح في حال الشك، ثم تذكر أنه مسح في حال السفر، وقد ذكرناه فيما قبل، لا يفيده، والله أعلم بالصواب.

فصل: إذا نوى الخروج من الصلاة أو ردد النية، خرج من صلاته، ولو نوي أن يخرج عن صلاته إذا قدم زيد، أو طلعت الشمس، فلا خلاف في بطلان الصلاة عند وجود الشرط، وفي بطلانها في الحال وجهان:

أحدهما: تبطل لأنه لم يجزم النية، كما لو نوى الخروج عن الإسلام لا يصح إسلامه. والثاني: لا تبطل. والفرق أن دوام الإسلام شرط، ولا يحل الخروج عنه بحال، والخروج عن الصلاة يباح في الجملة. فأما إذا عزم على الخروج عند وجود الشرط حال العقد، فأولى ألا ينعقد؛ لأن المضاد قرنه بالعقد. ولو نوى الخروج من الصوم فوجهان: أحدهما: يبطل صلاته، لأن الصوم عبادة يبطلها الأكل كالصلاة. والثاني: لا، والفرق أن الصلاة قربة أعمال يباشرها لا تصير عبادة إلا بالنية، فبطلت برفض النية، بخلاف الصوم، فإنه كف وإمساك، والكف والإمساك لا يحتاج حصولهما، إلى النية كالكف عن الزنا وشرب الخمر، والشريعة تشتمل على الأوامر والنواهي، فما هو من جملة النواهي كالزنا وشرب الخمر، لا يحتاج صحة تركها إلى نية، وما هو من جملة الأوامر لا يصح امتثالها بدون النية. وإن قيل: لو صح هذا المعنى لوجب ألا توجبوا أصل النية في الصوم. قلنا: لامتياز العادة عن العبادة؛ لأن ترك الأكل يشرك فيه العادة والعبادة، وتعيين النية ليحصل الإخلاص لله تعالى، إلا أنهم يقولون بهذا المعنى وجب أن يحكموا ببطلانه إذا نوى الخروج منه.

فرع قال صاحب التلخيص: لو كبر وكبر ثلاثًا انعقدت صلاته بالأولى، وبطلت بالثانية، وانعقدت بالثالثة، لأنه خرج عنها بالثانية، ودخل فيها بالثالثة، كما لو قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، قاله ثلاث مرات يفرق فيه بين ما لو كان قبل الدخول أو بعده، وبكل مرة تنحل اليمين، وتنعقد أخرى كذا هذا. قال القفال رحمه الله: لصحة هذه المسألة شرطان: أحدهما: أن ينوي الافتتاح بكل تكبيرة، لأنه لو كبر عشرين مرة، ولم ينو بها الافتتاح بعد انعقاد الصلاة لم يضر الصلاة. والثاني: ألا ينوي الافتتاح قبل الشروع في التكبرة الثانية، ولو نوى الافتتاح قبل الشروع في الثانية بطلت صلاته بنية الافتتاح، وانعقدت بالثانية، وبطلت بالثالثة، وإنما كان نية الافتتاح في الصلاة المنعقدة مبطلة لها، لأن الافتتاح يقتضي سبق الخروج، فجعل كما لو نوى الخروج، ونظيره ما قال الشافعي، رحمه الله: لو نكح امرأة يوم الخميس على مسمى، ثم نكحها يوم الجمعة على مسمى يلزمه المهران، لأن العقد الثاني لا يكون إلا بعد ارتفاع الأول.

فصل لو غير النية في خلال الصلاة مثل أن شرع في فرض، فغير النية إلى فرض آخر، أو في الفرض فغير إلى السنة، أو في السنة فغير إلى الفرض، أو في سنة فغير إلى سنة أخرى، لا خلاف أنه بطل ما عقده أولا وانصرف عنه، ولا ينصرف إلى الثانية وهل يبطل أصلا الصلاة، أو تنعقد نفلا؟ فعلى قولين: أحدهما: تبطل، لأنه لما انصرف عن الأولى، ولم ينصرف إلى الثانية تعين البطلان إذ لا ثالث، وقد نص الشافعي رحمه الله على أنه لو كان يصلي بالناس قاعدًا للعجز عن القيام، فقدر على القيام في خلال الصلاة، فلم يقم بطلت صلاته، وصلاة من علم بحاله ممن خلفه، ولم يحكم بانقلابه نفلا. والقول الثاني: انقلبت نفلا، لأنه لم يترك أصل النية، وإنما غير صفتها، ولم يصح التغيير فبقي مطلق النية.

وللشافعي: رحمه الله، ثلاث نصوص تدل على هذا القول: أحدها: إن قال: لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، انعقد إحرامه بالعمرة، كما لو أحرم بالظهر قبل الزوال تنعقد نفلا. والثاني: لو أن مسبوقًا كبر هاويًا إلى الركوع ليدرك الإمام فيه تنعقد صلاته نفلا. والثالث: لو أحرم بالصلاة منفردًا، ثم حضر القوم ليعقدوا الجماعة نص على أنه يسلم عن ركعتين، ويكونان له نافلة، ويصلي معهم بالجماعة، ولم يحكم ببطلان الصلاة في المسائل الثلاثة، بل حكم بانعقادها نفلاً ويخرج فيها، وفي النص الأول على البطلان القول الآخر، وإذا غير من النفل إلى النفل، فالظاهر أنه لا تبطل، ويخرج فيه القول الآخر أنه تبطل.

فصل: لو أن إماما شك أنه هل نوى أم لا، فأراد أن يكبر مع نفسه لتنعقد صلاته على اليقين، ولا يطلع عليه القوم، فحكمه حكم الصلاة التي افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم خرج منها، ودخل البيت واغتسل، ثم خرج ورأسه يقطر ماء، وأتم بهم الصلاة إلا أن فيه ايضا إشكالاً على المعنى، فأما صلاة الإمام فتنعقد لا محالة. قوله: ولا يجزيه إلا قوله: الله أكبر أو الله الأكبر. قال القاضي حسين: عندنا لا تنعقد الصلاة إلا بقوله، الله أكبر، أو الله الأكبر فأما ما عدا التكبير من اسماء الله تعالى، إذا لم يذكره على جهة النداء، أو الدعاء كقوله، الله الجليل، الله العظيم، الرحمن الرحيم، سبحان الله والحمد لله، أو بالفارسية، يقول خداي، أو بالتركي يقول تنكرى. فأما إذا ذكره على جهة النداء كقوله: يارب يا ألله، أو الدعاء كقوله: اللهم وفقنا في أنه لا تنعقد به الصلاة. لنا قوله عليه السلام مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولأن قوله: الله أكبر كلمة تنبئ عن القدم والعظم على جهة المبالغة، لأن الكبر يطلق على كبر السن، يقال: شيخ كبير وعلى كبر

الجثة، يقال: حبل كبير، وعلى كبر الرتبة، والله تعالى منزه عن كبر السنة والجثة، فكان ذلك في حقه وصفًا لله تعالى، بالقدم على جهة المبالغة. وما عدا هذه الكلمات لا تتضمن هذين المعنيين. فأما قوله: الله أكبر، بالألف واللام، فإنه يتضمنها وزيادة؛ لأن الألف واللام تقتضي الحصر والاختصاص، وإطلاق اللفظ دونهما لا يتقضي الاختصاص والقطع عما سواه، ويدل عليه أنك تقول: زيد أعلم، فلا ينبيء ذلك عن كونه أعلم الناس كلهم، ولو قلت: زيد الأعلم اقتضي ذلك كونه أعلم الناس كلهم. وقوله: الله الكبير لا يتضمن المعيين، إذ هو ليس من ألفاظ المبالغة. وقوله: الله الكبير الأكبر لم تنعقد به الصلاة، لأنهما كلمتان، والكلمتان يجب ان يتضمنا هذين المعنيين، ولأن ذلك لا يعرف تكبيرًا في العادة. وقوله: الله أكبر كبيرًا تنعقد به الصلاة، لأنه أتى بالتكبير الصحيح فقوله: كبيرًا زيادة ثناء نه بعد انعقاد الصلاة. وقوله: الأكبر الله لا تنعقد به الصلاة، وإن تضمن المعنيين، لأنه لا يعرف تكبيرًا، وإن التكبير المعهود أن يقول: الله أكبر، فاختص انعقاد الصلاة به.

وقوله: الله أكبر أولى من قوله: الله الأكبر بالألف واللام، لأن الأخبار فيه وردت، ومن العلماء من لم يجوزه بالألف واللام، وهو مالك، وحكى أبو الوليد النيسابوري قولا آخر عن الشافعي أنه لا تنعقد بقوله: الله أكبر وما نقل المزني هو قوله الجديد، ولو قال: الله أكبار ومده مدا لا تنعقد صلاته، ولو قال: على جهة الاستفهام، لا تنعقد أيضا به صلاته، ولو اعتقده كفر، والتكبير عندنا من الصلاة. وقال أبو حنيفة: التكبير ليس من الصلاة، وكذلك التسليم عندنا من الصلاة خلافاً له، ولا فائدة للخلاف في التحريمة، لأنهم وافقونا في أنه يشترط في التحريمة جملة شرائط الصلاة من الطهارة والستر واستقبال القبلة، لأن المسالة مشهورة بالخلاف، فنقول: ما افتقر إلى ما تفتقر إليه الصلاة كان من الصلاة كسائر أجزاء الصلاة، وكان القاضي أبو علي يقول: فائدة أن التحريمة ليست من الصلاة على أصلنا إن سبقه الحدث يبني على صلاته، لأنها ليست من الصلاة، فحكمنا ببقائها بعد الحدث حتى أنه إذا عاد لا يحتاج إلى تجديد التحريمة، ويكتفي بالتحريمة الأولى، ولا بقاء للصلاة بعد الحدث. وأيضا قال: الصلاة تنافي الحدث، ولا تنافي التحريمة. وقال غيره، فائدته لو كبر متقهقهًا انعقدت صلاته، ولا تبطل طهارته. وقال غيره: لو أحرم بالظهر قبل الزوال، فلما فرغ من التكبير زالت الشمس صحت صلاته قالوا: الركن ما كان في خلال الصلاة بعد الفراغ عن التكبير، وإنما نحكم بانعقاد الصلاة بعد الفراغ من التكبير.

مسألة

مسألة تكبيرة المأموم للافتتاح إذا قارنت تكبيرة الإمام، أو بعضها لم تنعقد صلاة المأموم، نص عليه الشافعي رحمه الله وليست كالركوع والسجود، وسائر الأركان، فإنه لو قارن فعل المأموم فعل الإمام لم تبطل صلاة المأموم بالمقارنة، وإن كان كمال الفضل في المتابعة. والفرق بينهما أن الاقتداء لا يتصور ما لم يتعين إمام، والإمام لا يصير إماما ما لم يفرغ عن التكبيرة، فإذا ابتدأ المأموم التكبيرة، وصلاة الإمام غير منعقدة بعد فقد مضى بعض صلاة المأموم ولا إمام له. مسألة أول التبكير إذا عرى عن عين النية لم تنعقد الصلاة، وإن عري آخر التكبير عن النية صحت صلاته إذا لم ينسها، واستصحب ذكرها، فلو نسي ذكرها بعد الفراغ من التكبير لم يضره إذا استصحب حكمها، والفرق أنه إذا نوى مع أوائل التكبيرة لم يمض عليه شيء من أجزاء الصلاة قبل النية، بل أتي بالنية مقرونة على حسب الطاقة بأول العبادة، فجاز ألا تكون بغيرها مقرونة بالجزء الثاني والثالث، فأما إذا نوى في آخر التكبير دون أوله، فقد مضى بعض الصلاة عاريًا عن النية. فإن قيل: مقتضي هذه النكتة، أن توجب هذه النية قبل إنشاء التكبير حتى لا يوجد جزء من التكبير إلا والنية التامة مقترنة به. قلنا: النية من أركان الصلاة، وأركانها لا تنفصل ولا تتقدم، ولا تتأخر. فرع: نص الشافعي: رحمه الله، على انه لو كان بلسانه خرس أو كان مقطوع

اللسان لم يمكنه أن يأتي بالتكبير الصحيح، أتي بما قدر عليه، وحرك لسانه إن كان أخرس. ولو خلق الله تعالى رجلا أصم أعمي أخرس، قال أصحابنا: ينبغي أن يحنى ظهره، وتوضع جبهته على الأرض، لأن المقدور عليه لا يترك بالمعجوز، عنه. والمرأة لا ترفع صوتها بالتكبير، كما لا تجهر في صلاة الجهر بالقراءة،، ولا تؤذن فإن صوتها عورة. وإن قلنا: إنه ليس بعورة فيخاف الافتتان إن لو رفعت صوتها. قال الشافعي رضي الله عنه، إن كانت إمامًا فترفع صوتها قدر ما تسمع من خلفها. قال المزني: فإن لم يحسن بالعربية، كبر بلسانه، وكذلك الذكر، وعليه أن يتعلم. قال القاضي حسين: مثل إن كان تركيا أسلم، وهو لا يحسن العربية فيكبر بلسان الترك، أو هنديًا أسلم فيكبر بلسان الهند، وإن كان يحسن العربية فكبر بلسانه لم يجز، وكذا إن كان لا يحسن العربية، ولكن يمكنه أن يتعلم العربية، فلا يجوز له أن يكبر بلسانه، وإن مضى زمانه إمكان التعليم، ولم يتعلم فإنه يكبر بلسانه لحرمت الوقت، ويصلي فيلزمه إعادة تلك الصلاة. فأما إذا كان لا يمكنه أن يتعلم بالعربية بأن كان في الوقت ضيق، أو كان لا يطوع له لسانه، أو لم يجد من يعلمه، فإنه يكبر بلسانه ولا يعيد الصلاة، ولكن ينبغي أن يقول: خداي بزرك بر، ولا يقول: خداي بزرك، لأنه لو اقتصر ينبغي أن يقول: خداي بزرك بر، ولا يقول: خداي بزرك، لأنه لو اقتصر عليه كأنه يقول بالعربية، الله الكبير، وقد ذكرنا أنه لا تنعقد به الصلاة، وهكذا حكم التشهد حكم التكبير، وقد ذكرناه. وقال أبو حنيفة: يأتي بالفارسية كلاهما، وإن كان يحسن العربية ولا شيء

عليه، فأما سائر الأذكار، من دعاء الاستفتاح، وتسبيحات الركوع والسجود والدعاء بعد التشهد ماذا حكمه؟ فلا يخلو إما إن كان يحسب العربية أو لا، فإن كان يحسن العربية، على طريقة المراوزة لا يجوز له أن يأتي شيئًا منها بالفارسية، كالتكبير سواء، وعلى طريقة العراقيين يجوز له ذلك، لأنه ليس بفرض عليه إتيانه بخلاف التكبير، فأما إذا كان لا يحسن العربية على طريقة العراقيين يجوز له أن يأتي الكل بالفارسية، وعلى طريقة المراوزة فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما في التكبير والتشهد. والثاني: لا يجوز، والفرق أن التكبير واجب عليه إتيانه فيه حاجة إلى أن يقوله بالعربية لأنه غير مختار فيه. وها هنا بعكسه، والوجهان صورهما من لفظ الشافعي، رضي الله عنه حيث قال: وكذلك الذكر، وعليه أن يتعلم، يحتمل أنه أراد به التشهد دون التسبيحات، لأنه قال: وعليه أن يتعلم، فإنما يجب تعلم التشهد دون سائر الأذكار، ويحتمل أنه أراد به الكل، لأن اسم الذكر ينطلق على الكل، وعليه أن يتعلم، ينصرف إلى التشهد. ولأن الشافعي، رحمه الله قال: حق على كل مسلم أن يتعلم من العربية قدر ما يأتي به في صلاته، وهذا بخلاف الفاتحة، فإنه لا يجزيه بالفارسية، فإن لم يحسنها، إن كان يحسن شيئًا آخر من القرآن أتى به، وإن لم يحسن شيئًا آخر من القرآن من الأذكار بقدر ما يبلغ آيات الفاتحة، والشرط أن يأتي بسبعة أنواع من الذكر، وهل يشترط أن تعادل كلمات الذكر كلمات الفاتحة بعد أن تنوع سبعة أنواع فوجهان: أحدهما: بلى. والثاني: لا. وإذا أتي بشيء آخر من القرآن، فالشرط أن يأتي بسبع آيات، فلو أتى بآية

طويلة تعادل الفاتحة وتزيد عليها لم يجز، وهل يشترط أن تبلغ كلماتها كلمات الفاتحة، فعلى وجهين. فإن لم يحسن الذكر بالعربية قال رضي الله عنه: أتي به بالفارسية، ولا يأتي بالفارسية الفاتحة، لأن الواجب عليه الإتيان بالذكر إذا جهل الفاتحة، وما يقوم مقامه من القرآن، فإذا عجز عنه أتي بمعناه بالفارسية. وعند أبي يوسف، إن كان يحسن العربية لا تجزئه هذه الأذكار بالفارسية، وإن جهل العربية أجزأه. وقال أبو حنيفة: سواء كان يحسن العربية، او لا يحسنها تجزيه هذه الأذكار بالفارسية، وكذلك الفاتحة يجوز عنده أن يقرأها بالفارسية. وزاد عليه فقال: لو قرأ آية من التوراة يوافق معناها معنى آية من القرآن جاز، وهذه المسألة تلقب بترجمة القرآن، وعندنا لا يجوز، وعنده يجوز. وكان القاضي أبو عاصم رحمه الله، يقول: إنما يجوز ترجمة القرآن، إذا كان مثله في اللفظ والمعنى كقوله، خيرًا وشرًا، ويركب ويسجد، فأما إذا كان يخالفه في اللفظ والمعنى، فلا. دليلنا: ما روى أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لا أحسن شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في الصلاة، فقال عليه السلام: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والفرق بين الفاتحة وبين سائر الأذكار، أن في ترجمة الفاتحة ترك النظم، وفي ترك النظم إبطال الإعجاز، وفي إبطال الإعجاز إبطال النبوة، فيؤدي تجويز الترجمة إلى هذا الفساد، ونفرض الكلام معه فيما لو قرأ آية من التوراة، فنقول: الله تعالى أمر بقراءة القرآن بقوله سبحانه، فاقرءوا ما تيسر من القرآن، وأنتم تجوزون قراءة التوراة التي نسخت، وحرم قراءتها. فرع لو كان له غلام، ولا يحسن شيئا من العربية، فوجب أن يعلمه ذلك، ويتخير فيه بين أن يعلمه بنفسه أو يخليه، والاكتساب حتى يكتسب أجرة المعلم، ولو لم يعلمه واكتسبه في حاجة نفسه يعصي ويأثم بذلك، وكذا يجب على ولي الطفل ووصيه أن يستأجر من يعلمه ما يحتاج إليه في الصلاة، إذا لم يجد من يتطوع بالقراءة، والله أعلم.

قال المزني: ولا يكبر إن كان إمامًا، حتى تستوي الصفوف خلفه. قال القاضي حسين: السنة للإمام ألا يفتتح الصلاة قبل فراغ المؤذن من الإقامة عندنا. وقال أبو حنيفة، يقوم عند قوله: حي على الفلاح، ويفتتح الصلاة عند قوله: قد قامت الصلاة تحقيقًا لقول المؤذن، وإخباره من قيام الصلاة، وعندنا معناه قرب إقامة الصلاة كقوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن. ومعناه: قاربن بلوغ أجلهن، ووافقنا في أن المؤذن لو كان هو الإمام لا يفتتح الصلاة قبل أن يفرغ من الإقامة. قال رضي الله عنه: أما أنا فأستحب أن يقوم الإمام والقوم عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، ويفتتح الصلاة بعد فراغه من الإقامة، وما قلناه أولى، لأن فيما قاله أبو حنيفة تفويت فضيلة تكبيرة الأولى على المؤذن، ثم إذا فرغ المؤذن من الإقامة، فالسنة أن يسوي الصفوف، ثم يكبر، ويقول الإمام: استووا، روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما قول الأئمة: رحمكم الله، أو رضي الله عنكم غير مروي في الحديث، لكنه حسن. والأصل في تسوية الصفوف ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تسوية الصفوف من تمام الصلاة. وما روى أنه عليه السلام، قال: سووا الصفوف وسدوا الفروج، فإني أراكم خلفي كما أراكم أمامي.

وكان عليه السلام مخصوصا بالرؤية في الصلاة من الجوانب الأربعة، ولهذا قال عليه السلام قرة عيني في الصلاة. وروى أنه قال: لتسون الصفوف، أو ليخالفن الله بين قلوبكم. وروى أنه قال: تراصوا بينكم في الصلاة، لا يتخللكم الشيطان. كأنها جاءت حذف، والحذف، صغار الغنم. قال الراوي: فكنا نلصق الكعب بالكعب، والمنكب بالمنكب، والركبة بالركبة. فرع لو دخل والمؤذن في الإقامة. قال الشيخ أبو حامد: المستحب أن يقعد، ثم يقوم للصلاة ليكون قيامه خالصًا للصلاة. قال: والذي عندي أن المستحب أن يقوم قائمًا حتى يفرغ المؤذن من الإقامة ولا يقعد ليحوز فضيلة الانتظار للعبادة، ولأنه إذا قعد فقد ترك تحية المسجد، والسنة ان يشتغل بشيء بعد دخول المسجد حتى يصلي تحية المسجد.

قال المزني: ويرفع يديه إذا كبر حذو منكبيه. قال القاضي حسين: السنة أن يرفع يديه إذا كبر حذو منكبيه، عندنا وعند أبي حنيفة حذو أذنيه. وقال أحمد بن حنبل: رفع اليدين فيه واجب، كما أن التكبير فيه واجب، بخلاف سائر التكبيرات، واختلفت الأخبار في كفيته، روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرفع يديه إلى شحمة أذنيه. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر يرفع يديه حذو منكبيه. وعن أبي حميد الساعدي أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلمكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم او قال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ولم ذاك، ولم تكن بأقدامنا له صحبة، ولا بأكثرها له تبعة، فصف لنا، فصلى ابو حميد الساعدي، ورفع يديه حذو منكبيه، فكلهم قالوا له: صدقت.

وحكي أن الشافعي لما دخل بغداد، اجتمعت عليه فقاؤها، حسين الكرابيسي وأبو ثور وأحمد، فقال لهم: كيف وجه الجمع بين الأخبار في رفع اليدين حيث روى أنه رفع يديه حذو منكبيه، وفي رواية حذو أذنيه، وفي رواية إلى فروع أذنيه، وفي رواية إلى شحمة أذنيه، فعجزوا عن ذلك، فقال الشافعي رحمه الله: يحمل على أنه رفع يديه، حيث كان كفاه حذو منكبيه، ورأس إبهامه إلى شحمة أذنيه، ورأس سبابتيه ووسطاه إلى فروع أذنيه، فاستحسنوا ذلك، فإن جمع وفعل هكذا فأولى، وإلا فالسنة عندنا أن يرفعهما حذو المنكبين، ويستحب أن يفرق أصابعه وينشرها إذا رفع يديه ويكون مكشوفًأ. وروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يرفع ذلك وينشرها. وقيل: إن الشافعي رحمه الله سأل أبا ثور وقال له: بم تفتتح الصلاة؟ قال: بالفرض، قال: أخطأت، قال: بالسنة، قال: أخطأت، ثم قال له: قل بهما، أعني بالفرض والسنة، وأراد به التكبير، ورفع اليدين فيه. ومتى يرفع؟ فيه أوجه:

أحدها: يبتديء التكبير مع الرفع، وينهيه مع الإرسال، رواه وائل ابن حجر. والثاني: يرفع يديه غير مكبر، ثم يأخذ في التكبير، وينهيه مع الإرسال، رواه أبو حميد الساعدي. والثالث: يرفع يديه غير مكبر ثم يكبر، ثم يرسل اليدين، رواه ابن عمر رضي الله عنهما، ولو رفع يديه وتركهما مرفوعتين حتى ركع لم يضره، لأنه هيئة تركها في الصلاة.

مسائل رفع اليدين نصَّ الشافعي رحمة الله عليه عليها: إحداها: رجل لم يمكنه رفع اليدين حذو المنكبين لعلة، وأمكنه رفعهما دون المنكبين، فيرفعهما دون المنكبين، ولا يترك المقدور عليه بالمعجوز عنه. والثانية: لم يمكنه رفعهما حذو المنكبين، وأمكنه الرفع فوقهما رفعهما فوق المنكبين، لأنه أتى بالسنة وزيادة هو معذور فيها. والثالثة لم يمكنه الرفع حذوهما، وأمكنه الرفع دونهما، أو فوقهما يرفع فوقهما؛ لأن ما فيه الإتيان بالسنة، وزيادة هو معذور فيها، وفي الرفع دونهما ترك بعض السنة، ونظيره إذا لم يمكنه القعود في الصلاة، وأمكنه الاضطجاع والقيام، يصلِّي قائمًا لا مضطجعًا، لأنه أقرب إلى القعود من الاضطجاع. والرابعة: أن تكون بإحدى يديه علَّة يعجز عن رفعها، والثانية سليمة يقدر على رفعها يرفع السليمة التي يقدر على رفعها. ولو نسي رفع اليدين: أو تعمد تركه حتى أتى ببعض حروف التكبير يرفعهما في باقي التكبير، ولو أتى بالتكبير لا يقضيه، لأن رفع اليدين فائت، وفي قضائها ترك سنة أخرى، لأن السنة ألا يرفع يديه بعد التكبير.

قال المزني: ويأخذ كوعه الأيسر بكفِّه اليمنى. قال القاضي حسين: وضع اليمين على الشمال سنة في الصلاة لقوله عليه السلام: «ثلاثة من سنن المرسلين تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة»، ولما نزل قوله تعالى: (فصل لربك وانحر). قال عليه السلام لجبريل: «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي». فقال جبريل عليه السلام: ليست هذه من نحائركم، وإنما هي وضع اليمين على الشمال في الصلاة تحت النحر. ثم السنة عندنا أن يأخذ كوعه الأيسر بكفه اليمنى. وقال أبو حنيفة: يضع كفه اليمنى على ظهر يده اليسرى. قال المزني: ويجعلها تحت صدره. قال القاضي حسين: هذه اللفظة لا توجد للشافعي، وإنما هي من جهة المزني رحمه الله لكنه حسن. وعند أبي حنيفة يضعها تحت السرة، وما قلنا أولى لحديث جبريل عليه السلام، إنما هي وضع اليمين على الشمال في الصلاة تحت النحر، وهو الصدر، ولأن ما قلناه أقرب إلى الخشوع وأبعد عن العورة فكان أولى.

قال المزني: ثم يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. قال القاضي حسين: إذا أتى بالتحريمة فالسنة أن يأتي بدعاء الاستفتاح والأولى عندنا قوله: وجهت وجهي للذي فطر إلى قوله: وأنا من المسلمين. وعند أبي حنيفة الأولى في دعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك. فإن أراد أن يأتي بقوله: وجهت وجهي، فالسنة عنده أن يأتي به قبل الشروع في الصلاة عند القيام واستقبال القبلة، واحتج بأنه محل الدعاء دون قراءة القرآن، وهذا قرآن. قلنا: ليس هذا بقرآن، لكنه يوافق نظم القرآن يدل عليه أنه يقول: وأنا من المسلمين، وفي القرآن وأنا أول المسلمين، وأيضًا، قل إن صلاتي وفي القرآن قل إن صلاتي، أيضا وأيضًا قال: حنيفًا وما أنا مسلمًا، وفي القرآن، حنيفا مسلمًا وما أنا من. وعندنا يستحب أن يجمع بينهما لكنه إذا أراد الاختصار اقتصر على الأول،

روى علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر يفتتح الصلاة بقوله: وجهت وجهي إلى آخره. وقد روى الشافعي زيادة في دعاء الاستفتاح، واستحب أن يأتي به مع ما ذكرناه، وذلك اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، عملت سوءا، وظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، المهدي من هديت، أنا

بك وإليك، لا ملجأ ولا ملتجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وقوله: الشر ليس إليك، لم يرد به أن الشر ليس من جهتك، وإنما أراد لا يتقرب بالشر إليك، روى هذا التفسير عن النضر بن شميل هذا إذا كان منفردًا، فإن كان إمامًا، فالمستحب أن يقتصر على الأول تخفيفًا على القوم. وقوله: سبحانك اللهم وبحمدك قال رضي الله عنه: يحتمل أن يكون معناه الحمد لله، حيث وفقتني

على التسبيح، ويحتمل أن يكون معناه، أحمدك وأشكرك على سبحتك، وروى أحمد والبيهقي أنه يقول بعده: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدرن، اللهم اغسلني. وفي رواية: اللهم اغسل لي خطاياي بالماء والثلج والبرد. وقال غيره من الفقهاء: إنه يدعو بهذا الدعاء الإمام بين قراءة الفاتحة والسورة. فرع المسبوق إذا كبر تكبيرة الافتتاح، والإمام في التشهد الأخير، فلما جلس سلم الإمام فقام ولا يسن له دعاء الاسفتاح، لأنه أمر به لافتتاح الصلاة ولما جلس مع الإمام ذهبا لافتتاح، ثم يقوم ويقرأ القرآن، ولو سلم الإمام قبل أن يجلس هو لا يجلس، بل يأتي بدعاء الاستفتاح، فلو أدرك الإمام في القيام في صلاة الجهر، فلما فرغ من تكبيرة الافتتاح، قال الإمام / ولا الضالين آمين، فقال هو أيضًا، عقيب تكبيرة الافتتاح، آمين، فعليه أن يأتي بدعاء الاستفتاح لأن قوله، آمين، دعاء لا يمنعه من الإتيان بدعاء آخر. قال المزني: ثم يتعوذ، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال القاضي حسين: فالسنة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومعناه، ألتجيء إلى الله وأعتصم به من الشيطان الرجيم، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه.

ويستحب أن يتعوذ هكذا. والأصل في التعوذ، ما روى أنه عليه السلام كان يقرأ سورة النجم، في صلاة الصبح، فلما بلغ قوله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألقى الشيطان في أمنيته أنه جرى على لسانه تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهم لترتجى، ففرح به المشركون، وقالوا إن محمدا أثنى على آلهتنا، فأنزل الله قوله تعالى وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، الاية، ونزل قوله تعالى فإذا قرات القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن أصحابنا من قال: إنما جرى على لسان النبي سهوًا، والصحيح أنه لم يجر على لسانه، لأنها كلمة الكفر، بل ألقى الشيطان في تلاوته. وقال أبو هريرة: يتعوذ بعد القراءة أخذا بظاهر القرآن، وعندنا معناه، فإذا أردت قراءة القرآن كقوله تعالى، إذا قمتم إلى الصلاة. أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقول القائل: إذا أتيتني فتطلس، أي إذا أردت أن تأتيني فتطلس. وهل يجهر بالتعوذ، أو يسر به، فقولان:

أحدهما: يسر به، وهو قوله الجديد، لأنه ذكر مشروع قبل الفاتحة كدعاء الاستفتاح. والثاني: يجهر به، وهو قوله القديم، لأنه ذكر مشروع بعد دعاء الاستفتاح كالفاتحة والتأمين. وهل يسن التعوذ في كل ركعة أو في كل ركعة الأولى؟ فوجهان. أحدهما: في كل ركعة، لأن القرآن في كل ركعة قراءة منفردة، وما تخلل من الأركان يقطع الأولى من الثانية. والثانية: يسن في الركعة الأولى لا غير، لأن القراءة في الصلاة كلها قراءة واحدة. ونص الشافعي يدل عليه، حيث قال: لو ترك القعود في الركعة الأولى يقضيه في الثانية، ولو كان في الثانية يسن على جهة الأصل لما سماه قضاء، والله أعلم بالصواب. قال المزني: ثم يقرأ مرتلا بأم القرآن. قال القاضي حسين: أي مفصلا مبينا من قولهم: ثغر رتل، إذا كان منفرجًا منفلجًا، ويكره ترك الترتل والإسراع في القراءة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسرع في القراءة، فقال: أهذا كهذا الشعر، أو قال: كهد الاعراب، وقد قال تعالى: ورتل القرآن ترتيلا، وقراءة الفاتحة متعينة في الصلاة لا يجزئه غيرها مع القدرة عليها.

وقال أبو حنيفة: لا تتعين، ثم له فيها روايتان:

إحداهما: يقرأ آية طويلة، أو ثلاث آيات قصار. والثانية: يكفيه أن يقرأ آية واحدة، وإن قصرت كقوله: ثم نظر، وقوله مدهامتان، وقال أبو حنيفة: السنة أن يقرأ الفاتحة، حتى لو تركها يلزمه سجود السهو. دليلنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج. ولأنه ركن في الصلاة، فوجب أن يتعين قياسًا على سائر أركانها، وقد قالوا: لو نسي الفاتحة، وقرأ ثلاث آيات ثم ركع فتذكر في الركوع أنه نسي الفاتحة عليه أن يعود إلى القيام، ويقرأ الفاتحة، وهذا من أقوى الأدلة لنا عليهم.

قال المزني: ويبتدئها بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بأم القرآن وعدها آية. قال القاضي حسين: التسمية عندنا آية من الفاتحة وهل هي آية من كل سورة من سائر السور؟ فعلى قولين. ومن أصحابنا: من قال: القولان في أنها أثبت في رأس كل سورة للفصل، أو لكونها قرآنا، فأحد القولين، أنها للفصل. والثاني: تكون قرآنا في رأس كل سورة. وعند أبي حنيفة هي ليست من القرآن إلا في سورة النمل، فإنها تكون نصف آية منها، ولا خلاف في أنه لا يكفر جاحدها، لأن التكفير نتيجة الإجماع، ولا يظهر الخلاف مع أبي حنيفة في وجوب قراءتها في الصلاة، لأن عند أبي حنيفة قراءة الفاتحة لا تجب في الصلاة، وإنما يظهر الخلاف معه في الجهر، فعندنا يجهر بالتسمية، لأنها من الفاتحة، وعند أبي حنيفة لا يجهر بها بل يسر، وظهر الخلاف مع مالك في وجوب القراءة، فإنه يقول: قراءة الفاتحة واجبة، والتسمية ليست من الفاتحة، ثم إثبات التسمية طريقة طريق القطع، أو طريق الحكم؟ فعلى وجهين: أحدهما: طريقه طريق القطع،، فعلى هذا لا يجوز إثباته بأخبار الآحاد، بل بإجماع الصحابة على كتابتها بين السورتين بعلم القرآن وخبره وخطه في مواضع كثيرة، ولو لم تكن من القرآن لما أثبت فيه، ولكانوا يعترضون على مثبتيه فيه، لأنهم كانوا أحوط في دين الله من أن يثبتوا غير القرآن في القرآن على نسق واحد. والثاني: طريقه طريق الحكم، فعلى هذا يثبت بأخبار الآحاد، وفيه أخبار

منها ما روى العلاء بن عبد الرحمن عبد أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاتحة الكتاب سبع آيات إحداهن، بسم الله الرحمن الرحيم. وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فاتحة الكتاب، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وعدها آية، ووافقنا أبو حنيفة في أن الفاتحة سبع آيات إلا أنه يجعل الآية السابعة من قوله، (غير المغضوب) إلى آخرها، وعندها من قوله: (صراط الذين) إلى آخرها، وما قاله غير صحيح؛ لأنه قوله: (غير) كلمة استنثاء، ولا يبتديء بها الآية، إلا أن توجد كلمة الاستثناء في أول الآية كقوله تعالى: (إلا آل لوط)، وغيره موجود في القرآن. فإن قيل: لو كان هذا من القرآن لكفر جاحده، قلنا: لو لم يكن من القرآن لكان يكفر مثبتها، وحكى القفال عن أبي نصر المؤذن أنه قال: اتفق قراء الكوفة على أن التسمية آية من الفاتحة، واتفق قراء المدينة على أنها ليست بآية من الفاتحة، واتفق قراء (المدينة) على أنها ليست بآية من الفاتحة، واتفق فقهاء المدينة على أنها آية من الفاتحة. فصل: الترتيب في آي الفاتحة يشترط فلو ترك بسم الله الرحمن الرحيم حتى قرأ الفاتحة أو بعضها لم يحسب له ما قرأ حتى يرجع إلى التسمية فيقرؤها، ويستأنف الفاتحة، وجملة ما يلزمه فيها سبعة أشياء: أحدها: أن يعتقد فيها الفرضية، وكون التسمية فيها، والترتيب في آيها،

ومراعاة النظم حتى لو أتي بها بلسان آخر لا يجوز، ويأتي بالموالاة، حتى لو سكت سكوتًا طويلاً لا يعتد به، فيأتي فيها أربعة عشرة تشديدة، وألا يدخل في خلالها ما ليس منها، ولو كرر آية واحدة منها لا يضره، وحد القراءة أن يتلفظ بالحروف ويسمع نفسه، فإن لم يسمع نفسه ففكره، وليست بقراءة فلا يجزيء. فأما إسماع الغير ليس بشرط في موضع الإسرار بل هو مكروه. حكى عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: ما ناظرت عاميًا إلا وقد غلبني إلا في هذه المسألة، فإنه قال أعرابي بـ (بغداد)، أنت تقول: يقرأ بحيث يسمع نفسه، وأنت تقرأ في الصلاة ولا أسمع قراءتك، فقلت له، أنا قد قلت: يقرأ ويسمع نفسه، ونفسك ليست بنفسي فسكت. فأما إذا قرأ شيئًا آخر من القرآن في خلال الفاتحة. قال الشافعي: إن كان متعمدًا انقطع النظم، وعليه أن يستأنف الفاتحة، وإن كان ساهيًا بني ورجع إلى الموضع الذي قطع، هذا إذا قطع ولم يتلفظ بحرفين، فإن تلفظ بحرفين بعد الذكر انقطع النظم، وعليه الاستئناف، ولو سكت في خلال الفاتحة إن كانت سكتة يسيرة للاستراحة لم يضره، وإن طال ذلك انقطع النظم، هذا إذا سكت متعمدًا. فأما إذا سكت ناسيًا نص الشافعي على أنه إن طال سكوته بني على القراءة، ولو نوي القطع إن جرى مع هذه النية على سرد قراءته لغت نيته، وإن سكت انقطع النظم ويستأنف، لأنه اتصل قطع القراءة بنية القطع فانقطع النظم، نظيره إذا جلس في الركعة الأولى على تقدير أنه في الثانية ليتشهد، ثم تذكر أنه لم يزد على جلسة الاستراحة، ولم يكن أخذ في قراءة التشهد لا يلزمه سجود السهو، وإن كان قد أخذ في قراءة التشهد سجد للسهو، لأنه اتصل به القراءة، فمنعت حملها على جلسة الاستراحة. ونظيره المودع ينوي استعمال الوديعة والتعدي فيها، فلا يضمن بمجرد النية، فإن نقلها إلى مكان آخر مع النية دخلت في ضمانه قبل الاستعمال؛ لأن فعله

انضم إلى نيته، ولو كا مقتديًا بالإمام، فقرأ إمامه الفاتحة وهو في خلالها، فأمن أو أرتجت القراءة على إمامه، ففتح عليه، ولقنه، أو سجد للتلاوة، فتابعه في السجود، أو قرأ أمامه بآية رحمة فسألها، او آية عذاب فاستعاذ، لم ينقطع به نظم الفاتحة. ومن أصحابا من قال: انقطع به نظم القراءة، فأما إذا أرتج على غير إمامه فلقنه، أو عطس هو أو غيره فشمته، أو سلم عليه، فقال: وعليه السلام، أو أجاب المؤذن فإنه تبطل قراءته، والفرق أن هذه ليست من مصلحة صلاته بخلاف ما قبله، فإن ذلك من مصلحة صلاته، وهذا ما لو قال: بعتك داري هذه بألف، وارتهنت عبدك هذا منك، فقال: اشتريت ورهنت يجوز، وإن وجد أحد مصراعي عقد الرهن قبل وجوب الثمن؛ لأنه مصلحة العقد، وبمثله لو قال لعبده: كاتبتك على ألف منجم بنجمين، وبعتك عبدي هذا، فقال العبد: قبلت الكتابة والبيع، لم يجز، لأن بيع العبد ليس من مصلحة الكتابة، ولو لحن في الفاتحة إن [كان] لحنًا يحيل المعنى إن تعمده بطلت صلاته، لأنه كلام عمد، وإن كا ساهيًا سجد للسهو، وينقطع به نظم الفاتحة، وإن كان غير قادر على الصواب، فهو الأمي الذي تصح صلاته قبل إمكان التعليم، وإذا مضى زمان إمكان التعليم، ولم يتعلم يعيد ما صلى بعده، ولو كان لحنًا لا يغير المعنى، مثل أن يقول: الهمد لله بدل الحمد، أو خفض مرفوعًا أو منصوبًا مثل أن يقول: اهدنا الصراط المستقيم بالخفض، أو رفع مخفوضًا مثل أن يقول: الرحمن الرحيم لم تبطل صلاته. فرع لو شك في القيام أنه قرأ الفاتحة أم لا؟ فصبر ساعة وسكت حتى تذكر أنه هل قرأ أم لا؟ جاز، ومثله في الركوع شك أنه هل قرأ الفاتحة أم لا؟ لزمه في الحال أن يعود إلى القيام، وكذا في السجود لو شك أنه هل ركع أم لا؟ عليه

أن يعتدل قائمًا ثم يركع، لأنه هوية إلى السجود كان غلطًا، ولو صبر في السجود ساعة كي يتذكر تبطل صلاته. والفرق بين القيام والركوع والسجود أن في أحد محتمليه أنه ليس عليه الركوع ولا السجود، وهناك في كل محتمليه، فالقيام عليه واجب، وهو في القيام الواجب يعد حتى لو عاد إلى القيام من السجود، ثم يفكر ساعة لا يضر. فرع إمام نسي السجدة الأخيرة فقام، والمأموم يسجد ولم يعد، فعلى المأموم في الحال أن يخرج نفسه من متابعته، ويشتغل بالسجود حتى لو سجد، ولم يخرج نفسه من متابعته بطلت صلاته، ولو صبر كي يعود إليه الإمام أيضا تبطل صلاته، لأن الجلسة بين السجدتين ركن مقصود لا يحتمل التطويل. قال المزني: فإذا قال: ولا الضالين، قال: آمين، فيرفع بها صوته، ليقتدى به من خلفه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أمن الإمام، فأمنوا، وبالدلالة عن رسول الله صلىى الله عليه وسلم، أنه جهر بها، وأمر الإمام بالجهر بها. قال الشافعي: رحمه الله وليسمع من خلفه أنفسهم. قال القاضي حسين: قوله: آمين لا يصله بالقراءة، بل يفصله عنها بقدر يسير، لأنه ليس من القرآن، وإنما هو دعاء، ومعناه: اللهم اسمع واستحب وهو مخفف، ويجوز ممدودًا ومقصورًا، ولا يجوز بالتشديد، وهو أول لحن سمع من الحسين بن فضل البلخي لما دخل خراسان.

ثم الإمام يجهر بالتأمين على الصحيح من المذهب لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: ولا الضالين، يقول: آمين يرفع بها صوته، وفي المأموم قولان: أحدهما: وهو قوله الجديد أنه يجهر بها. والثاني: وهو قوله القديم يسر بها، وعند أبي حنيفة يسر بالتأمين الإمام والمأموم، وربما يقولون الإمام لا يؤمن، وإنما يؤمن المأموم ويسر به. دليلنا: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أمن الإمام أمنت الملائكة، فأمنوا فمن وافق تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. وروى أنه عليه السلام كان إذا قال: ولا الضالين، أمن وأمن الناس، حتى إن للمسجد لضجة أو لرجة أو للجة، وأما المنفرد فيسر به كما بالفاتحة،

قال المزني: ثم يقرأ بعد أم القرآن بسورة. قال القاضي حسين: فالسنة إذا فرغ من قراءة الفاتحة أن يقرأ سورة، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها. فلو قرأ السورة قبل الفاتحة لم يحسب. وقال الشافعي نصًا، أستحب له أن يعيد السورة بعد الفاتحة هذا في الركعتين الأوليين وفي الأخيريين قولان: أحدهما: قرؤها كما في الأوليين. والثاني: لا؛ لأن مبناهما على التخفيف بخلاف الأوليين هذا كله في المنفرد والإمام، فأما المأموم ما حكم قراءته؟ سنذكره فيما بعد إن شاء الله عز وجل.

فرع فلو قام على إحدى قدميه، قال رضي الله عنه: ينبغي أن يجوز لوجود القيام، ولو طأطأ رأسه قليلا لم يضر؛ لأنه من الخشوع والخضوع، ولو حنى ظهره بحيث بلغ هيئة الراكعين، أو قربًا منها لم يجزه، لأنه ليس بقائم في هذه الحالة. قال المزني: فإذا فرغ منها، وأراد أن يركع، ابتدأ التكبير قائمًا، فكان فيه، وهو يهوي راكعًا، ويرفع يديه حذو منكبيه، حين يبتديء التكبير، ويضع راحتيه على ركبتيه، ويفرق بين أصابعه، ويمد ظهره وعنقه، ولا يختفض عنقه عن ظهره، ولا يهوي راكعًا، ويرفع يديه حذو منكبيه، حي يبتديء التكبير، ويضع راحتيه على ركبتيه، ويفرق بين أصابعه، ويمد ظهره وعنقه، ولا يخفض عنقه عن ظهره، ولا يرفعه ويكون مستويًا ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال. قال القاضي حسين: الركوع ركن في الصلاة،، وإذا ركع فالسنة أن يكبر وكذلك في كل انتقال من ركن إلى ركن، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكبر في كل خفض ورفع، ثم السنة أن يمد التكبير إلى أن يهوي إلى الركوع أو يجزمها جزمًا فعلى قولين:

أحدهما: وهو قوله الحديث، وهو الأظهر يمده إلى أن يهوي إلى الركوع حتى لا يخلو جزء من أجزاء الصلاة عن الذكر.

والثاني: وهو قوله القديم يجزم التكبير جزمًا لقوله عليه السلام: التكبير جزم، والتسليم جزم. ويرفع يديه مع التكبير، وقال أبو حنيفة: لا يسن رفع اليدين في الصلاة إلا عند الافتتاح، لنا ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في ثلاثة مواضع: إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ويهوي بحيث لو أراد أن يضع يديه على ركبتيه لنالت يداه ركبتيه، هذا هو الواجب، ولا يجب وضع اليدين على الركبتين، بل هي سنة، ويفرق بين أصابعه ويجافي مرفقيه عن جنبيه، روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع يجافي مرفقيه عن جنبيه، بحيث لو لم يكن عليه ثوب ترى عفرة إبطيه، ويسوى بين ظهره وعنقه، لا يخفض عنقه ورأسه عن ظهره، ولا يرفعها. روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع يسوى ظهره وعنقه، وبحيث لو وضع قدح ماء على ظهره ما انصب، أو قال: لم ينصب. والطمأنينة ركن في الركوع، وذلك أن يبقى لحظة بعد هويه إلى حال، تنال يداه ركبتيه، خلافاً لأبي حنيفة لنا حديث الأعرابي الذي أساء الصلاة، روى أن أعرابيًا دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وأساء الصلاة، ثم جاء وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد الجواب، ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى ثم عاد وسلم عليه، فرد عليه الجواب، ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فقال الأعرابي: لا أحسن غير هذا، فعلمني ما يجزيني، فقال عليه السلام: توضأ كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة، ثم قل: الله أكبر،

ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل كذلك في كل ركعة. فالشافعي رحمه الله جعل حديث الأعرابي، وحديث أبي حميد الساعدي حين وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إمامًا في الصلاة، ثم السنة أن يسبح الله تعالى في الركوع، ويقول: سبحان ربي العظيم. وروى أنه لما نزل قوله تعالى: (فسبح باسم ربك العظيم) قال عليه السلام: (اجعلوها في ركوعهم)، ولما نزل قوله تعالى/ (سبح اسم ربك الأعلى)، قال عليه السلام: (اجعلوها في سجودكم). وروى أنه قال عليه السلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم)، ثم السنة أن يسبح ثلاثًا. قال الشافعي: ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وذلك أدني الكمال، ولم يرد به أنه لا يجزئ أقل من الثلاث، لأنه لو سبح مرة أو مرتين، كان آتيا بسنة التسبيح، وإنما أراد أن أول الكمال هو الثلاث.

قال عليه السلام: (إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل، سبحان ربي الأعلى ثلاثًا وذلك أدناه)، أراد به أدنى الكمال، وأول الكمال، ولو سبح خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو أحد عشر كان أفضل وأكمل، غير انه إذا كان إماما فالسنة ألا يزيد على الثلاث مراعاة لمن خلفه، وقد ورد في الخبر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري وعظامي وعصبي وشعري وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين. ويستحب أن يجمع بينهما للمنفرد دون الإمام، ولو أراد الاختصار اقتصر على الأول، ولو قال: سبحان ربي العظيم وبحمده فحسن، ويروى ذلك في الأخبار ومعناه الحمد لله على ما وفقني للتسبيح أو معناه أحمده مع تسبيحي له، وتسبيحات الركوع والسجود غير واجبة عندنا، والأخبار محمولة على بيان الكمال، والمستحب عن أحمد بن حنبل رحمه الله هي واجبة، واحتج بأنه ركن في الصلاة، فوجب أن يكون فيه ذكر مشروع كالقيام. دليلنا: حديث الأعرابي الذي أساء الصلاة، فعلمه عليه السلام ما يجزيه،

ولم يأمره بالتسبيحات، وليس كالقيام، لأنه ينقسم إلى العادة والعبادة، فاحتاج فيه إلى ذكر لامتياز العادة عن العبادة، بخلاف الركوع، والسجود، فإنه عبادة محضة، ولا تشترك فيه العادة، لأنه لا يجوز السجود للمخلوقين. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو جاز لمخلوق أن يسجد لمخلوق، لجاز للمرأة أن تسجد لزوجها). وروى أن أعرابيًا، أتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني آمنت بك فأرني علامة أزداد بها إيمانا، فقال له النبي عليه السلام: اذهب إلى تلك الشجرة، وقل لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوك. فذهب إليها وأدى الرسالة، فجعلت الشجرة تتحرك يمنة ويسرة حتى انقلعت من الأرض، وجعلت تجر الأرض حتى أتت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: عليه السلام للاعرابي، قل لها: ارجعي إلى مكانك، فقال: فرجعت إلى مكانها، وثبتت كما كانت، قال: فجاء الأعرابي، وقال ائذن لي رحمك الله حتى أقبل رأسك فإذن له: فقبل رأسه، ثم قال: ائذن لي حتى أقبل يدك فأذن له، فقبل يده، ثم قال: ائذن لي حتى أسجد لك، فقال عليه السلام: لو أذنت لمخلوق أن يسجد لمخلوق، لأذنت للمرأة أن تسجد لزوجها.

فرع لو نسي تسبيحات الركوع والسجود حتى اعتدل قائمًا لم يجز له أن يعود إلى الركوع لأجلها، لأنه فرض، والتسبيحات سنة، ولا يجوز قطع الفرض بسبب السنة، كما لو قرأ آية السجدة فهوى ليسجد، فلما بلغ حد الركوع، توقف راكعًا لا يقع ذلك عن الركوع، لأن هويه كان نفلا والركوع فرض، فلو عاد إن كان عالمًا بطلت صلاته، لأنه زاد ركوعا، ولو كان ناسيًا لم تبطل، وعليه سجود السهو، ولو أدركه مسبوق في هذه الحالة لا يصير مدركًا للركعة، لأن هذا الركوع غير محسوب له، ولو ادرك الركعة الخامسة التي قام الإمام ساهيًا إليها، فصلاها معه حسب له ركعة. والفرق أن هناك يأتي بالركعة فحسب له فعله وفيما نحن فيه هذا فعل إمامه، وفعل الإمام غير محسوب للمأموم فلم يكن محسوبًا له. نظيره أن لو أدرك الإمام في الركوع في الركعة الخامسة لا يصير به مدركًا للركعة، وإنما يدرك المسبوق الركعة إذا هوى في الكوع، واجتمع مع إمامه في الحالة التي لو أراد كل واحد منهما أن يضع يديه على ركبتيه لنالت يداه ركبتيه فإن كان هو في الهوى، والإمام في الارتفاع لم يصر مدركًا للركعة، لأنه لم يدركه في الركوع. قال المزني: وإذا أراد ان يرفع، ابتدأ قوله مع الرفع: (سمع الله لمن حمده) ويرفع يديه حذو منكبيه، فإذا استوى قائمًا قال أيضًا: (ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد) ويقولها من خلفه، وروى هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هوى ليسجد، ابتدأ التكبير قائمًا، ثم هوى مع ابتدائه، حتى يكون انقضاء تكبيره مع سجوده، فأول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، ويكون على أصابع رجليه، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى: ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال، ويجافي مرفقيه عن جنبيه،

حتى إن لم يكن عليه ما يستره، رئيت عفرة إبطيه، ويفرج بين رجليه، ويقل بطنه عن فخذيه، ويوجه أصابعه نحو القبلة. قال القاضي حسين: إذا فرغ من الركوع واعتدل قائمًا وهما ركنان عندنا، وقال أبو حنيفة: الاعتدال ليس بركن، ثم اختلفوا فيه. فمنهم من قال: يهوي من الركوع إلى السجود فيجوز. ومنهم من قال: يرفع رأسه من الركوع، بحيث يكون أقرب إلى القيام منه إلى الركوع. دليلنا: حيث الأعرابي الذي أساء الصلاة، وتبتدأ مع الرفع. قوله: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه حذو منكبيه، وإذا استوى قائمًا يقول: ربنا لك الحمد، إمامًا كان أو مأمومًا أو منفردًا. ومعنى قوله: سمع الله لمن حمده، أي: قبل الله حمد من حمده. وقال أبو حنيفة: الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، والمأموم يقول: ربنا لك الحمد، ويجمع المنفرد بينهما، واحتج بأنه دعاء وسؤال من الله تعالى قبول الحمد، فينوب فيه الإمام عن المأموم، ولو كان كما قال لوجب أن يبدأ المأموم بقوله: ربنا لك الحمد، ثم الإمام يقول: سمع الله لمن حمده. دليلنا: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: سمع الله لمن حمده وإذا قال: ربنا لك الحمد، فتلك بتلك. وروى عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع، قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد.

وفي بعض الروايات: ملء السموات والأرض وما بينهما. وفي رواية: أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد. وروى حق ما قال العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. منهم من قال: لا يفع ذا النسب في الدنيا نسبه في الآخرة. ومنهم من قال: معناه لا ينفع ذا الحظ في الدنيا، حظه في العقبي. وقيل: الجد منك، الجد بالخفض، والأصح أنه بالنصب على التفسير الذي ذكرنا. ويروى: أهل الثناء والمجد، على جهة النداء. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: سمع الله لمن حمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال عليه السلام: رأيت عدة من الملائكة يكتبون ما قلت. وفي رواية يبتدرون بالثواب، يعني بكتب الثواب. فرع لو أن رجلا في الاعتدال، تذكر أنه ترك الركوع، أو شك، هل تركه؟ عاد إلى الركوع، فلو ثبت على حالته، ولم يعد لحظة، بطلت صلاته،

ولو أطال القيام في الاعتدال بطلت صلاته، لأنها قومة قصيرة، فلا يجوز أن يمدها. قوله: فإذا هوي ليسجد ابتداء التكبير قائمًا. الركن بعد الاعتدال قائمًا في الركوع، هو السجد فيهوي إلى السجود مكبرًا، وهل يمد التكبير إلى أن يهوي إلى السجود، أو يجزمه جزمًا فعلى قولين كما ذكرنا، ولا يرفع اليدين، وأول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم يداه ثم جبهته وأنفه. وقال أبو حنيفة: أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم يداه، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم فلا يبرك بروك البعير. دليلنا: ما روى ابن عمر أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتقديم الركبتين على اليدين. وعن مصعب بن سعد، أنه قال: كنا نقدم اليدين على الركبتين، فأمرنا بتقديم الركبتين على اليدين، ولأن الركبتين أول معاطف من الأرض، فوضعهما على الأرض أولا أحسن من أن يتهافت على الأرض. وقوله عليه السلام: فلا يبرك بروك البعير، حجتنا، فإن البعير يبدأ بوضع اليدين، إلا أن ركبتيه في يديه، ويجب وضع الجبهة على الأرض عندنا. وقال أبو حنيفة: لا يجب وضعها على الأرض، ولو وضع الأنف جاز. وقال أبو يوسف: إن كان بجبهته علة، وضع الأنف على الأرض، وإلا وضعها على الأرض، وعندنا إذا كان بجبهته علة يدنيها من الأرض، ولا يجزيه وضع الأنف على الأرض.

دليلنا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرباح مولى ابن عباس: مكن جبهتك من الأرض، ولو كان به صداع، لا يمكنه أن يضع جبهته على الأرض، ولكن لو وضع وسادة، يمكنه أن يضع جبهته عليه، ولا يخرج بوضع جبهته عليه من حد السجود يجب عليه وضع الوسادة، وهل يجب وضع اليدين على الأرض؟ فعلى قولين: أحدهما: يجب كالجبهة، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أسجد على سبعة اعضاء، وفي رواية: على سبعة أعظم، وفي رواية: على سبعة آراب، اليدان، والركبتان، والقدمان، والجبهة، وأمرت ألا أكف شعرًا ولا ثوبًا، وفي رواية لا أكفت شعرا ولا ثوبًا. ومعناه: لا يضم الرجل شعره في الصلاة ولا ثوبه. والقول الثاني: لا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رباح أمر بوضع الجبهة، وخص الجبهة بالذكر.

فأما وضع الركبتين على الأرض، مرتب على وضع اليدين، وها هنا أولى بألا يجب، لأنه أبعد عن المسجد، وكذا وضع القدمين، مرتب على وضع الركبتين. وإن قلنا: وضع هذه الأعضاء على الأرض، لا يجب، فلا كلام. وإن قلنا: يجب، فهل يجب كشفها؟ أما الركبتان، فلا يجب كشفهما، ولا يجوز لقربهما من العورة، والقدمان كذلك، لاستتارهما غالبًا، وفي اليدين قولان: أحدهما: لا يجب كشفهما لأنهما يكونان مستورتين في الغالب. والثاني: يجب، روى عن خباب بن الأرت، أنه قال: شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا، أي لم يزل شكوانا، ولم يرخص لنا فيه. وعلى المذهب لا خلاف في أنه يجب كشفه الجبهة، وأن يمس مسجده بجبهته، ولو سجد على كور العمامة لا يجوز، وكذلك ما يرتفع بإرتفاعه وينخفض بانخفاضه، لا يجوز أن يسجد عليه، مثل أن يسجد على ذيله، أو ثوبه، أو على طرف عمامة طرفها الآخر في رأسه، سواء كان يتحرك أو لا يتحرك أو كان قد عصب رأسه بعصابة أو كان أغمر يستر الشعر جبهته، فلا يجزيه حتى يلصق الجبهة بالأرض، ويباشرها بها.

وقال أبو حنيفة: إذا سجد على كور العمامة أو كمه، أو ذيله جاز. ودليلنا حديث خباب بن الأرت، ونقيس على ما لو سجد على كفه إلا أنهم يقولون: لو وضع الكف على الأرض وسجد عليها، جاز وإنما لا يجوز إذا رفعها وسجد عليها، هذا إذا لم يكن بعض جبهته مكشوفًا. فأما إذا كان بعض جبهته مكشوفًا، بحيث إذا وضع ذلك القدر على الأرض كان من جملة الساجدين جاز، لأنه لا يجب وضع جميع الجبهة على الأرض، بل يجب وضع القدر الذي يدخل به في حد الساجدين، وإنما يدخل في حد الساجدين أن يتحامل على الأرض بثقل ظهره ورأسه، ووضع الجبهة عليها، فلو سجد على مكان رخو، مثل أن يسجد على القطن والحشيش إن تحامل عليه، بحيث يلاصقه، أجزأه وإلا فلا، لأنه ليس بوضع وإنما هو مس ولو سجد على ظهر إنسان، أو مكان آخر مرتفع، فإن كان الارتفاع قليلاـ، بحيث أنه يعرف ساجدًا لا يضره، وإلا فلا يجوز له والحد فيه ينبغي أن يكون أعالي بدنه

دون أسافل بدنه في حال السجود؛ لأن حد السجود أن يعتمد بجبهته على مسجده، متحاملا عليه بثقل عنقه ورأسه وأن يكون أسفل بدنه عاليا، ولو سجد على مكان رخو، ولم يتحامل عليه، أو سجد على كفاه لا يحتسب سجوده. فلو رفع رأسه وأتى بسجدتين، نظر إن كان عالمًا بأنه لا يجوز ذلك، وفعله متعمدًا، قال: ينبغي أن تبطل صلاته، ولو كان جاهلا بذلك لا تبطل صلاته، ولو سجد على مكان خشن، بحيث يجرح جبهته، فرفع رأسه عنه ووضعه مكان آخر، تبطل صلاته، وإن تزحف من ذلك الموضع إلى موضع آخر، لا تبطل صلاته، ولو وضوع جبينه على الأرض، قال رضي الله عنه: لا يجوز، لأن الجبهة لا تنطلق عليه، وإنما هو أمر بوضع الجبهة على الأرض. فرع لو أنه رأى في خلال الصلاة ورقة ملتصقة بجبهته، وتيقن أنها لم تكن حال الشروع في الصلاة، يأخذ بأسوأ الأحوال، وهو أنها التصقت بجبهته في السجود الأول، فيجزيه السجود الأول، لأنه يسجد على ورقة على الأرض، وعليه إعادة ما بعده، لأنه لم يماس المسجد بالجبهة، بل سجد على متصل به. قال القاضي رضي الله عنه: إذا شعر بها لا يخلو إما أن يكون بعد هو في الصلاة أو بعد السلام، فإن كان قد سلم عن الصلاة، فرأى في جبهته ورقة، إن لم يضع على الأرض بعد السلام، إن كان الفصل قريبًا، يبنى على صلاته، كما ذكرنا، وإن طال الفصل حكمه حكم ما لو شاء أنه ترك ركنًا من أركان الصلاة.

وفيه قولان: في الجديد يستأنف الصلاة، كذا ها هنا يعيد الصلاة. وفي القديم: الأمثل صحة الصلاة، كذا ها هنا لاحتمال أنه التصق بجبهته في السجدة الأخيرة، وبقيت صلاته على الصحة والسداد، وإن كان يسجد هو بعد الفراغ من الصلاة سجدة التلاوة، أو وضع جبهته على الأرض، لا شيء عليه كما لو صلى، ثم بعد الفراغ منه رأي على ثوبه نجاسة لا يؤمر بقضاء الصلاة، لاحتمال أن النجاسة أصابته بعد الفراغ من الصلاة، كذا ها هنا طال الفصل أو لم يطل. فرع ولو هوى من القيام، فخر على الأرض، وسقط على خده. قال الشافعي رحمه الله: إن وضع الجبهة على الأرض بنية الاعتماد لم يحسب عن سجوده، والسنة أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، بحيث لو لم تكن سترة، ترى عفرة إبطيه، روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعفرة الإبطين، سوادهما، إلا إنه يكني عنه بالعفرة، كما يقال للحبشي، أبو البيضاء، ويقل بطنه عن فخذيه. روى أنه عليه السلام كان إذا سجد خوى. والتخوية: إقلال البطن عن الفخذين، ويسجد على أصابع رجليه، فيتصبهما، ويفرج بين رجليه، بحيث لو أرادت شاة أن تنفذ بينهما لنفذت.

وقوله: ويوجه أصابعه نحو القبلة. قال القاضي حسين: قيل: إنه من زيادات المزني، لأنه إذا وجهها نحو القبلة، لا يمكنه أن ينصبها، ويسجد عليها. ويسبح لله تعالى، في السجود، كما قلنا في الركوع، ويقول: سبحان ربي الأعلى ثلاثا، وذلك أدني الكمال. وروى أنه عليه السلام قال في سجوده، اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فلو جمع بينهما، فحسن، ولو اقتصر على أحدهما، فعلى الأول اولى. وروت عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سجوده، في ليلة البراءة: سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي، وهذه يداي التي جنيت بهما على نفسي يا عظيم يا رجاء كل عظيم، اغفر لي الذنب العظيم، فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا الرب الكريم ثم رفع رأسه وسجد ثانيًا، وقال فيه: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أقول ما قال أخي داود: أغفر وجهي في التراب لسيدي وحق لسيدي أن تعفر له الوجوه، فلو قال غيره في صلاته، هذا، أقول ما قال أخي داود بطلتـ، لأنه خطاب آدمي، والرسول عليه السلام لعله لم يكن في الصلاة.

ولو شك في سجوده، هل ركع أم لا؟ عاد إلى الركوع فإن لم يعد بطلت صلاته. قال المزني: ثم يرفع مكبرًا كذلك، حتى يعتدل جالسًا على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمني، ويسجد سجدة أخرى كذلك، فإذا استوى قاعدًا، نهض معتمدًا على الأرض بيديه حتى يعتدل قائمًا، ولا يرفع يديه في السجود، ولا في القيام من السجود. قال المزني: إذا فرغ من السجود الأول رفع رأسه من السجود، وجلس حتى يعتدل جالسًا، والجلسة بين السجدتين ركن عندنا.

وقال أبو حنيفة: ليست بركن، ثم اختلفوا. فمنهم من قال: يرفع رأسه، بحيث يمر حد السيف بين جبهته، وبين الأرض. ومنهم من قال: يرفع رأسه، بحيث يكون أقرب إلى الجلوس منه إلى السجود، ثم يفترش في هذه الجلسة عندنا. والافتراض أن يبسط رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمني، ولو أطال هذه الجلسة بطلت صلاته؛ لأنها جلسة خفيفة، فلا يجوز مدها، فالشافعي لم يذكر دعاء الجلوس بين السجدتين، وقد روى على رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في جلوسه بين السجدتين، اللهم اغفر لي وعافني وارزقني واجبري. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني واهدني، وعافني وارزقني، ثم يسجد سجدة أخرى مثل الأولى، ثم يرفع رأسه ويجلس للاستراحة جلسة خفيفة، ثم يعتمد بيديه على الأرض حتى يستوي قائمًا، كذا نقل المزني. وفيه قول آخر أنه لا تسن جلسة الاستراحة، وبه قال أبو حنيفة، والمذهب هو الأول رواه أبو حميد الساعدي.

وعن ابن عباس أنه قال: كان سجود النبي صلى الله عليه وسلم وجلوسه بين السجدتين قريبًا من السواء، ويفترش أيضا في هذه الجلسة.

ومتى يبتديء تكبيرة الانتقال؟ فأوجه: أحدها: يبتديه مع رفع الرأس من السجود، ويمتده إلى أن يقوم حتى لا يخلو جزء من الذكر. والثاني: يبتديه من الرفع، ثم يقوم غير مكبر. والثالث: يرفع غير مكبر، ثم يقوم مكبرًا، وللشافعي رحمه الله، ما يدل عليه في صلاة العيدين، لأنه قال: ويكبر في الركعة الأولى سبعًا سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الركعة الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام من الجلوس، أضاف التكبير إلى القيام، ومن قال بالأولين أول نص الشافعي، وقال: إنما أضاف إلى القيام لقربه من الجلوس،، ولا خلاف في انه لا يكبر تكبيرتين: تكبيرة القيام، وتكبيرة للرفع، ولا تسن جلسة الاستراحة في سجود التلاوة، بخلاف سجود الأصل.

قال المزني: ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك، ويجلس في الثانية، على الرجل اليسرى، وينصب اليمني، ويبسط يده اليسرى، على فخذه اليسرى. قال القاضي حسين: الركعة الثانية كالأولى، إلا أنه لا يجب فيها تجديد التحريمة والنية، وبل يشمل عليها النية الأولى، ولا يسن التعوذ على أحد الوجهين، وهذا النص يدل على أنه يسن التعوذ في الركعة الثانية، كما في الأولى، ولا يسن فيها دعاء الاستفتاح، ويقرأ فيها مثل قراءته في الأولى لا تغاير بينهما في قدر ما يقرأ، بل يسوى بينهما.

فصل ويجلس في الثانية على رجله اليسرى. إذا كانت الصلاة ذات أربعة أو ثلاثة كالمغرب، تشهد في الثانية، وهو سنة عندنا. وقال أحمد: التشهد الأول وجب كالأخير، ووافقنا في أنه إن تركه ساهيًا، لا يمنع الاحتساب بالصلاة. دليلنا: ما روى عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي الظهر أو العصر: فسبحنا فلم يعد، فلما كان في آخر صلاته انتظرنا تسليمه فسجد سجدتين ثم سلم. ولأنه لو كان ركنًا، لكان تركه ساهيًا يمنع الاحتساب كسائر الأركان. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هل يسن في التشهد الأول، فعلى قولين، وهو الجديد: يسن، قال الله تعالى: ورفعنا لك ذكرك. قيل: معناه: لا أذكر إلا وتذكر معي. والثاني: وهو القديم، لا يسن، ولو ترك هذا التشهد إن كان ساهيًا سجد للسهو، وإن كان عامدًا فعلى وجهين:

أحدهما: لا يسجد، لأنه سجود مضاف إلى السهو، يلقب به، ولا سهو. والثاني: يسجد؛ لأنه لما سجد للسهو، فلما تعمد أولى، وإذا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقلنا: إنه يسن على قوله الجديد، فحكمه حكم التشهد في سجود السهو، والصلاة على آل النبي عليه السلام، على القول الذي يقول: تسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل تسن أم لا؟ يحتمل وجهين بناء على وجهين الوجوب في التشهد الأخير في الصلاة على الآل، فلو قام إلى الثالثة، فترك التشهد الأول إن كان قد اعتدل قائمًا لم يعد وإن عاد عالمًا بطلت صلاته، لأن القيام فرض، والتشهد سنة فلا يجوز قطع الفرض بالسنة. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: يعود، لأن عنده التشهد الأول واجب كالثاني وإن لم يعتدل قائمًا إن كان أقرب إلى الأرض بأن لم تنتصب ساقاه عاد، وليس عليه سجود السهو، وإن انتصب ساقاه يعود وسجد للسهو، ويفترش في هذه الجلسة عندنا، ولو أطال التشهد الأول يكره، روى ان عليه السلام كان يقوم من التشهد الأول كأنه على الرضف. قال رضي الله عنه: ويجب أن تبطل صلاته؛ لأنها جلسة خفيفة، كالجلسة بين السجدتين، ويحتمل ألا تبطل، لأنه محل الدعاء. قال المزني: ويضع (أصابع يده) اليمنى على فخذه اليمني، إلا المسبحة، يشير بها متشهدًا. قال المزني: ينوي بالمسبحة الإخلاص لله عز وجل. قال القاضي حسين: إذا جلس للتشهد يبسط أصابع يده اليسرى على فخذه

اليسرى، ويضع يده اليمني على فخذه اليمني، وماذا يفعل بالأصابع؟ فيه أقوال: أحدهما: يقبض الحنصر والبنصر والوسطى، ويرسل السبابة، وماذا يفعل بالإيهام؟ على هذا القول فوجهان: أحدهما: يضجعها على وسطاه. والثاني: على بطن الكف بجنب الأصابع الثلاثة. وقيل: إنه يقبضه، كأنه عاد ثلاثة وعشرين في وجه، وفي وجه: كأنه عاد ثلاثة وخمسين. والقول الثاني: يقبض الخنصر والبنصر، ويرسل السبابة، ويحلق الإبهام والوسطى، وإذا بلغ قوله: (إلا الله)، في الشهادة بالوحدانية يشير بالسبابة، وينوي الإخلاص لله تعالى. وهل يحرك المسبحة؟ فوجهان: ولا يشير بإصبعين، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في الصلاة يشير بأصبعين فقال: إلهين اثنين، أحد أحد. أي: أشر بإصبع واحدة، وإما يشير إذا بلغ قول: لا إله دون قوله: لا إله. قال المزني: فإذا فرغ من التشهد، قام مكبرًا معتمدًا على الأرض بيديه؛ حتى يعتدل قائمًا، ثم يصلي الركعتين الأخريين (مثل ذلك)، يقرأ فيهما بأم القرآن، سرًا. قال القاضي حسين: إذا أتى بالتشهد الأول في صلاة ذات تشهدين، قام إلى الركعة الثالثة، معتمدا بيديه على الأرض، حتى يعتدل قائمًا، ويصلي الركعتين الآخريين، مثل الأوليين، يقرأ فيهما بأم القرآن. وقال أبو حنيفة: لا تجب القراءة في الأخريين

وحقيقة مذهبه أنه يوجب القراءة في الركعتين من الأربعة، إما في الأولين، أو في الآخريين. لنا أن نقول: قيام واجب، فكانت القراءة فيه واجبة، كالأوليين، ويتصور على أصله أربع ركعات، لم تكن فيها قراءة مسبوق بركعتين، والإمام قد قرأ في الأوليين، وما قرأ في الآخريين عنده جاز. ثم المسبوق إذا قام، وقضى ما فاته، من الركعتين، وما قرأ فيهما؟ قال: جاز؛ لأنه وصل صلاته بصلاة قد وجد فيها قراءة. وقال سفيا رحمه الله: يسبح في الأخريين، ولا يقرأ ولا يجهر بالقراءة في الأخريين؛ لأن مبني الأخريين على التخفيف. وفي قراءة السورة قولان: وعند أبي حنيفة، لا يقرأ السورة السورة بناء على أصله. قال المزني: فإذا قعد في الرابعة، أماط رجليه جميعًا، وأخرجهما جميعًا عن وركه اليمني، وأفضى بمقعده إلى الأرض، وأضجع اليسرى، ونصب اليمني، ووجه أصابعها إلى القبلة، وبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع كفه اليمني على فخذه اليمني، وقبض أصابعها إلا المسبحة، وأشار بها متشهدًا. قال القاضي حسين: إذا فرغ من الركعتين الأخريين قعد للتشهد، والقعود للتشهد ركن، وقراءة التشهد ركن.

وقال أبو حنيفة: قراءة التشهد ليس بركن، وإنما هو مسنون. دليلنا ما روى عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما كان يعلمنا السورة من القرآن، التحيات المباركات. وأراد بالسورة فاتحة الكتاب، كذا فسروه. وعن ابن عباس أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد، السلام علي الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا التحيات المباركات، ... إلى آخره. دل على أنه واجب، ولأنه ركن تشترك فيه العادة والعبادة، وفوجب أن يكون فيه ذكر شروط، كالقيام وليس كالتشهد الأول، لأن القعود، فيه ليس بركن. ويتروك في التشهد الأخير، وصورته: أن يميط رجليه ويخرجهما عن وركه اليمني، ويفضي بمقعدته إلى الأرض، ويضع اليسرى وينصب اليمني، ويوجه أصابعهما إلى القبلة. قال أصحابنا: والجلسان في الصلاة أربع: يفترش في ثلاث منها، وهي الجلسة بين السجدتين، وجلسة الاستراحة، وفي التشهد الأول ويتورك في الرابعة، وهي الجلسة في التشهد الأخير. وكان الشيخ، رحمه الله، يقول وهو الصحيح: كل جلسة لا يسلم عنها يفترض فيها، وكل جلسة يسلم عنها يتورك فيها إلا في مسألة واحدة، وهو إذا

كان مسبوقًا، ويكون خليفة للإمام، فيتورك في التشهد الأخير، ولو كان على المستخلف سهو يسجد سجدتين حينئذ، والقوم يخرجون أنفسهم من صلاته، ويسلمون، ويقوم هو، ويصلي بقية صلاته. وعند القفال: خليفة الإمام يراعي نظم صلاة الإمام، ألا ترى أنه يقنت في صلاة الصبح إذا كان مسبوقًا بركعة، وفي صلاة العشاء إذا كان مسبوقًا بركعتين يترك الجهر ويسر؟ وعنده- رضي الله عنه - يجلس مفترشًا، لأنه يريد أن يقوم، والقنوت والجهر خلاف ظاهر وهذا خفي. وأما المسبوق بركعة إذا جلس متابعة للإمام في تشهده الأخير يفترش فيها، وإذا كان عليه سجود يفترش في التشهد الأخير، لأنه يريد السجود، وألا يسلم عنه. وعند أبي حنيفة: يفترش في التشهدين. وعند مالك: يتورك فيهما. وما قلناه أولى؛ لأنه إذا غاير بين الجلستين أمن الخطأ والنسيان، ويستدل المسبوق بها على بقية الصلاة في التشهد الأول يريد القيام، ولأن الافتراش أقرب إلى القيام فيتفرش ليكون القيام أسهل عليه. قال المزني: ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر الله، ويمجده، ويدعو قدرًا أقل من التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويخفف على من خلفه. قال القاضي حسين: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. وقال أبو حنيفة: لا تجب، دليلنا ما روى أنه قال عليه السلام، من صلى

ركعة، ولم يصل على فيها فلا صلاة له، ولأن ما شرع فيه ذكر الله تعالى فرضًا، شرع فيه ذكر الرسول عليه السلام، كالإيمان والأذان، فأما الصلاة على الآل، فعلى وجهين: أحدهما: تجب كالصلاة على النبي. والثاني: لا تجب، وإنما تخص هو بالصلاة لعظم حرمته.

ثم يذكر الله ويمجده، ويدعو بما شاء من أمر دينه ودنياه، ولا يختص الدعاء بما ورد به الشرع، حتى لو قال: اللهم ارزقني دارًا قوراء، وجارية حوراءـ وسأل ما شاء أن يسأل جاز، لكنه لا يجوز بالفارسية. وقال أبو حنيفة: إنما يدعو دعاء ورد به الشرع، فأما لم يرد به الشرع من الأدعية لا يجوز في الصلاة الفريضة، وما يجوز من الدعاء سنده بالعربية يجوز بالفارسية. ثم إذا كان إمامًا السنة أن يقتصر على الدعاء تخفيفًا على من خلفه، ولا يزيد على قدر أقل التشهد، والصلاة على النبي عليه السلام. قال المزني: ويفعلون مثل فعله إلا أنه إذا أسر، قرأ من خلفه، وإذا جهر، لم يقرأ من خلفه. قال المزني، رحمه الله، قد روى أصحابنا عن الشافعي أنه قال: يقرأ من خلفه وإن جهر بأم القرآن. قال: محمد بن عاصم، وإبراهيم يقولان: سمعنا الربيع، يقول: قال الشافعي: يقرأ خلف الإمام، جهر أو لم يجهر، بأم القرآن. قال محمد: وسمعت الربيع، يقول: قال الشافعي: ومن أحسن، أقل من سبع آيات من القرآن، فأم أو صلى منفردًا، ردد بعض الآي، حتى يقرأ به سبع آيات فإن لم يفعل لم أر عليه، يعني إعادة. قال الشافعي: وإن كان وحده، لم أكره أن يطيل ذكر الله، وتمجيده، والدعاء، رجاء الإجابة.

قال القاضي حسين: قد ذكرنا حكم المنفرد في الصلاة فأما المصلي بالجماعة لا خلاف في أنه يجب عليه الإتيان بأركان الصلاة كما كان على المنفرد إلا القراءة، فإنه إن كانت صلاة جهر يتحملها الإمام عنه فيما روى المزني في ثلاثة مواضع: ها هنا، وفي صلاة الجمعة، وفي العيدين أن المأموم لا يقرأ إذا كان الإمام يجهر بالقراءة. وهذا كله منقول عن القديم وهو مذهب مالك. فأما مذهبه الجديد: أنه يجب عليه القراءة، كما روى أصحابنا عن الشافعي رحمه الله قال القاضي رضي الله عنه: يمكن حمل هذه النصوص علي مذهبه الجديد، ويجعل في الجديد في وجوب القراءة على المأموم قولين. وروى أصحابنا عن الشافعي: أنها تجب عليه في الجهر والسر، وحيث قال: لا تجب في صلاة الجهر حكى مذهب مالك. وعند أبي حنيفة: لا تجب القراءة خلف الإمام، وربما قالوا: تكره قراءته، وربما قالوا: لو قرأ يخرج عن فضيلة الجماعة. والغلاة منهم يقولون: تبطل صلاته. لنا: ما روى عن عبادة بن الصامت أنه قال: صلينا العشاء خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ واحد منها سورة والشمس، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني لأقول: مالي أنازع القرآ، إذا كنتم خلفي، فلا تقرءوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها.

وإليه ذهب معظم الصحابة. أوردها أبو زيد المروزي عن نيف وعشرين، منهم: عمر، وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وعمران بن حصين، وجابر بن عبد الله، وحذيفة وأبو سعيد الخدري والعبادلة ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص، وابن المغفل، وابو الدرداء، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت وعائشة، وبي بن كعب. والمعنى فيه أنه ركن في الصلاة، فلا تسقط عنه بمتابعة الإمام، كسائر الأركان، دليل كونه ركنًا أنه لا يسقط عنه بالسهو حتى لو تركه ساهيًا لم يحتسب بصلاته، ولأنه لا يخلو إما أن تسقط عنه القراءة للاقتداء، أو لتحمل الإمام عنه بطل أن يقال: إنه سقط بالاقتداء، لأن الاقتداء إنما يؤثر اكتساب الفضيلة، دون إسقاط الفرائض، وإلى هذا أشار صاحب الشرع عليه السلام، حيث قال: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. فلم يجعل للجماعة أثرًا، إلا في اكتساب الفضيلة بها، وبطل أن يقال يحملها الإمام عنه؛ لأن أصل الصلاة لا تجزي فيها التحمل، فكذا أركانها، ولأن سائر الأركان لا يجزي فيها التحمل، فكذلك هذا الركن الواحد.

وأيضا للإمام يجب عليه القراءة، فلو كان يتحملها عن المأموم لم يجز له الاقتصار على القراءة مرة واحدة، لأن الشيء الواحد لا يتأدى به حقان، كما لو ضمن ألفا عن إنسان لواحد، وله عليه ألف أخرى، فبالألف الواحد لا يتأدى الألفان، ألف الأصل وألف الضمان. قالوا: الإمام يتحمل عنه بدليل المسبوق. قلنا: كيف يتحمل عنه قراءة لم تلزمه تلك القراءة ونستسلمهم. فنقول: هل تسلمون لنا أن القيام واجب عليه؟ فإن سلموا مكنوا من ثغرة النحر، لأن القيام لا يغني لعينه، وإنما يغني للقراءة بدليل أنه يتعذر بالقراءة، فلولا أن وجوبه لمكان القراءة لما تقدر بها. فنقول: من وجب عليه قيام القراءة وجبت عليه القراءة كالمنفرد. فإن قيل: أليس أن القيام واجب على المأموم بقدر قراءة السورة التي يقرؤها الإمام، ثم السورة غير واجبة عليه، ولا يستدل بوجوب القيام على وجوب القراءة؟ قلنا: لا يلزم، ولأنا قلنا: من لزمه القيام بقدر القراءة لزمه القراءة، وثم يكون لأجل المتابعة، لا لأجل القراءة. وإن منعوا وقالوا: لا تجب القراءة، فمحال؛ إذ لو لم تجب لجاز القعود، وإن ارتكنوا وقالوا: يجوز القعود. فنقول: القادر على القيام لا يجوز له القعود في صلاة الفرض، كالمنفرد غير أنهم يقولون: القيام ساقط عنه، وإنما وجب الإتيان به متابعة لإمامه، كما يلزمه متابعته في سجود السهو، وسجود التلاوة، وإن لم يجب واحد منهما عليه. وهم يقولون: القراءة مما تسقط عن المأموم بإمامه، كما في المسبوق. قلنا: هناك القيام ساقط عن المسبوق، فتسقط القراءة، بخلاف ما نحن فيه، وما يجب عليه من القيام ذاك قيام التكبير دون القراءة.

غير أنهم يقولون: عندنا قيام القراءة بقدر أن تقول: ثم نظر ... ، والفجر، وذلك القدر يحصل ضرورة. ومن أصحابنا من قال: لا نقول بالتحمل، لكنه سقط عن المسبوق، لأن إمامه أتى به، فإن قالوا: عليه لو لم يتحمله عنه لا يلزمه القراءة إذا بان إمامه جنبًا، أو كان قد نسي القراءة. قلنا: إنما تسقط القراءة عنه، إذا أتى بها إمامه، فيحسب له فعله. وفي المسألتين لم توجد القراءة من الإمام. الجواب الصحيح: أن المسبوق تسقط القراءة عنه بالضرورة ترغيبًا له في الجماعة وحثًا على حضورها، لأنه غاب عن أول الصلاة. فلو قلنا: إذا فاتته القراءة لا يدرك الركعة، أدى إلى أن يرغبوا عن حضور الجماعات، فحكمنا بإدراكها إذا أدرك معظمها، فهو في الحقيقة منزوع من الأصول، مخصوص من القياس، فلا يقاس عليه غيره. التفريع على القولين: إن قلنا: تجب القراءة على المأموم في صلاة الجهر، فلا كلام. وإن قلنا: لا تجب فلو كان بعيدًا عن الإمام لا يبلغه صوته، ففي وجوب القراءة عليه وجهان: أحدهما: تجب؛ لأن صفة الصلاة جهر. والثاني: لا؛ لأنه ليس يبلغه قراءة الإمام، كما لو كان صلاة سر، وهكذا لو كان أخرس، فيه وجهان، وهما كالوجهين في وجوب الإنصات، إذا كان بعيدا عن الإمام لا يسمع الخطبة، ولو جهر في السر، أو أسر في الجهر فوجهان: أحدهما: تعتبر صفة الصلاة، دون فعل الإمام، وهو الأظهر. والثاني: يعتبر وصفه قراءته، ولو قرأ قبل الإمام.

من أصحابنا من قال: لا تحتسب عن قراءته قياسًا على سائر الأركان سبق فيها إمامه، فعلى هذا لا تبطل به الصلاة في ظاهر المذهب. وعلى طريقة أبي يحيى البلخي: تبطل؛ لأن عنده لو كرر الفاتحة، بطلت صلاته. وظاهر المذهب أنه يحسب عن القراءة، لكنه يكره بخلاف سائر الأركان. والفرق أنه ركن قولي، فلا تظهر فيه المخالفة، ولا تتفاحش، بخلاف الأركان الفعلية، فإن المخالفة فيها تتفاحش. فرع إذا أدرك الإمام راكعًا، فركع معه صار مدركًا للركعة، وليس عليه إعادة الركعة. وحكى الداركي عن أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وهو قول أبي هريرة: أنه يعيد الركعة. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك الإمام راكعًا فليركع معه وليعد الركعة، ولأنه فاته قيام الركعة والقراءة، فصار كما لو أدركه بعد الركوع. والأصح أنه يصير مدركًا للركعة، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، وبه قال جماعة من الصحابة.

فرع والسنة أن يقرأ في سكتة الإمام، فإن المستحب أن يسكت الإمام بين قراءة الفاتحة والسورة. روى عن أبي هريرة أنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان؛ إحداهما قبل القراءة وإنما عنى بها دعاء الاستفتاح، والأخرى بعد القراءة. فقيل له: ما تقول في سكتتيك يا رسول الله؟ فقال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الذنوب كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بالماء والبرد والثلج. ولو قرأ مع الإمام فجائز. فأما السورة قال أصحابنا: لا يقرؤها المأموم في صلاة الجهر. وفي السر وجهان: أحدهما: يقرؤها كالفاتحة. والثاني: لا، كما في الجهر، لأنه في السنن، فيتحملها الإمام عنه، كسجود السهو. قال رضي الله عنه: والذي عندي أن المأموم يقرأ السورة في الجهر والسر. وهذا التفصيل لا يوجد للشافعي، وإنما قاله أصحابنا ليستقيم لهم تأويل قوله عليه السلام: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة.

والشافعي رحمه الله لم يشتغل بتأويله، لأن لم يصح عنده، فإن رواية جعفر الجعفي وهو مردود عند أهل الحديث. هذا في الركعتين الأوليين. أما في الأخريين إن كانت الصلاة جهرًا. إن قلنا: إنه يقرأ السورة في الأوليين يقرؤها في الأخريين، وإلا ففيه وجهان. والفرق أنه يستغل باستماع قراءة الإمام في الأوليين دون الآخريين. وإن كانت الصلاة سرًا: إن قلنا: لا يقرأ في الأوليين ففي الأخريين أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن مبناها على التحفيف، بخلاف الأوليين، والله أعلم. قوله: وإن كان وحده لم أكره أن يطيل ذكر الله وتمجيده. قال القاضي حسين: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم وحده فليطل ما شاء، وإذا صلى بالناس فليخفف. وروى أنه عليه السلام، كان أخف الناس صلاة للناس، وأطولهم صلاة لنفسه. وعن أنس قال: ما صليت خلف أحد أخف صلاة، ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وينبغي ألا يزيد دعاء التشهد الأخير على مجموع التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. قال عليه السلام في الدعاء في التشهد الأخير: «فليتحرَّ أحدكم من الدعاء أعجبه إليه». قال المزني: ثم يُسَلِّم عن يمينه «السلام عليكم، ورحمة الله»، ثم عن شماله «السلام عليكم، ورحمة الله». حتى يرى خداه. قال القاضي حسين: التسليم ركن في الصلاة عندنا. وقال أبو حنيفة: ليست من الصلاة، ولا يتعين السلام، بل إذا فعل فعلا يضاد الصلاة، ويبطل في خلالها مختارًا، تمت به الصلاة مثل أن يقعد قدر التشهد، ثم يحدث متعمدًا، أو يمشي أو يأكل، أو يقذف محصنة، فلو أحدث ناسيًا، قالوا: لا تتم صلاته، بل يخرج ويتوضأ، ولو ضرط، أو يفسو مختارًا تتم صلاته. ووافقنا في المبطل للصلاة إذا وقع من غير اختياره أنه لا تتم به الصلاة، مثل طلوع الفجر، وانقضاء مدة المسح، وخرق الخف، وانقطاع دم المستحاضة، ورؤية الماء في حق المتيمم، والعاري إذا وجد الكسوة، والموميء إذا قدر،

والأمي إذا تعلم شيئًا من القرآن، دليلنا قوله عليه السلام: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم». والواجب في السلام أن يقول: السلام عليكم. وأما قوله ورحمة الله فهو سنة، وكذا التسليمة الأخرى سنة. وقال في الجديد: ويسلم تسليمتين: إحداهما عن يمينه، والأخرى عن يساره. وقال في القديم: يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه. وقال في رواية الربيع: إن كان المسجد كبيرًا، وفي الناس كثرة يسلم تسليمتين، وإن كان صغيرًا فتسليمة واحدة تلقاء وجهه. والصحيح هو الأول.

ولو قال: سلام عليكم، من غير الألف واللام لم يتحلل عن الصلاة، نص الشافعي رحمه الله على أنه إذا نقص حرفًا منه تبطل به صلاته. ولو قال: سلام عليكم، وزاد التنوين، ونقص الألف واللام، فيه وجهان: أحدهما: يقوم التنوين مقامه، فيقع به التحلل. والثاني: لا. فلو قال: سلام عليكم من غير التنوي مرتب على المنون. إن قلنا: لا يخرج به عن الصلاة، فها هنا أولى، وإلا فوجهان: أحدهما: يخرج به عن الصلاة كذلك، لأن إسقاط التنوين لا يغير معناه. فهو كما لو قال منونًا. ولو قال: عليكم السلام، فالمذهب أنه يتحلل به عن الصلاة. وقال ابن سريج: لا يتحلل به عن الصلاة، بخلاف قوله: الأكبر الله لا تنعقد به الصلاة. والفرق أن قول القائل: عليكم السلام يعرف تسليمًا في العرف، والمعهود بخلاف قوله: الأكبر الله، فإنه لا يعرف تكبيرًا في العرف والعادة.

ولو قال: عليكما السلام، فيه وجهان: أحدهما: لا يخرج به عن الصلاة، لأنه غير السلام. والثاني: بلى، لأنه أتي بحروف السلام، وزاد فيه ألفا. وكما قلنا في هذه المواضع، لا يخرج به عن الصلاة إن تعمد بذلك بطلت صلاته، وإلا فيسلم ثانيًا، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام. ولو قال: وعليه السلام، أو عليهم السلام لا يخرج به عن الصلاة، ولكن لو تعمده لا تبطل صلاته، لأنه ليس فيه خطاب مع الحاضرين، بل دعاء محض. ولو قال: سلامي عليكم، لا يتحلل به عن الصلاة. وكذا لو قال: سلام الله عليكم، بل يجب عليه أن يعمم السلام، ويقول: السلام عليكم. والمستحب أن يقوم المسبوق لقضاء الفوائت، بعد أن يسلم الإمام تسليمتين، ولو سلم تسليمة واحدة جاز له أن يقوم، وقبله لا يقوم، فإن قام، وهو عالم بالحال بطلت صلاته. وهل تجب نية الخروج من الصلاة. الصحيح أنه لا يجب، لأن نية الصلاة تشتمل على السلام، كما في سائر الأركان، ولأن الخروج يتعين على الإنسان فيه، لاستحالة أن يخرج عن غير ما شرع فيه، فإذا أطلق السلام تعين للصلاة، وعند الشروع وجبت النية، لامتياز العادة عن العبادة. وقال صاحب التلخيص، تجب نية الخروج من الصلاة، لأن السلام أحد طرفي الصلاة، فيفتقر إلى النية كالتحريمة.

فإن قلنا: نية الخروج واجبة، فينوي عند السلام، فلو نوي قبله بطلت صلاته. وإذا سلم عن يمينه، وهو إمام أو منفرد ينوي الخروج على هذا المذهب، والسلام على من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن والإنس. وإذا سلم عن يساره، فلا ينوي الخروج، لأنه تحلل عنها بالأولى، لكنه ينوي السلام على من على يساره من الملائكة، ومسلمي الجن والإنس. فأما المأموم إن كان على يمين الإمام، فإذا سلم الإمام عن يمينه سلم، وينوي الخروج من الصلاة، والرد على الإمام، والسلام على من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن والإنس. وإذا سلم عن يساره لم تجب نية الخروج من الصلاة، وإنما ينوي السلام علي من على يساره، ومن على يسار الإمام المستحب له ألا يسلم إذا سلم الإمام عن يمينه حتى يسلم عن يساره ليمكنه الرد عليه إذا سلم عن يمينه. ومن خلف الإمام يستوي في حقه اليمين واليسار، فإن شاء سلم إذا سلم الإمام عن يمينه، وإن شاء سلم إذا سلم الإمام عن يساره، وإنما ينوي الرد عليه إذا سلم عن اليمين، لأن التيامن مستحب في كل شيء، وينوي الخروج والسلام على الملائكة والمسلمين كما ذكرنا.

فرع لو نوى الخروج عن غير ما هو فيه، إن كان عامدًا بطلت صلاته، سواء شرطنا نية الخروج عليه أو لم نشترطها لأنه أبطل ما هو فيه بنية الخروج عن غيره، وإن كان ساهيًا إن قلنا بظاهر المذهب: إنها غير واجبة صح السلام، إن أوجبناها سجد سجدتي السهو، وسلم ثانيًا. ولو سلم المأموم مقارنًأ مع الإمام ما حكمه.؟ إن قلنا: نية الخروج من الصلاة شرط، فلا يجوز كتكبير الافتتاح، لما كانت النية فيه شرطًا، فالمأموم يكبر للافتتاح بعد فراغ الإمام من (راء) التكبير. وإن قلنا: نية الخروج عن الصلاة ليست بشرط فإذا سلم مع الإمام مقارنًا لم يضر، لأنه ركن كسائر الأركان، وفي سائر الأركان لو قارن المأموم فيه جاز، كذا هذا مثله. ولو سلم قبل الإمام إن لم ينو الخروج منها، فقد أبطل صلاته، إن كان عامدًا، وإن نوى الخروج من الصلاة، فحكمه حكم ما لو أخرج نفسه من متابعة الإمام، وهو غير معذور فيه. وفيه قولان. قوله: حتى يرى خديه. قال القاضي حسين: قيل: يراد به أنه يرى أحد خديه في التسليمة الأولى من جانب اليمين، والأخرى في الثانية من جانب اليسار. وقيل: أراد به: يرى خديه من كل جانب. قال المزني: فلا يثبت ساعة يسلم إلا أن يكون معه نساء، فيثبت، لينصرفن قبل الرجال، وينصرف حيث شاء عن يمينه وشماله. قال القاضي حسين: لم يرد به القفز ووثوب الفصيل، وإنما أراد الإسراع في القيام.

قال عليه السلام: وإذا صلى إمامكم ولو يقم فانخسوه، وإنما ذلك، لأن الأولى للقوم ألا يقوم حتى يقوم الإمام، فكأن السنة ألا يثبت الإمام مكانه، ليتفرغ قلب القوم، فينصرفون إلى منازلهم، ولأنه إذا قام عن مكان الصلاة يستدل من بعد منه به على تحلله من الصلاة، ويستدل المسبوق بذلك، فلا يغتر بكونه في الصلاة. هذا إذا كان خلفه الرجال دون النساء. فإن كان خلفه نساء ورجال، فالمستحب أن يثبت على مكانه بقدر ما ينصرف فيه النساء، لأنه لو قام قام الرجال واختلطوا بالنساء. ثم إن كانت الصلاة مما يتنقل بعدها كالمغرب والعشاء والظهر يتأخر عن مكان صلاته إن أراد فعلها في المسجد، وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأولى نقل النفل إلى البيت. قال عليه السلام: افضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وأيضا قال عليه السلام: اجعلوا شيئا من صلاتكم في البيت، لا تتخذوها مقابر. وإن كانت صلاة لا تنفل بعدها، كالصبح والعصر، فإن أراد المقام في المسجد ساعة يستند إلى المحراب.

ثم من أصحابنا من قال: ينصرف إلى جانب اليسار، ويستند إلى يمين المحراب. وبه قال أبو حنيفة، والصحيح أنه ينصرف إن شاء الله عن جانب اليمين، وإن شاء عن جانب اليسار، لأنه ربما يكون معه مأموم واحد على يمينه، فإذا ولي وجهه عليه كان أحسن من أن يولي قفاه عليه. وإذا كان المأموم على يساره له أن ينصرف إلى جانب اليمين، لأنه ضيع حقه بالوقوف على اليسار. وإن كان خلفه استوى في حقه الجهتان. وإن أراد الخروج من المسجد انصرف إلى جهة حاجته، أي جهة كانت والحاجة مثل أن يكون الظل في جناب، أو كان له شغل يريد أن يسلك ذات اليسار. وإن لم يكن له حاجة انصرف إلى جانب اليمين ليحوز فضيلة التيامن، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء، حتى في طهوره إذا تطهر، ونتعاله إذا انتعل، وفي شأنه كله. قال المزني: ويقرأ بين كل سورتين بسم الله الرحمن الرحيم، فعله ابن عمر قال القاضي حسين: من أصحابنا من قال: إنما أجب عن قوله: البسملة آية من كل سورة. ومنهم من قال على القولين يقرؤها بين كل سورتين، لأنا وإن قلنا: إنها ليست بآية منها فيسحب قراءتها. روى عن ابن عمر: أنه كان يقرؤها بين كل سورتين. وعن ابن عباس: من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب الله تعالى.

قال المزني: وإن كانت الصلاة ظهرًا، أو عصرًا، أسر بالقراءة في جميعها، وإن كانت عشاء الآخرة أو مغربًا، جهر في الأوليين منهما، وأسر في باقيهما، وإن كانت صبحًا، جهر فيها كلها. قال القاضي حسين: فرائض الصلاة مقسمة إلى ما يجهر فيها، وإلى ما يسر فيها. فأما التي يجهر فيها: الصبح وركعتان من المغرب والعشاء. وأما التي يسر فيها: فالظهر والعصر، والركعة الثالثة من المغرب، والركعتان الأخريان من العشاء الآخرة. وعقد الباب فيه أن كلا صلاة يفعلها بالليل يجهر فيها بالقراءة، وكل صلاة يفعلها بالنهار إن كان لها نظير بالليل يسر فيها بالقراءة، كالظهر والعصر، وإن لم يكن لها نظير بالليل جهر فيها بالقراءة، كالصبح والجمعة والعيدين. فأما خسوف الشمس، فيسر فيها، لأن لها نظيرًا بالليل، وهو خسوف القمر لأنه خسوف أحد النيرين. وصلاة الاستسقاء يجهر فيها بالقراءة، لأنها لا تؤدي ليلا: إذ السنة أن يصليها والقوم صيام وذاك في النهار. وصلاة الجنازة يسر فيها بالقراءة بالنهار وبالليل فوجهان: أحدهما: يجهر فيها بالقراءة لأنها صلاة مفعولة بالليل. والثاني: يسر فيها بالقراءة؛ لأنها قومة شرعت فيها الفاتحة دون السورة كالأخرس في العشاء أو الثالثة في المغرب. ولو صلى التطوع بالليل، فالسنة ألا يخفض صوته، ولا يرفع أيضًا، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ليلة على أبي بكر، فكان هو يصلي، ويقرأ في صلاته سرًا، وعمر كان يصلي ويقرأ جهرا، وبلال كان يقرأ آية في موضع، وآية في موضع آخر، فلما كان من الغد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر:

ماذا صنعت البارحة؟ فقال: كنت أناجي الرب، فقال عليه السلام: ارفع صوتك قليلا، وقال لعمر ماذا صنعت البارحة؟ فقال: كنت أوقظ الأهل والجيران، فقال: اخفظ من صوتك قليلا، وقال لبلال: ماذا صنعت البارحة، فقال كنت أضم الطيب إلى الطيب، فقال: اقرأ من موضع واحد. وإن فاتته صلاة بالليل، فقضاها بالنهار، او بالنهار فقضاها بالليل فوجهان: أحدهما: يعتبر فيه أصل الصلاة في الأداء. والثاني: يعتبر وقت القضاء. الوجهان يبنيان على انه إذا قضى صلاة في أيام التشريق، فاتته، في غيرها من الأيام هل يكبر خلفها وفيه قولان: وقال أبو يوسف في خسوف الشمس: يجهر، فنقول: هذه صلاة يؤديها بالنهار، ولها نظير بالليل، فلا يجهر فيها بالقراءة، كالظهر والعصر. وكان في الابتداء السنة في الصلاة كلها الجهر، إلا أن المشركين كانوا يسبون

القرآن، ومن أنزله إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسرار في الظهر والعصر، والجهر في المغرب والعشاء والصبح لاشتغالهم في هذه الأوقات بالأكل في منازلهم. وقال عليه السلام: صلاة النهار عجمًا، أي: لا يجهر فيها بالقراءة، وفي رواية: وصلاة الليل جهرًا إلا أنها ليست بواضحة. ويدل عليه قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا). قيل: معناه، ولا تجهر في جميع الصلوات ولا تخافت بها، أي: لا تسر في الجميع، وابتغ بين ذلك سبيلا، أي اجهر في البعض وأسر في البعض. وقيل: معناه: لا تجهر جهرًا بليغًا ولا تخافت بها، أي لا تخفض خفضًا بليغًا وابتغ بين ذلك سبيلا، أي بين الجهر والسر سبيلا، فإن خير الأمور أوساطها، وكان عليه السلام يصلي في الكعبة، ويجهر بالقراءة، والمشركون كانوا يستمعون إلى قراءته، وكان ذلك سبب إسلام بعضهم، منهم عمر بن الخطاب استمع إلى قراءة الرسول عليه السلام، ذات ليلة مستترا بأستار الكعبة، فكان ذلك سبب إسلامه.

وروي أن أبا سفيان وأبا جهل كانا يختفيان بأستار الكعبة ويستمعان إلى قراءته، عليه السلام، فانصرفا ليلا، فالتقيا فصدق كل واحد منهما لصاحبه ما قصده فقالا: إن هذا أمر يضرنا، ويؤدي إلى فساد ديننا، فتعاهدا على ألا يرجعا في الليلة الثانية، فلما كانت الليلة الثانية حدثت نفس كل واحد منهما أن صاحبه عهد ألا يرجع فرجعا، فلما انصرفا التقيا، فقالا: ألسنا كنا عهدنا ألا نرجع، لأن هذا أمر لا يتم إلا بإيماننا، فحلف كل واحد منهما لصاحبه ألا يرجع، فلما كان في الليلة الثالثة حدثت نفس كل واحد منهما أن صاحبه حلف ألا يرجع فرجعا، فلما انصرفا التقيا فقالا: إن هذا أمر لا يتم إلا بأن يلازم كل واحد منا صاحبه، فاتفقا على أن يحضر أو سفيان دار أبي جهل في ليلة، ويلازمه وهو في داره. وبهذا نجيب عن قول الأعمش حيث قال: إن صلاة الصبح من صلاة الليل، بدليل أنه يجهر فيها بالقراءة. وعندنا يسن الجهر للمنفرد، وكما يسن للإمام. وعند أبي حنيفة، لا يسن ذلك للمنفرد. فنقول: هيئة قراءة الإمام هيئة قراءة المنفرد، كالإسرار في صلاة السر، ولا يلزم رفع الصوت بالتكبير، لأنه للإعلام، والمنفرد ليس يحتاج إلى إعلام أحد. قال المزني: وإذا رفع رأسه من الركعة الثانية من الصبح، وفرغ من قوله: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، قال، وهو قائم اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت، والجلسة فيها كالجلسة في الرابعة في غيرها. قال المزني: حدثنا إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عمرو الغزي، قال حدثنا أبو نعيم، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك، قال: ما

زال النبي صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا، واحتج في القنوت في الصبح بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت قبل قتل أهل بئر معونة، ثم قنت بعد قلتهم في الصلاة سواها، ثم ترك القنوت في سواها، وقنت عمر، وعلي رضي الله عنهما بعد الركعة الآخرة. قال القاضي حسين: القنوت في صلاة الصبح بعد رفع الرأس من الركوع في الركعة الثانية منه عندنا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: هي بدعة. دليلنا ما روى عن ابن سيرين أنه قال: قلت لأنس، رضي الله عنه: هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ فقال: نعم، فقلت: قبل الركوع أو بعده، فقال بعده. وعن أنس أنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة الغداة، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، وصليت خلف أبي بكر صلاة الغداة، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، وصليت خلف عمر، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا. وعن عثمان أنه قنت قبل الركوع في صلاة الصبح، وإنما كان يقنت قبل الركوع، لأن الناس كانوا لا يبكرون إلى الجماعات، لما كان قد وقع لعمر رضي الله عنه. ودعاء القنوت ما روى عن الحسن بن علي أنه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني كلمات أقولهن في القنوت:

اللهم اهدني فيمن هديت، ... ، إلى آخره. وفي بعض الروايات: ولا يعز من عاديت.

وفي بعض الآثار: ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ربنا ونتوب إليك. فلو بدلها بكلمات أخر جاز؛ لأنه ذكر مسنون فيجوز إبداله بغيره. ثم لا يخلو إما أن يكون منفردًا، أو إمامًا، أو مأمومًا: فإن كان منفردًا أسر به، وإن كان إمامًا فوجهان: أحدهما: يسر به، فعلى هذا يقرؤه من خلفه. والثاني: وهو الأصح، يجهر به، فعلى هذا يؤمنون في الكلمات الخمس التي هي دعاء ويقولون: الثلاثة الأخيرة معه، لأنها ثناء أو يسكتون إن شاءوا. والسنة للإمام ألا يخص نفسه بالدعاء بل يعم، ويقول: اللهم اهدنا .. إلى آخره. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا خص الإمام نفسه بالدعاء فقد خان. ولو أبدل دعاء القنوت بغيره لا بأس. حكى عن محمد بن الحارث أنه كان يقرأ في القنوت، اللهم يسرنا للخير كله ويسره لنا وعافا واعف عنا، وأعذنا من الشر كله، وتب علينا، وآتنا الحكمة، وصل على نبينا محمد وآله. بخلاف التشهد، فإنه لو أبدله بغيره لم يجز، لأنه ليس من جنسه ما هو مفروض في الصلاة، ومن جنس التشهد ما هو مفروض في الصلاة.

وعلى هذا نقول أيضًا في الدعاء في الجلسة بين السجدتين: يجب ألا يخص الإمام نفسه. وهل يسن رفع اليدين في القنوت؟ كان الشيخ القفال: رحمه الله يحكي عن ابي زيد المروزي رحمه الله أنه كان يقول: السنة أن يرفع يديه في دعاء القنوت، ويمسح بها وجهه، لأنه دعاء، وكان رحمه الله يقول: لا يسن عندي رفع اليدين فيه، ولا مسح الوجه بهما، لأنه دعاء في الصلاة، والأدعية المشروعة في الصلاة لا يسن فيها رفع اليدين، كقوله: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات في الشهد.

ولو ترك القنوت حتى ألصق الجبهة بالأرض لم يعد إليه، ثم إن كان ساهيًا سجد للسهو، وإن كان عامدًا، فعلى وجهين، وهذا أصل، وهو أن كل ما تركه سهوًا، يقتضي سجود السهو، فتركه عمدًا هل يقتضيه أم لا؟ فوجهان: فإن عاد إلى القنوت إن كان عالمًا بالتحريم بطلت صلاته، وإن كان جاهلا لم تبطل صلاته. ولو لم يكن ألصق الجبهة بالأرض، إن كان أقرب إلى القيام، فعاد لم يلزمه سجود السهو. ولا يسن في القنوت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصلاة ركن عندنا في الصلاة كالتشهد، فلو أتى به في غير محله لا يجوز كالتشهد. فرع لو قنت قبل الركوع، كما فعل عثمان هل تبطل صلاته أم لا؟ فعلى وجهين كما لو تشهد قائمًا فيه وجهان. ولو أطال القنوت بعد الركوع، فمكروه إن جاوز العادة. قال القاضي رحمه الله: يحتمل أن يقال: تبطل به الصلاة؛ لأنها قومة قصيرة مدها بالذكر الممدود، كالجلسة بين السجدتي والاعتدال في الركوع، ويحتمل الفرق، لأنها محل الدعاء، كما قلنا في التشهد الأول.

وهو رضي الله عنه، في الحكم بإبطال الصلاة إذا طال القنوت والجلوس في التشهد الأول متردد جدًا. فأما في سائر الصلوات، فلا يسن القنوت إلا في الوتر في النصف الأخير من رمضان بعد بعد الركوع. وإذا نزل بالمسلمين نازلة، فزاد في دعاء القنوت فحسن، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع قتل أهل بئر معونة، زاد اللعن في القنوت والدعاء عليهم. واحتج أبو حنيفة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا ثم ترك، فلما أجاب الشافعي رحمه الله بأنه كان يقنت في الصبح في جميع الأوقات فلما وقع قتل بئر معونة، زاد القنوت في جميع الصلوات، وكان عليه السلام قنت

شهرًا، ثم تركه، وكان يقنت بعد ذلك في الصبح بدليل ما روينا من الأخبار وقصة أهل بئر معونة ما روى أن أبا البراء الملقب بملاعب الأسنة أتي النبي عليه السلام بهدايا، وكان وفد وم فقال النبي عليه السلام إنك مشرك وإني لا أقل هدية المشركين، فإن شئت أن أقبلها فأسلم، فقال: أعرض على الإسلام، فعرض عليه الإسلام، فقال: هذا دين حسن، ولكني وفد قومي، فلا أقطع أمرا دونهم، فابعث معي جماعة من أصحابك ليعرضوا عليهم الإسلام حتى يسلموا، وأسلم معهم، فقال عليه السلام، أخاف عليهم نجدًا، فقال: إني جار لهم، يريد خفيرًا لهم، فبعث عليه السلام ستين نفرًا من أصحاب الصفة، كلهم قراء وأمر عليهم المنذر بن عمرو، ولم يكن لواحد منهم فرس إلا له، فركب فرسه فأنعق، فقال عليه السلام: إن المنعق ليموت، فلما بلغوا بئر معونة، كانوا قد استنجدوا بقريش فأنجدهم رعل، وذكوان وعصية، وقتلوهم وألقوهم في بئر معونة، ولم ينقلب منهم إلا رجلان: أحدهما أنصاري، والآخر عمرو بن أمية الضمري كانا قد خرجا في طلب بعير لهما ند، فلما رجعا استقبلتهما جارية، فقالت لهما: أنتما من أصحاب هذا الذي يقال أنه نبي؟ فقالا نعم، فقالت النجاة النجاة، قتل أصحابكم وألقوا في البئر، فقال الأنصاري: أنا لا أرغب عن مصرع صرع فيه المنذر بن عمرو، وقال عمرو، اصبر حتى أركب وأتوارى، فركب البعير وتوارى وسل الأنصارى سيفه، وكبر عليهم وقاتل حتى قتل، فجاء جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحال ونزل بهذه الآية، أخبروا إخواننا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا إن الله كان غفورًا رحيما. ثم نسخت تلاوتها، فكان عليه السلام بعد هذه النازلة يقنت في جميع الصلوات ويلعنهم ويقول: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية وأنج الوليد بن الوليد وعياش وسفيان والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعل سنيهم كسني يوسف.

نزل قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيءٌ) فمنع من القنوت عليهم بعد شهر، وإنما ذلك لأنه كان في القبيلة من أسلم وفيهم من قضى الله تعالى له بالإسلام في سابق علمه. روى أنه أسلم رجل منهم يقال له: الجار، فقيل له: ما كان سبب إسلامك؟ فقال: صعنت في رجل من المسلمين، ونفذته من ظهره، فأخذ قطرة من دمه ورماها نحو السماء، وقال فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة، فقلت: كيف فاز، وقد نفذت الطعنة إلى ظهره؟ فقيل: فاز بالشهادة. فرع: وينبغي أن يكون خشوعًا في الصلاة خاشعًا بقلبه، وبجميع أعضائه، والخشوع بالقلب ألا يتفكر في شيء من أشغال الدنيا، والخشوع بسائر الأعضاء، إن كان في حالة القيام ينظر إلى مسجده، وإن كان في حالة الركوع أن ينظر إلى

ظهر قدميه، وإن كان في حالة السجود أن ينظر إلى أنفه، وإن كان في التشهد أن ينظر إلى فخذيه، والله تعالى أعلم بالصواب. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله: والتشهد أن يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك، أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يقول: هذا في الجلسة الأولى، وفي آخر صلاته، فإذا تشهد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد. قال حدثنا الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى الكوفي قال: حدثنا أبو نعيم عن خالد بن إلياس، عن المقبري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل عليه السلام فعلمني الصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فكبر بنا، فقرأ بنا: بسم الله الرحمن الرحيم، فجهر بها في كل ركعة. قال القاضي حسين: الكلام في التشهد المختار وأقل ما يجزيه منه: فأما المختار فتشهد ابن عباس. قال الشافعي رحمه الله: كنا صبيانا في المكتب ونحن نعلم التحيات لله الزكيات الصلوات الطيبات لله، فلما كبرنا كتبنا الأحاديث. عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلم الناس على المنبر هذا الذي قلناه، ثم بلغنا وكتبنا الأحاديث. كتبنا عن ابن عباس أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن يعني فاتحة الكتاب: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.

وعند أبي حنيفة: التشهد المختار تشهد ابن مسعود: روى عن عبد الله مسعود أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على فلان، وعلى فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، الصلوات الطيبات، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. والدليل على أن المختار ما قاله، وهو الأولى أن ابن عباس من متأخري الصحابة، وأن ابن مسعود من متقدميهم، والمتأخر يقضي على المتقدم، وابن عباس ممن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وفيما رواه زيادة المباركات، والأخذ بالزيادة أولى، ويقرب من نظم القرآن من قوله تعالى: (تحية من عند الله مباركة طيبة)، وهم يقولون فيما قلناه زيادة الألف واللام، والإقرار بالعبودية فنقول: التنوين مما يقوم مقامهما على أن السلام في القرآن كله منون من غير الألف، واللام إلا في قوله: والسلام على من اتبع الهدى، وقوله: والسلام على يوم ولدت، وهو اخبار عن قول عيسى. وأما الإقرار بالعبودية مقابلة التصريح باسم الله تعالى، وأيهما أتى به اجزأه، ولا يستحب الجمع بينهما، فإن خلط أحدهما بالآخر. قال القاضي رضي الله عنه: يجوز.

ولو أبدل التشهد بغيره، وأتى بمعناه لم يجز، لأنه - وإن لم يكن معجزًا - فهو ذكر مفروض متعين كالتكبير، بخلاف القنوت، وإنه سنة، وليس بركن فيجوز فيه الإبدال. والترتيب شرط في التشهد كما في الفاتحة. وحكى عن الشافعي قول آخر: أن الترتيب فيه ليس بشرط؛ لأنه ليس بمعجز. فأما أقل التشهد؛ قال الشافعي رحمه الله: أن يقول: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله، سلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. وقال ابن سريج: أقل ما يجزيه في التشهد أن يقول: التحيات لله، السلام عليك أيها النبي، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسوله. فالشافعي: رحمه الله اعتبر أقبل ما رود في الأخبار. وابن سريج اعتبر المعنى، لما وجد الرحمة داخلة في السلام حذفها، ولما وجد قوله: سلام علينا، داخلا في قوله: على عباد الله الصالحين، ويلزمه أن يقول: سلام عليك أيها النبي وعلى عباد الله الصالحين، وأن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، اللهم صل على محمد وآله، ولا يقول: وعلى آله. وقال الحليمي: ولو حذف الصالحين جاز، لأن مطلق اسم العباد يقع على عباد الله، الصالحين، كقوله، تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، ثم ذكر الصلاة على النبي عليه السلام وقد ذكرنا أنها واجبة في التشهد الأخير وفي الأول قولين، وكيفية الصلاة أن يقول: اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. فأما قول القائل: وارحم محمدًا، وآل محمد، كما ترحمت على

إبراهيم، أو رحمت، غير مروى في الخبر، ولا تساعده العربية أيضًا، لأنه يقال: رحمه الله، ولا يقال: رحم عليه. ومن قال: وترحمت فأبعد عن الصواب، لأن الترحم للتكلف، والله تعالى، لا يوصف بالتكلف للرحمة، وتسميته محمدًا صلى الله عليه وسلم واجب، ولا يجوز أن يقال: احمد وغيره، يدل علىه أنه لما نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. قال المسلمون: عرفنا السلام عليك يا رسول الله، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. واختلفوا في الآل، فمنهم من قال: آله: صحابته وعترته. ومنهم من قال: آله، الاتقياء من المسلمين. روى: أنه عليه السلام سئل عن آله، فقال: كل مؤمن تقي.

وروي: «كل من آمن بي إلى يوم القيامة». قال المزني: ومن ذكر صلاة وهو في أخرى، أتمها، ثم قضى، قال: حدثنا إبراهيم، قال الربيع: أخبرنا الشافعي، قال: التشهد بهما مباح، فمن أخذ بتشهد ابن مسعود، لم يعنف، إلا أن في تشهد ابن عباس زيادة. قال القاضي حسين: عندنا الترتيب ليس بشرط في قضاء الفوائت بعضها مع البعض، ولا في قضاء الفوائت مع فرائض الأوقات، حتى لو ذكر خمس صلوات له أن يقضيها مرتبًا وغير مرتب. ولو ذكر صلاة، وقد دخل عليه وقت الفرض، إن كان في الوقت سعة يخير بين أداء فرض الوقت، وبين قضاء الفائتة، غير أن المستحب أن يبدأ بقضاء الفائتة، لأنها استقرت في ذمته، ولو مات قبل فعلها يعصي الله تعالى مذهبًا واحدًا، وفرض الوقت لم يتأكد استقراره، لأنه لو مات قبل فعله لا يقضيه على أحد الوجهين، وإن كان في الوقت ضيق، فيبدأ بفرض الوقت، ثم بقضاء الفائتة حتى لا تفوت صلاة هذا الوقت، وأداء إحدى الصلاتين في الوقت، والأخرى خارج الوقت أحسن من أدائهما خارج الوقت، ولو تذكر صلاة، وهو في أخرى أتم التي هو فيها، ثم يقضي التي ذكرها، ولا فرق عندنا بين أن تدخل الصلوات الفوائت في حد التكرار بأن زاد على صلوات يوم وليلة، أو لم يدخل في حد التكرار، بأن كانت صلوات يوم وليلة أو دونها. وقال أبو حنيفة: الترتيب شرط في قضاء الفوائت، ما لم تقع في حد التكرار، ولو ترك الترتيب لم يعتد به، إلا أن يتركه ناسيًا، فحينئذ يعتد به. ووافقنا فيما لو وقع في حد التكرار، أو زادت عليه صلوات يوم وليلة، فلو ذكر صلوات يوم وليلة عنده يقضيها مرتبة، فلو عكسها، وبدأ بالعشاء، فصلاها، ثم المغرب، ثم العصر، وثم الظهر، وثم الصبح، فالصلوات الأربعة لا تصح إلا صلاة الصبح، وإذا دخل اليوم الثاني صحت الصلوات كلها؛ لأنها وقعت في حَدِّ التكرار.

ولو ذكر صلاة، وعليه فرض الوقت، إن كان في الوقت سعة يلزمه عنده أن يبدأ بالفائتة، فلو بدأ بفرض الوقت لم تنعقد. ووافقنا فيما لو كان في الوقت ضيق أن يبدأ بفرض الوقت. ولو ذكر صلاة، وهو في أخرى، وفي الوقت سعة أكمل التي هو فيها نفلًا، ثم يقضي الفائتة ثم يعيد الصلاة التي كان فيها لما ذكر الفائتة. وإذا فاته صلاة الصبح مثلًا، لم ينعقد عنده ظهره، ولا عصره، ولا المغرب والعشاء حتى يدخل حتى يدخل اليوم الثاني، ويفترض عليه صبح اليوم الثاني، فتصح الصلوات التي لم يحكم بصحتها لوقوعها في حد التكرار. دليلنا على أن لا ترتيب في قضاء الفوائت ما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ذكر صلاةً، وهو في أخرى، فليتم التي هو فيها، ثم ليقض التي ذكرها». وهم يرون عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذكر صلاة وهو في أخرى، فليتم التي هو فيها، ثم ليقض التي ذكرها، ثم ليعد التي صلى». وعندنا: هو محمول على الاستحباب، والمعنى فيه ترتيب يسقط بالنسيان، فلا يستحق أصلًا، كترتيب الشمال على اليمين في الطهارة، فإن قيل: ترتيب مستحق في الأداء، فوجب أن يستحق كترتيب أركان الصلاة بعضها على البعض. قلنا: الترتيب في الأداء، إنما يستحق لحق الوقت، فإذا فات واجتمع الكل صارَ دَيْنًا في الذمة، وفات الوقت، فيسقط الترتيب كما في الصيام يجب الترتيب في أدائه، فإذا فات يسقط الترتيب.

فرع رجل عليه فوائت لا يدري قدرها وعددها. كان القفال رحمه الله يقول: يقال له: قدم وهمك، وخذ ما تتيقن فما تيقنت وجوبه في ذمتك، فعليك قضاؤه، وما شككت في وجوبه فلا، بخلاف ما لو شك في فرض أداء لوقت يلزمه فعله، لأن الأصل وجوبه، واشتغال ذمته به، ووقع الشك في سقوطه عن ذمته، وفيما نحن فيه شك في أصل الوجوب فبناء على اليقين. والطريق فيه أن يقال: إذا كان عليه عدد من الصبح والظهر، هل يتيقن صبحًا او ظهرا واحدا. فإن قال: نعم قلنا: عليك فعلها، ثم نقول له: هل تتيقن صبحين أو ظهرين. فإن قال: نعم فنقول عليك فعلها هكذا إلى أن ينتهي إلى حالة يشك فيها، فنطرح عنه المشكوك، ونكلفه أداء اليقين. قال القاضي حسين رحمه الله: عندي يقال للمصلي: كم تيقنت من فرائض هذه السنة قد أديتها، فالقدر الذي تيقنت سقط عنك، والباقي في ذمتك، لأن الأصل اشتغال ذمتك بالفريضة. وأما ما قاله القفال يخرج على قوله القديم: إنه لو شك أنه هل ترك ركنا من أركان الصلاة فعلى قوله القديم، الأصل مضية على السلامة. وفي الجديد: يلزمه الاستئناف؛ لأن الأصل اشتغال ذمته به. ولو أنه على الشك قضى فائتة، فالذي يرجى فيها من فضل الله تعالى، أن يجبر بها خللا في الفرائض، ويحسبها له نفلاً. قال: وسمعت بعض أصحاب القاضي أبي عاصم رحمه الله يقول: إنه قضى صلوات عمره كلها مرة، وقد استأنف قضاءها ثانيًا.

ومن مذاهب أبي حنيفة أن من عليه فوائت، فأراد أن يقضيها ينوي أولى صبح فاته، أو أولى ظهر فاته، ثم بعد ذلك ينوي ما يليه، أو ينوي آخر ظهر أو صبح فاته، ثم بعد ذلك ما ينوي ما يليه، أو ينوي آخر ظهر أو صبح فاته، ثم بعد ذلك ينوي ما يليه، فيحتسب أن ينوي على هذا الوجه، ولو أطلق النية فنوى قضاء فائتة الصبح، أو الظهر جاز. قال المزني: ولا فرق بين الرجال، والنساء في عمل الصلاة، إلا أن المرأة يستحب لها أن تضم بعضها إلى بعض، وأن تلصق بطنها [في السجود] بفخذيها، كأستر ما يكون، وأحب ذلك لها في الركوع، وفي جميع عمل الصلاة وأن تكثف جلبابها، وتجافيه راكعة وساجدة، لئلا تصفها ثيابها، وأن تخفض صوتها، وإن نابها شيء في صلاتها، صفقت فإنما التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وعلى المرأة، إذا كانت حرة: ان تستتر في صلاتها، حتى لا يظهر منها شيء، إلا وجهها وكفاها، فإن ظهر منها شيء سوى ذلك، أعادت الصلاة، فإن صلت الأمة مكشوفة الرأس، أجزأها. قوله: (ولا فرق بين الرجال والنساء في عمل الصلاة). قال القاضي حسين: حكم الرجل والمرأة واحد في الصلاة لا نفارقه، إلا فيما يعود من أعمالها إلى الستر. وعند صاحب التلخيص: الخصال التي تفارق المرأة الرجل فيها في أمر الصلاة ثنتا عشرة خصلة، فالكل يرجع إلى ما به الستر: فمن ذلك أن المستحب للرجل أن يصلي في المسجد ولها أن تصلي في جوف بيتها، قال عليه السلام: صلاتها في جوف بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صفها.

ومن ذلك أن السنة للرجل الأذان للصلاة، والجهر بالقراءة في صلاة الجهر، ولا يسن لها الأذان ولا الجهر، بل السة ألا تؤذن، وتخفض صوتها في الصلوات كلها. فإذا قلنا: صوتها عورة أو ليس بعورة؟ ولأصحابنا في صوت المرأة وجهان: أحدهما: هو عورة، لأن السامع يتلذذ به، فعلى هذا لو رفعت صوتها في الصلاة بطلت صلاتها. والثاني: لا، وهو الأصح؛ لأن العورة مما يشاد ويمس، ويستمتع بها، ولأن النساء يروون الأحاديث من وراء حجاب، ولم ينكر عليهن منكر؛ لأنا وإن لم نجعل صوتها عورة، فنخاف الافتتان لو رفعت صوتها، وهذا كما أنا لا نجعل وجه المرأة عورة، لكن لا يجوز النظر إليها عند خوف الفتنة، والملاح من المرد وجوههم ليس بعورة، ويحرم النظر إليهم عند خوف الفتنة، كما يحرم النظر إلى النساء، ثم لانأمرها بالإسرار كإسرار الرجل في صلاة السر، بل لها أن تجهر أدنى جهر، بحيث تسمع نفسها قليلاً، وإن كان حولها محارمها، فلا بأس أن تسمعهم. ومن ذلك: أن الرجل في الصلاة يجافي مرفقيه عن جنبيه راكعًا وساجدًا، ويقل بطنه عن فخذيه، ويفرج بين رجليه في السجود، والمرأة تضم بعضها إلى البعض كأستر ما تكون. ومن ذلك أن الرجل في الصلاة لا يلزمه ان يستر من بدنه إلا ما بين السرة والركبة، وعلى المرأة أن تستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين، فلو بدت شعرة منها لم تصح صلاتها. قال الشافعي رحمه الله: وأن تكنف جلبابها، أي تتخذه صفيقا، غليظ الغزل شديد النسج، بحيث لا يظهر منه لون بدنها، ولا لون ثيابها ومجافيها

في الركوع والسجود، ولا تلصقه، لأنها تجافي عورتها، ويصف هزالها وسمنها، وإذا نابها أمر في الصلاة صفقت. والتصفيق أن تضرب بطن كفها اليمنى، على ظهر كفها اليسرى، ولا تضرب بطن إحدى الكفين على بطن كفها الأخرى، لأنه يشبه اللهو واللعب. والرجل إذا نابه أمر في الصلاة يسبح، قال عليه السلام: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وتمام الحديث ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بين فئتين شجر بينهما، فاستأخر مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل وقت العصر، فأذن بلال فجاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: تؤم الناس لأقيم؟ فقال: إن شئت، فأقام بلال وتقدم أبو بكر فدخل النبي عليه السلام المسجد، وجعل يخرق الصفوف، فكانوا يصفقون له، ويضربون أيديهم على أفخاذهم، وأبو بكر لا يلتفف إلى ذلك، فلما أحس بأنهم يطرقون للداخل، فعلم بذلك أنه النبي عليه السلام، لأنهم كانوا لا يطرقون لغيره، فأراد أن يتأخر فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على كتفه، وقال اثبت مكانك، فرفع رأسه نحو السماء، وحمد الله تعالى، حيث جعله أهلا بأن يقتدى به رسوله صلى الله عليه وسلم ثم تاخر فتقدم النبي عليه السلام فجعل أبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فلما سلم النبي عليه السلام أقبل عليهم، وقال: أحسنتم هكذا افعلوا، وأراد أن يزيل الخجلة عنهم حيث أقاموا دونه، ولم ينتظروه، ثم قال لأبي بكر، مالك لا تثبت مكانك إذ أمرتك؟ فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله

صلى الله عليه وسلم ثم قال للقوم: مالي رأيتكم تصفقون؟ إذا نابكم أمر في الصلاة فلتسبحوا، فإنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. والله أعلم. قوله: وعلى المرأة إذا كانت حرة أن تستتر في صلاتها. قال القاضي حسين: الكلام في هذا الفصل في ستر العورة، وهو واجب في الصلاة، وخارج الصلاة، قال الله تعالى، خذوا زينتكم عند كل مسجد. وقال عليه السلام: صلاة بعمامة أفضل من سبعين صلاة بغير عمامة. ثم الكلام فيما هو عورة: أما الرجل، فعورته فما بين السرة والركبة، فعليه أن يستر هذا القدر في الصلاة. فأما الحرة فجميع بدنها عورة، إلا الوجه والكفين، قال الله تعالى، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قيل في التفسير: ما ظهر منها: الوجه والكفان. وفي أخمص قدميها وجهان:

أحدهما: ليس بعورة كالفين. والثاني: هو عورة لكونه مستورًا في الغالب. ويعني بالكفين، يديها، من الكوعين إلى رءوس الأصابع. ومن أصحابنا من قال: ظهور كفيها عورة، والمعنى بالكفين بطون كفيها والأصح هو الأول. وأما الأمة فلأصحابنا فيما هو عورة منها وجهان: أحدهما: عورتها كعورة الرجل. والثاني جميع بدنها عورة، إلا ما يبدو منها عند المهنة والفضلة، كالعنق، والساقين والساعدين. وفي الجملة: رأسها ليست بعورة. والفرق بين الحرة والأمة أن الأمة تكون مبتذلة في الأسواق لقضاء الأوطار، وإنجاح الطلبات غالبًا، وليس في ذلك إسقاط مروءتها، والحرة تكون مستورة في خدرها، ملازمة لقعر بيتها غالبًا، وفي بروزها وكشف رأسها إسقاط مروءتها، فلو انكشف جزء من عورة الرجل أو المرأة في الصلاة مع القدرة على ستره لم تصح الصلاة عندنا. وقال أبو حنيفة: العورة عورتان: عورة مغلظة، وعورة مخففة، فالمغلظة كالفرج فيجب ستره عنده، ويعفى عن قدر درهم، وما دونه منه، فأما ما زاد على درهم، فلا يعفى عنه. والمخففة لجميع البدن، أي بدن المرأة، والفخذين والماكمين من الرجل لا يعفى عن در الربع منه وما فوقه، ويعفى عما دون الربع، ولو استوعب العورة بالستر، وشرع في صلاة، فهبت ريح، وكشفت عن عورته، أو انكشفت بنفسها، فإن سترها في الحال لم يضر الصلاة، وإن مضى زمان، ثم سترها

بطلت صلاته، سواء كان جاهلا بانكشافها أو عالمًا به نظيره نجاسة حافة تقع على المصلى رفضها في الحال صحت صلاته، وإن مضى زمان ثم رفضها بطلت صلاته سواء كان. عالمًا به أو جاهلاً. ولو وقعت على مسجده نجاسة يابسة، فإن تنحى عنها وسجد جاز، ولو ستره بثوب آخر جاز، ولو نحاه عنه بكمه تبطل صلاته، ولو أخذ قدا من الأرض ونحاه عن مسجده فيها وجهان ولو أخذ طرفا من مسجده، وزعزعه حتى سقط منه. الظاهر: أنه لا تبطل صلاته. ثم الكلام فيما يقع به الستر: أما الثياب الصفيقة التي يستر العورة لونها، وخلقتها، إذا سترها صحت صلاته. وأما الثوب الشفة التي تستر الجسد، والخلقة ولا تستر اللون لا يقع به الستر حتى لو لبس قميصًا شفا مهلهل النسج، أو سراويل بهذه الصفة لم تصح صلاته؛ لأنه يصف ما تحته. ولو لبس قميصًا شفا، وسراويل تحته إن عقد التكة على المعقد المعتاد لم تصح صلاته؛ لأن فوقه إلى السرة يلي العورة، وإن عقدها على السرة صحت صلاته. وعلى هذا لو لبس زجاجة إن تصور إن كان يصف لون العورة لم تصح صلاته، وإن سترت العورة لونها وخلقتها صحت صلاته، ولو اقتدى بإمام لبس شفًا مهلهل النسج، إن علم به حالة الإحرام لم تنعقد صلاته، وإن كان جاهلاً به، ثم علم من بعد لا يتابعه، فإن تابعه بطلت صلاته. ولو طلي على عورته الطين، فوجهان: أحدهما: حصل الستر؛ لأنه ستر اللون، والمصود ستر اللون دون ستر الجسد والخليقة.

والثاني: لا؛ لأنه يتشقق إذا هوى إلى الركوع والسجود، فتظهر منه العورة. ولو وقف في ماء صاف ترى منه عورته من الجنب والأسفل لم تصح صلاته، وإن كان كدرًا لا ترى عورته من جنبه، فعلى وجهين: أحدهما: يقع به الستر، قاله صاحب التلخيص كما بالطين. والثاني: لا؛ لأنه لم يتخذ ساترًا، بل احتجب بالماء عن الأبصار، كما لو دخل بيتًا في ليلة ظلماء، وصلى مكشوف العورة لا تصح صلاته. ولو حفر حفيرًا في الأرض، ووقف فيها وصلى على جنازة جاز. ولو جمع التراب، وصلى مضطجعًا على الجنب، والتراب ساتر له صحت صلاته، ولو لبس قميصًا إن كان ضيق الجيب لا يرى عورته من وقف بجنبه صحت صلاته، وإن لم يشد الأزرار، وإن كان واسعًا وشد الأزرار، بحيث لا يرى عورته من الأعلى من وقف تحته صحت صلاته وإن كان عورته ترى من الأسفل. وكذا إذا اتزر بإزار لا ترى عورته من الأعلى، ومن الجنب، ووقف على طرف سطح، بحيث يرى عورته من وقف تحته صحت صلاته. فإن قيل: ما الفرق بين الملابس للخف إذا ظهر قدماه من الأعلى جاز له المسح، ولو ظهر قدمه من الأسفل لم يجز له المسح؟ قلنا: الفرق أن الخف إنما يتخذ للبس الأسفل في العادة، فاعتبر ستر الأسفل، والقميص إنما يتخذ ليستر الأعلى به، دون الأسفل، فاعتبر ستر الأعلى به، وإن كان جيب القميص واسعًا، والرجل أمرد يرى عورته من وقف بجنبه لم تصح صلاته. وإن كان صاحب لحية عريضة تستر عورته، وتمنع نفوذ الأبصار، فيها وجهان: أحدهما: يجزيه لوجود الستر. والثاني: لا؛ لأنه ستر بعضه ببعضه.

ولو كان في إزاره خرق فوضع اليد عليها وسترها باليد، فعلى هذين الوجهين ولو جمعه وأخذه بكفه، فوجه واحد: أنه يجوز. ولو وضع الغير اليد عليها، وستر الغير باليد، قال رضي الله عنه: حرام عليه ذلك لأنه يمس عورته ولكن تصح صلاته كما لو ستر عورته بالديباج وإن دخل في دن وكان رأسه ضيقًا صحت صلاته على الجنازة منه، وإن كان رأسه واسعا لا يجوز. وإذا وجد ثوبًا نجسًا، هل يلزمه ستر العورة؟ فعلى وجهين: أحدهما: بلى، كما يلزمه سترها في حق الآدميين. والثاني: لا؛ لأن الصلاة لا تصح مع النجاسة، والمقصود بهذا الستر جواز الصلاة وفي حق الآدميين المقصود منع الابصار والنجس يمنع الأبصار كالظاهر. فأما الثياب المتخذة من الإبريسم يجوز للنساء استعمالها، وستر العورة بها، فأما الرجال إن قلنا: يلزمه استعمال النجس، فهذا أولى، وإلافوجهان. والفرق أن المتخذ من الإبريسم حرم استعماله لما فيه من الريبة، لكنه ظاهر لا ينافي صحة الصلاة، بخلاف النجس، فإنه ينافي صحة الصلاة. والثوب المغصوب إذا لبسه، وصلى فيه صحت صلاته، وإن عصى بلبسه. ومن أصحابنا من قال: لا تصح صلاته، وهذا مذهب المعتزلة، وهكذا إذا تيمم بتراب الغير، أو توضأ بماء الغير تصح طهارته، وإن كان عاصيًا بفعل التوضؤ والتيمم بالمغصوب، ولو وقع في أرض الغير لا يجوز له أن يتيمم بترابها، ولا أن يصلي فيها، بل يصلي ماشيًا لحق الوقت، ثم يعيد، ولو صلى فيها صحت صلاته، فإذا دخل عليه وقت الصلاة، وهو في شارع نجس لا يجوز له أن يدخل أرض الغير ليصلي فيها، بل يصلي على المكان النجس لحرمة الوقت، ثم يعيد الصلاة. قوله: (فإن صلت الأمة مكشوفة الرأس أجزأها) فهو كما قال؛ لأن رأسها

ليس بعورة كما بينا، فلو شرعت في الصلاة مكشوفة الرأس، ثم عتقت لم يجز فيها أن تمضي على صلاتها مكشوفة الرأس، بل يلزمها الستر، فإن كان الساتر قريبًا منها سترت وبنت، وإن كان بعيدًا منها فمشت إليه، وسترت به الرأس بطلت صلاتها في ظاهر المذهب. وخرج فيه قول آخر: من سبق الحدث تبني على صلاتها، ولو صبرت حتى أتيت بالساتر، فمرتب على ما إذا مشت إليه، إن قلنا هناك: لا تبطل صلاتها فها هنا أولى، وإلا فوجهان. ولو عتقت، فصبرت ساعة لم تستر الرأس بطلت صلاتها، سواء كانت عالمة بالعتق أو جاهلة به. قال المزني: وأحب أن يصلي الرجل في قميض ورداء، وإن صلى في إزار واحد أو سراويل، أجزأه وكل ثوب يصف ما تحته، ولا يستر لم تجزيء الصلاة فيه. قال القاضي حسين: وليس يختص الاستحباب بهذين، بل المستحب أن يتعمم مع القميص والرداء أو بتطيلس، لأن فيه زيادة الزينة، قال الله تعالى، (خذوا زينتكم عند كل مسجد) وفي الآثار، العمائم تيجان العرب. وقال عليه السلام: صلاة بعمامة أفضل من سبعين صلاة بغير عمامة. وقال عليه السلام: زر ولو بشوكة وارتد ولو بحبل. وقال عليه السلام: أيعجز أحدكم أن يتخذ لجمعته ثوبين. فإن صلى في ثوب واحد مع وجود غيره أجزأه.

روي عن جابر أنه صلى في داره ورداؤه على المشجب، فقال واحد: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي في إزار، ورداؤك على المشجب؟ فقال: عمدًا فعلت ليراني جاهل مثلك، فيعلم أن ذلك جائز، فأينا كان له على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان. فإن أراد أن يقتصر على ثوب واحد، فالمستحب أن يلبس القميص، وإن كان معه إزار وسراويل، وأراد أن يقتصر على أحدهما، فالإزار أولى، لأنه لا يلتصق بالعورة بل يجافيها فلا يجافي العورة ولا يصف سمنها وهزالها. ثم ذكر الشافعي رحمه الله حكم الشف المهلهل الذي يظهر منه لون العورة أن الصلاة فيه لا تجوز، وقد ذكرنا.

فصل قد ذكرنا أن من وجد الستر لا يجوز له تركه، وكذلك من قدر على تحصيله بأن كان معه ثمنه، ويباع بثمن المثل، أو يعار منه، فلزمه قبوله. ولو استعار ثوبًا، فلم يعطه ليس له أن يكابره، بل يصلي عريانًا، بخلاف ما يحتاج إليه لشدة البرد له أن يكابر، لأن فيه استيفاء مهجته، ولو وهب منه الثوب لم يلزمه قبوله. والفرق أن المستعير للساتر لا تلحقه منة عظيمة كالمتهب للماء، والمتهب للساتر تلحقه المنة العظيمة، كالمتهب لثمن الماء. ولو أن جماعة من العراة كانوا في موضع واحد، ومع واحد منهم ثوبًا يعيره منهم واحدًا فواحدًا، إن علم أن الثوب ينتهي إليه قبل خروج الوقت لم يجز له أن يصلي عريانًا، وإن علم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت نص ها هنا على أنه يؤخر الصلاة عن الوقت مراعاة لحق الستر. ونص على أن جماعة لو كانوا في سفينة، وفيها موضع واحد للقيام، وعلم أن النوبة لا تنتهي إليه، إلا بعد خروج الوقت يصلي قاعدًا مراعاة لحق الوقت. فمن أصحابنا من جعل في المسألة قولين نقلا وتخريجًا. ومنهم من فرق بينهما بأن للقيام بدلا ينتقل إليه وهو القعود، ويجوز تركه مع القدرة عليه في صلاة النفل بخلاف الستر، فإن الستر ليس له بدل ينتقل إليه، ولا يجوز تركه مع القدرة عليه. فأما إذا وجد الثوب النجس. إن قلنا: يلزمه استعماله يصلي فيه ويعيد. وإن قلنا: لا يلزمه استعماله يصلي عريانًا ثم يصلي قائمًا، أو قاعدًا؟

فعلى قولين: أحدهما: قائمًا، وهو الأظهر- لأن المقدور عليه من أمر الصلاة لا يسقط بالمعجوز عنه، فعلى هذا لا تلزمه الإعادة. والثاني: يصلي قاعدًا ليكون أستر، فعلى هذا يضع الجبهة على الأرض أو يدنيها من الأرض، فوجهان: أحدهما: يضع الجبهة على الأرض؛ لأن السجود لا يتم عندنا إلا بوضع الجبهة. والثاني: يدنيها من الأرض ليكون أستر. وعلى الوجهين تلزمه إعادة الصلاة في ظاهر المذهب، إلا على طريقة المزني، ومن يخرج ذلك على اصل الشافعي أن من ترك شرطًا، أو ركنًا للعجز لا إعادة عليه. وعند أبي حنيفة، العاري يتخير بين أن يصلي قائمًا، او يصلي قاعدًا، واحتج بأنه اجتمع له فرضان: ستر العورة، والقيام، وتعذر الجمع بينهما فيخير فيهما. فرع لو اجتمع جماعة من العراة، فالمستحب لهم أن يصلوا جماعة أو فرادى. قال في الجديد: هم بالخيار بين الصلاة جماعة وفرادى. وقال في القديم: يصلون فرادى، فإن صلوا جماعة أجزأهم، ثم إذا صلوا جماعة وقف إمامهم وسطهم، كإمامة النساء تقف وسطهن، فإن تقدم جاز، وإن كان فيهم لابس فالأولى أن يتقدم اللابس، فلو تقدم عار جاز عندنا للابس أن يقتدى به. وقال أبو حنيفة: اقتداء اللابس بالعاري لا يجوز، وإن وجد بعض ما يستر به

العورة لزمه ستر ذلك القدر، بخلاف ما لو وجد من الماء ما يكفيه لبعض أعضاء طهارته لا يلزمه الاستعمال في أحد القولين؛ لأن المقصود من استعمال الماء رفع الحدث، والحدث لا يتبعض، والمقصود من استعمال الثوب ستر العورة، والستر مما يتبعض. وإن وجد من الساتر ما يكفيه، إما لقبله، او لدبره، فوجهان: أحدهما: يبدأ بالدبر. والثاني: بالقبل. والصحيح: أنه يتخير فيهما لاستوائهما في وجوب الستر، وتغليظ حكمهما، ومن قال: ستر الدبر أولى، قال: لأنه يتفاحش في الركوع، والسجود تفاحشًا كثيرًا. والصحيح أن القبل أولى، لأنه يستقبل به القبلة، ألا ترى أنه لا تستقبل لبول ولا غائط، والدبر يستره الأليتان حال القيام بخلاف القبل؟ وقال الإمام رضي الله عنه: في الرجل: الدبر أولى، وفي المرأة: القبل أولى.

فصل المحبوس في مكان نجس إذا وجد ثوبًا يكفيه، إما للستر، أو للبسط على النجاسة، فبأيهما يبدأ؟ فعلى قولين: أحدهما: بالستر؛ لأن فيه حقين؛ حق الله تعالى وحق الآدميين، فكان أولى بالتقديم. والثاني: بالبسط على النجاسة؛ لأن حكم العرى أخف من حكم النجاسة، بدليل أن العاري يصلي، ولا إعادة عليه، ومن على بدنه نجاسة لا يصلي إلا بشرط الإعادة. فإن قلنا: يبسطه على النجاسة ويصلي عاريًا، فحكمه ما مضى. وإن قلنا: يستر به العورة، ويصلي به على النجاسة، فهل يلزمه وضع الجبهة عليها أو يدنيها منها؟ إن كانت النجاسة رطبة يدني الجبهة منها، إذ لو وضعها عليها أدى إلى التلويث وتفاحش النجاسة. وإن كانت يابسة فوجهان. وعلى الوجهين يعيد الصلاة. والله أعلم بالصواب. قال المزني: ومن سلم أو تكلم ساهيًا، أو نسي شيئًا من صلب الصلاة، بني ما لم يتطاول ذلك، وإن تطاول، استأنف الصلاة. قال القاضي حسين: أما السلام في خلال الصلاة إن تعمدت بطلت صلاته، لأنه خطاب آدمي منهي عنه في الصلاة وإن كان ساهيًا لم تبطل به صلاته، ووافقنا فيه أبو حنيفة.

وأما الكلام إن كان عمدًا بطلت به صلاته، سواء كان من مصلحة الصلاة، أو لم يكن من مصلحتها. وقال مالك: كل كلام هو من مصلحة الصلاة، كقوله للإمام إذا قعد في محل القيام قم، أو قام في محل القعود: اقعد لا تبطل به صلاته، واحتج بحديث ذي اليدين. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي الظهر أو العصر، فسلم على ركبتين، فخرج سرعان القوم وقالوا: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس على خشبة المسجد كالمتفكر، وهبنا أن نسأله، وكان في القوم رجل إحدى يديه أطول من الأخرى، يقال له ذو اليدين، فقام، وقال: أقصرت الصلاة أم نسيتها يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: كل ذلك لم يكن.

فقال: لقد كان بعض ذلك، وكان في القوم أبو بكر وعمر فقال لهما عليه السلام: أكما قال ذو اليدين؟ فقالا: نعم، فقام وأتم الصلاة، وسجد سجدتين. فدليلنا ما روى عن معاوية بن الحكم أنه قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل في القوم فشمته وقلت له، يرحمك الله، فرأيت القوم يرمونني بأبصارهم فقلت: واثكل أماه، ما لكم ترمقونني بأبصاركم، فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فعملت انهم يسكتونني لكني سكت، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم دعاني، فو الله ما كهرني ولا شتمني ولا زجرني، وما رأيت معلمًا أرفق بي، ثم قال: إن صلاتنا هذه لا يصحل فيها شيءٌ من كلام الآدميين إنما هي تسبيح وتهليل وتكبير وتمسكن ويا رب يارب. وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قدمت من أرض الحبشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فسلمت عليه، فلم يرد على فأخذني ما قرب وما بعد، وروى ما قدم وما حدث، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة. وقوله: ما قرب وما بعد، يحتمل أنه أراد ما قرب من عهدنا بإباحة الكلام في الصلاة، وما بعد منه، ويحتمل أنه اراد غاضني ذلك، وأخذ في طبع الجاهلية، ولا حجة له في حديث ذي اليدين، لنه كان جاهلا بتحريم الكلام،

وكونه في الصلاة؛ لأنه كان تعذر قصر الصلاة والزمان وزمان النسخ، والنبي عليه السلام كان أيضا غير عالم أنه في الصلاة، وكلام الجاهل لا يبطل الصلاة عندنا. وأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقد روى أنهما أشارا برؤسهما أي نعم، ولم يتلفظا به. وإن صح أنهما تلفظا به، فكان هو خطاب الرسول عليه السلام، وهو عليه السلام مخصوص بأن يخاطبه المصلي، ولا تبطل صلاته، يدل عليه أنه أمر الله كل مصلي بخطابه في التشهد، وذلك قوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فإنه عليه السلام إذا دعي يلزمه الإجابة، ولا يسوغ له ترك إجابته دليله حديث أبي بن كعب. وأما كلام الناسي والجاهل، قليله لا يبطل الصلاة عندنا، وفي كثيرة وجهان: أحدهما: لا يبطل الصلاة كالقليل. والثاني: يبطل. ولأي معنى يبطل معينان: أحدهما: إمكان الاحتراز عنه. والثاني: قطعه نظم الصلاة، والأكل ناسيًا في الصوم إن كان يسيرًا لا يبطل الصوم، وإن كان كثيرًا فمرتب على الكلام الكثير في الصلاة: إن قلنا: لا تبطل به الصلاة، فها هنا أولى، وإلا فوجهان بناء على المعنيين إن جعلنا المعنى فيه إمكان الاحتراز بطل به الصوم. وإن لنا: بالمعنى الاخر لم يبطل، إذ ليس في الصوم نظم يقطع بالفعل، ولو ابتلغ قدر السمسمة في الصلاة، أو وضع ما يندي في فمه، ومصه وابتلع ماءه، فوجهان.

وقال أبو حنيفة: كلام الناسي والجاهل يبطل الصلاة، ككلام العامد، واحتج بحديث ابن مسعود ومعاوية. دليلنا: حديث ذي اليدين وهو نص في محل النزاع. والمعنى فيه أنه خطاب آدمي، عمده يبطل الصلاة، فسهوه لا يبطلها، دليله السلام. ورده لا يلزم لوجهين: أحدهما: لفظا والثاني: إن رده لا يبطل الصلاة، بل يبطل الإيمان، ثم يترتب عليه بطلان الصلاة. وأما نسيان الركن من صلب الصلاة، إن ذكره على قرب الوقت عاد وبني على صلاته، وإن ذكره بعد طول الفصل، فقياس مذهبه في الجديد أنه يستأنف. وفي القديم: يبني، وهما كالقولين، فيما لو سلم ناسيًا لسجدتي السهو ذكرهما بعد طول الفصل يعود في القديم، ويأتي بهما. وفي الجديد: لا يعود. من أصحابنا من قال قولا واحدًا: يلزمه الاستئناف في نسيان الركن، كما نص عليه ها هنا، بخلاف ما لو ترك سيجدتي السهو، والفرق بأن سجود السهو سنة تتم الصلاة بدونه، فكان حكمه أخف بخلاف الركن. هذا كله في الأركان الفعلية. فأما القراءة إذا تركها ناسيًا حكمه في الجديد حكم سائر الأركان الفعلية. وفي القديم يسقط النسيان، قلد فيه الشافعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القديم، روى أنه سئل عمن صلى، وقد نسي القراءة فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ فقالوا: حسن

فقال: لا بأس إذا. ولا خلاف أنه لو ذكرها قبل الركوع يلزمه أن يأتي بها، وبعد الركوع لا يلزمه ذلك على مذهبه القديم. قال القاضي رضي الله عنه: ويحتمل أن يقال: ما لم يسلم يلزمه أن يأتي بالقراءة إذا تركها ناسيًا، لأن الظاهر من حديث عمر أنه إنما سئل بعد الفراخ من الصلاة حتى رخص في تركها. والقولان في سقوط القراءة بالنسيان، كالقولين في سقوط الترتيب بالنسيان. والقولان في وجوب الإعادة إذا صلى مع النجاسة ناسيا والأظهر في المسائل كلها أنه لا يعذر بالنسيان. فإن قيل: ما معنى قوله في الكلام: ما لم يتطاول الفصل، فإن تطاول استأنف، وإنما يستقيم هذا الاستثناء فيما لو سلم ناسيًا، أو ترك ركنًا من صلب الصلاة ناسيًا. قلنا: هو الصحيح في الكلام، كهو في نسيان الركن والسلام. ومعناه إذا تكلم ناسيًا للصلاة، ثم تذكر أنه في الصلاة بعد زمان إن لم يطل الفصل بني وإن طال استأنف كام لو سلم ناسيًا في خلال الصلاة، ثم بعد زمان ذكره إن لم يطل بناه، وإن طال استأنف. سئل القاضي رحمه الله: ما حد الفصل القريب والبعيد؟ قال: الفصل القريب ما بين الخطبة والشروع في الصلاة، أو ما بين الصلاتين إذا أراد الجمع بينهما، ثم إنما يجوز له البناء إذا لم يطأ النجاسة، وبعدما تذكر ليس له أن يرجع إلى الموضع الذي سلم فيه، بل في الموضع الذي سلم تذكر يبني ويصلي. قال المزني: وإن تكلم، أو سلم عامدًا، أو أحدث فيما بين إحرامه، وبين سلامه استأنف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحليلها التسليم.

قال القاضي حسين: قد ذكرنا حكم الكلام عامدًا أو ناسيًا. فأما الحديث، فعمده يبطل الصلاة، وإذا أحدث الإمام لم يبطل صلاة من خلفه عندنا. وقال أبو حنيفة: إذا أحدث الإمام متعمدًا بطلت صلاته، وصلاة من خلفه، بناه على أصله، وهو أن المأموم يؤدي صلاته بصلاة إمامه، فإذا بطل صلاة الإمام، وهي الأصل بطلت صلاته، لأنها كالفرع والتبع، وعلى هذا الأصل بنوا مسائل: منها: إن المأموم لا تجب عليه القراءة عنده؛ لأنه يؤدي صلاته بصلاة إمامه، فيحملها عنه إمامه. ومنها: أنه لا يجوز اقتداء القاريء بالأمي، واللابس بالعاري، والموميء بالقائم والقاعد عنده، لأنه يؤدي صلاته بصلاة إمامه، والإمام عجز عن الإتيان بما افترض عليه من السنن والقراءة، وإذا بأن الإمام جنبًا يوجب الإعادة على هذا الأصل. وإذا وقفت المرأة بجنب رجل في الصلاة، واقتدت به بطلت صلاته، وصلاتها عنده، لأن الإمام افترض عليه تأخيرها، فلما لم يؤخرها ترك فرضًا، فبطلت صلاته، وإذا بطلت صلاته بطلت صلاتها.

ووافقنا في أن القاعد يقتدي بالقائم، والمتوضيء بالمتيمم، ولكان يتحمل عنه سائر الأركان، كما قلتم في القراءة. فأما إذا سبقه الحدث. ففي الجديد: يستأنف؛ لأن كل حدث يبطل الطهارة يبطل الصلاة كالعمد. وفي القديم: يبني وبه قال أبو حنيفة إلا أن عنده: إنما يبني بشرطين. أحدهما: أنه يعود إلى مصلاه، وأن يستخلف حين خروجه للتوضؤ. وعندنا على قول البناء لو لم يستخلف جاز، ولا يجوز له أن يعود إلى مكانه، فضلا عن أن يجب عليه، ولا فصل عندنا بين الحدث والمني والودي. وعند أبي حنيفة: لو سبقه المني، أو أصابته نجاسة لا يزيلها إلا الماء، تبطل صلاته. فرع الشافعي رحمه الله على قول البناء، فقال: لو خرج، وبال لم تبطل صلاته، لأن الطهارة انقضت بما سبق من الحدث، فبقية البول لا أثر لها في إبطال الطهارة، وهو عمل قليل، فلا يعثر في إبطال الصلاة. وهذا القول توقيف، لا محل للقياس، ومداره على الحديث الذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قاء أو رعف أو أمني فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم. ثم شرط صحة البناء ألا يعرج على شيء، إلا على الطهارة حتى لو كان للمسجد بابان: أحدهما أقرب إلى الماء، والآخر أبعد لا يخرج من الأبعد، فإن خرج على غير الطهارة بطلت صلاته.

قال المزني: وإن عمل في الصلاة عملا قليلا، مثل دفعه المار بين يديه، أو قتل حية، أو ما أشبه ذلك لم يضره، وينصرف حيث شاء عن يمينه وشماله، فإن لم يكن له حاجة، أحببت اليمين، لما كان عليه السلام يحب من التيامن. قال القاضي حسين، العمل قسمان: قليل لا يبطل الصلاة وكثير يبطلها. والأصل في أن العمل لا يبطل الصلاة ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الأسودين ولو في الصلاة: الحية والعقرب. وما روى أنه قال عليه السلام، إذا مر بين يدي أحدكم مار فليدفعه، فإن أبى فليدفعه، فإن أبي قليقاتله فإنه شيطان. وفي هذا الخبر دليل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وأن المرور بين يدي المصلي مكروه، وإنما يكره ذلك إذا كان بينه وبين المار حائل بأن يقف بقرب جدار، أو أسطوانة أو عند خشبة أو كان في صحراء، ولم يكن بينه وبين الخشبة إلا قدر ما يسعه المسجد. قال عليه السلام: لو علم المار بين يدي المصلي ما عليه لوقف أربعين.

قيل: أربعين يومًا. وقيل: أربعين ساعة. والحد الفاصل بين العمل القليل والكثير، منهم من قال: ما يتراه الناظر من البعد أنه خارج الصلاة، فهو الكثير، وما لا يتراه الناظر أنه ليس في الصلاة فهو القليل. قال القاضي رحمه الله: وكان القفال رحمه الله يقول: سمعت أبا نصر المؤذن ببخارى، يقول: كل عمل يتأتي بإحدى اليدين كحل الإزار، ووضع العمامة، وحل الزر، فهو قليل لا يبطل الصلاة، وما لا يتأتي إلا بكلا اليدين كتكوير العمامة، وعقد الأزرار، فهو كثير يبطل الصلاة. والصحيح أن المرجع فيه إلى العرف والعادة وفيما يعد قليلا في العادة فهو قليل، وما يعد كثيرًا فهو الكثير.

فخرج من هذا انه لو حك نفسه في الصلاة مرة، أو مرتين لم تبطل صلاته، وإن حك نفسه ثلاث مرات، فأكثر على التوالي بطلت صلاته، ولو قتل حية في الصلاة بضربة أو ضربتين لم يضر، فإن والي عليه الضربات بطلت صلاته. ولو مشي في الصلاة خطوة أو خطوتين لم تبطل، وإن مشي خطوات على التوالي، بطلت صلاته، ولو مشي خطوات في كل ركن خطوة، أو خطوتين، أو في كل ركن ممتد بدفعات لم تبطل صلاته. وإن أكل في الصلاة: إن كان المأكول أقل من سمسمة لم تبطل صلاته، وإن كان بقدر سمسمة فوجهان: أظهرهما: أنه يبطل الصلاة، لأنه عبادة يبطلها الأكل كالصوم. والثاني: لا يبطل لأنه عمل قليل في الصلاة. ولو وضع في فمه علكا: إن كان جديدًا ينماع، ويختلط بالريق، فيصل إلى الجوف بطلت صلاته، وإن لم يمضغ لم تبطل صلاته، كما لو وضع درهمًا في فمه.

فصل نص الشافعي على ان الأنين والتنحنح وانفح لا يبطل الصلاة. قال الشافعي: هذا إذا لم يظهر منه حرفان، فإن ظهر حرفان بالنفخ والتنحنح ولم يك مغلوبًا عليه فيه بطلت صلاته، وإن كان مغلوبًا عليه لم تبطل صلاته، ولو بكي في صلاته، وظهر حرفان بطلت صلاته إذا لم يكن فيه مغلوبًا عليه بمكاء لمصيبة الدنيا، أو لمصيبة الآخرة فهو سواء. وقال أبو حنيفة: إن بكي لمصيبة الدنيا بطلت صلاته، وإن بكي لمصيبة الآخرة لم تبطل، ولو تقهقه في صلاته بطلت صلاته، وإن تبسم لم تبطل حتى لا يظهر حرفان. وإن كان في حلقه نخامة أراد إخراجها، فليضم شفتيه حتى لا يظهر حرفان، فإن لم يضمها حتى ظهر حرفان بطلت صلاته. وإن تنحنح إمامه: إن علم أنه مغلوب عليه لم يضر صلاته، وإن شك في ذلك خرجها الأصل على وجهين: أحدهما: تبطل صلاته لأن الظاهر من حالة الصحة، وأنه غير مغلوب عليه، كما لو شهد شهود على إقرار الإنسان مطلقا تقبل شهاتدهم، ويحمل إقراره على الصحة، وإن احتمل عوارض تمنع صحة الإقرار.

والثاني: لا تبطل صلاته، لأن الأصل بقاء العبادة وأنه لا يقدم علي المفسد، ولو استقاء عامدًا، بطلت صلاته. ولو نزلت نخامة من رأسه: فإن تيسر إخراجها ولفظها، فابتلعها حكمه حكم الأكل. فأما إذا قلنا: أنه إذا تنحنح بالوجه الأول يلزمه إخراج نفسه عن الصلاة، وإن قلنا: بالوجه الثاني لا يخرج نفسه عن صلاته، ثم ننظر، فإ، سجد الإمام للسهو في آخر الصلاة سجد فيه، وإلا فيسجد هو سجدتي السهو. قوله: إذا ناب المصلي شيء في الصلاة، فله أن ينبه بذكر من الأذكار. قال القاضي حسين: لا يفصل بين أن ينوبه ذلك بسبب إمامه، مثل أن يزيد إمامه بغلط فيقصد تنبيهه بشيء من القرآن، أو بذكر من الأذكار، أو بسبب غير إمامه مثل أن يقرع عليه الباب فيقول: الله أكبر، أو يقول: سبحان الله، أو يقرأ شيئًا من القرآن، وقصد به قراءة القرآن، وينبهه ليعلم أنه في الصلاة، فكذلك له أن يقول: ادخلوها بسلام آمنين، يقصد به قراءة القرآن وإذنه في الدخول، ولو قال هناك من اسمه يحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وقصد به قراءة القرآن جاز أو يقصد لواحد: اخلع نعليك، ويقصد به قراءة القرآن، أو يفتح القراءة على إنسان. وقال أبو حنيقة: إذا نبه إمامه، وفتح القراءة جاز، وإلا فلا. قال رضي الله عنه: قضية ما قلناه أن يقال: لو قال في صلاته حديث: كن يا زيد مقطعًا، وقصد به قراءة القرآن، لم تبطل الصلاة، لأن كل ذلك في القرآن. ولو روى خبرا في الصلاة مثل قوله: لا صلاة إلا بطهور، ومثل قوله: الخراج بالضمان بطلت صلاته، ولو قال: السلام لم تبطل لأنه في القرآن وهو اسم من أسماء الله تعالى.

ولو قال: قال الله تعالى، أو قال رسول الله، بطلت صلاته. قال القاضي: إلا أن يقصد به قراءة القرآن، وأتي به مقطعًا فلا تبطل صلاته. قوله: إذا قرأ في الصلاة من المصحف صحت صلاته عندنا، وكذا إذا قرأ من موضع مكتوب فيه من جدار، أو غيره، سواء أمكنه القراءة عن ظهر القلب، أو لم يمكنه ذلك. وقال أبو حنيفة: بطلت صلاته، ولو وقع بصره على شيء مكتوب في المحراب، سوى القرآن، وجعل ينظر فيه، ولم يتلفظ به لم تبطل صلاته، وإن تلفظ به بطلت صلاته، وإن اشتغل في الصلاة بالتخريجات، واستنباط المسائل، ففي غاية الكراهة، ولا تبطل به الصلاة. وإن عد الايات، فإن عدها لفظًا، فهو كلام يبطل الصلاة، وإن عدها بالإصبع، فإن لم يدخل في حد الكثرة لم تبطل به الصلاة، وإن دخلت في حد الكثرة، والعمل الكثير، كما يبطل عمده الصلاة، فكذلك سهوه يبطلها، لأنه يقطع النظم، قاله رضي الله عنه. وكلام العمد إن كان يسيرًا يبطل الصلاة، والعمل القليل لا يبطلها .. والفرق أن الصلاة قد تجوز مع العمل العمد الذي هو ليس من جنس الصلاة، في الجملة، وهو صلاة الخوف ينزل عن الدابة، أو يركب في أثناء الصلاة، فلهذا قلنا: قليله عند الاستنغناء عنه لا يبطلها، كاستقبال القبلة يجوز تركها في حالة الضرورة، فعند القدرة لو انحرف يسيرًا لم يضر، بخلاف كلام العمد، فإنه لا تجوز الصلاة معه بحال من الأحوال، فقلنا بأنه يبطل الصلاة أينما وجد كالحدث. والمعنى فيه: أن المصلي لا يمكنه الاحتراز، من العمل القليل بالا يتحرك في نفسه، ولا يحك نفسه، أو يمر يديه مار فيدفعه، أو يقتل حية أو عقربًا على مسجده، بخلاف الكلام، فإنه يمكنه الاحتراز عنه إذا كان عملا، ويكره أن

يصلي على مسجده عليه خطوط ونقش، لأن المصلي مأمور بأن ينظر في مسجده إذا كان قائمًا. قال المزني: وإن فات رجلا مع الإمام ركعتان من الظهر، قضاهما بأم القرآن، وسورة كما فاته، وإن كانت مغربا وفاتته منها ركعة، قضاها بأم القرآن، وسورة وقعد وما أدرك من الصلاة، فهو أول صلاته. قال المزني: قد جعل هذه الركعة في معنى الأولى، لقراءة أم القرآن وسورة وليس هذا من حكم الثالثة، وجعلها في معنى الثالثة من المغرب بالقعود، وليس هذا من حكم الأولى، فجعلها آخرة اولى، وهذا متناقض، وإذا قال: ما أدرك فهو أول صلاته فالباقي عليه آخر صلاته وقد قال بهذا المعنى في موضع آخر. قال المزني: وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ما أدرك، فهو أول صلاته. وعن الأوزاعي أنه قال: ما أدرك فهو أول صلاته. قال المزني: فيقرأ في الثالثة بأم القرآن، ويسر، ويقعد ويسلم فيها، وهذا أصح لقوله، وأقيس على أصله، لأنه يجعل كل مصل لنفسه، لا يفسدها عليه بفسادها على إمامه. وقد أجمعوا أنه يبتديء صلاته بالدخول فيها بالإحرام بها، فإن فاته مع الإمام بعضها، فكذلك الباقي عليه منها آخرها. قال القاضي حسين: نقل المزني رحمه الله: أن المسبوق في الظهر بركعتين إذا صلى مع الإمام الأخريين، وقام لقضاء الأوليين يقضيهما بأم القرآن والسورة، ثم اعترض وقال من أصل الشافعي رحمه الله أن ما أدركه المصلي، فهو أول صلاته وأنه لا يسن قراءة الصورة في الأخريين، فيجب أن يقول يقضيهما بأم

القرآن سرًا في نفسه، دون السورة لأنه يتناقض أن تكون الركعة الأولى أخرى، قال القاضي رحمه الله أما قوله: ما أدركه المصلي، فهو أول صلاته، فكما ذكر عندنا، خلافًا لأبي حنيفة. قال رضي الله عنه: وكان القفال رحمه الله يقول: تعرضت لطلب فائدة الخلاف في هذه المسألة، وسألت عنها كثيرًا من مشايخهم، فما حصلت على طائل، وذلك أنهم يقولون: إذا أدرك الركعة الثالثة مع الإمام في المغرب، ففي القضاء يتشهد في الثانية، وفي الثالثة، وقضية كون المدرك آخر الصلاة ألا يتشهد إلا في الثالثة. وأيضا أن مذهبهم أنه إذا أدرك الركعة الثالثة، من الوتر مع الإمام وقنت معه، يقضي الركعتين الفائتتن يقنت في آخرهما. وقضية كون المدرك آخر الصلاة ألا يقنت، لأنه قنت في محله ولهم رواية أخرى أنه يقنت، فعلى هذا يظهر للخلاف فائدة. وأيضا من مذهبهم أنه لو أدرك الركعة الثانية من صلاة العيد، ففي القضاء يقرأ ثم يكبر. وقضية كون المدرك أخر الصلاة أنه يكبر ثم يقرأ؛ لأن عندهم لا يوالي بين القراءتين في صلاة العيد، فيكبر في الركعة الأولى قبل القراءة، وفي الثانية بعدها، إلا أن المسألة اشتهرت بالخلاف، فيحتج فيها بما روى عن علي رضي الله عنه، أنه قال: ما أدركه، فهو اول صلاته، ولأن المدرك يكون ما أدرك أول صلاته حسا وحكمًا. أما الحس فهو أن أول كل شيء ما يبتدأ به، وآخره ما ينتهي إليه، وأول الصلاة ما يعقب الافتتاح، وآخرها ما يتقدم التسليمة. وأما الحكم، فإنه سيحتاج بالتحريمة في أداء ما أدركه، ولا يحتاج إليها في قضاء الفوائت.

ثم اختلف أصحابنا في الجواب عما ألزمه المزني. فمنهم من قال: أجاب الشافعي على القول الجديد الذي يقول فيه: تسن القراءة، أي: قراءة السورة في الأخريين، وفي الركعات كلها. ومنهم من قال على القولين تسن قراءة السورة في الأخريين؛ لأن سنة قراءة السورة فاتته في أول الصلاة، وكل سنة تفوت المرء في صلاته، وأمكنه تلافيها من غير أن يوقع خلللا بترك سنة فيها، فعليه تداركها. نص الشافعي رحمه الله على أنه لو ترك التعوذ في الركعة الأولى يقضيه في الثانية. ونص في الكبير على أنه لو ترك قراءة السورة في الركعتين الأوليين يقضيهما في الأخريين، وقد نص على أن السنة أن يقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، وسورة المنافقين في الثانية، فلو ترك سورة الجمعة في الركعة الأولى قرأها مع سورة المنافقين في الركعة الثانية، بخلاف ما لو ترك الرمل في الأشواط الثلاثة، لا يقضيه في الأشواط الأربعة، لأنه لا يمكن تلافيهما إلا بترك سنة أخرى مثلها؛ لأن السنة أن يرمل في الثلاث، ويمشي في الأربع فعلى هذه الطريقة لو تمكن من قراءة السورة في الركعتين مع الإمام، وقرأها فيهما، ففي القضاء لا يقرأ السورة، وإن تمكن من قراءتها، ولم يقرأ ففي القضاء يقرأ السورة، ولو أدرك الركعة الأولى مع الإمام من المغرب، وتمكن من قراءة السورة، وقرأها، فيقرؤها في الثانية دون الثالثة، ولو لم يقرأها في الثالثة مع الإمام، أو لم يتمكن من قراءتها يقرأها في الثانية والثالثة إذا قضاهما.

فصل المسبوق إذا أدرك الإمام في ركن سوى القيام، إن كان في الركوع، فلا خلاف في أنه يكبر للافتتاح، ويكبر للهوي إلى الركوع، وإن أدركه في السجود الأول، أو الثاني، أو في التشهد، هل يكبر للانتقال إليه بعد أن يكبر للافتتاح؟ قال رضي الله عنه، دخلت على القفال رحمه الله، فسألني عن هذه السألة، فقلت: يكبر للانتقال إلى الركن الذي وجد الإمام فيه. فقال: أخطأت، إن انتقل عن القيام إليه مكبرًا، كالركوع والسجود الأول، يكبر ليكون متابعًا للإمام، لأنه يريد أن ينتقل إليه عن القيام، وان انتقل إليه لا عن القيام، فلا يكبر كما لو كان في السجود الثاني: أو التشهد. قال رضي الله عنه: والوجه الأول صحيح: لأن الإمام انتقل إليه مكبرًا، فتابعه في الانتقال إليه، ويوافقه في التكبير. قال: ورأيت لأصحابنا فيه وجهًا آخر: إنه، وإن وجد الإمام في السجود الأول ينتقل إليه غير مكبر، لأنه غير محسوب له، وإن أدرك الإمام في التشهد، او ركن آخر لا يحسب له مثل السجود والجلسة بين السجدتين، فالسنة للمسبوق أن يفتتح الصلاة، ولا ينتظر الإمام ليقوم، ويصير إلى ركن يحسب له إذا تابعه، فإن انتظر قيامه، كان ذلك من غباوته، وإذا كبر للافتتاح، وهو في ركن من هذه الأركان، فعليه أن ينتقل إليه، فلو لم ينتقل وبقي قائمًا ينتظره بطلت صلاته، وإذا تابعه في الفعل هل يتابعه في الذكر؟ فوجهان: أظهرهما: أنه يتابعه فيه، كما تابعه في الفعل. والثاني: لا؛ لأنه غير محسوب له، والمتابعة في الفعل كانت، حتى لا يؤدي إلى المخالفة الظاهرة، وها هنا لا يؤدي إلى ذلك فإذا قام عن التشهد إن

كان مع الإمام بأن أدركه في التشهد الأول، يكبر الإمام عند القيام، فيكبر متابعة له، وإن سلم الإمام إن كان محل تكبيرة بأن أدركه في الركعة الثالثة، فيكبر للقيام، وإن لم يكن محل تكبيرة بأن أدركه في الركعة الرابعة، أو في التشهد لم يكبر للقيام، لأنه ليس بمحل تكبيرة، وذاك لأنه كبر عند رفع الرأس من السجود، والتشهد لم يكن محسوبًا له، فوقع تكبيرة الانتقال إلى القيام، فهذا الانتقال مما كبر له مرة، فلا يكبر ثانيًا. وهل يسن للمسبوق دعاء الاستفتاح.؟ نظر إن أدرك جزءا من الصلاة مع الإمام، ولم يقرأ دعاء الاستفتاح، وإن لم يدرك جزءا من الصلاة مع الإمام، مثل أنه كما كبر للافتتاح سلم الإمام، فإنه يقرؤه، لأنه افتتاح. وفي الصورة الأولى إذا قام هو غير مفتتاح للصلاة، لأن الجزء الذي أدركه من صلاة الإمام غير محسوب له في استحقاق الفضيلة والثواب، وفي هذه الصورة هو مفتتح الصلاة. والله أعلم بالصواب.

فصل روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التكبيرة الأولى خير من الدنيا وما فيها. فاختلفوا فيما يدرك به التكبيرة الأولى، ويحوز فضيلتها فمنهم من قال: بأن يدرك الإمام قبل الشروع في الفاتحة، لأنه إذا شرع فيها فقد انتقل إلى الركن. ومنهم من قال: وهو الأصح، بأن يدرك الإمام قبل الهوي إلى الكوع، لأنه إذا هوى إلى الركوع، فقد انتقل إلى ركن فعلي من غير جنس هذا الركن، إذ هو قولي، وبه قال أبو حنيفة. وقيل: بأنه وإن أدركه في الركعة لم يصر مدركا لتلك الفضيلة، لأنه ما أدرك الركعة.

فصل إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة ساهيًا، فجاء مسبوق، واقتدى به انعقدت صلاته غير أنه إن كان عالمًا بسهوه، وكونه في الخامسة، فتابعه بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً باحال لم تبطل صلاته، وتحسب له هذه الركعة، ولو أدرك الإمام في الركوع في هذه الركعة، وهو جاهل بالحال تابعه لم يصر مدركًا لتلك الركعة، لأنها غير محسوبة للإمام، وها هنا أربع مسائل: المسبوق بإدراك الركوع لا يكون مدركًا لتلك الركعة أحدها هذه. والثانية: إذا نسي الإمام القراءة، فركع، فجاء المسبوق، واقتدى به. والثالثة: الإمام إذا كان جنبًا، فالمسبوق جاء، واقتدى به في الركوع. الرابعة: إذا نسي الإمام تسبيحات الركوع، فتذكر بعد ما اعتدل قليلا عليه أن يقرأ ن فلو عاد إلى الركوع، فإن كان جاهلا، فاقتدى به لم يصر مدركًا لتلك الركعة. ولو أن رجلا كان يطالع أحوال إمام في صلاة، فترك سجدة من الركعة الأولى، فقام إلى الثانية، فاقتدى به انعقدت الصلاة، غير أنه إن تابعه بطلت صلاته حتى ينتقل إلى السجود الذي تركه، فيتابعه فيه ولا يحتسب له تلك السجدة، وإنما تابعه فيه، لأنه محسوب للإمام.

فصل لو اقتدى شفعوي بحنيفي ما حكمه؟ من أصحابنا من قال تصح صلاته، لأنا لا نقطع ببطلان صلاته، وهو اختيار القفال رحمه الله. وقال الشيخ أبو حامد رحمه الله إن قرأ الفاتحة والتسمية صحت صلاته، وإلا فلا، واختاره القاضي رحمه الله. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني رحمه الله: لا تصح صلاته، وإن قرأ الفاتحة؛ لأنه لا يعتقد وجوبها، واعتقاد الوجوب في الفاتحة شرط، ولو اقتدى بحنيفي في صلاة الصبح، فلم يقنت، فهل على المأموم أن يسجد للسهو؟ قال القاضي رحمه الله: سألني الشيخ ابو القاسم الفوراني عن هذه المسألة، فقلت: لا يسجد للسهو؛ لأنه اقتدى به، وجعله إمامًا، وصححنا الاقتداء بناء على اعتقاد الإمام، وعنده أنه غير ملزم لسجود السهو، والذي يقع لي الآن أنه يلزمه سجود السهو، لأن عند المأموم إن تركه القنوت ملزم للسجود، إلا أنه ترك السجود، والإمام إذا ارتكب ما يوجب سجود السهو على المأموم أن يسجد وإن تركه الإمام، وإنما ذلك، لأن المأموم يبني الأمر على اعتقاد نفسه دون اعتقاد إمامه. يدل عليه أنه لو اقتدى بمن على ثوبه نجاسة بقدر درهم، أو لمس امرأة، أو مس ذكره، أو لم يرتب في الوضوء، أو توضأ بنبيذ التمر لا تصح صلاته، وإن كان الإمام يعتقد صحة صلاة نفسه، والوجهان ينبنيان على جواز الصلاة خلفهم. إن قلنا: تجوز لا يسجد للسهو.

وإن قلنا: إذا لم يقرأ الفاتحة لا يصح، فيغلب سجود السهو، لأنه ما اعتبر اعتقاد الامام. والقفال اعتبر اعتقاد الامام دونه، ولو اقتدى بمن توضأ من الحنيفية من ماء بلغ قلتين، وقعت فيه نجاسة، أو بمن تكلم ناسيًا في الصلاة، أو احتجم وافتصد، أو لقاء ولم يتوضا صحت صلاته، وإن كان الامام يعتقد بطلان صلاة نفسه، لو اقتدي بحنيفي، فوقف في موضع القنوت، ولم يقرأ دعاء القنوت، فقنت المأموم صح، لأنه عنده أن على إمامه سنتين سنة القيام، وسنة قراءة دعاء القنوت فقد أتي إحداهما، وترك الأخرى، هذا كما أنه لو جلس الإمام للتشهد الأول، ولم يقرأ التشهد بقراءة المأموم، كذا ها هنا.

فصل من لا يعرف أركان الصلاة وأبعاضها، وهيئاتها، هل تصح صلاته ام لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح كما لو جهل فرضية أصل الصلاة. والثاني: يصح، لأن هذا مما يشق على العوام، ويخفي على أكثر الناس، فلو لم تصح صلاتهم، أدى ذلك إلى الفساد، بخلاف فرضية أصل الصلاة، فإنها لا تخفي إلا على حديث العهد بالإسلام.

فصل الإمام إذا سها، فنبهه القوم، وسبحوا، فإن فطن لسهوه أخذ به، وإن لم يفطن لذلك، هل له أن يقلدهم نظر، إن كان خلفه واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، لا يركن قلبه إلى قولهم، ويغلب على ظنه صدقهم هل له أن يقلدهم وجهان: أظهرهما: يقلدهم، لأنه يبعد التواطؤ عليهم. والثاني: لا يقلدهم، لأن هذا واقع في نفسه، فيبني فيه على اليقين، وكذلك المأموم، بعضهم مع البعض، إذا وقع الغلط لواحد منهم، وشك في ركن له أن يقلد فيه الآخرين، فعلى هذا التفصيل لو كان خلفه مأموم واحد، فهل يقلد إمامه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا. والثاني: نعم، لأن الامام كان أوعى وأضبط لركعات الصلاة. قوله: ويصلي الرجل، وقد صلى مرة مع الجماعة، كل صلاة. قال المزني: قال الشافعي، ويصلي الرجل، قد صلى مرة مع الجماعة، كل صلاة، والأولى فرضه، والثانية سنة، بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: إذا جئت، فصل، وإن كنت قد صليت. قال القاضي حسين: المستحب لمن صلي صلاة منفردا أن يصليها ثانيًا إذا أدرك الجماعة، ولا يفصل بين صلاة وصلاة. ووافقنا أبو حنيفة رحمه الله في الظهر والعشاء، وخالفنا في الصبح والمغرب

والعصر، بناه على أصله، وهو أنه لا ينتقل بعد الصبح والعصر، وعلل في المغرب بأنه وتر النهار، فلو أعاده مع الجماعة لصار شفعًا، ولبطلت الوتر به. دليلنا: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة الصبح يومًا، فلما انقلب من الصلاة رأي رجلا منعزلا عن الناس، فقال له: لم لم تصل معنا؟ فقال: لأني كنت صليت في رحلي، فقال: إذا جئت فصل معنا وإن كنت صليت في رحلك. وروى أنه عليه السلام، صلى الصبح في مسجد الخيف، فلما نقلب من الصلاة رأي رجلين منعزلين عن الناس في ناحية المسجد، فقال عليه السلام على بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما النبي عليه السلام، هونا على أنفسكما، لست أنا بملك، وإنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد، ألستما رجلين مسلمين، فقالا: بلى يا رسول الله، فقال: لم لم تصليا معنا؟ فال: لأنا كنا صلينا في رحالنا، فقال عليه السلام إذا جئتما فصليا معنا وإن كنتما صليتما في رحالكما. وفي رواية: تكن لكما سبحة، أي: نافلة.

ثم إذا أداها بالجماعة، فالفرض منها ماذا؟ المنصوص عليه ها هنا، وهو مذهبه الجديد: أن الفرض هي الأولى، والثانية نقل، لأن الأولى وقعت عن الفرض، واستحال أن تنقلب نفلا بفعلها ثانيا. وخرج فيه قول آخر: أن الفرض من الصلاتين، إحداهما لا بعينها، يحتسب الله له بأكملهما وأفضلهما، وعلى الطريقتين ينوي إعادة ما صلى أو فعل ما صلى لأنا وإن قلنا: الثانية نفل، فهو يريد أن يكتسب بها فضيلة للفريضة المؤداة، وهي فضيلة الجماعة، فكأن فضيلة الجماعة تلتحق إلى الأول، وبقيت هي نفلا، وفي صلاة المغرب، إن قلنا: الثانية نفل، يضم إليها ركعة أخرى، لأن المستحب في النوافل ألا يسلم عن الثلاث، بل عن الأربع إذا زادت على اثنين، فإذا صلى صلاة في الجماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فلأصحابنا فيه وجهان: أحدهما: يستحب أن يصليها ليحوز بها زيادة فضيلة. والثاني: لا يستحب ذلك، والصبح والعصر والمغرب، لأنه لا يستحب التنفل بعد الصبح، والعصر، إذا لم يكن له سبب. والعلة في المغرب أنه وتر النهار، وفي الظهر والعشاء يستحب، وتكون نافلة إذ التنفل بعدهما سائغ. قال القاضي: يحتمل أن يقال: إن كانت الجماعة الثانية أوفر، وإمامهم أورع وأهدى لأركان الصلاة وشرائطها، وهيئاتها، يستحب له ان يعيد الصلاة التي صلاها مع الجماعة الأولى، لأنه يكتسب به زيادة فضيلة لم تحصل له في الأولى، وإن كانت الجماعة الثانية مثل الأولى، أو دونهم لا يستحب، والله أعلم.

قال المزني: ومن لم يستطع إلا أن يومئ، أومأ، وجعل السجود أخفض من الركوع. قال القاضي حسين: أما القادر على القيام، ففرضه القيام في الصلاة، فإن عجز عن القيام وقدر على القعود ففرضه القعود، فإن عجز عن القعود، صلى مضطجعًا على الجنب إيماء بالرأس. قال الله تعالى: الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم. قيل في التفسير: قيامًا، يصلون إذا قدروا على القيام، وقعودًا، إذا عجزوا عن القيام، وعلى جنوبهم إذا عجزوا عن القعود. وروى عن عمرن بن الحصين أنه قال: كانت بي علة البواسير، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسم فقال: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب. فإن عجز عن الإيماء بالرأس صلى مومئًا بالعين، فإن عجز عن الإيماء بالعين فكر بالقلب أركان الصلاة فعلها وقولها وأبعاضها وهيئاتها، فلا تسقط الصلاة عن بالغ مع بقاء العقل عندنا بحال. وقال أبو حنيفة: إذا عجز عن الإيمان بالرأس، سقط عنه الفرض، لأن عماد الصلاة الفعل، فإن عجز عن الفعل، امتنع عليه الاتيان بما هو عماد لهما، فسقطت، ثم المصلي بالإيماء يركع مؤمنًا، ويسجد مؤمنا، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإذا عجز عن وضع جبهته على الأرض لا يسجد على الوسادة، وروى أنه عليه السلام عاد مريضا رآه قد وضع وسادة يسجد عليها، فأخذها

ورماها، وقال: إذا عجزت عن السجود أوميء رأسك واجعل السجود أخفض من الركوع، وإذا صلى قاعدًا، ففي كيفية القعود الذي هو بدل عن القيام وجهان: أحدهما: يقعد متربعًا في محل القيام ليغاير بين هذه القعدة، وسائر القعدات، في حق القيام في الصلاة. والثاني: يقعد متربعًا؛ لأنها قعدة لا يسلم عنهما في التشهد الأول، وبين السجدتين والاستراحة، وإذا صلى مضطجعًا، ففي كيفية الاضطجاع وجهان: أحدهما: يضطجع مستلقيًا على قفاه، كما يضطجع الميت على المغتسل؛ لأن المستلقي على القفا أقرب إلى صواب القبلة. يدل عليه أنه لو قام كان مستقبلا بجميع بدنه القبلة. والثاني: يضجع على جنبه الأيمن، كما يضطجع الميت في اللحد، فلو اضطجع على جنبه الأيسر أجزأه، ولو ترك سنة؛ لأن التيامن مستحب في الأمور كلها، والقادر على القيام لو افتتح الصلاة قاعدًا لم ينعقد الفرض، ولا ينعقد له النفل في ظاهر المذهب. ويخرج فيه قول آخر: أنه ينعقد نفلا، والمصلي قاعدًا إذا قدر على القيام، فلم يقم إن صلاته تبطل، ولم تنقلب نفلا. ويخرج فيه القول الآخر: أنها تنقلب نفلا، وإذا قدر على القيام بعد الفراغ من القراءة، نص الشافعي رحمه الله على أنه يرتفع إلى القيام، ثم بعد أن قام قائمًا يهوي إلى الركوع، ولا يرتفع من القعود إلى الركوع، وإنما كان ذلك؛ لأن الشرط أن يتنفل من الركن إلى الركن، وإذا قدر على القيام، وعجز عن القعود، وقدر على الاضطجاع، صلى قائمًا غير مضطجع، لأن القيام أقرب

إلى القعود من الاضطجاع، لأنه قعود وزيادة، نظيره ما حكيناه عن الشافعي رحمه الله عليه نصًا في رفع اليدين إذا عجز عن رفعهما فوق المنكبين، ودونهما يرفع فوق المنكبين، وإذا أمكنه أن يصلي قائمًا منفردًا، ولو صلي بالجماعة لا يمكنه القيام. اختار المزني الانفراد بحق القيام، وكذلك لو أمكنه أن يصلي بأم القرآن دون السورة قائمًا، ولو صلى بأم القرآن دون السورة قائمًا، ولو صلى بأم القرآن والسورة لم يمكنه القيام اختار ترك السورة؛ لأن القيام فرض، والسورة والجماعة سنتان، فكان الإتيان بالفرض أولى من الإتيان بالسنن، وإذا قام إلى الصلاة مستندًا إلى شيء، قد ذكرا أنه يجزيه، فلو قام في الصلاة، وخفض رأسه للخشوع جاز، وإن انحنى ظهره لم يجز، وإن لم يبلغ حد الركوع، كذا قال القاضي رحمه الله.

فصل المربوط على الخشب، والمصلوب إذا دخل عليه وقت الصلاة يلزمه أن يصلي، نص الشافعي رحمه الله إن صلى مستقبل القبلة لا إعادة عليه، وإن صلى غير مستقبل القبلة، فعليه الإعادة، وكذلك الغريق في البحر إذا كان على خشبة هكذا، ثم إذا أعاد الصلاة ففي الفرض من الصلاتين أوجه قد ذكرنا ذلك في الطهارة، مسألة راكب السفينة لا يجوز له ترك القيام في الفريضة مع القدرة عليه عندنا، فإن عجز عن القيام صلى قاعدًا ولا إعادة عليه. وعند أبي حنيفة يتخير بين الصلاة قائمًا، وقاعدًا مع القدرة على القيام، فنقيس على ما لو كان في البر وعلى سائر الأركان، فإن تركها لا يجوز مع القدرة عليه. قال المزني: وأحب إذا قرأ آية رحمة أن يسأل أو آية عذاب أن يستعيذ والناس. قال المزني: وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في صلاته. قال القاضي حسين: قوله: والناس أراد به المؤمومين، فالمستحب للمصلي إذا مر بآية رحمة الله أن يسأل الله تعالى الرحمة، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ وإذا مر بآية تنزيه أن يسبح، إمامًا كان أو منفردًا أو مأمومًا. وقال أبو حنيفة: لا يستحب. دليلنا: ما روى عن حذيفة بن اليمان أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة البقرة، فما مر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا تعوذ، ولا بآية تنزيه إلا سبح، ولا بآية مثل إلا فكر.

وكان الشيخ رحمه الله يحكي عن حذيفة أنه كان يقول: لو أردنا، ما مات النبي صلى الله عليه وسلم، كنا نسائله عن أشياء في ديننا، ولكن الله تعالى لا يقبضه من بين أظهرنا، ولنا في الدين معضل. أي: كان مبعوثًا لبيان الشرائع، فكان الله لا يقبضه، ولا يخرجه من بين الخلق، وقد بقي مشكل في الشرع. وروى عن أبي ليلى أنه قال: سمعت النبي عليه السلام، يقول في الصلاة: أعوذ بالله من التأويل لأهل النار وإذا قرأ سورة والتين، فالمستحب أن يقول بعد الفراغ منها: بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين. وهكذا قال: إذا قرأ سورة لا أقسم بيوم القيامة، وإذا قرأ سورة والمرسلات، فالمستحب أن يقول [عند قوله تعالى]، فبأي حديث بعده يؤمنون، لا إله إلا الله، أو آمنت بالله، وإذا قرأ سورة الملك: (فمن يأتيكم بماء معين)، يقول: الله، وبهذا ورد الخبر، وهذا مستحب للإمام والقوم، لقول الشافعي في المسألة الأولى: والناس.

فرع المستحب للمصلى تطويل القراءة في القيام، والقيام فيها أشد استحبابًا بأمر القيام في سائر الأركان، إلا إذا كان إمامًا، وهل يكون جميع قيامه فرضًا أو يكون الفرض منه قدر قراءة الفاتحة. فوجهان: قال المزني: قال: وإن صليت إلى جنبه امرأة صلاة، هو فيها، لم تفسد عليه. قال القاضي حسين: عندنا إذا وقفت المرأة بجنب رجل في الصلاة، وشرعت في الصلاة مقتدية به، لم تبطل صلاة الرجل بحال. وقال أبو حنيفة: إذا وقفت بجنبه في صلاة ذات ركوع وسجود، وشاركته في صلاته بطلت صلاته إذا اجتمعا في الركوع. ووافقنا على أنه إذا وقفت بجنبه في صلاة الجنازة لا تبطل صلاته، وقبل الركوع وافقنا في أنها لا تبطل، فإذا وقفت خلف الإمام، يقول: تبطل صلاة من على يمني المرأة وعلى يسارها وخلفها، ولا تبطل صلاة من أمامها، ولو وقف صف من النساء خلف الإمام، وصف من الرجال خلفهن، يقول: صلاة الرجال الذين في محاذاة النساء باطلة، ومن خرج عن محاذاتهن، فصلاته صحيحة، حتى لو زاد صف الرجال على النساء بواحد، صحت صلاة الواحد الذي لم يكن في محاذاة النساء، ولو وقف صف آخر وراء هذا الصف، قال: تصح صلاتهم متابعة لهذا الرجل الواحد. دليلنا: ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد غمز رجلي فقبضتهما، وإذا قام مددتهما. قال: قال صاحبنا رضي الله عنه: وعائشة في صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم أحسن

حالاً منها نائمة بين يديه، ثم لم تبطل صلاته، وهي نائمة بين يديه، فإذا كانت معه في الصلاة، فلأن لا تبطل الصلاة أولى، ولأنها أخطأت في موقف المأمومين، وهذا لا يبطل صلاة الإمام، كالمأموم الواحد، إذا وقف على يسار الإمام أو خلفه. قال المزني: وإذا قرأ آية السجدة (سجد) فيها، وسجود القرآن أربع عشرة سجدة، سوى سجدة (ص) فإنها سجدة شكر، وروى عن عمر رضي الله عنه أنه سجد في سورة الحج سجدتين، وقال: فضلت بأن فيها سجدتين، وكان ابن عمر يسجد فيها سجدتين. قال: وسجد النبي صلى الله عليه وسلم في (إذا السماء انشقت)، وعمر في (والنجم). قال الشافعي: وذلك دليل على أن في المفصل سجودًا، ومن لم يسجد فليس بفرض، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد وترك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إن الله عز وجل، لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. قال القاضي حسين: لا خلاف بين العلماء أن سجود التلاوة مشروع، وأن في القرآن عزيمة السجود، وليست بواجبة عندنا. وقال أبو حنيفة: هي واجبة، وليست بفريضة والواجب عنده درجة بين النفل والفرض، لا يكفر جاحده، لكنه يعضى بتركه كالوتر. دليلنا: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم: سجد وترك. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ آية السجدة على المنبر فنزل وسجد فلما

كان في الجمعة الثانية قرأ آية سجدة، فتشزن الناس للسجود، فقال: أيها الناس على رسلكم، إن هذا شيء، لم يكتبه الله تعالى علينا إلا أن نشاء. فلأنه سجود يجوز فعله على الراحلة كسجود الشكر. واختلف العلماء في عدد عزائم السجود. فمذهب الشافعي في الجديد أنها أربع عشرة سجدة، أربع منها في النصف الأول، وثلاث في المفصل، والباقي بينهما. وقال في القديم، وهو مذهب الإمام مالك: عزائم السجود إحدى عشرة، وليس في المفصل سجود. وروى عن ابن عباس أنه قال: ما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المفصل منذ انتقل إلى المدينة. ومن قال بالجديد أجاب عن هذا بأن ابن عباس لم ينقله، لأنه لم يره، وغيره نفل سجوده عليه السلام في المفصل بعد الهجرة. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: سجد في سورة إذا السماء انشقت وعن عمر أنه سجد في سورة والنجم. قال الشافعي رحمة الله في القديم: وأحب أن يسجد في سورة: إذا السماء انشقت، وفي سورة اقرأ، مع قوله: ليس في المفصل سجدة. وقال على رضي الله عنه: عزائم السجود أربع في: الم تنزيل، السجدة، وحم، والنجم، وسورة اقرأ.

وقال أبو حنيفة: عزائم السجود أربع عشرة إلا أن عنده سجدة (ص) من عزائم السجود، وفي الحج سجدة واحدة، وهي الأولى، وعندنا في الحج سجدتان، وسجدة (ص) ليست من العزائم. قال ابن سريج: هي من العزائم كما قاله أبو حنيفة، واحتج أبو حنيفة بما روى عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات السجدة، فذكر من جملتها سجدة (ص). دليلنا: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الخطبة سجدة (ص)، فنزل وسجد، فلما كان في الجمعة الثانية قرأها، فتشزن الناس للسجود، فنزل وسجد، فلما صعد قال: إن هذه توبة نبي لكني رأيتكم تشزنتم فسجدت لكم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة (ص)، إلا لقوله تعالى: (أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده). والدليل على أن في الحج سجدتين ما روى عن عقبة بن عامر أنه قال: سألت رسول الله صلى الله أفي الحج سجدتان؟ فقال: نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأهما.

وعن عمر أنه قرأ سورة الحج، وسجد سجدتين، وقال فضلت بسجدتين، وعن ابن عمر مثل ذلك، ولأن قوله تعالى: (واسجدوا واعبدوا ربكم)، أمر صريح بالسجود، وفي الموضع الذي لم يصرح بسجود أمر به، فها هنا أولى، فلو قرأ سورة (ص)، وسجد إن كان جاهلاً بالحكم لم تبطل صلاته، وإن كان عالمًا بأنها ليست من العزائم، فوجهان: أحدهما: بطلت صلاته؛ لأنه سجود شكر، كما لو سجد في خلال الصلاة بتجديد نعمة أو انكشاف بلية. والثاني: لا يبطل؛ لأنه سنة التلاوة، وإذا سجد إمامه في سورة ص فعلى التفصيل الذي ذكرنا، إن كان جاهلا لم تبطل، وإن كان عالمًا فوجهان. ثم الشافعي رحمه الله بين محل السجدات كلها، إلا سجدة (حم) السجدة، فإنه لم يبين محلها، فاختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: محلها إذا فرغ من قوله: (إن كنتم إياه تعبدون)؛ لأنه تتم به الآية، وهو الصحيح، قال ابن سريج، إن محلها عند قوله، (وهم لا يسأمون) ـ، رجح ابن سريج هذا بشيئين. أحدهما: أن الكلام إنما يتم ها هنا، وإن تمت الآية بقوله: (يعبدون)، ومحل السجود عند تمام الكلام أولى، يدل عليه انه في سورة النحل، يسجد عند قوله: (ويفعلون ما يؤمرون)، وإنما تمت الآية عند قوله، (وهم لا يستكبرون). والثاني: أن الشافعي رحمه الله أخذ في التسمية بقول قراء (الكوفة)، وفقهاء المدينة، ولم يأخذ بقول فقهاء الكوفة، وقراء المدينة. ومذهب قراء الكوفة، أن محل السجود عند قوله، وهم لا يسأمون وكان القفال يذكر لهذا ترجيحًا آخر ويقول: إن كان محل السجود ما قاله ابن سريج، فذاك وإن كان عند قوله: (إن كنتم إياه تعبدون)

فلا يضره التأخير، لأن هذا القدر يسير لا يقطع النظم، ولا يطول به الفصل، ثم التالي لآية السجدة لا يخلو إما أن يكون هو أو غيره، فإن كان هو التالي، فلا يخلو، إما أن يكون في الصلاة، أو خارج الصلاة، فإن كان في الصلاة فيكبر للهوي إلى السجود، ولرفع الرأس منه. وقال ابن أبي هريرة: لا يكبر لرفع الرأس منه، ولا يسقط سنة السجود بالركوع عندنا. وقال أبو حنيفة: لو ركع سقط عند سجود التلاوة، وهذا هو الدليل على كونه مسنونًا، إذ لو كان واجبًا لما سقط بالركوع في الصلاة كسائر الواجبات، وإن كان خارج الصلاة، فيكبر للافتتاح. قال القاضي رضي الله عنه: والمستحب عندي أن يقوم قائمًا، ثم يكبر للافتتاح، ليحوز فضيلة القيام: لأن للقيام من الفضيلة ما ليس للقعود، قال عليه السلام: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. ثم يكبر للهوي، ويسجد حتى يطمئن ساجدًا، ثم يكبر لرفع الرأس، ولا يجلس للاستراحة، بخلاف السجدة التي هي من صلب الصلاة، وهل يتشهد ويسلم؟ حكى البويطي أنه يتشهد ويسلم. فمن أصحابنا من أخذ به. ومنهم من قال: لا يتشهد ولا يسلم، ومنهم من قال، وهو اختيار القفال، وهو الأصح: إنه لا يتشهد، ويسلم لأن التسليمة معدلة بالتحريم، مقابلها، والتحريمة مشروعة في سجود التلاوة، فكذا التسليمة، وإن كان التالي غيره، فلا يخلو:

إما أن يكون في الصلاة، فلا يسجد لتلاوته. وإن كان خارج الصلاة، فيسجد بثلاث شرائط: أحدها: أن يسجد التالي. والثاني: أن يكون مستمعًا لتلاته. والثالث: أن يكون على الطهارة، فإن لم يسجد التالي لم يلزمه السجود. روى ان رجلا قرأ بين يدي النبي عليه السلام آية سجدة وسجد، فسجد النبي عليه السلام، ثم قرأ رجل آخر بين يديه آية سجدة، ولم يسجد، فلم يسجد النبي عليه السلام فقال يا رسول الله، سجدت لقراءة فلان، ولم تسجد لقراءتي، فقال عليه السلام أما إنك كنت إمامًا فلو سجدت لسجدنا. ثم إن هذا المستمع يصير تابعًا، ومقتديًا بالتالي حتى يلزمه ألا يسلم إلا بعد سلامه، ولو كان التالي قرأ آية السجدة في الصلاة، والمستمع خارج الصلاة، وسجد التالي، فيستحب له أن يسجد، ولو سها في سجدة التلاوة، أو قرأ في سجدة التلاوة آية التلاوة لتلك الآية، أو أخرى لا يسجد ثانيًا، لأن تحريمها انعقد لفرد سجدة، فلا يجعلها شفعًا. وإن كان التالي في الصلاة، فقرأ آية السجدة، قبل قراءة الفاتحة، له أن يسجد، لأن القيام كله محل للقراءة، بخلاف ما لو قرأ في الركوع والسجود والتشهد لا يسجد، لأنه ليس بمحل قراءة القرآن، وكل شرط يسترط في الصلاة من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، والوقوف على مكان ظاهر، يشترط في سجود التلاوة. والمستحب أن يقول: سبحان ربي الأعلى، وبحمده ثلاثًا، فظاهر قوله -

عليه السلام، لما نزل قوله: (سبح اسم ربك الأعلى)، قال: اجعلوها في سجودكم. وهو في سورة ألم تنزيل، أكثر استحبابًا لقوله تعالى: (وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون). فلو قال فيه: سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين، والأول هو الأولى، وفي سجدة الفرقان، في قوله تعالى: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن، فيستحب أن يقول: سجدت للرحمن، وآمنت بالرحمن، فاغفر لي يا رحمن، وإذا كرر في مجلس واحد، أو ركعة واحدة من الصلاة آيات السجود، يستحب أن يسجد في كل مرة، إلا أنه لا يستحب أن يجمع آيات السجود ليقرأها دفعة واحدة لأجل السجود، ولو كرر آية السجدة مرارًا يكفيه سجدتان. وعند أبي حنيفة إن كان في مجلس، وقرأ آيات السجود يكفيه سجدة واحدة، وإن قرأ آية، وسجد لها، ثم قرأها في هذا المجلس، لا يسجد لها ثانيًا. وفي مجلس آخر له فيه روايتان، ويسجد للتلاوة في الأوقات المنهية، لأن له سببًا، ولو ترك سجود التلاوة لم يقضه، سواء تركه بعذر أو غير عذر، فالعذر مثل: أن يكون على غير الطهارة ونحوه، قال: ويحتمل أن يقال: إذا تطهر يقضيه، كما قال الشافعي رحمه الله في الأذان إذا سمع المؤذن يؤذن، وهو في الصلاة لا يجيبه، وإذا فرغ من الصلاة قاله. وقال أبو حنيقة: لا يسجد في الأوقات المنهية، ثم يقضية بعد خروج الوقت المنهي، وكذلك يقول: لو لم يكن متطهرًا، فعليه القضاء إذا تطهر، وإذا ترك سجود التلاوة في الصلاة، وافقنا في أنه لا يقضيه خارج الصلاة، والله أعلم بالصواب. قال المزني: ويصلي في الكعبة الفريضة والنافلة، وعلى ظهرها، إن كان عليه من البناء ما يكون سترة لمصل، فإن لم يكن لم يصل إلى غير شيء من البيت.

قال القاضي حسين: وهو كما قال عندنا: وقال مالك: يجوز فعل النافلة في الكعبة دون الفريضة، ولعله برع فيه إلى أنه عليه السلام: لم يصل الفريضة في الكعبة، وصلى النافلة فيها. لنا: أن هذه بقعة يجوز فيها فعل النفل، فكذا إن فعل الفرض كغيرها من البقاع، إلا أن المستحب عندنا ألا يصلي الفريضة في الكعبة أيضًا، لأنه عليه السلام، لم ينقل عنه أنه صلى الفريضة فيها للخروج من الخلاف. كذا قال رضي الله عنه: وإذا صلي خارج البيت توجه إلى أي جانب شاء، وإذا صلى على ظهر الكعبة إن كان بين يديه شي من البيت بقدر مؤخرة الرجل، أو نبت شجر على ظهر الكعبة جاز، وإن لم يكن بين يديه من بناء البيت نظر، فإن غرز خشبة، فيها وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنها ليست من بنائها، وإنما غرزت فيه للقطع، لا للتأبيد. والثاني: يجوز، ولو وضع أمتعة بين يديه أو مد حبلا بين يديه لم يجز، وكذا لو أرخى سترًا بين يديه، لا يجوز، وهذا نظير ما لو باع دارًأ، وفيها منقولات، مثبتة في الأرض لا للتأييدـ هل يتبعها في البيع؟ فعلى وجهين، وإن كانت غير مثبتة في الأرض لم يتبعها فيه. وعند أبي حنيقة: الصلاة على ظهر الكعبة جائزة، وإن لم تكن بين يديه سترة، وهذا لا يصح، لما روى، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الصلاة في سبع مواطن، وذكر ظهر الكعبة من جملتها. ولأن الكعبة إمام المصلي، والامام في الصلاة لا يعلى، ولأنه لم يتوجه إلى

جزء من البيت، ولا إلى جميع هواء البيت، فصار كما لو وقف على طرف السطح. فأما إذا انهدمت الكعبة والعياذ بالله، فوقف في صحنها إن لم يكن بين يديه شيء من البيت لم يجز، وإن كان بين يديه شيء من بناء البيت بقدر سترة المصلى، جاز، وإن غرز خشبة بين يديه، فوجهان، ولو وقف على أبي قبيس، أو سطح المسجد جاز، لأنه متوجه إلى جهة الكعبة، وهوائها، ولو حفر حفرًا في البيت، ووقف فيه جاز، لأنه متوجه إلى جزء من البيت، ولو جمع الآلات والنقض، وبناها في موضع آخر، وتوجه إليها لا يجوز له ذلك، لأنها ليست بجهة الكعبة. قال المزني: ويقضي المرتد كل ما ترك في الردة. قال القاضي حسين: عندنا، المرتد يقضي ما ترك من الصلوات في زمان الردة، إذا عاد إلى الإسلام. وقال أبو حنيقة: لا يقضيها وعلى هذا الردة عندنا لا تسقط الأعمال المستقرة في الذمة، ولا تحبط المفروع عنها، خلافًا لأبي حنيفة، وأصل هذه المسألة أن عندنا إسلام المرتد إسلام بناء، لا إسلام ابتداء. وعنده إسلامه إسلام ابتداء كإسلام الكافر الأصلي. فرع المرتد إذا جن، ثم أفاق، فأسلم، يلزمه قضاء ما مضى من الصلوات في زمان الردة على الجنون إذا عاد إلى الإسلام، وإذا حاضت، ثم أسلمت، ثم طهرت، لم يلزمها قضاء الصلوات في زمان الحيض، والفرق أن سقوط الصلاة عن الحائض عزيمة، وعن المجنون رخصة، والرخصة لا تثبت للعاصي، والردة رأس المعاصي.

وحقيقة الفرق أن الحائض من أهل الخطاب، لأن الحيض لا يسلب التكليف، فخوطبت بترك الصلاة. يدل عليه أنها لو صلت تعصي الله تعالى. وأما المجنون فإنه ليس من أهل الخطاب، وإنما سقطت الصلاة عنه رخصة له، يدل عليه أنه لو صلى لم يعص الله تعالى. قال صاحب التلخيص، لو سكر فجن تلزمه قضاء الصلوات، لأن السكر معصية، فيمنع ثبوت الرخصة، إلا أنه في السكر إنما يتصور هذا في صلاة أو صلاتين، لأن مدة السكر لا تمتد بخلاف الردة. فروع شتى لو قرأ آية التلاوة في الصلاة، بعد قراءة الفاتحة، فهوي ليسجد سجدة التلاوة، فلما بلغ حد الركوع بدا له أن يركع. قال القاضي رضي الله عنه: عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع، لأن هوية كان لأجل كان لأجل النفل، والركوع فرض، كما قال الشافعي رحمه الله: لو رفع رأسه من السجود لتنفل عليه أن يعود إلى السجود ثانيًا، لأن رفعه لم يكن بنية الفرض، ولو قرأ آية السجدة، ووقع له ألا يسجد ويرفع، فلما بلغ حد الركوع بدا له أن يسجد سجدة التلاوة. قال رضي الله عنه: ينظر إن بلغ حد الركوع ليس له ذلك؛ لأنه انتقل إلى ركن آخر، وإن لم يلغ حد الركوع جاز له ذلك، ولو سجد الإمام سجدة التلاوة، فلو لم يتابعه بطلت صلاته، ولو أن الإمام ترك سجدة التلاوة، ليس له أن يسجد، بخلاف سجدتي السهو، لأنه يورث خللا في صلاته، وأيضا أنه يفعله بعد ما خرج الإمام من الصلاة.

فرع لو قرأ الإمام آية التلاوة، وسجد، ولم ينتبه المأموم حتى فرغ الإمام وقام، بأن كان بعيدًا منه، ليس له أن يشتغل بسجدة التلاوة، ويترك متابعة الإمام، لأن المتابعة فرض، وسجدة التلاوة سنة. منه لو جلس الإمام في التشهد الأول، وقام، ثم علم المأموم، أو أتي بالقنوت في الصبح، ولم يعلم المأموم، ثم علم بعد الفراغ منهما ليس له أن يشتغل بالقنوت، ولا بالتشهد الأول، لما ذكرناه، فلو أراد أن يفارق الإمام، ويأتي بالتشهد الأول، أو بالقنوت بالنية له ذلك، وفي سجدة التلاوة ليس له ذلك. والفرق أنهما من أبعاض الصلاة، فتركهما يوجب نقصا في الصلاة، وسجدة التلاوة ليست من أبعاض الصلاة، وتركها لا يوجب نقصًا وخللاً في الصلاة. فرع لو ترك الإمام والمأموم السجدة الأخيرة في الصلاة ناسيًا، ثم تنبه المأموم في حال التشهد وجب عليه أن يخرج نفسه من متابعة الإمام، ويسجد ثم يستأنف التشهد، ويسجد سجدتي السهو، وليس له أن يصبر، ويقول: ربما يتذكر الإمام فيسجد فيتابعه، أو يسلم حينئذ ويسجد، ويستأنف التشهد، لأن قراءة التشهد قبل السجود باطل غير جائز، والمتابعة فيما هو باطل، توجب بطلان الصلاة. فرع. لو تنحنح الإمام في الصلاة، فهل عليه أن يخرج نفسه من متابعته، ويحمل ذلك على أنه فعله عمدًا؟ فوجهان، وبمثله لو سجد إمامه في آخر الصلاة سجدتي السهو، ولم يظهر

منه السهو، يجب عليه أن يتابعه، ولو لم يتابعه بطلت صلاته، وكذا لو سجد إمامه في أثناء القيام في صلاة السر، عليه أن يتابعه، ويحمل ذلك على سجدة التلاوة، والفرق أن التنحنح ليس من الأذكار، والأعمال المشروعة في الصلاة، وكذا لو قام إمامه إلى الخامسة، ليس له أن يتابعه، ويحمل ذلك على أن إمامه قد ترك فاتحة الكتاب في ركعة ناسيًا، وقد تذكر الآن، بخلاف سجدة التلاوة وسجدتي السهو، لأنهما من الأعمال المشروعة في الصلاة المسنونة في الشرع، ولا تبطل صلاته بهذا القدر، لأن سجدة التلاوة مشروعة في الصلاة، وهذا كما لو سها في صلاته، فاقتصر على سجدة واحدة جاز كذا ها هنا مثله فرع المستحب للمصلي أن يراعي الترتيب في قراءة السورة بعد الفاتحة، والسنة أن يقرأ سورة تامة. وحكي عن القاضي بن صاعد أنه قرأ: (قل أعوذ برب الناس) ـ في الركعة الأولى بعد الفاتحة، ثم قام، وقرأ من أول البقرة في الركعة الثانية، وحكي عن الحاكم الإمام عن الإستراباذي، رحمة الله أنه قرأ قل أعوذ برب الناس، في الركعة الأولى بعد الفاتحة، فقرأ منها بعضها وركع، ثم أتم الباقي في الركعة الثانية. فرع ولو قرأ في الصلاة ما كان قرآنا، ثم نسخ تلاوته؛ مثل قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتة، تبطل صلاته، لو قرأ في الصلاة بالقراءات الشاذة، مثل إن قرأ: إنا أنطيناك الكوثر، لا يستحب، ولكن لا تبطل صلاته. ويستحب أن يقرأ القرآن في الصلاة بقراءة السبع.

وقد قال عليه السلام: أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف. واختلفوا في تفسيره. قيل: معناه، أنزل على لغة سبع قبائل من العرب، والنبي عليه السلام كان لا يعرف إلا لغة قريش، كي لا يقولوا بأنه عليه السلام اخترعها من عند نفسه. فرع لو قرأ في الصلاة: الحمد لله، بفتح اللام، لا يجوز، وكذا لو قال: إياك نعبد، من غير تشديد، إن كان عامدًا يكفر، لأن الإياه هي ضوء الشمس، وإن كان ساهيًا يستأنف القراءة. فرع. رجل سلم عن صلاته، فقال له آخر، سلمت في غير موضعه، فقال: لا، بل سلمت في موضعه، ثم تذكر أنه ما سلم في موضعه، هل تبطل صلاته أم لا؟ نظر، إن وقع له شك بقوله، فحالة الشك إجابة تبطل صلاته، وإن لم يقع له شك بقوله، ثم تذكر، فعليه أن يبني علي صلاته إن كان الفصل يسيرًا، وإن طال الفصل يستأنف.

فرع رجل في السجود تيقن أنه ترك ركنًا، وأشكل عليه ذلك الركن، لا يدري أنه ترك القراءة أو الركوع، أو الاعتدال من الركوع، فعليه أن يأخذ بأسوأ الأحوال، ويعود إلى القراءة. فرع رجل شرع في قضاء الفائتة، فدخل الإمام مع جماعة، وافتتحوا صلاة الوقت بالجماعة، لا يستحب له أن يقتصر على ركعتين يكونان له نافلة حتى يصليها مع الإمام بالجماعة، أو يصلى صلاة الوقت، بخلاف صلاة الوقت، فإنه إذا شرع، ثم كذا الإمام مع الجماعة شرعوا في الصلاة. نص الشافعي رحمه الله على أنه يقتصر على ركعتين يكونان له نافلة؛ لأن الفائتة لاتقتضي بالجماعة، ولا يسن لها الجماعة بخلاف صلاة الوقت، وبمثله لو كان جماعة دخلوا المسجد، ووجدوا الإمام في القعدة الأخيرة، فالمستحب لهم أن يقتدوا به، ولا يتركون الاقتداء به حتى يسلم الإمام، وهم يصلون الجماعة ثانيًأ، لأن تلك الفضيلة متحققة، وها هنا موهومة، ولو كان يوم غيم فشرع في صلاة فائتة فتقشع الغيم، وبان أنه لم يبق من الوقت إلا قدر صلاة الوقت، يستحب له أن يقتصر على ركعتين نافلة، ويستعد لفريضة الوقت، لأنه لما جاز له قطع الفريضة لأجل إدراك الجماعة، فلأن يجوز قطعها لأجل أدائها في وقتها وألا تصير قضاء أولى. فرع رجل قال لامرأته: إن صليت اليوم صلاة الظهر، فأنت طالق، فإن صليت الظهر وقرأت الفاتحة، ولم تأت بالتشديد لا يقع الطلاق، لأنها ما صلت.

فرع إذا صلى ركعتي الفجر، السنة أن يضطجع على جنبه الأيمن، هكذا روى في الأخبار أن النبي عليه السلام، فعله. فرع لو قال في الصلاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: تبطل صلاته، ولو قال: قال الله، إن قصد به القرآن لا تبطل صلاته، وإن لم يقصد به القرآن تبطل صلاته، ولو روى خبرًا في أحكام المعاملة كقوله عليه السلام: الخراج بالضمان، تبطل صلاته. فرع مسبوق رأي الإمام في الركعة الأولى، سجد سجدة ساهيًا، فلو قام إلى الثانية اقتدي به. وقلنا: يصح اقتداؤه، فلا يتابعه في القيام والركوع، لأنه غير محسوب له، بل يجلس وينتظره في السجدة الأولى، إن جلس الإمام بين السجدتين، أو لم يجلس. وقلنا: القيام يقوم مقامه الجلسة الأولى، فإذا هوي الإمام إلى السجود تابعه فيه، ثم إذا رفع الإمام رأسه من السجود، وقام هو، يقوم أيضًا معه، وإن اشتغل بالسجدة الثانية، فلا يتابعه، بل قوم وينظره، فإن سلم حينئذ تكمل الصلاة لنفسه.

فرع مأموم نسي الفاتحة، فذكرها بعدما هوي إلى الركوع، وهو بعد قائمًا، فيه وجهان: أحدهما: يقرأ الفاتحة، ثم يجري على أثر الإمام ما لم يزد على ثلاثة أركان، لأنه معذور. والثاني: يتابع الإمام، ثم إذا سلم الإمام، يقوم ويقضي ركعة، ولو تذكر بعدما هوي إلى الركوع لم يعد وجهًا واحدًا، لأنه لم يكن في محل القراءة، ولو شك قبل أن يركع، هل قرأ الفاتحة أم لا؟ قرأ الفاتحة، ثم يجري على أثر الإمام، وإذا شك في الركوع لا يعود، فإذا سلم الإمام يقوم ويقضي ركعة. فرع المأموم الموافق إذا قرأ دعاء الاستفتاح، فلما فرغ منه هوى إمامه إلى الركوع عليه أن يقرأ الفاتحة وجهًا واحدًا، ثم يجري على أثر الإمام كما بينا، والمسبوق لو اشتغل بدعاء الاستفتاح. فقيل: إن قرأ الفاتحة ركع الإمام، ففيه أوجه سنذكرها إن شاء الله.

باب سجود السهو وسجود الشكر

باب سجود السهو وسجود الشكر قال المزني: قال الشافعي رحمه الله تعالى -: ومن شك في صلاته، فلم يدر، أثلاثًا صلى، أم أربعًا، فعليه أن يبني على ما استيقن، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال القاضي حسين: بدأ في الترجمة بسجود الشكر، وفي الشرح ببيان حكم سجود السهو، لأن أمره أهم، وجملة السهو في الصلاة قسمان، سهو في أصل الصلاة في الأصل، فمثل أن يشك أنه هل صلى أم لا؟ فالأصل أنه لم يصل، فيبني على اليقين، وهذا أصل ممهد في الشريعة، وهو أن ما تحقق ثبوته، وشك في زواله، لا يترك اليقين، السابق، بالشك الطاري، بل بيقين أقوى منه أو مثله، والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان يأتي أحدكم، فينفخ بين أليتيه، ويخيل إليه أنه قد أحدث، فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرف عن صلاته، حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا. وقال عليه السلام: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. فأما الشك في أبعاض الصلاة فلا يخلو أما أن يقع في خلال الصلاة، أو بعد الفراغ منها، فإن وقع في خلال الصلاة مثل أن شك في أنه هل صلى ركعة أو ركعتين؟

فيبني على اليقين، ويعود إلى الموضع الذي وقع له الشك في فعله، يأتي به، وما أتي على الشك بعده، ولا يفصل بين أول صلاة يعرض له هذا الشك فيها، وبين الصلاة بعدها إذا صار ذلك عادة له. وقال أبو حنيقة إذا اعترض له الشك أولا، بطلت صلاته، وإن كان ذلك وقع له معتادًا اجتهد إن أدى اجتهاده إلى أحد الأمرين، عمل به، أخذًا بغلبة الظن، فإن استوى الأمران عنده يبني على اليقين. دليلنا ما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن على ما استيقن، وليضف إليها ركعة أخرى وليسجد سجدتين ثم ليسم، فإن كانت خمسًا شفعتها السجدتان، وإن كانت أربعًا، فالسجدتان ترغيمتان للشيطان. قوله: شفعتها السجدتان، لم يرد أنها بالسجدتين تصير ستة، إذ: السجدتان لا يقومان مقام ركعة كاملة، وإنما أراد به أن السجدتين يردانها إلى الأربعة، ويحذفان الزيادة، لأن سجود السهو كما يجبر النقصان يرفع الزيادة. وقوله: وإن كانت أربعًا فالسجدتان ترغيمتان للشيطان، أراد به أنه إن كان قد أتم صلاته، ولم يزد فيها شيئًا، يسجد سجدتين، فيترغم بهما الشيطان، ولا تزداد بهما الصلاة. وقيل: لا يترغم الشيطان بقربة كما يترغم بالسجود، يقال: إذا سجد ابن آدم، يقول الشطيان: واويلاه، أمر ابن آدم بالسجود، فأطاع، فله الجنة، وأمر هو بالسجود فعصى، فله النار، ويترغم بالأذان والإقامة أيضا غاية الترغم.

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط أو حصاص فإذا فرغ أقبل، فإذا أقام أدبر، فإذا فرغ أقبل، ويدخل ما بين المرء ونفسه، ويذكره أشياء، لا يذكرها فإذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فليين على ما استيقن. ولأن ما وجب البناء في أصله على اليقين، وجب البناء على عدد على اليقين كالطلاق، وإن شك بعد الفراغ من الصلاة في عدد الركعات أو الأركان، عن كان الفصل يسيرًا عاد، وبني على صلاته، وإن طال الفصل استأنف في الجديد، وبني في القديم. ونظير هذا، المرأة المعتدة بالإقراء إذا ارتابت هل بها حمل أم لا؟ وكانت في خلال العدة لا يحكم بانقضاء عدتها، فإن كانت قد انقضت عدتها، فنكحت، فعلى قولين: أحدهما: لا ينعقد النكاح. والثاني: ينعقد موقوفًا. وجه الشبه أن الريبة هناك طرأت بعد الحكم بانقضاء العدة، فأوجبت نقض الحكم والحكم ببقاء العدة، فكذا ها هنا، الريبة إذا طرأت توجب نقض الحكم بصحة الصلاة، ويلزم الاستئناف. قال المزني: فإذا فرغ من صلاته بعد التشهد، سجد سجدتي السهو قبل التسليم، واحتج في ذلك بحديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم وبحديث ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد قبل [السلام].

قال القاضي حسين: مذهب الشافعي رحمه الله في الجديد أن سجدتي السهو، قبل السلام، زيادة كانت السهو أو نقصانًا. وقال في القديم: إن وقع السهو بالزيادة سجدهما بعد السلام، وإن وقع بالنقصان سجدهما قبل السلام، وهو مذهب مالك. وفرق بأن السهو إذا كان نقصانا ينجبر بهما إذا سجدهما قبل السلام، وإذا كان زيادة يؤدي إلى الزيادة على الزيادة لو سجدهما قبل السلام. ومن قال بالأول أجاب عنه بأن قال: سجود السهو كما يجبر النقصان يحذف الزيادة، فإذا كانت السهو زيادة سجدهما قبل السلام لينحذف الزيادة. واحتج مالك أيضا بحديث ذي اليدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سجدهما بعد السلام، ولأن سهوه كان بالزيادة، وهو الكلام والسلام، وبما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة ذات أربع خمسًا، فقيل له: أزيدت الصلاة يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: لماذا؟ فقيل: صليت خمسًا فسجد سجدتين، وسلم. ومن قال بالمذهب الجديد أول حديث ذي اليدين، وحمل السلام المذكور فيه قبل السلام على السلام المشروع في التشهد وهو السلام على النبي، وعلى عباد الله الصالحين على أنه روى في حديث ذي اليدي أنه سجد سجدتين، ثم سلم. وأما الخبر الاخر، فلا دليل فيه، لأن السجدتين وقعتا بعد السلام للضرورة؛ لأنه عليه السلام ذكر السهو بعد السلام. وقال أبو حنيفة سجدتا السهو بعد السلام بكل حال دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري على ما روينا، وحديث عبد الله بن بحينة روى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي الظهر أو العصر، فقام إلى الثالثة،

ولم يجلس فسبحنا فلم يعد، فلما كان في آخر الصلاة انتظرنا تسليمه، فسجد سجدتين ثم سلم. قال الشافعي: روى السجود قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام، والأخذ به أولى، وروى عن الزهرى أنه قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل السلام للسهو، وسجد بعد السلام، وكان سجوده قبل السلام آخرًا. وقال ابن عباس: كنا نأخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحدث فالأحدث. ولأن هذه السجدة لجبر خلل وقع في الصلاة، فيأتي بها في الصلاة، لينجبر الخلل، إذ لو أخرها بقي الخلل في الصلاة. فقيل: إذا شك في خلال الصلاة، أما في عدد الركعات أو الأركان، إن تذكر في الحال لم يلزمه سجود السهو، وإذا تذكر بعد مضى زمان، والإتيان بجزء من الصلاة ما حكمه؟ كان القفال رحمه الله يقول: إن كان مفعوله بعد الشك إلى التذكر ما يقطع المعيب، أن عليه فعله لم يكن سهوه ملزمًا السجود، وإن كان مفعوله بعد الشك إلى التذكر مما لا يقطع على المعيب أن عليه فعله، بل احتمل أن يكون ذلك زيادة في الصلاة، كان سهوه ملزمًا السجود. وبيان ذلك رجل في صلاة المغرب شك في التشهد الأخير، أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، لا يلزمه سجود السهو، إذ لم تنكشف حقيقة الحال، أو بان انها كانت ثالثة، لأنه كان يقطع على المغيب أن ما أتي به بعد الشك عليه فعله، وليس في

أحد محتمليه أنه زيادة في الصلاة؛ إذ التشهد فرض، سواءٌ كان قد زاد ركعة أو لم يزدها، وإن انت رابعته فعليه سجود السهو، لأنه تحقق زيادة ركعة في الصلاة، وإن لم يكن في التشهد، وكان إما في الركوع، أو السجود، فإن انكشف له في الحال فلا سجود عليه لما بنا، فإن مضى زمان، وأتي بجزء من الصلاة، فعليه سجود السهو، سواء بأن له أنها كانت ثالثته أو رابعته، لأن ما أتي به بعد الشك إلى التذكر كان لا يقطع على المغيب أن عليه فعله، بل كان في أحد محتمليه أنه زيادة منه في الصلاة، ولو شك في صلاة الصبح، أنها كانت أولاه أو ثانيته، فإن تذكر قبل القيام إلى الثانية، لم يلزمه سجود السهو، لما بينا، وإن تذكر بعد القيام إلى الثانية، فعليه سجود السهو، لأنه أتي ما هو زيادة في أحد محتمليه بعد الشك، وهو القيام، ولو شك في صلاة الظهر، أنها أولاه أو ثانيته، فإن تذكر قبل القام إلى الثانية، لم يلزمه السجود، وإن تذكر بعد القيام إلى الثانية فعليه السجود، لأنها إن كات ثانيته، فقد ترك التشهد الأول، وإن بانت أولاه، ففي أحد محتمليه أنه أتى بما ليس عليه، لأن عليه أن يتشهد قبل القيام إلى الثالثة. ويحتمل أن يقال: ليس عليه سجود السهو، بخلاف ما ذكرنا من الصبح، فإن بان أن المفعول أولاه، عليه سجود السهو، لأن في أحد محتمليه أن المفعول ثانيه، وهذا ثالثه، والركعة الثالثة ما لا يجب عليه قط بكل حال. وفي هذه المسألة، هذه الركعة التي قام إليها ما يجب عليه بكل حال، التشهد الأول بوجوب سجود السهو إذا كان متروكًا، فهو لم يترك ها هنا شيئًا، فليس عليه سجود السهو، وإن شك أنها ثالثته أو رابعته، فإن تذكره قبل القيام إلى الرابعة، لم يلزمه السجود، وإن تذكر بعده، فعليه السجود، لأنها إن

بانت رابعته، فقد زاد في الصلاة، وإن بانت ثالثته، ففي أحد محتمليه أنه تارك للتشهد، وفاعل ما ليس عليه فعله. فرع في صلاة ذات أربع، شك أن الركعة التي هو فيها ثالثته أو رابعته، تشهد فبان أن التي شك فيها رابعته، والتشهد التي هو فيها التشهد الأخير، ليس عليه سجود السهو، ولو شك في التشهد الأخير أنه صلى أربعًا أو خمسًا ليس عليه سجود السهو إن لم يتذكر شيئًا، لأنه شك في السهو، والأصل أنه ما سها، قال المزني: وإن ذكر انه في الخامسة سجد أو لم يسجد قعد في الرابعة أو لم يقصد فإنه يجلس للرابعة، ويتشهد ويسجد للسهو. قال القاضي حسين: إذا قام إلى الخامسة ساهيًا، ثم ذكر أنه في الخامسة عاد عندنا، ويتشهد للرابعة، وسجد سجتين ثم سلم، سواء كان قد قعد في الرابعة أو لم قعد، وسواء قيد الخامسة بسجدة، او لم يقيدها بسجدة. وقال أبو حنيقة: إن لم يكن قيد الخامسة بسجدة عاد، وصلاته صحيحة، وإن كان قد قيدها بسجدة، إن لم يكن قعد في الرابعة، بطلت صلاته، وإن كان قد قعد في الرابعة، ضم إليها ركعة أخرى تكونان له نفلا، وإنما بني هذا على أصلين: أحدهما: أن الركعة الواحدة ليست بصلاة عنده، فيضم إليها أخرى لتصير صلاة. والثاني: أن عنده الفعل المنافي للصلاة في آخر الصلاة، تتم به الصلاة، فإذا كان قعد في الرابعة، فبقيامه إلى الخامسة بطلت صلاته، وهذا ليس بصحيح،

لأن القيام فعل واحد، فيستحيل أن تتم به صلاة، ويشرع به في أخرى، لأن الخروج والشروع ضدان، فلا يحصلان بمعنى واحد. قال القفال رحمه الله: العجب من محمد بن الحسن صدر الجامع بهذه المسألة، وذكر فيها التفصيل الذي ذكرنا، ثم عطف عليه الخبر الذي رويناه أنه عليه السلام: صلى صلاة ذات أربع خمسًا إلى آخره، ولم يستأنف الصلاة ولا ضم إليها ركعة أخرى. فالحديث مخالف لمذهبه من كل وجه، لأنه عليه السلام كان لا يخلو، إما أن يكون قد قعد في الرابعة، أو لم يقعد، فإن كان قد قعد في الرابعة، لكان يضم إليها ركعة أخرى على قضية مذهبه، وإن لم يكن قد قعد في الرابعة، لكان يستأنف الصلاة، ثم إن الشافعي رحمه الله، لما قال: يعود إلى الرابعة ويتشهد اعترضوا، فقالوا: لم أمره بالتشهد ثانيًا إذا كان قد تشهد مرة؟ اختلف أصحابنا في الجواب عنه على طرق. منهم من قال: جمع الشافعي رحمه الله بين مسألتين: إحداهما: أن يكون قد قعد في الرابعة. والأخرى: ألا يكون قد قعد في الرابعة. وقوله: يعود ويتشهد، راجع إلى إحداهما، وهي إذا لم يكن قد قعد في الرابعة، ومنهم من قال: قوله: قعد أو لم يقعد، تشكيك إن كان شاكًا، هل قعد أم لا؟ وقوله: سجد او لم يسجد، تنويع المسألة إذا شك، هل قعد أم لا؟

فالأصل أنه لم يقعد وعليه أن يتشهد وقد يجمع في الكلام الواحد بين التنويع والتشكيك، هذا كما قال في خبر الربا، ونقص أحدهما التمر والملح تشكيك في أن المقبوض من التمر والملح، وفي الناقص مسلم بن يسار أو صاحبه. وقوله: زاد أو ازداد، فقد أربى تنويع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: ومن أعطى الزيادة، وأخذ الزيادة فقد أربى. وقيل: هو تشكيك أيضا أي شك الراوي أنه عليه السلام، قال: زاد أو ازداد. ومنهم من قال: قصد بقوله: قعد او لم يقعد، الرد على أبي حنيفة حيث فصل بينهما. ومنهم من قال: الشافعي رحمه الله لم يقل: تشهد في الرابعة أو لم يتشهد، وإنما قال: قعد في الرابعة أو لم يقعد. وعندنا لا يكتفي بالقعدة، بل لابد من انضمام قراءة التشهد إليها، فإنما أمر بالتشهد، وإن كان قد قعد، لأن عليه فرض قراءة التشهد، ولا يمكنه قراءة التشهد إلا بقعدة معها، ولعله قصد به أيضًا على أبي حنيقة، حيث قال: القعود يكتفي به دون قراءة التشهد. فمن قال بأحد الطرق الأربعة يقول: إذا كان قد تشهد في الرابعة لا يتشهد إذا رجع عن الخامسة التي قام إليها ساهيًا. ومن أصحابنا من قال: وإن كان قد تشهد في الرابعة يعود، ويتشهد ثانيًا، وبه قال ابن سريج، ولأي معنى لزمه التشهد ثانيًا؟ فيه معنيان: أحدهما: أن الشرط هو أن ينتقل من ركن إلى ركن يدل عليه أن الشافعي رحمه الله نص على أنه لو قدر على القيام بعد القراءة، وكان يصلي قاعدًا يرتفع

إلى القيام، ثم منه يهوي إلى الركوع، ولا يرتفع من القعود إلى الركوع ليكون الانتقال من الركن إلى الركن الذي يتصل به. وقال المزني: في المنثورات: لو رفع المأموم رأسه قبل إمامه من السجود لتنقل فعليه أن يعود إلى السجود، ثم يرفع رأسه، لأن رفعه الأول لم يكن للانتقال من السجود إلى الجلسة، وإنما كان للنفل، وعلى هذا لو صلى قاعدا للعجز عن القيام، ثم قدر على القيام في خلال الفاتحة، فإنه يسكت ويقوم، ثم يبني على القراءة، ولا يقرأ في حالة القيام من القعود، وحتى يعتدل قائمًا. والمعنى الثاني: أن المولاة شرط بين الأركان، وإن ما كان ركنًا من الصلاة، لابد وأن يتصل أحد طرفيه بالصلاة، والسلام ركن، فلا يجوز أن ينفرد بنفسه، فأوجبنا التشهد ليتصل أحد طرفيه بجزء من الصلاة؛ لأن ما أتى به ساهيًا ليس من الصلاة، وعلى هذين المعنيين مسألة، وهي أنه لو ترك السجدة الثانية من الركعة الأولى من صلاة الصبح ساهيًا، وقام إلى الثانية، ثم ذكرها، فعليه أن يعود إلى الموضع المتروك، ثم يلزمه أن يسجد واحدة، أو سجدتين؟ فعلى وجهين بناء على المعنيين: إن جعلنا المعنى الانتقال من الركن إلى الركن سجد سجدتين، لينتقل إلى الركن عن الركن الذي يتصل به، وإن جعلنا المعنى اتصال أحد طرفيه بجزء من الصلاة اقتصر على السجدة المتروكة، لأن إحداهما، يتصل بجزء من الصلاة، وهو القيام، وإن لم يتصل أولها بما هو محسوب من الصلاة. فرع لو سمع حسًا، ظن أن الإمام رفع رأسه من الركوع، أو من السجود، فرفع رأسه، فإذا الإمام لم يرفع رأسه، فعليه أن يعود، ولو كان هو في القعود، والإمام في الارتفاع، أيضا يجب عليه أن يعود إلى تمام السجود. وفيه وجه آخر: أنه لا يجب عليه أن يعود، بل يتابعه ولو رفع رأسه منه قبل

الإمام متعمدًا لا تبطل صلاته، ولو عاد متعمدًا تبطل، فلو بدا له ألا يعود إلى السجود، هل تبطل صلاته أم لا؟ يحتمل أن يقال: تبطل صلاته، كما لو رفع رأسه لتنفل، يجب عليه أن يعود، ولو لم يعد بطلت صلاته. ويحتمل ان يقال: لا تبطل، والفرق أن هناك رفع رأسه لتنفل، ولم يقصد قطع السجود، بدليل أنه لو وافقه الإمام في ذلك أيضًا لم يجز. وفي مسألتنا قصد بالرفع قطع السجود بدليل أنه لو كان الإمام رافعًا رأسه، كما ظن ليس عليه العود، هذا هو الأصح، والله أعلم. قال المزني: فإن نسي الجلوس من الركعة الثانية، فذكر في ارتفاعه، وقبل انتصابه، فإنه يرجع إلى الجلوس، ثم يبني على صلاته، وإن ذكر بعد اعتداله، فإنه يمضي. قال القاضي حسين: إذا ترك التشهد الأول، وقام إلى الثالثة، ثم ذكر أنه تركه إن كان قد اعتدل قائمًا لم يجز له أن يعود إلى الجلوس والتشهد، لأن القيام فرض، والتشهد الأول سنة، ولا يجوز قطع الفرض بسبب السنة، فإن عاد بطلت صلاته، إن كان عالمًا بالعود بأنه لا يجوز، وإن كان جاهلاً به، فالمذهب أن صلاته لا تبطل، لأن هذا مما يخفي على العوام، ومما يبتلون به. وقال أحمد: عليه العود، وإنما بناه على أصله، لأن التشهد الأول فرض عليه عنده. فأما المأموم: فإنه يتابع الإمام إذا عاد إلى التشهد، بل يخرج نفسه عن صلاته، أو يقوم حتى يعود الإمام إلى القيام، ويقدر كأنه جلس ناسيًا أو جاهلاً في وجه. فأما إذا ذكر قبل الاعتدال قائمًا نظر، فإن كان أقرب إلى الجلوس بأن لم ينتصب ساقاه عاد، وتشهد، ولا يلزمه سجود السهو، لأن هذا القدر لو زاده عمدًا في الصلاة لم تبطل صلاته، وان انتصب ساقاه، وبلغ هيئة الراكعين عاد أيضًا، وسجد للسهو، لأنه لو زاد هذا القدر في الصلاة عمدًا، بطلت

صلاته، ولو ارتفع عن هيئة الراكعين، وكان من هيئة الراكعين والقائمين هل له القعود؟ يحتمل وجهين: أحدهما: يعود كما لو كان في هيئة الراكعين، فعلى هذا يسجد للسهو. والثاني: كما لو بلغ هيئة القائمين، فعلى هذا إن عاد حكمه ما قلنا،، ولو قام في الصلاة هكذا منحيًا ظهره، بحيث يكون بين هيئة الراكعين، والقائمين، هل يجوز،؟ يحتمل وجهين، ولو ترك القنوت ساهيًا، حتى ألصق الجبهة بالأرض لا يعود، وإن عاد وهو عالم بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً لم تبطل، ولو بلغ هيئة الراكعين عاد إلى القنوت، وسجد للسهو، وإن كان أقرب إلى الأرض منه إلى هيئة الراكعين، غير أنه لم يلصق الجبهة بها في العود، يمكن أن يخرج هذا على الوجهين، والصحيح أنه يعود. قال المزني: وإن جلس في الأولى، فذكر قام، وبني، وعليه سجدتا السهو، وإن ذكر في الثانية، أنه ناس لسجدة من الأولى، بعد ما اعتدل قائمًا، فليسجد للأولى، حتى تتم قبل الثانية. قال القاضي حسين: إذا جلس في الركعة الأولى للتشهد على ظن أنها ثانيته، ثم ذكر إن كان قد أخذ في قراءة التشهد، فعليه أن يسجد للسهو؛ لأنه لو زاد هذا القدر عمدًا في الصلاة بطلت صلاته، وإن لم يكن قد أخذ في قراءة التشهد نظر. إن كان جلوسه بقدر جلسة الاستراحة لم يلزمه السجود للسهو، ووقعت عن جلسة الاستراحة، وإن كان قد زاد على جلسة الاستراحة، فعليه أن يسجد للسهو، ونظيره ما بينا في الفاتحة إذا نوى قطعها. قال المزني: وإن ذكر بعد أن يفرغ من الثانية، أنه نسي سجدة من الأولى فإن عمله في الثانية كلا عمل، فإذا سجد فيها، كانت من حكم الأولى، وتمت الأولى

بهذه السجدة، وسقطت الثانية، وإن ذكر في الرابعة؛ أنه نسي سجدة من كل ركعة، فإن الأولى صحيحة إلا سجدة، وعمله في الثانية كلا عمل، فلما سجد فيها سجدة، كانت من حكام الأولى، وتمت الأولى، وبطلت الثانية، وكانت الثالثة ثانية، فلما قام في ثالثة قبل أن يتم الثانية، التي كانت عنده ثالثة، كان عمله كلا عمل، فلما سجد فيها سجدة، كانت من حكم الثانية، فتمت الثانية، وبطلت الثالثة، التي كانت عنده رابعة، ثم يقوم فيأتي بركعتين، ويسجد للسهو بعد التشهد وقبل السلام، وعلى هذا الباب كله وقياسه. قال القاضي حسين: إن كان قد جلس بين السجدتين عاد، وسجد السجدة الثانية كما بينا، وإن لم يكن جلس بين السجدتين، فالقيام إلى الركعة الثانية، هل يقوم مقام الجلسة بين السجدتين، فوجهان: أظهرهما: لا؛ لأن القعود والقيام مختلفان يدل عليه انه لا يجري واحد منهما في محل الآخر، والثاني: بلى؛ لأن القيام قعود وزيادة. يدل عليه أن الشافعي رحمه الله نص على أنه لو عجز عن القعود، فقدر على القيام والاضطجاع، يصلي قائمًا غير مضطجع، لأن في الإتيان بالقيام إتيان بالقعود وزيادة. وفائدة الوجهين: إذا تذكر أنه ترك سجدة من الركعة الأولى، فتذكر بعد التشهد الأول، إن قلنا: القيام يقوم مقام الجلسة، فالسجدة الأولى الركعة الثانية محسوبة له. وإن قلنا: لا يقوم مقامه، فالسجدة الثانية محسوبة له، ولو تذكر في الركوع، أو القيام أنه ترك سجدة. إن قلنا: يقوم القيام مقام الجلسة، يعود إلى السجدة، وإلا فيجلس ثم

يسجد، ولو جلس للاستراحة، فهل تقوم هذه الجلسة مقام الجلسة بين السجدتين، يترتب على القيام. إن قلنا: يقوم مقامها، فجلسة الاستراحة أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن هذه الجلسة من جنسها؛ لأن كل واحدة منهما جلوس، بخلاف القيام، فإنه ليس من جنس الجلوس، ونظير الوجهين، الوجهان في أنه لو ترك لمعة من المرة الأولى، في غسل الوجه في الطهارة، وتغسلت في المرة الثانية والثالثة. ووجه الشبه، أن معقود نيته في الوضوء تشتمل على المرات الثلاث، ألا يغسل الثانية إلا بعد الأولى، والثالثة إلا بعد الثانية، فكذا معقود نيته في الصلاة، اشتمل على جلستين، أعني الجلسة بين السجدتين، وجلسة الاستراحة، وألا يأتي بجلسة الاستراحة إلا بعد السجدة الثانية. ومنهم من عكس الترتيب، وفرق بأن القيام فرض، وما تركه فرض فيتجانسان، بخلاف الجلسة للاستراحة، فإنها سنة، فلا تقوم مقام الفريضة، وإذا جلس للتشهد الأول هل يقوم مقام الجلسة بين السجدتين، فعلى الوجهين، كما في الجلسة للاستراحة، وإذا جلس للتشهد الثاني قام مقامها، لأنها جلوس من جنسها، وفرض مثلها.

فصل نص الشافعي رحمه الله على أنه لو أطال القيام بعد رفع الرأس من الركوع، فذكر الله، أوقنت ساهيًا، يسجد للسهو فاختلف أصحابنا في معناه. فمنهم من قال: المعنى فيه أنه مد الركن المقصود بالذكر الممدود. ومنهم من قال: المعنى فيه انه نقل الذكر المقصود المشروع من محل إلى محل، وعلى هذين المعنيين، قالوا: لو تشهد في حالة القيام، أو قرأ الفاتحة في حالة التشهد ساهيًا، إن جعلنا المعنى فيه أنه مد الركن المقصور بالذكر الممدود لم يلزمه سجود السهو، لأن القيام والقعود للتشهد ركنان ممدودان، وإن جعلنا المعنى أنه نقل الذكر الممدود من محل إلى محل، لزمه السجود، إذا تعمد إطالة القيام من الركوع، أوقنت متعمدًا بطلت صلاته، لأنه لو أتي به ساهيًا لزمه سجود السهو، فإذا أتي به عامدًا بطلت به الصلاة، وإذا تعمد قراءة التشهد في القيام، وقرأ الفاتحة في التشهد، ففي بطلان الصلاة وجهان، كالوجهين في سجود السهو، إذا فعلها ساهيًا لا تبطل صلاته، فإذا فعلها عامدا لا تبطل صلاته. وإن قلنا: هناك يسجد للسهو، فإذا فعله عامدًا، هل تبطل صلاته ام لا؟ على وجهين فها هنا أصل، وهو أن كل عمل يلزمه سجود السهو، إذا أتى به ساهيًا، فإذا أتى به عامدًا بطلت صلاته. وإن قلنا: لا يلزمه سجود السهو، لا تبطل صلاته إذا فعله متعمدًا إلا في مسألة واحدة: إذا عمل عملا قليلاً، لا من جنس الصلاة، يلزمه سجود السهو، إن تعمد، لا تبطل صلاته.

فصل لو جلس بين السجدتين، وتشهد، ثم بعد ما فرغ من التشهد ذكر أنه كان بين السجدتين. قال أصحابنا: يسجد السجدة الثانية، ولا يلزمه سجود السهو؛ لأن ما بين السجدتين من محل الجلوس بخلاف ما لو جلس بعد الاعتدال قائمًا وقبل السجود، يسجد للسهو، لأنه ليس بمحل الجلوس، إذ لا جلوس بعد الركوع. قال القاضي رضي عنه: وهذا عندي فيه إشكال عظيم، لأن الجلسة بين السجدتين ركن مقصود، كالاعتدال من الركوع، وقد مده بالذكر الممدود، فيجب أن يقال: إنه يسجد للسهو على أحد الوجهين، وأنه إذا تعمدها تبطل صلاته. وقضية ما قال الأصحاب من أنه يلزمه السجود إذا تشهد فيها ناسيًا أن الصلاة لا تبطل، إذا تشهد فيها عامدًا. قوله: وإن ذكر في الثانية أنه ناس لسجدة من الأولى. قال القاضي حسين: والترتيب في أركان الصلاة شرط، لو ترك الترتيب إن كان عامدًا، مثل أن يسجد قبل الركوع، أو يركع قبل القيام، بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا عاد إلى الموضع المتروك، وبني ولم يحسب له ما أتى به بعد الترك ناسيًا، فلو كان في صلاة الصبح في التشهد تذكر أنه ترك سجدة، إن علم أنه تركها من الثانية، واستأنف التشهد، وإن علم أنه تركها في الأولى، قام وصلى ركعة أخرى، وتمت أولاه بسجوده في الثانية، والعمل بعد ترك سجدة في الأولى إلى أن سجدها في الثانية، فلا عمل، وإن اشتبه عليه، لم يدر أنه تركها في الأولى، أو في الثانية يأخذ بأسوأ الأحوال، وأسوأها أن يكون تاركًا لها من الأولى، فحصل له ركعة، ويضيف إليها ركعة أخرى، ولو ذكر

أنه ترك ركوعًا إن علم أنه تركه من الثانية، قام وركع، وسجد السجدتين بعدَه، واستأنف التشهد، وإن علم أنه تركها من الأولى، تمَّت الأولى بالثانية، وأضاف إليها ركعة أخرى، وما عمل بينهما كلا عمل، وإن اشتبه عليه أخذ بأسوأ الأحوال كما بَيَّنَا، وإذا كان في الركوع تَيقَّن أنه ترك الفاتحة في القيام إن مكث ساعة ثم عاد، تبطل صلاته، وإن عاد إلى القيام حال ما تذكر، وقرأ ثم ركع ثانيًا، لا تبطل صلاته، وبمثله لو تذكر قبل الركوع أنه ترك الفاتحة، ومكث ساعة، ثم قرأها، لا تبطل صلاته. والفرق أن ها هنا القيام، محل قراءة الفاتحة، فمكثه لا يضر بخلاف الركوع، فعلى هذا إذا كان في الركوع وتيقن أنه ترك الفاتحة، في إحدى القيامين، ولا يدري في أيهما. قال القاضي رضي الله عنه، يحتمل أن يقال: لا تحسب له إلا التحريمة، فيقوم ويقرأ ويتم الركعة، ثم يصلي ركعة أخرى، ويأخذ بأسوأ الأحوال في الطرفين، فمن حيث يحتمل أنه تركها من الثانية يقوم ويقرأ، ومن حيث يحتمل أنه تركها من الأولى، لم يحسب له الركوع في الأول، لاستحالة أن يحسب له الركوع قبل القراءة، وهذا نظير ما قلنا في الجمع بين الصلاتين، إذا تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الصلاتين ولم يدر أنه تركها من الظهر أو العصر، يأخذ بأسوأ الأحوال في الطرفين. فنقول: عليه استنئاف إعادة الظهر لاحتمال أنه تركها من الظهر، ولا يصلي العصر بحق الجمع، لاحتمال أنه تركها من العصر، وقد طال الفصل، وانقطع نظم الجمع، فكذا هاهنا لاحتمال أنه تركها من الثانية، لم تحسب له القراءة، والجادة الصحيحة التي عليها يجري نظائر هذه المسألة، ومسائل الباب، أنه يحسب له قيام بقراءة، ويمضي على سرد صلاته من الموضع الذي بلغ، فيتم الركعة، ثم يضيف إليها ركعة أخرى، لأنه تيقن القراءة مرة، وإن كان قرأها في الأولى تمت له ركعة، وإن كان قرأها في الثانية، يأتي ببقية الركعة، ولو كان في صلاة ذات

أربع، ثم تيقن أنه ترك سجدة في آخر الصلاة، إن علم أنه تركها من الرابعة سجدها، واستأنف التشهد، وسجد للسهو، وإن علم أنه تركها من الأولى أو الثانية أو الثالثة، أو شك أنه تركها من الأولى أو الثانية أو الثالثة قام وصلى ركعة أخرى، وإن تيقن أنه ترك سجدتين، ولا يدري في أي الركعات تركها، يأخذ بأسوأ الأحوال، وأسوأها أن يكون قد ترك سجدة من الأولى، أو ترك سجدة أخرى من الثالثة، فتنجبر الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، فتحصل له ركعتان، لأن عمله بعد تركها في ركعة إلى أن يأتي بهما في ركعة أخرى، كلا عمل، ولو تيقن أنه ترك ثلاث سجدات، ولم يدر من أي الركعات تركها أخذا بأسوأ الأحوال، وأسوأها أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدة ومن الرابعة سجدة، أو ترك من الاولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، فيحصل له ركعتان أيضا، تتم بالأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وإن تيقن أنه ترك أربع سجدات، فأسوأ الأحوال أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدتين، ومن الرابعة سجدة، أو من الثالثة سجدة، ومن الرابعة سجدتين، فيحصل له ركعتان إلا سجدة، وإن تيقن أنه ترك خمس سجدات، أو شك في فعلها، فأسوأ الأحوال، أن يكون قد ترك من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدتين، فتحصل له ركعة، وتتم الأولى بالثانية، ولو تيقن أنه ترك ست سجدات، فكذلك يحصل له ركعة، لأنه أتي بسجدتين، فإن أتى بهما في ركعة فذاك، وإن أتى بهما في ركعتين تمت المتروكة بالمفعول فيها، ولو ترك سبع سجدات، حصلت له ركعة إلا سجدة، ولو ترك ثماني سجدات لم يحصل له إلا قيام وركوع. والمسائل كلها مصورة فيما لو علم أنه جلس بين السجدتين، وعلى هذا الأصل الذي أصلنا غير مرة، وهو أن اليقين لا يترك بالشك. وقال ابن سريج: إنما تنجبر الأولى بالثانية. فأما إذا لم يتحاشاها بنيته، أنه لم ينو في الثانية أنه سجد من الثانية. فأما إذا حاشاها بنيته، ونوى أنه يسجد من الثانية لا تتم بها الأولى قال:

وهذا كما قال الشافعي رحمه الله، لو هوي إلى السجود فسقط على الأرض، إن نوى الاعتماد على الأرض، لا يحسب له عن فرض السجود، فإن نوي السجود، واستدام نيته الأولى، لم يحدث نية الاعتماد على الأرض، حسب له عن فرض السجود. وقال أبو حنيقة: إذا ترك أربع سجدات في كل ركعة سجدة، يأتي بها في آخر الصلاة، وتلتحق كل سجدة بمحلها، وتمت صلاته، والله أعلم بالصواب. قال المزني: وإن شك هل سها أم لا، فلا سهو عليه. قال القاضي حسين: وهو كما قال: وكذلك لو شك هل سها، ثم بني على اليقين، أو لم يسه أصلا، فلا سهو عليه، إذ الأصل أن لا سهو فتمسك به، وله ثلاثة أحوال: إن شك في الجملة، هل سها أم لا؟ ولا يعرف بعينه أنه زيادة أو نقصان، فلا سجود عليه، إذ الأصل أنه لم يسه، وكذلك إن شك ولم يدر، هل شك في عدد الركعات، وبني على الأقل أو لم يشك أصلا، وأتم الصلاة، فلا سجود عليه، وكذا إن شك في زيادة، هل فعلها أم لا؟ مثل ركوع زائد أو كلام ناسيًا؟ فلا سجود عليه؛ إذ الأصل أنه لم يفعل، ولو شك في ترك مأمور من ترك القنوت، أو التشهد الأول، فعليه السجود، لأن الأصل أنه ما أتى بهما. قال المزني: وإن استيقن السهو، ثم شك، هل سجد للسهو أم لا، سجدهما، وإن شك، هل سجد سجدة أو سجدتين، سجد أخرى. قال القاضي حسين: وهو كما قال؛ لأن الأصل أنه لم يسجدها، فأما إذا سها في سجود السهو، مثل إن تكلم ناسيًا بين سجدتي السهو، أو سلم ناسيًا، فلا يلزمه سجود السهو، وهذه المسألة التي سأل عنها أبو يوسف الكسائي، حكى أنه جمعهما مجلس، فادعى الكسائي أن من تهدي إلى علم وتبحر فيه، يهتدى إلى العلوم كلها، فأنكره ابو يوسف وقال: إنه أنت متبحرٌ

في حرفتك من النحو والأدب، فأسألك عن مسألة من الفقة؟ فقال: هات، فقال: ما تقول فيمن سها في سجود السهو؟ فقال: لا يلزمه السجود، فقال: لم قلت؟ فقال: لأن التصغير لا يصغر، إذ لو صغر التصغير، لصغر تصغير التصغير، فيؤدي إلى ما لا يتناهى، والتعليل ما أشار إليه، وذلك لأن سجود السهو شرع للجبر في الصلاة، فلو قلنا: السهو فيه غير مجبور، لا نأمن السهو في جبر الجبر، ثم في جبر جبر الجبر، فيؤدي إلى ما لا يتناهي، وما لا يتناهى فنهايته في بدايته. قال القاضي رضي الله عنه: ولو سها في سجود السهو، لا يلزمه السجود، ولو سها بسجود السهو، يلزمه السجود، والسهو بسجود السهو، أن يسهو هل ترك القنوت أم لا، فسجد سجدتي السهو، ثم تركه أنه قد كان قنت فسجد ثانيًا سجدتين، لأنه سجد سجدتين ساهيًا، ولو سها بعد سجدتي السهو وقبل السلام، فيه وجهان: أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن السجدتين يجبران النقصان الذي وجد في الصلاةـ والثاني: يلزمه ذلك، لأن السجدتين إنما يجبران الخلل الذي يقع قبلهما دون ما وجد بعدهما. قال المزني: وإن سها سهوين، أو أكثر، فليس عليه إلا سجدتا السهو قال القاضي حسين: هو كما قال عندنا، وقال ابن أبي ليلى أو الأوزاعي، سجود السهو يتعدد، بتعدد السهو، ويلزمه أن يسجد لكل سهو سجدتين، واحتج بما روى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لكل سهوٍ سجدتان.

دليلنا: حديث ذي اليدين فإنه عليه السلام، سها في تلك الصلاة أكثر من واحد، حيث سلم ناسيًا: وتكلم بكلمات ناسيًا، ثم اقتصر على السجدتين؛ ولأنه لو كان يحتاج لكل سهو إلى سجدتين لكان سجدهما في محل السهو، ألا ترى أنه لو كان يحتاج إلى سجود التلاوة في كل مرة، قرأ آية السجود، وسجدها في محلها، ولا يؤخرها إلى آخر الصلاة، فلما آخر السجود إلى آخر الصلاة، علم أنه لا يلزمه أكثر منهما تعدد السهو أو لم يتعدد؛ لأن فائدة التأخير أن يجمعها أنواع السهو كلها، وما رواه يحتمل أنه أراد به لكل نوع من السهو زيادة كانت أو نقصانًا، قولاً كان أو فعلاً سجدتان. وقال صاحب التلخيص: لا يسجد للسهو أكثر من سجدتين إلا في مسائل، فمنها في صلاة الجمعة إذا سجد سجدتي السهو، ثم قبل السلام خرج الوقت يلزمه إكمالهما ظهرًا، وأن يقضي السجدتين في آخر الصلاة، والمسافر إذا سجد سجدتي السهو، ثم نوى الإقامة أو الإتمام قبل السلام، أو صار مقيمًا باتصال السفينة بالبلد حتى لزمه الإتمام، يقضيها في آخر الصلاة، والمسبوق إذا سها إمامه سجدهما مع الإمام متابعة له ويقضيهما في آخر الصلاة، والكل تلبيس، لأنا إنما ننكر أكثر من سجدتين محسوبتين، وفي هذه المسائل السجدتان غير محسوبتين له بوجودهما في غير محل السجود. فرع: المأموم المسبوق إذا سمع حسًا، فظن أن الإمام قد سلم فقام إلى قضاء ما فاته، فبان أنه لم يكن إمامه سلم بعد ما جلس هو، لا يلزمه سجود السهو ولا تحسب له تلك الركعة، بل يقوم ويصلي ثانيًا، ولو كان هو في القيام، وسلم الإمام، هل يعود إلى القعود؟ فعلى وجهين: فأما المنفرد، إذا سلم ساهيًا عن ركعتين، وكانت الصلاة ذات أربع، وقام وافتتح، صلاة النافلة، ثم تذكر، ينظر فإن كان الفصل قريبًا، يعود ويبني على صلاته، ويسجد سجدتي السهو، وإن كان طويلا، يستأنف الصلاة.

وإن قلنا: يبني على صلاته، فهل يحسب له ما أتي به من صلاة النفل عما عليه من الفرض؟ عامة أصحابنا على أنه لا يحسب له ذلك، لأن ما عليه يكون فرضًا، وما أتى به يكون نفلا، والنفل لا يقوم مقام الفرض، فيلغي ذلك. قال القاضي رحمه الله: يحتمل فيه وجهين، كما قلنا في جلسة الاستراحة والتشهد الأول: إنها هل تقوم مقام الجلسة بين السجدتين أم لا؟ وفيه وجهان: وكما قلنا: فيما لو ترك لمعة من المرة الأولى، ويغسل في المرة الثانية، إن قلنا: يقوم مقامه، فلا يلزمه الجلوس، وإلا فيلزمه أن يجلس، ثم يقوم من الجلوس على الصحيح من المذهب. فرع: المسافر إذا صلى ركعتين بنية القصر، ثم وقع له سهو، ولم يسلم حتى صلى أربعًا، ثم تذكر ونوى أنه جعله كأنه نوى الإقامة، بل يقول: كأني نويت الإقامة، فإنه لا يكون محسوبًا له ما زاد على الركعتين، بل يصليهما ثانيًا، ويسجد للسهو. قال المزني: وما سها عنه من تكبير سوى تكبيرة الافتتاح، أو ذكر في ركوع أو في سجود، أو جهر فيما يسر بالقراءة، أو أسر فيما يجهر فلا سجود للسهو، إلا في عمل البدن. قال القاضي حسين: أفعال الصلاة على ثلاثة أقسام: أركان، وأبعاض، وهيئات، فالأركان تركها عمدًا أو سهوًا يمنع الاحتساب بالصلاة، ولا ينجبر بسجود السهو.

وأما الأبعاض، كالقنوت والتشهد الأول، والصلاة على النبي عليه السلام في التشهد الأول على مذهبه الجديد، إذا تركها ساهيًا ينجبر بسجود السهو، ولو تركه عامدًا، فعلى وجهين، وهذا أصل، وهو أن كلما كان تركه ساهيًا يقتضي سجود السهو، ففي تركه عامدًا وجهان: أحدهما: يقضيه؛ لأن العمد فوق السهو، فكان أولى بإلزام سجود السهو، والثاني: لا يقضية، وبه قال أبو حنيفة، لأن هذا السجود إنما أضيف إلى السهو، لا لاختصاصه به، لكن لأن السهو هو يقع غالبًا، فإن المصلي لا يتعمد ترك جزء من الصلاة، فأضيف إلى ما يقع من موجباته في الغالب. وأما الصلاة على الآل في التشهد الثاني، إن قلنا: هي واجبة، لا ينجبر بسجود السهو. وإن قلنا: هي مسنونة، فتنجبر بسجود السهو، كالصلاة على النبي عليه السلام في التشهد الأول. وأما الهيئات، فما عدا الأبعاض، والأركان، من التسبيحات وتكبرات الانتقالات، والجهر والإسرار، والتعوذ ودعاء الاستفتاح، وهيئة اليدين في الرفع والوضع، وغيرها، فلا يقتضي ترك شيء منها سجود السهو عمدًا أو سهوًا. وقال أبو حنيفة: إذا ترك قراءة السورة ساهيًا، يلزمه سجود السهو. قال القاضي رضي الله عنه: والذي أختاره: أن ترك السورة يقتضي سجود السهو، لأن هذه سنة مؤكدة، ولعلها آكد من القنوت، والتشهد الأول. وقال عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها). ومن سار إلى أن تركها لا يقتضي السجود، سار إليه لظاهر قول الشافعي

رحمه الله: ولا سجود إلا في عمل البدن، وهو مؤول على حسب ما يبين على أن هذا مما ينطلق عليه اسم العمل، غير أنه عمل اللسان، والعمل قسمان: عمل اللسان، وعمل الأركان، وإذا جهر في صلاة السر، أو أسر في صلاة الجهر، لم يلزمه سجود السهو عندنا. وقال أبو حنيفة: إذا جهر في السر، لزمه سجود السهو، ثم منهم من قال: إنما يلزمه السجود، إذا جهر بقدر ثلاث آيات. ومنهم من قال: بقدر آية واحدة. ومنهم من قال: إذا جهر بأكثر القراءة، يلزمه السجود، وإلا فلا، فإذا أسره في الجهر، وافقنا على أنه لا يسجد للسهو، وربما يقولون: إذا أسر بالأكثر، أو بثلاث آيات، يلزمه سجود السهو، ولو ترك تكبيرات العيد، لا يلزمه سجود السهو. وقال أبو حنيفة: يلزمه، كالسورة. فأما قوله: ولا سجود إلا في عمل البد. قيل: أخل المزني فيه؛ إذ هو مدخول عليه طردًا وعكسًا؛ لأن الالتفات اليسير في الصلاة، من جملة العمل ولا يقتضي سجود السهو، والكلام والسلام ناسيًا من الأقوال دون الأعمال، لم يقتض سجود السهو، وإنما علل الشافعي رحمه الله بهذا التعليل في مسألة أخرى، وهي أن رجلا كان في التشهد، فشك أنه في التشهد الأول أو الثاني، ثم بعد أن أتى بجزء من التشهد أو به كل، تذكر حقيقة الحال. قال الشافعي: لا يلزمه السجود، لأنها فكرة فكرها، ولم يعمل عمل البدن. وقد ذكرنا: أنه لا سجود في الفكرة في الصلاة، والمستحب للمصلي أن

يتفكر في مفرده فحسب، فلو تفكر في أمور الآخرة، فلا بأس، ولو تفكر في أمور الدنيا يكره له ذلك، ويخاف أن يحرم فضيلة الجماعة، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا صلاة لأمريء، لا يحضر قلبه فيها. قال المزني: وإن ذكر سجدتي السهو بعد أن سلم، فإن كان قريبًا، أعادهما وسلم، وإن تطاول ذلك، لم يعد. قال القاضي حسين: إذا ترك سجدتي السهو، فسلم ثانيًا، إن كان الفصل يسيرًا، عاد وأتى بهما، وإن طال الفصل، أو سلم عامدًا، والفصل قريب، فهل يعود ليأتي بهما؟ ففي الجديد: لا يعود، وفي القديم: يعود. وجه قول القديم: هو أنه جبران العبادة، فجاز أن يتراخي فيها، كالجبرانات في الحج. ووجه قول الجديد: هو أن سجود السهو جزء من الصلاة، فلا يتراخي عن الصلاة، لأن الصلاة مرتبط بعضها بالعبض بخلاف الحج، ومثل هذين القولين القولان: فيما لو ترك ركنًا من اركان الصلاة ناسيًا، ثم ذكر بعد السلام وطول الفصل. أحدهما: يستأنف والثاني: يبني، فيعود إلى الموضع المتروك، ويأتي به وبما بعده، ومن أصحابنا من قال القولان في سجدتي السهو.

فأما إذا ترك ركنًا ناسيًا، ثم طال الفصل بعد السلام، يستأنف الصلاة قولا واحدًا. والفرق أن سجود السهو تتم الصلاة دوه؛ لأنه ليس بفرض، وإنما هو سنة، بخلاف الأركان، ثم في الموضع الذي يعود يسجدهما، هل يعود حكم الصلاة؟ فوجهان: أحدهما: يعود حكم الصلاة، ويلغو السلام، لأنه جزء من الصلاة، فلا يتأدى خارج الصلاة. فعلى هذا: لو تكلم عامدًا، أو أحدث، تبطل صلاته، وأيضًا لا يحتاج إلى التكبير، ولا يعير التشهد بعد ما سجد، وأنه لو كان في الجمعة وخرج الوقت، أو كان مسافرًا ونوى الاتمام أو الإقامة، في هذا الوقت يلزمه الإتمام. والوجه الثاني: لا يعود حكم الصلاة؛ لأنه تحلل منها، والصلاة تتم دونه. فعلى هذا: لو تكلم أو أحدث لا تبطل صلاته، وهل يحتاج إلى التشهد؟ فعلى هذين الوجهين: إن قلنا: عاد حكم الصلاة، لا يحتاج إلى التشهد، لأنا ألغينا السلام، فيجتزيء بالتشهد السابق. وإن قلنا: لا يعود حكم الصلاة تشهد، لأن التشهد المفعول في الصلاة وقع للصلاة، فلا يتأدى به تشهد السجدتين للسهو، أو لا يسجد سجدتي السهو ثم يتشهد. نص الشافعي رحمه الله: على أنه، لو سجدهما قبل السلام، أجزاه التشهد، الأول، ولو سجدهما بعد السلام، تشهد لهما. واختلف أصحابنا في هذا النص:

فمنهم من قال: إنما قصد الشافعي رحمه الله بهذا بيان حكم هذه المسألة على أصله، فعلى هذا التشهد لسجدتي السهو بعد السلام منصوص عليه. ومنهم من قال: إنما هذا على أصل الغير، وهو أبو حنيفة، ومالك في السهو، للزيادة، فعلى هذا لا يتشهد لهما. فرع قد ذكرنا: أن اقتداء الشافعي بالحنفي جائز على مذهب القفال رحمه الله، وإن لم يقرأ الفاتحة فلو ترك الطمأنينة في الركوع والاعتدال عن الركوع، لا يجوز للمأموم أن يتابعه، لأن هذا في ظاهر الأفعال، بخلاف القراءة. قال المزني: ومن سها خلف إمامه، فلا سجود عليه، وإن سها إمامه، سجد معه، فإن لم يسجد إمامه، سجد من خلفه، فإن كان قد سبقه إمامه ببعض صلاته، سجدهما بعد القضاء؛ اتباعًا لإمامه، لا لما سها من صلاته. قال المزني: القياس على أصله أنه إنما أسجد معه ما ليس من فرضي، فيما أدركت معه، اتباعًا لفعله، فإذا لم يفعل، سقط عني اتباعه، وكل يصلي عن نفسه. قال المزني: سمعت الشافعي رحمه الله، يقول: إذا كانت سجدتا السهو بعد التسليم، تشهد لهما، وإذا كانتا قبل التسليم، أجزأه التشهد الأول. قال الشافعي: فإذا تكلم عامدًا، بطلت صلاته وإن تكلم ساهيًا، بنى، وسجد للسهو، لأن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بالمدينة ساهيًا، فبنى وكان ذلك دليلا على ما روى ابن مسعود، من نهيه عن الكلام، في الصلاة بمكة، لما قدم من أرض الحبشة، وذلك قبل الهجرة، وأن ذلك على العمد.

قال الشافعي: وأحب سجود الشكر، ويسجد الراكب إيماء، والماشي على الأرض، ويرفع يديه حذو منكبيه، إذا كبر، ولا يسجد إلا طاهرًا. قال المزني: وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي نغاشًا، فسجد شكرًا لله، وسجد أبو بكر، حين بلغة فتح اليمامة، شكرًا. قال المزني: النغاش: الناقص الخلق. قال القاضي حسين: هو كما قال، لقوله عليه السلام: الأئمة ضمناء، ومن شأن الضامن التحمل عن المضمون عنه، فيحمل عنه سجود السهو، ولو سها إمامه، لزمه سجود السهو، وإنما ذلك، لأن على المأموم متابعة الإمام في الصلاة بكل حال، فإذا انفرد الامام بسهو، سجدهما متابعة له، فإذا انفرد هو به، تركهما متابعة له، هذا كما أن المأموم لو قرأ آية السجود لا يسجد، ولو قرأ إمامه سجدهما متابعة له. والمعنى في أن المأموم إذا انفرد بالسهو، لم يلزمه سجود السهو، أنه يلزمه ذلك بسبب إمامه، فيحمل عنه إمامه، بخلاف القراءة، ثم عندنا لا فرق بين أن يسجد الإمام لسهوه، أو يتركه، في أن على المأموم سجود السهو، لأن سهوه أوقع خللاً في صلاته، ثم إنما يسجد إذا تركها إمامه بعد سلام الامام والخروج من صلاته. وقال المزني، والبويطي، لا يلزمه سجود السهو، إذا تركه إمامه، واحتجا بأن المأموم، إنما كان سجدهما تبعًا للإمام، فإذا لم يسجد المتبوع لم يسجد التابع وهذا كما أن الإمام لو ترك التشهد الأول، لا يأتي به المأموم، بل يتابعه في تركه وإذا ترك سجود التلاوة، تركه المأموم أيضاً، متابعة له، وهذا لا يصح، لأن سهوه أوقع خللا في صلاته، وإذا خرج عن صلاة الإمام كان عليه

جبر ما وقع فيها من الخلل، كما لو جلس الإمام للتشهد الأول، ولم يقرأ لا يكلف المأموم ترك قوله، وليس كما لو قام إلى الثالثة من غير أن يتشهد، لأنا لو قلنا: يتخلف المأموم عنه، لكان التشهد أدني إلى المخالفة المتفاحشة، وفيما نحن فيه، لا يؤدي إلى ذلك، لأنه يسجدهما بعد الخروج عن صلاة الإمام.

فصل الإمام إذا سها في صلاته سهوًا، يلزم به سجود السهو، فسها عن سجود السهو، ففيه أربع مسائل: إحداهما: أنه سلم جاهلا بأن عليه سجود السهو، فقبل أن يسلم المأموم تذكر وعاد إلى الصلاة، وسجد سجدتي السهو، فهل يجب على المأموم أن يتابعه أم لا؟ يبني على الوجهين في أن الإمام هل عاد إلى حكم الصلاة ام لا؟ إن قلنا: عاد إلى حكم الصلاة لزمه متابعته، وإلا فهو يسجد ويسلم، ولا يتابعه. الثانية: سلم الإمام جاهلاً بسجود السهو، والمأموم اشتغل بسجود السهو، فلما سجد المأموم، تذكر الإمام بأن عليه سجود السهو، عاد وسجد، فوجه واحد: أنه لا يجوز للمأموم أن يتابعه، لأنه لو تابعه يؤدي إلى زيادة سجدة، ولأنه لما اشتغل بالسجود، صار قاطعًا نفسه عن صلاته. الثالثة: لما سلم الإمام، سلم المأموم عامدًا، أو ذاكرًا لسهوه، ثم الإمام عاد وسجد لا يلزمه متابعته. الرابعة: سلما جاهلين، ثم تذكر، هل يجب عليه أن يتابعه، فعلى الوجهين. فرع لو سلم المسبوق مع إمامه ساهيًا، فتذكر، فإنه يلزمه سجود السهو، لأنه سها، ولم يكن خلف إمامه، لأنه خرج من الصلاة ولو سلم إمامه، فعليه أن

يقوم في الحال، فلو لم يقم في الحال، وقد سلَّم إمامه بطول الدعاء نُظر: إن لم يكن محل تشهده بأن أدركه في الركعة الثانية، أو في الرابعة، بطلت صلاته، لأنه قعد في محل القيام، وإن كان محلُّ تشهده، لا تبطل صلاته. فرع الإمام إذا قام إلى الخامسة ساهيًا، فجاء مسبوق، واقتدى به، نظر إن كان عالماً. عند عامة أصحابنا: لا تنعقد صلاته بالجماعة، بل تنعقد منفردًا. وقال القفال رحمه الله: تنعقد صلاته بالجماعة، لأن قيامه إلى الخامسة، لم يخرجه من الصلاة، فانعقد تحريمه خلفه، إلا أنه لا يتابعه في شيء، وإن كان جاهلا بحال الإمام، واقتدى به وتابعه، تحسب له تلك الركعة، ولو أدركه في الركوع، لا تحسب له تلك الركعة، لانعدام القراءة منها، ولكونه غير محسوب للإمام حتى يتحمل ذلك عنه. فعلى هذا، لو كان في صلاة الجنازة، فجاء مسبوق، واقتدى به في صلاة الفرض. عند عامة أصحابنا: لا تنعقد صلاته بالجماعة. وعند الشيخ رحمه الله: تنعقد، ولا يتابعه، حتى لو كبَّر ثانيًا، لا يكبر، وكذا لو اقتدى به، وهو في سجود التلاوة، على هذا الاختلاف، والله أعلم بالصواب. فرع إمام نسي الفاتحة، وهوى إلى الركوع، فلا يجوز له أن يركع معه، بل يقوم قائمًا حتى يعود الإمام إلى القيام، ويقرأ الفاتحة، ثم يتابعه، فإذا سَلَّم إمامه،

قام وقضى لنفسه ركعة، وفي صلاة السر، إمَّا الظهر أو العصر، أو في الآخرتين من العشاء، أو في الثالثة من المغرب، لو سجد إمامه في خلال القراءة، ترك الركوع، وهوى إلى السجود، عليه أن يتابعه، ويحمل ذلك على سجدة التلاوة، ثم إن عاد إلى القيام فذاك، وإن لم يُعده، وانتقل إلى السجدة الثانية، حينئذ هو بالخيار: إما ان يصير قائمًا حتى يعود الإمام إلى القيام، وهوي إلى الركوع، فيتابعه، ولا يخرج نفسه عن متابعته. وبمثله: لو قام إمامه إلى الخامسة، لا يتابعه بحال، ولا يحمل ذلك على أن إمامه، ربما ترك الفاتحة في ركعة ما، والان تذكرها يريد أن يقضيها، لأنه لو تحقق ذلك، ليس عليه أن يتابعه، لأنه قرأ الفاتحة في أربع ركعات. فإن قيل: لو كان مسبوقًا بركعة، هل عليه أن يتابعه؟ ويحمل ذلك على أن إمامه ترك الفاتحة في ركعة، أو شك المأموم بأنه، هل قرأ الفاتحة في ركعة، عليه قضاء ركعة، إن سلم إمامه عن أربعة، هل عليه أن يتابعه؟ قال القاضي رحمه الله: ليس عليه أن يتابعه، لأن ما عليه من الصلاة الواجبة، عليه فعلها وقضاؤها منفردًا، لا مع الامام، فلو صلى صلاة مع الامام إلى آخرها، ثم سجد الامام سجدة قبل السلام، فإنه يتابعه، ويحمله على أنه وقع له سهو في الصلاة، ويسجد له، ثم إن سجد سجدة أخرى فذاك، وإن لم يسجد سجدة أخرى، فالمأموم يأتي بسجدة أخرى، ويحمل على أن الامام نسي السجدة الأخرى، فرع منفرد تكلم ناسيًا في صلاة الصبح، ففي آخر الصلاة، نسي أنه تكلم ناسيًا، أو شك أنه قنت أم لا؟

سجد سجدتي السهو لأجل ترك القنوت، ثم لو تذكر أنه قد قنت، أو تذكر أنه تكلم ناسيًا. قال: عليه أن يسجد سجدتي السهو ثانيًا، لأنه أتى بالجبران عما هو مجبور، لم يدخل عليه قفص، ولم يأت بالجبران عما هو محتاج إلى الجبر. وفيه وجه آخر: أنه لا ياتي به ثانيًا. فرع رجل كبر، وشرع في الصلاة، فنسي أنه كبر، فكبر ثانيًا، بنية الافتتاح، لم تبطل صلاته، لأنه ساه. فرع مأموم في التشهد تيقن أنه ترك الفاتحة في ركعة من صلاته، فإذا سلم الإمام قام، وأضاف إليها ركعة أخرى، لا يلزمه سجود السهو، لأن السهو بترك الفاتحة في محلها، وقع خلف الامام، فتحمله الامام عنه، ولو شك هل ترك الفاتحة في ركعة أم لا؟ فإذا سلم الإمام، يقوم ويصلي ركعة أخرى، كما في المسألة الأولى، وهل يلزمه سجود السهو؟ قال رضي الله عنه: كنت أقول: في الأول يلزمه سجود السهو؛ لأن ما يأتي به بعد خروجه من صلاة الامام، زيادة منه في الصلاة، فيلزمه سجود السهو، كالمسبوق، إذا سها في قضاء ما فاته من الصلاة، يلزمه سجود السهو، لأن هذه التي يفعلها بعد سلام الامام صادرة عن تشكيك وترديد في حالة، هو فيها غير مؤاخذ بالسهو، فلم يقتض سجود السهو اعتبارًا بالحالة التي صدر الشك عنها،

بخلاف المنفرد إذا فعل ما هو زيادة منه في أحد محتمليه، لأنه صادر عن تشكيك في حالة، هو مؤاخذ فيها بالسهو، ولو أن مأمومًا سلم إمامه، ثم شك، هل ترك التشهد أم لا؟ قرأه ولا سجود عليه. لأن أقضى ما فيه، أنه كرر قراءة التشهد، وتكرير قراءة التشهد، لا يقتضي سجود السهو، وكذا إذا قرأ التشهد مرة أخرى، ولو سها في قراءة هذا التشهد بعد سلام الإمام، أو طال الدعاء والثناء فيه، فسها فيه، سجدهما، لأنه سهو وقع بعد خروجه من صلاة الامام، هذا كله إذا لم يكن سلم مع الامام، فإن سلم مع الامام، ثم شك، هل قرأ التشهد أم لا؟ فعليه سجود السهو، لأن سلامه سهو منه في صلاته، لأن محله بعد قراءة التشهد، وقد أتى به قبلها، فكان سهوًا، ولم يتحمل عنه الامام، لأنه وقع بعد سلام الإمام، ولو أن مأمومًا قدر أن إمامه سلم فسلم، ثم بان أنه لم يسلم فعليه أن يسلم مرة أخرى، ولا يلزمه السجود، لأنه سها خلف الامام ولو أن مسبوقًا قدر أن إمامه سلم، فقام مشتغلا بالقضاء، فقضى ركعة، ثم بان أن إمامه لم يكن سلم، لم تحتسب له هذه الركعة، لأنه قضى الغائب في حالة لم يكن قضاه، لأنه إنما يجوز قضاء الغائب للمسبوق بعد سلام الامام بخلاف ما لو اقتدى بإمام، قام إلى الخامسة ساهيا، وهو جاهل بالحال، فتابعه في تلك الركعة يحتسب له بها، لأنه صلى ركعة متابعًا لإمامه، فحسب له عن الفرض، وإن كان قد سها إمامه ببعض صلاته، سجدهما بعد القضاء المسبوق، إذا سها إمامه، فلا يخلو إما أن يكون قد سها قبل إدراكه صلاته او بعده، فإن سها بعد أن أدرك صلاته فسجد سجدتي السهو في آخر صلاة الامام معه متابعة له، في ظاهر المذهب. وقيل: لا يسجد لهما، لأنهما ليستا بمحسوبتين له، ثم إذا قضى ركعته، هل يلزمه قضاء السجدتين؟ فعلى قولين:

أحدهما: بلى؛ لأنهما ليستا بمحسوبتين له، لأن سهو سجود السهو إنما يحتسب في آخر الصلاة. والثاني: لا، لأنه إنما لزمه سجود السهو في الصصلاة متابعة له، وإن كان قد سها قبل إدراكه في فعلها في آخر صلاة الإمام على ما بيناه، والقضاء بعد قضاء الفائت مرتب على المسألة الأولى. إن قلنا: هناك لا يقضيهما، فها هنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن السهو في المسألة الأولى وقع وهو مقتد به، فأوقع خللا في صلاته، فلزمه السجود في محله، وفي هذه المسألة وقع وهو غير مقتد به، فلم يقع خلل في صلاته، لكنه أمر بها، متابعة له، وقد أتى بها في آخر صلاة الإمام متابعة، فلا معنى لإيجاب القضاء عليه ثانيًا. وإنما سجدهما بعد القضاء، اتباعًا لإمامه، لا لما بقي من صلاة. منهم من قال: أخل المزني ها هنا في النقل؛ لأن هذا التعليل لا يلائم الحكم، إذ ليس في سجودهما بعد قضاء الفائت متابعة للإمام، بل هو لما بقي عليه من فرض الصلاة. وإنما قال الشافعي رحمه الله هذا في مسألة أخرى وهو أن المسبوق إذا سجد للسهو مع الامام، ثم سها في القضاء، يلزمه سجود السهو في آخر الصلاة؛ لأن ما أتى به من سجود السهو مع الإمام، كان لاتباع الإمام لا لما بقي عليه من فرض الصلاة، فلم يجبر الخلل الذي وقع في بقية الصلاة. ومنهم من قال: النقل صحيح، والقصد منه أن يسجدهما بعد القضاء، ولا يقتصر عليهما في آخر صلاة الامام، لأنه فعلهما اتباعا له، لا لما بقي عليه من فرض الصلاة. وإن تكلم عامدًا بطلت صلاته، وقد ذكرنا حكمه، واحتج ها هنا بحديث ذي اليدين، على أن كلام الشافعي لا يبطل الصلاة، وحل حديث ابن مسعود على العمد، لأنه وقع بمكة، لما قدم من أرض الحبشة، وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم

في الصلاة، فقال له بعد أن سلم: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن ما أحدث: ألا تكلموا في الصلاة. وقصة ذي اليدين وقعت بـ (المدينة)، والمتأخر يقضي على المتقدم. روى أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى نعاشيًا، فسجد شكرا لله. السجدات المشروعة، على أربعة أقسام. سجدة في صلب الصلاة وهي واجبة كما بينا، وسجدة السهو، وسجدة التلاوة، وهما ليستا بواجبتين عندنا. وقد حكينا عن أبي حنيقة في سجود التلاوة. وخالفنا أيضا في سجود السهو. فقال: هو واجب، وربما يقولون: هو مذهب أبي يوسف. فأما عند أبي حنيفة: فلا يجب. لنا أن سجود السهو سجود لعارض أمر، فلا يجب كسجود الشكر. والنوع الرابع: هو سجود الشكر، وهو عندنا مستحب، وعند أبي حنيفة بدعة، وسجود الشكر، هو أن يتجدد له نعمة طالما كان يتوقعها، أو يرقبها أو تكشف عنه بلية، طالما كان فيها، ويتوقع انكشافها، فسجد شكرا لله تعالى.

والدليل على أنه مشروع ما روى أنه عليه السلام رأى نعاشيًا، فسجد شكرًا لله تعالى. والنعاشي قيل: ناقص الخلقة. وقيل: هو مختلط العقل. وروى انه عليه السلام سجد فأطال السجود فلما رفع رأسه قيل له: أطلت السجود يا رسول الله فقال أتاني جبريل، وبشرني بأنك أول الأنبياء دخولا في الجنة، وإن أمتك أول الأمم دخولا في الجنة، وأنه يدخل من أمتك سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألف في الجنة بغير حساب فسجدت شكرًا لله تعالى. فقيل: من هم يا رسول الله فقال عليه السلام: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. وروى: أنا أبا بكر لما بلغه فتح اليمامة، وقتل مسيلمة الكذاب، سجد شكرًا لله تعالى. وروى أن عليا رضي الله عنه لما بلغه قتل ذي الثدية سجد شكرا لله تعالى ثم لا يخلو إما ان يكون هذا السجود لسب فيه أو في غيره، فإن كان بسبب فيه، مثل إن بشر بمولود، أو قدوم غائب، أو شفاء مريض، أو غيرها من حدوث النعم، وانكشاف البلايا، فيستحب إظهاره. وإن كان بسبب في الغير، فلا يخلو إما أن يكون هو معذورًا فيه، مثل أن يرى زمنًا مقعدًا في مخفة، فالمستحب ألا يظهر، لأنه إذا أظهره يدخل في قلبه

شيء فلا يأمن من أن يسخط، ويحمل ذلك على كفران بالله تعالى من النعم الجسمية، إلا إذا كان أعمى لا يراه، وإن كان هو غير معذور، مثل أن يرى شريبًا منتهكًا متماديًا في الفسق، والفجور. فيستحب له أن يظهره لعل ذلك يحمله على التوبة، والإنابة إلى الله تعالى ولا يسجد لجميع النعم، لأن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى، لقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. وإنما يسجد لنعمة طالما ترقبها كما عددناها، وكل شرط يشترط في سجود التلاوة، من ستر العورة واستقبال القبلة، والطهارة عن النجاسة، والحدث يشترط في سجود الشكر، فإن كان في الصلاة لا يسجد الشكر، وإن كان خارج الصلاة، يستحب أن يقوم، ويكبر للافتتاح، ويكبر للهوي إلى السجود ثم يكبر لرفع الرأس، منه ولا يتشهد على ظاهر المذهب، كما قلنا: في سجود التلاوة، ويجوز فعله على الراحلة بالإيماء، كما يجوز على الأرض ويرفع اليدين حذو المنكبين فيه، والله أعلم بالصواب.

باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة

باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة. قال الشافعي رحمه الله، وأقل ما يجزيء من عمل الصلاة أن يحرم، ويقرأ بأم القرآن، يبتدئها بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) إن أحسنها، ويركع، حتى يطمئن راكعًا، ويرفع، حتى يعتدل قائمًا ويسجد، حتى يطمئن ساجدًا على الجبهة، ثم يرفع حتى يعتدل جالسًا، ثم يسجد الأخرى كما وصفت ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة، ويجلس في الرابعة، ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلم تسليمة، يقول: السلام عليكم، فإذا فعل ذلك، أجزأته صلاته وضيع حظ نفسه، فيما ترك، وإن كان لا يحسن أم القرآن، فيحمد الله، ويكبره مكان أم القرآن، لا يجزئه غيره. قد ذكرنا الأكمل من الصلاة والأفضل، فنذكر هنا أقل ما يجزئه وأقل ما يجزئه، أن يأتي بما هو الأركان، وجملة الأركان أربعة عشر في الركعة الأولى: النية والتكبير والقيام والقراءة والركوع، والطمأنينة فيه، والاعتدال من الركوع، والطمأنينة فيه، والسجود الأول والطمأنينة فيه والاعتدال من السجود والطمأنينة فيه والسجود الثاني، والطمأنينة فيه. وفي الركعة الثانية اثنا عشر ركنا: وهي هذه الأركان سوى النية، والتكبير، وفي التشهد أربعة أركان: الجلوس له، والقراءة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأقل ما يجزيه من السلام أن يقول: السلام عليكم ومن التشهد ما بيناه على قول الشافعي بتحرك أربع كلمات، وهي المباركات الصلوات الطيبات وبركاته، وعلى قول ابن سريج يحذف هذه الكلمات، ويحذف أيضًا، ورحمة الله ويقول: وأن محمدًا رسوله، وعلى قول الحليمي يحذف هذه الكلمات ويحذف الصالحين.

قال القاضي رحمه الله: لو قال: سلام عليك أيها النبي، وعلى عباد الله الصالحين، يكفي كي لا يتكرر السلام. والصحيح ما قاله الشافعي، فكل صلاة هي ذات ركعتين، فإن فيها ثلاثين ركنًا، وما هي ذات ثلاث، فاثنان وأربعون ركنًا، وما هي ذات أربعة فأربعة وخمسون ركنا. ومن أصحابنا من قال: وهو صاحب التلخيص أركان الصلاة كلها أربعة عشر النية والتحريمة والقيام والقراءة والركوع، والاعتدال منه والطمأنينة في الركوع، والسجود الأول، والاعتدال منه، والسجود الثاني، والجلوس للتشهد، والصلاة على النبي عليه السلام والسلام فلم يعد الركن للتكرر الا مرة واحدة، غير أنه ناقص قعد السجود مرتين، ولعله صار إلى أن الثاني من السجود غير الأول، فإنهما اجتمعا في الركعة الواحدة، والأول يهوي إليه من الركوع، والثاني من القعود. ومن قال: إن نية الخروج من الصلاة شرط، صارت الأركان خمسة عشر، والمذهب أنها ليست بشرط. ومن أصحابنا من يضم إلى الأركان ثلاثة، مما يعد من الشرائط، وهي الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة. وشرائط الصلاة خمسة: الطهارة بالماء الطهور عند وجوده، أو التيمم بالتراب الطهور عند عدم الماء، وستر العورة بثوب طاهر، والوقوف على مكان طاهر، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت، إما يقينا بالنص أو اجتهاد بغلبة الظن. وإن كان لا يحسن غير أم القرآن، قرأ بقدرها سبع آيات، لا يجزئه دون ذلك، قال: فإن ترك من ام القرآن حرفا، وهو في الركعة، رجع إليه وأتمها، وإن لم يذكر حتى خرج من الصلاة، وتطاول ذلك، أعاد.

قال القاضي حسين: الفصل: قد ذكرنا أنه إذا كان يحسن قراءة الفاتحة، فإنه يقرؤها، فأما إذا لم يحسن الفاتحة، ولا شيئا من القرآن، فأتى بسبعة، أذكار مختلفة مثل قوله: سبحان الله، والحمد، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كما ورد في حديث الأعرابي، ويشترط أن تكون حروف الأذكار معادلة لحروف الفاتحة، ولا يشترط أن تكون تشديدات الذكر مثل تشديدات الفاتحة، غير أنه إن كان مثله فذاك، وإلا فيأتي مكان كل تشديدة بحرف آخر. وهل يشترط أن تكون كلمات الذكر معادلة لكلمات الفاتحة؟ فعلى وجهين: فأما إذا كان يحسن شيئا من القرآن، فلا يجوز له العدول إلى الذكر، بل يأتي به، ثم إذا كان يحسن سبع آيات، مثل آيات الفاتحة أو أطول منها فذاك، وإن ان أقصر من آيات الفاتحة، فعلى وجهين: أحدهما: يجزيه، لقول الشافعي طوالا كن أو قصارًا. والثاني: لا حتى تكون معادلة الفاتحة، وقصد الشافعي بقوله طوالا كن أو قصارًا أنه لا بد من سبع آيات، ولا يجزيه أقل من السبع، وإن كان طوالا بحيث كانت الواحدة، منها تبلغ الفاتحة، وتزيد عليها مثل آية المداينات، فإنها لا تحسب إلا عن آية الفاتحة، وهو متبرع بما فيها من زيادة الحروف، فعلى هذا، ينبغي أن يكون سبع آيات معادلة للفاتحة أو أكثر منها، وحكم التشديدات على ما ذكرنا من قبل. وإن كان يحسن آية من القرآن، فيستحب له أن يكررها سبع مرات، وهل يكتفي بتكريرها سبعًا أو لابد من ضم ستة أخرى إليها من الأذكار؟ فعلى وجهين: أحدهما: يضم إليه ستة أخرى، ليبلغ عدد الفاتحة. والثاني: يكتفي بتكريرها سبعًا، ويقوم كل مرة منها مقام آية من الفاتحة، وإذا كان يحسن آية من الفاتحة، يراعي الترتيب بينها وبين ما يأتي به من الأذكار، حتى أنه إن كان يحسن الآية الأولى يقرؤها اولا، ثم يأتي بستة أذكار بقدر

ست آيات من الفاتحة، وإن كان يحسن الآية الأخيرة من الفاتحة، فيأتي بستة أذكار قبلها، ثم بها، وكذا لو كان يحسن آية من خلال الفاتحة، يأتي من الأذكار، بقدر ما بقي منها إلى آخر الفاتحة، مراعاة الترتيب. فرع لو سئل عن رجلين: أحدهما: يحسن النصف الأول من الفاتحة. والآخر: يحسن النصف الآخر من الفاتحة، أيهما أولى بالإمامة؟ قلنا: لا يجوز لكل واحد منهما أن يقتدي بصاحبه، وهذه مسألة يلغز فيها، فافهمه. وقوله: ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي حسين: وذاك واجب وقد ذكرنا. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقيل: كيف نصلي عليك، وقد بليت، فقال له: أما علمت ان الأنبياء لا يبلون، أما علمت أن الله تعالى حرمه أجساد الأنبياء على الأرض. ثم ذكر الشافعي رحمه الله، أنه لو ترك حرفًا من أم القرآن في ركعة من صلاة عاد إلى الموضع المتروك، وأتى به وبما بعده، وهذا إنما يكون إذا لم يفتتح سورة أخرى. أما إذا افتتح سورة أخرى، فإنه يستأنف قراءة الفاتحة، والله أعلم بالصواب.

باب طول القراءة وقصرها

باب طول القراءة وقصرها قال الشافعي رحمه الله تعالى: وأحب أن يقرأ في الصبح مع أم القرآن بطوال المفصل وفي الظهر شبيها بقراءة الصبح، وفي العصر نحوا مما يقرؤه في العشاء، وأحب أن يقرأ في العشاء بسورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون، وما أشبهها في الطول، وفي المغرب بـ (العاديات) وما أشبهها. الكلام في هذا الباب، في أن تعيين السورة مستحب مسنون، والسورة التي يقرؤها في كل صلاة. فعندنا تعيين السورة مستحب. وقال أبو حنيفة: يكره ذلك، فعندنا يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي الظهر والعشاء بأوسط المفصل، وفي المغرب بقصارها، روى عن أبي سعيد الخدري أنه قال: حرزنا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الأوليين من الظهر مثل قراءته في الصبح، وفي الآخرتين من الظهر على النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر شبها بالآخرتين في الظهر، وفي الآخريين من العصر على النصف من ذلك. والمستحب من ذلك، عندنا أن يسوي بين الركعتين الأوليين في القراءة، وفي الآخريين، يقرأ على النصف مما قرأ في الأوليين، فيسوي بينهما اتباعًا للسنة، وروى ابن عباس رضي الله عنه ال صليت صلاة الصبح خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الثانية، إذا جاءك المنافقون.

وروي عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى يس، وفي الثانية، حم. وعن عمران بن الحصين، أنه قال: صليت صلاة الجمعة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ في الركعة الأولى: سبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية: هل أتاك حديث الغاشية. وروى عليه السلام أنه قال: قرأ في العشاء والشمس وضحاها، وفي الثانية واليل. وهذا سنة مستحبة كله عندنا، إذا كان إمامًا، وإذا كان منفردًا، فإنه يطول القراءة، ويزيد فيها ما يشاء، وقد بينا، والله أعلم بالصواب.

باب الصلاة بالنجاسة ومواضع الصلاة من مسجد وغيره

باب الصلاة بالنجاسة ومواضع الصلاة من مسجد وغيره. قال الشافعي رحمه الله تعالى وإذا صلى الجنب بقوم أعاد، ولم يعيدوا واحتج في ذلك بعمر بن الخطاب، والعباس رضي الله عنهما. قال المزني: رضي الله عنه كما لا يجزيء عني فعل إمامي، فكذلك لا يفسد على فساد إمامي، ولو كان معناي في إفساده معناه، لما جاز أن يحدث، فينصرف وأبني ولا أنصرف وقد بطلت إمامته، واتباعي له ولم تبطل صلاتي، ولا طهارتي بانتقاض طهره. قوله: فإذا صلى الجنب بقوم، أعاد، فلو صلى وعلى ثوبه نجاسة، أو كان محدثًا، لم تصح صلاته، ولو اقتدى بإمام محدث، أو جنب، إن كان عالما به، لم تصح صلاته إذ لا صلاة للإمام وقد وقف أفعاله على أفعاله، وإن كان جاهلا بحاله، صحت صلاته، وهو في الحكم كالمصلى منفردًا، لا تحصل له فضيلة الجماعة، ولا يلزمه سجود السهو بسهو إمامه، ويلزمه السجود بسهو نفسه، فلو كان أدركه في الركوع، بان أنه لم يصر مدركًا للركعة بإدراكه فيه. وعند أبي حنيفة يلزمه إعادة الصلاة. دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح بالناس صلاة الصبح، فخرج من الصلاة وأشار، فقال: كما أنتم، فدخل البيت واغتسل، واغتسل وخرج ورأسه يقطر ماء، وأتم الصلاة، ولم يأمرهم بإعادة التحريمة.

فلو كانت الصلاة لا تنعقد خلف الجنب لأمرهم بإعادة التحريمة. وروى ان عمر رضي الله عنه، صلى بالناس بـ (المدينة)، ثم خرج إلى قرية، فرأي في الطريق أثر الاحتلام على ثوبه، فقال: يصنع اللحم بنا هكذا إذا أكلناه، ما أراني إلا وقد احتلمت البارحة، وصليت بالناس وأنا جنب. فأعاد الصلاة، ولم يأمرهم بالإعادة، ولأنا أجمعنا على أن الإمام إذا سبقه الحدث في خلال صلاته، لا تبطل صلاته من خلفه، فإذا كان الامام لا يقطع صلاة المأمومين مع علمهم بذلك، فلأن لا ينعقد بمنع انعقاد صلاتهم مع جهلهم به أولى، ولأن الحدث والجنابة يخفي، فلا يطلع الانسان عليه غالبا فيعذر فيه، لأنه لم ينسب فيه إلى التفريط، والتقصير بخلاف ما لو كان الامام كافرًا، أو امرأة، أو خنثى، يلزمه الإعادة، لأن الكفر والأنوثة مما يطلع عليه في الغالب، لأن الكفار والإناث علامة يمتازون بها من الذكور والمسلمين، وانتسب إلى التفريط بترك التعرف عنهما. نظير مسألتنا أنه لو كان كافرًا يستسر الكفر، فلا يوجب الإعادة. وقال مالك: إن علم الامام بحديث نفسه، تبط صلاة المأمومين، وإلا فلا تبطل. وقال أبو حنيفة: إن صلى الرجل، وهو جنب أو محدث، فإن تعمده، يكفر. وعندنا لا يكفر، ولكن يعصي ويأثم، وحكي في كره هذا القول عن بعض العلماء دون أبي حنيفة، وإذا بأن أنه كان على ثوب الامام نجاسة، فالذي في حفظي عن غيره، أنها إن كانت على ظاهر ثوبه، بحيث يقع بصره علىها، أن لو يعرف لزمه الإعادة، وإن كان على باطن ثوبه غائبًا عن بصره، فلا إعادة عليه في ظاهر المذهب.

وإذا اقتدى بإمام طاهر، ثم سبقه الحدث، وكان قد سها لزمه سجود السهو، لأنه اقتدى به، وصح الاقتداء فسهوه أوقع خللا في صلاته، وإن كان قد سها بنفسه، ثم سبقه الحدث، لم يلزمه السجود، لأنه وقع في حالة لا يؤاخذ فيها بالسهو، ولو أدرك إماما في الركوع، فسبقه الحدث في السجود، صار مدركًا للركعة، لأنه أدركه في ركوع محسوب عن الصلاة، وفي الجمعة لو بان الامام جنبا، المذهب أن صلاة القوم لم تنعقد، وعليهم الاعادة لأن الجماعة في الجمعة فرض. وحكي صاحب التلخيص: قولا آخر عن الشافعي رحمه الله، أنه لا إعادة عليهم، وفي صلاة الجنازة، لو بان الإمام محدثا أو واحدًا من المأمومين صحت صلاة الباقين، فلا قضاء عليه، لأن صلاة الجنازة لا تقضي. فأما إذا أحدث إمامه عامدًا، إن تابعه بعد ذلك مع علمه بحال الامام، تبطل صلاته، وإن أخرج نفسه عن صلاته، له ذلك. وقال أبو حنيفة: إن استخلف الامام أحدا في الصلاة، لا تبطل صلاة القوم وإلا فتبطل صلاة القوم. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله ولو صلى رجل، وفي ثوبه نجاسة من دم أو قيح، وكان قليلا، مثل دم البراغيث، وما يتعافاه الناس، لم يعد، وإن كان كثيرًا، أو قليلا، بولا أو عذرة أو خمرا وما كان في معنى ذلك، أعاد في الوقت، وغير الوقت. قال المزني، ولا يعدو من صلى بنجاسة من أن يكون مؤديا فرضه أو غير مؤد، وليس ذهاب الوقت بمزيل عنه فرضًا، لم يؤده، ولا إمكان الوقت بموجب عليه إعادة فرض، قد أداه. قال القاضي حسين: الكلام فيما يعفي عنه من النجاسات، وما لا يعفى عنه، أما القيل من دم البراغيث والقمل أو البعوض، وما يخرج من بدنه من القيح والدم والصديد معفو، ولأي معنى عفي عنه؟

فيه معنيان: أحدهما: القلة. والثاني: تعذر الاحتراز. ولا خلاف في نجاستهما مع العفو، حتى لو عرق، فسال العرق إلى موضع آخر، أو ليس ثوبًا رطبًا أصاب المكان الرطب النجس من بدنه، أو كان على ثوبه، فاغتسل، ولبسه، حكم بنجاسة الثوب والبدن، حتى لا تصح صلاته، لأنها تفاحشت، وحدثت النجاسة الأجنبية التي لا عفو فها بالانتشار، بخلاف دم البراغيث، إذا كثر فإن في وجه، يعفي عنه، لتعذر الاحتراز، والفرق أنه علم هذا بإصابة ثوبه وبدنه، ثم طرأ العرق عليه، بخلاف دم البراغيث في الأصل. فأما الكثير من دم البراغيث، وما يخرج من بدنه، هل يعفى عنه؟ فوجهان: بناء على المعنيين: إن جعلنا المعنى في القليل القلة، لم يعف لفقد المعنى. وإن جعلنا المعنى فيه تعذر الاحتراز، عفي عنه، إذ الاحتراز، كما يتعذر عن القليل يتعذر عن الكثير. فأما الدم الذي يخرج من غيره، إذا أصاب بدنه أو ثوبه، ما لا يعفي عنه من دم البراغيث، لم يعف عنه، لأنه إذا لم يعف عنه، والخارج من بدنه لئلا يعف من الخارج أولى، وما يعفي من دم البراغيث، والخارج من بدنه، إذا خرج من بدن غيره وأصابه، هل يعفى عنه؟ فوجهان: والفرق أن الاحتراز لا يتعذر عن الدم الذي يخرج من الغير، بخلاف ما يخرج من نفسه. وقد قال الشافعي في القديم: ويعفي عن قدر كف من الدم

وقال في موضع آخر، يعفى عن قدر دينار من الدم. فأما ما عدا الدم من النجاسات من الدبر كالبول، والعذرة، والخمر، إذا أصاب بدنه، فلا يعفى عنه، أدركه الطرف، أو لم يدركها، وإذا أصاب ثوبه، فما يدركه الطرف منها غير معفو عنه، وفيما لا يدركه الطرف قولان: أظهرهما: أنه غير معفو، كما لو أصاب البدن. والثاني: مفعو، ذكره في القديم. وقال أبو حنيفة: النجاسات قسمان: مغلظة، ومخففة. فالمغلظة: كالعذرة، والخمر، وبول ما لا يؤكل لحمه، وغيرها فيعفى عما هو بقدر الدرهم، وما دونه، فإن زاد على قدر الدرهم، لم يكن معفوا. والمخففة مثل: بول ما يؤكل كل لحمه، يعفى عن ربع الثوب عنه، وما دون الربع فإن زاد على الربع فلا يعفى، وإذا صلى وعلى ثوبه ما لا يعفى عنه من النجاسات، إن كان عالما بالحال، لم تنعقد صلاته، وإن جهلها حتى فرغ من الصلاة، أعاد في الجديد. وبه قال ابو حنيفة، كما لو بان محدثا أو جنبا، لأن الطهارة، كما تشترط من الحدث، تشترط من النجاسة. وفي القديم: لا إعادة عليه بخلاف الحدث، لأنه في ذاته يخصه، فانتسب في الجهل به إلى التفريط، لأن الإنسان يحيط علمًا بما يقع في ذاته ويخصه، حسب ما لا يحيط بما هو أجنبي منه. ولما روى عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فخلع نعليه، فخلعنا نعالنا، فلما سلم، فقال عليه السلام: ما لكم خلعتم نعالكم، فقلنا: لأنك خلعتها يا رسول الله، فقال عليه السلام: أتاني جبريل وأخبرني أن منهما قذى، أو قال: أذى، فخلعتهما، ثم قال: إذا أتى

أحدكم المسجد، فليقلب نعليه، فإن كان عليهما أذى، فليمسحهما بالأرض، أو قال: فليدلكهما بالأرض، أو قال: فليفركهما بالأرض، فإنه طهور. كذلك ومن قال بالأول، أجب لأنه أراد بالقذى، أو الأذى، ما يستقذر من الطاهرات، مثل النخامة والمخاط، وإنما خلعهما لتنزيه المسجد عنهما، لأن المسجد ينزه عن المستقذرات، وإن كان طاهرًا، ويحتمل أنه كان قبل استقرار حكم النجاسات، وتحريم فعل الصلاة معها، ثم نسخ، ولعل النسخ ورد في خلال تلك الصلاة فخلعهما عليه السلام. ومثل هذين القولين: القولان فيا لو نسي المسافر الماء في رحله، فصلى بالتيمم، والقولان فيما لو ترك الترتيب ناسيًا في الوضوء، وإن علم النجاسة ثم نسيها. فالمذهب: أن عليه الإعادة، وخرج عليه من قول آخر من نسيان الماء في الرحل: أن لا إعادة عليه، ثم عندنا تلزمه إعادة كل صلاة تيقن أنه صلاها مع النجاسة، فأما ما شك في كون النجاسة معه فيها، لا يلزمه إعادتها، لأن الأصل: الطهارة. وقال أبو حنيفة: إن كانت النجاسة رطبة، أعاد الصلاة واحدة، وإن كانت يابسة، إن كانت في الصيف أعاد صلاة واحدة، وإن كان في الشتاء، أعاد صلوات يوم وليلة، ولا يفصل على القولين بين أن يعلم بالنجاسة والوقت باق أو فائت. وقال مالك: إن كان الوقت باقيًا أعاد الصلاة، وإن خرج الوقت، ثم علم

بالنجاسة، لم تلزمه الإعادة، وإياه عني الشافعي رحمه الله عليه بقوله:: في الوقت وغير الوقتن واحتج المزني عليه بأن الصلاة المؤداة مع النجاسة، لا تخلو إما أن تكون صحيحة، أو فاسدة. فإن كانت صحيحة فلا معنى لإيجاب الإعادة عليه لبقاء الوقت، وإن كانت فاسدة، فلا معنى لسقوط الإعادة بخروج الوقت، لأن خروج الوت لا يصحح الفاسد، ولو صلي في ثوب، فلما فرغ من الصلاة، ظهر أنه كان على ثوبه ثقبة، تظهر عورته، إن لم يكن يعلم ذلك، فيخرج على وجهين بناء على هذين القولين. وإن علم فنسي، فالمذهب أن عليه الإعادة. فرع إذا شرع في الصلاة فجاء واحد، ووقف بجنبه مع ثوب نجس، فإن مس هو بثوبه ثوبه، بطلت صلاته، ولو أن صاحب الثوب النجس ماس بثوبه النجس بدن المصلي أو ثوبه، إن نحاه في الحال، لم تبطل صلاته، وإن صبر ساعة، بطلت صلاته، لأنه إذا نحاه في الحال فقد أدى ما عليه، ولم ينسب إلى التقصير، فيعذر عليه، وإذا صبر ساعة، لم يعذر فيه، ولو وقعت نجاسته على مصلاه، فنحاها، قال القاضي رضي الله عنه: يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه قصد النجاسة ومسها، ولو وقعت بالهواء على ثوبه، فنفضها، لا تبطل صلاته، لأنه قصد هجران النجاسة، وهو معذور فيه، وإن كانت النجاسة رطبة فوقعت على بدنه وثوبه، تبطل صلاته، اللهم إلا أن تكون وقعت على منديله فرماه في الحال، لم تبطل صلاته، ولو كان ناسيًا، قد ذكرنا أنه لو رماه بيديه أو بكمه، تبطل صلاته، لو رماها برأس الخشبة، فيه وجهان كما لو صلى وبيده طرف حبل، والطرف الآخر مشدود في عنق كلب، ولو وقعت على طرف مسجده أو ثوبه إن رفع طرفه ليرميه، فإنه يصير حاملاً للنجاسة،

تبطل صلاته، وإن وقع ثوبه على النجاسة، إن علم به في الحال ورفعه، فيه وجهان، وإن لم يرفع في الحال، بطلت صلاته، فأما إذا وقعت نجاسة على مسجده بحذا صدره، وسجد عليه، فيه وجهان. ولو حمل مستنجيًا بالحجارة في الصلاة، فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل صلاته، لأنه لو صلى بنفسه تصح صلاته. والثاي: لا تصح. والفرق بينهما: أن هناك هو معذور فيه، وها هنا لا حاجة إلى ذلك، فافترقا. فأما إذا حمل قارورة، فيها نجاسة مضمومة الرأس. المذهب انه تبطل صلاته، لأنه تحقق أنه حامل للنجاسة، بدليل أنه يمكنه إخراج النجاسة منها متى شاء، بخلاف ما لو حمل صغيرا في الصلاة، تصح صلاته، لأنه لا يمكنه إخراج النجاسة عنه باختياره متي شاء. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله وإن كان معه ثوبان، أحدهما طاهر، والآخر نجس، ولا يعرفه فإنه يتحرى أحد الثوبين، فيصلي فيه، ويجزئه وكذلك إناءان من ماء، أحدهما طاهر، والاخر نجس، فإنه يتوضأ بأحدهما على التحري، ويجزئه. قال القاضي حسين: إذا اشتبه الطاهر والنجس يتحرى كما في الأواني، ويستعمل ما أدى اجتهاده إلى طهارته، سواء كان في عدد الطاهر والنجس سواء، أو لم يكن سواء. ووافقنا أبو حنيفة فيه. وقال المزني: يصلي في كل واحد من الثوبين، ليكون مؤديا للفرض في ثوب طاهر بيقين كما لو نسي صلاة من صلاتين تكلف الإتيان بهما، وعندنا يتحرى، كما بينا، ولو فعله كما قاله المزني، لا تصح واحدة من صلاتيه، لأنه

شرع في كل واحدة منهما، وهو [متردد] في نيته، وشرط صحة الصلاة أن يجزم النية فيها، ويكفينا أن ما أمر فيه بالصلاة من شرائط الصلاة يتحرى فيه عند الاشتباه، ولا يستعمل الصواب، والخطأ على التبخيت كما في القبلة. وفي الصلاة الثانية يجتهد ثانيا، فإن أدى اجتهاده إلى ما أدى إليه في الصلاة الأولى، فذاك، وإن أدى اجتهاده إلى الثاني، فحكمه حكم ما لو وجد ثوبًا نجسًا، وإذا وجد ثوبًا نجسًا، هل يلزمه استعماله؟ فعلى وجهين: ذكرناهما: أحدهما: يلزمه، فعلى هذا يستعمل أي الثوبين شاء، وأعاد الصلاة. والثاني: لا يلزمه، فعلى هذا، لا يصلي على واحد منهما، بل يصلي عاريًا، وقد بينا حكم العاري، وإن كانت الثياب التي اشتبه النجس منها عشرة، فليجتهد في كل صلاة، فيؤدي اجتهاده إلى ثوب آخر، ويصلي فيه، وتصح صلاته، فإذا انتهي إلى العاشر، فالحكم ما بيناه في الثاي، إذا كانا ثوبين وإن كان معه ثوب طاهر بيقين، وثوبان بهذه الصفة فوجهان: أحدهما: لا يتحراه، كالحاكم إذا وجد النص، لا يجتهد في الحادثة. والثاني: يتحرى، والفرق، أن النص هناك في محل الاجتهاد، وهو الحادثة، وها هنا في غير محله، لأن الاجتهاد في الثوبين والنص في الماء، وإذا اجتهد فأدى اجتهاده إلى أحدهما، ثم غسل ما أدى اجتهاده إلى نجاسته هل له استعمال آخر؟ فعلى هذين الوجهين، وإذا غسل أحد الثوبين قبل الاجتهاد، ثم أدى اجتهاده إلى أنه غسل النجس، هل له استعمال غير المغسول؟ فعلى هذين الوجهين، وإذا غسل ما أدى اجتهاده إلى نجاسته، ثم ظاهر بينهما، فجعل أحدهما ظهارة، والآخر بطانة، هل يجوز له أن يصلي فهما؟ فعلى هذين الوجهين، لأن في المسائل كلها، أمكنه استعمال طاهر بيقين، ولو أصاب موضعا من البساط نجاسة، واشتبه عليه تحرى لكل صلاة، وصلى

على موضع منه، أدى اجتهاده إلى طهارته، إلا أن يبقى من البساط قدر مكان النجاسة، والله أعلم الصواب. قال المزني: وإن خفي موضع النجاسة من الثوب غسله كله، لا يجزئه غيره. قال القاضي حسين: صورة المسألة ثوب أصاب موضعًا منه نجاسة، واشتبه محل النجاسة، فعليه أن يغسل الثوب، وامتناع صحة الصلاة معه، وإذا غسل الثوب، وهو شاك في ارتفاع النجاسة، وصحة الصلاة معه، ولا يترك، اليقين بالشك، كما لو نسي صلاة من صلاتين، يعيدهما للخروج من الفرض باليقين، وإذا أصاب أحد الكمين نجاسة واشتبه عين النجس، فوجهان: أحدها: يلزمه غسل الكمين، لأنهما في حكم واحد للمعنى الذي ذكرناه. والثاني: يغسل أحدهما بالاجتهاد، لأنهما مفصلين كالثوب، والعمامة، إذا أصاب أحد طرفيها نجاسة، فاشتبه النجس، فعلى هذين الوجهين: أحدهما: يغسل أحد الطرفين بالاجتهاد. والثاني: يغسلهما بناء على اليقين. فرع الثوب المتضمخ بالنجاسة، إذا بعضه في الغسل، فغسل أحد نصفيه مرة، ثم النصف الآخرة مرة أخرى. قال صاحب الإفصاح: صح الغسل، وحكم بالطهارة؛ لأن النجاسة جامدة، والثوب جامدة، ولا يتعدى الجامد إلى الجامد. واحتج فيه بقوله عليه السلام: في الفأرة، تقع في السمن، إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فأريقوه، فأمر بإلقاء ما حولها، فدل أن النجاسة لا تتعدي في الجامدان، من محل إلى محل. وقال صاحب التلخيص، وهو اختيار القفال، وهو الأصح: إنه لا

يحكم بطهارة الثوب النجس، إذا غسل في دفعتين، لأن النصف الأول مبتل، وينتشر البلل من النصف الثاني إليه إذا غسله، فيتنجس النصف الأول، لأن البلل مبناه على الانتشار، بخلاف الجامد. ومن أصحابنا من قال: يتصور غسله في دفعتين، بأن يصب الماء على أعلى الثوب إلى النصف ثم يصب الماء على النصف الثاني، لأن البلة لا تتراد إلى الاعلى، ولا ينتشر إليها الماء، لأن طبع كل مائع الانحدار، وهذا غير صحيح فرع إذا وضع الثوب النجس في الإناء، وصب الماء عليه حتى غسله، فإنه يعود طاهرًا، فلو صب الماء أولاً في الإناء ثم مس فيه الثوب النجس، فإنه لا يطهر أصلا. قال المزني: وإن أصاب ثوب المرأة من دم حيضها قرصته بالماء؛ حتى تنقيه ثم تصلي فيه. قوله: فإن أصاب ثوب المرأة من دم حيضها. قال القاضي حسين: دم الحيض إذا أصاب الثوب، تغسلها بالماء، فإن بقي اللون، والأثر حتته، ثم قرضته، ثم غسلته بالماء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر في دم الحيض: حتيه، ثم اقرضيه، ثم اغسليه بالماء.

فلو أنعمت الحت والقرض بالماء، وبقي اللون، فيستعمل الأشنان والصابون، ولو بقي اللون بعده فهو معفو عنه. روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نغسل الثوب من دم الحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى فيه بقعة، فنلطخه بالزعفران، ثم نصلي فيه. والمراد بالبقعة، العلامة، ومنه سميت البقعة لامتيازها عن غيرها، وسئل فقيل: هل يحكم بطهارة الثوب، إذا بقي لون دم الحيض فيه، مع العفو عنه؟ فقال رضي الله عنه: إذا بقي يجب أن يرتب على أن بقاء الرائحة، هل يدل على بقاء العين فيما لها رائحة ذكية من النجاسات كالخمر وبول المبرسم؟ وفيه قولان: أحدهما: يدل على بقاء العين، فعلى هذا، بقاء اللون لا يدل على بقاء العين أولى. والثاني: لا يدل على بقاء العين، فعلى هذا، في اللون يحتمل وجهين: أحدهما: لا يدل على بقاء العين كالريح والثاني: يدل. والفرق أن اللون أقوى من الريح، لأنه في الحقيقة جزء لطيف من العين، فلا يتصور انفكاك اللون من العين، والريح قد ينفك عنها، فإن البيت إذا

وضعت فيه الخمر مدة، ثم اخرجت منه تبقي رائحتها فيه زمانا ولا عين، فلو صبغ الثوب بصبغ نجس فغسله بالماء وأنعم الغسل وبقي اللون. قالوا: يحكم بطهارته: لأن الماء يقدر على إزالة النجاسة، ورفعهما، ولا يقدر على قطع الألوان، ورفعها من المحال، فإذا أورد الماء عليه، فعلمنا أن ما يمر عليه من النجاسة قد زالت، وإنما بقي اللون، لأن الماء لا يقوى على إزالته يدل عليه أن الصبغ النجس عند الانفراد إذا غمر بالماء، يحكم بطهارته، واللون دائم كان قبل الغسل. وإذا اختصبت المرأة بالحناء النجس، ثم غسلته يحكم بطهارة المحل، وإن بقي اللون لما ذكرنا من المعنى، وهو أن الماء مزيل للنجاسة، وإن كان يضعف عن قلع الألوان. والصحيح في ثوب الحائض إذا غسل، وبقي الأثر أن ذلك يكون طاهرًا، لأنه لو كان نجسًا، معفوًا لكان إذا أصابه بلل تنجس كمحل الاستنجاء، وها هنا لا يصير نجسًا بإصابة البلل، لما روى عن عائشة، فنلطخه بالزعفران ونصلي فيه. قال المزني: ويجوز أن يصلي بثوب الحائض، والثوب الذي جامع فيه الرجل أهله وإن صلى في ثوب نصراني، أجزأه، ما لم يعلم فيه قذرًا، وغيره أحب إلي منه. قال القاضي حسين: وهو كما قال لأن الأصل طهارة الثوبين، والطاهر أيضا في حق المسلمين. روى عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد غمز رجلي، فقبضتها، وإذا قام مددتها. وأما ثياب المشركين: إن كان ثوب مشرك يتوقي النجاسات، كاليهود والنصارى يجوز أن يصلي فيه، لأن الأصل والظاهر طهارته، كما في حق

المسلمين، وإن كان ثوب مشرك يتدين باستعمال النجاسات، كالمجوس، ففيه قولان: أحدهما: هو طاهر، لأن الأصل طاهرة الثوب. والثاني: هو نجس، لأن الظاهر نجاسته. وهكذا كل مسألة تقابل فيها أصلان، أو أصل وظاهر كالمقبرة القديمة التي شك في نبشها، ووحل الطريق. فعلى هذين القولين. قال المزني: وأصل الأبوال، وما خرج من مخرج حي مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه. قال القاضي حسين: الحيوانات قسمان: حيوان له نفس سائلة. وحيوان ليس له نفس سائلة. فأما ماله نفس سائلة، فعلى قسمين: قسم يؤكل ميته كالسمك، ففيما يخرج منه من دمه وبوله وروثه، وجهان: وكذلك فيما يخرج من الجراد من هذه الأشياء: أحدهما: هو طاهر كالرطوبات المتحللة من اللحوم الطرية. والثاني: نجس قياسًا على غيرهما. وقسم لا يؤكل ميتة. فعندنا: ما يخرج منه من البول والروث نجس، سواء كان مأكول اللحم، أو غير مأكول اللحم، وسواء كان ذرق طائر، او غير طائر. وقال أبو حنيفة: ذرق الطير طاهر. ويحتجون فيه بإجماع أهل الحرمين على إمساك الحمامات في المسجد الحرام مع علمهم بوجوب تنزيه المساجد عن النجاسات

وقال محمد وأحمد: ما يؤكل لحمه طاهر بوله، وزاد أحمد أن عذرته أيضا طاهرة، دليلنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. ولم يفصل أو يقول: حيوان محرم الدم، فكان نجس البول قياسًا على غير مأكول اللحم. واحتجوا بما روى أن قومًا من العرنيين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوخموا المدينة فاصفرت ألوانهم، ونحلت أجسامهم، وانتفخت بطونهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، لو خرجتم إلى إبل الصدقة وشربتم، من أبوالها وألبانها، فإنها لشفاء لذربة بطونكم، فخرجوا إلى إبل الصدقة وشربوا من أبوالها وألبانها. فثابت إليهم نفوسهم، وصحت أجسامهم، فقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم، في أثرهم حتى ردوا، وأمر حتى قطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وألقوا في الرمضاء، فكانوا يرمضون

الحجارة، ويستسقون، فلا يسقون إلى أن ماتوا عطشًا، فنزل قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ...). ونهي عن المثلة. قال عمران بن حصين: ما قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا إلا كان يبحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة. والجواب هو إنما شربوا في وقت الحاجة والضرورة للتداوي، ونحن نبيح شرب البول للضرورة. ويحتجون بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه السلام قال: إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذرب، وهو فساد المعدة، ويروى: فساد للذربة بطونهم فجعل فيها. وقد قال عليه السلام: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. فلو كانت حرامًا ما وقع بها الشفاء. والجواب هو أنه أباح شربها عند الحاجة، ولا يصفها بالتحريم في وقت

الحاجة، بل يبيحها كالميتة تباح للمضطر، فلم يكن الشفاء، في المحرم، بل كان في المباح. فأما ما ليس له نفس سائلة مثل النمل والخنفساء ففي دمها وذرتها وجهان، بناء، على أن ميتة ما ليس له نفس سائلة نجسة أو طاهرة. وفيه قولان: فأما البيض المنفصل عن الطائر، إن كان غير مأكول اللحم، فنجس، ولا يطهر بالماء. ولو كان مأكولا، فهو طاهر في الأصل، ثم ينظر، إن سقط منها في مكان نجس، يجب غسله بملاقاته النجاسة، وإن سقط منها في مكان طاهر، فهل يجب غسله أم لا؟ فوجهان بناء على أن بلل باطن الفرج طاهر أم نجس؟ وفيه وجهان، كما في بلل باطن فرج النساء. فأما الأنفحة، إذا ذكيت السخلة، وأخرجت منها طاهر، وإن ماتت، ثم أخرجت منها فهي نجسة، فإن قيل: لم أطلق الشافعي القول بنجاسة ما خرج عن مخرج حي؟ فإن العسل خارج من حي، وهو محكوم بطهارته. قلنا: النحل لعابة يخرج من فيه. حكى: أن واحدًا كان يعيب الحلواء عند الحسن البصري، فقال: لعاب النحل بلباب البر، وخالص السمن ما عابه أحد. وقد ذكرنا في تأويل الأخبار أنه إنما جوز لهم شرب البول عند الحاجة، وهكذا عندنا يجوز شرب ما سوى الخمر، إذا أخبره طبيب حاذق بأن فيه شفاءه. فأما إذا قال له: شفاؤك أعجل فيه، هل يجوز له شربه أم لا؟ فوجهان: كما قلنا في المتيمم، إذا خاف من استعمال الماء لشدة الضنى

فأما شرب الخمر لا خلاف في أنه لا يجوز ذلك لأجل العطش، لأنه يزيد في العطش لحرارته ولا يسكنه. فأما إذا غص بلقمة في حلقه، فيجوز له أن يشيعها بالخمر، وهل يجوز شربها للاستسقاء فوجهان: أحدهما: لا؛ لقوله عليه السلام: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. والثاني بلى؛ كما في البول سواء. قال الشافعي: وإذا أكره على شرب الخمر كرهتها له، وإذا أكره على أكل الخنزير لم أكرهه له. وإنما فرق بينهما، لن الخمر أم الخبائث، فربما يتولد منها الفساد الكثير، إذا ذهب عقله، ويقع في الفحشاء، بخلاف لحم الخنزير. فأما لبن ما يؤكل لحمه فطاهر كلحمه، ولبن ما لا يؤكل لحمه، فنجس إلا لبن الآدمي، فإنه طاهر لحرمته، وهكذا لبن الأتان طاهر لقول الإصطخري قال المزني: فكل ذلك نجس إلا ما دلت عليه السنة من الرش على بول الصبي ما لم يأكل الطعام ولا يتبين لي فرق بينه وبين بول الصبية، ولو غسل كان أحب إلى. قال القاضي حسين: أخل المزني، رحمه الله، في نقل هذا الكلام، لأن ظاهره يوهم الأستثناء من النجاسة، وأن بول الصبي طاهر. وإنما قال الشافعي: وكل نجس يغسل إلا ما دلت عليه السنة فاستثى بول الصبي من الغسل.

فعندنا: الصبي إذا لم يأكل الطعام يرش على بوله الماء، ولا يجب غسله، وإن غسل، قال الشافعي، رحمه الله: كان أحب إلي. وقال أبو حنيفة: يغسل كبول الصبي الذي يأكل الطعام. والقياس يوجب التسوية بين بول الصبي وغيره من النجاسات، إلا أنا اتبعنا فيه السنة، وهو ما روى عن لبابة بنت الحارث، أنها قالت أتي النبي صلى الله عليه وسلم بالحسن أو الحسين، فوضع في حجره ليحنكه بال في حجره، فقلت، أعطني إزارك يا رسول الله لأغسله، فقال: إنما يغسل من بول الصبية، فدعا بماء ورش عليه. فأما بول الصبية، فقد مثل الشافعي رحمه الله القول فيه، فقال: ولا يبين لي فرق بين بول الصبي والصبية. وأصحابنا يجعلون في بول الصبية قولين: أقيسهما: أنه كبول الصبي. والثاني: أنه يغسل، وعليه يدل ظاهر الحديث، وأيضا إن بول الصبية ألصق بالمحل، لأنه قيل في بول الصبية: إنه يكون أحد من بول الصبي، وان له رائحة ذكية، وعني بالرش أن يصيب الماء عليه، حتى يغلبه، وإن لم يعصره، وفي غيره من النجاسات، إذا صب الماء عليها، ولم يعصره. فيه وجهان.

قال المزني: ويفرك المني، فإن صلى به، ولم يفركه، فلا بأس، لأن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه، وروى عن ابن عباس أنه قال: أمطه عنك بإذخرة، فإنما هو كبصاق أو مخاط. قال القاضي حسين: أما مني الرجل، فالمذهب أنه طاهر، وهو قوله الجديد. وخرج فيه صاحب التلخيص، قولا آخر: أنه نجس، وبه قال مالك، وإنما يحكم بطهارة المني، إذا كان المحل طاهرًا، بأن كان قد بال، واستنجي بالماء، فأما إذا كان المحل نجسًا بأن بال، واستنجي بالجامد، أو كان قد أمذى يحكم بنجاسته لا محالة لمروره على المحل النجس. ومنى المرأة طاهر أيضًا، على ظاهر المذهب. وأما حكمه بعد الانفصال، فوجهان: أحدهما: هو طاهر. والآخر: نجس بناء على أن بلل باطن فرج المرأة طاهر أو نجس. وفيه وجهان، وهكذا في مني الرجل، إذا انفصل عنها بناء على هذا الأصل، وهكذا إذا جامعها، وعزل عنها، ثم خرج منه المنى. فيه وجهان. فأما مني سائر الحيوانات. فيه أوجه: أحدها: الكل نجس، وإنما خص ابن آدم بطهارة منيه، كرامة له لقوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم). والثاني: كل حيوان لبنه طاهر، فمنيه طاهر، وما لا فلا.

والثالث: كل حيوان عرقه ولعابه طاهر، فمنيه طاهر، وكل حيوان عرقه ولعابه نجس، فمنيه نجس، فعل هذا مني الحيوانات كلها طاهر عدا الكلب، والخنزير، وقال أبو حنيفة، المني نجس، إلا أنه كان رطبًا يغسل، وإن كان يايسًا جاز أن يقتصر فيه على الدلك. وقال مالك: إنه نجس، ويغسل رطبًا كان أو يابسًا دليلنا على مالك ما روى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت: كنت أفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي فيه. وعن ابن عباس أنه قال: أمطه عنك بإذخرة، فإنما هو كبزاق أو مخاط. ونقول مع أبي حنيفة: ما جاز فركه في محله، جاز تركه كالبزاق ونحوه. فرع إذا ماتت الدجاجة، وفي بطنها بيضة، إن لم تكن متصلبة تكون نجسة، وإن كانت متصلبة، فيه وجهان، والله أعلم بالصواب. قال المزني: قال الشافعي: ويصلي على جلد ما يؤكل لحمه، إذا ذكي، وفي صوفه وشعره وريشه، إذا أخذ منه وهو حي. قال القاضي حسين: قد استقصينا القول في كتاب الطهارة. قال المزني: ولا يصل ما انكسر من عظمه إلا بعظم ما يؤكل لحمه ذكيا، فإن رقعه بعظم ميتة، أجبره السلطان على قلعه، فإن مات صار ميتًا كله، والله حسيبه.

قال القاضي حسين: هو كما قال، فإن رقعه بعظم ما لا يؤكل لحمه، أو بعظم المأكولات إذا مات. نظر، فإن كان لا يجد عظم المأكول ذكيًا، وخاف التلف، جاز، ولا يجبر على قلعه، ولو وجد عظم المأكول ذكيًا، أو كان لا يخاف التلف، فرقعه بعظم غير المأكول. نظر، فإن كان لا يخاف التلف بالقلع، أجبر على القلع، ولو لم يخف التلف، لكن خيف شدة الضنى، هل يجبر على القلع؟ يحتمل وجهين بناء على القولين في جواز التيمم، إذا خاف إن مسه الماء شدة الضنى، وإن خيف التلف وجهان: أظهرهما: لا يجبر على القلع، لأن خوف التلف والضرورات تبيح استعمال، النجاسات والمحظورات. يدل عليه إبحاة الميتة للمضطر لخوف التلف، بخلاف الخيط، لا ينزع وجهًا واحدًا، إذا خيف التلف، لأن ذاك حق الآدمي، فيمكن تداركه بالقيمة. والثاني: يجبر على القلع، لأجل الصلاة، وإن كان يقضي إلى زهوق الروح، لأن إزهاق الروح، يستحق بسبب الصلاة، كما يقتل تارك الصلاة، فلو مات قبل القلع، فوجهان: أحدهما: يقلع، كما في حالة الحياة. والثاني: لا؛ لسقوط التكلف، بخلاف الخيط المغصوب، ينزع منه بعد الموت. وقول الشافعي رحمه الله: فإن مات صار ميتًا كله، والله حسيبه. قيل: معناه صار نجسًا كله، فلا يقلع، والله حسيبه. قيل: معناه، صار نجسًا، على ما ارتكب من المعصية.

قيل: أراد به سقط التكليف عنه. وهكذا حكم الخيط النجس، إذا خاط به جرحه، حكم العظم النجس. فأما الخيط المغصوب، إذا خاط به جراحه، إن لم يخف من نزعه التلف، فإنه ينزعه، وإلا فلا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا وقع المنكسر بالعظم النجس مع وجود الطاهر، إن لم يكن قد اكتسى باللحم يقلع، وإن اكتسي باللحم لا يقلع. وفرق بأنه قبل الاكتساء اللحم في حكم الطاهر، وحكم النجاسة الظاهرة يمنع صحة الصلاة، ووجوب رفضها، وإذا اكتسى باللحم، صارت مستبطنة لا حكم لها، كما لو شرب نجسًا، لا يكلف الاستقاء لإخراجه [...]. والفرق بيهما ظاهر، وذاك لأن النجس إذا شربه، لا يمكن إخراجه بالكلية، فلم يكلف الإخراج، بخلاف العظم فإن إخراجه ممكن. والخلاف مع أبي حنيفة لا يتصور إلا في عظم الخنزير، فإن عنده العظام، لا تحلها الحياة، ولا تنجس بالموت في الحيوانات الطاهرة، والكلب عنده طاهر العين. ووافقنا في الخنزير أنه نجس العين. قال المزني: ولا تصل المرأة المرأة شعرها بشعر إنسان، ولا شعر ما لا يؤكل لحمه بحال. قال القاضي حسين: وصل الشعر في الجملة، حرام. والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، انه قال: لعن الله الواصلة، والمستوصلة والواشمة، والمستوشمة، والواشرة، والمستوشرة.

فـ (الواصلة): هي التي تصل الشعر بالشعر، و (المستوصلة)، هي التي تستدعي، وتلتمس وصل شعرها بالشعر، والواشمة، هي التي تغرز إبرة أو غيرها في يدها أو وجهها، وتحشى فيها شيئا من العظم، وهو النيل. والمستوشمة: هي التي تلتمس الوشم. والواشرة: هي التي تحد أسنانها إذا أكلت لهرم أو غيره. والمستوشرة: هي التي تلتمس الوشر، وتحديد الأسنان. وعن ابن مسعود أنه كان يخطب، فقال في خطبته: ألا ألعن من لعنه الله، لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة، والمستوشمة، والواشرة المستوشرة. وكان في القوم امرأة معنية بأمر دينها، فرجعت إلى البيت، وقرأت جميع القرآن، تطلب ما قاله ابن مسعود فلم تعثر عليه، فرجعت من الغداة إلى مجلس عبد الله بن مسعود، قالت، قد تصفحت ما بين الدفتين، فلم أجد ما قلت، فقال لها: لو طلبتيه لوجدتيه، قال الله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه). الاية. وإن ما أتانا الرسول عليه السلام أنه قال: لعن الله الواصلة. الخبر، فلو وصلت شعرها. نظر، فإن وصلتها بشعر ما لا يؤكل لحمه، لم تصح صلاتها، وكلفت قطعها، وإن وصلت بشعر آدمي فحرام أيضا، لأن من كرامة الآدمي الا يستعمل حرمته، بل تدفن وتوارى، غير أنها إن صلت معها، فصلاتها، صحيحة، لأن شعر الآدمي طاهر، ولو وصلت شعرها بشعر ما يؤكل لحمه، إن لم يكن لها زوج، فحرام، وإن كانت ذات زوج، ولم يأذن لها زوج، فكذلك هو حرام وإن أذن لها فيه وجهان: أظهرهما: أنه يجوز تزيينا للزوج، واستمالة لقلبه.

والثاني: لا يجوز لظاهر الأخبار، لقوله عليه السلام: لعن الله الكاسيات العاريات المغيرات لخلق الله. والمراد بـ (الكاسيات) (العاريات)، اللاتي يلبسن الشف من الثياب، ومهلهل النسج منها، بحيث تبدو العورة من تحتها، فمن لبسها كان عاريًا، لما أن عورته ظاهرة فكاسيًا للبسه إياه، وروى عنه عليه السلام، أنه قال: المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور. يعني المتشبع بما ليس فيه لشهود الزور، والذين يلبسون الثياب ليشهدوا بالزور، وإذا غمزت وجهها بالغمزة إذا لم تكن ذات زوج أو كانت، ولم يأذن لها فيه، عصت الله تعالى. وإن أذن لها الزوج في التغمير، فوجهان، لما ذكرنا من المعنى، وظاهر الخبر وهكذا التطريق، وهو أن تختضب بالحناء، وتسود رءوس البنات، فعلى ما ذكرنا من التفصيل فيها قيل: ولها أن تختضب بالحناء من غير أن تسود رءوس الأصابع، ولا يجوز للرجل الاختضاب بالحناء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: طيب الرجال ما خفي لونه وظهرت رائحته، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفيت رائحته.

وقال القاضي رحمه الله: هي عادة المخنثين وسنتهم. ويجوز للرجل أن يخضب لحيته بالحناء. فرع لو تنفط بدنه وفيه قليل ماء، فإنه لا يحكم بنجاسته، لأنه في حكم الباطن، فإذا تشق وخرج منه الماء، حينئذ يجب غسله، واتصال الماء إلى باطنه، لأنه، صار في حكم الظاهر. قال المزني: وإن بال رجل في مسجد، أو أرض يطهر بأن يصب عليه ذنوب من ماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بول الاعرابي (حين بال في المسجد)، صبوا عليه ذنوبًا من ماء. قال الشافعي: رحمه الله: وهو الدلو العظيم، وإن بال اثنان، لم يطهره إلا دلوان، والخمر في الأرض كالبول، وإن لم تذهب ريحه. قال القاضي حسين: الذنوب، اسم للدلو الذي يشد فيه رشاء، يسمى ذنوبًا، لأنه كالذنب المدلو. فعندنا إذا بال في أرض طهر، بأن يصب عليه الماء حتى يغمره، ولا يحتاج إلى حفرها. وحكي عن الشافعي، رحمه الله أنه قال: يصب عليها سبعة أضعاف البول، وليس هذا بتقدير، لأن الشرط أن يصب عليه من الماء حتى يغمره ويغلبه، وبدونه لا يحصل هذا الشرط. وقال أبو حنيفة: لا تطهر الأرض إذا بيل عليها، حتى تحفر ويرتفع ترابها دليلنا ما روى أبو هريرة، رضي الله عنه أن أعرابيا دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فرد عليه السلام، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من الصلاة قال الاعرابي، اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا.

وفي رواية أدخلني الجنة ومحمدًا، ولا تدخل معنا أحدًا، فقال عليه السلام: لقد تحجرت واسعًا يا أعرابي. أي: استوليت على مكان واسع قصدت أن تفوز به. ومنه قولهم: تحجر فلان أرض كذا، إذا أعلم عليها ليحييها فقام الأعرابي ورفع ذيله في ناحية من المسجد ليبول. قال أبو هريرة: فهممنا به، فنهانا النبي عليه السلام، فقال: لا ترووا به. أي: لا تقطعوا عليه بوله، قربوا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا، حتى بال، ثم قال عليه السلام: صبوا عليه ذنوبًا من ماء. ولم يأمر بالحفر، ثم إنما تحكم بطهارتها، إذا انصب الماء وتنشف فيها. وبمثله: لو غسل ثوبًا، ولم يعصره حتى جف الماء عليه، أو غسل آنية، وخضخض الماء، فيها، ولم يصبها حتى جف، فوجهان: أحدهما: يحكم بطهارتها. والثاني: لا يحكم ما لم يعصر الثوب، ولم يصب الماء الذي في الإناء الذي في العصر، والصب ممكن فيهما، بخلاف الأرض، لأن العصر لا يتأتي فيها فالتنشيف فيها بمنزلة العصر في الثوب. فأما إذا كات الأرض صلبة، بحيث إذا صب فيها الماء يجري إلى موضع آخر، ويجتمع، فإن الأرض صارت طاهرة، وحكم الماء المجتمع حكم غسالة النجاسة.

ولو بال اثنان في أرض، فزاد في الماء ليحصل التطهير، ولا يختلف الحكم ببول الاثنين، والواحد في وجوب الزيادة في الماء. وإنما يختلف الحكم بقلة البول وكثرته، لأن الواحد لو بال كثيرًا، بحيث يبلغ بول اثنين في الغالب، يصب عليه من الماء، ما يصب على بول الاثنين. وإذا بال اثنان، كل واحد منها قليلا، بحيث لا يزيد مجموعهما على بول واحد، يصب عليه من الماء، ما يصب على بول الواحد. فإن قيل: ما الفرق بين ما لو بال اثنان في أرض.؟ قلتم: لا يقتصر فيما يصب عليه من الماء على ما يصب على بول الواحد، وبين ما إذا ولغ في الإناء كلبان. قلتم: يقتصر في الغسل والتعفير على ما يقتصر عليه من ولوغ الواحد. وأما الفرق، أن نجاسة الولوغ بعد المرة حكمية، والنجاسات الحكمية يتفق مزيلها، قلت أم كثرت، لأن الحكم يجري فيه التداخل. يدل عليه أن الأحداث إذا اجتمعت، يكتفي لها بوصف واحد، ولا يكلف بوضوء آخر لكل حدث بخلاف البول، فإنها نجاسة عينية، فكلما كثرت العين افتقرت إلى زيادة المزيل، هذا لأن العين أقوى، وإذا ازداد القوى، وجبت الزيادة في رافعه، لأن غير القوى، لا يقدر على رفع القوى ودفعه له. والخمر في الأرض كالبول، وإن لم يذهب ريحه. أما النجاسة التي ليست لها رائحة ذكية، بقاء رائحتها يدل على بقاء العين، ويمنع الحكم بالطهارة، وما لها رائحة ذكية كالخمر، وبول المبرسم هل يدل بقاء رائحتها على بقاء العين. فقولان: أحدهما: وهو المنصوص، لا يدل على بقاء العين؛ لأن الرائحة تبقي بعد زوال العين يدل عليه أن الخمر إذا كانت في بيت مدة، فأخرجت عنه تبقى

رائحتها فيه، وقد زالت العين حتى لو كان فيه ثوب تعلق رائحتها فيه، وكذا الميتة، تلقى على شط البحر، فيتروح الماء برائحتها، ولم يلاق الماء عين النجاسة. والقول الثاني: يدل على بقاء النجاسة، لأن الرائحة صفة للعين والصفات لا تنفك عن الموصوفات، كما لم تكن ذكية. وحكم الخمر إذا أصابت الأرض، حكم البول سواء. وإن صب الماء عليها وزالت عينها وأثرها، فذاك، وإن بقيت الرائحة، فقولان على ما بينا، وفي سائر النجاسات، إن بقي اللون دون الرائحة فمعفو، بدليل أثر عائشة. وإن بقي الرائحة دون اللون، الصحيح انه يعفي، وفيه وجه آخر، أنه لا يعفى، وإن بقي اللون والرائحة، فيه وجهان: الصحيح: أنه يكون نجسًا. فروع إذا تحرق السرقين، فالرماد منه يكون نجسًا، وكذا الدخان حتى لو أصاب الدخان ثوبًا، فإن كان الثوب رطبًا، فإنه يتجس به، وإن كان يابسًا فيه وجها وكذا لو شجر التنور بالسرقين، فإنه يكنس التنور بالمكنسة اليابسة، حتى لم يبق هناك من دخانه شيء، حتى لو ألصق العجيبن هناك به قبل الكنس، أو كنسة بمكنسة رطبة، فإنه ينجس العجيبن، ولا يطهر الطبخ بعده، وكذا لو سقط العجين في الرماد تنجس إلا أن يكون بعد ما طبخ، سقط فيه، فإنه لا ينجس، وكذا لو دخل الإصطبل، وراثت الدواب، وخروج منه دخان ودخل المستحم، وبال وتغوط، وخرج منه دخان في الحال، فإنه لو أصاب ثوبه، وكان رطبًا، تنجس وإن كان يابسًا، فيه وجهان.

وأصل هذا ما حكينا عن الحليمي في كتاب الطهارة، أن الإنسان إذا خرج منه ريح، وكان ثيابه رطبًا، قال: ينجس، وإن كان يابسًا، لا ينجس. فأما إذا أغلى اللحم بالماء النجس، فإنه ينجس، فلو صب الماء عليه فإنه يطهر ظاهره، ولا يطهر باطنه، إلا أن يغلي ثانيًا بالماء الطاهر، حتى يتخلل الماء في أجزائه، وكذا لو سقى السكين بالماء النجس، ثم غسله بالماء الطاهر، فإنه يطهر ظاهره، دون باطنه، إلا أن يسقي ثانيًا بالماء الطاهر، حينئذ يطهر ظاهره، وباطنه. فأما الدابة، إذا راثت الشعير، ينظر فيه، فإن كان الشعير يصلح للزراعة، وينبت لو زرع، فإنه يطهر إذا غسل بالماء، وإن كان بحيث لا ينبت لو زرع، فإنه لا يطهر بالغسل. فأما إذا أديس الكدس، وراثت فيه البقرة. قال القاضي رضي الله عنه: فإنه يعفي عنه؛ لأجل الضرورة والحاجة مع كونه نجسًا. والمستحب أن يغسل الفم إذا أكل منه تنظفا لا وجوبًا، فإذا انبت الحب من السرقين أو الكرات نبت عنه، فإنه يكون نجسًا، فإن تسنبل منه أو تشقق وخرج منه الحبات، حينئذ يكون طاهرًا، لأن النجاسة لا يلاقيها الآن، والله أعلم بالصواب. قال المزني: وإن صلى فوق قبر، أو إلى جنبه، ولم ينبش، أجزأه. قال القاضي حسين: الصلاة في المقابر في الجملة مكروهة. روى عن عائشة، رضي الله عنها أنها قالت، كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي في يغشى عليه ويفيق، فكلما أفاق كان يقول: لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

وإنما كان يقصد به تحذير أمته من اتخاذ قبره مسجدًا. وروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: اجعلوا شيئًا من صلاتكم في بيوتكم، لا تتخذوها مقابر. فدل أن المقابر لا يصلى فيها. وروى أنه عليه السلام: نهى عن الصلاة في سبعة مواضع: المجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، ومعاطين الإبل، والحمام، وفوق ظهر بيت الله الحرام. أما المجزرة والمقبرة، فالنهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فلو بسط هناك ثوبًا طاهرًا، وصلى عليه أجزأه. وأما المقبرة هكذا، وإن صلى في المقبرة من غير أن يبسط فيها شيئًا، فإن كانت جديدة، لم تنبش، فالصلاة تنعقد فيها، وإن كانت قديمة منبوشة، لا تنعقد الصلاة فيها. وإن شك هل نبشت أم لا؟ فعلى قولين: الأصل: والظاهر، كالقولين في وحل الطريق.

أما قارعة الطريق، فالنهي عن الصلاة فيها لمعنيين: أحدهما: أنها لا تنفك عن النجاسات غالبًا، لأنها ممر الدواب والبهائم، والثاني: أن المارة تكثر فيها، فلا يكمل الخشوع ويتعلق قلبه بما يتوهمه من المارة بين يديه، فلو بسط فيها ثوبًا طاهرًا، فالكراهية باقية، وإن ارتفع معنى النجاسة، لأن المعنى الثاني يمنع الخشوع في الصلاة، ويوجب اشتغال القلب، وهو قبل بسط الثوب الطاهر عليها موجود بعده، وتنعقد الصلاة. ولو صلى فيها في جوف الليل، فمكروه، لأنه لا يأمن مرور المارة بين يديه بالليل كهو بالنهار. وأما معاطن الإبل، فالنهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، وأنه لا يكمل الخشوع في الصلاة فيها لما في الإبل من النفار، وعدم السكون، فلو بسط عليها ثوبًا طاهرًا، فالكراهية باقية لبقاء المعنى الثاني المانع من الخشوع، وإن ارتفعت النجاسة، تنعقد الصلاة. وقال أحمد: الصلاة في معاطن الإبل لا تجوز، وفي مرابض الغنم جائز، سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أنصلي في معاطن الإبل؟ فقال: لا، فقال: أنصلي في مرابض الغنم، فقال: نعم. وعندنا هذا محمول على الاستحباب. قال المزني: وما خالط التراب من نجس، لا تنشفه الأرض، إنما يتفرق فيه، فلا يطهره إلا الماء. قال القاضي حسين: قد ذكرنا حكم النجاسة المائعة إذا أصابت الأرض، فإن كانت الأرض صلبة، يصب عليها الماء، وإن كانت رخوة، فإذا أورد عليها الماء كثيرًا، فإنه يطهرها.

فأما الجامد من النجاسات إذا أصابت الأرض، لا تقبل التطهير، يصب الماء عليها بل تزداد إذا صب الماء عليها، ولو مضت عليها دهور، وشهور حتى صارت النجاسة بطبع التراب هل يحكم بطهارتها؟ فوجهان: أحدهما: بلى، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: لا؛ لأن عين النجاسة قائم، وإنما بدلت صفاتها، وعلى هذين الوجهين: السماد إذا جعل في الأرض، فمضت عليها مدة صار بطبع التراب فهل يحكم بطهارته؟ فعلي وجهين، وهكذا الكلب، إذا صار ملحًا، وعلى أصل أبي حنيفة، يتصور أن يكون خنزيرًا نصفه طاهر، ونصفه نجس، بأن وقع نصفه في الماء، ونصفه في المملحة فيصير ملحًا. قال المزني: وإن ضرب لبن فيه بول الطين المعجون بالبول وغيره من النجاسات، لم يطهر، إلا بما تطهر به الأرض من البول، والنار لا تطهر شيئًا. قال القاضي حسين: إذا ضرب منه لبن فتطهيره، بأن يصب الماء، بحيث يتخلخل في باطنه، وينفذ فيه، ويصل الماء من كل جانب إلى جانب الآخر، كالأرض إذا أصابها نجاسة، تطهيرها بأن يصب الماء عليها حتى ينشف فيها، ولو طبخ اللبن المضروب من الطين النجس. فالمذهب أنه نجس؛ لأن النار لا تطهر شيئا على حسب ما نبين، فلو صب الماء عليه، فلا يتصور أن يتخلخل في باطنه، وينفذ فيه لصلابته، لكن ظاهره يطهر، لأن إصابته الماء يقينًا، فيجوز أن يصلي عليه، وهل يصلي معه. الصحيح أنه لا يصلي معه: لبقاء النجاسة في باطنه. وفي وجه آخر: أنه يجوز؛ لأن النجاسة المستنبطة، لا يمنع الصلاة معها،

كما لو حمل طائرا أو صبيا صغيرًا في الصلاة، تصح صلاته، وهو حامل للنجاسة يقينًا. والفرق بين المسألتين ظاهر، وذاك أن النجاسة في جوف الطائر والصبي الصغير خلقة طبيعية حصلت باستحماله، بخلاف نجاسة الآخر، فإنها مودعة فيه. قال: والنار لا تطهر شيئًا، هكذا نص ها هنا. ونص في الجديد والاستنجاء، فقال: لا يسمح بحجر قد مسح به مرة إلا أن يكون قد طهر بالماء. وقال في القديم: ولو بيل في أرض، فشرقت عليها الشمس، ومضى عليها أزمان، جاز أن يصلي عليها، ولا يتيمم بترابها. وقال في الإملاء/ ولو استنجى بحجر وألقاه في مضحاة حتى جف، وتناثرت منه النجاسة، جاز أن يستنجي به ثانيًا، فحصل في غير الماء، هل يطهر؟ قولان: فإن قلنا: يطهر، هل يطهر ظاهره، أو ظاهره، وباطنه؟ فعلى قولين: والنار مرتبة على غيرها إن قلنا: ما عدا النار يطهر، فالنار به أولى، وإلا فوجهان؛ لأن النار أقوى، وعلى هذين الوجهين السماد وعظام الموتى، هل يحكم بطهارة رمادها، فقولان: أحدهما: يحكم، وهو مذهب أبي حنيفة. والصحيح: أنه لا يحكم، لأن عين النجاسة قائمة، وإنما تفرقت أجزاؤها، فأما لو تصور أن يتخلخل الماء في باطن الأجزاء المطبوخ، ويصل إلى جميع أجزائه، فإنه يطهر ظاهره وباطنه كغير المطبوخ.

قال المزني: والبساط كالأرض إن صلى في موضع منه طاهر، والباقي نجس، ولم تسقط عليه ثيابه - أجزأه. قال القاضي حسين: وهو كمال قال؛ لأن البساط العريض إذا كان على طرف منه نجاسة، فصلى على الطرف الآخر أجزأه، تحرك المكان أو لم يتحرك، كالأرض إذا صلى على موضع طاهر منها، وبجنبه نجاسة صحت صلاته، سواء كانت النجاسة تتحرك بحركته، أو لا تتحرك. وقال أبو حنيفة: الاعتبار بحركة النجاسة وثباتها، إن كانت تتحرك بحركة المصلى لم تصح صلاته، لأنه مصل عليها، وإن كانت لا تتحرك بحركته صحت صلاته، وإذا صلى على سرير، قوائمه على النجاسة صحت الصلاة عندنا. وإذا تعمم بطرف عمامه، وطرفها الآخر نجس، ملقاة على الأرض لا تصيب جزءا من بدنه وثيابه، لم تصح صلاته. ومذهب أبي حنيفة على ما بينا إن تحركت بحركة المصلى لا تصح صلاته وإلا فتصح صلاته، ولو كان طرف العمامة بيده فوجهان. وإذا صلى على ثوب شف تحته، نجاسة تظهر من تحته، ولا يلاقيها بدنه وثوبه، ففي صحة الصلاة وجهان. وإذا كان على مصلاه نجاسة لا تلاقي جزءا من بدنه وثيابه، لكنها تحاذيه مثل أن تكون حذاء صدره عند السجود أو بطنه، ففي صحة الصلاة وجهان: أحدهما: هي صحيحة؛ لأنه غير ماس للنجاسة. والثاني: لا؛ لأن النجاسة ظاهرة على المصلى بحذاء المصلي.

فرع إذا أخذ في الصلاة بطرف حبل، وطرفه الآخر متصل بنجاسة، أو عنق كلب فأوجه: أحدها: أن صلاته باطلة، لأنه حامل للنجاسة. والثاني: هي صحيحة لأنها ليست تلاقيه ولا ثيابه، بل هي بائنة عنه. والثالث: إن كان الطرف الآخر متصلا بعين النجاسة، لم تصح صلاته مثل أن يكون في عنق كلب أو خنزير، من غير حائل بين الحبل والعنق. أو كان متصلا بحمل نجس على حمار، وإن كان الطرف الآخر متصلا بطاهر، وذلك الطاهر متصل بنجس، مثل أن يكون في عنق الكلب، وبين الحبل وعنقه حائل من ساجور أو غيره، أو كان متصلا بحمار، وعلى الحمار حمل نجس من سرقين، أو غيره صحت صلاته، فلو جعل طرف حبل تحت قدمه، وطرفه الاخر متصل بنجاسة صحت صلاته مذهبًا واحدًا؛ لأنه غير حامل للنجاسة، كالبساط يصلي على موضع طاهر منه لا تضره نجاسة باقي البساط بعد أن كان لا يصيبه جزء من بدنه أو ثيابه. وعند أبي حنيفة: إنما يعتبر في طهارة المكان طهارة موضع القدمين دون باقيه، بناء على أنه لا يجب وضع الجبهة على الأرض، وإنما يجب وضع الأنف إذا سجد وساحة الأنف أقل من قدر درهم، والدرهم من النجاسة معفو في الصلاة، فلا تضر نجاسة المسجد، ولا يجب عنده، وضع اليدين في السجود على الأرض، وربما يقولون، إنما يعتبر طهارة إحدى القدمين دون الأخرى، لأن القيام على قدم واحد في الصلاة جائز. فرع إذا صلى على الجنازة، وجعل مداسه تحت قدميه، جاز، ولو نزع أصابع

الرحلين عنها ينظر فيه، فإن كان شيء من رجله بحذاء، ظهر المداس، فإنه لا يجوز إذا كان المداس نجسًا؛ لأنه يصير حاملاً له، وإلا فيجوز. قال المزني: ولا بأس أن يمر الجنب في المسجد مارًا، ولا يقيم فيه، وتأول قول الله جل ذكره، ولا جنبا إلا عابري سبيل. قال: وذلك عندي موضع الصلاة. قال: وأكره ممر الحائض فيه. قال: ولا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد، إلا المسجد الحرام لقول الله جل وعز، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. قال المزني: فإذا بات فيه المشرك، فالمسلم الجنب أولى أن يجلس فيه ويبيت، وأحب إعظام المسجد عن أن يبيت فيه المشرك، أو يقعد فيه. قال القاضي حسين: للجنب العبور في المسجد عندنا لغرض صحيح، مثل أن يكون الماء في المسجد يريد أن يدخله، ويأخذ منه. فأما إذا أراد أن يغتسل في المسجد بأن كان فيه نهر جار ليس له ذلك، لأنه يحتاج إلى المكث فيه، ولو كان فيه رجل يريد أن يناديه او كان طريقه إلى الدار في المسجد، فإنه يجوز له المرور فيه. وقال أبو حنيفة: العبور فيه معصية كالمكث. ودليلنا ظاهر الاية، ولا جنبا إلا عابري سبيل. منع الجنب من قربان المسجد، لأن المراد في الصلاة في صدر الاية مكان الصلاة. قال الله تعالى: لهدمت صوامع وبيع وصلوات والمراد بها مكانها، واستثنى العبور.

فأما إذا لم يكن له في العبور غرض ما فيكره، وإن فعل فآثم لظاهر القرآن ثم النص من الشافعي رضي الله عنه ولو كان له طريقان: أحدهما أقرب، والآخر أبعد، وهو جنب في المسجد فاختار الأبعد من غير غرض فعل يكره، يحتمل وجهين بناء على أنه إذا سلك الطريق الأبعد هل يبلغ مسافة القصر؟ وترك الأقرب الناقص عنها من غير غرض، هل يترخض برخص المسافرين؟ وفيه قولان: وأما الحائض لا يجوز لها العبور في المسجد إن لم تعصب فرجها، وإن عصبت فوجهان: أحدهما: يجوز كما للجنب. والثاني: لا؛ لأنها لا تأمن من انحلال عصابتها، وسيلان الدم منها، فتلوث المسجد، ولأن حكم الحيض أغلظ من حكم الجنابة، يدل على أنه يؤثر في تحريم الوطء، واسقاط الصلاة، وفعل الصوم بخلاف الجناية، فأما بعد انقطاع الدم، وقبل الاغتسال حكمها حكم الجنب. ولو وقعت لها خصومة، أو أرادت أن تشهد، فليس لها الدخول في المسجد، إذا كان الحاكم يقعد في المسجد في مجلس الحكم في المسجد، بل الحاكم يخرج من المسجد إليها، ويسمع منها شهادتها، وكذا الجنب إذا أراد أن يشهد عند الحاكم في المسجد، ما حكمه؟ لو أمكنه ان يشهد عنده في العبور، بحيث لا يمكث فيه شيئا له ذلك، وإلا فلا يجوز له المكث فيه على ما بينا. ولو كان رجل في المسجد، فاحتلم، وكان ذلك ليلا مظلمًا يخاف على نفسه وماله، جاز له المكث فيه، لكنه يتيمم إن وجد في المسجد ترابًا غير ترابه، بأن كانت الرياح هبت، فأتت به في المسجد. وإن لم يجد إلا تراب المسجد فيها وجهان.

وأما المشرك لا يجوز له البيتوتة، والمكث، والعبور في المسجد الحرام لظاهر قوله: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام، وله فيما عدا المسجد الحرام أن يمكث، ويبيت بإذن مسلم، ودون إذن مسلم فيه وجهان. وإذا تصدر حاكم في المسجد للحكم، وفصل القضايا، جاز للمشرك الدخول فيه، لأن جلوسه في المسجد إذن منه للمشركين في دخوله، لأنه يفصل الخصومات بينهم، كما بين المسلمين وجوبا في قول، وجوازًا في آخر. وقال المزني: إذا جاز للمشرك أن يبيت في المسجد فالمسلم الجنب به أولى. وقال بعض أصحابنا، إذا صورة المسألة المشرك إذا لم يكن جنبًا، فإن علمت جنابته منع من البيتوتة فيه كالمسلم. ومن أصحابنا من قال: للمشرك البيتوتة في المسجد جنبًا كان أو لم يكن، والفرق بينه وبين المسلم، أن المسلم يعتقد إعظام المسجد، ووجوب احترامه، فيمنع من أن يقدم على فعل يتضمن ترك الاحترام، وخلاف التعظيم بخلاف المشرك. فَرْعٌ لا يجوز للرجل أن يغرس في المسجد غرسًا، ولا أن يحفر فيه بئرًا أو حوضًا، ولا أن يبني فيه منارة، ولا أن يضع فيه اللبنات ويضعها في زواية منه، أو يجمع الحشيش في موضع منه، لأن هذه الأشياء مما تشغل موضع الصلاة. وقيل: إن حكم اتخاذ المنارة أخف، لأنه يمكن الصلاة على رأس المنارة، بخلاف حفر البئر ونحوه، وهكذا لا يجوز الاستطراق في المساجد من غير غرض صحيح له فيه، ولو اتخذ سردابًا تحت المسجد يتنفس فيه من حر الشمس، جاز، لأنه يمكن الصلاة فيه.

قال المزني: قال الشافعي: والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل اختيار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنها جن من جن خلقت. وكما قال: حين ناموا عن الصلاة: اخرجوا بنا من هذا الوادي، فإن به شيطانا. فكره قربه، لا لنجاسة الإبل، ولا موضعًا فيه شيطان، وقد مر بالنبي صلى الله عليه وسلم شيطان فخنقه، ولم تفسد عليه صلاته، ومراح الغنم الذي تجوز فيه الصلاة الذي لا بول فيه، ولا بعر، والعطن موضع قرب البئر الذي يتنحى إليه الإبل؛ ليرد غيرها الماء، لا المراح الذي تبيت فيه. قوله: والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل اختيار. قال القاضي حسين: هو كما قال، وليس بنهي تحريم، حتى لو بسط ثوبًا عليها إن كانت نجسة، وصلى صحت صلاته ويكره. وفي مرايض الغنم: لا يكره فيها الصلاة، بعد أن بسط ثوبًا فيها إن كات نجسة. وقال أحمد: الصلاة في معاطن الإبل غير جائزة، ولو بسط ثوبًا فيها، وتجوز في مرابض الغنم، وإن لم يبسط ثوبًا فيها، سواء كان فيها بولها أو بعرها، أو لم يكن. وروى أنه عليه السلام قال: لا تصلوا في معاط الإبل، وصلوا في مرابض الغنم. وعندنا: هو محمول على نهي التنزيه دون التحريم، وإنما منع من الصلاة فيها، لأن لها نفارًا، فيمنع الصلاة من الخشوع والخضوع، يدل عليه أنه - عليه

السلام - علل فقال: إنها جن من جن خلقت، ألا تراها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها. وقال في الغنم: إنها من دواب الجنة خلقت من السكينة والوقار. والصلاة في مكان الجن تنعقد، وعلى هذا وادي المعرس. قال عليه السلام لما ايقظهم حر الشمس، أخرجوا من هذا الوادي فإن به شيطانا، ولم يصل فيه لا لنجاسته، ولو صحت فيه صحت صلاته، لأن الجن والشياطين طاهرة. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انفلت لي البارحة عفريت فهم أن يفسد على صلاتي فمكنني الله منه؟ فخنقته حتى وجدت برد لسانه على أنامله، فأردت أن أربطه بسارية المسجد، لتلعب به صبيان المدينة، فتذكرت قول أخي سليمان: هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي فأرسلته. ولم يستأنف الصلاة بملاقاته الشيطان، ثم فسر الشافعي رحمه الله العطن، فقال: في موضع قرب البئر تنحي الإبل إليه ليرد غيرها الماء، وليس بالمراح الذي تبيت فيه.

مسألة

وقال في الكبير: المراح، ما استعلت أرضه، وطابت تربته، واستدار عن مهب الشمال موضعه. مسألة نص الشافعي رحمه الله على أنه لو اضطرب سن من أسنانه، فأثبتها بذهب أو فضة، لم تصح صلاته، لأنها صارت ميتة. قال رضي الله تعالى عنه، وهذا من كلام الشافعي دليل على أن ميتة الآدمي نجس. ومن قال بالطريقة الثانية، وهو أن ميتة الآدمي طاهرة، أجاب بأن الشافعي، إنما لم يحكم بصحة الصلاة معها، لأنها ألصقها بالدم بالجاري وهو نجس. فرع لو استنجي بالماء، فالمستحب أن يدلك يده بالأرض، ويغسلها بالماء، هكذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب.

باب الساعات التي يكره فيها صلاة التطوع ويجوز فيها القضاء، والجنازة والفريضة

باب الساعات التي يكره فيها صلاة التطوع ويجوز فيها القضاء، والجنازة والفريضة. قال المزني: قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح، حتى تطلع الشمس، وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة. وعن الصنابحي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس تطلع، ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب، قارنها فإذا غربت فارقها. ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة. وعن جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئًا، فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلى آية ساعة شاء من ليل أو نهار. قال الشافعي: وبهذا أقول، والنهي عن الصلاة في هذه الأوقات عن التطوع إلا يوم الجمعة للتهجير، حتى يخرج الإمام. فأما صلاة فرض، أو جنازة أو مأمور بها مؤكدة، وإن لم تكن فرضًا أو كان

يصليها، فأغفلها، فلتصل في هذه الأوقات، بالدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: من نسي الصلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها. وبأنه عليه السلام رأى قيسًا يصلي بعد الصبح، فقال: ما هاتان الركعتان، قال: ركعتا الفجر، فلم ينكره، وبأنه عليه السلا صلى ركعتين بعد العصر، فسألته عنهما أم سلمة، فقال هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني عنهما الوفد، وثبت عنه عليه السلام أنه قال أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، فأحب فضل الدوام، قال: ويصلي الناس على جنائزهم بعد العصر، وبعد الصبح، فلا يجوز أن يكون نهيه عن الصلاة في الساعات التي نهي فيها عنها إلا على ما وصفت، والنهي فيما سوى ذلك ثابت إلا بمكة، وليس من هذه الأحاديث شيء مختلف. قال المزني: قلت أنا: هذا خلاف قوله، فيمن نسي ركعتي الفجر، حتى صلى الظهر، والوتر، حتى صلى الصبح، أنه لا يعيد، والذي قبل هذا اولى بقوله وأشبه عندي بأصله. قال الشافعي: رحمه الله ومن ذكر صلاة، وهو في أخرى، أتمها، ثم قضى، وإن ذكر خارج الصلاة، بدأ بها، فإن خاف فوت وقت التي حضرت بدأ بها ثم قضى. قال القاضي حسين: خمسة أوقات نهي عن الصلاة فيها: اثنان من جهة الفعل، وثلاثة من جهة الوقت. فأما اللذان من جهة الفعل. أحدهما: بعد فعل الصبح إلى أن تطلع الشمس. والثاني: بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. وأما الثلاثة من جهة الوقت:

أحدها: عند طلوع الشمس إلى الارتفاع. والثاني: عند الاستواء إلى الزوال. والثالث: عند دنو الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب. روى عن عقبة بن عامر أنه قال: خمسة اوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وتصبح حتى تطلع الشمس. وروى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة، ذكره ثلاثا وقد أخل المزني في نقل هذين الحديثين، فنقل متن حديث أبي ذر عن أبي هريرة، فنزل متن حديث أبي هريرة. وروى الصنابجي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس تطلع ومعها

قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا آذنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها. وفي بعض الروايات: إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت فارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا استوت. وفي بعض الروايات: إن الشمس ... ، فمنهم من حمل القرن على الحزب، أي: معها حزب الشيطان، وهم الذين يعبدون الشمس ويسجدون لها. ومنهم من قال: المراد بالقرن: قرن الرأس، أراد به أن الشيطان يضم قرنه إلى الشمس، ويلصق ناصيته بها في هذه الأوقات، وحتي إن من عبد الشمس وسجد لها كان عابدا للشيطان ساجدًا له. روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة، وهذه الأخبار محمولة عندنا على الصلوات التي لا سبب لها، وهي ما ينشئها الإنسان في هذه الأوقات. فأما التي لها سبب من الصلوات، كصلاة الجنازة والخسوف والكسوف، وقضاء السنن والفرائض، والوظائف التي فاتته، وسجود الشكر والتلاوة، وتحية المسجد لا يكره فعلها في هذه الأوقات الخمسة، وتكره صلاة الاستخارة والاستسقاء لأن الدعاء في هذه الصلوات بعد الفراغ عنها فالسبب يتأخر. وفي تحية المسجد وجه آخر: أنه يكره في هذه الأوقات. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يصلي بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح، حتى تطلع إلا الفرائض، ولا يجوز أن يصلي في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها لعين الوقت، إلا العصر عند دنو الشمس بالغروب، ولا يجوز الصبح عند طلوع الشمس، لأن طلوع الشمس يبطل صلاته، إذا كان هو فيها، واحتج بالأخبار الذي رويناها.

وعندنا هي محمولة على الصلوات التي لا سبب لها، بدليل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره. وفي رواية يقول الله تعالى: وأقم الصلاة للذكرى. وروى أنه عليه السلام رأى قيس بن قهد يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال: ما هاتان الركعتان، فقال: ركعتا الفجر، ولم ينكر عليه. وروى أنه عليه السلام دخل بيت أم سلمة بعد صلاة العصر، وافتتح الصلاة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها لجارية لها، قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولي له: ألست نهيتنا عن الصلاة في هذا الوقت، فإن أشار

إليك، فاستأخري، فقالت الجارية ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليها، فاستخرت، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم دعاها، وقال: يا هنتاه ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما الوفد. فإن قيل: قد روى أن أم سلمة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أفنقضيهما نحن إذا فاتتنا، فقال: لا. قلنا: لأنه عليه السلام، كان مخصوصًا بوجوب القضاء عليه من بين أمته، وروى أنه عليه السلام ما دخل بيت أم سلمة في ذلك الوقت إلا وكان يصلي ركعتين وكان عليه السلام يواظب على طاعة فعلها مرة، وكانت المواظبة على فعل الخيرات في حقه أكبر استحبابًا منه في حق غيره. قال عليه السلام: أحب الأعمال إلى الله تعالى، أدومها وإن قل. وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا سئلت عن الصلاة في هذا الوقت تقول: سلوا أم سلمة، وعائشة إنما كانت تحيل عليها، لأن هذه القضية وقعت في دارها. واحتج الشافعي بفعل الناس صلاة الجنازة بعد العصر والصبح، وأراد بالناس أهل الحرمين، فلو عقد الصلاة التي نهى عنها في هذه الأوقات، ففي انعقادها مع الكراهة وجهان:

أحدهما: ألا ينعقد، لأنه منهي بعينه، إذن النهي وقع ليطلب ضده، وهو ترك الصلاة، كما لو صام يوم العيد. والثاني: ينعقد لأن هذه الأوقات قابلة للصلاة بخلاف يوم العيد، ونظير الوجهين، الوجهان فيما لو صام يوم الشك هل ينعقد صومه مع الكراهة؟ فوجهان: أحدهما: لا للنهي. والثاني: بلى لصلاح الوقت له، ولو نذر أن يصلي في هذه الأوثات، ففي انعقاد نذره وجهان، بناء على الوجهين فيما لو عقد صلاة في هذه الأوقات، لا سبب لها هل تنعقد أم لا؟ فيه وجهان كما بينا. فإن قلنا: ينعقد نذره للصلاة في هذه الأوقات، جاز فعلها فيها، وصار سببا لذلك النذر، فأباح عقدها في هذه الأوقات. وسئل عما لو صلى في هذه الأوقات صلاة لا سبب لها، وحكمنا بالانعقاد مع الكراهية، هل يصير ذلك سببا يبيح فعلها فيما بعد ذلك؟ فقال: لا، لأن الأولى معصية وفعل المعصية لا يجلب طاعة، ولو قضى وظيفة فاتته في هذه الأوقات، فغير مكروه كما بينا، وهل يصير سببًا حتى يجوز فعلها بعد ذلك؟ فيها وجهان: أحدهما: بلى، لأنه فعلها مرة من غير كراهة، ولما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما دخل لأم سلمة بعد العصر إلا وكان يصلي الركعتين اللتين صلاهما قضاء. والثاني: لا؛ لأن الأول كان بسبب وهو القضاء. والثانية: لا سبب لها ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بوجوب القضاء

عليه، وتأكد استحباب المواظبة على الطاعات دون غيره، ولو قصد أن يدخل مسجدًا ليصلي ركعتين تحية المسجد فوجهان: أحدهما لا يجوز لأنه قصد جلب المعصية والثاني: يجوز كما لو وقع دخول المسجد اتفاقا، ولأن دخول المسجد مباح، وسنة التحية تترتب عليه، فقد فعل المباح. فأما بـ (مكة) فقد استثناها النبي صلى الله عليه وسلم في خبر أبي ذر، فمنهم من قال: هذا الاستثناء راجع إلى ركعتي الطواف، فعلى هذا لا يظهر الاستثناء تخصيصًا لأنها من الصلاة التي لا سبب، والدليل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئًا، فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلي في أي ساعة شاء من ليل أو نهار. خص الطواف وصلاته بالذكر فدل أن ما عداها يستوي فيه الحل والحرم. ومنهم من قال: الاستثناء لفضيلة البقعة، لأن مكة، يأتيها الناس في كل فج عميق، وتلحقهم المشقة إن لو كلفوا المقام بها، ويتمنون إكثار فعل الصلاة فيها ابتغاء للمثوبة الوافرة، فجوز لهم فعل الصلاة في جميع الأوقات. وأما يوم الجمعة فقد استثناه في حديث أبي سعيد الخدري كما رويناه.

فمنهم من قال: الاستثناء لفضيلة الوقت، فعلى هذا يستوي جواز الصلاة فيها عند الاستواء، قبل الزوال في هذا الوقت من اراد حضور الجمعة، ومن لم يرد ومن كان في الجامع ومن كان في البيت. ومنهم من قال: الاستثناء خاص بمن كان في الجامع خص به دفعا له للتهجير فإن الغالب أنه يغلبه النعاس، ويشق عليه إعادة الوضوء، فجوز الاستغاال، بالصلاة فيه لدفع النوم، فخرج من هذا أن من كان في الجامع له أن يصلي يوم الجمعة في هذا الوقت، ومن كان في البيت فعلى وجهين: وروى أنه قال عليه السلام: قيلوا فإن الشياطين لا تقيل. قيل: معناه: قيلوا حتى لا يأخذكم النوم في الصلاة.

فصل قال المزني: هذا خلاف قوله فيمن نسي ركعتي الفجر حتى صلى الظهر والوتر حتى صلى الصبح: أنه لا يعيد. قد ذكرنا أن الصلوات التي لها سبب يجوز فعلها في الأوقات الخمسة، وقد ذكر الشافعي رحمه الله قضاء الوظائف والأوراد المتطوع بها إذا فاتته من الصلوات التي لها سبب، وذكر أنه يقضيها في الأوقات الخمسة، فتعلق به المزني فقال: هذا الذي ذكره من أنه يقضي الوظائف الفائتة ها ها خلاف ما قال في موضع آخر إذا فاتته ركعتا الفجر حتى صلى الصبح لا يعيدهما. وإذا فاتته ركعتا الوتر حتى صلى الصبح لا يعيدها، فاختلف أصحابنا في الجواب. فمنهم: من أنكر النص الذي ادعاه في موضع آخر على أنه لا يقضي ركعتي الفجر بعد الظهر، والوتر بعد الصبح، وقال: مذهب الشافعي رحمه الله قضاؤها أبدًا. ونسب المزني إلى الإخلال في النقل. ومنهم من سلم له النص الذي ادعاه، واعتذر بأن ركعتي الفجر يؤديان تبعًا للصبح، فلو أمرناه بالقضاء بعد الظهر يصير تبعًا لصلاة أخرى، والوتر يؤدي تبعًا للعشاء، فلو أمرناه بقضائها بعد الصبح لصيرناها تبعًا لصلاة أخرى بخلاف الوظائف، فإنها ليست باتباع لغيرها، فأمرنا بقضائها في كل حال، وبالجملة إذا حضرنا المذهب في قضاء السنن والرواتب أن نعلم أن للشافعي رحمه الله في قضاء السنن قولين: أظهرهما: وهو قوله الجديد يقضيهما كالفرائض.

والثاني: إلا لصلاة الخسوفين. وعند أبي حنيفة لا يقضي إلا ركعتي الفجر إذا فاتتا مع الفرض. فإن قلنا: يقضي، قال: متى يقضي؟ فأوجه: أظهرها أبدًا كالفرائض. والثاني: ما حكاه المزني أن ركعتي الفجر تقضيان ما لم يصل الظهر، والوتر ما لم يصل الصبح لما بينا من المعنى. والثالث: يقضي ركعتا الفجر ما لم يدخل الليل، لأنهما تبعا لصلاة النهار، فلا تجعل تبعا لصلاة الليل، والوتر ما لم يدهل النهار، لأنها تبع لصلاة الليل. ثم إن المزني قال بعد حكاية النص في أن ركعتي الفجر لا تقضي بعد الظهر، والوتر بعد الصبح في موضع آخر. وحكاية النص الظاهر ها هنا في الوظائف، والأوراد تقضي إذا فاتت، بكل حال، الذي قبل هذا أولى بقوله، وأشبه عندي بأصله. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: من ذكر صلاة وهو في أخرى أتمها ثم قضى. فاختلف أصحابنا في معنى قوله: الذي قبل هذا وما الأولى منهم من قال: إنما عني ما حكاه من أو الوظائف والأوراد إذا فاتت تقضي بكل حال. وقوله: ومن ذكر صلاة وهو في أخرى أتمها ثم قضى. مسألة: مبتدأة وهذا القائل يقرأ. قال الشافعي: من غير واو العطف، ومن ذكر صلاة. ومنهم من قال: عني بقوله الذي قال قبل هذه المسألة التي حكاها في

باب صفة الصلاة، وهي أن من ذكر صلاة، وهو في أخرى أتمها، ثم قضى، وإنما فرع إليه على هذا التأويل، لأنه عام في الفرائض والنوافل، وأطلق الشافعي رحمه الله الأمر بقضائها، ولم يفصل بين حال وحال، وهذا القائل يقرأ. وقال الشافعي: ومن ذكر صلاة بواو العطف، فعلى هذا قصد المزني تأكيدها، قاله بإعادة هذه المسألة، وقد بسطنا الكلام فيمن ذكر صلاة، وهو في أخرى ثم إن المزني حكي عن أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: التطوع وجهان: صلاة الجماعة، وصلاة انفراد، وذكر ما هو الأوكد من السنن والتطوعات، ونحن نؤخر شرحها إلى الباب الذي يليه، لأنه قصد به ذكر التطوعات وبيان أحكامها، والمقصود بهذا الباب بيان أوقات النهي عن الصلاة فيها، والصلوات التي يجوز فعلها، والتي لا يجوز، ثم رجع المزني إلى الاعتراض على النص الذي حكاه على سقوط إعادة ركعتي الفجر بعد فعل الظهر، وسقوط إعادة الوتر بعد الصبح، بعد أن ذكر عن أصحابنا عن الشافعي أنه يقضي النوافل والسنن الرواتب، إذا فاتت لقول النبي صلى الله عليه وسلم / من نسي صلاة. .. الخبر. فقال: كيف يجوز أن يقال: يقضي سائر السنن والنوافل المتطوع بها، ولا يقضي الوتر، ووكعتي الفجر التي هي أوكد السنن، مع أن الحديث في الأمر بقاء ما ذكره من الصلوات التي نسبها عام في الكل، وقد سبق الانفصال وثبت أنها تقضي كغيرها من النوافل. ثم قال: إن كنتم تعتبرون القرب، فقولوا لانقضاء ركعتي الفجر نصف

النهار، ويقضي الوتر بعد فعل الصبح، لأنه إنما فات لطلوع الفجر، وما بين الطلوع وفعل الصبح أقل مما بين ما بعد الصبح إلى نصف النهار. قلنا: نحن لسنا نعتبر القرب والبعد، وإنما نعتبر التبعية، والوتر يخرج عن تبعية العشاء بفعل الصبح، وإن قرب الوقت، وركعتا الفجر لا يخرجان عن تبعية الصبح بانتصاف النهار، قبل فعل الظهر، والله أعلم بالصواب.

باب صلاة التطوع وقيام رمضان

باب صلاة التطوع وقيام رمضان قال الشافعي: رحمه الله والفرض خمسة في اليوم والليلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو كما قال: وما عدا الفرض فليس بفرض ولا بواجب. وقال أبو حنيفة: رحمه الله: الوتر واجب، ولا يسمونه فريضة، الواجب عندهم أخف مرتبة من الفرض، وأعلى مرتبة من السنة. ودليلنا: حديث الأعرابي الذي سأله عليه السلام، عن شرائع الإسلام، قال الوتر حق مسنون فمن شاء أن يوتر بواحدة فليفعل، ومن شاء أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن شاء أن يوتر بخمس فليفعل. وروى أنه عليه السلام كان يوتر على البعير. قال المزني: قال أصحابنا: يقول الشافعي: التطوع وجهان: أحدهما صلاة جماعة مؤكدة لا أجيز تركها لمن قدر عليها، وهي صلاة العيدين، وكسوف الشمس والقمر، والاستسقاء وصلاة منفرد وصلاة بعضها أوكد من بعض فأوكد ذلك الوتر، ويشبه أن يكون صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر، ومن ترك

واحدة منها أسوأ حالا ممن ترك جميع النوافل: وقالوا: إن فاته الوتر، حتى تقام الصبح، لم يقص، وإن فاتته ركعتا الفجر، حتى تقام الظهر، لم يقض، ولا أرخص لمسلم في ترك واحدة منهما، وإن لم أوجبهما، قال: إن فاته الوتر، لم يقض، وإن فاتته ركعتا الفجر، [حتى تقام صلاة الظهر]، لم يقض، وقالوا فأما صلاة فريضة، أو جنازة، أو مأمور بها مؤكدة، وإن لم تكن فرضًا، أو كان يصليها فأغفلها، فليصل في الأوقات التي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدلالة عن رسول الله في قوله: من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها، وبانه عليه السلام رأي قيسا يصلي بعد الصبح، فقال ما هاتان الركعتان، فقال: ركعتا الفجر فلم ينكره، وبأنه صلى ركعتي بعد العصر فسألته عنهما أم سلمة، فقال هما ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما الوفد. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وأحب فضل الدوام. قال المزني: يقال لهم: فإذا سويتم في القضاء بين التطوع الذي ليس بأوكد وبين الفرض لدوام التطوع الذي ليس بأوكد، فلم أبيتم قضاء الوتر، الذي هو أوكد، ثم ركعتي الفجر اللتين تليان في التأكيد هما أوكد؟ أفتقضون الذي ليس بأوكد، ولا تقضون الذي هو أوكد؟ وهذا من القول غير مشكل، وبالله التوفيق، ومن احتجاجكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء التطوع، من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها، فقد خالفتم ما احتججتم به في هذا، فإن قالوا: فيكون القضاء على القرب، لا على البعد قيل له: لو كان كذلك، لكان ينبغي على معنى ما قلتم: ألا يقضي ركعتي الفجر نصف النهار، لبعد قضائهما من طلوع الفجر، وأنتم تقولون يقضي ما لم يصل الظهر، وهذا متباعد، وكان

ينبغي أن تقولوا: إن صلى الصبح عند الفجر، آن له أن يقضي الوتر، لأن وقتها إلى الفجر أقرب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثني، فإذا خشي أحدكم الصبح، فليوتر، فهذا قريب من الوقت، وأنتم لا تقولونه، وفي ذلك إبطال ما أعتللتم به. قال الشافعي رحمه الله تعالى الفرض خمس في اليوم والليلة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأعرابي حين قال: هل على غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال القاضي حسين: التطوع قسمان، فرائض، وغير الفرائض. فأما الفرائض: فقد مضى الكلام فيها. وأما غير الفراض على ثلاثة أقسام: السنة وهي التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم. والمستحب: وهي التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرة او مرتين والتطوع: وهي التي ينشئها الإنسان باختياره من الوظائف والأوراد. والشافعي رحمه الله يطلق اسم التطوع على ما عدا الفرائض، وجملة الصلوات عدا الفرائض قسمان: صلاة جماعة، وصلاة انفراد. فصلاة الجماعة خمس صلوات: صلاة العيدين، وخسوف الشمس والقمر، والاستسقاء، ولا خلاف في أن الصلوات الخمس التي تؤدي بالجماعة آكد من التي تؤدي مفردة. قال الشافعي رحمه الله: لا أجيز تركها لمن قدر عليها، ثم الصلوات الخمس مرتبة في الوكادة، فأوكدها صلاة العيدين، لأن لها وقتًا معلوما كالفرائض، ثم بعدها صلاة الخسوفين، لأن وقتها معرض ميق للفوات، ثم الاستسقاء، لأن وقتها ممكن في كل وقت.

وأما الصلاةُ التي تؤدي منفردًا مرتبة أيضًا في الوِكادة، فأوكدها الوتر وركعتا الفجر. قال الشافعي رحمه الله: ولا أرخص لمسلم في ترك واحدة مهما، وإن لم أوجبها، ومن ترك واحدة منها كان أسوأ حالا ممن ترك جميع النوافل. وفي الأوكد منهما قولان: المنصوص منهما، ها هنا أن الوتر أوكد، لأنه مختلف في وجوبه لقوله عليه السلام: من لم يوتر فليس منا. وقوله عليه السلام: إن الله زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الوتر فصلوها بين العشاء والفجر. والقول الثاني: ركعتا الفجر أوكد. روى أن النبي عليه وسلم، قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. روى أنه عليه السلام، ما تركهما في سفر ولا حضر.

وروي عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى شيء من النوافل منه إلى ركعتي الفجر، ولا إلى غنيمة ينتهرها، ونظير هذين القولين، القولان في أن غسل الجمعة مع الغسل من غسل الميت أيهما أوكد؟ وفيه قولان. ثم الأوكد بعد الوتر، وركعتي الفجر سائر السنن الرواتب، ثم بدعها صلاة الضحى. فاختلف أصحابنا في سنن الرواتب. فمنهم من قال: هي عشر ركعات، سواء الوتر ومع الوتر إحدى عشرة ركعة، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الصبح. وروى عن عائشة، رضي الله عنها أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب. ومنهم من قال: هي اثنتا عشرة ركعة، سواء الوتر، وثلاث عشر ركعة مع الوتر، أربع ركعات قبل الظهر، والباقي كما بينا.

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من ثابر على اثنتى عشرة ركعة في اليوم والليلة بني الله له بيتًا في الجنة. ثابر - أي: واظب عليها. قال القاضي رضي الله عنه: وكان القفال رضي الله عنه يقول: لا سنة للعشاء، والركعتان بعدها من جملة صلاة الليل. فأما أربع ركعات قبل العصر، فليس بسنة عندنا، بل هي مستحبة صلاها رسول الله صلى الله علي وسلم مرتين أو ثلاثة. وعند أبي حنيفة: هي سنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ضمن لي أربعًا قبل العصر أضمن له الجنة. أو لفظ هذا معناه، وسنة صلاة الجمعة عندنا مثل صلاة الظهر في سائر الأيام. وعند أبي حنيفة: السنة أن يصلي أربعا قبلها، وأربعًا بعدها. وقال الشافعي: رحمه الله في الوتر: وشبهه أن يكون ذلك صلاة التهجد، ولعله يشير إلى أنه عليه السلام، كان مأمورا بالتهجد، كما هو بين في نص التنزيل في قوله تعالى: ومن الليل فتهجد به. لأن الوتر كان واجبًا عليه. فإن قيل: كيف تعد التهجد كانت واجبة.

وقد قال الله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك. الجواب: نافلة لك، أي زيادة لك، أي صلاته كانت كاملة، ما كامنت تحتاج إلى الجبر. ليس المراد بهذا أن الوتر هي التهجد، لأن الوتر يؤتي بها قبل النوم، والتهجد يؤتى بها بعد النوم. يقال: هجد إذا نام، وتهجد إذا زال النوم لقوله تعالى: (ومن اللليل فتهجد به). لأن الوتر كان واجبًا عليه، وأراد بالتهجد صلاة الوتر. والتهجهد في اللغة: اسم لدفع النوم بالتكلف، والهجود، هو النوم. يقال: هجد إذا نام، وتهجد إذا ترك النوم كما يقال: خرج إذا أثم، وتخرج إذا تورع عن الآثام. وسميت صلاة الليل تهجدًا، لأنها تؤدي بعد الهجود، وهو النوم. قال المزني: وإن فاته الوتر حتى تقام الصبح لم يقض. قال القاضي حسين: وقد ذكرنا حكم هذه المسألة بتفاصيلها. وقد روى ها هنا عن ابن مسعود، أنه قال: الوتر ما بين العشاء والفجر وقد أخل في متن هذا الخبر، إنما هو الوتر ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر. وظاهر ما نقله يوهم أن الوتر لا يقضي بعد طلوع الفجر، وقد بينا أن الصحيح من المذهب أنها تضي قبل أن يصلي الصبح. قوله: وإن فاتت ركعتا الفجر حتى تقام الصلاة لم يقض.

قال القاضي حسين: لأن أبا هريرة قال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وقصد به الرد على أبي حنيفة؛ لأن عنده إذا علم أنه يدرك الإمام في الفرض اشتغل بالسنة. وأظهر منه: قالوا: ولو كان مسبوقًا ببعض الصلاة، وعلم أنه لو اشتغل بفعل السنة يدرك الإمام في الفرض يشتغل بفعلها. قوله: روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلاة مثني مثني، فإذا خشى أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى. قال وفيه دليلان: أحدهما: أن صلاة النفل مثنى مثنى. والثاني: أن الوتر غير واجب. وأورد صدر الحديث، ثم ادعى أن فيه دلالتين، وأن الثانية من الدلالتين، وهي أن الوتر غير واجب في آخر الحديث، ولم يروه. وصلاة الليل والنهار مثني مثني يصلي ركعتين ويسلم، فإن صلى ركعة واحدة، كره، وأجزأه. وإن زاد على ركعتين ترك الأفضل، ويجزئه سواء سلم عن ثلاث أو أربع أو خمس، غير أنا مستحب أنا زاد على ركعتين أن يسلم على الشفع دون الوتر. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصلي بالليل ركعتين ركعتين، وبالنهار أربعًا أربعًا.

واحتج بما روي أنه عليه السلام قال: صلاة الليل مثني مثني. دليلنا: أن النهار أحد الحدييدين، فالمستحب للمتنفل فيه أن يصلي ركعتين كالليل، ولأن في التسليم من الركعتين الأمن من وقوع الغلط والنسيان، وحيازة فضيلة التحريمة والتسليمة، وما رواه مقابل بما روى في رواية أخرى أنه قال: صلاة الليل والنهار مثني مثني. ثم هو استدلال بالسكت، إذ ليس فيه حكم صلاة بالنهار، ثم إذا شرع في صلاة النفل لا يخلو، إما أن يطلق النية أو يقدرها بعدد، فإن أطلقها سلم عن أي عدد شاء من الواحد والاثنين والثلاث والعشرة والعشرين، وأكثر وإن قيد بعدد لم تجز الزيادة ولا النقصان إلا بتعيين النية، فإن زاد أو نقص قيل: إن غير النية بطلت صلاته، مثل أن ينوي أربع ركعات، فيسلم عن ركعتين، وإن أحدث نية الاقتصار على الركعتين، ورفض الأخرى جاز، وحصلت له ركعتان، وإن كان على نية الأولى فسلم عن ركعتين بطلت صلاته، ولو نوي ركعتين، فقام إلى الثالثة، وأتمها أربعًا، إن أحدث نية زيادة الركعتين، فأكملها أربعًا جاز، وحصلت له أربع ركعات، وإن كان على نية الأولى بطلت صلاته ولو نوي أربع ركعات فسلم ساهيًا عن ركعتين ثم نوي الاقتصار إلى ركعتين احتاج إلى أن يسلم ثانيًا، لأن تسليمته الأولى غير محسوبة، ولو نوي ركعتين، فقام إلى الثالثة ساهيًا وصلاها، ثم ذكر ونوي ضم ركعتين اخريين إلى الأوليين لم تحسب له الثالثة؛ لأنه فعلها ناسيًا، فلم تقع عن الصلاتين،

ولو نوى أربع ركعات، وتشهد فيها مرة واحدة في الرابعة، يسن له أن يقرأ السورة في كل ركعة، لأن كل قومة شرعت فيها الفاتحة لا يتقدمها جلوس تشهد يسن فيها السورة. ولو نوي ست ركعات بتشهد واحد يقرأ السورة مع الفاتحة في الركعات كها لما بيناه، ولا يجوز أن يزيد على تشهدين، لأن النوافل معدلة بالفرائض، ولا فريضة يزيد التشهد فيها على اثنتين، ثم يتشهد في الرابعة والسادسة، لأن التشهد الأخير لا يجوز أن يسبقه أكثر من ركعتين، فلو تشهد في الركعة الثانية بطلت صلاته، لأن التشهد الأول يعقبه أربع ركعات، ولا نظير له في الفرائض النوافل معدلة بالفرائض، وإذا سها في صلاة النفل سجد للسهو، كما في الفرض، لأنها صلاة مشروعة شرع السجود في أصلها، فشرع سجود الجبر فيها، بخلاف صلاة الجنازة، فإنه إذا سها فيها لا يسجد للسهو، لأن صلاة الجنازة لم يشرع في أصلها السجود، فلم يشرع فيها سجود الجبر. قال المزني: فيصلي النافلة مثني قائمًا وقاعدًا .... قال القاضي حسين: صلاة الفل يجوز قاعدًا مع القدرة على القيام، لأن حكم النفل أخف من حكم الفرض، غير أنه إذا صلى قائمًا كان له من الثواب ضعف ما للقاعد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. وهل تجوز صلاة النفل مضطجعًا على الجنب مع القدرة على القعود والقيام فوجهان: أحدهما: لا يجوز لأن فيه ترك الأفعال كلها، وعماد الصلاة الفعل، فلا يجوز تركها مع القدرة.

والثاني: يجوز؛ لأن كل هيئة جاز الفرض عليها للعجز عما هو أكمل منها، جاز النفل عليها مع القدرة على الأكمل كالقعود. قال: ولو نذر أن يصلي النفل قائمًا. قال القاضي حسين: قال أصحابنا، لا ينعقد نذره، لأن جواز القعود في النفل رخصة، ولا يحل التزام ترك الرخصة، لأن الترخص بالرخصة من جملة القرب. قال عليه السلام: إن الله يحب أن تؤتي رخصة، كما يحب أن تؤتي عزائمه. وقال في القصر: إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وهذا كما لو ذر الصوم في السفر لا ينعقد، لأن الفطر رخصة. قال القاضي رحمه الله: والذي عندي أن ينعقد هذا النذر، لأن القيام في النفل زيادة طاعة، وإن رخص في تركه مع القدرة، كما لو نذر أن يقرأ سورة البقرة في صلاة الفرض ينعقد نذره، لما في إطالة القراءة من القرية، وإن رخص في التخفيف، ولو نذر أن يصلي قاعدًا، فصلي قائمًا يخرج عن موجب النذر، لأنه أتى بالمنذور وزيادة. ولو نذر أن يصلي مطلقًا، هل يخرج من موجب نذره بركعة واحدة، فقولان بناء على أن مطلق النذر يحمل على أقل إيجاب الله تعالى أو على أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذلك الجنس وفيه قولان:

إن قلنا بالأول لم يخرج عن موجب نذره بأقل من ركعتين، ولا يجوز له ترك القيام مع القدرة عليه. وإن قلنا: بالمعنى الثاني خرج مه بركعة واحدة، وجاز له ترك القيام مع القدرة عليه، وهذا بناء على أن هذا الأصل إذا نذر أن يعتق رقبة، هل يخرج عنه بمعيبه؟ فعلى قولين: وإذا نذر أن يهدي هديًا، هل يخرج منه بأقل من شاة؟ فعلى قولين: أحدهما: لا. والثاني: حتى ببيضة أو بدرهم. ولو نذر أن يصلي وقت الضحوة، ولم يعين يومًا، فعليه أن يصلي في ضحوة يوم من الأيام، ولا يتعين يوم دون يوم، ولا يصلي بعد ذهاب ما يسمى ضحوة من النهار، فضحوات الأيام كلها في حقه بمنزلة آخر الوقت في صلاة الوقت، ولو عين يومًا. فأداؤه أن يؤديه في ضحوة ذلك اليوم، فلو فات صار قضاء في الذمة يقضيه في أي وقت شاء.

فصل السنة لمن دخل مسجدًا ألا يخرج على شيء حتى يصلي ركعتين، ولا يقعد قبل فعلهما. قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين. فلو صلى سنة راتبة أو فريضة تأدت بها تحية المسجد؛ لأن المقصود ألا يخرج على شيء بعد دخول المسجد إلا على الصلاة، وهذا نظير ما لو اغتسل للجناية يوم الجمعة يتأدى به غسل سنة الجمعة، فلو سجد للشكر والتلاوة، أو صلى على الجنازة، هل يتأدي به تحية المسجد في صلاة الجنازة يحتمل وجهين: أحدهما: بلى؛ لأنه من جنس الصلاة أو بعض منها. والثاني: لا؛ لأنه ليس بصلاة، بل هو ركن من اركانها كقراءة القرآن، وإذا صلى ركعة واحدة، قال القاضي رحمه الهل، ترتب هذه على صلاة الجنازة إن قلنا: تتأدى به تحية المسجد، فالركعة أولى، وإلا تخرج على الوجهين: أحدهما: لا تتأدي لأن ظاهر الحديث يقتضي فعل ركعتين.

والثاني: تتأدى، لأنها صلاة مشروعة، ويمكن بناؤها على ما لو نذر أن يصلي مطلقًا، هل يخرج بها عن موجب نذره؟ فعلى قولين: ووجه الشبه أنه بدخول المسجد التزم سنة التحية، كما بالنذر التزم فعل المنذور، وإذا سجد للشكر أو للتلاوة، يترتب على صلاة الجنازة إن قلنا: لا تتأدى بها تحية المسجد، فها هنا أولى، وإلا فعلى وجهين. والفرق أن ذاك يسمى صلاة في الشرع، بخلاف سجدة الشكر والتلاوة. وإذا دخل المسجد، وجلس قال رضي الله عنه، لا تقول يقي تحية المسجد، لأنه كان يفعلها بسبب، وهو احترام المسجد، وقد فات السبب، ووجد التضييع كما نقول في صلاة الخسوف والكسوف، لا تقضي بعد فوات السبب باخلا بها، والله أعلم بالصواب. قال القاضي حسين: إن أراد به صلاة شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إن عبر بالقيام عن الصلاة، وقد يعبر به عها. قال الله تعالى: قم الليل إلا قليلا. وقوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدني أي: تصلي. وقال عليه السلام: من صام رمضان وقامه إيمانًا .... الخبر والأصل في التراويح إجماعًا الصحابة رضي الله عنهم، في زمن عمر

ابن الخطاب رضي الله عنه - ولم تكن صلاة التراويح معهودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حظيرة من الحظائر يصلي فيها، وكان يبدو ورأسه منها، فدخل فيها أول ليلة من رمضان وصلى واقتدى به جماعة، ولم ينقل أنه كم صلى؟ فلما كان من الغد تحدث الناس بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع خلق كثير في الليلة الثانية، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحظيرة، واقتدوا به، فلما كان في الليلة الثالثة اجتمع خلق كثير وازدحموا بحيث ضاق المسجد، وعجز عنهم، فلم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد خرج لصلاة الصبح فقال: لم يخف على صنيعكم البارحة، لكني خشيت أن يفرض عليكم، ولو فرض عليكم لم تطيقوه، عليكم من الأعمال بما تطيقونه، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا. قيل: معناه لا يأخذ الملال، لأنه وصفه بالملال محال، لكنكم تملون فعليكم من الطاعات بما لا يأخذكم الملال فيها، لأنكم إذا أكثرتم من فعل الطاعة فتملون فيمنعكم ذلك من الخشوع والخضوع، كقول القائل لصديق إذا دخل عليه زائرا، أنا لا أمل من زيارتك حتى تمل، أي: لا تكثر من الزيارة، فإنك ربما تمل إذتا أكثرت منها. ثم لم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية عمره، ولا صلاها أبو بكر فيزمن خلافته، وكذلك عمر في صدر خلافته، ثم خرج في ليلة من رمضان فرأى الناس فرقًا في المسجد، فمن واحد يصلي، ومن اثنين يصليان، ومن ثلاثة يصلون، فقال رضي الله عنه: لو جمعتم على إمام واحد فيجمعهم على إمام واحد، ووظف علهيم عشرين ركعة، وأمم عليهم أبي بن كعب، وأجمع

الصحابة على ذلك، وكانت الصحابة إذ ذاك متوافرين، ولم يوجد من جهة واحد منهم نكير. وروى عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه أنه قال: نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا. واختلف أصحابنا في معنى قول الشافعي رضي الله عنه: والمنفرد أحب إلى منه، فمنهم من قال: صلاة الوتر وركعتي الفجر، وإن كانت تؤديان منفردتين أحب إلي من صلاة التراويح، وإن كانت تؤدي جماعة، لكثرة الأخبار الواردة في تأكيدهما. ومنهم من قال: أراد به أن صلاة التراويح مفردًا في البيت أحب إلي منها جماعة في المسجد، وقد قال الشافعي رحمه الله، في موضع آخر، إن كان يحسن القرآن، ولا يخاف الكسل، فأحب أن يصلي منفردًا في البيت. قال أصحابنا: وشرط ثالث، وهو الا تختل الجماعة بتخلفه عنها، فحصل من هذا أنه إذا فقد إحدى الشرائط الثلاث، والمستحب أن يصلي بالجماعة، وإذا اجتمعت الشرائط الثلاث فوجهان: أحدهما: المستحب أن يصليها بالجماعة، وهو اختياره رضي الله عنه، لإجماع الصحابة على فعلها بالجماعة. والثاني: فعلها مفردًا أولى من فعلها بالجماعة. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فضل صلاة النفل في البيت على فعلها في المسجد كفضل صلاة الفريضة في المسجد على فعلها في البيت.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا، وأفضل من هذا كله ركعتان يصليهما المرء في جوف بته لا يطلع عليهما إلا الله عزوجل. قال الشافعي: رحمه الله: رأيتهم بـ المدينة يقومون بتسع وثلاثين. قال القاضي حسين، أهل المدينة يصلون التراويح بتسع وثلاثين إلا أنه كانت الوظيفة عليهم ذلك، فإن الوظيفة عليهم عشرون كما على غيرهم، غير أن أهل المدينة مع أهل مكة كانوا يتنافسون في الخيرات بفضل الطاعات، وأهل مكة كانوا يطوفون بعد سنة العشاء وبعد كل ترويحتين من العشرين، فكان يحصل لهم أربعة أسباع من الطواف مع كل سبع ركعتيه. قال: أهل المدينة هم أهل حرم الله، ونحن أهل حرم رسول الله ولهم بيت يطوفون حوله، وليس لنا ذلك، فاتفقوا على زيادة ستة عشر ركعة ثمان ركعات بدلا عن أربعة أسباع الطواف، عن كل سبع ركعتين، وثماني ركعات لصلاتهم تبعًا للطواف، لكل سبع ركعتان.

وكانوا يوترون بثلاث لا أنهم كانوا يعتقدون الوتر، ثلاثًا، لكن كان بـ (المدينة) أهل المذاهب المختلفة، فاصطلحوا على الثلاث، لأن من رأي الوتر بالواحدة رآه بالثلاث، ومن رآه بالثلاث منع الواحدة. قوله: ولا يقنت إلا في رمضان في النصف إلى الآخر. قال القاضي حسين: وهو كما قال، واحتج فيه بأثر عمر ومعاذ، وهو مسند له إلى قادة قبيلة له من العرب. وقال أبو حنيفة: يقنت في الوتر في جميع السنة، وكان القفال يقول: وددت أن أجد قولا للسلف في القنوت في الوتر في جميع السنة، لكني تفحصت عنه، فما وجدت أحدًا قال به. قال القاضي رحمه الله: وقد اشتريت كتاب ابن المنذر في اختلاف العلماء لهذه المسألة خاصةن فتفحصت عنها فلم أجد أحدًا قال به إلا ملكا، فإنه قال بالصوت في الوتر في جميع شهر رمضان دون غيره من الشهور، والأصل فيه قصة عمر رضي الله عنه، وهو المقتدى في الباب وفيها أن أبي بن كعب كان يقنت ليلة السادس عشر من رمضان، وليلة الحادي والعشرين ينقل الوتر إلى البيت التماسًا لليلة القدر، فكانوا يقولون: أبق أبى، وقيل: هو تصحيف إنما كانوا يقولون: ابن أبي، ويستحب في قنوت الوتر سورة الحمد: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك، ونتوكل عليك الخير، نشكرك ولا نكفرك، نخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعي ونحمد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق. وقال أبو حنيفة رحمه الله يقنت في الوتر في جميع السنة.

والدليل ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا في الصلوات الخمس، ثم ترك القنوت إلا في صلاة الصبح. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله والتطوع وجهان: أحدهما: صلاة جماعة مؤكدة، فلا أجيز تركها لمن قدر عليها، وهي صلاة العيدين، وكسوف الشمس والقمر، والاستسقاء، وصلاة منفرد وبعضها أوكد من بعض، فأوكد ذلك الوتر، ويشبه أن يكون صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر، ولا أرخص لمسلم في ترك واحدة منهما، ولا أوجبهما، ومن ترك واحدة منهما أسوأ حالا ممن ترك جميع النوافل. قال: وإن فاته الوتر حتى يصلي الصبح لم يقض قال ابن مسعود: الوتر فيما بين العشاء والفجر [قال] فإن فاتته ركعتا الفجر، حتى تقام الظهر، لم يقض لأن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة، وروى عن ابن عمر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى، وفي ذلك دلالتان: أحدهما: أن النوافل مثنى مثنى بسلام مقطوعة، والمكتوبة موصولة، والأخرى أن الوتر واحدة فيصلي النافلة مثنى مثنى قائمًا وقاعدًا، إذا كان مقيمًا، وإن كان مسافرًا، فحيث توجهت به دابته، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الوتر على راحلته أينما توجهت به، قال: فأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إلي منه، ورأيتهم بالمدينة يقومو بتسع وثلاثين وأحب إلى عشرون لأنه روى عن عمر، وكذلك يقومون بمكة ويوترون بثلاث. قال: ولا يقنت في رمضان إلى في النصف الأخير، وكذلك كان يفعل ابن عمر، ومعاذ القاريء، قال: وآخر الليل أحب إلي من أوله، فإن جزأ الليل أثلاثًا فالأوسط أحب إلي أن يقومه

قال المزني: قلت أنا في كتاب اختلاف مالك، قلت الشافعي، أيجوز أن يوتر بواحدة، ليس قبلها شيء قال: نعم والذي أختاره ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدي عشر ركعة يوتر بواحدة، والحجة في الوتر بواحدة، السنة والأثار. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشى أحدكم الصبح، صلى ركعة توتر له، ما قد صلى، وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، [وأن ابن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين، من الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته] وأن عثمان كان يحيى الليل بركعة، وهي وتره، وعن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يوتر بواحدة، وأن معاوية أوتر بواحدة، فقال ابن عباس: أصاب. قال المزني: قلت أنا: فهذا به أولى من قوله، يوتر بثلاث، وقد أنكر على مالك قوله: لا يحب أن يوتر بأقل من ثلاث، ويسلم بين الركعة، والركعتين من الوتر، واحتج بأن من سلم من اثنتين، فقد فصلهما مما بعدهما، وأنكر على الكوفي: يوتر بثلاث ـ، كالمغرب قال المزني: قلت أنا، فالوتر بواحدة أولى به. قال المزني: ولا أعلم الشافعي ذكر موضع القنوت من الوتر، ويشبه قوله بعد الركوع، كما قال في قنوت الصبح، ولما كان من رفع رأسه بعد الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، وهو دعاء كان هذا الموضع بالقنوت الذي هو دعاء أشبه، ولأن من قال: يقنت قبل الركوع، يأمره أن يكبر قائما، ثم يدعو، وإنما حكم من كبر بعد القيام إنما هو للركوع فهذه تكبيرة زائدة في الصلاة لم تثبت بأصل، ولا قياس.

قال القاضي حسين: إذا أراد أن يصلي بالليل، فالأفضل أن يصلي في آخر الليل حد السحر، قال الله تعالى: والمستغفرين بالأسحار. فمدحهم عليه. وقوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون). وقال تعالى: نجيناهم بسحر. وروى ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الليل أخوف؟ وفي رواية: أجوب؟ وفي رواية أسمع؟ وفي رواية: ارجي؟ فقال: جوف الليل البهيم. وروى أنه عليه السلام سئل: عن جوف الللي، فقال: تلك الساعة الأوابين. فإن أجزاء الليل ثلاثة أجزاء، فالمستحب أن يقوم أوسطها لما روينا، ولما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجزيء الليل ثلاثة أجزاء: فكان ينام في النصف الأول، ويقوم في الثلث وينام وينام في السدس الباقي، فكان يستريح في الطرفين.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يراه قائمًا رآه قائمًا، وأن من أراد أن يراه نائمًا يراه نائمًا، ومن أراد أن يراه صائمًا رأه صائمًا، ومن أراد أن يراه مفعطرًا يراه مفطرًا، وعنها أيضا قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يقال: إنه لا ينام، وينام حتى يقال: إنه لا يقوم، ويصوم حتى يقال، إنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال: إنه لا يصوم. وروى أنه عليه السلام قال: أما إني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأنكح، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ورورى أنه عليه السلام دخل عبد الله بن عمرو بن العاص ليزوره، فلم يصادفه في البيت فرأى امرأته في ثياب المهنة والبذلة، فقال لها النبي عليه السلام، ألا تتزيتي، فإن لك زوجًا. فقالت له: إن أخاك عبد الله لا حاجة له في النساء، إنه يقوم ولا ينام، ويصوم ولا يفطر، فبنيا هو فيه إذ دخل عبد الله بن عمرو، وألقى الوسادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجلس عليها، وجلعها بنه وبينه، وقال ألم أخبرك بصنيعك يا عبد الله؟ تقوم ولا تنام وتصوم ولا تفطر، لا تفعل كذلك، فإنك إن فعلته غارت عيناك ونقمت نفسك، قم ونم وصم وأفطر، فإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، فأد كل ذي حق حقه، فقال: كمع أصوم في الشهر يا رسول الله؟ فقال: ثلاثة أيام، فقال: إني أقوم من ذلك يا رسول الله، فقال عليه السلام:

عشرة أيام، فقال: إني أقوم من ذلك، فلم يزل يستزيد ويزيد له إلى أن قال له عليه السلام: صوم يومًا وأفطر يومًا، ولا أفضل من ذلك، فإنه صوم أخي داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يضر إذا لاقى يعني العدو، فقال: كم أختم القرآن في الشهر يا رسول الله؟ فقال: مرة واحدة، فقال: إني أقوم من ذلك، فقال: في كل أسبوع مرة، فقال: إني أقوم من ذلك، فقال: في كل ثلاث مرة، ولا أفضل من ذلك. وإنما قاله، لأن التنزيل مأمور به في نص التنزيل، ولا يمكنه ذلك في أقل من ثلاث، ثم روى أن عبد الله بن عمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر فكل بصره، وكان يقول: ليتني قبلت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أخبرنا حر السحر وجوف الليل أواخرها، لأنه وقت غفلة الناس، والطاعة في وقت الغفلة أكثر استحبابًا وأرجى ثوابًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل السوق فقال: لا إله لا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب له بكل فصيح وأعجم، أي: أجر بعدد كل صامت وناطق، وإنما ذاك؛ لأن الناس في الأسواق ظاهر حالهم الاشتغال بالمعاملات في أمور الدنيا، والمستحب إخفاء الطاعات بكل حال، قال الله تعالى: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم.

وقال عليه السلام: سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ... قال المزني: قلت للشافعي رحمه الله: فيجوز أن يوتر بواحدة، وليس قبلها شيء؟ قال: نعم الفصل في الوتر. وردت أخبار منها: ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرهن، وبخمس لا يجلس إلا في آخرهن، وبسبع لا يجلس إلا في آخرهن. وعنها أيضا: أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس لا يجلس إلا في الرابعة والخامسة، وكان يوتر بسبع لا يجلس إلا في السادسة والسابعة، وكان يوتر بتسع لا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بركعة.

وأقصى ما ورد في الوتر ثلاث عشرة ركعة. واختلف العلماء في عدد الوتر وكيفيته، فمذهب أبي حنيفة أنه ثلاث بتشهدين وتسليمة واحدة، كالمغرب غير أن الوتر مخصوص بالقنوت. ومذهب مالك: أنه ثلاث بتشهدين، وتسليمتين، غير أنه لو تكلم بعدما سلم عن الركعتين بطلت صلاته. واختلف أصحابنا فيه، فالأكثرون منهم على أن الوتر بالواحدة أفضل، لأنه اجتمع فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فالفعل ما رويناه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة. والقول ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشى أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما صلى. ومن أصحابنا من قال: الثلاث أفضل، وهو اختيار الشيخ أبي زيد، وعلى هذا أهل مسجده إلى الان، وهذا القائل يحتج بفعل أهل المدينة، فإنهم كانوا يوترون بثلاث كما روينا، ولأن من جوز الوتر بالواحدة جوز بالثلاث، ومن جوز بالثلاث لم يجوز بالواحدة، فالاحتياط بالثلاث، هذا كما قال الشافعي رحمه الله عليه، في القصر: أما أنا فلا أقصر فيما دون ثلاثة أيام احتياطًا على نفسي، فاحتياط في ألا يقصر أقل من الثلاث، وهو يجوز عنده في مرحلتين، إلا أن الأفضل هو الإتيان بأحد المعنيين:

أحدهما: ما ذكرنا أنه اجتمع فيه قول الشافعي: النبي عليه السلام وفعله. والثاني: الأخذ بالاحتياط، ولي على أصل الشافعي، رحمه الله إذا لم يكن ارتكاب محظور أو مكروه، وإذا أراد الإتيان، بثلاث يحتاج إلى ترك التشهد في الركعة الأولى وعلى هذا لو اقتصد أو احتجم، يستحب له تجديد الوضوء إذا كان قد صلى الفريضة أو النافلة بذلك الوضوء. فأما إذا لم يؤد صلاة ما، فلا يستحب له الوضوء احتياطًا، وخروجًا من الخلاف؛ لأنه يؤدي إلى الزيادة على الثلاث، وقد نهي عنه. وحكي عن ابن سريج رحمه الله أنه كان إذا اقتصد مس ذكره، ثم توضأ. قال القاضي رحمه الله وكان القفال، رحمه الله، يقول أنا لا أقول: الواحدة أفضل من الثلاث، لأن الركعة الواحدة يبعد أن تفضل على الثلاث، لكني أقول: الأقل أن يصلي ثلاثا بتشهدين وبتسليمتين، فتكون الأوليان نفلا والثالثة وترًا، وهذا أولى من أن يصليهما بتشهد واحد، وبتسليمة واحدة، لأنه يجوز أن صلاها فضيلة زيادة تحريمة وتسليمة. ومن أصحابنا من ذهب إلى أن الوتر ثلاث نقول: يصليهما بتشهد واحد، خلاف ما قاله ابو حنيفة. وكان القفال رحمه الله، يقول: لو تعمد في الثانية إن كان متعمدًا بطلت صلاته، وإن كان ساهيًا فعليه سجود السهو، لقوله عليه السلام: لا توتروا بثلاث فتشبهوه بالمغرب. قال الشافعي: رحمه الله الحجة في أن الوتر واحدة الأخبار والأثار، فمنها ما روى فيها من الأخبار ما رويناه عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشر ركعة، يوتر منها بواحدة.

وما روى ابن عمر عن أنه عليه السلام قال: «صلاة الليل مثنى مثنى ...» وروي أن ابن عمر سئل عن الوتر؟ فقال: «إنها واحدة». فقيل له: إنهم يقولون: إنها البتيراء، فقال: إن كنت تسألني عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا سنته. وروي أن عثمان كان يحيي الليل بركعة هي وتره. ورُوي أن امرأته قالت يوم الدار: قتلتموه أو لم تقتلوه، فإنه كان يصلي الصبح بوضوء العشاء منذ عشرين سنة. وعن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحَبَّ أن يوتر بواحدة فليوتر بواحدة، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليوتر بثلاث، ومن أحب أن يوتر بخمس فليوتر بخمس». وفيه عنه عليه السلام، أنه قال: «الوتر ركعة من آخر الليل».

ومن الآثار عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يوتر بواحدةٍ. وعن ابن عمر أنه كان يسلِّم بين الركعتين، والثالثة في الوتر حتى كان يأمر ببعض حاجاته. روي أن ابن عباس بلغه أن معاوية أوتر بواحدة، فقال: «أصاب إنه الفقيه». قال رضي الله عنه: كان الشيخ أبو زيد يدرس في هذه المسألة بـ (مكة)، فروى هذا الأثر، فهموا بإخراجه، وكان مدرسًا بها ثلاث عشرة سنة، وهم يرون أنه عليه السلام نهى عن البتيراء. قلنا: إن البتيراء غير معلوم المعنى، ففسروه لنا نتكلم عليه على أنه موقوف على ابن مسعود. وروي أنه عليه السلام، قال: «ما أجزأت ركعة قط» والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود، وإنما قصد بها للرد على ابن عباس، حيث رَدَّ الصلاة إلى ركعة بالخوف والسفر، ثم إن المزني لما روى هذه الأحاديث والآثار قال: وهذا أولى. وقوله: «يوترون بثلاث». أشار إلى أن للشافعي قولا آخر في المسألة: أن الوتر ثلاث ركعات، إما كمذهب مالك، أو كمذهب أبي حنيفة، ثم ذكر المزني رحمه الله موقع القنوت في الوتر، وقال: لا أعلم الشافعي ذكره، وسنته أن يكون بعد الركوع وهو كما قال. وقد حكينا عن أبي حنيفة انه قال: قبل الركوع، وما قلنا أولى لما أشار إليه

قال المزني: لأنه إذا قنت قبل الركوع لاحتاج إلى زيادة تكبير في الصلاة لم تثبت بخبرٍ ولا بقياس ولأن ما بعد الركوع محل الدعاء، لأنه شرع فيه. قوله: سمع الله لمن حمده، وغيره، من الأدعية والقنوت دعاءٌ، وما بل الركوع دعاءـ، وما قبل الركوع محل القراءة، والإتيان بالذكر في محله أولى منه في غير محله.

فصل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول ما يحاسب الله تعالى العبد على الفرائض فإن كملت فما بعدها أكمل، وإن نقصت يقول الله عز وجل، انظروا هل تجدون لعبدي من نافلة؟ فإن وجدوا أكملوا بها الفرائض، وإلا فيؤمر به إلى النار. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تصلي بالليل يا أبا بكر، فال: أصلي العشاء، ثم أصلى ركعتي العشاء، ثم أصلى ما شاء الله أن أصلي، ثم أوتر فقال لعمر: كيف تصلي بالليل يا عمر؟ فقال: أصلي ركعتي العشاء، ثم أصلي ما شاء الله أن أصلي، ثم أنام، ثم اقوم، ثم أصلي ما شاء الله أن أصلي، ثم أوتر، فال: أما أنت يا أبا بكر أخذت بالاحتياط والحزم، وأما آنت يا عمر أخذت بالقوة والعزم. وعندنا المختار ما فعله الصديق، رضي الله عنه لأنه أبعدُ من الآفة والمخاطرة وأحوط لأمر العبادة. وروى عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: أوصاني خليلى صلى الله عليه وسلم بسبع لا أدعهن ومن ذلك لا أنام قبل الوتر.

مسألة

وروي أن ابن عمر كان يوتر قبل النوم، وإذا قام للصلاة من نومه كان يوتر، ثم يصلي ما شاء الله أن يصلي، ثم يوتر، والوتر الأول العلماء نفض الوتر، والشافعي، رحمه الله لم يذكره والمستحب أن يفعل هكذا. فرع رجل يصلي صلاة الفرض، وابتدأ بسورة البقرة، وقصد أن يتمها، فعرض له عارض، فعجز عن القيام. قال رضي الله عنه: جاز له القعود ويتم القراءة، ولا يقول مهما عجز عن القيام فعليه أن يركع، وهذا كما لو أصبح صائمًا ثم سافر، فأنهكه الجوع يباح له الفطر ولا يقال لو لم يسافر كأن لا تلحقه المشقة، ولا يشتد به العطش. فلا يباح له الفطر. مسألة العاجز عن القيام إذا امكنه القيام بالعكازة، وأن يعتمد على شيء لا يلزمه ذلك. إذا صلى صلاة الجنازة، ثم أنه كان محدثًا، أو على ثوبه نجاسة لا يجب عليه القضاء، فإن صلى كانت صلاة مبتدأة. فرع المتطهر بالماء حمل مستنجيًا في الصلاة، لم تصح صلاته، لأن محل الاستنجاء نجس، إلا أنه معفو عنه، بدليل أنه لو عرق، واستنقع في ماء قليل تجس ذلك الماء، إلا أنه عفي عنه في حقه رخصة له، فلا تتعداه تلك الرخصة، وكذا من حمل في الصلاة من على ثوبه دم البراغيث لم تصح

صلاته، ولو لبس ثوبًا زائدًا على عام لبوس بدنه، وعليه دم البراغيث لم تصح صلاته، لأنه غير مضطر إليه، ولو اقتدى بمستنج تصح صلاته كالمتوضي إذا اقتدى بمتيمم، لأن شرط الاقتداء أن يصلي صلتاه بمن له صلاة صحيحة، والله أعلم بالصواب.

باب فضل الجماعة والعذر بتركها

باب فضل الجماعة والعذر بتركها قال المزني: قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. قال الشافعي ولا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر، وإن جمع في بيته أو في مسجد، وإن صغر أجزأ عنه، والمسجد الأعظم، وحيث كثرت الجماعات أحب إلي وروى ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة، والليلة ذات الريح: أن يقول: ألا صلوا في رحالكم، وأنه صلى الله عليه وسلم قالأ: إذا وجد أحدكم الغائط، فليبدأ به قبل الصلاة. قال فيه: أقول: لأن الغائط يشغله عن الخشوع. قال: فإذا حضر فطره أو طعام فطره، وبه إليه حاجة، وكانت نفسه شديدة التوقان إليه، أرخصت له في ترك إتيان الجماعة. قال المزني: قلت أنا: وقد احتج في موضع آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا وضع العشاء فأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء. قال المزني: فتأوله على المعنى، لئلا يشغله منازعة نفسه عما يلزمه من فرض الصلاة. قال القاضي حسين: الصلاة قسمان: صلاة لا تتأدى إلا بالجماعة وهي الجمعة، فتجب لها الجماعة على كل حال إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله

وصلاة تتأدى بغير الجماعة وهي ما عدا من الجمعة من الصلاة، فهل تفرض لها الجماعة اختلفوا فيه، فخرج أبو سليمان الخطابي قولا للشافعي، رحمه الله أنها تفترض فرض العين من كلام له في الكبير، وذلك أنه تلا آيتين: إحداهما: قوله تعالى: وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا. وقوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوًا ... ثم قال: يحتمل أن الله تعالى قصد به الرد على المنافقين، وزجرهم عما هم عليه، ويحتمل أنه قصد به التحذير لمن ترك الجماعة، والصحيح وجهان آخران: أحدهما: هي سنة مؤكدة، إذ ليس فيها إلا اكتساب الفضيلة. والثاني: فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولو قعد عنه أهل بلد أو قرية يقاتلون. وقال أحمد وإسحاق وابن خزيمة: الجماعة فرض عين على كل أحد يعصي بتركها إلا إذا كان معذورًا. لنا قوله عليه السلام: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فدل على أن الجماعة أثرها في الفضيلة لا غير. وروى أنه قال عليه السلام: صلاتك مع الواحد أزكي من صلاتك وحدك،

وصلاتك مع الاثنين أزكي من صلاتك مع الواحد، وكلما كثرت الجماعة كان أفضل عند الله تعالى. وروى عن عتبان بن مالك أنه قال: يا رسول الله إني رجل ضرير ولي دار واسعة، فأحضر داري فصل في موضع اتخذه مصلى، فحضر داره، وصلى في موضع فاتخذه مصلى، وأيضا أمر مناديه حتى نادى في الليلة المطيرة: ألا صلوا في رحالكم. وقال أيضا: إذا ابتلت النعال، فالصلاة في الرحال.

واحتجوا بقوله عليه السلام: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. وهذا محمول على نفي الفضيلة. قال روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد هممت أن آمر فتيانا من قريش ليجمعوا حزمًا من الحطب، فاتخلف معهم على من تخلف عن الجماعة فأحرق عليه بيته، ولو علموا أنهم لو شهدوها لوجدوا عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لأتوهما ولو حبوا، وأراد بالمرماتين مائتين، قيل: سهمين، وقيل: عظيمين عليهما قليل لحم. وروى أنه قال عليه السلام: ما من اثنين ولا ثلاثة في قرية ولا بادية لا يصلون بالجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان، عليكم بالجماعة، فإن الذئب يأكل الشاة القاصية الفاذة.

وروي عن عبد الله بن أم مكتون أنه قال: يا رسول الله إني رجل ضرير، وإن لي على الطريق نخيلا، وليس لي قائد يلائمني، فهل ترى لي رخصة في ترك الجماعة، فقال عليه السلام، هل تسمع النداء؟ فقال/ نعم، فقال: لا. والأخبار كلها محمولة على الاستحباب، والتحريض على الجماعات، بدليل ما رويناه من الأخبار، هذا كله لمن لم يكن له عذر، فإن كان له عذر جاز أن يترك الجماعة، مثل أن يكون في الطريق وحل شديد، وكانت السماء تمطر أو كان البرد مفرطاـ أو الرياح تهب شديدًا أو كان يخاف على نفسه أو على ماله، ولا يجد من يحفظ أمتعته في بيته. قال صلى الله عليه وسلم: إذا ابتلت النعال فالصلاة في النعال، اختلفوا فيه، منهم من قال: هي جمع النعل، وهي وجه الأرض. وروى أنه عليه السلام كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة، والليلة ذات الريح: ألا صلوا في رحالكم. قيل: كان المؤذن يقولونها بعد الحيعلتين في محل التثويب. وقيل: كان يقولها بعد الفراغ من الأذان، وكذلك إذا كان مدافعًا لأحد الأخبثين، فإن كان حازقا، وهو الذي أخذه الغائط، أو حاقنًا، وهو الذي أخذه الريح جاز له ترك الجماعة. والمستحب لمن أخذه ما يشغله عن الخشوع والخضوع والصلاة أن يبدأ به إذا كان في الوقت سعة لما روى أنه عليه السلام قال: إذا وجد أحد الغائط فليبدأ به قبل الصلاة.

وروي أنه قال عليه السلام: لا يصلين أحدكم وهو يدافع أحد مخبثيه. وروى أنه عليه السلام قال: لا يصلين أحدكم، وهو زناء وعن عمر أنه قال: لا يصلين أحدكم وهو ضام وركيه، وكذلك إذا حضرت الصلاة وبه فرط الجوع، صائمًا كان أو غير صائم، فله أن يسكن جوعة بلقمتين أو ثلات، كي لا يمنعه ذلك من الخشوع والخضوع في الصلاة. قال عليه السلام: إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشا. ولا يرخص له في أن يجلس على المائدة، ويتضلع، بل يسكن الجوعة، ثم يبادر إلى الصلاة ليحوز فضيلة الجماعة. فأما إذا ضاق الوقت بحيث لو اشتغل بالطهارة أو بالأكل لذهب الوقت، تأمره بالصلاة، لأن إخراج الصلاة عن الوقت مع الإمكان بحال لا يجوز.

ومن قرب من عرفات وضاق الوقت بحيث لو اشتغل بصلاة العشاء لفاته الوقوف بـ (عرفة) هل له التأخير؟ يحتمل وجهين، ومن قدر على الوضوء بالماء، ولكن لو اشتغل به لفاته الوقت لا يباح له التيمم، ويترك الوضوء بالماء

فصل قال الشافعي: رحمه الله: وإن أجمع في بيته أو في مسجد، وإن صغر أجزأ عنه في أي بقعة صلى بالجماعة يجزئه، سواء في البيت أو في المسجد، ولكن الأفضل حيث تكثر الجماعة، هذا إذا كانت الجماعة في مسجده لا تختل بتخلفه عنها، فإن الجماعة تختل فيه بتخلفه عنها، فالأفضل أن يصلي في مسجده وإن كان لا يحضر مسجده أحد، فالأفضل أن يؤذن ويقيم، ويصلي الفرض منفردًا، إن لم يحضره، من يصلي معه، ويخفف الصلاة ويخرج إلى مسجد يصلي فيه معهم بالجماعة.

فصل إذا عقد الجماعة في مسجده مرة، فحضرت جماعة أخرى، إن كان المسجد على شارع يأتيه الناس ليس له إمام راتب ومؤذن راتب لم يجز على طريقة بعض أصحابنا وقال العراقيون: يجوز. وعند أبي حنيفة: لا يجوز لما فيه من شق العصا، ومخالفته القوم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من صلاة الصبح يومًا، فحضره واحد وشرع في الصلاة منفردًا، فقال عليه السلام، هل فيكم من يقوم فيتصدق عليه ويصلي معه فقام واحد صلى معه، حين أذن في الجماعة. ولم يصلوا معه قبل إذنه عليه السلام والله أعلم.

باب صلاة الإمام قاعدا بقيام أو قائما بقعود، أو بعلة ما تحدث وصلاة من بلغ أو أسلم

باب صلاة الإمام قاعدًا بقيام أو قائمًا بقعود، أو بعلة ما تحدث وصلاة من بلغ أو أسلم. قال المزني: قال الشافعي: وأحب للإمام إذا لم يستطع القيام في الصلاة أن يستخلف فإن صلى قاعدًا، وصلى الذين خلفه قيامًا، أجزأته وإياهم، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، وفعله الآخر ناسخ لفعله الأول، وفرض الله تعالى على المريض، أن يصلي جالسًا، إذا لم يقدر قائمًا، وعلى الصحيح، أن يصلي قائمًا، فكل قد أدى فرضه، فإن صلى الامام لنفسه جالسًا ركعة، ثم قدر على القيام، قام فأتم صلاته، فإن ترك القيام، أفسد على نفسه، وتمت صلاتهم، إلا أن يعلموا بصحته وتركه القيام في الصلاة، فيتبعونه، وكذلك إن صلى قائمًا ركعة ثم ضعف عن القيام، أو أصابته علة مانعة، فله أن يقعد ويبني على صلاته، وإن صلت أمة ركعة مكشوفة الرأس، ثم أعتقت، فعليها أن تستترـ إن كان الثوب قريبًا منها، وتبني على صلاتها، فإن لم تفعل وكان الثوب بعيدًا منها، بطلت صلاتها. قال المزني: قلت أنا، وكذلك المصلى عريانًا، لا يجد ثوبًا، ثم يجده، والمصلى خائفًا، ثم يأمن، والمصلي مريضًا، يوميء، ثم يصح، أو يصلي ولا يحسن أم القرآن، ثم يحسن أن ما مضى جائز على ما كلف، وما بقي على ما كلف، وهو معنى قول الشافعي رحمه الله. قال الشافعي: وعلى الاباء، والامهات أن يؤدبوا أولادهم ويعلموهم، الطهارة

والصلاة، ويضربوهم على ذلك، إذا عقلوا، فمن احتلم، أو حاض، أو استكمل خمس عشرة سنة، لزمه الفرض. قال القاضي حسين: المستحبُّ للإمام الراتب إذا عجز عن القيام أن يستخلف قادرًا على القيام ليصلي بالناس ليكمل حال الإمام، ويساوي القوم في وصفه الكمال، فإن لم يفعل، وصلى قاعدًا بهم وهم قيامٌ أجزأهم. وقال أحمدُ ومحمدٌ: لا يجوز للقائم أن يُصَلِّي خلف القاعد. وقال مالك: يقعدون خلفه، واحتجا بما روي أن النبي -عليه السلام- قال: «لا يؤمن أحد بعدي جالسًا». واحتج مالك وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا معروفًا لأبي طلحة، أو لآل أبي طلحة فسَقَط فجحش شقه الأيمن، فدخلوا عليه في بيته يصلي بهم قاعدًا وهم قيام خلفه، فأشار إليهم أن اقعُدُوا فقعدوا، فلما سلم، قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا خلفه أجمعين». دليلنا: ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه كان يغشى عليه ويضيق، فأفاق، وقد دخل وقت الصلاة فقال: هل صلى الناس في المسجد؟ فقلنا: لا، بل هم قيام ينتظرونك فقال: ضعوا لي ماء في المخضب وهو شبه المركن، وهي إجانة كان يغتسل فيها عليها السلام والرحمة، فوضعنا الماء في المخضب، فدخل فاغتسلَ، فلما ذهب

لينؤ أغشي عليه فأفاق، فلما أفاق قال: هل صلى الناس في المسجد فقلنا: لا إنهم قيام ينتظرونك، فقال في المرة الثالثة والرابعة: مُرُوا أبا بكر ليصلي بالناس، قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت في نفسي، إن الناس يتشاءمون بأبي إذا رأوه واقفا في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أبي رجل أسيف لا يملك نفسه من البكاء إذا وقف في مكانك، فلو أمرت غيره فقال عليه السلام: مروا أبا بكر ليصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أباك ليصلي بالناس، فقالت حفصة: يا رسول الله، لو أمرت غيره، فقال صلى الله عليه وسلم إنكن صواحبات يوسف، أبي الله والمسلمون إلا أبا بكر، مروا أبا بكر ليصلي بالناس. فقالت حفصة لعائشة: ما أتيتني بخير قط، فتقدم أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفه، فخرج يهادي بين رجلين أحدهما العباس، والآخر رجل من أهل بيته، فقال ابن عباس، وذلك الرجل الآخر على كرم الله وجهه إلا أنها لا تذكره بخير ما تستطيع فدخل المسجد، ووقف على يسار أبي بكر وإنما وقف على يساره، لأنه علم من حاله أنه يتأخر عن مقامه، ولا يتقدم عليه ليكون على يمينه، فوصل أبو بكر والناس صلاتهم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وافتتح الصلاة قاعدًا، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر، رضي الله عنه، وكان أبو بكر كالمترجم لهم. قال الشافعي رحمه الله، وفعله الآخر ينسخ فعله الأول. وما رويناه كان آخر الأمرين، فإن قيلأ: الأول لم يكن فعلا، بل كان قولا، فلم قال، فعله الآخر ينسخ فعله الأول؟

قلنا: معناه أن تقريره على الفعل الآخر ينسخ تقريره على الفعل الأول، لأنه في الابتداء أقرهم على الصلاة خلفه قعودًا، وفي الآخر أقرهم على الصلاة خلفه قيامًا، وكما يجوز عندنا للقاعد أن يصلي خلف القائم، وللقائم أن يصلي خلف القاعد، يجوز للقائم والقاعد أن يصلي خلف المومئ، وللمومئ أن يصلي خلفهما. وقال أبو حنيفة: لا يجوز للموميء أن يصلي خلف القاعد والقائم، ولا لهما أن يصليا خلفه، لأن المومئ عجز عن الفعل الذي هو عماد الصلاة. قلنا: كل صفة جاز له أن يصلي عليها للعجز جاز لمن هو أكمل منه حالا أن يصلي خلفه كالقعود. قوله: فإن صلى الامام لنفسه جالسًا ركعة. قال القاضي حسين: القائم إذا عجز في خلال الصلاة عن القيام قعد، وبني قائما على صلاته، وإذا عجز عن القعود اضطجع وبني، وكذلك المضطجع إذا عجز صلى بالإيماء وبنى، وكذلك الموميء إذا قدر على الاضطجاع، والمضطجع على القعود والقاعد على القيام، فإنه يضجع، ويقعد ويقوم، ويبني على صلاته، فخرج من هذا أنه يؤدي أربع ركعات كل ركعة على صفة أخرى إذا تبدلت به الأحوال، فيجوز عندنا. جملته: أنه كلما يجوز له أن يبني من صلاته على صلاة إمامه جاز له أن يبني من صلاة نفسه على صلاته. وقال أبو حنيفة: لا ينبني الإيماء على القعود والقيام، ولا القيام والقعود على الإيماء بناء على أصله، وهو أنه لا يقتدي الموميء بالقائم، والقاعد بالقائم، والقاعد بالموميء وإذا قدر على القيام بعد القراءة، فعليه أن يرتفع إلى القيام، ثم يهوي إلى الركوع بعد أن اعتدل قائمًا نص عليه الشافعي، رحمه الله ولا يجوز أن يرتفع منه من القعود إلى الركوع، ليكون الانتقال من الركن إلى الركن، وكذا لو قدر

على القيام بعد ما ركع، فإنه يقوم ثم يهوي ساجدًا كما ذكرنا في الركوع، فأما إذا قدر على القيام في خلال الفاتحة، فإنه يسكت إلى أيعتدل قائمًا، ثم يبني على القراءة، ولو قرأ في حال الارتفاع إلى القيام لم يجز، ومثله لو عجز عن القيام، في خلال الفاتحة، فقرأ في حالة الهوي إلى القعود جاز. والفرق أن القادر على القيام فرضه القيام، وحالة الارتفاع إلى القيام أنقص من حالة القيام، فلم يحتسب بقراءته فيها. والعاجز عن القيام فرضه القعود وحالة الهوي إلى القعود أكمل من حالة القعود، فيحسب قراءته فيها. ولو قرأ في حالة الارتفاع إلى القيام من القعود قال رضي الله عنه: إذا كان دون آية يبني على صلاته، ولا يستأنف الفاتحة، وإن كان لا يحسب له ذلك القدر من القراءة، بل يعيدها ويأتي بالباقي فإن قرأ آية أو أكثر هذا يبني على أنه إذا كرر الفاتحة في الصلاة عامدًا هل تبطل صلاته أم لا. إن قلنا: تبطل صلاته فها هنا يستأنف القراءة، وإلا فلا ولا نحكم ببطلان صلاته وإن تعمد فيها، ولو صلى قاعدًا فقدر على القيام فعليه أن يقوم فلو لم يقم نص على أن صلاته باطلة، وقد ذكرنا في نظائرهما قولا آخر أن الصلاة تنقلب نفلا، فيخرج فيها هذا القول أيضا. والأظهر قول البطلان، وعليه فرع الشافعي رضي الله عنه فقال: من علم من المأمومين بقدرته على القيام، ولم يخرج نفسه عن صلاته بطلت صلاته أيضا، ومن لم يعلم بحاله لم تبطل صلاته، وإن استدام الاقتداء به. قد ذكرنا أنه إذا قدر على القيام بعد ما فرغ من الركوع يلزمه القيام. فأما إذا قدر على القيام بعد ما فرغ من الركوع، ومضى قدر إمكان الاعتدال، لا يلزمه أن يعتدل قائمًا، ثم يهوي إلى السجود، لأن الاعتدال ليس بركن ممتد، وإنما هو قدر الطمأنينة حتى لو زاد عامدًا فيه على قدر الطمأننية بطلت

صلاته حتى لو كان هذا في صلاة الصبح قدر الاعتدال بعد ما فرغ من الركوع عليه أن يقوم إذا أراد أن يقنت، ولو قنت جالسًا تبطل صلاته. قوله: وإن صلت أمة ركعة مكشوفة الرأس، ثم أعتقت فعليها أن تستتر إن كان الثوب قريبًا منها، وتبني على صلاتها. قال القاضي حسين: وهو كما قال: لأنها بالعتق استفادت الكمال وساوت الحرائر، وفرض الحرة ستر عورة الرأس في الصلاة، وإن كان الثوب بعيدًا منها، فمشيت إليه وسترت به الرأس، فالمذهب أن صلاتها تبطل. وخرج فيها قول آخر: من سبق الحدث أنها لا تبطل، ولو صبرت إلى أن أتيت بالثواب، فمرتب على ما لو مشيت إليه إن قلنا هناك: لا تبطل صلاتها فها هنا أولى، وإن قلنا بظاهر المذهب: إن صلاتها تبطل فها هنا وجهان بناء على ما لو زاد انتظارين في صلاة الخوف، ففرق القوم أربع فرق، وفيه قولان. وكذلك العاري إذا وجد الستر في خلال الصلاة يلزمه الستر، وحكمه كذلك حكم الأمة إذا اعتقت وقد بينا، وكذلك لو أعتقت، ولم تعلم بالعتق حتى مضي زمان بطلت صلاتها، كمن قع في ثوبه نجاسة ولم يعلم بها، أو انكشفت عورته في الصلاة بريج هبت، ومضى زمان تبطل صلاته. وقد عطف المزني، رحمه الله على مسألة الأمة في معناها من الذين يفتتحون الصلاة بالعذر، فيرتفع العذر، مثل الخائف يأمن في خلال الصلاة فعليه أن يستقبل القبلة كما ارتفع الخوف، والموميء يقدر على القعود والقيام فعليه ذلك كما قدر عليه، ومن لا يحسن الفاتحة فتعلمها في خلال الصلاة فالحكم فيه أنه إن تعلمها في خلال الصلاة بعد الركوع لم يلزمه فرض القراءة، وإن تعلمها في خلال القراءة، فعليه أن يقرأها في الظاهر من المذهب، وإن تعلمها بعد قراءة ما يحسنه من القراءة والذكر وجهان: أحدهما: يلزمه قراءة الفاتحة: لأنه قدر على قراءتها في محلها، وهو القيام، كما لو تعلمها قبل أيأتي بما علم من الذكر.

والثاني لا يلزمه، لأنه قدر على الأصل بعد الإتيان بالبدل، كما لو وجد الرقبة بعد الصوم. فإن قيل: ما الفرق بين القراءة قلتم: يلزمه بعد الإتيان بالبدل وهو القعود، قلتم لا يلزمه وجها واحدًا. قلنا: القيام لا يعني لعينه، بل للقراءة، وقد أتي بالقراءة في القعود الذي جعل بدلا عن القيام بخلاف القراءة، فإنها المقصودة من القيام، ولم يأت بما هو الأصل من القراءة وقدر عليها في محلها فيلزمها ذلك ولو قدر على التعلم في خلال الصلاة لم يلزمه تعلمها، كما لو وجد الماء في خلال الصلاة لا يلزمه استعماله، لأنه أتي بما هو البدل هناك بالتيمم، وها هنا شيء آخر من الذكر، بخلاف ما لو وجد الستر يلزمه الستر، لأنه لم يأت ببدل عنه إذا العرى ليس ببدل عن الستر. قد ذكرنا أن من لا يحسن الفاتحة تصح صلاته بذكر يأتي به، وعليه تعلم الفاتحة، فإذا مضى زمان إمكان التعلم ولم يتعلم، فعليه إعادة كل صلاة يصليها بعد مضى زمان إمكان التعلم، فلو اقتدى به في مثل هذه الحالة رجل لم تصح صلاته، لأن صلاته غير محسوبة له، وهكذا كل صلاة لا تكون محسوبة لفاعلها لا يجوز للغير أن يقتدي به فيها، مثل صلاة من لم يجد ماء ولا ترابًا أو المقيم إذا صلى بالتيمم، فلا يجوز أن يقتدى به فيها، فأما إذا اقتدى بمستحاضة أو بمن به سلس بول، فوجهان: أحدهما: تصح صلاته، لأنه اقتدي بصلاة محسوبة للفاعل. والثاني: لا؛ لأنها صلاة ضرورة، إذا النجاسة قائمة لها، ولا ضرورة للمقتدى وسيلان الدم به للضروة. فاما المتوضيء يجوز له أن يقتدي بالمتيمم، والكاسي بالعاري، وكذا لا يجوز للقاريء أن يقتدي بالأمي في قوله والقديم، ولا يجوز في قوله الجديد.

قوله: وعلى الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم، ويعلموهم الطهارات والصلاة يضربوهم على ذلك إذا عقلوا. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإنما أمرناهم بالصلاة على رأس السبع ليتمرنوا لها، ويعتادوا فعلها، ولم نأمر به قبل السبع، لأن الصبيان لا يعقلون قبل السبع غالبًا، وأمرنا بالضرب على رأس العشر لاحتمال البلوغ بالاحتلام، فلا نأمن أنه احتلم لكن يخفيه ولم يؤمر بالضرب قبل العشر، لأنه باستكمالها يصير محلا للشهوة. قال القاضي رحمه الله: إنه لا يجوز للأب أن يختن ولده، ما لم يستكمل عشرًا، لأنه عليه السلام جعل السنة التي يطيق فيها احتمال الألم السنة العاشرة، وألم الختان لا محالة أشد من ألم الضرب، وأما الهدايا يؤتي بها عند دعوة الختان هي ملك الصبي، والأب يقبل له، حتى يملك، وأما أجرة تعليم القرآن، وأجرة الختان إن كان للصبي مال في ماله، وإن لم يكن فيجب على الأب، وإن كان له عبد غير مختون يجب على مالكه أن يخلي بينه وبين كسبه زمان يحصل فيه أجرة الختان بالكسب، وإن لم يخله يجب عليه أن يختنه من ماله، وكذا أجرة تعليم الختان بالكسب، وإن لم يخله عليه أن يختنه من ماله، وكذا أجرة تعليم الفاتحة، وهل يجب على الأب أن يعلم الفاتحة لابنه الصغير؟ فيه وجهان:

أحدهما: بلى، لقوله عليه السلام: مروهم بالصلاة. وأيضا قال الشافعي: رحمه الله وعلى الآباء وعلى كلمة إيجاب. والثاني: لا يجب، لأن القراءة إنما تجب عليه بعد البلوغ، وهذا محمول على جهة التأكيد، وإنما قلنا: يجب عليه ذلك، فإنه يعلمه بنفسه، أو بالأجرة، والأجرة تجب في مال الأب إذا كان موسرًا، فإن كان معسرًا، ففي مال الابن، وله له أن يعلمه سوى الفاتحة ويعطي الأجرة من مال الصبي.؟ فعلى وجهين: أحدهما: له ذلك إذا كان له فيه مصلحة. والثاني: لا، لأنه غير محتاج إليه، وهذا التأديب الذي ذكرنا واجب في الأصل والضرب عليه مباح بشرط السلامة. فأما الصوم فإن كانت الأيام قصارًا، وكان قوي الخلقة يطيقه يؤمر به، وإن كانت الأيام طوالا في وقت الحرارة، أو كان نضو الخلقة لا يطيقه لا يجوز لا يؤمر به، ثم ذكر الشافعي رحمه الله ما يحصل به البلوغ، ومحله كتاب الحجر على ما سيأتي، والله أعلم بالصواب.

باب اختلاف نية الإمام والمأموم، وغير ذلك

باب اختلاف نية الإمام والمأموم، وغير ذلك. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله، وإذا صلى الإمام بقوم الظهر في وقت العصر، وجاء قوم فصلوا خلفه، ينوون العصر، أجزأتهم الصلاة جميعًا، وقد أدى كل فرضه، وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، رضي الله عنه، أن يصلي معه المكتوبة ثم يصلي بقومه، هي له نافلة، ولهم مكتوبة، وقد كان عطاء يصلي مع الامام القنوت، ثم يعتد بها من العتمة، فإذا سلم الإمام، قام، فبني ركعتين من العتمة. قال المزني رحمه الله: قلت أنا: وإذا جاز أن يأتم المصليى نافلة خلف المصلى فريضة فكذلك المصلى فريضة خلف المصلى نافلة وفريضة، وبالله التوفيق. قال الشافعي رحمه الله وإذا أحس الإمام برجل، وهو راكع، لم ينتظره ولتكن صلاته خالصة لله. قال المزني: قلت أنا: ورأيت في رواية بعضهم، عنه: أنه لا بأس بانتظاره والأولى عندي أولى بالصواب لتقديمها على من قصر في إتيانها. قال الشافعي رحمه الله: ويؤتم بالأعمى وبالعبد. قال القاضي حسين: إذا اختلفت نية الإمام والمأموم، فلا يخلو إما أن تتفق الصلاتان في أصل الأركان لو اختلفا في الأركان، فإن اتفقا في أصل الأركان صح الاقتداء، وإن اختلفت بينهما سواء اتفقت الصلاتان في عدد الأركان كالظهر والعصر والصبح والجمعة، أو اختلفتا في عدد الركعات كالصبح مع الظهر، والمغرب مع سائر الصلوات، فخرج من هذا أنه يجوز أن يصلي

المفترض خلف المتنقل، والمتنفل خلف المفترض، والقاضي خلف المؤدي، والمؤدي خلف القاضي، والسنة خلف سنة أخرى، والفرض خلف الفرض، والعشاء خلف التراويح، كما رويناه عن عطاء. ثم ينظر إن كان صلاة الإمام أقل عددا من صلاته بأن يصلي الظهر خلف الصبح، أو المغرب يقوم إذا سلم الإمام، ويتم لنفسه الصلاة، وإن شاء يخرج نفسه عن صلاة الامام، إذا جلس الامام للتشهد الأخير، وإن كانت صلاة الامام أكثر عددا من صلاته، فهو بالخيار بين أن يسلم، وبين أن يصبر حتى يتم الامام صلاته، فيسلم معه، ولا يجوز أن يوافق الامام بعد أن أكمل صلاة نفسه في بقية الصلاة، وإذا صلى العشاء خلف التراويح فصلى ركعتين، فسلم الإمام، فعليه أن يصلي الآخريين منفردًا، ولا يقتدي فيهما بركعتي الإمام، فإن فعل واقتدى به بعد أن قام إلى الركعتين، فهذا رجل وصل صلاة الانفراد بصلاة الجماعة، وسيأتي حكمه إن شاء الله عز وجل. قال القاضي رضي الله، في كرة أخرى: الصلاتان إن اتفقتا في أصل الأركان، وعدد الركعات، مثل الظهر والعصر والعشاء لا خلاف بأنه يجوز، فأما إذا اختلفتا في الأفعال مثل الظهر خلف المغرب، والمغرب خلف العشاء ظاهر كلام الشافعي رحه الله في المختصر يدل على أنه لا يجوز، لأنه قال: الظهر في وقت العصر، فاعتبر استواءهما في الأعداد والأركان. واصحابنا قالوا بأجمعهم: إنه يجوز. وقال القفال رحمه الله: مقتضى تحريمه وتسليمه جاز إحداهما خلف الأخرى، حتى لو اقتدى المفترض بمن يصلي بالجنازة، أو كبر لسجود التلاوة أو الشكر يجوز، ولو صلي الصبح خلف الظهر، ففي الركعة الثانية إذا رفع الامام رأسه من الركوع، فهو بالخيار إن شاء أخرج نفسه من متابعته وقنت، وإن شاء تابعه ولا شيء عليه، ويحمل الامام عنه كسهوه. وإذا صلى الصبح خلف الظهر، فإذا قنت إمامه، إن شاء خرج من متابعته، وإن شاء صبر ذلك القدر إن لم يطل، ولا يضره.

وفي صلاة الخسوف يتابعه على الصحيح من المذهب إلى أن يركع ركوع الأول، ثم لا يتابعه، وهكذا في صلاة الجنازة يتابعه على ظاهر المذهب، وكذا في سجود التلاوة والشكر، ولكن لا يتابعه في التكبيرات وغيرها. ولو اقتدى في الجمعة خلف الصبي، والمتنفل، فجوابان: أحدهما: يجوز قياسًا على سائر الصلوات. والثاني: لا؛ والفرق أن الجمعة أكدت بشرائط لم تؤكد بها سائر الصلوات، فكذا هذا، ولو اقتدى في الجمعة خلف المصلي لصلاة الصبح، فيه وجهان يبنيان على المسألة الأولى. إن قلنا هناك تصح فيها هنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن ها هنا استويا في الفريضة والعدد، بخلاف تلك المسألة، ولو اقتدى بالجمعة، ثم صلى الظهر، فمرتبة على المسألة الأولى، إن قلنا هاك: لا يصح فها هنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق أنهما اختلفا في العدد، بخلاف الصبح مع الجمعة، وإن اختلتف الصلاتان في أصل الأركان كالجنازة، والخسوفيين مع غيرهما من النوافل والفرايض. قال أصحابنا: لا يجوز، لأن فائدة الاقتداء هو المتابعة، ومعلوم أن المفترض والمتنفل خلف صلاة الجنازة، والخسوفين لا يمكنه متابعة، وقال القفال رحمه الله: يقول: يجوز الاقتداء فيها ثم لا يتابعه إذا كبر في الجنازة الثانية، وإذا شرع في الركوع الثاني في الخسوفين واقتدى به. وفائدة الاقتداء اكتساب فضيلة الجماعة، ولا خلاف على المذهب أنه إذا أدرك الإمام في صلاة الظهر في الركعة الثانية، واقتد به بنية المغرب، فإنه يجوز، لأنهما يتفقان في الأعداد والأركان في هذه الحالة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل صلاة تتأدى بمنطق النية، كالنوافل تصح خلف من يخافه في النية، فخرج من هذا أن عنده اختلاف النية تمنع صحة

الاقتداء إلا في المتنفل خلف المفترض، واحتجوا بأنه نوى صلاة الإمام له فيها فلم يصح. دليلنا: ما روى عن جابر أن معاذ بن جبل كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قبيلته ويصليهما بهم، وكان عادته أنه إذا افتتح سورة لا يقطعها حتى يتملها، فافتتح سورة البقرة فيها ليلة، وكان في القوم رجل تعب طول نهاره، وعلم من حاله أنه لا يقطعها حتى يختمها، فأخرج نفسه من صلاته، فلما سلم معاذ أخبر به، فقال: نافق هكذا الرجل، فبلغ الرجل قول معاذ رضي الله عنه، فغاظه ذلك، فقال: والله لأعودن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بصنيع معاذ، وكان يبيت تلك الليلة كالمريض على الجنب، فجاء في الغد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصص، فلم يقل شيئًا حتى دخل معاذ فلما دخل قال له: أفتان أنت يا معاذ أين أنت من صورة والشمس، وضحاها، والليل إذا يغشى، فما رئى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد منه فيها، ثم إن في القصة أن ذلك الرجل قال لمعاذ، والله إن جماعتنا غزاة

ليرينا الله أين المنافق، فلم ينشئا أن جمعتهما غزاة، وجعل ذلك الرجل يطلب معاذًا حتى عثر به فأخذ بتلابيبه وقال: اخرج حتى يرينا الله تعالى أين المنافق؟ فضن معاذ بنفسه فسل الرجل سيفه، وقاتل حتى قتل. ولأن المتابعة إنما تجب على المأموم لإمامه في الأفعال الظاهرة، والنية من الأفعال الباطنة، فلم تضر المخالفة فيها كالمتنفل خلف المفترض. قال المزني: وأكره إمامة من يلحن، لأنه قد يحيل المعنى، فإن أحال أو لفظ بالعجمية في أم القرآن، أجزأته دونهم، وإن كان في غيرها، أجزأتهم وأكره إمامة من به تمتمة، فإن أم أجزأ، إذا قرأ ما يجزيء في الصلاة، ولا يؤم أرت ولا ألثغ. قال القاضي حسين: لحن يخل المعنى، ولحن لا يخل المعنى. فأما ما لا يخل المعنى لا يمنع صحة الصلاة، وجواز الاقتداء به، لكنه يكره أن يقتدي به، وذلك أن يرفع المنصوب والمخفوض، أو ينصب المرفوع والمخفوض بقراءة بسم الله بالرفع الرحمن بالنصب، ولو قرأ الحمد بالنصب أو بالخفض. قال القاضي رضى الله عنه: يحتمل وجهين: أحدهما: تصح صلاته، لانه خطأ في الإعراب. والثاني: لا تصح، لأنه لا يكون قرآنا، كما يكون إعجازًا في نظمه، فكذا في الاعراب، فينبغي أن يأتي به نظمًا وإعرابًا. فأما اللحن الذي يحيل المعنى سواء يحيل إلى لمعان أخرى أو يحيل فالحكم واحد، فينظر فيه إن كان لا يطاوعه لسانه فتصح صلاته، وعليه أن يتعلم إن أمكنه، ولا يجوز الاقتداء به إلا لمن هو مثل حاله، فإن اقتدى به من هو أكمل حالا منه، فحكمه حكم القاريء يقتدي بالأمي، وسنذكر ذلك، وإن كان يطاوعه لسانه بذلك بطلت صلاته، وإن قاله ناسيا، فإن كان في الفاتحة، انقطع

النظم، وإن كان في خلال السورة لم يضره، ولا المأمومين خلفه، وعليه أن يسجد للسهو، لأنه كلام ذكره ناسيًا في الصلاة، فأما إذا قال: أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون، مكان قوله أولئك أصحاب النار هـ فيها خالدون، أو على عكسه وإن كان عامدًا به يصير كافرًا، وإن أخطأ في ذلك لا يضره. قوله: وأكره إمامة من به تمتمة أو فأفأة. قال القاضي حسين: التمتام هو الذي يردد التاء، الفأفاء هو الذي يردد الفاء، والصلاة خلفهما جائزة، لأنهما مغلوب فيه عليهما، إلا أنا نكره الصلاة خلفهما، لكن تصح، لأنهما أتيا بأصل القراءة وزيادة عليها. قوله: ولا يؤم أرت ولا ألثغ. قال القاضي حسين: الأرت هو الذي يبدل الراء بالياء، والألثغ هو الذي يبدل السين بالثاء، ولا تجوز الصلاة خلف واحد منهما، إلا لمن هو في مثل حالهم، ولا تجوز للأرت أن يصلي خلف الألثغ، ولا للألثغ أن يصلي خلف الأرت، كما لا يجوز لغيرهما ممن لسانه مستقيم أن يصلي خلفهما، لأن كل واحد منهما أمي فيما يقدر عليه صاحبه. وقيل: الألثغ: في لسانه رخاوة لا يمكنه الإتيان بالتشديدات كلها كلسان الصبي فعلى هذا ينظر فيه، فإن أمكنه أن يأتي بأصل التشديدات، ولكن لا يبالغ فيها تكره الصلاة خلفه، وتجوز وإن لم يمكنه الإتيان بأصل التشديدات لا تصح الصلاة خلفه. قوله: ولا يأتم رجل بأمرأة. قال القاضي حسين: وهو كما قال: روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تؤمن امرأة رجلا، ولا أعرابي مهاجرا، ولا فاسق مؤمنا إلا أن يقهره السلطان عليه فيخاف سيفه، أو سطوته.

اختلف في الأعرابي فمنهم من قال: أراد به الكافر: لأن من أسلم إذ ذاك كان مهاجرًا. ومنهم من قال: أراد به المسلم الذي لم يهاجر، وإنما منع إمامته للمهاجر، لأن أحوال الولاية بينهما كانت منقطعة لقوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا). وروى أنه قال عليه السلام: أخروهن من حيث أخرهن الله. فإن صلى خلف امرأة أعاد الصلاة عالمًا كان أو جاهلاً، وكذا لا يجوز للخنثى أن يأتم بالمرأة لاحتمال أن يكون رجلا، ويجوز للمرأة أن تأتم النساء، لأنها في مثل حالهن واستويا في نقص الأنوثة، بخلاف الرجال. قوله: (ولا لخنثى الاقتداء بالخنثى). قال القاضي حسين: لا يجوز للرجال وللخناثى لاحتمال أن الإمام كان امرأة، وأن المقتدى كان رجلا، فلو اقتدى به رجل أو خنثى أعاد الصلاة، ولو بان أنه كان رجلا ففي وجوب الإعادة جوابان: أحدهما: تجب اعتبارا بالحال، والظاهر لا. والثاني: لا اعتبار بالباطن، وبما ظهر في المآل، وإذا اقتدى الخنثى بامرأة، ثم تبين أن الخنثى امرأة، ففي وجوب الإعادة عليه جوابان أيضًا. وها هنا مسألة يلغز بها، فيقال: جماعة من الخناثى يصلون جماعة، أين يقف إمامهم؟ فيقال: لا يتصور هذه المسألة، لأن الخنثى لا تقتدي بالخنثى لاحتمال أن يكون الإمام امرأة، والمأموم رجلاً. ومن هذا القبيل يقال: أرت وألثغ أيهما يقدم فيقال: لا تتصور هذه المسألة، لأن الأرت والألثغ لا يجوز لأحدهما الاقتداء بصاحبه.

ومن هذا القبيل أيضًا رجالان: أحدهما يحسن النصف الأول من الفاتحة، والآخر يحسن النصف الآخر أيهما أولى بالإمامة؟ فقال: لا يصلى احدهما خلف الثاني، لأن كل واحد منهما أمي فيما يحسنه صاحبه من الفاتحة، واللغز من الألغاز وهو جحر اليربوع الذي إذا ارتمت من واحد منهما راعت إلى الأخرى. وحكي أن أبا يوسف لما جلس إلى التدريس غاظ ذلك أبو حنيفة، فدس إليه عجوزة وقال لها: سلى أبا يوسف على ملأ من الناس عن رجل استأجر قصارا ليقصر ثوبه فقصره وجحد، فهل يستحق الأجرة أم لا؟ فإن قال: يستحق قولي له: أخطأت وإن قال: لا يستحق قولي له: أخطأت، فذهبت وسألته عن هذه المسألة فقال: يستحق الأجرة فقالت: أخطأت فسكت ساعة، ثم قال: لا يستحق الأجرة، فقالت، أخطأت، فقام مسرعا يجر رداءه حتى دخل على أبي حنيفة فلما رآه أبو حنيفة قال: ما أتي بك إلا مسألة القصار: هلا قلت: إن جحد بعد القصارة يستحق الأجرة، لأنه قصره للمالك، وجحوده لا يسقط عنه الأجرة، وإن قصر بعد الجحود لا يستحق شيئًا؛ لأنه قصر لنفسه. قوله: وأكره إمامة الفاسق، والمظهر للبدع، ولا يعيد من ائتم بهما. قال القاضي حسين: والصلاة خلف الفاسق تنعقد وتكره. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جاهدوا مع كل أمير وصلوا خلف كل بر وفاجر. وصلى ابن عمر خلف الحجاج فقيل له: أتصلي خلفه، فقال: إذا دعونا إلى الرحمن أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم.

فأما أهل البدع ينظر فيه فإن كانت بدعة مستحسنة مثل أن قرأ طول النهار، وصلى آناء الليل والنهار، فإنه بدعة مستحسنة، فإن البدعة في اللغة هو الإحداث فإنه تجوز الصلاة خلفه وتستحب، فأما إذا صلى في الأوقات المنهية أو أذن في غير وقت الأذان، فإنه بدعة تكره الصلاة خلفه، وتجوز. فأما أهل المذاهب المختلفة والمخالفون في الأصول ينظر فيه إن كنا نكفره باعتقاده لا تصح الصلاة خلفه، ومذهب أكثر الفقهاء ألا يكفر. اختلف أهل القبلة إلا ما نص عليه الشافعي رحمه الله، وهم الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدومات ويقولون: لم يعلم الله الأشياء حتى كانت، وهذا خلاف قوله تعالى (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)، فيكفر بهذه المخالفة، وكذا من قال بخلق القرآن، أو لم يؤمن بالقدر أو اعتقد ان الله تعالى جالس على العرش، فإنه يحكم بكفره، ولا تصح الصلاة خلف هؤلاء. قال: وكان القفال: رحمه الله يرى الصلاة خلف كل واحد المعتزلة والروافض للقبلة. وكل من لا يكفر من أهل القبلة، والمظهر للبدع تقبل شهادته، وتكره الصلاة خلفه. ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم، من سب نبيا فد كفر، ومن سب صحابيا فقد فسق. فأما من سب الشيخين، أو الحسينين ففيه وجهان: أحدهما: يكفر، لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم. والثاني: يفسق لأجل الخبر، ولا يكفر.

ولا خلاف بأن من لا يحكم من أهل الأهواء، فإنا لا نقطع بتخليدهم في النار، وهل يقطع بدخولهم في النار أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لما روى أن النبي صلى الله لعليه وسلم، قال لعبد الله بن المغفل: إياك والحدث في الدين، فإن الحدث في الدين ضلالة وكل ضلالة في النار. والله أعلم. قال المزني: فإن أم أمي بمن يقرأ، أعاد القاريء، وإن ائتم به مثله، أجزأه. قال المزني: رحمه الله: قد أجاز صلاة من ائتم بجنب، والجنب ليس في صلاة، فكيف لا تجوز صلاة من ائتم بأمي والأمي في صلاة، وقد وضعت القراءة عن الأمي، ولم يوضع الطهر عن المصلي؟ وأصله أن كلا مصل عن نفسه، فكيف يجزئه خلف العاصي بترك الغسل، ولا يجزئه خلف المطيع الذي لم يقصر، وقد احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاعدًا بقيام، وفقد القيام أشد من فقد القراءة، فتفهم. قال المزني: رحمه الله القياس أن كل مصل خلف جنب، وامرأة، ومجنون، وكافر، يجزئه، صلاته، إذا لم يعلم بحالهم، لأن كل مصل لا تفسد عليه صلاته بفسادها على غيره، قياسًا على أصل قول الشافعي في صلاة الخوف للطائفة الثانية ركعتها مع الإمام، إذا نسي سجدة من الأولى، وقد بطلت هذه الركعة الثانية على الإمام، وأجزأتهم عنده. قال: ولا يكون هذا أكثر ممن ترك ام القرآن، فقد أجاز لمن صلى ركعة، يقرأ فيها بأم القرآن، وإن لم يقرأ بها إمامه فيها، وهو في معنى ما وصفت.

قال القاضي حسين: الأمي: اسم لمن هو على الهيئة التي ولدته الأم، إلا أنا نريد بالأمي من لا يحسن الفاتحة أو بعضها، وإن كان يحسن جميع القرآن، ويسمى من لا يحسن الكتابة أميًا، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم أميًا، وهذا منقبة، وليس يكون بمنقصة له حتى لا يقال: إنما أخرجه من تلقاء نفسه وكيلا يتهم فيه، وتصح صلاة الأمي، ولا إعادة عليه، ثم ينظر إن أمكنه التعلم فقد بينا حكه فيما مضى، وإن أم لغيره نظر، فإن كان أميًا في مثل حاله صح، وإن كان أميًا غير أنه مخالف له بأن يحسن من الفاتحة، ما لا يحسنه، فحكمه حكم ما لو أم للقاريء، ففي الجديد لم يصح. وفي القديم: إن كانت صلاته جهرًا لم تصح وإن كانت صلاته سرًا تصح والشافعي، رحمه الله اعتبر في القديم أن الإمام يعني التحمل، فإن مذهبه في القديم أن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم في صلاة الجهر، فلم يصح اقتداؤه به فيها، لأنه لا يلزمه التحمل، وليس من أهل التحمل، وصح اقتداؤه به في صلاة السر؛ لأنه لا يتحمل عنه القراءة فيها. ومن أصحابنا من خرج في الجديد قولا من معناه في القديم أنه يصح الاقتداء به في صلاة الجهر والسر؛ لأن الشافعي رحمه الله اعتبر في القديم معنى التحمل. وفي الجديد لا يتحمل عن المأموم في الجهر والسر ها هنا صلاة الجهر في القديم، وهذا إنما يخرج على طريقة من يقول: إذا نص الشافعي رحمه الله في الجديد على خلاف ما نص عليه في القديم لم يكن رجوعًا عما نص عليه في القديم، وفيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يكون رجوعًا كما لو صرح، وقال: رجعت عنه. وقال أبو حنيفة - رحمه الله: لا يجوز للقاريء أن يقتدي بالأمي، وفرع عليه

فقالوا: لو اقتدى جماعة من الأميين بأمي فجاء قاريء، فاقتدى به معهم بطلت صلاة الكل، لأنه ألزمه تحمل القراءة عنه، وهو ليس من أهل القراءة والتحمل عنه، فصار كأنه ترك ركنًا في صلاته، فبطلت صلاته، وإذا بطلت صلاته بطلت صلاة من خلفه من المأمومين، ولهذا قال بعضهم: لو وجد الأمي قارئًا يقتدي به لا تجوز منفردًا، لأنه وجد من يحتمل عنه القراءة، ويسقطها عنه. واختار المزني هذا المذهب، واحتج عليه بفصول: منها: أن الصلاة تصح خلف الجنب، والمحدث مع أن الصلاة للإمام غير محسوبة، فلأن تصح خلف الأمي وهي محسوبة له أولى، وأكده بأن الجنب واملحدث يعصيان لله تعالى بالشروع في الصلاة إذا علمها حقيقة الحال، وانعقدت الصلاة خلفهما، فالأمي الذي هو مثاب على عقد الصلاة، ووضع القراءة عنه، لأن تنعقد الصلاة خلفه أولى. واحتج أيضا بأن القائم يصلي خلف القاعد، وكذا القاريء يصلي خلف الأمي، وأكده بأن فقد القيام أشد من فقد القراءة، بدليل المسبوق، فإنه يدع القراءة إذا أدرك الإمام في الركوع، ولا يسعه ترك القيام، واحتج أيضا بأن الشافعي، رحمه الله نص على أن الامام إذا أدرك سجدة من الركعة الأولى في صلاة الخوف، فاقتدت به الطائفة الثانية صحت لهم تلك الركعة، وهي غير محسوبة عن الامام لترك السجدة من الأولى، وصلاة الأمي محسوبة له، فلأن تصح الصلاة للقاريء خلفه أولى، واحتج أيضا على أن الإمام أن ترك ام القرآن مع القدرة عليه بأن كان حنفي المذهب صحت صلاة القاريء خلفه، وترك الأمي، القراءة ليس بأكثر من ترك القاريء ذلك. قال القاضي رحمه الله: وكان القفال، يحتج بهذا النص على جواز الصلاة خلف الحنفي، وإن لم يقرأ بأم القرآن، وهو صريح فيه، وإذا منعنا الصلاة خلف الحنفي، فالنص محمول على أنه إذا نسي القراءة، فقرأها المأموم، وإنما صحت صلاته، لأنه معذور فيه، ولا تصح للإمام الركعة التي نسي فيها القراءة.

وأما الصلاة خلف الجنب والمحدث إنما صححناها، لأن الجنب والحدث ليس بنقص يحل ذات الامام، فلم يمنع صحة الصلاة خلفه وكونه أميا نقص في ذاته، فضاهي الكفر والأنوثة، وأيضا إن الحدث والجنابة مع الطهارة يتعقبان على الإنسان، فإنه يكون متطهرًا في حالة، فيصير محدثا فيها، ثم يصير متطهرًا وهو مما يخفى ولا يظهر، فلا يمكنه أن يطلع عليه غالبًا، فينسب إلى التفريط، وإن غفل عنه، بخلاف ما نحن فيه، فإن كونه أميًا أو قارئًا لا يتعاقبان، فإن الإنسان لا يكون في حالة قارئًا، ثم يصير أميًا فيها، ثم يعود قارئًا فيها، وهو مما يظهر ويطلع عليه في الغالب، فانتسب إلى التفريط، فأما القعود إنما يمنع اقتداء القائم به؛ لأن العجز عن القيام يعارض أمرًا ليس بنقص على البدن، يدل عليه أنه عليه السلام صلى قاعدًا بالناس، فلم يمنع اقتداء من هو أكمل حالا منه به، بخلاف ما نحن فيه، وأيضا حكم القائم أخف من حكم القراءة فإنه يجوز ترك القيام مع القدرة عليه في صلاة التطوع فقط لا يجوز ترك القراءة مع القدرة عليها، والمعنى فيه انه معذور بترك القيام عند العجز، بخلاف ترك القراءة فإنه غير معذور فيه. والمسبوق كما يترك القراءة يترك القيام إذا وجد الإمام في الركوع وما أتى به من القيام ليس بقيام القراءة، بل هو قيام التكبير يدل على أنه معذور به دون القراءة، وأن ما صحح الشافعي رحمه الله صلاة الطائفة خلفه بأنهم معذورون فيه، ولم يحيطوا علمًا بنسيانه، فلم ينسبوا إلى التفريط بخلاف القاريء. وأيضا السهو والغلط ليس بنقص بخلاف الذي نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع بخلاف كونه أميا، وإنما صحح الصلاة خلف من ترك الفاتحة، لأنه متعين مجتهد فيه، فإذا اعتقد أقام غيرها مقامها، قيل بأنه معذور فيه حتي لو أمكن للمأموم أن يعلم أنه لا يقرأ شيئا لا يصح اقتداؤه به.

فرع لو اقتدى رجل برجل لا يعلمه قارئًا أو أميًا، قال أصحابنا: إن كانت صلاته سرًا صحت صلاته، لأنه لا يجهر فيها بالقراءة، وظاهر حاله أنه يحسنها أتى بها، وإن كانت صلاة جهر لم تصح، لأن عجزه عن القراءة ظاهر، والأصل في الناس الأمي، فيقوى هذا الأصل بتركه الجهر، بخلاف ما إذا كانت الصلاة صلاة سر، فلو أسر في صلاة الجهر ثم قال: إنما لم أجهر فيها بالقراءة لعلم بأن الجهر ليس بواجب، وقال: قرأت فيستحب أن يعيد الصلاة، ولا يوجب عليه الإعادة، لأن الإمام كان أميًا، في الإمامة. ولو قال له: كنت جنبا أو محدثًا لا يجب على المأموم الإعادة إذا لم يعلم بذلك حال ما كان في الصلاة، لأنه لو تحقق ذلك منه بعد الفراغ من الصلاة لا تلزمه الإعادة، وكذا لو أقر به، والمعنى ما بيناه من أنه يمكن الوقوف عليه بخلاف ما نحن فيه. قال المزني: قال الشافعي: رحمه الله فإن ائتم بكافر، ثم علم أعاد ولم يكن هذا إسلاما منه، وعزر، لأن الكافر لا يكون إماما بحال، والمؤمن يكون إمامًا في الأحوال الظاهرة. قال القاضي حسين: صلاة الكافر لا تنعقد، وتلزمه الإعادة إذا بان إمامه كافرا؛ لأن الكافر له علامة يمتاز بها عن المسلمين، والكفر لا يخفى، لأن الكافر يباهي المسلمين بدينه، ويناظرهم عليه، فإذا غفل عنه انتسب إلى التفريط بخلاف الجنابة على ما بينا، نظيره الكافر الذي يستسر كفره مثل القرامطة والزنادقة وغيرهم، فإذا صلى خلفه جاهلا بحاله، ثم بان له حقيقة الحال لا تلزمه الإعادة لما قلنا. واختار المزني رحمه الله أنه إذا صلى واحدا فبان كافرًا أو خنثى أو امرأة لا تلزمه الإعادة إذا كان جاهلا بالحال وقاس على ما لو بان جنبا أو محدثا؛ لأن كل صلى لنفسه، والفرقان ما بيناه من الخفاء والظهور.

وفرق الشافعي بين الكافر والمسلم المحدث بأن الكافر لا يكون إمامًا بحال، والمسمل قد يكون إماما في الأحوال الظاهرة، وفي بعض النسخ: في الأحوال الطاهرة. وإنما أرد به أنه لا يؤم إلا متطهرًا في الغالب: ومن قرأ الظاهرة أن الظاهر حاله إذا أم أنه يكون بصفة الإمامة، ثم إذا أم الكافر لا يحكم بإسلامه عندنا إذا كان في دار الإسلام، وكذا لو صلى منفردًا، لأنه يتصور أنه أراد به الاستهزاء بالمسلمين. ولو صلى في دار الحرب يحكم بإسلامه لعدم هذا المعنى، فأما في دار الإسلام فلا، إلا أن تسمع منه الشهادة في قراءة التشهد حينئذ يحكم بإسلامه لا بقراءته ما سواه من القرآن، ولو أذن وأتى بكلمة الشهادة يحكم بإسلامه، ولو قال: أشهد أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله لا يحكم بإسلامه. وقال أبو حنيفة: رحمه الله، إذا صلى الكافر بالجماعة حكم بإسلامه، وإذا صلى بانفراده منفردًا في المسجد ففيه روايتان، ولو صلى في داره لا يحكم بإسلامه. فأما المسلم إذا سجد للصنم أو عظمه في دار الحرب نظر فيه إن كان حواليه كفار يحملونه عليه، أو كان أسيرًا يشبه أن يكون مكروهًا على ما يتعاطاه من المحظورات الإسلام لم يحكم بكفره، وإن عدمت إمارة الإكراه أو كان ناج حكم بكفره، لأن المسلم لا يستجيز في عقيدته أن يشبه بالكفار بارتكاب محظورات الإسلام محاكاة لهم، واستهزاء بهم، فإقدامه عليه يؤذن بخبث سريرته، وكفر سابق كان يخفيه، بخلاف الكافر، فإنه قد يتشبه بالمسلمين فيما عليهم من العبادات محاكاة لهم، واستهزاء بهم، فاحتمل ذلك منهم غير الإسلام، فلم يجعل إسلامًا، وهذا نكتة المسألة الحقيقة، لأن كل ما تردد بين مسألتين لا يحمل على أحدها، وفعل الكافر هذا العبادات تردد بين ما قالوا وما قلناه من المحاكاة، قيل: الأظهر أنه فعله استهزاء، فلا يحكم بإسلامه، فالمسلم في دار الإسلام إذا تغسل بغسل الكافر، وتقلس مثلهم بقلنسوة المجسو، أو شيء من

غير الكفار، فإنه يحكم بكفره، لأنه لولا اعتقاده الخبيث لما فعله ظاهرًا، والله أعلم بالصواب والمآب. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله ومن أحرم في مسجد أو غيره، ثم جاء الإمام فتقدم في جماعة فأحب إلي أن يكمل ركعتين ويسلم يكونان له نافلة ويبتديء الصلاة معه. قال القاضي حسين: قصد بهذا بيان أن الصلاة لا تختص بالمساجد، وأن فعلها جائز في غير المساجد خلاف ما ذهب إليه اليهود، فإنهم لا يجوزون الصلاة في غير المساجد. والأظهر أنه قصد بيا أن قوله عليه السلام: لا صلاة لجاز المسجد إلا في المسجد، في نفي الفضيلة والكمال، دون نفي الجواز، لأنه لا يقصد به الرد على اليهود في فرع من فروع الدين. وإذا افتتح الصلاة منفردًا، ثم حضرت الجماعة يستحب له أن يكمل ركعتين، ويسلم تكونان نافلة، ويستبديء مع الجماعة ليحوز فضيلة الجماعة، ثم فيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يسلم من ركعتين من غير أن يغير نيته الأولى، فتبطل صلاته، لأنه سلم في خلال معقود صلاته. والثانية: أن يترك نية الفريضة، فلا يغير نية الأصل فيه، فتصح صلاته نافلة وترتفض الفريضة. والثالثة: ان يغير نية الفرض إلى النافلة، فظاهر النص، أنها تقلب نافلة، ولا تبطل، وقد ذكرنا في نظائرها قولين، فيخرج من هذه المسألة قول آخر: انها تبطل، والأصح هو الأول، هذا قوله الجديد.

قال المزني: وكرهت له أن يفتتحها صلاة انفراد، ثم يجعلها صلاة جماعة، وهذا يخالف صلاة الذين افتتح بهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر فانصرف فاغتسل ثم رجع فأمهم لأنهم افتتحوا الصلاة جماعة، وقال في القديم، قال قائل يدخل مع الامام، ويعتد بما مضى. قال المزني: قلت أنا: هذا عندي على أصله أقيس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في صلاة، فلم يضرهم، وصح إحرامهم، ولا إمام لهم، ثم ابتدأ بهم، وقد سبقوه بالإحرام، وكذلك سبقه أبو بكر ببعض الصلاة ثم جاء فأحرم، وائتم به أبو بكر، رضي الله عنه وهكذا يقول الشافعي بهذين الحديثين. وهو القياس عندي على فعله صلى الله عليه وسلم. قال القاضي حسين: قد ذكرنا في هذه المسالة قوله الجديد أنه يسلم عن ركعتين، ولا يجوز أن يصلي صلاة انفراد بصلاة الجماعة. وقال في القديم: يصل صلاته بصلاة الإمام، لأنه نص، وقال: لو قال قائل: يدخل مع الامام ويعتد بما مضى، فاختلف أصحابنا في هذه المسألة على طرق، فمنهم من جعل فيها قولين: أحدهما: يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة بالناس، فذكر الجنابة فخرج من الصلاة، وكانت صلاة القوم انعقدت صلاة الانفراد، ثم وصلوها بصلاته عليه السلام ولما روى أنه عليه السلام دخل المسجد، وأبو بكر افتتح الصلاة بالناس في مرضه الذي توفي فيه، وحين خرج إلى بني عمر وبني عوف ليصلح بين قبيلتين، فتأخر أبو بكر، وتقدم هو عليه السلام، وافتتح الصلاة، ووصل أبو بكر صلاته بصلاته، وهذا اختيار المزني، وقوله القديم لا يجوز، لأنه يؤدي إلى تضاد الأحكام، لأنه يكون ربما وقع له سهو في حالة الانفراد، والإمامة دونه، وغير ذلك من الأحكام، ومن قال به أجاب عن

الحديث بأن الناس كانوا قد افتتحوا صلاة الجماعة، ثم وصلوها بصلاة الجماعة، وكلامنا في صلاة الانفراد إذا وصلها بصلاة الجماعة في أصل القولين، فمنهم من قال: يبنيان على الصلاة خلف إمامين. وفيها قولان: ولا نعني بالصلاة خلف إمامين أن يتقدم إمامان، فيفتتح الصلاة خلفهما، وإنما نعني به أن تقع للإمام علة، فيخرج من الصلاة، ويستخلف من يصلي بالقوم، إلا أن هذا البناء غير صحيح، لأن جواز الاستخلاف قول جديد، وجواز وصل صلاة الانفراد بصلاة الجماعة قول قديم، ولا يجوز بناء القديم على الجديد. ومنهم من قال: القولان يبنيان على أنه أخرج نفسه عن صلاة الإمام، وفيها قولان، وجه البناء أن هناك يصلي بعض صلاته مع الإمام دون البعض، وها هنا بمثابة، وهذا أيضا لا يصح، لأن الخروج من صلاة الإمام تحصيل من غير فعله، وقصده بخلاف شرعًا، وهو المسبوق ببعض الصلاة يسلم إمامه فيخرج من صلاته فجاز أن يحصل بفعله وقصده، بخلاف الوصل بصلاة الإمام، فإنه لا يحصل بالشرع من غير فعله وقصده، فكذا بقصده. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز وصل الانفراد بصلاة الجماعة قولا واحدًا. وقوله رحمه الله محمول على كراهية التحريم. وقوله في القديم: ويعتد بما مضى حكاية مذهب الغير، وهذا إنما يخرج على قولنا الذي يقول تنصيصه في الجديد على خلاف ما نص عليه في القديم، لا يكون رجوعًا عما نص عليه في القديم، فإن الشافعي نص في الجديد على جواز الاستخلاف، وفي القديم على منعه، فمعنى مذهبه في القديم في منع الاستخلاف مع تنصيصه على المنع من وصل صلاة الانفراد بصلاة الجماعة، في الجديد أوجب منع الوصل قولاً واحدًا. ومنهم من قال: وصل صلاة الانفراد بصلاة الجماعة جائز قولا واحدًا، والمراد بالكراهية كراهية التنزيه، وما قاله في القديم ذكر مذهب نفسه، وهذا إنما يخرج على القول الذي يقول: إن تنصيصه في الجديد على خلاف ما عليه في

القديم، وقد نص في الجديد على جواز الاستخلاف، فجعل ذلك رجوعًا عما نص عليه في القديم من منع الاستخلاف. ومن أصحابنا من جعل في المسألة قولين من غير البناء، والقائلون بطريق القولين اختلفوا في محلها. فمنهم من قال: محل القولين فيما إذا كان هو والإمام في الركعة الأولى من الصلاة، فأراد وصل صلاته بصلاته، فأما إذا كان المأموم في الركعة الثانية، والإمام في الأولى لا يجوز قولا واحدًا، لأنه يختلف نظم صلاتهما، لأن محل الجلوس للتشهد في صلاة كل واحد منهما، بخلاف محل الجلوس للتشهد في صلاة صاحبه. ومنهم من قال القولان فيما إذا كان الإمام في الركعة الأولى، وهو في الركعة الثانية، فأما إذا كان معًا في ركعة واحدة، إما في الأولى، أو في الثانية جاز الوصل قولا واحدًا. ومنهم من جعل في الكل قولين، فإذا جوزنا وصل صلاة الانفراد بصلاة الجماعة، فعليه أن يراعي نظم صلاة الإمام، يجلس في محل جلوسه حتى لو كان الإمام في الركعة الثانية، وهو في الأولى، فإذا جلس الإمام في التشهد الأول ساعده فيه، وإذا كان الإمام في الركعة الرابعة، وجلس يتشهد، وهو في الثالثة يتابعه في الجلوس، ثم يقوم لقضاء ما عليه إذا سلم الإمام كالمسبوق سواء. ولو كان في الركعة الرابعة، والإمام في الثانية، فإذا قام الإمام إلى رابعته هو بالخيار بين أن يخرج نفسه من صلاته ويتشهد ويسلم، وبين أن يصبر حتى يفرغ الإمام من الرابعة، ويسلم معه. وإن كان قد سها في حالة الانفراد يلزمه سجود السهو في آخر صلاته إذا سلم الإمام، وإن كان قد سها إمامه في حالة انفراده عنه، فحكمه حكم المسبوق يتابع الإمام في سجود السهو.

ولو كان عليه سجود السهو يسقط عنه بذلك، وإن سها إمامُه بعد أن دخل في الصلاة معه، فيلزمه سجود السهو، لأن سهو الإمام أوقع خللا في صلاته. قال القاضي رضي الله عنه وقول الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح بهم الصلاة جماعة في خبر أنه عليه السلام تذكر الجنابة إنما أورده دليلا على قوله القديم، بأنه يجوز للمنفرد أن يصلي صلاته بالجماعة. ومن قال بالجديد يقول: لا حجة في هذا الخبر، لأن الراوي قال: افتتح بنا الصلاة، وإذا انعقدت صلاتهم جماعة، فلا يكون هذا وصل صلاة المنفرد بالإمام، إلا أنه يجاب عنه بأنه وإن افتتح بهم الصلاة طاهرًا، ففي الباطن كأن صلاتهم قد انعقدت منفردين؛ لأن الإمام بان جنبًا، ثم عاد متطهرًا، وصلوا صلاتهم بصلاته. قال رضي الله عنه: لو أن رجلا افتتح الصلاة بقوم، واقتدى القوم به، ثم تذكر الإمام أنه نسي النية، وكبر من غير نية كنت أقول قبل هذا: إنه ينوي، ثم يكبر سرًا، والقوم غير عالمين يتابعونه قياسًا على ترك الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متطهرًا، ثم تطهر، والقوم ما أحدثوا نية الاقتداء به، وترك النية كترك الطهارة في منع انعقاد صلاة الإمام، ثم هم وصلوا صلاتهم بصلاته، فكذلك هذا مثاله، وحكم صلاة القوم ها هنا حكم صلاة الذين كانوا خلف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والآن رجعتُ عن هذا، وأقول قولا واحدًا على قوله القديم: لا يجوز له أن يفعل هذا، ولو فعل يعصي، بل عليه أن يخبر القوم، وليس كصلاته، صلى الله عليه وسلم، بالقوم، لأنه عليه السلام أخبر القوم، والقوم لما علموا وصلوا صلاتهم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وها هنا القوم غير عالمين بفعل الإمام، فلم يحدثوا نية الاقتداء به، فعلى هذا لا يخلو إما أن يكون إما أن يكون أخبرهم، أو لم يخبرهم، فإن لم يخبرهم عصى الله تعالى، وصح صلاة القوم منفردين، وإن أخبرهم ونووا، وافتتح الصلاة، فليس للقوم أن يبطلوا صلاتهم؛ لأنها منعقدة، ولا أن يقتصروا على ركعتين، ثم ينظر إن لم يحدثوا

نية الاقتداء وتابعوه حكمهم حكم رجل لم ينو الاقتداء، ووقعت أفعالهم على أفعال صلاة الإمام. وإن أحدثوا نية الاقتداء على قوله الجديد لا يجوز. وفي قوله الجديد يجوز، ولو كانت الصلاة جمعة وجب عليه أن يخبرهم بذلك، حتى يحدثوا النية، لأن نية الاقتداء بالامام فيها واجبة، وإذا جوزنا للمنفرد أن يصل صلاته بصلاة الجماعة وجب عليه نية الاقتداء، بخلاف ما إذا استخلف الامام رجلا في خلال صلاته، حيث لا يجب على القوم أن يحدثوا نية الاقتداء به؛ لأن هناك قد اقتدوا بالإمام، والمستخلف يبني صلاته على صلاة الإمام، بخلاف ما نحن فيه، والله أعلم بالصواب.

باب موقف المأموم مع الإمام

باب موقف المأموم مع الإمام. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله: وإذا أم رجل رجلا، قام المأموم عن يمينه، وإن كان خنثى مشكلا، أو امرأة، قام كل واحد منهما خلفه وحده. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أم أنسا، وعجوزا منفردة خلف أنس بن مالك، وركع أبو بكر وحده، وخاف أن تفوته الركعة، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة. قال القاضي حسين: قد ذكرنا أن فضيلة الجماعة تحصل باثنين. قال عليه السلام: الاثنان فما فوقها جماعة. وكلما كثرت الجماعة فهو أفضل عند الله تعالى، فإن كانا اثنين،

فالمستحب أن يقف المأموم على يمين الإمام، فلو وقف خلفه أو على يساره، فقد ترك السنة وتجزئه والسنة للإمام أن يقف متقدمًا على القوم، بخلاف إمامه النساء، ولو وقف وسطهم يكره، ويجوز حتى لو جاء مسبوق، ولا يعرف من الإمام فاقتدى بمن هو الإمام لا يجوز، بخلاف ما لو كان الإمام متباعدًا عنه، وهو لا يرى لكثرة القوم يجوز له أن يقتدي بمن هو الإمام، والفرق أن في المسألة الأولى ما من أحدٍ إلا ويتصور عنده أن يكون إمامه، بخلاف هذه، والأصل في الوقوف على يمين الإمام ما روى ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: بعثني أمي إلى دار خالتي ميمونة لحاجة عشاء، وكانت تلك الليلة نوبتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصدتها، وكان قد دخل الليل، فأردت الانصراف فخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الليل لحداثة سني فقال: أقم عندنا هذه الليلة، فأقمت فلما أذن المؤذن لصلاة العشاء خرج النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فخرجت معه وصليت، فلما فرغ من الصلاة رجع إلى البيت وجلس ساعة، وسامر أهله، ثم نام هو وأهله في طول الوسادة، وإنما نمت على عرضها، فلما انتبه صلى الله عليه وسلم من نومه استوي جالسا ومسح النوم من عينيه بيده، وقرأ خواتيم سورة آل عمران، إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، إلى آخرها، ثم قام إلى شن معلق في البيت فيه ماء، فتوضأ به، وافتتح الصلاة، وقمت وتوضأت، وافتتحت الصلاة معه، ووقفت على يساره فمد يمينه من ورائه، وأخذ بأذني وفتلها وجرني من ورائه، وأقامني على يمينه، وصلى ركعتين، ثم صلى ركعتين هكذا خمس مرات، ثم أوتر بواحدة، وسلم ونام حتى غط وفي رواية حتى نفخ، وفي رواية: حتى سمعنا غطيطة، فلما أن حان وقت الصلاة جاء المؤذن ونادى، الصلاة الصلاة، فقام وصلى ركعتين، فقلنا له: نمت يا رسول الله فقال: تنام عيناي ولا ينام قلبي، فخرج إلى الصلاة. وفي هذا الحديث فوائد منها: أن الوتر ركعة واحدة، وأن المستحب أن يقف المأموم الواحد على يمين

الإمام، وأنه لو وقف خلفه، أو يساره لم يضر صلاته، لأن ابن عباس رحمه الله كان على يساره في أول الصلاة، وكان خلفه وقت الأذان، وأن المأموم لا يجوز أن يتقدم على الإمام، لأنه عليه السلام جره من ورائه دون قدامه، ولو جاز التقدم على الإمام لكان يجذبه من قدامه، إذ هو أسهل عليه، وأن الاضطجاع مع امرأته على فراش واحد سنة، وإذا تنبه أن يمسح عينيه باليد، ويقرأ خواتيم سورة آل عمران، وأن السنة أن يصلي الإنسان ركعتين ركعتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه، فلو كان المأموم رجلا وامرأة، فالرجل يقف على يمين الإمام، والمرأة خلف الرجل، ولو كان المأموم رجلا وامرأتين، فالرجل يقف على يمينه، والمرأتان خلف الرجل، وإن كان رجلا وخنثى وامرأة، فالرجل يقف على يمين الامام والخنثى خلف الرجل، والمرأة خلف الخنثى، ولو كان رجل وصبي، فيقفان خلفه، ولو كان جماعة من الرجال، وجماعة من الصبيان، وجماعة من الخناثى وجماعة من النسوان، فالرجال يقفون خلف الامام، ثم الصبيان خلفهم، ثم الخناثى، ثم النسوان خلف الخناثى. وروى عن أنس أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم حرام بنت ملحان فقدم إليه سمن وتمر، فقال عليه السلام: ردوا التمر في وعائكم، والسمن في سقائكم فإني صائم، ثم صلى فوقف على يمينه وأم حرام وأم سليم خلفنا. وحكى عن ابن مسعود أنه قال: إذا كان المأموم رجلين يقف أحدهما على يمين الإمام، والآخر على يساره. وبما روى عن عقلمة انه قال: دخلت انا مع صاحب لي على عبد الله بن

مسعود، فصلى بنا، فقام أحدنا على يمينه، والآخر على يساره، ثم قال: هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان المأموم رجلا واحدا وقف خلف الامام لم يضر صلاته. وحكى عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا وقف خلف الصف منفردًا بطلت صلاته فاحتج بما روى أن رجلا وقف خلف الصف، فقال له عليه السلام: أيها الواقف خلف الصف هلا اتصلت بالصف، أو جررت رجلا من الصف ليصلي معك أعد الصلاة. دليلنا: ما روينا في حديث ابن عباس أنه قال: جرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يمينه، فكان وقت الإدارة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولما روى أن أبا بكر رضي الله عنه دخل المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الركوع، فخاف أن تفوته الركعة، فافتتح الصلاة منفردًا عن الصف، ثم اتصل بالصف، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: زادك الله حرصًا ولا تعد. وفي رواية: ولا تعد، ولأنه نوع خطأ في الموقف لا يخرجه عن حد المتابعة فلا يمنع صحة الصلاة، كالمأموم الواحد إذا وقف على يسار الإمام،

وفيه احتراز عن الخطأ بالتقدم، لأنه خطأ يخرجه عن حد المتابعة، وقوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة لمنفرد خلف الصف، حكاية حال يحتمل أنه قال بعض المنافقين، انفرد عن الصف، أو قاله لمنفرد خلق الصف لم يكمل الركوع والسجود. والخبر الثاني محمول على الاستحباب بدليل ما روينا. وإذا تقدم المأموم على الإمام، ففي صحة صلاته قولان: أظهرهما: وهو قوله الجديد، وبه قال أبو حنيفة أنها باطلة، كما لو خالفه في الأفعال. والقول الثاني: وهو قوله في القديم، ومذهب مالك صحت صلاته. واحتج مالك بأن الإمام بـ (مكة) يقف خلف المقام، والناس مستديرين بالكعبة، وفيهم من يكون أقرب إلى الكعبة من الإمام، وكذلك يصلون في البيت، والإمام متوجه إلى جهة، والمأموم إلى جهة أخرى أقرب إلى الجدار من الامام، فدل على أن التقدم على الامام لا يبطل الصلاة، والفرق ظاهر أن هناك لم يتقدم على الإمام في الجهة التي تقدم الإمام إليها، ثم العبرة في التقدم والتأخر بالعقب دون الأصابع، حتى لو قام المأموم بجنب الامام، وكان عقبه محاذيًا لعقبه، ولا يتقدم عليه جاز، ولو كان رءوس أصابع المأموم أطول واقرب إلى القبلة لا يضر حين استويا في العقب، وبمثله لو كان المأموم قصير الأصابع تقدم على الإمام بالعقب، وتأخر عنه بالأصابع جعل متقدمًا عليه، وإذا تقدم المأموم على الإمام بجزء قليل من العقب، فعلى وجهين: أحدهما: يجعل متقدما بتقدمه عليه.

والثاني: لا؛ لأن هذه مخالفة لا تظهر، كما أن ما لا يظهر من المخالفة في الأفعال لا يضر، كذا ها هنا مثله. فأما المأموم الواحد إذا اقتدى بالإمام فجاء مسبوق، فالسنة أن يتأخر عن يمين الإمام، ويقفا خلفه. قال القفال: الإمام يتقدم قليلا دون المأموم، لأن الإمام يرى قدامه، فإذا تقدم لا يضره شيء، بخلف المأموم، فإنه لا يرى ما خلف ظهره، فإذا تأخر بما يضره شيء، فأما إذا صلى خلف الإمام صفا واحدًا، فدخل جماعة وجدوا ما بين الإمام والمأمومين أكثر مما بين الصفين من البعد، فيجوز لهم أن يتقدموا صفا بين الإمام والمأمومين؛ لأنهم قد ضيعوا حقوقهم بوقوفهم على البعد من الإمام. فأما إذا لم يكن بينهم، وبين الإمام إلا قدر ما بين الصفين، فيكره لهم الوقوف هناك، بل يقفون خلف الصف الأول، ولو دخل رجل والقوم في الصلاة، فإن لم يجد فرجة في الصف، فالمستحب له أن يجذب واحدًا من الصف ليقف بجنبه، ولو صلى منفردًا خلف الصف يجوز، وقد ذكرنا خلافا لأحمد. قال القاضي حسين: أراد به ردًا على أبي حنيفة حيث قال: تبطل صلاة من خلفها ومن كان بجنبها. وقريء: وإن صلى وبين يديه امرأة أراد به ردًا على أحمد بن حنبل، حيث قال: إذا مر بين يدي المصلى كلب أسود، أو حائض أو أتان بطلت صلاته، واحتج بما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: لا يقطع صلاة المرء إلا ثلاث الكلب الأسود، والأتان والحائض.

وعندنا: هذا منسوخ بخبر عائشة، رضي الله عنها وروى أنها لما بلغها هذا الحديث قالت: بئس ما عدلتمونا بالكلاب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد غمز رجلي فقبضتها، وإذا قام مددتها. وقد ذكرنا أن المستحب ان يتخذ المصلي سترة بين يديه بقدر مؤخرة الرحل شبرين أو ثلاثة، وإذا اتخذ سترة لا يأخذ من المكان إلا قدر ما يتسع لسجوده، ولو ترك اتخاذ السترة لم يكره للمار أن يمر بين يديه، لأنه الذي ضيع حقه بترك السترة. وهذا كما قال الشافعي رحمه الله: لو تركوا فرجة في الصف الأول، ولم يسدوها، كان لمن دخل أن يخرق الصفوف، ويسد تلك الفرجة، لأنهم ضيعوا حقوقهم بترك الفرجة في الصف الأول، وإن كان المصلى في الصحراء يغرز خشبة بين يديه إن قدر عليها، وإلا يخط خطا، والله أعلم بالصواب.

فصل: في وجوب متابعة الإمام وما يبطل الصلاة من مخالفة الإمام بالتقدم والتأخر

فصل: في وجوب متابعة الإمام وما يبطل الصلاة من مخالفة الإمام بالتقدم والتأخر روى أنه قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، لا تختلفوا عليه. ثم المأموم لا يخلو إما أن يكون مسبوقًأ، أو موافقًا، فإن كان موافقًا، فخالف إمامه، فلا يخلو إما ان خالفه بالتقدم، أو التأخر. فإن خالفه بالتأخر، فلا يخلو إما أن يكون معذورًا، أو غير معذور. فإن كان غير معذور وتأخر عن الإمام، ما حكمه؟ نص على أنه إذا سبق الإمام بركين بطلت صلاته، وهل يعد الاعتدال من الركوع في هذا المعنى ركنا، أو لا يعد ركنا حتى يهوي إلى السجود؟ فعلى وجهين، فخرج من هذا أن المأموم إذا مكث في القيام حتى ركع الإمام ورفع رأسه من الركوع، وسجد بطلت صلاته، فقبل أن يسجد بعد الاعتدال من الركوع هل تبطل صلاته أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما: بلى؛ لأن الاعتدال من الركوع ركن كما أن الركوع ركن. والثاني: لا؛ لأنه ليس بركن مقصود، وإنما هو للفصل بين الركوع والسجود، فعلى هذا تبطل صلاة المأموم، المتخلف بحصول الامام في السجود، وقبل ان يرفع رأسه منه أم لا تبطل قبل أن يرفع رأسه من السجود؟

قال رضي الله عنه: يحتمل وجهين: أحدهما: تبطل قبل أن يرفع راسه من السجود، ولأنه انتقل إلى ركن السجود بوضع الجبهة على الأرض. والثاني: لا؛ لأن الركن إنما يتم بالانتقال إلى الركن الآخر، كما قلنا على أحد الوجهين في الاعتدال من الركوع لا يتم قبل الهوي إلى السجود، فعلى هذا ما لم يرفع رأسه من السجود لا تبطل صلاة المأموم القائم خلفه، وإن كان معذورا فلا خلاف أنه يعدو خلف إمامه، ويجرى على نظم صلاة نفسه ما دام سبقه بثلاثة أركان، فإن سبقه بأربعة أركان وأكثر، ففيه وجهان: أحدهما: يجري على نظم صلاة نفسه أيضا، ويعدو خلفه، ثم إذا سلم الإمام يكمل ما عليه. والثاني: هو بالخيار بين أن يخرج نفسه من صلاة الإمام، ويكمل الصلاة لنفسه منفردًا، وبين أن يعدو خلف إمامه على نظم صلاة نفسه، ففي الأركان الثلاثة وجهان: أحدهما: إذا ركع الإمام وسجد، فلو بقي قاذمًا حتى رفع رأسه من السجود الأول، فقد وجدت المخالفة في ثلاثة أركان، وإن ركع قبل أن يرفع الامام رأسه من السجود الأول، فلم يسبقع بثلاثة أركان. والوجه الثاني: لم يرفع رأسه من السجدة الثانية، وهو في القيام، فقد سبقه بثلاثة اركان، ولو كان في الركوع لم يسبقه بثلاثة أركان، ولو خالفه بالتقدم، فلا يخلو إما أن يخالفه بالتقدم في المكان او في الأفعال. فإن خالفه بالتقدم في المكان، فقد ذكرنا فيه قولين: وإن خالفه بالتقدم في الأفعال، فلا خلاف أنه إذا تقدم عليه بركن تام متعمدًا تبطل صلاته، وذلك بأن يركع قبل الإمام، ويرفع رأسه من الركوع، والإمام قائم.

فأما إذا ركع قبل الإمام، وبقي في الركوع حتى هوى الإمام إلى الركوع لا تبطل صلاته، فقد أساء حتى لو كان يتقدم على الإمام في كل ركن لا يضر صلاته إذا صبر، حتى جامعه الإمام في ذلك الركن حتى لو ركع قبل الامام، وبقي فيه حتى ركع الامام، ورفع رأسه من الركوع قبل الامام، وبقي معتدلا حتى اعتدل الامام، ثم قبله صحت صلاته، وقد أساء. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الامام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو قال: رأس خنزير. فإن قيل: الامام لو سبق بركن واحد لا تبطل صلاته، والمأموم لو سبقه بركن واحد، قلتم تبطل صلاته ما الفرق؟ قلنا: لأن الامام مبتوع وأبدا المتبوع يتقدم على التابع، ولهذا تقدمه في الموقف، وأيضا الإمام سبقه بركن واحد، بخلاف المأموم، فإنه تابع، ومن شان التابع أن يجري على أثر المتبوع، كما في الموقف لو وقف بين يديه لا صلاة له، فالمستحب للمأموم أن يتابعه في جميع أركان الصلاة، فإنه يأتي بها بعد الإمام، فلو أتى بها قبله، فقد ذكرنا حكمه. وإن أتى به مع الإمام يجزيء. وأما لو كبر قبله، أو معه لا يجوز وجهًا واحدًا، ولو قدر إمامه راكعًا بشيء أحس به يشبه انتقال الإمام إلى الركوع، فركع على هذا التقدير لم يكره، وعليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع مع الإمام. ولو قدر إمامه رافعًا رأسه من الركوع، فرفع رأسه، وإذا الإمام يعد في الركوع عليه أن يعود، وإن لم يعد لم تبطل صلاته في ظاهر المذهب.

وفيه وجه آخر: أنه لو لم يعد تبطل صلاته في مسألة قالها الشافعي رحمه الله عليه لو رفع رأسه من السجود يتنفل، فعليه أن يعود، لم يعد بطلت صلاته كذا ها هنا. ومن قال بالزوال يجيب عن هذه المسألة بأنه لم يرفع رأسه لأجل قطع السجدة، وإنما رفع لحاجته، وها هنا رفع بنية قطع السجود والركوع. ولو عاد والإمام في الارتفاع، فالمذهب أنه يتابع الإمام، ولا يكمل العود إلى الركوع. وقيل: إن فيه وجهًا آخر: يعود إلى الركوع، ولا يمكث فيه حتى لو مكث فيه تبطل صلاته، فأما إذا رفع رأسه من الركوع والسجود متعمدًا عالمًا بأن الإمام ثابت فيه لم يجز له ان يعود إليه، فإن عاد بطلت صلاته، لأنه زاد ركوعًا أو سجودًا متعمدًا في الصلاة. ولو ترك قراءة الفاتحة متعمدًا حتى ركع الإمام المذهب أنه يخرج نفسه عن متابعته. ولو نسي القراءة حتى ركع الإمام، وهو في القيام فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يتابعه في الركوع، ولا تحسب له تلك الركعة. والثاني: حكمه حكم المعذور. والثالث: حكمه حكم المعذور، ولو ركع مع الإمام، ثم تذكر أنه نسي القراءة فيه وجهان: أحدهما: يتابع الإمام، ولا يعود إلى القيام لأجل القراءة، فإن عاد كان المتخلف عن الامام بغير عذر حتى تبطل صلاته إذا سبقه الامام بركنين على التفصيل الذي ذكرناه. والوجه الثاني: يعود إلى القيام، ويقرأ الفاتحة، ويجعل كالمتخلف عن الامام بالعذر إذ النسيان عذر ظاهر لقلة إمكان الاحتراز عنه.

ولو كان الإمام مسرعًا في القراءة بعد أن يأتي بالحروف، والمأموم كان يبطيء في القراءة، وتخلف عنه بهذا العذر يعذر فيه، ويجعل كالمتخلف بالعذر. وإن كان المأموم موسوسًا، يردد الحروف والكلمات، ففرغ الإمام عن القراءة وهو بعد فيها. قال رضي الله عنه: لا نجعل هذا عذرًا، وحكمه حكم المتخلف بغير عذر. ولو ركع الامام وهو في خلال السورة، فعليه أن يقطعها، فإن لم يقطع السورة حكمه حكم المتخلف بغير عذر. وهكذا إذا رفع الإمام رأسه من الركوع وهو في تسبيحات الركوع، فعليه أن يقطعها، فإن لم يقطعها حكمه حكم المتخلف بغير عذر. فاما المسبوق ببعض الصلاة إن وجد الامام في الركوع، فعليه أن يكبر تكبيرة الافتتاح، ويهوى إلى الركوع، فلو اشتغل بالقراءة حكمه المتخلف عن الإمام بغير عذر. وقيل: إنه إن قرأ، وأدرك الامام بعد فراغه من الركوع لا تصح صلاته، وإن أدركه في الركوع، فعلى وجهين. فأما إذا وجد الإمام في القيام، غير أنه كما فرغ من تكبيرة الافتتاح هوي الإمام إلى الركوع عليه أن يتابعه، فإن تخلف واشتغل بالقراءة، فحكمه حكم المتخلف بغير عذر، ولو وجد الإمام في خلال القيام اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من قال- وهو اختيار الشيخ أبي زيد: يكبر للافتتاح، ولا يشتغل بدعاء الاستفتاح، بل يقرأ الفاتحة، لأنها فرض. ودعاء الاستفتاح سنة، والاشتغال بالفرض أولى، ثم إن أكمل الفاتحة قبل أن يهوي الإمام إلى الركوع، فذاك، وإن هوي إلى الركوع، وهو في خلال الفاتحة، فعليه أن يقطع الفاتحة، ويتابع الإمام.

فإن تخلف عن الإمام لإكمال الفاتحة، حكمه حكم المتخلف بغير عذر، فعلى هذا لو اشتغل بدعاء الاستفتاح، فركع الإمام، وهو بعد لم يقرأ الفاتحة عليه أن يقرأ من الفاتحة، بقدر ما قرأ من دعاء الاستفتاح، لأنه أدرك محلها، فافترضت عليه قراءتها، كجميع القراءة في حق الموافق، وحكمه حكم المتخلف عن الامام بغير بعذر لأنه انتسب إلى التفريط إذا اشتغل بدعاء الاستفتاح. قال رضي الله عنه: هذا عندي إذا كان هو عالمًا بالحكم، وأن الفرض عليه الاشتغال بالفاتحة دون دعاء الاستفتاح، فإن كان جاهلا يجب أن يعذر فيه، ويجعل كالمتخلف بعذر. ومن أصحابنا من قال: عليه أن يشتغل بقراءة الفاتحة، كما قلنا: إنه لا يقطعها حتى يكملها، وإن هوى الإمام إلى الركوع، وهو في خلالها متخلف لإكمالها يجعل المتخلف عنه بالعذر. وعلى هذه الطريقة: لو قرأ دعاء الاستفتاح عليه أن يقرأ جميع الفاتحة، وحكمه حكم المتخلف بغير عذر. ومن أصحابنا من قال: المسبوق ببعض الصلاة إذا أدرك الامام في القيام يأتي بدعاء الاستفتاح، لأنه في جملة المعقود صلاته، كالفاتحة، وعند هذا القائل إذا هوى الامام إلى الركوع يتابعه فيه، سواء كان قبل افتتاح الفاتحة، أو في خلالها. فرع قد ذكرنا أن المسبوق ببعض الصلاة، المستحب له أن يقوم لقضاء ما فاته بعد أن يسلم الإمام تسليمتين، فلو أتي الإمام بتسليمة واحدة لا يجوز للمسبوق أن يقرأ شيئا من التشهد، إن لم يكن ذلك محل تشهده، وإن كان محل تشهده بأن كان مسبوقًا بركعتين، فلا بأس أن يقرأ التشهد بعد تسليمته الأولى.

فرع إذا سلم الإمام فقال بعض المأمومين: سلمت عن ركعة واحدة أو عن ثلاث، وكانت الصلاة ذات أربع ركعات، بطلت صلاة المأموم بهذا الكلام، وينظر في الإمام إن دخلته شبهته بما سمعه من المأموم، فعليه أن يقوم ويتمم الصلاة، ويسجد للسهو، وإن مكث بعد أن داخلته شبهة، أو تكلم بكلام بطلت صلاته وإن لم تقع له شبهة فصلاته تامة، وإن دخلته شبهة بعد أن كان الفصل قريبًا بنى، وإن طال فعلى قولين.

فصل قال المزني: قال: وإن صلى رجل في طرف المسجد، والإمام في طرفه، ولم تتصل الصفوف بينه وبينه، أو فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام أجزأه ذلك. صلى أبو هريرة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد. قال القاضي حسين: إذا اتسعت بقعته فوقف الإمام في طرف منه، والمأموم في طرف آخر صحت صلاته مقتديًا به، وإن طالت المسافة حتى بلغ ألف ذراع فأكثر، لأن خطة المسجد تجمعهم، وخطة المسجد في حكم شيء واحد، وسواء كان الإمام في المحراب، والمأموم في صحن المسجد، أو على العكس، وسواء كان الامام في الصحن، والمأموم على السطح، أو على العكس، وسواء كان الإمام في بئر، أو على منارة في المسجد أو على عكسه، وسواء وقف الامام في بيت في المسجد، والمأموم خارج البيت، أو على العكس، وإذا كان في صحن المسجد دكة وقف المأموم عليها، والامام على مستوى الأرض، أو وقف الامام عليها والمأموم على مستوي الأرض جاز، وإلا أن الأولى عند اختلاف المصلى أن يقوم الامام على المكان المرتفع دون المأموم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، والناس خلفه، وهو على الأرض، وتمام الحديث ما روى أنه عليه السلام في بدء الأمر كان إذا خطب الناس يستند إلى جذع نخلة في المسجد يابسة، وهي التي تسمى اليوم الحناتة، فجاءت امرأة، وقالت: يا رسول الله، إني اشتريت غلامًا نجارًا، فلو أذنت لي حتى أتخذ لك منبرًا تجلس عليه، وتخطب الناس، فأذن لها فيه، فاتخذ منبرًا له ثلاث درجات، ووضع في المسجد، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وجاوز الجذغ ليصعد المنبر، فحن الجذع حنين الوالهة فرجع النبي صلى الله عليه وسلم واحتضنها وسارها بشيء فسكتت، وعاد إلى المنبر ثم قال، خيرتها بين أن يرد الله تعالى، إليها شبابها فتورق وتثمر، وبين أن تكون شجرة في الجنة، ثم خطب

النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وصلى عليه، فكان إذا بلغ السجود يضيق به المكان، فينزل إلى الأرض، ويسجد عليها، ثم يسعد المنبر، فدل أن المستحب أن يكون الإمام على المكان المرتفع. ولو كان مساجد وقفوا متفرقة، وألصق البعض بالبعض، مثل أن يكون في البلاد الكبيرة كـ (نيسابور)، وغيرها، وقف الإمام في مسجد، والمأموم في مسجد آخر جاز بعد أن كان يسمع صوت الإمام لو كان هناك من يعلمه بأفعال الإمام فأما خارج المسجد إن كان في صحراء، أو قاع مستوي، أو أرض مملوكة لواحد، ووقف الإمام في طرف، والمأموم في طرف آخر، وبينهما قدر مائتي ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، وهكذا لو وقف صف آخر خلف الصف الأول على مائتي ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، وصف خلف الصف الثاني على هذه المسافة جاز، وإن امتدت الصفوف، حتى بلغت فرسخًا، وأكثروا الإمام في مثل هذه الصورة يطول الأركان، حتى يتصل خبر انتقاله من ركن إلى ركن إلى الصف الأخير جاز، وإنما أخذ الشافعي، رحمه الله عنه هذا التقدير من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، صدع الناس صدعين جعلهم طائفتين، وتنحى طائفة بقدر غلوة سهم، وصلى بهم، وسهام العرب لا تبلغ أكثر من هذا القدر، فلم يجد الشافعي رحمه الله لهذا أصلا سوى ما قلناه فقدر به، إذ لابد من نوع تقدير، ثم هذا على جهة التقريب، دون التحديد، إذ ليس فيه نص، ولا توقيف، وإن كان قاعاً مملوكة بجماعة، فعلى وجهين: أحدهما: حكمه حكم الموات، والمملوكة لمالك واحد لا يعتبر فيه اتصال الصفوف والثاني: يعتبر فيه اتصال الصفوف لاختلاف الملك، ويجعل اختلاف الملاك كاختلاف البنيان، والسطوح المستوية المملوكة لملاك كثيرين على هذين الوجهين.

فأما المملوكة لمالك واحد، فكالموات، وإذا كان مختلفة منقسمة إلى الصعود والهبوط، هل يعتبر فيها اتصال الصفوف؟ قال رضي الله عنه: يحتمل وجهين بناء على المملوكة لملاك كثيرين، إذا كانت مستوية الأطراف. إن قلنا: يعتبر فيها اتصال الصفوف لاختلاف الأملاك لم يعتبر ها هنا لعدم اختلف الأملاك. وإن قلنا: لا يعتبر فيها اتصال الصفوف لاستواء البقاع، اعتبر ها هنا لاختلافها. فأما إذا كان الإمام في المسجد، والمأموم خارج المسجد نظر، فإن كان بينهما حائل من جدار، أو باب مردود لم يصح اقتداؤه به، وإن وقف في الجانب الذي كان باب المسجد إليه وراء المسجد، والباب مفتوح، نظر فإن كان متصلا بالصف بأن كانت العتبة رقيقة، والصف الأخير ممتد إليها، أو كانت العتبة عريضة ووقف عليها واحد، فصلاته صحيحة، وإن كان متصلا بالمسجد غير متصل بالصف بأن كان بينه وبين الصف الذي يليه أكثر مما يكون بين الصفين بأن كانت العتبة عريضة، ولم يقف عليها واحد، أو كانت رقيقة، والصف الأخير في أقصى المسجد، أو في الصحن، فعلى وجهين: أحدهما: تصح صلاته مقتديٍا بالامام لاتصاله بالمسجد. والثاني: لا؛ لانفصاله عن الصف وإذا وقف متصلا بالمسجد، وصححنا صلاته خلف الامام في المسجد، أو وقف متصلا بالصف في المسجد فوقف خلفه صف آخر، نظر فإن كان بينهما شارع أو نهر كبير لابد من اتصال ذلك الصف به، وإن كان وراء المسجد خطة مستوية من موات، أو أرض مملوكة لمالك واحد، فوقف صف منه على ثلاثمائة ذراع جاز. ولو وقف خلف ذلك الصف صف آخر على ثلاثمائة ذراع جاز، ويجعل المتصل بالمسجد في حق الذي وقفوا خارج المسجد منزلة الإمام

ولو تقدم عليه صف لم يجز، ولو تأخر عنه صفوف جاز على الوجه الذي ذكرنا. ولو كان هناك نهر كبير يزيد على ما يكون بين الصفين، فهو قاطع للصفوف على الظهر من المذهب، ولا يجوز أن يقتدي بالامام من وقف من الجناب الاخر من النهر، وإن كان للنهر قنطرة وقف عليها واحد متصلا بالواقف على باب المسجد، ووقف خلف الواقف على القنطرة صفوف جاز، ولو وقف على باب المسجد واحد متصلا بالواقف، ووقف خلفه آخر حتى انجز الصف إلى ما انجز حتى إلى بيوت ودو وأبنية جاز، وإن وقف على يمين المسجد إن كان هناك حائل من جدار، أو نهر كبير، أو شارع أو تخاجيل المسجد، وإن كان ينظر إلى الامام لم يصح اقتداؤه بالامام في المسجد، وإن كان هناك باب مفتوح، فوقف متصلا بالمسجد، وألصق منكبه بمنكب مصل في المسجد بأن كانت العتبة رقيقة وامتدت الصفوف إلى العتبة جاز، وإن كانت العتبة عريضة، ولم يقف عليها واحد، فعلى الوجهين، ثم إذا وقف بجنبه آخر حتى انجر الصف إلى ما انجر جاز، ولو وقف متباعدًا عنه إن كان يشقهم نهر، أو شارع لم يجز حتى يلصق المنكب بالمنكب، وإن كان لا يشقهم نهر ولا شارع وقف متباعدا منه على ثلاثمائة ذراع جاز، ولو وقف أمامه لا يجوز، وهو كالامام يجوز لمن صلى خلفه، ولا يجوز لمن صلى فيه، ولو وقفوا متلاصقين المناكب بالمناكب حتى دخلوا بيوتا، وأبنية جاز، ولو وقف امامه لا يجوز، فالبيوت أو الصفوف في الدار تفرد كل واحد منهما بحكمه، حتى لو وقفوا في صفة أو في بيت، وبين الامام والمأمومين قدر ثلاثمائة ذراع جاز، وإن وقف الامام في الصحن، والمأموم في الصفة، أو على العكس لم يجز، حتى تتصل الصفوف، فلا يكون بينهما أكثر مما يكون بين الصفين، وصحن الدار حكمه حكم الموات، والأرض المملوكة لمالك واحد، ولو كان بجنب المسجد حجرة، منخفضة السطح فوقف على سطحها، واقتدى بالامام في المسجد إن كان الصف الذي يليه في المسجد لا يحاذى بدنه جزءا من بدن واحد منهم لا تصح صلاته، وإن كان

يحاذي رأس واحد منهم ساقه، ولم يكن بينهما أكثر ما يكون بين الصفين صحت صلاته، وحكم المدارس والرباطات والخانات المسبلة حكم البيوت والدور يعتبر اتصال الصفوف فيها عند اختلاف البنيان، ولا يعتبر عند اتفاقها. قال المزني: قال: فإن صلى قرب المسجد، وقربه ما يعرفه الناس من أن يتصل بشيء بالمسجد، لا حائل دونه، فيصلي منقطعا عن المسجد أو فنائه، على قدر مائتي ذراع، أو ثلاثمائة أو نحو ذلك، فإذا جاوز ذلك، لم يجزه، وكذلك الصحراء، والسفينة، والامام في أخرى، ولو أجزت أبعد من هذا، أجزت أن يصلي على ميل. ومذهب عطاء أن يصلي بصلاة الامام من علمها، ولا أقول بهذا. قال المزني: قلت أنا: قد أجاز القرب في الإبل بلا تأقيت، وهو عندي أولى، لأن التأقيت لا يدرك إلا بخير. قال الشافعي: فإن صلى في دار قرب المسجد، لم يجزه، إلا بأن تتصل الصفوف، ولا حائل بينه وبينها، فأما في علوها، فلا يجزيء بحال، لأنها بائنة من المسجد، وروى عن عائشة رضي الله عنها، أن نسوة صلين في حجرتها، فقالت: لا تصلين بصلاة الامام فإنكن دونه في حجاب. قال القاضي حسين: وقربه ما يعرفه الناس من أن يتصل بشيء من المسجد لا حائل دونه، فيصلي منقطعًا عن المسجد، أو فنائه على قدر مائتي ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، أو نحو ذلك. صورة المسالة مسجد على بسط من الأرض، وينتهي حد المسجد إلى خط معلوم، فوقف الامام في المسجد، والمأموم في جد المسجد على ثلاثمائة ذراع جاز، وإن كان من الامام على قدر خمسمائة ذراع، وهذا من كلام الشافعي

رحمه الله دليل على اختلاف الأملاك لا تجعل كاختلاف الأبنية، لأن الخطة مختلفة في هذه الصورة، بعضها مسجد، والبعض ليس بمسجد. وقول الشافعي: أو فنائه منهم من قال: أراد بالفناء صحن المسجد. ومنهم من قال: أراد به حريم المسجد. وهو الموضع الذي قرب من المسجد متصلا فيه، يلقى فيه ثلج المسجد وغيره، وليس بمسجد حتى لا يحرم للجنب المكث فيه، فعلى هذا إذا وقف في الفناء على هذه المسافة صحت صلاته مقتديًا بالامام، وإن كان هو من خطة المسجد على خمسمائة ذراع، وحصل من هذا أن فناء المسجد هل يجرى به مجرى المسجد في هذا المعنى؟ فوجهان: وأما السفينة في البحر حكمها حكم الدار والخان، وإذا كان في البحر سفينتان، وقف الإمام في إحديهما، والمأموم في أخرى، وإن كانت مسقفتين فحكمهما حكم بيتين، ولا بد من اتصال الصفوف، وإن كانتا غير مسقفتين، فحكمهما حكم دكتين، لا يعتبر اتصال الصفوف بينهما، فعلى هذا لو كان في الموات، أو في صحن دار دكة، أو دكتان، وأكثر، فحكم الدكك حكم الصحن، ولا يختلف به شيئا. فأما إذا كان في المسجد نهر، فإن حفر فيه بعد ما جعل المسجد مسجدًا، فإنه لا يجوز، ولكن لايمنع الاتصال، حتى لو وقف الامام على جانب، والمأموم على جانب آخر من النهر جاز، وإن حفر قبل أن يجعل مسجدًا إن كان صغيرًا فهكذا، وإن كان كبيرًا، فعلى وجهين: وقول الشافعي: ولو أجزت أبعد من هذا أجزت إلى ميل، أشار إلى أنه لا بد من تقريب، وإلا عدل في التقريبات، هذا الذي قلته إذ لو جوزت أكثر من ذلك لجوزت أن يقف من الامام على ميل وميلين، ومثل هذا لا يعرف اقتداء في العادة. ثم إن المزني رحمه الله أنكر هذا التقريب، وقال: أجاز الشافعي

رحمه الله القرب بلا تأقيت، وهو عندي أولى؛ لأن التأقيت لا يدرك إلا بخبر وهذا غير صحيح لأن القرب مجهول، ومختلف في العادة، والتقريب الذي ذكر في غير الإملاء أبعد عن الجهالة، وأقرب إلى العادة، فكان أولى بالمصير إليه. وقال عطاء: الاعتبار بعلمه وجهله بأفعال الإمام، إن كان عالمًا بأفعال إمامه، صح الاقتداء به، اختلف البنيان أو اتفق، قربت المسافة أو بعدت، والدليل على فساد قوله ما روى أن نسوة كن يصلين في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الإمام في المسجد. وقالت عائشة رضي الله عنهما: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله، ومن خرج من إمامه الإمام، فأتم لنفسه لم يبين أن يعيد من قبل أن الرجل خرج من صلاة معاذ بعد ما افتتح معه، فصلى لنفسه وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلم نعلمه أمره بالإعادة. قال القاضي حسين: قيل: علق الشافعي رحمه الله القول في جواز الخروج من صلاة الإمام، ومال إلى أنه جائز ها هنا. واختلف أصحابنا فيه على طرق. فمنهم من قال: له أن يخرج نفسه من صلاة الإمام عند العذر قولا واحدًا، وإن لم يكن عذر فقولان. ومنهم من قال: لا يخرج نفسه من صلاة الإمام، إن لم يكن له عذر وإن وقع له عذر فعلى قولين: ومنهم من أطلق القولين. وجه قولنا: يجوز أن يخرج نفسه من صلاة الإمام، ويكمل الصلاة لنفسه ما روينا في خبر معاذ، فرفع تلك الحكاية إلى النبي، فلم ينكر على ذلك

الرجل، ولأن في الاقتداء اكتساب الفضيلة، لا غير، وفي تركها ترك الفضيلة وتركها لا يوجب بطلان الصلاة، كترك السورة والتسبيحات، وغيرها من هيئات الصلاة. ووجه قولنا: لا يخرج نفسه عن صلاة الإمام، أنه يؤدي إلى المخالفة، وتغيير صفة الصلاة، فمنع منه. فرع لو اقتدى برجل في ليلة ظلماء، فصلى خلفه، ثم أشكل عليه أنه هل تأخر عنه أو تقدم عليه؟ ننظر فإن جاء وراء الإمام صحت صلاته، لأن الأصل ألا يتقدم عليه، وإن جاء قدام الامام لا تصح صلاته، لأن الأصل أنه لا يتأخر عنه.

باب صلاة الإمام وصفة الأئمة

باب صلاة الإمام وصفة الأئمة. قال الشافعي: وصلاة الأئمة ما قال أنس بن مالك: ما صليت خلف أحد قط أخف، ولا أتم صلاة من رسول الله ورى عنه عليه السلام، أنه قال: فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف. قال القاضي حسين: المستحب للإمام أن يخفف الصلاة، ولا يطول الأركان مثل: القيام والقراءة والركوع والسجود. روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم إن كان وحده فليطل ما شاء، وإن كان إماما فليخفف، فإن خلفه الضعيف والسقيم وذا الحاجة. وعن أنس: ما صليت خلف أحد قط أخف، ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه انه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في التمام. وروى أنه عليه الصلاة والسلام كان أخف الناس صلاة للناس، وأطول

الناس صلاة لنفسه، إلا أن المستحب للإمام أن يأتي بالأركان، والأبعاض، والهيئات كما للمنفرد، ثم يخفف بعد أن يأتي بها على الكمال. قال المزني: قال: فيؤمهم أقرؤهم، وأفقههم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن لم يجتمع ذلك في واحد، فإن قدم أفقههم، إذا كان يقرأ ما يكتفي به في الصلاة، فحسن وإن قدم أقرؤهم، إذا علم ما يلزمه، فحسن، ويقدم هذان على أسن منهما، وإنما قيل، يؤمهم أقرؤهم، أن من مضى كانوا يسلمون كبارًا، فيتفقهون قبل أن يقرءوا، ومن بعدهم كانوا يقرءون صغارا قبل أن يتفقهوا، فإن استووا، أمهم أسنهم، فإن استووا، فتقدم ذو النسب، فحسن. وقال في القديم: فإن استووا، فأقدمهم هجرة، وقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش. قال: فإن أم من بلغ غاية في خلاف الحمد في الدين، أجزأ، صلى ابن عمر خلف الحجاج. قال القاضي حسين: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فليؤمهم أقرؤهم، وإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، وإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، وفي بعض الروايات، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنًا. وللإمامة خصال يقع بها الترجيح، وهي مثل الورع، والقراءة، والفقه، وسبق الهجرة، والسن، والنسب، وبعض هذه الخصال مكتسبة والبعض غير مكتسبة، ثم بعد هذه الخصال خصال أيضا يرجح بها، وهي مثل حسن

الصناعة، وطيب النعمة، ونقاء الثوب، وحسن الوجه، ولا خلاف أن المكتسبة من هذه الخصال الستة مقدمة على غير المكتسبة ثم المكتبسة أيضا على مراتب، فالورع مقدم على غيره من الخصال؛ لأن هذه سفارة بين العبد، وبين الله تعالى، وفي السفارات يرشح لها من هو الأوجه عند توقع الحاجة إليه. وأما الأوجه عند الله هو الأكرم والأتقى، قال الله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). قال رضي الله عنه: ويحتمل أن يقال: الفقه، والقراءة أولى لأن الخبر فيها ورد، والنبي صلى الله عليه وسلم تعرض لهما دون الورع، فدل أنهما أهم وأولى، وإن استويا في الورع فالأقرأ أولى، وإن استويا في الورع والقراءة فالأفقه أولى، وإن استويا في الورع والفقه والقراءة، فالأسبق هجرة أولى، ومعنى سبق الهجرة أن يكون أحدهما أسلم منذ عشر سنين، والأخر اكتسب من الطاعات والخيرات، ما لم يكتسبه حديث العهد بالإسلام، وإن استويا في الخصال الأربع، فالأسن منهما أولى، فإن استويا في السن، فالأرفع نسبًا أولى، إن كان أحدهما أرفع نسبًا من صاحبه، فإن كان أحدهما أقرأ، والآخر أفقه، فالأفقه أولى عندنا. وقال أبو حنيفة: الأقرأ أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم الأقرأ وبدأ به. أجاب الشافعي رحمه الله عليه، لأن هذا خطاب لأولئك الذي كانوا على عهده عليه السلام، وهم أنهم كانوا يسلمون كبارًا، ويتفقهون قبل أن يقرءوا، فكان لا يوجد قاريء منهم إلا وهو فقيه، وكان يوجد الفقيه، وهو ليس بقاريء فإنه قيل: لم يحفظ القرآن من الصحابة كله إلا ستة نفر: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت وقيل: عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، ولأن ما يجزئه من القراءة في الصلاة محصور، وما يقع من الحوادث فيها غير محصورة، فقدم الأفقه بهذا المعنى، وإذا كان أحدهما أسن، والآخر أنسب فقولان:

أحدهما: الأسن الأولى، لأنه فضيلة في ذاته، والنسب فضيلة تكون في ذات الغير. والثاني: النسب أولى، لأنه يشبه المكتسب، فإن قريشًا سميت قريشًا، لأنهم يقرشون الطعام، ويقرون الضيف، وكان يسمى بنو هاشم كذا بنو هاشم، لأن جدهم كان يهشم الثريد للناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قدموا قريشًا، وقال عليه السلام: الأئمة من قريش. وحكي المزني رحمه الله عليه عن القديم، فإن استووا فأقدمهم هجرة منهم من قال: أراد به هجرة آبائه، فعلى هذا يكون ذلك جوابًا على القول الذي يقول: النسب أولى من السن. ومنهم من قال: أراد به هجرة نفسه، فعلى هذا يعود الأمر إلى ما بيناه من أن أسبقهما هجرة يقدم على الأسن والأنسب. ومن أسلم بنفسه كان أولى ممن أسلم بأحد أبويه، وإن تأخر إسلامه عن إسلام من أسلم أبواه، لأنه إذا أسلم بنفسه، فقد اكتسب هو تلك الفضيلة، بخلاف الآخر، والأورع الفقيه في باب الأمامة أولى من الأفقه الورع، وفي باب الفتوى، الأفقه الورع أولى من الأورع الفقيه. والفرق ما بيناه من أن الإمامة سفارة، وأن استويا في الفقه والقراءة، وكان أحدهما أقدم هجرة والآخر أنسب، ففيه قولان:

قوله: فإن أم من خلع عنانه في خلاف الحمد، أجزأه. تظرف الشافعي رحمه الله في العبارة، وإنما أراد به الفاسق الذي خلع العذار، فإمامته جائزة، إلا أن يكره الصلاة خلفه، ويكره له أن يصلي بالناس، وهكذا كل إمام يكرهون إمامته يكره له أن يؤم بهم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقبل الله صلاة من يؤم قومًا وهم له كارهون وصلاة امرأة زوجها عاتب عليها. أي غضبان: يقال: عتب الزوج، على زوجته، وسخط السلطان على رعيته، ووجد الوالد على ولده، وغضب السيد على عبده. هذا إذا كانوا يكرهون إمامته لمعنى فيه من زنا، أو شرب الخمر، أو غير ذلك من وجوه الفسق، فأما إذا كانوا يكرهونه من غير موجب لم يكره أن يؤم بهم، لأن الذنب لهم، ووبال الكراهة عليهم. قال المزني: ولا يتقدم أحد في بيت رجل إلا بإذنه ولا في ولاية سلطان بغير أمره، ولا في بيت رجل أو غيره، لأن ذلك يؤدي إلى تأذيه. قال القاضي حسين: أما السلطان أولى بالإمامة في الصلوات الخاصة، والعامة، والصلوات العامة: مثل العيدين، والخسوفين، والجمعة، والاستسقاء وإن جوزنا دونه. والخاصة: مثل الصلوات المفروضات إذا اجتمع السلطان وغيره، فالسلطان أولى من صحاب البيت إذا اجتمعا، وصاحب البيت أولى من الأجنبي، والمستأجر أولى من الآجر، ويعني بصاحب البيت الساكن فيه لا المالك، والمستغير أولى من المعير، والمكاتب أولى من السيد.

قال الشافعي رحمة الله عليه في موضع العبد اولى، ومعلوم أن العبد يملك له، وإنما أراد به في غير المولى، أو أراد به المكاتب مع المولى، وإذا اجتمع المقيمون والمسافرون، فالمقيمون أولى. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحد أحدا في بيته، إلا بإذنه، ولا في ولاية سلطانه، إلا بإذنه، ولا يجلس على تكرمة أخيه إلا بإذنه. وإنما أراد بالتكرمة ما يكرم الإنسان الداخل عليه به من الوسادة ونحوها ينبغي للمرء ألا يجلس في الصدر إذا دخل على آخر، إلا بإذنه، ولهذا قيل في المثل: اجلس حيث تجلس، فإذا أذن له في الجلوس عليه حينئذ يجلس عليه.

باب إمامة المرأة

باب إمامة المرأة قال المزني: قال الشافعي رحمه الله أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ليث عن عطاء عن عائشة، رضي الله عنها، أنها صلت بنسوة العصر، فقامت وسطهن. وروى عن أم سلمة: أنها أمتهن، فقامت وسطهن. وعن علي بن الحسين: رضي الله عنهما: أنه كان يأمر جارية له تقوم بأهله في رمضان: وعن صفون بن سليم، قال: من السنة أن تصلي المرأة بنساء تقوم وسطهن، قال القاضي حسين: إقامة الجماعة لا تشرع للنساء حسب ما للرجال، فإنها فرض كفاية على الرجال أو سنة موكدة، وليست بفريضة، ولا سنة على النساء، وهذا كما أن النساء لا يسن لهن الآذان، ولا تشرع لهن الإقامة حسب ما شرعت للرجال، فإن أردن الصلاة بالجماعة، فالمستحب أن يقف إمامته وسطهن، فإن تقدمت إمامتهن كإمام الرجال جاز. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على النساء أذان، ولا إقامة، ولا جمعة، ولا اغتسال من الجمعة، ولا تتقدمهن إمامتهن، لكن تقف وسطهن.

وعن عائشة رضي الله عنها، أنها صلت بنسوة العصر فقامت وسطهن وعن أم سلمة أنها أمتهن فقامت وسطهن. وعن على بن حسين: أنه كان يأمر جارية تقوم بأهله في رمضان. وعند أبي حنيفة: تكره لهن الجماعة، والله أعلم بالصواب.

باب صلاة المسافر والجمع في السفر

باب صلاة المسافر والجمع في السفر قال المزني: قال الشافعي رحمه الله: وإذا سافر الرجل سفرًا يكون ستة وأربعين ميلا بالهاشمي فله أن يقصر الصلاة، سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا، فقصر. وقال ابن عباس: أقصر إلى جدة وإلى الطائف وعسفان. قال الشافعي: وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلا بالهاشمي، وسافر ابن عمر إلى ريم فقصر، قال مالك: وذلك نحوٌ من أربعة برد. قال القاضي حسين: لا عذر من الأعذار يفيد إباحة القصر إلا السفر،

فأما المرض والخوف وغيرهما لا يبيح القصر، والأصل في جواز القصر لعذر السفر قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة). والخوف ليس يشترط في جواز القصر، خلافا لداود، واحتج بظاهر الآية على ذلك، والجواب عنه أن الآية وردت على وجه الأعم الأغلب، والغالب من أمر الأسفار الخوف قال عليه السلام، إن المسافر ومتاعه لعلي قلت، إلا ما وقي الله تعالى: ويدل عليه أنه عليه السلام سافر آمنا فقصر. وعن يعلي بن أمية أنه أتى عمر فقال له: ما بالنا نقصر، وقد أمنا، وقد قال

الله تعالى: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم. فقال: تعجبت مما تعجبت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: هذه تصدق الله على عباده فأقبلوا صدقته. ثم إنما نجوز القصر في السفر الطويل. وقال داود: إنه جائز في السفر الطويل والقصير، واحتج بظاهر القرآن، وعندنا هي محمول على السفر الطويل بدليل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد. فعند الشافعي رحمه الله سفر القصر ستة عشر فرسخا. واختلفت عبارات الشافعي رحمه الله في كتبه عن السفر الذي يجوز القصر فيه، فنص ها هنا على أنه يتقدر بستة وأربعين ميلا بالهاشمي. وقال في موضع آخر: بثمانية وأربعين ميلا.

وقال في موضع آخر: إذا جاوز أربعين ميلا جاز القصر. وقال في موضع آخر: هي أربعة برد. وقال في موضع: مسيرة ليلتين قاصدتين حمل الأثقال، ودبيب الأقدام. وقال في موضع: مسيرة يوم وليلة، والمسألة على قول واحد أنه ستة وأربعون ميلا بالهاشمي كل ثلاثة أميال، منها فرسخ، مجموعها خمسة عشر وثلث فرسخ، إلا أن أصحابنا قدروه بستة عشر فرسخًا للاحتياط. وحيث قال: ثمانية وأربعون ميلا عدا الميل الذي يرتحل فيه، والذي يرتحل إليه، وحيث قال: إذا جاوز الأربعين قصر، مطلق، وهذا مقيد، والمطلق محمول على المقيد، وحيث قال: أربعة برد، أراد به برد الحجاز، وذاك يكون بالنعال كل يريد منها أربعة فراسخ. وحيث قال: مسيرة ليلتين قاصدتين، أراد به مرحلتين، والمرحلة لا تنقص عن ثمانية فراسخ في الغالب. وحيث قال: مسيرة يوم وليلة، أراد به إذا كان يدأب المشي، ويداوم عليه والإنسان في العادة يمكنه قطع ستة عشر فرسخا في يوم وليلة، إذا داوم على المشي

وقال أبو حنيفة: سفر القصر ثلاثة أيام ولياليهن. والدليل على أنه مرحلتان ستة عشر فرسخا ما روى عن ابن عباس أنه قال: أقصر إلى جدة، وإلى عسفان، وإلى طائف.

قال الشافعي رحمه الله وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وما رويناه أنه قال عليه السلام: يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد. والفقه فيه أن هذه الرخص إنما تثبت في السفر لما يلحقه من تحمل المشقة، وما يصيبه من الأذى، والشدة بالاغتراب عن الأهل والوطن، وهذه معان حاصلة بمفارقة المنزل ليلة وليلتين وجب أن تثبت الرخصة المتعلقة بالسفر، وحاصل المذهبين أنهم يعتبرون بالزمان، كأقل الحيض والنفاس وفي العبادات التقدير أبدا بالزمان لا بالمكان، ونحن اعتبرنا بالمكان وهو الأصح، لأن المسافة التي اعتبرنا نحن، وهو ستة عشر فرسخا لا يتفاوت، سواء كان ذلك برا أو بحرا، أو الطريق سهلا، أو خشنا، فإنه إنما يعتبر المسافة أن تبلغ ستة عشر فرسخا، وهم إذا اعتبروا ذلك بالزمان، فيتفاوت إذا كان صعودا أو هبوطا، أو خشنا لا يمكنه في ثلاثة أيام أن يسير أكثر من عشرة فراسخ، وإذا كان سهلا يمكنه أكثر من ذلك، وكذا في البحر فما قلناه من هذا الوجه يكون أولى.

قال المزني: وأكره ترك القصر، رغبة عن السنة، فأما أنا، فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام، احتياطًا على نفسي، فأن ترك القصر مباح لي، قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم. قال القاضي حسين: القصر عندنا رخصة وليس بعزيمة.

وقال أبُو حَنِيفَةَ ومالكٌ: القصر عزيمة، ولا يجوز الإتمام، حتى لو أتم لم تصحَّ صلاته، ولم يسقط به الفرض عنه، إلا أن عند أبي حنيفة لو اقتدى بمقيم يتم أربعًا. وعند مالك: وإن اقتدى بمقيم لا يجوز له أن يتمها أربعًا، فالدليل على أن القصر ليس بعزيمة ما روي عن أنس أنه قال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنَّا من قصر، ومنا من أتم، ومنا من صام، ومنا افطر، ولم يعب بعضنا بعضا. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما انصرفنا قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ماذا صنعت في سفرك؟» فقلت: صمت ما أفطرت، وأتممت ما قصرت، فقال: «أحسنتِ».

ولأنه نوع تخفيف يجوز للمسافر لعذر السفر، فلا يتحتم عليه كالفطر، ولو ترك القصر إن اعتقد أنه ليس بسنة، فقد كفر، لأنه يخالف النص والاجماع وإن اعتقد كونه سنة، وواظب على تركه، فمكروه، وإن كان يتركه أحيانا ويفعله أحيانا، فلا بأس به. والقصر أفضل أم الإتمام؟ فعلى قولين: أحدهما: القصر أفضل للخروج من الخلاف، ولقوله عليه السلام: «إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه». ولقوله عليه السلام: «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته». والقول الثاني: الإتمام أفضل، لأنه الأصل، وفيه أكبر العبادة. وأما الصوم مع الفطر أيهما أفضل؟ من أصحابنا من جعل فيها قولين، كما في القصر مع الإتمام، والصحيح أن الصوم أفضل؛ لأنه إذا أفطر لا يمكنه حيازة الوقت، وفي الصلاة يمكنه حيازة فضيلة فعل الرخصة، وفضيلة الوقت. قال: فأما أنا فلا أحِبّ أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام احتياطًا على نفسي، وإنما قال ذلك للخروج من الخلاف. هذا كما قال رحمه الله في الركاز بعد أن بين ذهبه في أن الواجب في المعدن يختص بالذهب والفضة، ولا يزيد على ربع العشر، وفي الركاز يختص بالذهب والفضة، فقال، ولو كنت أنا الواجد لخمست القليل والكثير، والذهب والفضة وغيرها، ولو فخارة وقال في الكتابة: وإني لا أمتنع عن كتابة عبد، جمع القوة والأمانة، وإنما

أستنبطه للخروج من الخلاف، فإن داود يوجب كتابة من جمع القوة على الكسب، والأمانة من العبيد. وقد استنبط الشيخ أبو زيد من هذا أن الإيثار بثلاث أفضل عنده من الإيتار بواحدة، لأن الثلاث وتر عند بعض الناس، والركعة المختلف فيها، والثلاث المتفق عليها. قال أصحابنا: الإيتار بواحدة أفضل لمعنيين: أحدهما: انه وجد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ولم يوجد في الثلاث. والثاني: أنه إنما يصار إلى الاحتياط عنده، إذا لم يكن في ذلك ارتكاب محظور، أو فعل مكروه، وفي الاتيان بثلاث يؤدي إلى ارتكاب محظور أو مكروه فإن شرط الوتر عنده أن يتشهد في الركعة الأولى عقب رفع رأسه من السجدة الأخيرة. وفي الإتيان بثلاث لا تشهد في الأولى. وفي الفصد والحجامة يستحب له أن يتوضأ إذا صار وضوءه خلفا بأن أدى به فرضًا أو نافلة. فأما إذا لم يؤد به شيئا، فلا يستحب، لأن تجديد الوضوء مكروه قبل أن يؤدي بالأولى صلاة ما، لأنه يؤدي على الزيادة على الأربع. ويحكي عن ابن سريج أنه كان بعدما قصد مس ذكره، ثم توضأ، وهذا ليس بقوي، لأنه لا فرق عندنا بين ما لو أحدث أو مس ذكره. قال الشافعي: وأحب للمسافر أن يمسح على الخفين إذا كان يغسل رجليه رغبة عن السنة، ولم يرد به أن مسح الخف أفضل من غسل الرجلين، وإنما أراد به أنه يستحب للمسافر أن يمسح على خفيه إذا كان لا يمسح رغبة عن السنة. قال المزني: ولا يقصر إلا في الظهر، والعصر، والعشاء الآخرة، فأما المغرب والصبح، فلا يقصران.

قال القاضي حسين: كل صلاة هي ذات أربع ركعات تقصر في السفر، مثل الظهر والعصر والعشاء. فأما الصبح والمغرب، فلا يقصران؛ لأنهما مخففتان في الأصل، فما احتيج فيهما إلى تخفيف السفر، ولأنه لو قصر الصبح لرجع إلى ركعة واحدة، والركعة الواحدة، لا أصل لها في الفريضة. وأما المغرب فهي وتر النهار، ولو نقص منها ركعة لصار شفعا، وحقيقة القصر تشطير عدد ركعات الصلاة إلى أقل ما لها أصل في الفريضة. روى عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت، فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرب صلاة السفر على ما كان إلا الصبح والمغرب. أما المغرب لأنها وتر النهار. وأما الصبح بطول القنوت. وقولها: إلا الصبح، استثناء من الزيادة، أي زيدت في الصلوات كلها في الحضر، إلا الصبح. وقوله: إلا المغرب فإنه زيد عليها ركعة، فزيد على الصلوات كلها في الحضر ركعتين، إلا المغرب، فإن الزيادة فيها ركعة، وإذا اجتمع الخوف والسفر لم يجز رد الصلوات إلى أقل من ركعتين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: صلاة المقيم أربع ركعات، وصلاة المسافر الآمن ركعتان، وصلاة الخائف ركعة واحدة، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بـ (ذي قرد) صلاة الخوف، فصلى بطائفة ركعة وسلم وسلموا، ثم صلى بطائفة ركعة، وسلم وسلموا.

وعندنا هي منسوخة بصلاته عليه السلام بـ (عسفان) ـ و (ذات الرقاع).

قال المزني: وله أن يفطر أيام رمضان في سفره ويقضي فإن صام فيه، أجزاه، وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في سفر قال القاضي حسين: المسافر عندنا يتخير بين الصوم والفطر، ولا يتحتم عليه أحدهما. وقال داود: يتحتم الفطر في السفر، واحتج بقوله عليه السلام: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وبقوله عليه السلام: ليس من البر الصيام في السفر. والأخبار المحمولة على نفي الكمال، وبيان المستحب، بدليل ما روى أنه عليه السلام صام في السفر وأفطر. قال المزني: وإذا نوى السفر، فلا يقطر، حتى يفارق المنازل، إن كان حضريا ويفارق موضعه إن كان بدويًا. قال القاضي حسين: رخص السفر لا تثبت إلا بشرطين: أحدهما: فعل السفر. والثاني: نية السفر، فلو تعرى السفر عن النية لم يترخص برخصِ

المسافرين، وذلك مثل الهائم على وجه الأرض الذي ليس له غرض صحيح، ولا مقصود بسفر، وكذلك المتكدية الذي يسيرون على وجه الأرض، فإذا وجدوا خصبًا نزلوا به، وإذا وجدوا طعاما ملء بطونهم أقاموا به. والمعنى في اشتراط النية أن السفر مما يؤثر في العبادات، والمؤثر في العبادة لا يستنغني عن النية، ولو تعرى النية عن فعل السفر لم يترخص، بهذه الرخص حتى ينضم إلى فعل السفر، بخلاف ما لو نوي الإقامة، فإن يصير مقيمًا في الحال. والفرق أن الأصل في الناس هو الإقامة، فإذا نواها عاد إلى الأصل، ولم يعتبر تحقيق النية بالفعل، والسفر عارض، فاعتبر في تحقيق نيته انضمام الفعل إليه، وهكذا كما نقول في القنية مع التجارة في الزكاة إذا نوي مال القنية التجارة لا يصير للتجارة حتى ينضم إليه فعل التجارة، وإذا نوى القنية في مال التجارة صار للقنية بمجرد النية لهذا المعنى، وهو أن الأصل في الأموال القنية، فعاد صار للقنية بمجرد النية لهذا المعنى، وهو أن الأصل في الأموال القنية، فعاد إليها بمجرد النية، والتجارة عارض، فلم يصر إليها بمجرد النية حتى ينضم الفعل إليها، فكذا السفر مع الإقامة، وأيضا المسافر إذا نوي الإقامة عزيمته تلائم حالته، لا أن أكثر ما فيه أنه في السفر منقلب منصرف، والمقيم في الغالب يكون على هذه الصفة، والمقيم إذا نوى السفر عزيمته لا تلائم حالته. والفرق الأول أظهر، ثم إذا اجتمع الشرطان: فعل السفر، والنية لم يترخص بالرخص حتى يفارق الموضع الذي يخرج منه وما هو منسوب إليه في العرف، والعادة إذا كان قد خرج من بلد له سور حتى يفارق السور، وإن كان به درب حتى يفارق الدرب، وإن كان به قنطرة متصلة بعمرانات البلد مثل مرو الروذ، فحتى يفارقها، وإن كان في البلدة خرابات كانت عامرة فيما مضى من

الأيام حتى يفارقها، وإن كان يخرج من قرية، فحتى يفارق الدور المتلاصقة والمتنابذة، والبساتين التي تعد من العمران لاتصالها بها، والمقابر المتصلة بالعمرانات، فأما المزارع حوالي البلد، والقرية لا يعتبر مفارقتها، لأنها قد تمد فراسخ حول البلد وإن كان من أهل الخيام، والحلل فحتى يفارق القباب المضروبة والخيام المتنابذة، والمتلاصقة وفناءها، وما هو مطرح الرماد وملقى السماد ومعاطن الإبل، وملعب الصبيان، ومتحدث النادي، وعقد الباب إنما يعد من الجملة مخرجه في العرب والعادة تعتبر مفارقته في جواز القصر، وفي الرجوع ينتهي جواز القصر في الموضع الذي ابتدأ القصر منه، ولو فارق البلد المنسوب إليه وبلغ حدا يباح له القصر فنوي الرجوع إلى البلد لحمل متاع نسيه أو لغسل أنفه إن كان قد رعف، نظن إن كان من جملة المقيمين بالبلد بأن كان له به أهل وولد وعلقه صار مقيمًا بمجرد النية، وانقطع حكم السفر حتى لا تثبت له الرخص ما لم ينشيء فعل السفر والنية. وإن لم له بالبلد علقة بأن كان غريبا به لم ينقطع حكم سفره، ولو نوى مسافة لا تقصر الصلاة فيها، ثم في خلال الطريق ضم إليها بما بمجموعه يبلغان مسافة القصر نظر: فإن كان من المواضع الذي ضم الزيادة إلى ما نواه يبلغ مسافة القصر جاز له القصر، وإلا فلا. ولو نوى مسافة القصر، ثم غير نيته في خلال الطريق، ونوي المقام بقرية في خلال الطريق، مثل أن يقصد في مرو الروذ، والخروج إلى سرجس، ثم لما فارق البلد نوي القيام في خمس قرى، وثبت له الرخص ما لم يدخل خمس قرى، فإذا دخلها صار مقيمًا في الحال، والفرق أنه في هذه المسألة انعقد له سبب الرخصة، فلم يرتفع إلا بتحقيق فعل الإقامة. وإذا نوى مسافة لا تقصر فيها الصلاة، ثم ضم إليها ما بمجموعها يبلغان مسافة القصر لم ينعقد له سبب الرخصة، فلم تثبت له الرخصة. ونظيره رجل أبق له عبد، فنوي الخروج إلى بلد بعينه يقصر إليه الصلاة لطلب عبده به، ثم في خلال الطريق قصد الانصراف إذا استقبله العبد الذي خرج في طلبه جاز له القصر إلى أن يظفر بالعبد والصديق.

ولو كان قد خرج على هذا القصد، وهو أن ينصرف مهما وجد العبد لم يجز له القصر. وكذلك لو خرج إلى بلد لزيارة صديق له، ثم في خلال الطريق عرض له أن ينصرف مهما استقبله الصديق جاز له القصر، وإن كان لو خرج في الابتداء على هذه العزيمة، وهو أن ينصرف إذا استقبله صديقه لمن يجز له القصر. وكذلك قال الشافعي رحمه الله: لو أن أعرابيًا سام نوقًا فانتجع سيارة تتبع مواقع القطر إن قصد مسافة القصر جاز له القصر، وإن عزم في خلال الطريق أن يقيم بكل موضع وجد به خصبًا له القصر ما لم يجد خصبًا. ولو أنه خرج على عزيمة أن ينزل بكل موضع وجد خصبا لم يجز له القصر. وهذا للمعنى الذي ذكرناه، وهو أنه إذا قصد مسافة القصر في الابتداء انعقد له سبب الرخصة، فإذا لم يعقد على الجزم مسافة القصر لم ينعقد له سبب الرخصة. وعلى هذا العاصي بسفره لا يترخص المسافرين، وإذا عصى في سفره ترخص برخص المسافرين، لأنه انعقد له سبب الرخصة، فلم يرتفع بفعل المعصية. ونظيره في غير القصر إذا وجد لقطة، فأخذها على قصد الإمساك للمالك، ثم نوي التملك في خلال الحول، والإمساك لنفسه لا يدخل في ضمانه بمجرد النية، حتى ينضم إليه النقل والتصرف، ولو وجدها فأخذها على عزم الإمساك والتملك دخل في ضمانه بمجرد الأخذ والقصد إلى التملك كذا ها هنا. ولو أنه في خلال الطريق نوي الانحراف إلى موضع آخر جاز له القصر ما لم يبلغ الموضع الذي نوى الانحراف عنه، وإذا بلغه إن كان بينه، وبين المقصد الثاني مسافة القصر، جاز له قصر إذا أنشأ الخروج إليه، وإلا فلا. وإذا نوي مسافر المقام في مفازة، هل يصير مقيما أم لا؟ فعلى وجهين

مستنبطين من مسألة، وهو أنه إذا دخل بلدًا مجتازًا، وله به أهل وولد هل يجعل مقيمًا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصير مقيمًا لعدم نية الإقامة، فعلى هذا يصير مقيمًا بنية الاقامة في المفازة، وإن كان المكان غير صالح لمقام مثله فيه. والثاني: يصير مقيمًا لصلاح المكان، لإقامة مثله فيه، فإن الغالب أنه يقيم ببلد أهله وولده، فعلى هذا لا يصير مقيما بالمفازة، إذا نوي المقام بها، لأن المكان غير صالح لإقامة مثله فيه. وإذا قصد الخروج إلى قرية، والرجوع عنها، ومسافة الخروج والرجوع مجموعها يبلغ مسافة القصر لا يجوز له القصر، لأن قصد ارجوع غير قصد الخروج. ولو أنشا سفرا يبلغ مسافة القصر، ثم في خلال الطريق ردد النية، فقال: أقصر أم لا: ففي الحال يصير مقيمًا. وقال في الكرة الثانية: لو أنشأ سفرًا من مرو الروذ إلى سرجس في خلال الطريق نوي الانحراف إلى مرو في الحال يصير مقيمًا لقطع تلك الجهة، ثم ينظر إن كان بينه وبين البلد الذي قصده مسافة القصر يجوز له القصر، وإلا فلا، والله أعلم. قال المزني: فإن نوي السفر فأقام أربعة أيام، أتم الصلاة وصام واحتج فيمن أقام أربعة يتم، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمني ثلاثا يقصر، وقدم مكة، فأقام قبل خروجه إلى عرفة ثلاثا يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه، لأنه كان فيه سائرا، ولا يوم التروية الذي خرج فيه سائرًا. وأن عمر رضي الله عنه أجلى أهل الذمة من الحجاز، وضرب لمن يقدم

منهم تاجرًا مقام ثلاثة أيام، فأشبه ما وصفت أن يكون ذلك مقام السفر، وما جاوزه مقام الإقامة. وروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: من أقام أربعًا، أتم. وعن ابن المسيب: من أجمع إقامة أربع، أتم. قال الشافعي رحمه الله فإذا جاوز أربعا لحاجة أو مرض وهو عازم على الخروج أتم وإن قصر أعاد الا أن يكون في خوف، أو حزب فيقصر قصر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، لحرب هوازن سبع عشرة أو ثمان عشرة. وقال في الإملاء: إن أقام على شيء، ينجح اليوم واليومين: أنه لا يزال يقصر ما لم يجمع مكثًا، أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح سبع عشرة، أو ثمان عشرة يقصر، حتى خرج إلى حنين. قال المزني: ومشهور عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر؛ أخرج اليوم، وأخرج غدا. قال المزني: فإذا قصر النبي صلى الله عليه وسلم في حربة سبع عشرة، أو ثمان عشرة ثم ابن عمر، ولا عزم على وقت إقامة، فالحرب وغيرها سواء في القياس، وقد قال الشافعي لو قاله قائل، كان مذهبا قال الشافعي رحمه الله، فإن خرج في آخرج وقت الصلاة قصر، وإن كان بعد الوقت لم يقصر. قال المزني: أشبه بقوله أن يتم، لأنه يقول: إن أمكنت المرأة الصلاة، فلم تصل، حتى حاضت، أو أغمي عليها، لزمتها وإن لم تمكن لم تلزمها فكذلك إذا دخل عليها وقتها، وهو مقيم لزمته صلاة مقيم، وإنما تجب عنده بأول الوقت، والإمكان، وإنما وسع له التأخير إلى آخر الوقت.

قال القاضي حسين: والكلام في هذا الفصل في مدة مقام المسافرين، وما يصير به مقيمًا إذا نوى إقامتها، نص الشافعي رحمه الله وقال: لو نوى المسافر مقام أربع أتم الصلاة والصوم. وقال بعد هذا: ولو جاوز أربعة أيام لحاجة، أو مرض وهو عازم على الخروج اتم، وإن قصر أعاد، وليس النصين خلف في الحقيقة، إلا أن في الاقامة لم يحسب يوم الدخول والخروج فسوى يومي الدخول والخروج يحتاج إلى أربعة أيام وعليه يدل الخبر، وفي الفعل حسب يوم الدخول والخروج فيحتاج إلى المجاوزة مع الأربع حتى يصير مقيمًا. ومن أصحابنا من فرق بين النية والفعل، وقال: إن حصر الأربعة بالنية ممكن، فلم تعتبر المجاوزة عند النية، وحصر الأربع بالفعل غير ممكن، فاعتبر المجاوزة، وهذا كما أن غسل الوجه ممكن استيفائه بالنية من غير إدخال جزء من الرأس فيه. وهل يحسب يوم الدخول والخروج؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة، يوم الرابع من ذي الحجة وخرج يوم الثامن، وكان يقصر. والوجه الثاني: يحسب يوم الدخول والخروج، كما في المسح على الخفين يحسب يوم اللبس، والحدث في الثلاثة. ومن قال بهذا أجاب عن الحديث بأنه عليه السلام، يحتمل أنه دخل مكة بعد الزوال، وخرج قبل الزوال على عادة الحجيج، فإن العادة للحجيج أنهم يدخلون البلاد بعد الزوال، ويخرجون منها ضحوة النهار، وإن الحجيج يخرجون إلى منى بالغلس يوم الثامن، فخرج من هذا أنه لو دخل بلدا يوم الجمعة بعد الزوال، ونوي المقام إلى يوم الأربعاء، أو أقام بها إلى يوم الأربعاء لا تثبت له الرخصة، ولو نوي المقام إلى وقت الزوال من يوم الاثنين جاز له

القصر، ولو نوى المقام به إلى وقت العصر من يوم الثلاثاء، فعلى وجهين إن حسبنا يوم الدخول والخروج لم يجز له القصر وإلا جاز. وعند أبي حنيفة: مدة مقام المسافرين ما دون خمسة عشر يومًا حتى لو نوي مقام أربعة عشر يومًا جاز له القصر. وإذا نوي مقام خمسة عشر يومًا، أو تنجز حاجة لا تنتجز في أقل من خمسة عشر يوما صار مقيما. فالدليل على أن مدة مقام المسافرين ما دون الأربعة، وأن الأربعة مدة المقيمين ما روى أنه عليه السلام قال: يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا. فدل أن الثلاثة مدة مقام المسافرين لأنه إنما قال هذا عام عمرة القضاء، وإذ ذاك كان لا يحل للمهاجرين المقام بـ مكة، ومن أقام بها كان يبطل ثواب هجرته، وهو بين في قصة سعد بن أبي وقاص حين مرض بـ (مكة)، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم عائدا. وروى أن عمر رضي الله أجلي ايهود والنصارى من جزيرة العرب، وضرب لمن يقدم منهم تاجرًا مقام ثلاثة أيام، وإذا أقام ببلد على قصد ينتجز حاجة لا تنتجز إلا في أربعة أيام يصير مقيمًا، كما لو نوى مقام أربعة أيام.

فأما إذا أقام ببلد لحاجة تنجز اليوم واليومين على قصد الخروج إذا تنجزت ما حكمه؟ نص الشافعي رحمه الله، على أنه إذا جاوز أربعة أيام لحاجة أو مرض، وهو عازم على الخروج أتم، فإذا قصر أعاد. فرع. مسافر دخل بلدة، إن نوي مقام يومين، أو ثلاثة له القصر والفطر، وإن نوي مقام أربعة أيام ففي الحال يصير مقيمًا. ولو دخل بلدا، أو أقام على ما تنجز اليوم والومين يقول: أخرج اليوم وأخرج هذا فإن كان أمرا تيقن أنه لا يتم بدون أربعة أيام صار مقيما، وإن تيقن أنه يتم بدون ثلاثة أيام لا يصير مقيما. ولو قال: متى وجدت رفقة خرجت، فلا يصير مقيمًا في الحال، وإذا جاوز أربعة صار مقيمًا، نص عليه ها هنا، ونص بعد ذلك على أن الخائف إذا أقام سبعة عشر أو ثمانية عشر على عزم الخروج يجوز له القصر. وحكى عن الإملاء: أنه يجوز له القصر ما لم يجمع مكثا. ثم قال: والحرب وغيره سواء. وقال الشافعي رحمه الله: ولو قال به قائل كان مذهبا فاضطربت النصوص كما ترى، فمن أصحابنا من ضرب النصوص بعضها ببعض، وجعل في الأمن والخائف ثلاثة أقوال: أحدها: لا يقصر في أكثر من أربعة أيام؛ لأنه نص في حق الآمن على الأربعة، وشبه الخائف بالآمن بقوله: الحرب وغيره سواء. والثاني: يجوز القصر في سبعة عشر يوما أقام النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح بهوازن سعبة عشر، أو ثمانية عشر يقصر.

واختلفت الروايات في مدة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ هوازن، عام الفتح. فروى أنس انه عليه السلام أقام بها عشرة أيام. وروى عمران بن حصين أنه عليه السلام أقام بها سبعة عشر يومًا. وروى ابن عباس أنه عليه السلام أقام بها ثمانية عشر يومًا. وروى جابر أنه عليه السلام أقام بها عشرين يومًا، غير أن الشافعي رحمه الله، لم يصحح من هذه الروايات إلا رواية عمران بن حصين وابن عباس ورد رواية أنس وجابر.

والقول الثالث أنه يقصر أبدًا ما لم يجمع مكثًا لما روى عن ابن عمر أنه أقام بـ (أذربيجان) ستة أشهر يقصر، ويقول: اليوم أخرج أغدا أخرج؟ وروي عن مسور بن مخرمة أنه أقام ب فارس سنتين يقصر. ومن أصحابنا من قال: في الآمن قول واحد، إنه يقصر أربعة أيام لا غير، وفي الخائف الأقوال الثلاثة. وقوله بالحرب وغيره سواء تشبيه الآمن بالخائف حتى يخرج في الخائف. قول آخر: إنه لا يقصر أكثر من أربعة أيام، وليس ذاك تشبيه الخائف بالآمن، وما قال من أنه يقصر سبعة عشر يومًا في الخائف دون الآمن، وما نقله المزني عن الإملاء غلط في نقله، وإنما قال الشافعي ما لم يجمع مكثا، أو يجاوز أربعة أيام. وقول الشافعي: ولو قاله قائل كان مذهبا منهم من قال: أراد به أن يلحق مسألة الخوف بمسألة الأمن، فيخرج في الخوف قول آخر بأنه يقصر سبعة عشر يومًا، أو ثمانية عشر يوما ومن أصحابنا من قال في الخائف الأقوال الثلاثة، وفي الآمن قولان: أحدهما: يقصر مدة أربعة أيام. والثاني: يقصر سبعة عشر يومًا، فتشبيه الخائف بالآمن، وما نقله عن

(الإملاء)، غلط وقع له كما بينا، فحصل من هذه الطرق والاختلافات في الخائف ثلاثة أقوال، وفي الآمن ثلاثة طرق: أحدهما: يقصر أربعة أيام قولا واحدًا. والثاني: قولان: أحدهما هذا، والثاني: سبعة عشر يومًا. والثالث: في الآمن ثلاثة أقوال، كما في الخائف. واختار المزني أن يقصر أبدًا ما لم يجمع مكثًا، واحتج بحديث ابن عمر ومسور. والجواب: أن أذربيجان، وفارس قرى ونواح متفرقة، فيحتمل أنه كان يجوب فيها قاصدا مسافة القصر، فلهذا قصر لا لما قلت، والله أعلم بالصواب. قوله: وإن خرج في آخر وقت الصلاة يقصر، أما إذا سافر بعد خروج الوقت لا يجوز له القصر عندنا. قال المزني: له ان يقصر، واحتج بأن العبرة في العبادات بوقت الأداء، دون الوجوب يدل عليه أنه لو وجبت عليه الصلاة في حالة القدرة على القيام فأخرها حتى عجز عن القيام قضاها قاعدًا. ولو وجبت الصلاة في حالة العجز عن القيام، فأخرها حتى قدر على القيام قضاها قائمًا. والفرق بينهما أن إزالة المرض ليست إليه، وهو بغرض ان تخترمه المنية في كل ساعة، فلو كلفناه التأخير حتى يندمل المرض، ويقدر على القيام ربما تخترمه المنية، فتبقي ذمته مرتهنة بالصلاة، بخلاف ما نحن فيه، فإن قطع السفر إليه، وإتمام الصلاة في مقدوره، فقلنا: عليه أن يقطع السفر، ويتم أو يتم في السفر، لأن السفر لا ينافي الإتمام.

ولو سافر قبل خروج الوقت جاز له القصر، سواء سافر قبل التمكن من الأداء في الحضر أو بعده. واختار المزني للشافعي رحمه الله أنه لو سافر بعد التمكن من الأداء في الحضر لا يجوز له القصر، واحتج بأن الصلاة تجب عنده بأول الوقت، إذا مضى من الوقت قدر إمكان الفعل، ثم سافر أتم الصلاة، فإن سافر قبل مضى وقت الإمكان لا يتم حتى لو تمكن من الأداء، فلم يؤد، حتى جن أو حاضت يلزمهما القضاء، وإذا طرأ السفر بعد استقرار الصلاة لا يجوز له القصر عنده، كما بعد خروج الوقت عنده. فمن أصحابنا من قال: لا يجوز له القصر لما ذكره المزني. ومنهم من ضاق به الفرق، فركب مسألة الحائض والمجنون، وخرج قولا آخر: إنها لا تجب بأول الوقت، وهذا غلط، لأن المذهب أن الصلاة تجب بأول الوقت، وأنه لو أخرها بعد التمكن من الأداء، ثم جن أو حاضت يلزمه القضاء، وإنما جاز القصر، لأن القصر تجب بأول الوقت، وبكل جزء من أجزاء الوقت، فإذا سافر في آخر الوقت، فقد سافر في وقت كان للوجوب تعلق بها، فجاز القصر، كما في أول الوقت، فإن أخر الوقت وقت تجب فيه الصلاة مبتدأ بأن آفاق فيه المجنون، أو طهرت الحائض، أو بلغ الصبي، أو أسلم الكافر. وكل وقت تجب فيه الصلاة ابتداء جاز له القصر إذا سافر فيه، بخلاف ما بعد الوقت، فإنه لا تعلق للوجوب به بحال، وهذا فرق ظاهر. واحتج المزني بفضل آخر، وقال: لو شرع في صلاة الوقت، وهو مقيم، ثم أفسدها، ثم سافر لزمه الإتمام، لأن الصلاة وجبت عليه بأول الوقت. قلنا: لأنه التزم إتمامها بالشروع فيها في الحضر، فإذا أفسدها، ثم أراد أن يقضيها يلزمها أن يقضي كما التزم. وهذه حجة لنا لأبي حنيفة في مسألة صوم التطوع، وقد نص على أنه لو

سافر، وقد بقي من الوقت قدر ما يصلي ركعة فيها جاز له القصر، ويصلي ركعة وركعة خارج الوقت. وهذا من كلام الشافعي رحمه الله دليل على أنه إذا أدرك من الصلاة ركعة في الوقت فصلاها وصلى ركعة خارج الوقت، كان الكل أداء. وقد ذكرنا فيه وجها آخر: أن المفعولة خارج الوقت قضاء، والمفعولة في الوقت أداء لاستحالة وقوع العبادة أداء خارج الوقت. قال المزني: قال الشافعي: وليس له أن يصلي ركعتين في السفر، إلا أن ينوي القصر مع الإحرام فإن أحرم، ولم ينوي القصر، كان على أصل فرضه أربع. قال القاضي حسين: نية القصر شرط عندنا في جواز القصر، فلو أطلق النية لزم الإتمام. وقال أبو حنيفة: نية القصر ليست بشرط في جوازه، بناء على أصله، وهو أن القصر عزيمة، واقتضاه مطلق النية، وشرط اقتران نية القصر بالشروع فيها الصلاة حتى لو تأخرت النية عن الافتتاح يلزمه الإتمام، وإن شك هل نوي القصر؟ يلزمه الإتمام، وإن تذكر أنه نواه، وقد ذكرنا أنه لو شك في أصل النية، ثم تذكر في الحال جازت صلاته. والفرق أن زمان الشك في المسألتين غير محسوب عما شك فيه، إلا أن في مسألة القصر إذا لم يكن محسوبًا عما شك، فيكون ملتزمًا للإتمام فيلزمه الإتمام. وفي النية زمان الشك غير محسوب عما شك فيه، إلا أن ذلك القدر لو تعمده في صلاته لم تبطل صلاته، فجعلناه كأنه عمل عملا ليس من الصلاة. قال المزني: ولو كان علي أصل فرضها ركعتين، ما صلى مسافر خلف مقيم. قال المزني: ليس هذا بحجة، وكيف يكون حجة، وهو يجيز صلاة فريضة خلف نافلة، وليست النافلة فريضة ولا بعض فريضة، وركعتا المسافر فرض، وفي الأربع مثل الركعتين، فرض.

قال القاضي حسين: قصد به أبا حنيفة فإنه يقول: القصر عزيمة، وفرض المسافر ركعتان. ويجوز اقتداؤه بمقيم يتم أربعًا. وقال المزني: هذا عندي ليس بحجة، لأنه يجوز الفرض خلف النفل مع اختلافهما في الفريضة، وصلاة المسافر جامعت صلاة المقيم في الفريضة. قلنا: أنت أخللت في النقل، إنما قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرضه ركعتين ما صلى مسافر أربعا خلف مقيم، ومن فرضه ركعتان لا يصليها أربعا إذا اقتدى بمن يصلي صلاة ذات أربع، كما لو اقتدى في الصبح بمن يصلي الظهر لا يكمل الصبح أربعا على أنه ألزم هذا أبا حنيفة، وعنده: لا يجوز الفرض خلف النفل. والصلاة التي هي ذات ركعتين خلف ذات أربع، فصح الإلزام. قال المزني: قال الشافعي: رحه الله، وإن نسي صلاة في سفر، فذكرها في حضر، فعليه أن يصليها صلاة حضر، لأن علة القصر هي النية والسفر، فإذا ذهبت العلة، ذهب القصر، وإذا نسي صلاة حضر، فذكرها في سفر، فعليه أن يصليها أربعا، لأن أصل الفرض أربع، فلا يجزئه أقل منها، وإنما أرخص له في القصر، ما دام وقت الصلاة قائمًا، وهو مسافر فإذا زال وقتها، ذهبت الرخصة. قال القاضي حسين: في هذا الفصل ثلاث مسائل: إحداهما: إن نسي صلاة في الحضر، وذكرها في السفر، فلا يقصرها عندنا اعتبارا بحالة الوجوب. وقد حكينا عن المزني أنه قال: إذا سافر بعد خروج الوقت يقصر الصلاة التي تركها في الحضر، اعتبارا بحالة الأداء. والمسألة الثانية: نسي صلاة في السفر، وذكرها في الحضر، ففي جواز القصر قولان:

في الجديد: وهو المنصوص عليه في الكتاب: لا يجوز له القصر، لأن علة جواز القصر فعل السفر مع النية، وقد ارتفعت العلة. والقول الثاني: وهو قوله القديم، يجوز له القصر اعتبارا بحالة الوجوب، لأن الفرض لزمته ركعتان، فلا يزداد بتبدل الحال وقال ابو حنيفة: لا يجوز إلا القصر بناء على أصله. والثالثة: نسي صلاة في السفر، وذكرها في السفر، نص في الإملاء على أنه يجوز له القصر. وفصل أصحابنا فقالوا: إذا ذكر صلاة في السفر نسيها في السفر، فلا يخلو إما أن يكون قد تخلل بينهما إقامة، أو لم يكن تخلل بينها إقامة، فإن لم يتخلل بينهما إقامة يترتب على ما إذا نسيها في السفر، وذكرها في الحضر إن جوزنا القصر هناك، فها هنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق أنه وجدت العلة المبيحة للقصر في الطرفين، أعني طرف الوجوب والأداء، وفي المسألة الأولى عدمت العلة حالة الأداء. وإن تخلل بينهما إقامة يترتب على ما لو لم يتخلل بينهما إقامة، إن منعنا القصر هناك، فها هنا أولى. والفرق أن في المسألة الأولى لم يتخلل بين حالة الوجوب والأداء حالة يمتنع القصر فيها، بخلاف ما نحن فيه، فلذلك غلظنا الأمر، وأخذنا بأسوأ الأحوال، هذا كما لو غصب ما قيمته مائة، فارتفع السوق، وبلغت قيمته مائتين، ثم انخفض السوق فعادت إلى مائة، ثم تلفت في يده يلزمه أكثر القيم أخذا بالأغلظ، كذا ها هنا. والقولان فيما إذا نسي صلاة في السفر، وذكرها في الحضر يقربان من القولين في أن العبرة في الكفارات بوقت الوجوب، أو بالأداء، لأن الكفارات قربة تنقسم إلى مخفف ومغلظ، كالصلاة. وقيل: لو لم يتخلل بينهما إقامة، فلها حالتان:

إحداهما: أن يذكر المنسية. والثانية: إن لم يذكرها، فإن لم يذكرها يترتب على ما لو تخلل الإقامة ولو تذكرها ثم نسيها يترتب على ما لو لم يذكرها. إن قلت: لا يجوز القصر فها هنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أنه إذا تذكرها صار مفرطًا بخلاف هناك، والله أعل. قال المزني: وإن أحرم، ينوي القصر، ثم نوي المقام، أتمها أربعًا ومن خلفه من المسافرين. قال القاضي حسين: وهو كما قال لأن الفرض في الأصل أربع، وإنما جوز له القصر بشرط السفر، وقد زال بالإقامة. كذلك لو نوى الإتمام يلزمه الإتمام، وإذا اقتدى بمسافر نوي القصر جاز له القصر، ولو شك في حال الإمام أنه يريد القصر، أو الإتمام فعلق نيته بنيته، وقال: إن قصر إمامي قصرت، وإن أتم أتممت، جاز له القصر إن قصر إمامه، لأن أداء القصر جماعة لا يمكن إلا هكذا، إذ لا يمكنه الإطلاع على نية الإمام، ولو أخبره الإمام بذلك ربما يكذب فيه، بخلاف ما لو شك في حال إمامه أنه مقيم أو مسافر، يلزمه الإتمام، وإن بان مسافرًا. والفرق: أن الأصل في الناس الإقامة دون السفر، فلم يستند كونه مسافرًا إلى أصل، بل هو خلاف الأصل، فلم يجز التعليق. والظاهر من حال المسافر أنه يقصر فاستند جواز القصر إلى هذا الظاهر، فصح التعليق، وهذا كما قلنا في صيام رمضان: إذا شك في أول الشهر أن غدًا من شعبان، أو من رمضان فعلق نية الصوم، وقال: إن كان غدا من رمضان صمته من رمضان، وإن كان من شعبان فهو تطوع لم يجز؛ لأن الأصل بقاء شعبان.

وفي آخر الشهر إذا شك أن غدًا من شوال، أو بقية رمضان، فعلق النية جاز؛ لأن الأصل بقاء رمضان، فاستند التعليق إلى هذا الأصل، وبمثل هذا رجل له مال غائب نصاب لا يتحقق بقاؤه، فأخرج الزكاة، وقال: إن كان مالي الغائب باقيًا، فهذا زكاته، وإن كان تالفا، فهذا صدقة جاز، لأن الأصل بقاء المال، والظاهر سلامته، فاستند إلى هذا الأصل صح التعليق. وبمثله لو أخرج خمسة دراهم، وقال: إن كان قد مات مورثي، وانتقلت أمواله إلى إرثا، فهذه زكاته، وإلا فصدقة لم تجزه عن الزكاة، وإن بان أن المورث كان ميتا، لأن الأصل بقاء الحياة، وكمن تيقن الطهارة، وشك في الحدث فتوضأ بنية مترددة، ثم بان أنه كان قد أحدث لم يجزه وضوءه، لأن الأصل هو الطهارة، ولو تيقن الحدث، وشك في الطهارة، فتوضأ بنية إن لم أتطهر فهو وضوئي، وإلا فهو تجديد، ثم بان أنه كان قد توضأ صح وضوءه، لأن الأصل بقاء الحدث. ولو افتتح الصلاة خلف مسافر بنية القصر، ثم في خلالها شك في نية إمامه أنه نوي القصر، أو الإتمام لم يلزمه الإتمام، لأنه لو اقترن هذا الشك بحالة الافتتاح لم يجب الإتمام، فكذا إذا طرأ بعد الافتتاح في خلال الصلاة. ولو اقتدى بإمام مسافر، فنوي الاتمام لزمه الاتمام، ولو نوي إمامة القصر، ولو نوي القصر، ثم بدا للإمام أن يتم فعليه الاتمام، ولو قام إمامه إلى الثالثة إن علم أنه نوي الاتمام لزمه الاتمام، وإن علم أنه قام إليها ساهيا لم يلزمه الاتمام، بل يخرج نفسه من صلاته، ويسجد سجدتين، لأن سهو الامام لحقه ويسلم، أو يصبر حتى يسلم مع الامام. قال المزني: رحمه الله: في هذه المسألة لا يلزمهم الاتمام، ولا أراهم يعرفون ذلك، وليس هذا بصحيح، لأنهم قد يعرفون سهو بأن كان الامام حنفيا متعصبا في مذهبه يعلمون من حاله أنه لا يتم في السفر مع ما تقرر من أصله أنه إذا أتم لم تصح صلاته، وإن اشتبه عليه قام للإتمام، أو قام ساهيًا، فعليه الاتمام، وإن بان أنه كان ساهيا لأن في أحد محتمليه أن إقامته إقامة متم.

وقد يقوي ذلك الاحتمال بقيامه إلي الثالثة. فإن قيل: من الجائز أنه قام إليها ساهيًا، فوجب ألا يلزمه الإتمام. قلنا: الأصل عدم السهو، فقد يقوي احتمال الإتمام بهذا الأصل، ولو أخبره الإمام بأني أريد الإتمام، فاقتدي به، ونوي القصر لزمه الإتمام، وإن قصر هو؛ لأن قبول قول واحد من المسلمين واجب عليه؛ إذ الظاهر أنه صادق كما لو قال: إني محدث لا يقتدي بي، ولو اقتدي به لا تنعقد صلاته، وسئل عما لو اقتدى بمسافر قال له قبل العقد: إني أريد الإتمام، فقال: لا يجوز له القصر، وإن قصر إمامه؛ لأن الظاهر من حال الامام بعد ما قال: إنه يريد الإتمام أن يتم فيقوى جنبه الاتمام بهذا الظاهر. وهذا كما قلنا فيما لو قام الإمام إلى الثالثة، ولم يعلم المأموم أنه قام إليها للإتمام، أو ساهيا لزمه الإتمام، وإن بان أنه قام إليها ساهيا لأن أحد المحتملين يقوي بالظاهر، وهو أنه لا يقوم إلى الثالثة سهوًا، وإذا قام المنفرد إلى الثالثة ساهيا عاد، وسجد سجدتين، وسلم، ولا يلزمه الاتمام، لأنه لم ينو الاتمام، ولو أنه بعد أن قام إلى الثالثة ساهيًا، وصلاها ذكر أنه سها، وبدا له الاتمام عليه أن يصلي ركعتين أخريين، ولا يحتسب له ما قد صلى في حالة السهو. ولو قام إلى الثالثة عامدًا من غير أن ينوي الاتمام، تبطل صلاته، لأنه نوي أداء ركعتين، ولم يحدث نية. ولو شرع في الصلاة بنية الإتمام، ثم أفسدها لم يجز له أن يؤديها مقصورة، لأنه بالشروع التزم الإتمام، وكذا لو شرع فيها بنية القصر، ثم نوي الاتمام، ثم أفسدها يلزمه الإتمام إذا قضاها. ولو شرع في الصلاة بنية الإتمام، ثم بان أنه كان جنبا أو محدثا لم يلزمه الإتمام، لأن صلاته لم تنعقد بنية الإتمام. ولو اقتدى بإمام ظنه مسافرًا، فبان مقيمًا لزمه الإتمام، وإن بان مقيمًا محدثًا،

نظر فإن بان كونه مقيمًا أولا، ثم كونه محدثا لزمه الإتمام، لأنه التزم الإتمام إلى أن بان كونه محدثا. وقد ذكرنا أنه إذا لزمه الإتمام في جزء من الصلاة لزمه في الجميع، ولو بان كونه محدثا أولا، ثم كونه مقيمًا لم يلزمه الإتمام، وكذا لو بان كونه مقيمًا ومحدثا معا لم يلزمه الإتمام. ولو اقتدى بمن علمه متما، فبان أنه كان محدثا لزمه الإتمام، لأن صلاته انعقدت بنية الإتمام، لأن حدث الإمام لا يمنع انعقاد الصلاة أي صلاته. والحد في هذه المسائل أنه إذا شرع في الصلاة بنية الإتمام لم تنعقد صلاته بحدث، أو نجاسة لم يلزمه الإتمام. وإذا انعقدت صلاته، والتزم الإتمام بنفسه، أو حكما باقتدائه متمًا لزمه الإتمام. ولو صلى الظهر المقصور خلف مقيم يصلي الصبح، ففي جواز القصر وجهان: أحدهما: يجوز، لأن الصلاتين اتفقتا في عدد الركعات. والثاني: لا، لأنه اقتدي بمقيم، وحال المقيم وجوب الإتمام عليه. والمقيم لو صلى الصبح خلف من يصلي الظهر مقصورًا، أو متمًا لو قنت تبطل صلاته، لأنه خالف الامام، لأن المتابعة فرض والقنوت نقل، وإن أخرج نفسه من متابعته، ثم قنت مع نفسه جاز، وإن مضى على متابعته أيضا، جاز، وليس له سجود السهو، ولو اقتدي فيه بمن يصلي المغرب لزمه الاتمام مقيما كان الامام أو مسافرا، لأنه اقتدي فيها بصلاة هي أكثر من ركعتين فصار كما لو اقتدي فيها بمتم لها. وهكذا لو صلى الظهر مقصورا خلف مسافر صلى المغرب، لزمه الإتمام، ولو اقتدى في الظهر المقصورة بمقيم يصلي الجمعة، ينبني على أن الجمعة ظهر مقصورة، أو فرض آخر.

فإن قلنا: إن الجمعة فرض مقصورة جاز له القصر، وإلا فوجهان، كما لو اقتدي فيها بمقيم يصلي الصبح. ولو اقتدى في الجمعة بمسافر يصلي الظهر المقصورة، فجوابان بناء على أن الجمعة هل تجوز خلف من يصلي قضاء أو خلف الصبيان. وفيه قولان، والمنصوص في المختصر في كتاب الجمعة أنه يجوز خلف المسافر والعبد. فرع مقيم يصلي الظهر أربعا خلف مقيم، فقام الإمام إلى الخامسة ساهيًا، فليس له أن يتابعه، وإن تابعه بطلت صلاته، بل هو بالخيار إن شاء أخرج نفسه من متابعته، ويتشهد، وسجد سجدتي السهو وسلم، وإن شاء صبر حتى عاد الإمام إليه فيتابعه. ولو قام الإمام إلى الخامسة ساهيا، وخلفه مسبوق بركعة، فقال في نفسه، علي ركعة، فأنا أتابعه في الخامسة، احتسب بها على ركعتي، فتابعه بطلت صلاته بمتابعة الساهي، بل ينبغي أن يقوم منفردًا فيقضي ركعته. قال المزني: ولو أحرم في مركب ثم زال السفر لم يكن له أن يقصر. قال القاضي حسين: وهو كما قال: لأن العبادة إذا اجتمع فيها الحضر والسفر يغلب حكم الحضر على حكم السفر حتى لو أحرم لصلاة في السفر بنية القصر، ثم نوي الإقامة في خلال الصلاة، او اتصلت السفينة بالبلد حتى صار مقيمًا يلزمه الإتمام. ولو أحرم في الحضر، ثم جرت السفينة، حتى صار مسافرًا يلزمه الإتمام، فلا يستفيد جواز القصر بمجرد السفر تغليبًا لحكم الحضر. وعلى هذا أمر الصوم إذا أصبح صائمًا في الحضر، ثم أنشأ السفر لم يترخص

بالفطر، ولو أصبح صائمًا في السفر، ثم صار مقيمًا، هكذا تغليبًا لحكم الحضر. فرع عند الشافعي رحمه الله إذا سافر السيد سفرا يباح له الفطر والقصر، فالعبيد الذين يخرجون معه لا يباح لهم الترخص، ولا يجعلون تبعًا للسيد، وإن أخبرهم السيد إني أريد إلى موضع كذا، فعزموا ذلك السفر؛ حينئذ يباح لهم الترخص، وإلا فلا. وعند أبي حنيفة: العبد يكون تبعًا للسيد. قال المزني: وإن أحرم خلف مقيم، أو خلف من لا يدري، فأحدث الإمام، كان على المسافر أن يتم أربعًا، وإن أحدث إمام مسافر بمسافرين فسدت صلاته، فإن علم المأموم أنه صلى ركعتين، لم يكن عليه إلا ركعتان، وإن شك لم يجزه إلا أربع، فإن رعف، وخلفه مسافرون ومقيمون فقدم مقيمًا، كان علي جميعهم، وعلى الراعف: أن يصلوا أربعا، لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى كان فيها في صلاة مقيم. قال المزني: هذا غلط الراعف يبتديء، ولم يأتم بمقيم، فليس عليه، ولا على المسافر إتمام، ولو صلى المستخلف بعد حدثه أربعًا، لم يصل هو إلا ركعتين، لأنه مسافر لم يأتم بمقيم. قال القاضي حسين: قد ذكرنا أنه إذا اقتدى بمقيم يلزمه الإتمام، ولو اقتدي بمن لا يدري أنه مقيم، أو مسافر يلزمه الإتمام أيضا، وإن بان مسافرًا، لأن الأصل في الناس الإقامة.

ولو اقتدى بمن جهل حاله، ثم أحدث الإمام، وخرج عن الصلاة أتم المأموم صلاته أربعًا. ولو اقتدى بمسافر، وأحدث في خلال الصلاة، وخرج ليتوضأ، إن علم أنه نوي الإتمام أتم، وإن علم أنه نوي القصر قصر، وإن جهل الحال أتم تغليبًا للإتمام، إذ الفرض في الأصل أربع، وقد شك في سبب الرخصة. قال صاحب التلخيص، لا يترك اليقين بالشك إلا في مسائل عددها، وذكر من جملتها هذه المسألة. ومسألة أخرى من هذا الكتاب، وهي: إذا دخل المسافر في جوف الليل قرية واشتبه عليه أنها مقصده، أو ليست مقصده لا يجوز له القصر، وهذا غلط، لأنا في المسألتين لم ندع اليقين بالشك، بل تمسكنا بالأصل واليقين، لأن الأصل في وجوب الإتمام، وأن الفرض على الإنسان أربع غير أنه جوز له القصر، ورخص فيه بشرائط. وقد شك في بقاء شرط الرخصة، فرددناه إلى الأصل. ولو أن إمامه كما أحدث قال له: نويت القصر أخذ بقوله فيتمها مقصورة، ولو قال: كنت نويت الإتمام أتم، وإن كان يقدره قاصرًا. قوله: فإن رعف، وخلفه مسافرون، مقيمون فقدم مقيمًا كان على جميعهم، والراعف أن يصلوا أربعا، وهو كما قال لأنهم اقتدوا في بعض الصلاة بمقيم، وإن كانوا في أولها مقتدين بمسافر. قال المزني: الراعف لا يلزمه الإتمام، لأنه لا يأثم في صلاته بمقيم، ولو نوي الإتمام فيصلي صلاة مقصورة. واختلف أصحابنا في الجواب عنه. فمنهم من قال: صورة المسألة إذا عاد الراعف، واقتدى بخليفته، واستأنف الصلاة على القول الذي يقول: يجب استئناف الصلاة على من سبقه الحدث.

أو بنى على القول الذي يجوز البناء، فعلى هذا حكم المسألة. قال الشافعي رحمه الله: لأنه اقتدى في بعض صلاته بمقيم كالمأمومين. ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة: أن الراعف لم يقتد بخليفته، بل بني على صلاته مفردًا دائمًا، لزمه الإتمام، لأنه شارك مقيما في بعض الصلاة؛ لأن خليفته المقيم شاركه في صلاته؛ فلزمه حكم المقيمين كما لو ائتم بمقيم، وهذا غلط لوجهين: أحدهما: أن الاستخلاف قول جديد، والبناء على الصلاة إذا سبقه الحدث قول قديم. والشافعي رحمه الله يجوز الاستخلاف، فلم تخرج هذه المسألة على مذهب له في القديم. والثاني: أنه إنما يلزم الإتمام بالاقتداء بمقيم، فأما بمجرد مشاركة المقيم في التحريمة لا يصير ملزمًا للإتمام، يدل عليه أنه إذا أم بالمقيمين، ومسافرين لم يلزمه الإتمام، وإن اقتدى به مقيم، وشاركه في التحريمة، بل الأصح هو التأويل الأول.

فصل قد ذكرنا أن المسافر إذا نوي الإقامة في محل صالح للإقامة يصير مقيمًا بمجرد النية، وإن كان غير صالح للإقامة فيه بأن نوي الإقامة في بادية نائية، ففي تصييره مقيمًا وجهان، ولو ردد نية الإقامة صار مقيما كما لو جزم النية، وهذا كما قلنا في نية الصلاة إذا نوي الخروج منها تبطل صلاته، وإذا ردد نية الخروج تبطل صلاته. عندنا: لا يصير العبد مقيما بأن ينوي مولاه الإقامة، وكذا المرأة لا تصير مقيمة حتى تنوي بنفسها، وكذلك لا يجوز للعبد أن يترخص بنية مولاه في السفر، حتى ينوي بنفسه. وعند أبي حنيفة: يصير العبد مقيمًا بإقامة مولاه، لأنه تبع له. فرع. ولو سلم المسافر ناسيًا لسهوه، وكان قد سها، فقد خرج من الصلاة، فإن أراد أن يسجد سجدتي السهو جاز ذلك له على قرب الفصل، فلو أنه عاد ليسجدها، ثم نوي الإتمام هل يلزمه الإتمام أم لا؟ يجب أن يخرج على وجهين بناء على أنه هل يعود حكم الصلاة بعوده إلى سجود السهو حتى بطل بالحدث؟ وفيه وجهان ذكرناهما من قبل، والله أعلم بالصواب. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله: وإذا كان له طريقان يقصر في أحدهما، ولا يقصر في الآخر، فإن سلك الأبعد، لخوف أو حزونة في الأقرب، قصر، وإلا، لم يقصر.

وفي الإملاء: إن سلك الأبعد، قصر. قال المزني: وهذا عندي أقيس، لأنه سفر مباح. قال القاضي حسين: إذا كان إلى مقصده طريقان: أحدهما: أقرب، لا يقصر فيه الصلاة. والثاني: أبعد، تقصر فيه الصلاة، فسلك الأبعد، إن كان له غرض في سلوكه لعبادة مريض، أو زيارة صديق، أو خوف في الأقرب، أو حرونة فيه جاز له القصر، وإن لم يكن له غرض في سلوكه الأبعد، نص في موضع على جواز القصر، وفي آخر على منعه. فمن أصحابنا من جعل فيه قولين: أحدهما: يجوز له القصر لوجود السفر المباح، وهذا اختيار المزني. والثاني: لا؛ لأنه طول الطريق على نفسه من غير غرض صحيح له فيه، فصار كما لو سلك الأقرب، وجعل يضرب يمنة ويسرة، حتى يبلغ مسافة القصر لا يجوز له القصر كذا ها هنا. ومنهم من قال: المسألة على حالين حيث جوز القصر أراد إذا كان له غرض في سلوكه، وحيث منعه أراد إذا لم يكن له غرض فيه. وقول المزني: هو سفر مباح منوع، بل هو طول على نفسه من غير غرض. قال المزني: قال الشافعي رحمه الله: وليس لأحد سافر في معصية: أن يقصر، ولا يمسح مسح السفر فإن فعل، أعاد ولا تخفيف عمن سفره في معصية وإن صلى مسافر بمقيمين، ومسافرين، فإنه يصلي والمسافرين ركعتين، ثم يسلم بهم، ويأمر المقيمين أن يتموا أربعا، وكل مسافر فله أن يتم، وإنما رخص

له: أن يقصر الصلاة، إن شاء، فإن أتم، فله الإتمام، وكان عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يتم الصلاة. واحتج في الجمع بين الصلاتين في السفر؛ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في سفره إلى تبوك بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جميعًا، وأن ابن عمر جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وأن ابن عباس قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ كان إذا زالت الشمس، وهو في منزله، جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال، وإذا سافر قبل الزوال، أخر الظهر، حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر. قال الشافعي: وأحسبه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك، وهكذا فعل بعرفة، لأنه أرفق به تقديم العصر، ليتصل له الدعاء، وأرفق به بالمزدلفة تأخير المغرب، ليتصل له السفر، ولا ينقطع بالنزول للمغرب، لما في ذلك من التضييق على الناس، فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن من له القصر، فله الجمع، كما وصفت، والجمع بين الصلاتين في أي الوقتين شاء، ولا يؤخر الأولى عن وقتها، إلا بنية الجمع وإن صلى الأولى في أول وقتها، ولم ينو مع التسليم، الجمع، لم يكن له الجمع، فإن نوي مع التسليم الجمع، كان له الجمع. قال المزني: رحمه الله، هذا عندي أولى، من قوله في الجمع في المطر في مسجد الجماعات بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، لا يجمع إلا من افتتح الأولى بنية الجمع، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة في غير جوف، ولا سفر، وقال مالك: أرى ذلك في مطر. قال الشافعي رحمه الله: والسنة في المطر كالسنة في السفر. قال المزني: والقياس عندي إن سلم ولم ينو الجمع، فجمع في قرب ما سلم

بقدر ما لو أراد الجمع، كان ذلك فصلا قريبًا بينهما: أن له الجمع؛ لأنه يكون جمع الصلاتين إلا وبنهما انفصال، فكذلك كل جمع، وكذلك كل من سها، فسلم من اثنتين فلم يطل فصل ما بينهما، أنه يتم، كما أتم النبي صلى الله عليه وسلم وقد فصل، ولم يكن ذلك قطعا لاتصال الصلاة في الحكم، فكذلك عندي إيصال جمع الصلاتين: ألا يكون التفريق بينهما إلا بمقدار ما لا يطول. قال القاضي حسين: العاصي بسفر عندنا لا يترخص برخص المسافرين، ولا يحل له تناول الميتة، ولا القصر ولا الفطر والمسح ثلاثا، وله أن يسمح يوما وليلة في ظاهر المذهب، لأن أكثر ما فيه أن يرفض نية السفر، ويلحق بالمقيمين بسبب المعصية، وللمقيم أن يمسح يومًا وليلة، وإذا تيمم لعدم الماء، وصلى ففي وجوب الإعادة وجهان: أحدهما: يلزمه ذلك كالمقيم إذا صلى بالتيمم لعدم الماء، لأنا ألحقناه بالمقيم بسبب المعصية. والثاني: لا يلزمه الإعادة، لأنه تيمم لعدم الماء في موضع يعوز الماء فيه غالبًا، ولا يتناول الميتة، بخلاف المقيم العاصي، لأن احتياج المقيم إلى الميتة ليس لما تعاطاه من المعصية، وإنما هو لأجل الجبلة، بخلاف المسافر العاصي، فإن احتياجه إلى الميتة لما تعاطاه من المعصية؛ لأن الغالب وجود الطعام الحلال في الحضر، ويقال له: تب وكل الميتة، والتوبة في مقدوره، فيمكنه أن يأتي بها، ويأكل الميتة ويتخلص عن الضرورة. ولو أنشأ سفرًا مباحًا، ثم في أثناء الطريق قطع الطريق على المسلمين، هل يترخص أم لا؟ فيه وجهان. فأما إذا كان في سفره يزني ويشرب الخمر تباح له الرخص، لأن سفره مباح فهو كالمقيم العاصي، وإذ يعصي في سفره له أن يترخص، ولأنه انعقد له سبب الرخصة في الابتداء، فلم يرتفع بطرؤ المعصية، بخلاف العاصي بسفره، فإنه لم ينعقد سبب الرخصة؛ لأن المعصية اقترنت بسبب الرخصة، فمنعت

انعقادها، وهذا كما قلنا، في مسألة اللقطة إذا أخذها بنية التعريف لا تدخل في ضمانه، بمجرد قصد التعدي، والتملك بعده قبل أن ينضم الفعل إليه، وإذا أخذها بنية التملك لا يبرأ عن الضمان بإحداث نية الإمساك للمالك، ولو رمى نفسه من شاهق جبل، فانكسرت رجله فعجز عن القيام في الصلاة، فصلى قاعدًا، ففي وجوب الإعادة عليه عند القدرة وجهان: أحدهما: تجب، لأنه عاص برمي نفسه من الجبل، فلم يترخص بالقعود في الصلاة كالعاصي بسفره. والثاني: لا؛ والفرق أن العاصي بسفره في مقدوره ترك المعصية، فلم يعذر فيه، وهذا معذور فيما به من العجز، إذ ليس في قدرته إزالة الزمانة. وإذا شربت الحامل دواء ألقت به جنينا، فتركت الصلاة في زمان النفاس، ففي وجوب الإعادة إذا طهرت هذان الوجهان. وإذا شرب البنج وغيره مما يزيل العقل فعليه قضاء الصلاة والصيام بعد الإفاقة، كالسكران يلزمه قضاؤها إذا أفاق من السكر، لأنه جلب إزالة العقل بنفسه، فيؤخذ به. قال: ويمكن أن نفرق بين شرب الخمر والأدوية المزيلة للعقل، بأن الشارب للخمر يقصد به الدوام دون الابتداء، لأن ابتداءه يكره بالطبع، ودوامه يورث الطرب والنشاط، فاللذة في دوامها دون ابتدائها، فلزمه القضاء، بخلاف الأدوية المزيلة للعقل، فإن الإنسان لا يقصد بشربها الدوام، ولا الابتداء، فإنها لا تفضي إلى ما فيه لذة الطبع من الطرب والنشاط. وفي جواز المسح على الخف المغصوب، والصلاة في الأرض المغصوبة وجهان: أحدهما: لا يجوز للمعصية والثاني: يجوز؛ لأن المعصية ليست في عين المسح، وفعل الصلاة، وإنما المعصية في لبس خف الغير، والمقام في أرض الغير.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: العاصي بسفره يثبت له ترخص المسافرين، كما في سفر الطاعة، والمباح. لنا ما أشار إليه الشافعي رحمه الله، وهو: أن الرخص إنما تثبت للمسافر تخفيفا له في سفره، وإعانة له لما يلحقه من تحمل المشقة، والعاصي غير مستحق للمعونة، قال الله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). فلو أطلقنا له الرخص أدى إلى معونة العاصي على ما يتعاطاه من المعصية، وهو خلال الشرع. قوله: وإن صلى المسافر بمقيمين ومسافرين، فإنه يصلي والمسافرون ركعتين، ثم يسلهم بهم. قال القاضي حسين: وهو كما قال: ويأمر المقيمين ليتموا أربعًا. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر بـ (منى)، فلما سلم قال: أتموا يا أهل (مكة)، فإنا قوم سفر، وإن شاء أمرهم قبل افتتاح الصلاة بالإتمام.

فصل روى الشافعي رحمة الله عليه الأخبار في الجمع بعذر المطر والسفر، فعندنا الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، جائز بعذر المطر والسفر.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز الجمع إلا بين الظهر والعصر بـ (عرفات)، وبين المغرب والعشاء، بـ (مزدلفة)، ثم عنده الجمع بين هذين الموضعين واجب. وعندنا: هو جائز كما في السَّفر والمطر، والدليل على جوازه بعذر السَّفر ما روى أنه عليه السلام جمع في سفره إلى «تبوك»، بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والله أعلم. وروى ابنُ عبَّاس: ألا أخبركم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ كان إذا زالت الشمس، وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال، وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر. وعن نافِعٍ أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر عند منصرفه من (مكة) إلى

(المدينة)، فأخبر أن زوجته صفية مرضت فرجع فكان يسرع في السير، فلما غربت الشمس قال: قلت له: الصلاة الصلاة، فلم ينزل حتى دخل وقت العشاء، ثم نزل وصلى المغرب والعشاء، ثم قال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا جَدَّ به السير. وهل يجوز الجمع في السفر القصير؟ ينبني على أن أهل (مكة) إذا خرجوا إلى (منى) و «عرفات»، هل يجوز لهم الجمع؟ ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله الجديد: لا يجوز. والثاني: وهو قوله القديم: يجوز. ولأي معنى جاز منهم من قال: لأجل السفر. ومنهم من قال: لأجل النُّسك، فالجمع في السفر القصير ينبني على هذين المعنيين، إن جعلنا المعنى فيه السفر، جاز، وإلا فلا. وأهل «عرفات» هل يجوز لهم الجمع؟ إن لم يكن ناسكًا لا يجوز، وإن كان ناسكًا ينبني على هذين المعنيين إن جعلنا المعنى فيه النسك جاز، وإلا فلا. وإنما يجوز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأما بين الصبح وغيرها، والعصر والمغرب، فلا؛ لأن الظهر والعصر يتفقان في وقت الضرورة، فكذا في وقت العذر.

وكذلك المغرب والعشاء، ثم هو بالخيار بين أن يؤخر الظهر إلى العصر، ويجمع بينهما في وقت العصر، ويؤخر المغرب إلى العشاء، ويجمع بينهما في وقت العشاء، وبين أن ينقل العصر إلى الظهر، ويجمع بينهما في وقت الظهر، وينقل العشاء إلى وقت المغرب، ويجمع بينهما في وقت المغرب، إلا أن المستحب أن يفعل مثل ما روى ابن عباس رضي الله عنه: إن كان في المنزل عند دخول وقت الظهر يجمع بينهما في وقت الظهر، وإن كان في الطريق يؤخر الظهر إلى العصر، وإذا أخر الظهر إلى العصر لم يجز إلا بنية الجمع، حتى لو أخر من غير قصد الجمع عصى الله بالتأخير، وصارت قضاء. وهل يصليها في وقت العصر مقصورة؟ فعلى جوابين، وإذا نقل العصر إلى الظهر لابد من تقديم الظهر على العصر، وإذا أخر الظهر إلى العصر في جواز تقديم العصر على الظهر وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما في وقت الظهر، فعلى هذا من قدم العصر على الظهر صار الظهر قضاء في ذمته، فهل يصليها مقصورة؟ فعلى جوابين. والثاني: يجوز، بخلاف ما لو نقل العصر إلى وقت الظهر، لأن هناك يصليها في وقت غيرها على طريق التبع، فشرط تقديم المتبوع، وها هنا يصليها في وقتها، فلم يجب تقديم صلاة أخرى عليها. وإذا نقل العصر إلى الظهر لم يجز الجمع إلا بثلاث شرائط: إحداهما: أن يقدم الظهر على العصر، ولا يفتتح الظهر إلا بعد دخول وقتها. والثاني: ان ينوي الجمع. والثالثة: أن يؤدي العصر على أثر الظهر فلا يتخلل بينهما زمان طويل يقطع نظم الجمع، ولا يزيد الزمان للتخلل بين صلاتي الجمع على الزمان الذي يتخلل بين الإيجاب والقبول، والإقامة، وعقد الصلاة والزمان، الذي يتخلل بين الخطبتين، والزمان الذي يبني فيه على الصلاة إذا ذكر ركنا نسيه، أو كان قد سلم عامدًا.

ولو نوى الإقامة بعد الفراغ من الصلاتين لم تؤثر نيته في الظهر وفي العصر وجهان: أحدهما: لا تؤثر نية الإقامة فيها، ولا تجب إعادتها، لأنه فرغ منها كالظهر، وكما لو صلى صلاة مقصورة، ثم نوي الإقامة لم يلزمه الإتمام. والوجه الثاني: يجب إعادتها، لأنه صلاتها في وقت غيرها بعلة السفر، وارتفع السفر ووقتها بين يديه. ولو نوي الإقامة في خلال العصر يترتب على ما نوى الإقامة بعد الفراغ منها. إن قلنا هناك: تلزمه الإعادة وجب الاستئناف ها هنا إذا دخل وقتها، وإلا فوجهان: أحدهما: لا تبطل كما بعد الفراغ. والثاني: تبطل ويلزمه استئنافها إذا دخل وقتها، كما لو نوى القصر، ثم نوي الإقامة يلزمه الإتمام، وليس كما لو نوي الإقامة بعد الفراغ منها، لأنه هناك فرغ من العبادة، فلم تؤثر فيه الإقامة، كما لو قصرها لا تؤثر نية الإقامة فيها بعد الفراغ. ومن قال بالأول أجاب عن مسألة القصر، بأن هناك لا يؤدي إلى إبطال ما مضى من العبادة، إذا أوجبنا الإتمام كلفناه حكم المقيمين، وها هنا يؤدي إلى إبطال ما مضى من العبادة. ولو نوى المقام في وقت العصر، أو صار مقيمًا، وكان قد جمع بينهما في وقت الظهر، إن كان قد مضى زمان إمكان فعل الصلاتين لم تؤثر نية الإقامة، وإن لم يكن قد مضى زمان إمكان فعل الصلاتين يترتب على ما لو نوي الإقامة في خلال الصلاة، ولو أخر الظهر إلى العصر، وصلاهما في وقت العصر، ثم نوي الإقامة لم تؤثر نية الإقامة، ولو نوي الإقامة قبل أن صلاهما، فلم يجز له القصر في واحدة منها، وصار الظهر قضاء، لأنه أخرجها عن وقتها باختياره، وارتفع العذر المجوز للتأخير قبل الفعل

ولو جمع بينهما في وقت الظهر، ثم ذكر سجدة نسيها من إحدى الصلاتين، إن علم أنه تركها من العصر لم يجز له أن يصلي إلا في وقتها؛ لأن الفصل قد طال، وانقطع نظم الجمع، وإن علم أنه تركها من الظهر لم تصح الصلاتان، فله أن يجمع بينهما في وقت الظهر، وإن اشتبه عليه؛ فلم يدر أنه تركها من الظهر أو العصر، لم تسقط واحدة منهما عن ذمته، وعليه أن يعيدهما؛ لأن كل واحدة منهما يفرض أن يكون قد تركها منها، وليس له أن يجمع بينهما بجواز أن تكون السجدة المتروكة من العصر، وانقط نظم الجمع، فغلظنا الأمر، وأخذنا بأسوأ الأحوال، كما إذا نسي سجدة من صلاته لم يدر أنه نسيها من الركعة الأولى، أو الثانية، يؤخذ بأسوأ الأحوال. نقل من الحاشية نص على أنه إذا جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، فإذا فرغ من الظهر وسبقه الحدث فتوضأ وصلى العصر، ثم بان أنه كان محدثاً في الظهر بطلت العصر، وهكذا إذا فرغ من العصر، ثم بان أنه صلى الظهر قبل الزوال بطل العصر؛ لأن العصر في وقت الظهر يترتب على الظهر. وأما الدليل على جواز الجمع بعذر المطر، فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة جمع من غير خوف ولا سفر. وروى أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة بعذر المطر. ثم لا خلاف في جواز الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعذر المطر.

وهل يجوز أن يؤخر الظهر إلى العصر، ويجمع بينهما في وقت العصر؟ فعلى وجهين: أحدهما: يجوز كما في السفر. والثاني: لا. والفرق أن استدامة السبب المجوز للجمع في السفر إليه، فجاز له التأخير، بخلاف المطر، فإن استدامة المطر ليست إليه، فلا يأمن أن تمسك السماء، ويرتفع سبب الجمع، ويصير الظهر قضاء في الذمة، ويعصى بتأخيرها، وإنما يجوز الجمع بعذر المطر عند وجود المطر في ثلاثة مواضع: عند افتتاح صلاة الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية، ولو أمسكت السماء في خلال الصلاتين، أو إحداهما لم يضر، بخلاف ما لو نوي الإقامة في خلال الصلاة يمتنع الجمع، لأن استدامة السفر إليه، فلم يعذر بترك بخلاف المطر. وهذا في مساجد الجماعات التي يأتيها الناس من البعد من السكك والمحال، وأما المنفرد في البيت، والمصلى بالمسجد على باب داره، والمسجد الذي يكون بموضع كنيز لا يتأذى بالمطر. إن أراده، هل له الجمع؟ فعلى وجهين: أحدهما: بلى؛ لوجود المطر. والثاني: لا؛ لعدم المشقة. وما عدا المطر من الأعذار مثل الرياح، والوحل، وشدة البرد، والحر لا يبيح الجمع.

وأما الثلج الرخو الذي يذوب كالمطر، هل يفيد الجمع؟ يحتل وجهين: أحدهما: لا؛ لأن السنة وردت في المطر، وهو مخصوص من القياس، فلا يقاس عليه غيره. والثاني: يجوز، لأنه في معنى المطر. ونية الجمع في المحلين شرط. ومتى تجب نية الجمع؟ نص في المطر: على أنه ينوي الجمع عند افتتاح الصلاة الأولى. ونص في السفر على أنه ينوي الجمع مع التسليمة في الصلاة الأولى، أو قبلها فمن أصحابنا من جعل في المسألتين قولين: أحدهما: ينوي الجمع فيها عند افتتاح الأولى، كما تجب نية القصر عند افتتاح الصلاة. والثاني: يجوز أن ينوي فيهما مع التسليمة في صلاة الأولى، أو قبلها؛ لأن نية الجمع تضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى. وإذا نواه قبل التسلمية حصل الضم، فحصل المقصود. ومنهم من أجراها على الظاهر، وفرق بأن استدامة سبب الجمع في السفر شرط في خلال الصلاة الأولى، فكان مخلا لنية الجمع، بخلاف المطر، فإن دوام المطر في خلال الصلاة ليس بشرط، ولم يكن مخلا لنية الجمع. واختار المزني أنه يجوز أن ينوي الجمع بعد الفراغ من الصلاة الأولى على قرب الفصل، كما إذا سلم ناسيًا عن ركعتين، يبني على الصلاة إذا ذكره على قرب الفصل، كذا ها هنا. والمسألة التي أوردها حجتنا؛ لأن هناك يشترط نية فعل الركعات الأربعة في

أول الصلاة، وإنما جاز له البناء عند قرب الوقت، لأنه نواها في أول الصلاة، ولم يطل الفصل بين الركعتين الأوليين، وبين الأخريين، وهكذا لم توجد نية الجمع في الصلاة الأولى، فلم يجز ضم الثانية إليه. والله تعالى أعلم بالصواب. (تم الجزء المبارك)

§1/1