التعليقة الكبيرة في مسائل الخلاف علي مذهب أحمد

أبو يعلى ابن الفراء

التعليقة الكبيرة في مسائل الخلاف علي مذهب الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل ((الشامل لبعض كتاب الاعتكاف وكتاب الحج وبعض كتاب البيوع)) ((المجلد الرابع من أصل أحد عشر مجلداً)) تصنيف القاضي أبي يعلى الفراء محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي الحنبلي المولود ببغداد سنة 380 هـ والمتوفى بها سنة 458 هـ رحمه الله تعالى

الرابع من التعليقة الكبيرة في مسائل الخلاف علي مذهب الإمام الأعظم المبجل إمام الأئمة ورباني هذه الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنهم تصنيف الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره وفريد دهره القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء الحنبلي البغدادي رضي الله عنه فيه من الأبواب بعض الاعتكاف، وكتاب الحج، وبعض كتاب البيوع المشتمل على مسائل الربا من كتب الفقير إلى الله تعالى محمد بن أحمد بن المنجا الحنبلي التنوخي ملكة أحمد بن أحمد بن أحمد [...] بن محمد [...] الحنبلي في سنة ست وستين وثمان مئة من كتب الفقير السيد فيض الله المفتي في السلطنة العلية العثمانية عفي عنه

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً [كتاب الاعتكاف] 1 - مسألة لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعات: نص عليه في رواية ابن منصور، فقال: الاعتكاف في مسجد تقام فيه الصلاة، وقد ذكره الخرقي في ((مختصره)). وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: في أي المساجد اعتكف جاز. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد في ((كتابه)) فقال: ثنا عبد الله قال: ثنا عثمان قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسجد له إمام [و] يؤذن فيه، فهو جائز)). روى الدارقطني بإسناده عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسجد له مؤذن وإمام، فالاعتكاف فيه يصلح)).

فلولا أن مسجد الجماعة شرط، لم يكن لذكره وتخصيصه فائدة. فإن قيل: فقد قال الدارقطني: الضحاك لم يسمع من حذيفة! قيل: لأنه أكبر ما فيه، والمرسل عندنا حجة. فإن قيل: هذا الحديث قد طعن عليه السلف؛ لأن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن حذيفة: أنه قال لعبد الله بن مسعود: ألا تعجب من قوم بين دارك ودار أبي موسى يزعمون: أنهم معتكفون؟! فقال: لعلهم أصابوا وأخطأت. وروي: أنه قال لعبد الله: عكوفاً بين دارك ودار أبي موسى، وأنت لا تغير! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه)). وقال ابن مسعود: ما يدريك لعلك أخطأت وأصابوا، أو حفظوا ونسيت؟ وروي: أن حذيفة أتى ابن مسعود فقال: إني رأيت أناساً معتكفين بين دارك ودار أبي موسى، وكان بينهما مسجد، فقال عبد الله: لعلهم علموا وجهلت، وحفظوا ونسيت، فقال حذيفة: إنه لا اعتكاف إلا في ثلاث مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى.

قيل له: لم يكن اعتراض ابن مسعود على الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان اعتراضه عليه فيما يذهب إليه من انه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي، وهذا مذهب معروف لحذيفة، وأنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي، وليس احتجاجنا بمذهب حذيفة، وإنما احتجاجنا بروايته. وأيضاً فالمسألة إجماع الصحابة، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة: فروى النجاد بإسناده عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. وروى بإسناده عن قتادة، عن ابن عباس: لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة. وروى بإسناده عن عروة، عن عائشة: أنها قالت: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة.

وروى بإسناده عن الزهري قال: مضت السنة أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد جماعة تجمع فيه الجمعة. وهو قال جماعة من التابعين: الحسن، وجابر بن زيد، وعطاء، وكحول، والزهري، وعكرمة، وإبراهيم، ذكره النجاد في "كتابه" بإسناده. ولأن صلاة الجماعة فرض عندنا، فلو أجزنا الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الصلاة، أدى ذلك إلى ترك الاعتكاف والخروج منه لطلب الجماعات، وذلك يتكرر في اليوم والليلة خمس دفعات، فلم يجز؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد، وحبس النفس عليه. فإن قيل: فكان يجب أن تشترط مسجداً تقام فيه الجمع لئلاً يؤدي ذلك إلى الخروج لطلب الجمع، وقد أجزت الاعتكاف في مسجد لا تجمع فيه الجمعة، كذلك الجماعة. قيل له: الجمع لا تتكرر، إنما تجب في الجمعة مرة، فلا يؤدي ذلك إلى ترك الاعتكاف. وقد نص أحمد على جواز الاعتكاف في غير المسجد الجامع في رواية الأثرم، وقد سئل عن الاعتكاف في غير المسجد الجامع، فلم ير به بأساً.

ووجدنا أن للتكرار تأثيراً، ألا ترى أن من يتكرر دخوله إلى مكة من الحطابة، يجوز دخوله بغير إحرام، ومن لا يتكرر لا يدخله [ــــا] إلا بإحرام؟ وأيضاً: فإن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد، فاختصت بمسجد مخصوص. دليله: الطواف. فإن قيل: الطواف أخص، ألا ترى أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام؟ قيل: لا يمتنع أن يتساويا في تعلقهما بمسجد مخصوص، وإن كان أحدهما أعم، ألا ترى أن الطواف والذبح يتفقان في اختصاصهما بالحرم، وإن كان الطواف أخص؛ لأنه يختص [ب] المسجد، والذبح يعم جميع الحرم! واحتج المخالف بأنه مسجد بني لصلاة الجماعة، فصح الاعتكاف فيه. دليله: المسجد الذي تقام فيه الصلاة. والجواب: أن مسجد الجماعة لا يؤدي إلى ترك الاعتكاف، وليس كذلك ما هنا؛ لأنه يؤدي إلى تركه على التكرار من الوجه الذي بينا.

مسألة لا يصح اعتكاف المرأة في بيتها

أو نقول: ليس إذا جاز في مسجد الجماعة جاز في غيره؛ كالطواف يجوز في المسجد الحرام، ولا يجوز في غيره. وإن قاسوا على المسجد الذي لا تقام فيه الجمعة، فالفرق بينهما ما ذكرناه 2 - مسألة لا يصح اعتكاف المرأة في بيتها: أومأ إليه أحمد في رواية أبي داود، وقد سئل عن المرأة تعتكف في بيتها، فذكر النساء تعتكفن في المساجد، ويضرب لهن فيه بالخيم، وقد ذهب هذا من الناس. وهو قول مالك والشافعي. قال أبو حنيفة: يجوز اعتكافها في مسجد بيتها. دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن كثير مولى ابن سمرة: أن امرأةً أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أني أريد أن أعتكف العشر الأواخر فما ترى؟ قال: "ادخلي المسجد، واقعدي في طست، فإذا امتلأ، فليهراق عنك". فوجه الدلالة: أنه أمرها [بالاعتكاف] بالمسجد، ولم يجعل

ذلك عذراً في تركه. ولأن كل موضع لا يصح اعتكاف الرجل فيه، لا يصح اعتكاف المرأة فيه. دليله: الشوارع والطرقات. أو نقول: كل موضع يجوز لها المقامة فيه في حال الجنابة والحيض، لا يصح الاعتكاف فيه. دليله: ما ذكرنا. ولأنها عبادة لا تصح من الرجل إلا في المسجد، فلا تصح من المرأة إلا في المسجد. دليله: الطواف. ولأن ما كان شرطاً في صحة اعتكاف الرجل، كان شرطاً في صحة اعتكاف المرأة. دليله: النية واللبث. ويبين صحة ذلك: أن ما يفسد اعتكافه يفسد اعتكافها؛ كالمباشرة ونحوه. فإن قيل: قد أجمعنا على الفرق بينهما في موضع الاعتكاف واللبث؛ لأن عندكم يكره للشابة أن تعتكف في المسجد، ونحن نمنعها من ذلك، وهما في اللبث والنية سواء!

قيل: قد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن النساء يعتكفن؟ قال: نعم، ولم يخص الشابة من غيرها. وقياس قوله: أنه يكره للشابة؛ لأنه قد نص [على] ذلك في خروجها لصلاة العيدين، وأنه مكروه. فعلى هذا إذاً: افترقا في كراهة الحضور، مما يوجب الفرق في المحل بدليل: أنه يكره للشابة حضور الجمع، ثم حضور موضع الجماعة شرط في صحتها، وكذلك يكره لها الطواف نهاراً، ومع هذا فالمسجد شرط في طوافها. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أراد أن يعتكف، فخرج إلى المسجد لاعتكافه، فراى قباباً مضروبة، فقال: "ما هذه؟ " فقيل له: هذه لعائشة، وهذه لحفصة، وهذه لزينب، فقال: "آلبر يردن بهن؟! " وأمر بنقض القباب، وأخر الاعتكاف. فدل على أن المرأة لا تعتكف في المسجد، لأنه لو جاز لها ذلك لما غضب. والجواب: أن الخبر يدل على الكراهة، ونحن نقول: إنها إذا كانت شابة، فإنه يكره لها أن تعتكف في المسجد، وتصلي فيه. نص عليه في الصلاة في رواية حنبل، وقد سئل في خروج النساء

إلى العيد، فقال: هؤلاء يفتن الناس إلا أن تكون امرأة طعنت في السن. فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أنكر لهذا المعنى، ويجوز أن يكون أنكر لأنه لم يحب ظهورهن في المسجد، وللزوج أن يمنع امرأته عن مثله، وإن [كان] ذلك قربة؛ كما يمنعها من حج التطوع، وإن وجدت المحرم، وكان الطريق آمناً. واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد؛ كما منعت نساء بني إسرائيل. والجواب: أن هذا محمول على الشباب بدليل ما ذكرنا. واحتج بأن بيتها موضع يستحب أداء الصلوات المفروضة والمسنونة فيه، فجاز أن يكون موضعاً للاعتكاف. دليله: المسجد. وإذا ثبت أنه يجوز أن يكون موضعاً له، ثبت أن للمرأة أن تعتكف فيه. والجواب: أن كونه موضعاً تستحب فيه صلاتها لا يدل على أنه موضع للاعتكاف؛ لأن بيت الرجل تستحب فيه صلاة النافلة، وليس

مسألة يصح الاعتكاف بغير صوم في أصح الروايتين

بموضع لاعتكافه، وإن كان الاعتكاف نافلة. ولأنه لو كان معتبراً بموضع استجاب الصلاة الفريضة، لوجب أن لا يصح اعتكافها في المسجد؛ لأنه ليس بموضع استحباب صلاتها فيه. ثم المعنى في الأصل: أنه محل لاعتكاف الرجل، أو لأنه موضع بني لذكر الله والصلاة، وليس كذلك البيوت والمساكن؛ لأنه ليس بمحل لاعتكاف الرجل، ولأنه مبني لمصالح الدنيا، فهو كالشوارع، ولأنه يجوز للجنب والحائض والنفساء المقام فيه؛ كالشوارع. واحتج بأنها ممنوعة من الخروج إلى المسجد واللبث فيه، فلا يجوز أن يكون ذلك شرطاً في صحة اعتكافها. والجواب: أنها ممنوعة من الخروج إلى الجامع يوم الجمعة، ولا تصح جمعتها مع ذلك إلا مع الإمام. وكذلك [هي] ممنوعة من الخروج لحج التطوع، ولا يصح فعلها للحج والعمرة إلا بالخروج إلى مكة، وحضور تلك الأماكن، كذلك هاهنا. 3 - مسألة يصح الاعتكاف بغير صوم في أصح الروايتين: نص عليها في رواية حنبل، وعلي بن سعيد، والميموني:

فقال في رواية حنبل: إن صام كان أحوط له. وظاهر هذا: أنه غير واجب. وقال - أيضاً - في رواية الميموني: أكثرهم يوجب عليه الصيام مع الاعتكاف، إلا أن حديث عمر حين قال: نذرت أن أبيت ليلةً في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك". وكان رأيت أبا عبد الله في هذا الموضع يجعله حجة لمن لم يوجب عليه الصيام. وقال - أيضاً - في رواية علي بن سعيد: ومن يعتكف بالليل، فليس عليه صوم، ولكن يحتار للمعتكف أن يصوم. وظاهر هذا: أنه غير واجب عليه الصوم، وبه قال الشافعي. وروى الأثرم عنه - وقد سئل عن المعتكف: يصوم؟ - قال: نعم يصوم، هو أكثر ما جاء فيه، فعاوده السائل، فقال: نعم، إذا اعتكف وجب عليه الصوم. ونقل حنبل عنه في موضع آخر - وقد سئل عن الاعتكاف في غير شهر رمضان - فقال: لا يكون إلا في شهر إلا النذر، فإن كان نذراً فلا تأثير، وإنما الاعتكاف في شهر رمضان؛ لأنه لا اعتكاف إلا بصوم. وظاهر هذا: أنه واجب فيه الصوم، وبه قال أبو حنيفة ومالك.

وجه الرواية الأولى: ما روى حنبل بإسناده عن ابن عمر قال: كان على عمر صلى الله عليه وسلم اعتكاف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فسأل النبيصلى الله عليه وسلم، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: أن يعتكف، ويف [ـي] بنذره. فوجه الدلالة: أنه أمره بالوفاء به في ليلة مفردة مع امتناع جواز الصوم في الليل، فدل على أنه ليس من شرطه الصوم. فإن قيل: قد روي في خبر آخر: أنه قال: نذرت أن أعتكف يوماً وليلةً. فيحمل الأمر على أنه سأله عن الأمرين، فقال: "أوف بنذرك"؛ يعني: في النهار الذي يصح فيه الصوم. قيل له: المعروف ما ذكرناه، وما ذكروه لا يضر؛ لأنه يحتمل أن يكونا نذرين مختلفين: أحدهما: ليلة مفردة، فأمره بالوفاء بها. والآخر: يوم وليلة، فأمره بالوفاء. وأيضاً روى أبو الحسن الدارقطني بإسناده عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "ليس على المعتكف صيام، إلا أن يجعله على نفسه".

فإن قيل: هذا الخبر غير معروف عن ابن عباس، وإنما هو موقوف على علي، وقد روي عنه مثل مذهبنا. قيل له: قد روينا [هـ] عن أبي الحسن مسنداً في "سننه"، وهو من علم الحديث بموضع. فإن قيل: قد روي عن ابن عباس وابن عمر: أنها قالا: لا اعتكاف إلا بصوم، فلو كان الحديث صحيحاً لم يخالفه ابن عباس! قيل له: مخالفة الراوي للحديث لا تدل على ضعفه؛ لجواز أن يكون قد نسي سماعه. ولهذا قلنا في قول ابن عباس: (بيع الأمة طلاقها): لا يمنع الاحتجاج بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن عائشة اشترت بريرة، فأعتقتها، فخيرها رسول الله. ولو كان بيع الأمة طلاقها لما خيرها رسول الله، فتركنا قول ابن عباس، واحتججنا بروايته. فإن قيل: يحتمل أن يكون معناه: ليس على من يلبث في المسجد ويقعد فيه صوم، إلا أن يوجب الاعتكاف على نفسه، فحينئذ يلزمه الصوم.

قيل له: من يلبث في المسجد، ولا يعتقد الاعتكاف، لا يكون معتكفاً، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى الصيام عمن هو معتكف بقوله: "ليس على المعتكف صوم" فاقتضى ذلك النفي عن المعتكف اعتكافاً شرعياً. فإن قيل: يحتمل أن يريد به: ليس على المعتكف في رمضان صوم آخر لأجل الاعتكاف. قيل له: النفي عام يقتضي ليس عليه صوم؛ لا لأجل الاعتكاف، ولا لغيره. على أنه قد يلزم المعتكف صوم لأجل الاعتكاف، وهو أنه إذا نذر اعتكاف شهر غير رمضان، فإنه يلزمه اعتكاف شهر وصومه، وهذا الصوم إنما لزمه لأجل الاعتكاف. والقياس: أنها عبادة يصح استفتاحها بالليل، فوجب أن لا يكون الصوم شرطاً في صحتها. أصله: الصلاة والحج والعمرة والزكاة والطهارة. ولا يلزم عليه من نذر أن يعتكف شهراً بصوم: أنه يصح، بل الاعتكاف صحيح، ولكن لا يجزئ عن فرضه؛ كما إذا نذر اعتكاف شهر متتابع، فاعتكف شهراً متفرقاً، فإنه يكون اعتكافاً صحيحاً، ولكن لا يعتد به عن نذره، كذلك هاهنا. فإن قيل: قد اتفقنا على الفرق بين الاعتكاف وبين سائر العبادات؛

لأنكم تقولون: الصوم مشروع فيه استحباباً، ونحن نقول: وجوباً، وليس كذلك سائر العبادات؛ لأنه ليس بمشروع ولا واجب، فبان الفرق بينهما. قيل له: هذا لا يمنع صحة الاعتبار؛ لأن الصلاة يستحب لها كمال اللباس، وما زاد على ستر العورة ليس بشرط فيها؛ كما ليس بشرط في صحة سائر العبادات، وافتراقهما في استحباب كمال اللباس لا يوجب افتراقهما في الإيجاب. فإن قيل: يجوز أن يكون ابتداء الاعتكاف يخلو من الصوم، ويكون شرطاً في استدامته؛ كما كانت القراءة شرطاً في استدامة الصلاة دون ابتدائها. قيل له: القراءة ليست بشرط، وإنما هي ركن من أركان الصلاة كالركوع والسجود، وأما ما كان شرطاً، فابتداؤها واستدامتها فيه سواء، كاستقبال القبلة وستر العورة. ولأن ما لم يكون شرطاً في صحة الاعتكاف بالليل لم يكون شرطاً فيه بالنهار، وقياساً على سائر الأذكار والأفعال، وعكسه الكون في المسجد والإيمان والعقل.

فإن قيل: ليس من حيث لم يكن شرطاً ليلاً يجب أن يكون نهاراً؛ كما أن اللبث في المسجد ليس بشرط في حال خروجه لحاجة الإنسان، وهو شرط في حالة أخرى، كذلك هاهنا. قيل له: حاجة الإنسان يستوي فيها الليل والنهار، وكان يجب - أيضاً - أن يستوي في ذلك الليل والنهار. فإن قيل: الصوم يصح بالنهار، ولا يصح بالليل، فجاز أن يشترط في أحدهما، ولا يشترط في الآخر. قيل له: الصوم يصح في صلاة النهار، ولا يصح في صلاة الليل، وهما متفقان في أن الصوم ليس بواجب في أحدهما، وكذلك التسبيح وقراءة القرآن والصلاة تصح بالنهار، وليس بشرط فيه. ولأن الليل زمان يصح فيه الاعتكاف، فجاز إفراده بالاعتكاف كالنهار. وقد قيل: إن الصوم عبادة مقصودة في نفسها من فروع الدين، فلم يكن شرطاً في صحة عبادة أخرى؛ كالصوم مع الصلاة، والصلاة مع الحج. ولا يلزم عليه الإيمان؛ لقولنا: من فروع الدين. فإن قيل: الاعتكاف لا يكون عبادة إلا بالصوم، فلا معنى لقولك: وجب أن لا يكون الصوم شرطاً في عبادة أخرى. قيل له: كون الصوم شرطاً فيها عندك لا يمنع أن يكون عبادة بنفسه؛

كالصلاة من شرطها التيمم، ثم لا يخرج أن يكون كل واحد منهما عبادة، وكذلك من شرط صحة الصلاة الإيمان، وكل واحد منهما عبادة منفردة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة:187]. والاعتكاف لفظ شرعي مفتقر إلى البيان، والله - تعالى - لم يبين صفته، فاجتجنا إلى بيان من غيره، فوجنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا بصوم، فيكون فعله بياناً للجملة المذكورة في الكتاب، وفعله إذا وقع موقع البيان كان كالوجود في لفظ الآية، ولو وجد في لفظها كان الصوم شرطاً في الاعتكاف، كذلك إذا ثبت بفعله. والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الواجب وبين المستحب، فيحمل هذا على بيان الاستحباب دون الإيجاب، كما ذكرنا. واحتج بما روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا اعتكاف إلا بصوم". وروي موقوفاً على عائشة. والجواب: أنه محمول على أن لا اعتكاف كامل إلا بصوم، كما قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له"، و "لا صلاة لجار المسجد إلا في

المسجد"، ونحو ذلك. واحتج بما روي عن عمر: أنه قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف يوماً في الجاهلية، فقال له النبي: صلى الله عليه وسلم"اعتكف، وصم". وقال عمر: (في الجاهلية) قالوا: معناه: أنه نذر قبل فتح مكة في حال كان أهلها في الجاهلية، وليس معناه: أنه نذر في حال الشرك؛ لاتفاقهم على: أن من نذر في حال الكفر أن يعتكف لم يلزمه بعد الإسلام شيء. والجواب: أننا نحمل قوله: "وصم" على طريق الاستحباب دون الإيجاب، بدليل ما تقدم. واحتج بأن ما ليس له أصل في الفرض لا يلزم بالنذر، بدليل: أنه لو قال: لله علي أن أقعد في الشمس، أو أعود مريضاً، أو أدخل هذه الدار، لم يلزمه شيء. واتفقوا على: أن الاعتكاف يلزم بالنذر، وليس له أصل في

الفرض، فعلم: أنه إنما يلزم لما يتضمن ما له أصل في الفرض، وهو الصوم. ولا يلزم عليه العمرة؛ لأن العمرة هي الصواف والسعي، ولهما أصل في الفرض، وهو الحج، وإذا فاته الحج وجب عليه التحلل منه بالطواف والسعي. والجواب: أن له أصلاً في الفرض، وهو الوقوف بعرفة. فإن قيل: الوقوف ليس من شرطه اللبث؛ لأنه لو مر بها ماراً، ولم يلبث، جاز. قيل له: إلا أن الكون شرط فيه. وعلى أنه قد يلزم بالنذر ما كان قربة، وإن لم يكن له أصل في الفرض، بدليل: أنه لو نذر عيادة المرضي، والصلاة على الجنازة، وأن يهدي داره وعبده، لزم بالنذر، وإن لم يكن له أصل في الفرض، كذلك النذر لا يمتنع أن يلزم بالنذر لكونه قربة، وإن لم يكن له أصل بالفرض. واحتج بأنه لبث في مكان مخصوص، فوجب أن لا يكون قربةً إلا بانضمام معنى آخر إليه، كالوقوف بعرفة. والجواب: أنا نقلبه، فنقول: وجب أن لا يكون من شرطه الصوم، ودليله: الوقوف. فإن قيل: ليس هذا القلب من ضد الحكم الذي علقناه على علتنا. قيل له: إلا أنك تصرح بالمقصود؛ لأن المقصود هاهنا إثبات

مسألة إذا نذر اعتكاف يومين لزم اعتكاف يومين وليلة؛ يدخل المسجد قبل طلوع الفجر، ويبقى فيه ذلك اليوم وليلته واليوم الثاني، ويخرج بعد غروب الشمس من اليوم الثاني

الصوم ونفيه، ونحن صرحنا به، وكان أولى، مع انا نقول بموجب هذه العلة، وهو: أنه لا يكون قربة إلا بانضمام معنى آخر، وهو النية. فإن قيل: تريد أنه لا يصير قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه، ويكون ذلك المعنى قربة. قيل له: فالنية عندنا قربة. على أنهم لا يجدون هذا المعنى في الأصل؛ لأن الإحرام هو اعتقاد مثل النية سواء. 4 - مسألة إذا نذر اعتكاف يومين لزم اعتكاف يومين وليلة؛ يدخل المسجد قبل طلوع الفجر، ويبقى فيه ذلك اليوم وليلته واليوم الثاني، ويخرج بعد غروب الشمس من اليوم الثاني: وكذلك لو نذر اعتكاف عشر بعينه؛ كالعشر الأواخر من رمضان، لم تدخل ليلة العشر فيه. قال في رواية الأثرم: كنت أحب أن يدخل معتكفة بالليل، لكن حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل إذا صلى الغداة. والمراد بهذا: العشر الأواخر من شهر رمضان.

وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه اعتكاف يومين وليلتين؛ يدخل المسجد بعد غروب الشمس، فيمكث ليلة ويومها، وليلة أخرى ويومها. دليلنا: ما احتج به أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدهل إذا صلى الغداة، وكان اعتكافه العشر. ولأن الأيام ليس عبارة عن الليالي، وغنما يدخل فيها ما يـ[ت]ـخللها على وجه التبع؛ لاستحالة وجود يومين إلا بأن يتخللهـ[مـ]ـا ليلة، والليلة الأولى لم ينتظمها لفظ الإيجاب، ولم يوجبها الحكم من جهة التبع، فلم يلزمه الاعتكاف في الليلة الأولى. والذي يبين صحة هذا، وأن اليوم اسم لبياض النهار، وأنه لو نذر أن يعتكف يوماً يلزمه الاعتكاف بياض النهار، وهو ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولا تجب معه ليلة، فوجب أن لا يدخل الليل في اسم الأيام؛ كما لو نذر أن يعتكف رجب، لم يدخل في ذلك شعبان. ولأن الليلة الأولى زمان لا يتناوله لفظ الناذر، ولا يتخلل ما تناوله لفظه، فلا يلزمه اعتكافه. أصله: ما قبل الليلة المختلف فيها، وبعد اليوم المختلف فيه. واحتج المخالف بأنه متى ذكر جمع من الأيام أو الليالي دخل ما بإزائه من العدد الآخر، بدلالة قوله تعالى: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًا} [مريم:10]،

وقال في آية أخرى: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] والقضية واحدة، فعبر تارة بذكر الأيام، وتارة بذكر الليالي، فعلمنا: أن إحدى العبارتين مفيد [ة] ما تفيده الأخرى. ألا ترى أنه حين أراد التفرقة بين الوقتين في العدد لم يقتصر على إطلاق إحدى العبارتين دون بيان الأخرى بعدد ما، فقال: {سَبْعَ لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]؛ لأنه لو لم يفصل لكان المعقول سبع أيام بعدد الليالي المذكورة. وقال: {ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، فعقل منه الليالي بأيامها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون ليلة"، وفي لفظ آخر: "تسع وعشرون يوماً". ولأنه يستحيل وجود جمع الأيام إلا ويتخللها الليالي، فلذلك جمع الليالي، فعلمنا: أن جمع أحد الوقتين يقتضي من الوقت الآخر مثله. والجواب: أن ما ذكروه من قصة زكريا، وقصة مرسى، فإنما عرفناه بالدليل، لا أن اللفظ اقتضى ذلك، فحملناه على حقيقة لفظه، وما أجمعنا على أنه تابع له.

مسألة وإذا نذر اعتكاف أيام يتخللها يوم الجمع، فاعتكف في مسجد من المساجد، وخرج لصلاة الجمع، لم يبطل اعتكافه

5 - مسألة وإذا نذر اعتكاف أيام يتخللها يوم الجمع، فاعتكف في مسجد من المساجد، وخرج لصلاة الجمع، لم يبطل اعتكافه: وقد قال أحمد في رواية الأثرم: المعتكف يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويشهد الجمع. وقال - أيضاً - في رواية أبي داود في المعتكف: يركع في المسجد بعد الجمع بقدر ما كان يركع. وقيل له: فيتعجل إلى الجمع؟ قال: أرجو. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: إذا أوجب على نفسه اعتكافاً متتابعاً يتخلله الجمع، فعليه أن يعتكف في الجامع، فإن اعتكف في غيره، ثم خرج على الجمع بطل اعتكافه. دليلنا: ما رواه أحمد عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي كرم الله وجهه: المعتكف يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويشهد الجمع. قال أحمد: عاصم هو عندي حجة. ولأن الجمعة واجبة، ولابد من حضورها، فإذا أوجب على نفسه اعتكافاً علم أنه لم يمنع به نفسه من أداء ما لابد منه، فيصير الخروج لأجله مستثنى من النذر، فلا يبطل اعتكافه، كما يقول في حاجة الإنسان.

وإن شئت قلت: حرج من معتكفه لما لابد منه، فوجب أن لا يبطل اعتكافه قياساً على الخروج لحاجة الإنسان. ولا يلزم عليه إذا خرج لصلاة الجماعة؛ لأنه إن كان في مسجده جماعة فلا حاجة به إليه، وإن لم يجد فيه جماعة لم يصح اعتكافه. وأيضاً: فإنه غير ممتنع الدخول في العبادة في وقت يعلم أنه يخرج منها قبل إتمامها: مثل: أن يدخل في صلاة الجمعة، وقد بقي من الوقت مقدار ركعة، فإنه يجوز، وإن كان يعلم: أنه يتخللها ما يقطعها، وهو خروج الوقت عندهم. وكذلك المسبوق بركعة يجوز له الدخول مع الإمام مع علمه: أنه يصير منفرداً في آخرها، وإن كنا نعلم: أن انفراد المأموم قبل الإمام يبطل. وهذا دليل جيد. واحتج المخالف بأن العبادة التي من شرطها التتابع إذا دخل فيها مع علمه بأنه يخرج منها، وأمكنه التحرز، فإذا لم يفعل لزمه استئنافها؛ كمن دخل في صوم الشهرين المتتابعين في شعبان، وهو يعلم أن يخرج منه إلى صوم رمضان، لزمه الاستئناف؛ لأنه يمكنه التحرز. وكذلك حيض المرأة ومرضها في أثناء الشهرين لا يمكن الاحتراز منه.

والجواب: أنا لا نسلم الأصل، بل نقول: إن التتابع لا ينقطع بدخول شهر رمضان، وكذلك لو ابتدأ به من أول ذي الحجة أفطر وبنى، ولم يبطل تتابعه، فسقط ما قاله. وقد نص أحمد على هذا في رواية ابن إبراهيم وغيره. على أن هذا يبطل بمن كان في جواره مسجدان؛ أحمدهما أقرب إلى داره، فاعتكف في الأبعد، وخرج إلى منزله لحاجة الإنسان؛ فإنه لا يبطل اعتكافه، وإن كان يمكنه التحرز من تلك الزيادة في المشي. وعلى أنه لا يجوز أن يقال: يعتكف في الجامع؛ لأنه لم يلزمه بنذره، ولا يجوز أن يقال: يترك الجمع؛ لوجوبها عليه، لم يبق إلا أنه يخرج لحاجته إلى ذلك، كما يخرج لحاجة الإنسان. واحتج بأنه خرج من معتكفه لإقامة صلاة، فصار كما لو خرج لصلاة الجنازة، أو صلاة أخرى. والجواب: أنه ليس له حاجة إلى الخروج للصلاة المفروضة؛ لأنه يمكنه أن يصليها في معتكفه. وأما صلاة الجنازة، فقد قال في رواية الأثرم وحنبل: يخرج لأجلها؛ لأنها صلاة فريضة لا يمكنه فعلها في المسجد، فهي كالجمع. فعلى هذا: لا فرق بينها وبين الجمعة. وروى المروذي عنه: لا يجوز ذلك بغير شرط.

مسألة إذا قال: (الله على أن أعتكف شهرا) لزمه أن يتابع، وإن فرق لم يجزه

وهو اختيار الخرقي. فعلى هذا: لا حاجة إلى الخروج إلى ذلك؛ لأنها فرض على الكفاية، ولم يتعين وجوبها عليه. 5 - مسألة إذا قال: (الله على أن أعتكف شهراً) لزمه أن يتابع، وإن فرق لم يجزه: وهو قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: يجزئه. دليلنا: أن الاعتكاف يصح بالليل والنهار، فأشبه اليمين، والعدة، ومدة الإيلاء والعنة. ولو قال: (والله لا أكلم فلاناً شهراً) لم يجز له أن يفرق؛ للعلة التي ذكرنا، وكذلك مدة العدة. وإن شئت قلت: حكم علقه بمدة يصح في جميعها أشبه ما ذكرنا. ولا يلزم عليه إذا نذر صيام شهر وأطلق؛ لأن فيه روايتين: إحداهما: من شرط التتابع كالاعتكاف. نص عليه في رواية محمد بن الحكم في رجل قال: (علي أن أصوم عشرة أيام) يصومها متتابعاً، وإذا قال: (شهراً) فهو متتابع، وإذا

قال: (ثلاثين يوماً) فله أن يفرق. فقد نص على التتابع في الشهر، وفي العشرة، وأسقط في ثلاثين يوماً، ولا فرق بينهما، ولعله سهو من الراوي. فعلى هذا: لا فرق بين الاعتكاف وبين الصوم. والثانية: ليس من شرطه التتابع. قال في رواية أبي طالب فيمن نذر أن يصوم شهراً لم يسم؛ هل يصومه متتابعاً، أو متفرقاً؟ قال: متتابعاً أعجب إلي. وظاهر هذا: أن التتابع مستحب، وليس بواجب. فعلى هذا: لا يلزم على العلة؛ لقولنا: معنى يصح بالليل والنهار، والصوم لا يصح بالليل. وقد ناقض بعضهم هذه العلة كمن نذر صلوات وصدقات: أن ذلك يصح بالليل والنهار، وليس من شرطه التتابع، وهذا لا يلزم. فإن قيل: اليمين تقتضي أن لا يكون ابتداء الوقت متصلاً بها - أيضاً - اتصال ما بعده من الأوقات، وليس كذلك النذر؛ لأنه لا يقضي أن يكون ابتداء الوقت متصلاً، فلا يقضي اتصال ما بعده. قيل له: فيجب أن نفرق بين أن تقول: (لله على أن أصوم يوماً) وبين أن تقول: (والله لا أكلم فلاناً يوماً) فنجيز التفريق في الصوم، ولا نجيزه في اليمين؛ لأن اليمين تقتضي أن يكون ابتداء الوقت متصلاً بها، والنذر لا يقتضي اتصال ابتداء الصوم به، واتفقوا: أنه لا فرق بينهما،

فبطل هذا الاعتبار. وعلى أنه لو قال: (والله لا كلمته شهراً من هذه السنة) فإنه [لا] يقتضي أن يكون ابتداء الوقت متصلاً؛ لأن له أن يعين أي شهر شاء من السنة"، ومع هذا فإنه يقتضي اتصاله إذا عينه. فإن قيل: التتابع إنما شرطناه في اليمين؛ لأن الهجرة في الشرع والعادة هي متابعة الترك للكلام، وليس كذلك اعتكاف أيام؛ لأنه قد يكون متفرقاً ومتتابعاً في العادة. قيل له: العادة - أيضاً - في الاعتكاف التتابع، ولم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعتكاف إلا في مدة متتابعة، فلا فرق بينهما. ولأنها قربة ليس فيها تمليك مال يمكن أن يؤتى بها على الانفصال، وإذا نذرها غير متميزة لم يكن له التفريق، كما لو نذر عتق رقبة، لم يجز أن يعتق متفرقاً. ولا يلزم عليه إذا قال: (لله على أن أتصدق بدرهم) فله تفريقه. ولا يلزم عليه إذا نذر صوم شهر؛ لأنه لا يتصل. وقياس آخر هو: أن الاعتكاف عبادة يصح إيقاعها في جميع أجزاء الوقت الذي تضمنه لفظه، فلا يجوز أن يفرقه. دليله: صوم يوم واحد. وفيه احتراز منه إذا قال: (لله على أن أصوم شهراً)؛ لأنه يجوز

تفرقته على إحدى الروايتين؛ لأنه لا يصح إيقاعه في جميع أجزاء الوقت. فإن قيل: المعنى في صوم اليوم: أنه لا يجوز تفريق أجزائه بالشرع، فحمل مطلق النذر على ما تقرر في الشرع، وليس كذلك الاعتكاف؛ لأنه يجوز تفريق أجزائه؛ لأنه يصح اعتكاف يوم. ولأن اسم اليوم عند العرب يقع على ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. ولهذا قلنا: لو نذر اعتكاف يوم، لم يجز له تفريقه على قول بعض أصحابنا؛ لأن اليوم اسم لما بين طلوع الشمس وغروبها. وهذا معدوم في الأيام؛ لأنه اسم للمتفرق والمجتمع. قيل: هذا يبطل باليمين؛ فإنه إذا حلف على أن لا يكمله عشرة أيام، فإن ذلك عبارة عن المجتمع والمتفرق، ومع هذا فإنه يقتضي التتابع، كذلك في النذر. وقولهم: (إن الاعتكاف يصح بتفريق أجزائه) يبطل باليمين؛ لأنه يصح تفريق المدة، وهو أن يحلف لا يكلمه نصف يوم، ومع هذا لو حلف على يوم كامل اقتضى التتابع. وعلة الفرع تبطل بالصلاة والحج، لأن أفعال الصلاة تتفرق؛ لأن السجود يكون بانفراده، وهو سجود التلاوة، والقيام في صلاة الجنازة، والطواف والسعي في العمرة.

واحتج المخالف بأنها عبادة يجوز تفرقتها، فلا يجب التتابع فيها بمطلق النذر. دليله: إذا نذر صوم شهر. وربما قالوا: علقة بمدة مطلقة، فلم يكن من شرطه التتابع كالصوم. والجواب: أن صوم شهر لا يقع إلا متفرقاً، فلا يجب التتابع فيه بمطلق النذر، وليس كذلك الاعتكاف؛ لأنه يصح إيقاعه في جميع أجزاء الوقت الذي يتضمنه لفظه. فنظير مسألتنا من الصوم: أن يوجب على نفسه صوم يوم: أنه لا يجوز إلا متصلاً متتابعاً، كالاعتكاف شهراً. فإن قيل: تتابع الصوم هو المتابعة بين أيامه. يدل عليه: إذا شرط التتابع وجب، ولم تعتبر الليالي، ولهذا قال: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] وأراد: تتابع أيامه. قيل له: فهذا هو الديلي؛ لأن عشرة أيام عبارة عن الليالي والأيام، واللفظ تناولها، وما أوجبه يصح في بعضها، فلم يوجب نذره الاتصال؛ لأن التتابع ما لا يتفرق. وتتابع الصوم هو توالي الأيام، وذلك تفريق من وجه، فلم يلزم بموجب اللفظ ما لم يشرطه. واحتج بأن اسم (الشهر) و (الثلاثين يوماً) يتناول ما بين الهلالين، ويتناول ثلاثين يوماً متفرقة، وإذا أتى بما يصح أن يتناوله مطلق نذره

أجزأه، كما لو تابع. والجواب: أن اسم (الشهر) و (الثلاثين يوماً) يتناول ما بين الهلالين، ويتناول ثلاثين يوماً في اليمين. ثم اتفقوا: أنه لو امتنع من المحلوف عليه ثلاثين يوماً متتابعاً جاز، وإذا امتنع ثلاثين يوماً متفرقة لم يجز، كذلك الاعتكاف. واحتج بأنه لو قال: (لله على أن اعتكف شهراً بعينه) لم يكن من شرطه التتابع، بدليل: أنه متى ترك شيئاً منه قضاه، ولم يستأنف، فأن لا يكون من شرطه التتابع إذا أبهمه أولى. والجواب: أن في ذلك روايتين: إحداهما: يستأنف شهراً متتابعاً. والثانية: يبني على ما مضى. نص عليهما في الصيام فيمن نذر صيام شهر بعينه، فأفطر لغير عذر: فنقل صالح: يتم الشهر الذي أفطر، ويقضي الذي أفطر، ويكفر كفارة يمين. ونقل غيره: يبتدئ شهراً. وهو اختيار الخرقي، ذكره في كتاب "النذور".

مسألة إذا وطئ المعتكف ناسيا بطل اعتكافه

وإن قلنا: يستأنف شهراً، فلا كلام. وإن قلنا: يبني، فهناك المتابعة من جهة الوقت، فلم تبطل بالتفريق، كصوم شهر رمضان، والمتابعة هاهنا لا من جهة الوقت، فهي كمتابعة صوم الظهار، فبطل التفريق. 7 - مسألة إذا وطئ المعتكف ناسياً بطل اعتكافه: وقد قال أحمد في رواية حنبل وابن منصور: إذا وقع المعتكف على امرأته انتقض اعتكافه، وعليه الاعتكاف من قابل. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يفسد. دليلنا: أنه جماع مخصوص في حال اعتكافه، فأبطله. دليله: العامد. أو نقول: وطئ في الفرج أشبه العامد؛ لأن المنع من الجماع في حال الاعتكاف لا يختص الصوم بدلالة: أنه ممنوع في حال لا يضح فيه الصوم - هو ليالي الاعتكاف - فيجب أن لا يختلف حكم السهو

والعمد، كالخروج من المسجد. أو نقول: ما ينافي الاعتكاف يستوى عمده وسهوه، كالخروج من المسجد. فإن قيل: الكون في المساجد مأمور به، فاستوى في تركه العمد والسهو، والجماع منهي عنه، فاختلف فيه العمد والسهو. قيل: الحلاق وقتل الصيد وتقليم الأظفار منهي عنه، يستوي عمده وسهوه، والوقوف بعرفة مأمور به، ويفرق بين عمده وخطئه إذا وقف في غير يوم عرفة. فإن قيل: الحج تعظم المشقة فيه، فلهذا لم يلزمه القضاء مع الخطأ. قيل: لو أخطؤوا الطريق، أو أخطأ الواحد والاثنان العدد، وجب القضاء، وإن عظمت المشقة. فإن قيل: الحج لا يأمن مثله في القضاء. قيل: خطـ[ــأ] الواحد لا يأمن مثله. ولا يصح قياسهم على جماع الناسي في الصيام والحج؛ فإنه عندنا كالعمد سواء. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان".

مسألة إذا وطئ عامدا في حال الاعتكاف، وجبت عليه كفارة الوطء في أصح الروايتين

والجواب: أنه محمول على رفع المأثم، كما تقدم. واحتج بأنه استمـ[ـتـ]ـع ناسياً، فلم يفسد اعتكافه. دليله: لو قبل ناسياً. والجواب: أن تلك المباشرة لا تفسد الصوم، وليس كذلك هاهنا؛ لأن هذا استمتاع يفسد جنسه الصوم، أو جماع مخصوص في حال الاعتكاف أشبه العمد. وإن قاسوا على جماع الناسي في الصيام والحج، لم نسلمه، ونقول: يفسدهـ[ـمـ]ـا كالعامد. 8 - مسألة إذا وطئ عامداً في حال الاعتكاف، وجبت عليه كفارة الوطء في أصح الروايتين: نص عليها في رواية حنبل، وذكر له قول ابن شهاب: من أصاب في اعتكافه، فهو كهيئة المظاهر، فقال أبو عبد الله: إذا كان نهاراً، وجبـ[ــت] عليه الكفارة. وقال في موضع آخر من "مسائل حنبل": إذا واقع المعتكف أهله بطل اعتكافه، وكان عليه أياماً مكان ما أفسد، ويستقبل ذلك، ولا كفارة عليه إذا كان الذي وقع ليلاً، وليس هو واجب، فتجب فيه الكفارة.

وهذا - أيضاً - يدل على: أنه تجب عليه الكفارة إذا كان الاعتكاف واجباً بالنذر، وإنما لم يوجبه هاهنا؛ لأنه غير واجب. وقوله: (إذا كان ذلك نهاراً) قصد به إذا كان الاعتكاف واجباً عليه نهاراً، ولم يوجبه على نفسه ليلاً، فأما إن أوجب اعتكافه شهراً متتابعاً، أو أياماً متتابعة، فإن الليل والنهار سواء في ذلك. وبهذا قال الحسن البصري والزهري فيما حكاه ابن المنذر عنهما. وروى أبو داود عنه: إذا جامع المعتكف، فلا كفارة عليه. فقد أطلق القول بإسقاط الكفارة. وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وجه الرواية الأولى: أن الاعتكاف عبادة يحرم فيها الوطء، ويفسدها، فوجب فيها كفارة. دليله: الصيام والحج. ولا يلزم عليه الصلاة والطواف؛ لأن الوطء هنا يفسد الطهارة، وبفساد الطهارة فسد الطواف والصلاة. وإن شئت قلت: لبث في مكان مخصوص، أشبه الحج. أو تقول: عبادة تختص المسجد، أشبه الحج. وإن شئت قلت: عبادة تبيح الكلام وتحرم الوطء، وأشبه الصوم والحج، وفيه احتراز من الصلاة؛ لأنها تحرم الكلام. فإن قيل: لو كان مثل الصيام والحج لو جبت الكفارة العظمى.

مسالة إذا قبل، أو لمس، فلم ينزل فقد أساء، وعندي: أنه لا يفسد اعتكافه

قيل: هكذا نقول: لأن أحمد ذكر له قول الزهري: هو كهيئة المظاهر، فقال أحمد: إذا كان نهاراً وجبت الكفارة. فظاهر هذا: أن كلامه رجع إلى ما قاله الزهري. واحتج المخالف بأنها عبادة لا يدخل في جبرانها المال بدليل أنها لا تسقط إلى مال، ولا تكفره عنه بعد وفاته، فلم تجب بإفسادها كفارة. دليله: الصلاة، وعكسه: الصيام والحج. والجواب: أن حنبل وابن إبراهيم قد نقلا عنه فيمن مات وعليه اعتكاف: اعتكف عنه وليه. وعلى أن المعنى في الصلاة: أنها لا تفسد بالوطء، وهذه يحرمها الوطء ويفسدها، فهي كالصيام والحج. 9 - مسالة إذا قبل، أو لمس، فلم ينزل فقد أساء، وعندي: أنه لا يفسد اعتكافه: وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: يفسد. وللشافعي قولان:

أحدهما: مثل قولنا. والثاني: مثل قول مالك. دليلنا: أن كان مباشرة لا تبطل الصوم، فإنها لا تبطل الاعتكاف. دليله: اللمس لغير شهوة. وكلما حرم الوطء ودواعيه، كان للوطء مزية على ما حرم معه، كالصيام والحج؛ للوطء مزية على القبلة والمباشرة في باب الإفساد، وفي باب الكفارة أيضاً، كذلك في باب الاعتكاف يجب أن يكون له مزية في الإفساد. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة:187] ولم يخص. والجواب: إنما نحمله على الجماع، كما ذكرنا. واحتج بأن هذه مباشرة يقتضي الاعتكاف تحريمها، فوجب أن تفسده، وإن لم يكون معها إنزال، كالجماع. والجواب: أن الجماع يفسد الصوم، ولا تفسد [هـ] المباشرة بغير إنزال، كذلك الاعتكاف. فإن قيل: الصوم لا يحرم القبلة، والاعتكاف يحرمها. قيل له: إذا تأمن ما القبلة، وليس له أن يفعل في الصوم والاعتكاف جميعاً.

مسألة فإن باشرها فيما دون الفرج فأنزل، فسد اعتكافه

10 - مسألة فإن باشرها فيما دون الفرج فأنزل، فسد اعتكافه: وقال الشافعي في "الإملاء": لا يفسد الاعتكاف من الجماع إلا ما يوجب الحد. دليلنا: أنها مباشرة تأثر في فساد الصوم، فأثرت في الاعتكاف، كالوطء. أو نقول: عبادة يخرج منها بالوطء، فأبطلها الإنزال من غير وطء، كالصوم. واحتج المخالف بأنها عبادة تختص بمكان، فلم تفسد بمباشرة من غير جماع، كالحج. والجواب: أنه يبطل بالطواف. فإن قيل: هناك تبطل الطهارة، فيبطل الطواف. قيل: فقد أبطل بها، وإن كان بينهما واسطة. على أن الحج لا يخرج منه بالإفساد، فهو آكد، وفي مسألتنا يخرج منه بالإفساد، فأشبه الصيام.

مسألة ما كان في فعله قربة، يجوز للمعتكف شرطه؛ مثل عيادة المرضى، وشهود الجنازة، وزيارة أهله، وقصد العلماء

11 - مسألة ما كان في فعله قربة، يجوز للمعتكف شرطه؛ مثل عيادة المرضى، وشهود الجنازة، وزيارة أهله، وقصد العلماء: وقد قال أحمد في رواية المروذي - وقد سئل عن المعتكف يشترط يعود المريض، ويتبع الجنازة - قال: أرجو! كأنه لم ير به بأساً. وكذلك نقل بكر بن محمد عن أبيه عنه: المعتكف يعود المريض، ويشهد الجنازة. وكذلك نقل حنبل. وقال مالك: لا يجوز شرط هذه الأشياء. دلينا: ما روى أبو بكر بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المعتكف يتبع الجنازة، ويعود المريض". وروى أحمد بإسناده عن علي قال: يعود المريض، ويحضر الجنازة والجمع، ويأتي أهله يأمرهم بالحاجة، وهو قائم. ولأنه لما كان له الاشتراط في الخروج من الاعتكاف لعذر، وهو أن يقول: (لله على أن أعتكف، إن لم أكن مريضاً، إن لم يعرض لي سفر) ونحو ذلك، فلأن يجوز الاشتراط في فعل قربة تؤدي إلى ترك

بعض الاعتكاف أولى. ولأنه خروج لصلاة لا يمكن إقامتها في المسجد، أشبه الخروج للجمع. واحتج المخالف بما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض، وهو معتكف، فيمر كما هو، ولا يعرج يسأل عنه. وروى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مرضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة، إلا لما لابد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد الجامع. والجواب: أن هذا محمول عليه إذا لم يشترط بدليل ما ذكرنا. واحتج بأن عيادة المريض فضيلة، وكذلك الصلاة على الجنازة، ومقامه على الاعتكاف فريضة، فلا يجوز ترك الفريضة للفضيلة. والجواب: أن هذا يجوز بالشرط، كما جاز ذلك في الخروج من الاعتكاف للمرض والسفر. واحتج بأنه شرط ما يبيت في أهله، ولا يأكل في داره، وقد قال أحمد في رواية الأثرم، وقد سئل عن المعتكف يشترط أن يتعشى في

مسألة والمستحب للمعتكف التشاغل بذكر الله تعالى، والصلاة، وقراءة القرآن في خاصته. ولا يستحب له إقراء القرآن، وكتب الحديث، ومجالسة العلماء، والمناظرة لهم في العلم، والتدريس

أهله، أو يبيت في أهله، فقال: نعم، إذا كان تطوعاً. وظاهر هذا: انه لا يجوز في النذر. والجواب: أنه يبطل بشرط الخروج منه للمرض والسفر. على أن تلك الأشياء ليست بقربة، وهذه قربة 12 - مسألة والمستحب للمعتكف التشاغل بذكر الله تعالى، والصلاة، وقراءة القرآن في خاصته. ولا يستحب له إقراء القرآن، وكتب الحديث، ومجالسة العلماء، والمناظرة لهم في العلم، والتدريس: ذكره أبو بكر في كتاب (الخلاف)، وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي، وقد سئل عن الرجل يقرئ في المسجد، ويريد أن يعتكف، فقال: إذا فعل هذا كان لنفسه، وإذا قعد كان له ولغيره، يقرئ أعجب إلي. وظاهر هذا: أن الاعتكاف يمنع من إقراء القرآن؛ لأنه لو لم يكن كذلك لقال: يقرئ، وهو معتكف. وبهذا قال مالك. وقال الشافعي: يستحب له فعل ذلك.

دليلنا: أن الاعتكاف عبادة شرع لها المسجد، فلا يستحب إقراء القرآن حين التلبس بها. دليله: الصلاة والطواف، ولا خلاف أنه يكره له أن يقرئ القرآن، وهو يصلي، أو يطوف، كذلك الاعتكاف. ولا يلزم عليه الصيام والحج؛ لأن تلك العبادات لم يشرع لها المسجد. أو تقول: الاعتكاف: هو حبس نفسه على عبادة مخصوصة تخصه، فلا يجوز أن يفعل فيها غيرها، كالطواف والركوع لا يفعل فيه القراءة؛ لأنه مفعول لشيء مخصوص. فإن قيل: إنما كره الإقراء حال التشاغل بالصلاة والطواف؛ لأنه يشغله ذلك عن أفعال الصلاة وأذكارها. قيل له: وكذلك في الاعتكاف يشغله ذلك عن الذكر في حق نفسه. وعلى أن الطواف ليس فيه ذكر. وأيضاً فإنه ممنوع من التشاغل في المسجد بالبيع، والخياطة، والشراء؛ لما فيه من التشاغل عن الاعتكاف، كذلك فعل هذه الأشياء، التشاغل بها يشغل عن الاعتكاف. فإن قيل: إنما منع من البيع والشراء؛ لأن في ذلك فعل معيشته، وليس كذلك هاهنا؛ لأن هذه الأشياء قربة. قيل له: فعيادة المرضى وشهود الجنائز قربة، ولا يجوز فعلها،

وكذلك إقراء القرآن في الصلاة قربة وطاعة، ويمنع منه. فإن قيل: البيع والشراء والصنائع إنما كرهت لأجل المسجد، لا لأجل الاعتكاف. قيل: كرهت لأمرين: أحدهما: المسجد. والثاني: الاعتكاف. يدل عليه: أن الاعتكاف في اللغة: هو لزوم المرء الشيء، وحبس نفسه عليه؛ براً كان، أو مأثماً، في أي موضع كان. ومنه قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] وقوله: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف:138]. وهو في الشرع: عبارة عن لزوم الشيء، وحبس النفس عليه في طاعة، في مكان مخصوص. وإذا كان كذلك، ففعل هذه الأشياء يشغله عن ذلك؛ لأنه يخرج عن أن يكون ملازماً للشيء، وحابس نفسه عليه. واحتج المخالف بأن هذه الأشياء قرب وطاعة، فالتشاغل بها في المسجد غير ممنوع منه، كما لو تشاغل بدرس القرآن في حق نفسه، أو تشاغل بالصلاة والصيام.

مسألة فإن نذر اعتكاف شهر، ومات، فإنه يقضى عنه

والجواب: أنه ليس إذا جاز التشاغل في حق نفسه، جاز التشاغل بغيره، كما يجوز أن يتشاغل بقراءة القرآن في الصلاة، ولا يجوز أن يقرئ غيره، وهو يصلي. ولأنه بفعل هذه الأشياء في حق نفسه لا يخرج عن أن يكون ملازماً للشيء، وحابس نفسه عليه، وإذا تشاغل بهذه الأشياء خرج عن أن يكون كذلك، فلهذا فرقنا بينهما. 3 - مسألة فإن نذر اعتكاف شهر، ومات، فإنه يقضى عنه: نص عليه في رواية صالح: إذا نذر أن يعتكف، فمات، يعتكف عنه، هذا نذر ينبغي أنت يوفي به. وبه قال أبو ثور خلافاً لأكثرهم في قولهم: لا يقضى عنه. دليلنا: ما رواه ابن المنذر عن ابن عباس وعائشة: أنهما قالا: يعتكف عن الميت. ولأنها عبادة تبيح الكلام، فإذا وجبت بالنذر، يجب أن تقضى.

دليله: الصيام والحج. [و] إن شئت قلت: عبادة تختص المسجد، أو لبث في مكان مخصوص، فيجب أن تقضى. دليله: الحج. وقال بعض أصحابنا: عبادة وجبت بالنذر، أشبه ما ذكرنا. والتزم على هذه الصلاة المنذورة على إحدى الروايتين. ولأنه قد ثبت من أصلنا: أن الكفارة تجب بإفساده، فإذا وجب بالنذر، وجب أن يقضي. دليله: الصوم والحج. واحتج المخالف بأنها ...

كتاب الحج

كتاب الحج

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحج 14 - مسألة من شرط وجوب الحج وجود الزاد والراحلة: نص عليهما في رواية حنبل، فقال: السبيل: الزاد والراحلة, وليس عليه أن يحج راجلاً, إلا أن يتطوع بنفسه. وكذلك نقل صالح. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك وداود: الراحلة غير معتبرة، فمن قدر على المشي، لزمه ذلك، ولم يقف وجوبه على وجود الراحلة. وأما الزاد: فلا يعتبر ملكه، وإنما تعتبر القدرة عليه؛ فإن كان ذا صنعة يمكنه الاكتساب بها، لزمه، وإن لم يكن له صنعة- وكان يحسن السؤال، وجرت عادته به- لزمه، وإن لم تجر عادته بذلك، لم يلزمه.

دليلنا: قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]. فيهما دليلان: أحدهما: من جهة الاستنباط. والثاني: من جهة التفسير. وأما الاستنباط: فهو أن كل عبادة أمر بفعلها، اقتضى ذلك القدرة على الفعل، كالصوم والصلاة وغيرهما، فلما اشترط في الحج استطاعة السبيل، اقتضى ذلك زيادة على القدر (ة)، والتي اعتبرها مالك، وليس ذلك إلا الاستطاعة التي نعتبرها. وأما التفسير: فروى أبو بكر بإسناده عن الحسن قال: لما نزلت {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال: قيل: يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: ((من وجد زاداً وراحلة)). وروى الدارقطني بإسناده عن ابن مسعود، وابن عمر، وعمرو ابن شعيب، (عن أبيه، عن جده)، وعائشة، وأنس: أن النبي "صل الله عليه وسلم" قيل له: ما السبيل؟ قال: ((الزاد والراحلة)). فإن قيل: يحتمل أن يكون الرجل الذي سأله ممن لا يحجب عليه

الحج إلا بوجود زاد وراحلة، فبين له السبيل المشروط في حقه. قيل له: النبي "صلى الله عليه وسلم" ذكر (السبيل) بالألف واللام، وإنما يكون المراد بذلك جنس السبيل، أو المعهود- هو المذكور في الآية- فلا يمكن حمل الخبر على غير هذين. فإن قيل: لا يجوز أن يكون هذا بياناً للسبيل المذكور في الآية؛ لأن الشرط يعتبر في حق عامة الناس، والزاد والراحلة غير معتبر في حق المكي، ومن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. قيل له: الظاهر اقتضى اعتبار ذلك في حق جميع الناس غير أن الدليل خصه في الوضع الذي ذكروه. فإن قيل: فقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] عام في كل مستطيع، وهذا مستطيع. قيل له: قد (بينا من) الاستنباط والتفسير ما يمنع العموم، (وأيضاً) ما روى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رجل: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: ((الزاد والراحلة)). وفي لفظ آخر عن النبي "صل الله عليه وسلم" قال: ((السبيل إلى البيت)) الزاد

والراحلة))، وهذا خرج مخرج البيان. والقياس أنها عبادة (بدنية) بقطع مسافة بعيدة، فكان من شرط وجوبها زاد وراحلة، كالجهاد. وإن لم يسلموا أن الزاد والراحلة معتبران في وجوب الجهاد. دليلنا عليه: قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فأخبر أنه لا حرج على من لم يجد محملاً في ترك الجهاد. ولآن كل من لم يمكنه أداء الحج إلا بقطع مسافة تقصر فيها الصلاة، فإذا لم يكن واجداً للزاد والراحلة، لم يلزمه فرض الحج. دليله: من لا صنعة له، ولا يحسن السؤال. واحتج المخالف بقوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27]؛ يعني: مشاة وقرئ: (رجالاً) يعني: رجالاً. فثبت: أنه يجب المشي إليه.

والجواب: أن الآية فيها: أن الناس يأتون الحج مشاة، ونحن نقول بذلك، وهم من كان بمكة، ومنها على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، يبين هذا قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يعني: على كل مركوب {يَاتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق} [الحج: 27]؛يعني: بعيد، فاعتبر المركوب في البعيد، فثبت أن المراد ما ذكرنا. واحتج بأنها عبادة على البدن، فلم يعتبر فيها زاد وراحلة، كالصوم والصلاة. والجواب: أنه ينتقض [... .] وبمن لم يحسن السؤال، ولا له حرفة. على أن المعني في الأصل: أنه لا مشقة في قطعه من عدم الزاد والراحلة، فلم يعتبر ذلك فيها، والحج بخلافه. واحتج بأنه قادر على الحج من غير خروج عن عادة، ولا بد له، فلزمه، كما لو كان واجداً للزاد والراحلة، أو كان بمكة، أو عل مسافة قريبة. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه لا مشقة في ذلك، وليس كذلك هاهنا؛ لأن عليه فيه مشقة.

واحتج بأن القدرة على الكسب قد أقيمت مقام القدرة على المال، بدلالة أن من قدر على الكسب حرم عليه أخذ الصدقة، كما حرم عليه إذا كان له مال، وكذلك الفقير المعتمل يلزمه أداء الجزية، كما يلزم من معه مال، وكذلك [الأب إذا كان يكتسب] يلزمه نفقة ولده، وكذلك الابن، وكذلك المفلس إذا كانت له حرفة لزمه أن يؤجر نفسه، ويقضي دينه، كما يلزمه مع وجود المال، كذلك هاهنا. والجواب: أن حرمان الصدقة يعتبر بحصول الغنى، وهو غنى بالحرفة، كما هو غني بالمال، وليس كذلك الراحلة، إذ كأنما اعتبرت لنفي المشقة، والمشقة تلحقه بعدمها. وأما إيجاب النفقة على الأب، وإيجاب الجزية على الكافر، والإجازة على المفلس؛ لأنه لا مشقة في ذلك؛ لأنه مخاطب بالنفقة يوماً بيوم، فإذا عجز عنها في الثاني لم تلزمه مشقة في المستقبل، وكذلك المفلس؛ متى عجز سقطت المطالبة. وليس كذلك [... .] بما عجز في سفره عن الكسب، فتلحقه

المعضوب [إذا كان عنده مال] يحج به عن نفسه، لزمه ذلك

مشقة في الرجوع (.....)، فالزكاة والكفارة لا تجب بالكسب [... .]، كذلك الحج. 15 - مسألة المعضوب [إذا كان عنده مال] يحج به عن نفسه، لزمه ذلك: نص عليه في رواية أبي طالب فقال: إذا كان الرجل والمرأة لا يقدران على الحج، وقد وجب عليهما الحج -حج عنهما وليهما. وهو قول الشافعي. وقال مالك وداود: لا يلزمه أن يحج غيره من ماله. كذلك روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس فال: كان الفضل بن العباس ردف النبي "صل الله عليه وسلم" فجاءت امرأة من خثعم؛ لتستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل الرسول "صل الله عليه وسلم" يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت

أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)). وروى أحمد بإسناده عن ابن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى النبي "صل الله عليه وسلم" فقال: يا رسول الله! أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ فقال: ((أنت أكبر ولده؟)) فقال: نعم، قال: ((أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه، أكان ذلك يجزئ عنه؟) قال: نعم، قال: ((فاحجج عنه)). وروى أبو داود بإسناده عن أبي رزين العقيلي: (أنه) قال لرسول الله "صل الله عليه وسلم": إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة، ولا الظعن، فقال: ((احجج عن أبيك واعتمر)). فمن هذه الأخبار دليلان: أحدهما: قول المرأة: فريضة الله على عباده أدركت أباها، ولم ينكر عليها ذلك.

والثاني: أنه أمر بالقضاء، وشبهه بالدين، والأمر يدل على الوجوب، ولأن الحج من فرائض الإيمان، فجاز أن يجب على المغضوب، كالصوان والصيام. وإن شئت قلت: عبادة تجب على إفسادها كفارة، فجاز أن تجب على المغضوب، كالصوم. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، فأوجب الحج على من استطاع السبيل، والمعضوب لا يستطيع. والجواب: أنه إنما اعتبر السبيل في وجوب الحج على الإنسان نفسه، وهاهنا لا يجب على المعضوب بنفسه، فلم تعتبر استطاعته. وعلى أنا قد روينا: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فسر السبيل بالزاد والراحلة، فاقتضى الظاهر: أن المعضوب إذا وجد الزاد والراحلة، لزمه الحج، فكانت الآية حجة لنا من هذا الوجه. واحتج بأن كل عبادةٍ لم تدخلها النيابة مع القدرة، لم تدخلها مع العجز، كالصلاة، وعكسه الزكاة. والجواب: أن الصلاة عبادة لا يدخل في جبرانها المال، فلم تدخل النيابة [مع القدرة]، والحج بخلافه. أو نقول: الصلاة لما لم تدخل النيابة فيها بعد الوفاة، لم تدخلها

مسألة [لو بذل غيره] الطاعة في الحج عنه، لم يلزمه فرض الحج، سواء كان المبذول له صحيحا، أو [زمنا] كان، أو معسرا

في حال الحياة، والحج لما دخلته النيابة بعد الوفاة، دخلته في حال الحياة. [وهذا يقال في الصوم؛ فإنه] لا تدخله النيابة بالإطعام في حال القدرة، وتدخله مع العجز في حق الشيخ [الهرم]. 16 - مسألة [لو بذل غيره] الطاعة في الحج عنه، لم يلزمه فرض الحج، سواء كان المبذول له صحيحًا، أو [زمنًا] كان، أو معسرًا: هكذا ذكر شيخنا، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي داود وصالح، وقد سئل: على من يجب الحج؟ قال: إذا وجد زادًا وراحلة. فاعتبر وجود ذلك في ملكه، وهذا لا يجد. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إن كان المبذول له زمنًا معسرًا، والباذل واجدًا

للزاد والراحلة، وقد حج عن نفسه، ويوثق بطاعته، وهو ممن يجب عليه الحج، مثل أن يكون حرًا بالغًا عاقلًا، لزم المبذول له فرض الحج، وعليه أن يأمر الباذل بأداء الحج عنه، فإن لم يأمره به، ومات لقي الله (عز وجل) وعليه حجة الإسلام، كالزمن إذا كان له مال، ولم يحج عن نفسه حتى مات، ولا فرق بين أن يكون الباذل ولدًا، أو أجنبيًا. فإن بذل له المال، ففيه وجهان: أحدهما- وهو الصحيح-: أنه لا يلزمه قبوله. والثاني: يلزمه. دليلنا: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، وفسر النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بالزاد والراحلة، وظاهر هذا مقتضى الوجوب بذلك. فإن قيل: إذا كان يأمر بمثل، سمي مستطيعًا، ألا ترى أن الإنسان يقول: أنا مستطيع أن أبني دارًا، بمعنى: آمر ببنائها؟ قيل له: يقول ذلك إذا كان يأمر من يجب عليه أن يفعل، فأما إذا قدر على أمر من لا يجب عليه العمل، قيل: هو مستطيع للأمر، لا للبناء. وعندهم أن للابن أن يرجع فيما بذل ما لم يدخل في الإحرام، فكيف يكون الآمر مستطيعًا، والمأمور لا يلزمه فعله؟

ولأن الحج عبادة تراد لنفسها، فوجب أن لا تؤثر طاعة غيره في وجودها. دليله: الصوم والصلاة. ولا تلزم عليه الطهارة؛ فإذا بذل له الماء، وبذل له من يوضئه: أنه يلزمها؛ لأنها لا تراد لنفسها. ولو حذفنا قولنا: (تراد لنفسها) لم يضر؛ لأن الضوء يجب عند بذل الماء بالحدث السابق، فإذا لم تؤثر طاعة غيره في الوجوب. فإن قيل: الصوم والصلاة لا تصح النيابة فيهما، فلهذا لم يجبا بوجود من ينوب عنه، وليس كذلك الحج؛ لأنه تصح فيه النيابة. قيل له: فالزكاة تصح فيها النيابة، ومع هذا لا تؤثر طاعة غيره فيها، وكذلك الكفارات. وأيضًا لا خلاف أنه لو بذل له الإطعام في كفارة اليمن، والكسوة، أو الرقبة، والمبذول له معسر، يلزمه قبوله للعلة التي ذكرنا، كذلك إذا بذل له الطاعة في الحج. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن فيه تمليك مال: وتلحقه بقبوله منه، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه من عمل البدن، ولا تلحقه به منة،

ألا ترى أن الإنسان قد يمتنع من قبول المال من غيره، ولا يمتنع من استخدامه وتصريفه حوائجه؛ لأنه تلحقه بقبول المال منه، ولا تلحقه باستخدامه؟ ولهذا لو قلنا: لو بذل المال، وهو معسر زمن، لم يلزمه الحج؛ لأنه يحصل بقبوله منة، فلا يلزمه قبوله. قيل له: المنة تحصل للأجنبي بعمل البدن، كما تحصل ببذل الإطعام ولا تحصل للولد في واحد منهما. على أنه يلزمه أن يفرق بين بذل الطاعة في الصوم والصلاة، وبين الإطعام والكسوة بهذا المعنى. فإن قيل: في قبول الرقبة والإطعام تسبب إلى تملكه ما يجب به العتق والإطعام، وليس على المكفر أن يتسبب إلى ذلك، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه ليس فيه تسبب إلى تملك ما يجب به الحج؛ لأن الحج يلزم المبذول له الطاعة بنفس البذل من غير قبول، وإنما يحتاج إلى أن يأمر الباذل بأدائه عنه؛ ليصح أداؤه عنه. قيل له: قد يلزم المكفر أن يتسبب إلى تمليك الرقبة بالشراء إذا كان معه ثمنها. فإن قيل: ترك قبول الطعام والرقبة لا يؤدي إلى إسقاط الكفارة

جملة؛ لأنه ينتقل إلى البذل، وهو الصوم، وليس كذلك الحج؛ لأنه ليس بدل يرجع إليه، فلو قلنا: إنه لا يجب عليه، لسقط جملة. قيل: فيلزمه أن يقول: لو بذل له المال يلزمه قبوله؛ لأنه لو لم يلزمه لسقط جملة. ثم نقول له: أفرق بين الصلاة والإطعام في الكفارة بهذا المعنى. ولأن المبذول له غير مالك للزاد والراحلة، فوجب أن لا يكون بذل غيره بمنزلة وجود الاستطاعة، كما لو بذل له المال. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، ولم يفرق بين أن يستطيع بنفسه، وبين أن يستطيع بغيره. والجواب: أنا قد جعلنا ذلك حجة لنا، وأنه لا يكون مستطيعًا لغيره. علي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سئل عن الاستطاعة فقال: الزاد والراحلة، وهذا غير مالك لهما، فلا تتناوله الآية. واحتج بما روي: أن الخثعمية قال للنبي (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج، وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال لها: "حجي عن أبيك". فوجه الدلالة منه: أنه لم يجر ذكر [الاستطاعة]، وقد أخبرت أنه

عاجز عن أداء الحج بنفسه، وأن فريضة الله أدركته، ولم ينكر النبي (صلي الله عليه وسلم) عليها ذلك، وأمرها أن تحج عنه. نعم إن وجوبه عليه تعلق ببذلها له الطاعة. والجواب: أن الخثعمية أخبرت بوجوب الحج على أبيها، والحج إنما يجب بوجود المال، ثم سألت عن جواز أدائها عنه، فأجاز النبي (صلي الله عليه وسلم) لها ذلك، فدل على: أن الحج كان واجبًا عليه قبل أن يبذل له بالطاعة في أدائه عنه. واحتج بأنه سبب يتوصل به إلى الحج عن نفسه، فجاز أن يلزمه فرض الحج. دليله: الزمن إذا كان له زاد وراحلة. والجواب: أنه ينتقض ببذل المال. على أن المعنى في الأصل: أنه مالك للزاد والراحلة، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه غير مالك لهما، فوجب أن لا يعتبر بطاعة غيره في حكم المستطيع [إذا] بذل له المال. واحتج بأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فجاز وجوبها على المعضوب المعسر. دليله: الصوم.

والجواب: إنما نفصل عليه فنقول: فوجب عليه أن يستوي حكمه بعد البذل وقبله. دليله: الصوم. أو نقول: بوجود المستطيع لا يوجبها عليها، ولأن الغضب ليس [له] تأثير في أداء الصوم، والصحيح والمعضوب سواء، ولما كان الغضب يمنع وجوب الحج مع الفقر، لم تؤثر الطاعة في إيجابه، كما لا تؤثر في الإيجاب على الشيخ الهرم. واحتج بأن الناس في الحج على ضربين:. ضرب يؤديه بمباشرة. وضرب يؤديه بالنيابة. فمن يؤدي بمباشرة يلزمه بوجود المال، وهو إذا كان غائبًا عن البيت، ومرة يلزمه بغير مال، وهو إذا كان قريبًا من البيت، كذلك من [يحج عنه] بالنيابة يجب أن يلزمه مرة بوجود المال، ومرة بغيره، وعندكم: أن المعضوب لا يلزمه [بغير المال].

مسألة إذا حج المعضوب أو الصحيح عن نفسه حجة تطوع أجزأه

والجواب: أن من يؤديه بمباشرة لا تلزمه استطاعة غيره، ومخالفنا يقول: إن المبذول له يلزمه الحج باستطاعة في الباذل. 17 - مسألة إذا حج المعضوب أو الصحيح عن نفسه حجة تطوع أجزأه: نص عليه في رواية الأثرم، وقد سئل عن الصحيح؛ هل له أن يعطي من يحج عنه بعد الفريضة يتطوع بذلك؟ فقال: إنما جاء الحديث في الذي لا يستطيع، ولكن إن أحج عنه الصحيح أرجو أن لا يضره. وهو قول لأبي حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: لا يجوز. وهذا في المعضوب، فأما في الصحيح، فلا يجوز قولًا واحدًا. وقد انتقل أبو جعفر محمد بن أبي حرب الجر جرائي نحو هذا، فقال: سألته عمن قد حج الفريضة يعطي دراهم يحج عنه، فقال: أيش يكون له؟! ليس عليه شئ. رأي أنه ليس له أن يحج عنه بعد الفريضة.

وعلى هذا: أنه لا تصح النيابة في نقل الحج؛ لأنه كان ليس له أن يحج بعد الفرض، ويجعل العلة: أنه ليس عليه. وقال في موضع آخر من "مسائلة": وقد سأله: الرجل [يعطي المال للحج]، قال: لا، لا يأخذ. هذا محمول على الاستبانة في حجة التطوع، فأما في حجة الفرض، فقد نص في موضع آخر: أنها تخرج عنه، فقال: سألته عن الرجل يحج عنه، قال: إذا لم يكن حج فمن جميع المال، وكذلك جميع ما يلزمه من الزكاة وغيره، والزكاة أشد. فقد نص في حجة الفرض. وقوله: "الزكاة أشد" لم يرد أنها تقدم على الحج، أو أنها تقضي دون الحج، وإنما أراد أنهما- وإن كانا يقضيان- فإن الزكاة أكد؛ لأنه يتعلق بها حق الله- تعالى- وحق الآدمي، وهم الفقراء، والحج يتعلق به حق الله فقط، والدين يتعلق به حق آدمي فقط. فالدلالة على أنه تصح الاستبانة في حجة التطوع: أن كل ما صحت النيابة في فرضه، صحت في نقله، كالصدقة؛ لما جاز أن يقول لغيره: (خذ [من] مالي خمسة دراهم، وأد الزكاة الواجبة علي) جاز أن يقول له: (خذ من مالي خمسة دراهم، تصدق بها صدقة التطوع).

مسألة إذا كان مرضه يرجى زواله، لم يجز له أن يحج عن نفسه

ولأن الفرض آكد من التطوع، وإذا صحت النيابة في الفرض، ففي التطوع أولى. واحتج المخالف بأنها عبادة على البدن، فلا تصح النيابة فيها عند عدم الضرورة في الأًصل. وعلى أنه لما لم تصح النيابة في الصلاة، استوي في ذلك حكم الفرض والنقل، فلو كان الحج كذلك، لاستوى حكم فرضه ونفله. واحتج بأن النيابة إنما جازت فيها للحاجة، بدليل: أن الصحيح لا [يستنيب فيها]، ولا حاجة في الاستبانة في التطوع. والجواب: أن النيابة إنما جازت؛ لأن فعلها بنفسه غير واجب، وهذا موجود في النقل. وعلى أنا لا نسلم: أنه لا حاجة به إلى النقل؛ لأن الإنسان به حاجة إلى فعل الطاعات بعد موته، كما به حاجة إلى إسقاط الفرض. 18 - مسألة إذا كان مرضه يرجى زواله، لم يجز له أن يحج عن نفسه: نص عليه في رواية أبي طالب فقال: إذا كان شيخًا كبيرًا

[....] [لا] يستمسك على الراحلة، يحج عنه وليه، وإذا كانت المرأة ثقيلة لا يقدر مثلها [أن] يركب، والمريض الذي أيس منه أن يبرأ، والمرأة التي قد أيس من أن تقدر على الحج. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يحج عن نفسه إذا كان عاجزًا، سواء أكان يرجى زواله، أو لا يرجى، وكذلك المحبوس عنده. دليلنا: أنه غير ميئوس منه أن يحج بنفسه، فلا يجوز أن يحج غيره عنه. دليله: الصحيح. أو نقول: لأنه يرجى برؤه، فأشبه إذا كان صداع يسير. واحتج المخالف: أنه غير قادر على أداء الحج بنفسه في الحال، فله أن يستنيب فيه غيره، قياسًا على المريض الذي لا يرجى برؤه. والجواب: أنه يبطل بمن تلف جميع ماله، ولم يبق له زاد وراحلة؛ فإنه غير قادر على أداء الحج بنفسه في الحال، ومع هذا لا يجوز له أن يستنيب فيه. وعلى أنه ليس الاعتبار عند المخالف بالعجز في الحال، وإنما

مسألة وإذا حج المعضوب عن نفسه، أو الشيخ الكبير، ثم برئ من غضبه، أو أحدث الله- تعالى- في الشيخ قوة، فإن تصور ذلك، فإنه يجزئه، ولا إعادة عليه

الاعتبار في الثاني، ألا ترى لو أنه أحج المغضوب عن نفسه، ثم برئ بعده، لزمه الحج ثانيًا، فبطل ما قاله. ثم المعنى في الأصل: أنه ما يئس منه أشبه من به صداع يسير. واحتج بأن ما أثر المرض في تعيين صفة وجوبه، استوي فيه المرض الذي لا يرجى برؤه- في جواز الانتقال إلى الإطعام- وبين ملا يرجى، ثم الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الصلاة يتكرر وجوبها، والحج لا يتكرر [وجوبه ... صفاته]. والثاني: أنه لو صلى على [جنبه في حالة، ثم زال مرضه]، لم يعد، وإن حج، ثم زال مرضه، أعاد عندهم. 19 - مسألة وإذا حج المعضوب عن نفسه، أو الشيخ الكبير، ثم برئ من غضبه، أو أحدث الله- تعالى- في الشيخ قوة، فإن تصور ذلك، فإنه يجزئه، ولا إعادة عليه: نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد وابن منصور:

فقال في رواية إسماعيل: إن الرجل يحج عمه، وهو ضعيف لا يستمسك على راحلته، ثم تماثل من علته، يجزئه، ولا إعادة. وفي رواية ابن منصور: إذا كان لا يقدر على الحج، فحجوا عنه، ثم صح بعد ذلك، فقد قضى ما عليه. قال أبو حنيفة: يعيد. دليلنا: أنه أحج ن نفسه في حالة أيس من الحج بنفسه، أو في حالة لا يرجى برؤه، فيجب أنه يجزئه. دليله: إذا اتصل به الموت. يبين صحة هذا أصلنا: أن الاعتبار حالة الابتداء دون حالة الانتهاء، ولهذا نقول: إذا كان مرضه يرجى زواله، فأحج عن نفسه، لم يجزئه- وإن اتصل به الموت- اعتبارًا بحالة الابتداء، وأنه لم يجزئه أن يحج عن نفسه. وهاهنا أحج عن نفسه في حالة يجوز له ذلك، فيجب أن يجزئه. واحتج المخالف بأن الموت لم يتصل بالمرض، فيجب ألا يجزئه. دليله: لو كان مرضه يرجى زواله، فأحج عن نفسه. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه لا يجوز له أن يحج عن نفسه عندنا، فلهذا لم يجزئه، ألا ترى أنا نقول: لو اتصل الموت بذلك

مسألة من كان البحر بينه وبين طريق مكة، والغالب منه السلامة، فعليه الحج

المرض لم يجزئه، وليس كذلك هاهنا، لأنه أحج عن نفسه في حالةٍ جاز له أن يحج، فأجزئه، كما لو اتصل به الموت. 20 - مسألة من كان البحر بينه وبين طريق مكة، والغالب منه السلامة، فعليه الحج: ذكره أبو بكر في كتاب "الخلاف"، وهو قول أبي حنيفة ومالك. قال أصحاب الشافعي: فيها قولان. دليلنا: قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يركب البحر إلا حاج، أو معتمر، [أو غاز في سبيل الله] " [ولأن] الغالب منه السلامة، فهو كالبر. ولأنه طريق جاز سلوكه للتجارة، فجاز سلوكه للحج والعمرة. ولأنه أحد المركبين، فجاز وجوب الحج بالقدرة عليه، كالبر. واحتج المخالف بأن الغالب على البحر الخطر؛ لأنه لا يخلو من

مسألة الأعمى إذا وجد زادا وراحلة وقائدا يقوده، لزمه الخروج بنفسه

هبوب الريح والعوارض. والجواب: أنه إنما يشترط في الوجوب: أن يغلب عليه السلامة، وما يعرض غير غالب، فلا يعتد به. [واحتج بأن عوارض] البحر من جهة الله تعالى، [والبر عوارضه من جهة الآدمي]. والجواب: أنه يعرض على البر العطش والبرد والحر، وذلك من جهة الله تعالى، فلا فرق بينهما. 21 - مسألة الأعمى إذا وجد زادًا وراحلة وقائدًا يقوده، لزمه الخروج بنفسه: أومأ إليه أحمد في رواية المر وذي، وقد سئل عن رجل له أم ضريرة، ولها مال، أيحج عنها؟ فقال: يحج عنها إذا لم تقدر على الركوب. فلم يجعل العمى مسقطًا لفرض الحج بنفسه، واعتبر عدم الثبوت على الراحلة. وقد حكاه أبو حفص عن ابن بطة فقال: استطاعة الضرير: الزاد،

والراحلة، ومن يقوده. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الحج بنفسه، ويلزمه في ماله. دليلنا: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]. وفسر النبي (صلى الله عليه وسلم) السبيل بالزاد والراحلة. والظاهر: أن كل من وجد زادًا أو راحلة، وجب عليه الحج، فوجب عمل الآية على ظاهرها. فإن قيل: الآية تقتضي وجوب الحج عليه، ونحن نقول: يجب عليه الحج، وليس فيه أن يفعله بنفسه، [أو] بماله. قيل له: قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يقتضي قصد البيت، فيجب أن يكون على كل واحد من الناس قصد البيت بنفسه؛ لأن الحج هو القصد. ولأن الأعمى لا تلحقه مشقة في الثبات على المراكب، وهو كالمبصر الصحيح. فإن قيل: البصير الصحيح يمكنه [أن] يتصرف بنفسه، والأعمى لا يقدر على التصرف بنفسه.

قيل له: إذا كان معه [من يقوده] فأنه يتمكن من ذلك. [و] لأنه فقد حاسة، فلا تمنع من وجوب الحج عليه بنفسه. دليله: الصمم. ولا يلزم عليه الغضب والكبر؛ لأنه فقد قدرة. يبين هذا: أن الحاسة مأخوذة من الحس بالأشياء، ولهذا حدها المتكلمون بالحواس الخمس. فإن قيل: الصمم لا يمنع من التصرف بنفسه، والعمى يمنه من ذلك. قيل له: الصمم يمنع من مخاطبه الحمال، ومن يبيع منه ويشتري. وعلى أنه إذا كان معه قائد يرشده ويسدده، فلا يتعذر عليه ذلك، كما لا يتعذر على البصير. فالأعمى لم يفته إلا العلم بالطريق، ومواضع النسك، وإذا وجد قائدًا يوصل إلى العلم به، فيلزمه، كالبصير إذا كان لا يهتدي الطريق، ولا يعرف المواضع التي تؤدي بها المناسك، وأنه إذا وجد من يهديه ويرشده، لزمه ذلك. واحتج المخالف بأن الأعمى لا يمكنه أن يتصرف في سفره بنفسه، ألا ترى أنه يحتاج إلى من يركبه، وينزله، ويعينه على قطع المسافة، فهو كالزمن، بل الأعمى أسوأ حالًا من الزمن والمقعد؛ لأن الزمن إذا ركب قدر على أداء فرض الحج راكبًا، والأعمى لا يقدر على أدائه وإن

ركب، حتى يقوده غيره. والجواب: أن الزمن والمقعد لا يتمكن من النزول والركوب والثبوت على الراحلة، ومباشرة المناسك بنفسه، والأعمى يمكنه ذلك، وإنما يفقد الهداية إلى الجهة التي يحتاج إليها، فإذا أرشده غيره اهتدى، وقام بالنسك، فأتي به، فهو كالبصير الصحيح الذي لا يهتدي النسك، فإنه لا يسقط عنه، كذلك الأعمى. واحتج بأن الحج عبادة تحتاج في أدائها إلي قطع مسافة، فوجب أن لا يلزم الأعمى قياسًا على الجهاد. والجواب: أن هذا لا يصح؛ لأن الأعمى يجب عليه الحج بالإجماع، فالوصف غير صحيح. فإن قيل: يريد به أنه لا يلزمه الحج بنفسه. قيل له: لا يؤثر في الأصل؛ لأنه لا يلزمه في ماله، ولا في نفسه. ثم المعنى في الجهاد: أن القصد منه القتال، وهذا لا يحصل من الأعمى، وليس كذلك الحج؛ لأن المقصود منه حضور مواضع النسك، وهذا يمكن للأعمى مع القائد، كما يحصل من البصير.

مسألة إذا مات وعليه حجة الإسلام، لزم الورثة أن يحجوا عنه من صلب المال من دورية أهله، سواء وصى بذلك، أو لم يوص

22 - مسألة إذا مات وعليه حجة الإسلام، لزم الورثة أن يحجوا عنه من صلب المال من دورية أهله، سواء وصى بذلك، أو لم يوص: نص عليه في رواية حنبل وابن إبراهيم، فقال: إذا مات، وقد وجب عليه الحج، فهو من جميع المال بمنزلة الدين. وقال- أيضًا- في رواية الأثرم: يحج عنه من حيث وجب عليه، من حيث أيسر، قيل له: فرجل من أهل بغداد، خرج إلى خراسان فأيسر، ثم يحج عنه؟ فذكر له أن رجلًا قال: يحج عنه من الميقات، فأنكره. قيل له: فرجل من أهل خراسان، أو من أهل بغداد، خرج إلى البصرة، ومات بها، قال: يحج عنه من حيث وجب عليه. وقال- أيضًا- في رواية أبي داود في رجل من أهل الري، وجب عليه الحج ببغداد، ومات بنيسابور: يحج عنه من بغداد. فقد نص على ما ذكرنا. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يلزم الورثة أن يحجوا عنه إلا أن يوصي بها. وقال الشافعي: يحج من الميقات. وقال داود: الحج لا يسقط بالموت. فالدلالة على وجوب الحج- وإن لم يوص- ما تقدم من حديث ابن الزبير الذي رواه أحمد: أن رجلًا من خثعم أتى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: إن

أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر أولاده؟ " قال: نعم، قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته، أكان ذلك يجزئ عنه؟ " قال: نعم، قال: "فاحجج عن أبيك". فشبه قضاء الحج بقضاء الدين، وقد ثبت أن الدين يقضي عنه حيًا وميتًا، الحج لظاهر الخير. وقوله: "احجج عنه" أمر، وذلك يقتضي الوجوب. فإن قيل: إنما شبهه بالدين في الجواز، [....]، ونحن نقول بذلك. قيل له: من حكم الدين إيجاب القضاء، فيجب أن يكون حكم المشبه به كذلك. وروى الأثرم بإسناده عن ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ " قالت: نعم، قال:"اقضي الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء".

وقوله: "أقضي" أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وتشبيهه بالدين يدل على وجوب القضاء. وقوله: "أحق" يدل على أنه أولى بالقضاء من الدين. فإن قيل: الخبر يقتضي جواز القضاء، ونحن كذلك نقول، وإنما خلافنا في الإيجاب في التركة. قيل له: الحج قد سقط عندك بالموت، وإذا فعل أحد عن أحد لا يكون قضاء، فلا يصح هذا التأويل. مع أن قوله: "احجج عن أبيك" وقوله: "فاقض" أمر، والأمر يدل على الوجوب. والقياس: أن الحج حق واجب تصح الوصية به، فوجب ألا يسقط قضاؤه بموته. دليله: دين الآدمي. وفيه احتراز من الصلاة والصيام والمال الذي على المكاتب لمولاه؛ لأن الوصية لا تصح بشئ من ذلك. وفيه احتراز من [الزكاة]؛ لأنه قبل الحول غير واجب، وإذا حال الحول وجب، ولم يسقط.

ولا يلزم عليه الجزية؛ لأنه لا تعرف الرواية فيها، وكان شيخنا يقول: لا تسقط. وإن شئت احترزت عن الجزية فقلت: حق مستقر تصح الوصية به، والجزية غير مستقرة؛ لأنه يماك إسقاطها بالإسلام، والمستقر ما لا يملك إسقاطه. فإن قيل: لا نسلم أنه تصح الوصية بالحج الذي كان عليه؛ لأنه يسقط بموته، والذي يجب إخراجه بالوصية غير الذي كان عليه، وإنما الوصية بحج تطوع. قيل له: نحن أدعين صحة الوصية بالحج في الجملة، وهذا مسلم، فعندنا بالواجب والتطوع، وعندكم بالتطوع. فإن قيل: المعنى في الديون: أن استيفاها في حياته لا يتعلق برضاه وإذنه، ألا ترى أن صاحب الحق لو أخذ من ماله مقدار حقه من جنس ما عليه جاز؟ فلم يفت بموته إلا أذنه، وذلك غير معتبر، فجاز أن يستوفى يعد موته، وليس كذلك الحج؛ لأنه لو أخرج من ماله في حياته مقدار نفقة الحج بغير إذنه، كذلك بعد موته. قيل له: علة الأصل تبطل بصدفة الفطر؛ فإن الأب يؤديها عن

ابنه في حال حياته من غير اعتبار إذنه ورضاه، [ومع هذا] تسقط بالموت عندهم. وعلة الفرع تبطل بالعشر؛ فإنه لو أخرج عنه من ماله في حياته [حياته مقدار] العشر بغير إذنه لم يجز، ومع هذا لا يسقط بموته عندهم على الرواية المشهورة. وكذلك [....] الشهيد إذا قتل، وهو جنب، ولم يجد الماء، فإنه [....]، ولا يسقط ذلك بموته، وإن كان لا يصح فعله في حال حياته بغير إذنه. وعلى أنه إنما يصح إخراجه في حال حياته بغير إذنه [....] الإذن من جهته، وبعد الموت قد تعذر ذلك، فلا يمنع ذلك من الإيجاب، كالحي إذا أمتنع من أداء الزكاة، فإنها تؤخذ منه، وإن لم يوجد الإذن؛ لتعذره من جهته. ولأنه إنما احتيج إلى إذنه في حال حياته؛ ليحصل التمييز بين

الفرض والتطوع، وبعد الوفاة لا يخرج من رأس المال إلا الفرض الذي وجب عليه في حال الحياة، فاستغنى عن إذنه ونيته. وإن شئت قلت: حق تدخله النيابة، استقر عليه في حال الحياة، فلم يسقط عنه في موته. دليله: ما ذكرنا. وفيه احتراز من الصلاة والصيام؛ لأن النيابة لا تدخل في ذلك. وفيه احتراز من المال على المكاتب، ومن الدية؛ لأن الحق غير مستقر، وفي الجزية نطق. فإن قيل: لا نسلم أنه مستقر، بل هو مراعي، فإن حج تبينًا استقراره، وإن مات تبينًا عدم الاستقرار. قيل له: الدلالة على أنه مستقر: أن من وجب عليه الحق لا يمكنه [....]، فهذا معنى الاستقرار، والحج بهذه الصفة. فإن قيل: ولا نسلم: أن الحج تدخله النيابة؛ لأن الحج يقع عن الحاج عندنا، ويكون للمحجوج [عنه] ثواب النفقة. قيل له: الدلالة على أنه يصح منه: أن تصح فيه الاستبانة، وهو أن يدفع إلى غيره مالًا؛ لينوي عنه، ويلبي عنه، ولا يجوز أن يكون هذا إلا فيما تقع فيه النيابة، ألا ترى أن الصلاة والصيام لما لم تصحَّ النِّيابة

فيهما، لم تصح فيهما الاستبانة؟ ولأن ما صحت الوصية به إذا لم يكن مستحقًا عليه، لم يسقط بموته إذا كان مستحقًا عليه، قياسًا على حقوق الآدميين؛ لأنه إذا أوصى بعبد له لإنسان- وهو لا يستحقه عليه- صحت الوصية، وإذا كان في يده عبد مغصوب يستحق عليه، لم يسقط عنه بموته، ووجب رده على صاحبه. واحتج المخالف بأن كل من وجبت عليه عبادة، لم يلزم غيره أن يؤديها عنه بعد موته. دليله: الصلاة. والجواب: أنه يبطل بالعشر، والغسل إذا وجب عليه قبل القتل. ثم المعنى في الصلاة: أنه لا تصح الوصية بها، أو لا تنفذ النيابة فيها في حال الحياة، وليس كذلك الحج؛ لأنه تصح الوصية به، ولأن النيابة تدخله، فهو كالدين. واحتج بأن الحج وجب في حياته على أن يكون عبادة عليه وقربة له، ولا يمكن أداؤه بعد موته على الوجه الذي وجب، فوجب أن يسقط كالصلاة.

والجواب: أن العبادة قد يسقط فرضها، وإن لم تكن قربة له، ولا ثواب له فيها، وهو الصلاة في الدار المغصوبة، عندهم هي صلاة صحيحة، وكذلك الزكاة تؤخذ من الممتنع، ويجبر على إعطائها، وإن لم يكن ذلك قربة إلا بنية وإخلاص. ثم المعنى في الصلاة ما تقدم. واحتج بأن هذه حجة لم يأذن بفعلها من وجبت عليه، فوجب أن لا تلزم غيره إذا أداها عنه؛ قياسًا على حال الحياة. والجواب: أن حالة الحياة إنما تمنع الحج عنه بغير إذنه؛ لإمكان أدائه بإذنه، وإذا مات فقد تعذر إذنه، ألا ترى لو أنه كان صحيحًا وجب أن يؤدي الحج، فلو عجز عنه بزمانه، أو موت، قام فعل غيره مقام فعله؟ واحتج بأنه لا تحاص بالحج ديون، فوجب أن لا يجب إخراجه بغير وصيه، كسائر العطايا. والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل نقول: تحاص بالحج ديون الآدميين. نص عليه في الزكاة في رواية ابن القاسم: إذا مات، وعليه دين وزكاة، تحاص الغرماء من الزكاة نصفين. وعلى أنه ليس إذا لم يحاص يجب أن يسقط بالموت، بدليل أنه

إذا اجتمع غرماء الصحة وغرماء المرض، وضاق المال، فيقدم غرماء الصحة، فلم تسقط حقوق غرماء المرض، بل الدين في الذمة، فلو أبرأه عنه، أو قضاه أجنبي عنه، صح، كذلك هاهنا. واحتج بأن الحج عبادة يفتقر في أدائها إلى قطع مسافة، فوجب أن تسقط بالموت، كالجهاد. والجواب: أن الجهاد لا تصح النيابة فيه، وليس ذلك هاهنا؛ لأنه تصح النيابة فيه، وينويه عن صاحب المال، ويلبي عنه. - فصل: والدلالة على أنه يجب إخراج الحج عنه من دويرة أهله، كالنيابة عن المعضوب. ولأن السبب إلى العبادة يجري مجراها في الوجوب، ولهذا يلزم من تعذرت داره من الجامع أن يتسبب إليها، ويأثم بتركها، كما يأثم بتركها. واحتج المخالف بأن هذه المسافة غير مقصودة، وإنما هو توصل

مسألة الحج يقع عن المحجوج عنه

إلى الواجب، فهو في حال الحياة لا يمكن التوصل إلا بقطعها، وبعد الموت يمكن التوصل عنه من الميقات، فلهذا فرقنا بينهما. والجواب: أنه يجب أن نقول في المعضوب إذا حج عن نفسه: أن يخرج من الميقات ... إلى من يحج عنه من الميقات. وعلى أن الطهارة غير مقصودة في نفسها، ويجب فعلها. 23 - مسألة الحج يقع عن المحجوج عنه: وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: الحج يقع عن الحاج، وللمحجوج عنه ثواب النفقة. وفائدة هذا: أن على قولنا تصح [النيابة عنه، لكن من جهته مال]، فيكون له ثوابه. وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا يعجبني أن يأخذ دراهم، فيحج بها إلا أن يكون متبرعًا يحج عن أبيه، أو ابنه، أو أخيه.

وكذلك نقل أحمد بن الحسين ويوسف بن موسى عنه في الرجل يريد أن يحج عن أبويه: يبدأ بالأم، إلا أن يكون الأب قد وجب عليه. وكذلك نقل أبو الحارث، وقد سئل: يحج الرجل عن أبيه، أو عن أمه؟ فقال: إن حج من مال نفسه متبرعًا، وإن كان من مال الميت، فلا يحج وارث عن وارثه. كأنه يرى أنها وصيه لوارث. وكذلك نقل أبو داود- وقد سئل: يحج عن أمه؟ - قال: نعم، يقضي عنها دينًا عليها، قيل له: فينفق من ماله، وينوي عنها؟ قال: جائز، قيل له: فالمرأة تحج عن الرجل؟ قال: نعم، إذا كانت محتاجة. فقد نص على جواز النيابة، وإن لم يكن من جهة المناب عنه مال. والدلالة على ذلك: ما تقدم من حديث ابن الزبير. وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) للسائل: "احجج عن أبيك" وشبهه بالدين، فلو كان الحج عن القائل لم يكن حاجًا عن أبيه، وإنما كان حاجًا عن نفسه. ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) شبه قضاء الحج عن أبيه بقضائه الدين عنه، كما كان قضاء الدين يسقط عنه فرضه، ويقع عنه، كذلك قضاء الحج. فإن قيل: يحمل قوله: "فحج عنه" على إخراج المال عنه. ولأن ظاهر الخبر يقتضي جواز حجه عنه بماله وبغير ماله، وعندهم: إن لم يكن له مال، لا يصح الحج عنه.

والقياس: ما صحت الاستنابة فيه، صحت النيابة فيه. دليله: قضاء الدين، و [الوقوف] بعرفة. أو نقول: ما صحت الاستنابة فيه، فإذا فعله المستناب، وقع عن المستنيب. دليله: ما ذكرته. وفد بينا أنه يستنيب من ينوي عنه، ويلبي عنه، فلولا أنه يقع عن النائب فيه ما صحت النية والنيابة عنه، كما لا يصح أن ينوي فيما يقع عن نفسه عن غيره. واحتج المخالف بأن كل من لزمه أداء [ما] يوجب الإحرام، كان الإحرام عنه، كمن حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه. والجواب: أنه إذا] استأجره لتفرقة [الزكاة، كان العمل مستحقاً عليه، وتكون الزكاة واقعة عن المزكى عنه، [....]، فلو استأجره لذبح هديه كان الذبح مستحقاً عليه، والهدي واقع عن غيره. وكذلك [....] يستحق العمل على الأخير، ويكون العمل للمستأجر.

وأما من لم يحج عن نفسه، فإنما وقع الحج عنه؛ لأنه لم يسقط الفرض عن نفسه، وهذا قد أسقط الفرض عن نفسه، ألا ترى أن الطواف لا تصح النيابة فيه، وعليه فرضه، وتصح النيابة فيه، [....] أسقط فرضه [....] لو أفسده [....] في الابتداء لنفسه. والجواب: أن إذا أفسده تبينا أنه لم يكن عن المحجوج عنه؛ لأنه على خلاف ما يتناوله إذنه، وهذا كما لو أمره بشراء شيء على صفة، فاشتراه بخلاف صفته، فيكون لازماً للوكيل. واحتج بأن الكفارة التي تجب في الإحرام تلزمه، فيجب أن يكون الحج عنه واقعاً، كما لو أحرم عن نفسه في الابتداء. والجواب: أن ذلك جناية من جهة الحاج لم يتناولها إذن المحجوج عنه، فكان ما يجب في ماله، يدل على ذلك أن هدي الإحصار يجب في مال المحجوج عنه؛ لأنه ليس بجناية من جهة الحاج. فإن قيل: هدي الإحصار يخلص به من السفر، فيشبه نفقة الرجوع، وذلك في مال المحجوج عنه، كذلك هدي الإحصار. قيل له: فيجب أن تقول- إذا نوى المقام هناك-: أن يسقط

مسألة لا يجوز الاستئجار على الحج، ولا على الطاعات، كالإمامة، والأذان، وتعليم القرآن

هدي الإحصار عن المحجوج عنه، كما تسقط نفقة الرجوع، وقد قلت: إنه لا يسقط. على أن ابن منصور روى عن أحمد في رجل أمر رجلاً أن يرمي عنه، وهو مريض، فنسي الذي أمر حتى رجع إلى مصره: قد أساء المأمور، لكن الدم على الآمر، ذكرها أبو حفص البرمكي في ((مجموعه)). واحتج بأنه يفتقر في أدائه إلى قطع مسافة، أشبه إذا جاهد عن غيره: أنه يقع عنه، ويلحق الآمر أجر النفقة. والجواب: أن الجهاد لا تصح الاستنابة فيه، فلهذا لم تصح النيابة، والحج بخلافه. 24 - مسألة لا يجوز الاستئجار على الحج، ولا على الطاعات، كالإمامة، والأذان، وتعليم القرآن: وإنما تصح النيابة في الحج بنفقة يأخذها من غيره، فإن فضل منها شيء رده. وقد نص على ذلك في الأذان، وذكرناه في كتاب الصلاة، وكذلك الإمامة، ونص على تعليم القرآن، ويأتي ذكره في كتاب

الإجارات، إن شاء الله. ونص في الحج- أيضاً- في رواية أبي طالب، وقد سئل عن الأجراء الذين يحجون عن الناس، فقال: ما سمعنا أحداً استأجر من يحج عن الميت. وقال في رواية ابن منصور- وذكر له قول سفيان: أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما- فقال أحمد: نحن نكره هذا، إلا أن يعينه في الحج. وبهذا قال أبو حنيفة. وذكر أبو إسحاق في ((تعاليقه)) كلاماً يدل على جواز أخذ الأجرة، فقال: لا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر. ثم قال: فإن قيل: على هذا فالحج عن الغير يجوز أن يؤخذ عليه الأجر. فالجواب: أن أفعال الخير على ضربين: ما كان فرضاً على العامة وغيرهم، مثل الأذان، والصلاة، وما أشبه ذلك، لا يجوز أن يجوز أن يؤخذ عليه أجر.

وما انفرد به من يحج عنه، فهو جائز، مثل فعل البناء لبني المسجد، يجوز أن يأخذ عليه الأجرة؛ لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء المسجد. وقد أومأ إليه أحمد في رواية عبد لله، وقد سأله فيمن يكري نفسه للحج، ويحج: لا بأس. ونقل الكوسج عنه: يكري نفسه ويحج، ذكر ذلك أبو حفص البرمكي في ((مجموعة)). وبهذا قال مالك والشافعي. وجه الأولى: قوله تعالى:} مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ {[الشورى:20] الآية. والآخذ إنما يريد حرث الدنيا، فيبطل ذلك القربة. ولأنه أخذ العوض، فتبطل القربة المقصودة بالعمل، بدلالة العتق على مال لا يجوز عن الكفارة. ولأنها عبادة على البدن، فلا يجوز الاستئجار على فعلها. دليله: الصلاة والصيام، وعكسه: الزكاة. فإن قيل: المعني في الأصل: أنه لا تصح النيابة فيه، وليس كذلك الحج؛ لأنه تصح النيابة فيه. قيل: إذا جاز أن ينوي في الحج، جاز الاستئجار عليه؛ لأن الإمام يستنيب القاضي في الأحكام، ولا يجوز أن يستأجره، والأعمال المجهولة

تصحُّ النيابة فيها، ولا يصح الاستئجار، ويستخلف الإمام في الصلاة إذا أحدث، ولا يجوز أن يستأجر على ذلك. ولأن من شرط الحج أن يكون قربة لفاعله، فلا يجو الاستئجار عليه. دليله: ما ذكرنا. وعكسه: تفرقة الزكاة، وليس من شرطه أن يكون قربة لفاعله؛ لأنه لو استناب كافراً يفرق زكاة ماله على الفقراء، أجزأ عنه على اختلاف في المذهب، كما إذا ستناب الذمي في ذبح أضحيته، صح على اختلاف الروايتين. فإن قيل: إنما لم يصح من الكافر؛ لأن من شرط صحة الحج أن يقع على وجه القربة، ولا تحصل القربة بفعل الكافر، وليس كذلك المسلم؛ فإنه من أهل القربة، فالقربة تقع بفعله. قيل له: إذا أخذ الأجرة خرج عن أن يكون فربة، كالعتق بعوض يخرج عن أن يكون قربة. فإن قيل: أخذ العوض] لا يخرجه عن [أن يكون قربة، كما لم يسلبه أخذ الرزق عن أن يكون قربة، وكما لم تخرج الزكاة عن أن تكون قربة بالاستئجار على فعلها، وذبح الهدي.

قيل له:] أخذ الرزق لا يصح [في الحج، وإنما صح في الأذان والقرآن؛ لأن ذلك الرزق ليس في مقابلة العلم، وإنما يأخذه؛ لأنه له حق في بيت المال، ولهذا المعنى يستحقه الغني والفقير. [ويبين صحة] هذا، وأنه ليس بمعاوضة: أنه لا يختص بزمان معلوم، ولا بمقدار من الأجرة معلوم، ولو كان عوضاً اختصه. وأما أخذ الأجرة على تفرقة الزكاة وذبح الأضحية فلما بينا، وهو أنه لا تختص أن تكون قربة لفاعلها، ولهذا يصح أن يفعلها الكافر. واحتج المخالف بأنه عمل تدخله النيابة، فجاز عقد الإجارة عليه. أصله: بناء المساجد، وعقد القناطر، والرباطات، وغير ذلك من الأعمال. والجواب: أن الأعمال المجهولة تدخلها النيابة، ولا يصح عقد الإجارة عليها. ثم المعنى في تلك الأشياء: أنه ليس من شرطها أن تكون قربة لفاعلها، ولهذا يجوز أن يتولاها الكافر، وفي مسألتنا من شرط الحج أن يكن قربة لفاعله، فلم يجز الاستئجار عليه. دليله: ما ذكرنا.

مسألة فإن أخذ نفقة؛ ليحج بها عن غيره، فصد الآخذ بعذر، أو موت في بعض الطريق، لم يلزمه ضمان ما أنفق

واحتج بأن ما جاز أن يفعله الغير تطوعاً، جاز أن يفعله بعقد إجارة. دليله: تفرقة الزكاة، والأضحية. والجواب: أن عسيب الفحل يجوز أن يفعله الغير عن الغير تطوعاً، ولا يفعله بعقد إجارة، وكذلك الإمامة الكبرى. ثم المعني في الأصل- وهو الزكاة والأضحية- ما ذكرنا، وهو أنها ليس من شرطها أن تكون قربة لفاعلها، وهذا بخلافه. 25 - مسألة فإن أخذ نفقة؛ ليحج بها عن غيره، فصد الآخذ بعذر، أو موت في بعض الطريق، لم يلزمه ضمان ما أنفق: نص عليه غي رواية ابن منصور في رجل أعطي دراهم يحج بها عن إنسان، فمات في بعض الطريق، فليس عليه شيء مما أنفق، ويحجون بالباقي من حيث بلغ هذا الميت. وقال في رواية المأموني وأحمد بن الحسين فيمن أخذ مالاً ليحج به، فضاع منه، أو قطع عليه الطريق: لا يغرم.

وقال مالك: ما أخذه على وجه الإجارة، فله من الأجرة بحساب ذلك. وقال الشافعي: إن لم يأت بشيء من المقصود- الذي هو الحج- لا يستحق شيئاً. وإن مات بعد أن أتى ببعض أركانه فهل يستحق، أو لا؟ على قولين. دليلنا: أن النفقة دفعت إليه ليقطع بها المسافة التي لا ينفك الحج منها، وجميع أفعال الحج،] صح أن لا يضمن [ما أنفق في بعض المسافة، ويحسب به، كما لو حصل المقصود. ] يبين صحة هذا: أن [النفقة تختلف باختلاف المسافة؛ طولها وقصرها، فعلم أن النفقة على مقابلها، ومقابلة ما يليها من الأفعال. فإن قيل: المسافة غير مقصودة، وإنما هي سبب إلى العمل المقصود، فهو كما استأجره ليخبز له، فأحضر الدقي والماء والحطب، وسجر التنور، ولم يخبز، لم يستحق شيئاً من الأجرة، وكذلك لو استأجره لبناء دار، فقدم الآلة وما يحتاج إليه للبناء، ولم يبن، لم يستحق شيئاً، كذلك هاهنا، إنما دفع إليه النفقة؛

مسألة فإن أخذ مالا؛ ليحج به عن ميت، فقرن، لم يضمن النفقة، وكان دم القران في مال الحاج

ليحصل المقصود [وما حصله]. قيل: قطع المسافة مقصود عندنا، ولهذا نقول: إذا مات قبل أن يحج وجب إخراج نفقة من يحج عنه من دويرة أهله، لا من الميقات، فإذا أنفق في بعض الطريق، فقد حصل بعض المقصود الذي كان يلزمه فعله من ماله. ثم مثال الحج من الخبز والبناء أن يتأهب للخروج والسير بالذهاب والمجيء من بلده، ويشتري ما يحتاج إليه، فلا يحسب له شيء من النفقة، فأما إذا شرع في السير، فمثاله أن يلصق الخبز في التنور قبل نضاجه، فيستحق الأجرة، أو يبني بعض البناء، فينهدم، أو يمتنع، فيستحق الأجرة. 26 - مسألة فإن أخذ مالاً؛ ليحج به عن ميت، فقرن، لم يضمن النفقة، وكان دم القران في مال الحاج: نص عليه في رواية حنبل: إذا قرن أو تمتع، فالدم في ماله، والحج والعمرة عن صاحب المال.

مسألة إذا أمره أن يحج عنه، وأمره آخر بمثل ذلك، فأهل بحجة عن أحدهما، لا ينوي واحدا منهما بعينه، وقع إحرامه عن نفسه، وليس له أن يصرفه إلى واحد منهما

قال أبو حنيفة: يضمن النفقة. دليلنا: أنه قد أتى بالمأمور به وزيادة، فلم يضمن، كما لو أفرد الحج والعمرة. فإن قيل: إنما ضمن؛ لأنه خالف ما أمره به. قيل: قد أتى بالمأمور وزاد، فهو كما [لو] قال له: بع بعشرين ديناراً، فباع بزيادة على ذلك. 27 - مسألة إذا أمره أن يحج عنه، وأمره آخر بمثل ذلك، فأهل بحجة عن أحدهما، لا ينوي واحداً منهما بعينه، وقع إحرامه عن نفسه، وليس له أن يصرفه إلى واحد منهما: وهذا ظاهر كلامه في رواية بكر بن محمد: إذا حج عن رجل يقول في أول ما يلبي: عن فلان، فاعتبر التعيين. وكذلك نقل حرب عنه فيمن أخذ حجة عن اثنين، فهو ضامن، وإن كان نوى أحدهما وسمى، فهو الذي نواه، وعليه الأخذ. وقال - أيضاً - في رجل أخذ حجة من رجل، وحمله آخر؛ ليحج عن أمه: لم يجز، إلا أن يكون قد نوى.

وقال أبو حنيفة والشافعي: له صرفه إلى أحدهما. دليلنا: أنه لم يعين الإحرام عن أحدهما، فلم يكن له صرفه إلى أحدهما. دليله: لو أحرم طلقاً، لا عن أحدهما، فإنه يقع عن نفسه، ولا يصرفه إلى أحدهما. ولأنه لو [أذنا له في] شراء سلعة، فاشترى لأحدهما لا يعينه، لم يكن له تعيينه. واحتج المخالف بأن [الجهالة لا تمنع صحة] الإحرام، بدلالة أنه لو أحرم لا ينوي به حجاً ولا عمرة، انعقد إحرامه، وله [أن يصرفه إلى أيهما شاء، كذلك] إذا أحرم عن أحدهما لا ينوي واحداً بعينه. والجواب: أنه ليس [من حيث صح إحرامه] بالمجهول، صح أن يحرم عن المجهول، ألا ترى أن الإقرار، يصح بالمجهول، ولا يصح [لمجهول؟ وكذلك] الوصية [تصح] بالمجهول، ولا تصح لمجهول.

مسألة إذا حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه لم يجز عن الغير

وعلى أنه لا يمتنع أن يقع الإحرام [مطلقاً، ويعينه] بحج، أو عمرة، ولا يعينه لأحدهما، كما لو أحرم مطلقاً كان له أن يعينه بحج، أو عمرة، ولا [يكون له صرفه] إلى أحدهما. 28 - مسألة إذا حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه لم يجز عن الغير: نص عليه [في رواية صالح وإسماعيل بن سعيد]: فقال في رواية صالح: لا يحج أحد عن أحد لم يحج عن نفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة». وقال في رواية إسماعيل - وقد سئل عن الصرورة أهل بالحج عن غيره - قال: لا يحج فإن فعل لا يجزئه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن لبى عن غيره، وهو صرورة: «اجعلها عن نفسك». فقد نص: أنه لا يجزئ عن الغير، واختلف أصحابنا: هل يقع

عن نفسه، أم لا؟ فقال ألخرقي: يقع عن نفسه. وهو قول الشافعي. وقال أبو بكر في كتاب «الخلاف»: لا يقع عن نفسه، ولا عن غيره. فعلى قوله لا ينعقد الإحرام. وقال أبو حفص العكبري في «شرح ألخرقي «: ينعقد الإحرام عن المحجوج عنه، ثم يقلبه الحاج عن نفسه. ونقل محمد بن ماهان في رجل عليه دين، وليس له مال: يحج الحج عن غيره حتى يقضي دينه؟ قال: نعم. وظاهر هذا: جواز الحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه. وقال أبو حنيفة ومالك وداود: يجزئ عن الغير. فالدلالة: أنه لا يجرئ عن الغير: ما روى عبد الله بن بطة بإسناده عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: «من شبرمة؟» قال: أخي، أو قريب لي، قال: «[هل] حججت قط؟» قال: لا، قال: «اجعل هذه عنك، ثم حج عن شبرمة». وروي في لفظ آخر: «فعن نفسك فلب»

وفي لفظ آخر رواه أبو إسحاق الشالنجي قال: «لب - أو حج - عن نفسك، ثم عن شبرمة» وروي في لفظ آخر: «أيها الملبي عن فلان! لب عن نفسك، ثم عن فلان». وروي [. . . .]: «هذه عنك، ثم حج عن شبرمة». وهذه الألفاظ كلها نصوص؛ لأنه منعه من الحج عن غيره، وعليه فرض الحج. فإن قيل: قوله: «حج عن نفسك» يقتضي وجوب استئناف الحج عن نفسه، وعندكم أنه كان حاجا عن نفسه. قيل له: قوله: «حج عن نفسك» معناه: استدمة عن نفسك؛ لأنه إذا قيل لمن هو متلبس بالحج: حج، معناه: استدم، كما قيل للمؤمن: آمن، معناه: استدم الإيمان. فان قيل: قوله: «اجعلها عنك» يدل على: أن الإحرام كان واقعاً عن شبرمة؛ لأنه لو كان انعقد عنه لما احتاج أن يجعله عن نفسه. قيل له: قوله: «اجعلها» كناية عن التلبية، وإشارة إليها؛ لأنه رآه

يلبي عن شبرمة، فقال: اجعل هذه التلبية عن نفسك؛ فإن الإحرام واقع عنك. فإن قيل: فلم لا يون كناية عن الحجة؟ وقد تقدم ذكرها أيضاً؛ لأن في الخبر: «هل حججت عن نفسك؟» قال: لا، قال: «اجعلها عن نفسك». قيل: إنه إنما وجب حمله على التلبية؛ لأنه قد صرح به في لفظ آخر، فقال: «أيها الملبي عن فلان! لب عن نفسك، ثم عن فلان». وجواب آخر، وهو: أنه لو كان المراد صرف الإحرام عن شبرمة بعد انعقاده [عنه إلى نفسه]، لكان فيه فسخ حج إلى حج، وذلك غير جائز، فعلم أن المراد به: التلبية، أو المراد به: استدامة الإحرام عن نفسك. فإن قيل: فسخ الإحرام كان جائزاً في ذلك الوقت، وهذه القصة كانت في حجة الودع، وقد أمر أصحابه بالفسخ لمن لم يسق الهدي. قيل له: فسخ الإحرام كان ثابتاً على وجه مخصوص، وهو أن يفسخه إلى عمرة، فأما فسخ الحج إلى حج آخر، وفعله شخص عن شخص، فلم يكن ذلك جائزاً في الشرع، فلم يجز حمل الخبر عليه. فإن قيل: قوله: «هذه عنك» فيه إضمار، يحتمل أن يريد: اجعل

هذه عنك، ويحتمل: هذه واقعة عنك. قيل له: قوله:» هذه» إشارة إلى موجود، وهي الحجة التي أحرم بها، وعندك لا تكون هذه عنه، وإنما يكون مثلها عنه بإحرام مستأنف. فإن قيل: فقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن نبيشة فقال له: «هل حججت قط؟» قال: لا، فقال: «هذه عن نبيشة، ثم حج عن نفسك». قيل: هذا غير صحيح. قال: كان الحسن بن عمارة يروي هذا الحديث، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس، وكان وهم الحسن بن عمارة، ثم رجع في آخر عمره إلى الصواب من حديث شبرمة، وترك رواية حديث نبيشة. والحسن بن عمارة ضعيف في الجملة. وعلى أنهما لو تعارضا كان تقديم المشهور المتفق على صحته أولى.

والقياس: أنه لم يؤد فرض الحج عن نفسه، فلا يجوز أن يؤديه عن غيره، كالمراهق. فإن قيل: المراهق لا ينعقد إحرامه، وحجه ليس بحج صحيح، ألا ترى أنه لو حج عن نفسه لم يجز؟ قيل له: لا نسلم هذا، بل عندنا أن حجه صحيح، كالبالغ. فإن قيل: فالمعنى: أنه لا ينعقد نذره، وليس كذلك الصرورة؛ فإنه ينعقد نذره، فانعقد إحرامه عن غيره. قيل له: علة الفرع تبطل بالمحرم؛ فإنه ينعقد نذره بالحج، ولا ينعقد إحرامه. وعلى أنه إذا نذر لا يجب إحضاره مواضع النسك لتأديته، وليس كذلك الإحرام؛ فإنه يجب إحضاره مواضع النسك، وأمره بتأديته. ولأنه لا ينعقد نذره، وينعقد لم سلامه، كذلك لا ينعقد نذره، وينعقد إحرامه. [وأيضاً فإنه إذا حضر ذلك الموضع] تعين عليه أداء الفرض عن نفسه، فلا يجوز أن يؤدي عن غيره، كما لو حضر الوقعة، ووقف في صف القتال، ونوى أن يقاتل عن غيره، كان عن نفسه.

فإن قيل: لمَّا لم يجز أن ينوي القتال عن غره استوي فيه حكم المرة الأولى والثانية، وليس كذلك الحج؛ لأنه له أن ينوي عن غيره بعدما يحج عن نفسه مرة، كذلك الابتداء. قيل له: إنما لم يجز أن ينوي بالقتال عن غيره في المرة الثانية؛ لأنه يتعين عليه بالحضور في الدفعة الثانية، وليس كذلك في الحج في الدفعة الثانية؛ لأنه لا يتعين عليه بالحضور، وفي الدفعة الأولى يتعين فكانت بمثابة كل حضور ينوى به الجهاد. وأيضاً فإن الإحرام ركن من أركان الحج، فبقاؤه عليه يمنع أداءه عن غيره، كطواف الزيارة. فإن قيل: الطواف موجب بالإحرام، والأصول فرقت بين موجبات الإحرام وبين الإحرام نفسه في أن حكم موجباته لا يتعين بالنية، ويتعين حكم الإحرام، ألا ترى أن موجبات الصلاة لا تتعين بالنية، ويتعين الإحرام؟ وبيان هذا: أنه لو أحرم بالصلاة بنيه النفل لم يجز صرف موجباتها - وهو الركوع والسجود - إلى الفرض، ولو أراد صرفها إلى الفرض قبل الإحرام بها صح، كذلك الطواف لا يجوز صرفه إلى غيره بعد أن تلبس بالإحرام عن نفسه، ويجوز قبل التلبس به. قيل له: موجبات الصلاة تابعة لإحرامها، ألا ترى أنها لا تنفرد بنية، ولا بوقت، ولا بمكان؟ فجاز أن يكون الاعتبار بإحرام الصلاة، وليس

كذلك الطواف وغيره من أركان الحج؛ لأنه ليس في حكم التابع للإحرام، ألا ترى أنه ينفرد الطواف بنية؟ فلو طاف حول البيت لطلب غريم له لم يجزه، وكذلك ينفرد بوقت يخالف وقت الإحرام، وبمكان، فجرى في ذلك مجرى الإحرام، فلما لم يجز أداؤه عن غيره، وعليه فرضه، كذلك الإحرام به. واحتج المخالف بما روى ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي مات ولم يحج، أفأ حج عنه؟ قال: «أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق». قال: فوجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله: أحججت عن نفسك، أو لا؟ ولو كان الحكم يختلف لسأله. والثاني: أنه شبهه بالدين، ومعلوم أن من كان عليه دين جاز أن يؤدى دين غيره. وروي عن علي - عليه السلام - قال: استقبلت النبي صلى الله عليه وسلم جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: «حجي عن أبيك». ولم يسألها: أحججت عن نفسك، أم لا؟ والجواب: أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال السائل أنه

قد حج عن نفسه، فلهذا أجاز له النيابة عن أبيه. وهذا هو الظاهر من حال الخثعمية، لأنها [سالت النبي صلى الله عليه وسلم بعد] منصرفه من المزدلفة إلى منى حيث كان الفضل رديفه، والظاهر من حال من يكون في ذلك الموضع: أنه قد حج، فلذلك لم يستفصل. وعلى أن الخبر اقتضى السؤال عن جواز النيابة في الجملة، فأما مواضعه فغير مقصود بيانها به. وأما تشبيهه بالدين، فإنما شبهه بقضاء الدين في حق من كان قد حج عن نفسه، والتشبيه في ذلك الموضع صحيح. وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه النفع الحاصل بقضاء الحج بالنفع الحاصل بقضاء الدين، فيحتاج أن يثبت قضاء الحج حتى يكون نفعه كنفع قضاء الديون. واحتج بأن هذا مما تصح فيه النيابة، فوجب أن يجوز أداؤه عن غيره قبل أدائه عن نفسه، كالدين والزكاة. ولا يلزم عليه طواف الزيارة، لأن التعليل لجواز أدائه من غيره قبل أدائه عن نفسه بحال، وهذا مستمر في الطواف، ولأنه إذا لم يكن محرمًا جاز له أن يحرم عن غيره، ويطوف عنه. والجواب: أن [قوله]: (هذا مما تصح فيه النيابة) رجوع عن كلامه

في المسألة التي قبلها، وان الحج لا تدخله النيابة، وإنما يكون له ثواب النفقة، ونسأل الله حسن التوفيق. مع أن الفرق بين الحج وبين الزكاة والكفارة والدين واضح، وذلك أن الاستنابة تصح في هذه الأفعال في جميع أحوال من وجب عليه، سواء عجز عن فعلها في نفسه، أو لم يعجز، كذلك لا تختص بحال للنائب دون حال، وليس كذلك الحج، فإنه لا يجوز أن يستنيب فيه مع قدرته عليه، ويجوز مع عجزه عن نفسه، فلما اختص بحال دون حال لمن وجب عليه، جاز أن يختص بحال للنائب دون حال. ولأنه إذا نوع إحرامًا مطلقًا- وعليه فرضه- انصرف إليه، ولو أخرج صدقة إلى الفقراء، أو أعتق رقبة، لم ينصرف بإطلاقه إلى الزكاة والكفارة. ولأن بقاء بعض الدين والزكاة لا يمنع أداء دين غيره، كذلك بقاء جميعه، وليس كذلك الحج، لأن بقاء بعضه عليه، يمنع أداءه من غيره، كذلك بقاء جميعه. فإن قيل: على هذا كل جزء من الدين والزكاة له حكٌم قائم بنفسه، لأنه لو أدى جزءًا من الزكاة وقع موقعه، وإن لم يؤد الباقي، وكذلك

الدين، وليس كذلك الحج، لأن بعضه لا يثبت حكمه بنفسه، بدليل أنه لو أفسد بعضه، فسد جميعه. قيل له: لا فرق بينهما، وذلك أنه قد ثبت حكم بعضه بنفسه، ألا ترى أنه لو أحرم، ووقف بعرفة، وأخر طواف الزيارة إلى أن عاد إلى بلده، لم يفسد ما عمله، بل يثبت حكمه؟ وكذلك لو أفسد الطواف، ولم يفسد ما تقدم، فهو كالزكاة والكفارة. واحتج بأنه لو أحرم عن نفسه في هذه الحال صح إحرامه، كذلك إذا أحرم عن غيره قياسًا على من حج مرة. [والجواب: أنه] لا يجوز اعتبار من حج مرة بمن لم يحج، كما لم يجز اعتبار من طاف مرة بمن لم يطف في جواز النيابة. ولأنه إذا حج مرة لم يتعين عليه الحج، وإذا لم يحج يتعين عليه الحج بالحضور، فلم تصح النيابة فيه كالجهاد. ولأن المعنى في الأصل: أنه أسقط فرض الحج عن نفسه، وليس كذلك في مسألتنا، لأنه لم يسقط فرض الحج عن نفسه، فهو كالمراهق.

مسألة إذا كان عليه حجة الإسلام، فأحرم به ينوي تطوعا، وقع عن حجة الإسلام في أصح الروايتين

29 - مسألة إذا كان عليه حجة الإسلام، فأحرم به ينوي تطوعًا، وقع عن حجة الإسلام في أصح الروايتين: وهذا ظاهر كلام الخرقي، لأنه قال في المسألة التي قبلها: لأنه إذا حج عن غيره من لم يحج عن نفسه انعقدت الحجة عنه، وإن لم ينوها عن نفسه. وقد أومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور وعبد الله فيمن نذر أن يحج- وما حج حجة الإسلام: لا يجزئه حتى يبدأ بفريضة الله، ثم يقضي ما أوجب على نفسه. وظاهر هذا: أنه لا يصح منه فعل حجٍة ير الفريضة، سواء أحرم بغيرها، أو أراد الإحرام بغيرها. وهو قول الشافعي. وفي رواية أخرى: أنه إذا أحرم ينوي به تطوعًا أجزأه عما نواه. أومأ إليه أحمد في رواية ابن القاسم في الرجل يحج ينوي التطوع: فالحج والصوم سواء، لا يجزئ إلا بينة. وظاهر هذا: أنه تعين أن نية الفرض شرط في صحة ذلك، وهو ظاهر كلام أبي بكر ذكره في "كتاب الخلاف" فقال: وكيف يجزئ فرض، وقد قصد به نافلة؟! وكيف يجزئ إحرام عن زيد لعمرو؟! فلا

يجزئه إلا أن يعقده بقصد منه، كما لا يجزئ الصائم [إلا] عن قصد منه له. وهو قول أبي حنيفة. فالدلالة على أن لا ينعقد نفلًا: أنه أحرم بالحج وعليه فرضه، فوجب أن يقع عن الفرض قياسًا على مطلقه، وذلك أنه لو أحرم إحرامًا مطلقًا لا ينوي فرضًا، ولا تطوعًا، انصرف إلى الفرض، كذلك هاهنا. يبين صحة هذا الاعتبار: أن الدخول في العبادة بنية النفل بمنزلة الدخول فيها بنية مطلقة، ألا ترى أن من دخل في الصوم بنية النفل، كان بمنزلة من دخل فيه بينة مطلقة؟ عندنا لا يجزئ عن الفرض في الموضعين، وعندهم يجزئ فيهما، كذلك وجب أن يكون الدخول فيها بنية النفل بمنزلة الدخول فيها بنية مطلقة، وقد ثبت أنه إذا أطلق النية- وعليه الفرض- انصرف إليه، وكذلك إذا نوى النفل. فإن قيل: روى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز حتى ينوي الفرض، وأن النية المطلقة لا تجزئ. قيل له: روى محمد عنه: أنه يجوز استحبابًا، ورواية محمد أصح.

فإن قيل: هذا يبطل بالكفارة، لأنه لو أعتق رقبة، ونوى بها الكفارة فقط، أجزأ عما عليه، سواء كانت الكفارة من جنس واحد، أو من جنسين، ولو نوى بها تطوعًا لم يقع عما عليه. فقيل له: لا يلزم هذا، لأن نية الكفارة فيه الفرض، فإن الكفارة لا تكون إلا فرضًا، وإن أعتق ينوي عتقًا انصرف إلى التطوع، وإن نوى تطوعًا انصرف إليه، وإن نوى كفارة كان عن فرضه. وقياس آخر، وهو: أن الحج عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فوجب ألا يصح نفلها ممن يصح منه فرضها قياسًا على الصوم عن شهر رمضان. فإن قيل: عندنا يصح نفل الصوم ممن يصح منه فرضه، وهو المسافر. قيل له: تلك رواية ضعيفة. فإن قيل: [وقته لا يصح للنفل. قيل له]: يصلح عندنا، لأن الصبي يصوم فيه، وهو متنفل، وإنما [لا يصح من البالغ، لأنه من أهل الفرض، ولا يصح منه التنفل. واحتج المخالف بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم] قال: "إنما الأعمال

بالنية، وإنما لا مريٍء ما نوى"، وهذا نوى النافلة. والجواب: أن المراد به: أن النية شرط في كونه قربة وطاعة، وأنه لا يكون قربًة بغير نية. وعلى أنا لا نجمله، ونخصه على غير الحج بما ذكرنا. واحتج بأنها عبادة تفعل في وقت مخصوص، والوقت يصلح للنفل والفرض، لأن واحدًا يؤدي في وقته فرضًا، والآخر نفلًا، فهي كالصلاة، ولا خلاف أنه لو افتتح الصلاة، ونوى بها تطوعًا- وعليه صلاة فريضة- أنها تكون تطوعًا، كذلك هذا، وليس كذلك الصوم، لأن الوقت لا يصلح للنفل والفرض جميعًا. ولا يلزم عليه الطواف، لأنه له أن يطوف تطوعًا، وعليه طواف، وهو أن يحج تطوعًا، وعليه حجة الإسلام. وربما عبروا عنه بأن الحج عبادة تشتمل على أفعال متغايرة، أشبهت الصلاة. وإن شئت قلت: عبادة لها تحليل وتحريم، أشبهت الصلاة. والجواب: أن نية الصلاة إذا كانت مطلقة ترجع إلى النفل دون

الفرض، كذلك النية المقيدة بالنفل، وليس كذلك نية الحج المطلقة، فإنها ترجع إلى فرض إذا كان من أهل الفرض، وكذلك النية المقيدة بالنفل، لأنا قد بينا: أن الإطلاق يجري مجرى التقييد. ولأن الإحرام للصلاة أضعف من إحرام الحج، لأنه إذا أفسد الصلاة بطل عقدها، وخرج منها، وإذا أفسد الحج لم يبطل، ولم يخرج منه، ويمضي في فاسده، فلم يجز اعتبار الحج بالصلاة. واحتج بأنه لو أحرم بعمرة- وعليه حجة الإسلام- أجزأ عما نوى، فنقول: كل فرض لم يمنع بقاؤه إحرام غير التطوع، لم يمنع إحرام التطوع. دليله: الصلاة. والجواب: أنه ليس إذا لم يمنع بقاؤه الإحرام بعبادة أخرى، يجب أن لا يمنع الإحرام بعبادة من جنس ما عليه، كصوم رمضان في وقته، يمنع الإحرام بصوم من جنسه، وإن لم يمنع الإحرام بعبادة أخرى. وأما الصلاة فالمعنى فيها: أنه لو أحرم بها مطلقًا لم تقع عن الفرض، فجاز أن يحرم بنية التطوع عليه فرضه، وليس كذلك الحج، فإنه لو أحرمه مطلقًا، وقع عن فرضه، فإذا أحرم بنية التطوع انصرف إليه. واحتج بأن الإحرام ركٌن من أركان الحج، فبقاؤه عليه لا يمنع أداء التطوع كالطواف، وذلك أنه إذا كان عليه طواف الزيارة وطاف تطوُّعًا

جاز، ولم يقع عن طواف الزيارة. نص عليه في رواية ابن منصور فيمن طاف للوداع، ولم يطف طواف الزيارة: لم يجزه ذلك عن طواف الزيارة، لأنه لم ينوه. وكذلك نقل إبراهيم فقال: لا يجزئه، وكيف يجزئه التطوع من الفرض؟ ولو تطوع رجل، فنوى بتطوعه الظهر والعصر، أيجزئه ذلك؟ فلا يجزئه حتى يطوف طواف الزيارة. وقال- أيضًا- في رواية أبي طالب في المتمتع إذا تحلل من عمرته، ووقف بعرفة، وأراد الطواف: فإنه يطوف ويسعى قبل طواف الزيارة، ثم يطوف طواف الزيارة، ويكون الأول طواف القدوم، كما يكون ذلك في حق المفرد بالحج إذا دخل مكة قبل الوقوف، كذلك الإحرام. والجواب: أن هذا لا يصح على أصل أبي حنيفة، لأن عنده: أنه لا يصح التطوع بالطواف وعليه فرضه، وهذا أصل اعتمد عليه من خالفه في هذه المسألة من أصحاب الشافعي. وأما على أصلنا نحن، فالفرق بين الطواف والإحرام هو: أن الطواف يختص البيت، [ويتعلق به، فهو] كالصلاة، والصلاة تفتقر إلى تعيين

مسألة الحج على الفور، ذكره أبو بكر في "كتاب الخلاف"

النية، ولهذا لا يجوز عندنا طواف الزيارة بنية مطلقة، كالصلاة. ويبين صحة الجمع بينهما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاٌة". وليس كذلك الإحرام، لأنه لا يتعلق بالبيت، فلم يفتقر إلى نية الفرض، كالوقوف. وجواب آخر أكشف من هذا، وهو: أن الطواف يجري مجرى الصلاة من وجهين: أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاٌة". والثاني: أن الطواف يختص البيت، كالصلاة. ثم ثبت أن الصلاة يصح التنفل بها ممن عليه فرضها، كذلك الطواف. وليس كذلك الإحرام، لأنه يجري مجرى الصوم، بدليل أنه يجب بإفساده الكفارة كالصوم، ثم ثبت أنه لا يصح التنفل ممن عليه فرضه، كذلك الإحرام. 30 - مسألة الحج على الفور، ذكره أبو بكر في "كتاب الخلاف": وقد أومأ إليه أحمد في رواية عبد الله وابن إبراهيم فيمن استطاع

الحج، وكان موسرًا، ولم تحسبه علة، ولا سبب: لم تجز شهادته. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب مالك، وداود. وقال الشافعي: وجوب الحج على التراخي. دليلنا: ما روى ابن بطة بإسناده عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ملك زادًا وراحلًة تبلغه إلى البيت، فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا، أو نصرانيًا، ومن كفر فإن الله غنٌي عن العالمين". فإن قيل: إذا أخره حتى مات أثم بالاتفاق. قيل له: لو جاز له التأخير، لم يأثم بالموت إذا فاجأه من غير أمارة، ولا عليه ظٌن، والخبر يقتضي أنه أثم بكل حال. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "من أراد الحج فليتعجل"، ذكره شيخنا. فإن قيل: علقه بإدارته. قيل له: هذه الإرادة التي يخرج بها من حيز الساهي إلى حيز القاصد، لا إرادة تخيير، ولا يتعلق الأمر بها.

وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "من أراد الجمعة فليغتسل"ز وكقولنا: من أراد الصلاة فليتوضأ. وروى ابن بطة في "سننه" بإسناده، عن الحجاج بن عمرو السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من [قابٍل". فأوجب الحج] على الفور. وروى عبد الله في كتاب الإيمان من "مسائله": أنا أبي، أنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن ابن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات، ولم يحج، لم يمنعه من ذلك مرٌض حابٌس، أو سلطاٌن ظالٌم، أو حاجٌة ظاهرٌة، فليمت على أي حاٍل شاء، إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا". قال: وحدثني أبي قال: ثنا هشيم قال: ثنا منصور، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه

الأمصار، فينظروا كل رجل ذا جدٍة لم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم مسلمون! ما هم مسلمون! والقياس: أن لو كان على التراخي لم يخل المأمور به من وجهين: إما أن يكون له تأخيره أبدًا حتى لا يحلقه التفريط، ولا يستحق اللوم، وإن مات قبل فعله. أو يكون مفرطًا مستحقًا اللوم إذا تركه حتى مات. فإن قلنا: إنه لا يكون مفرطًا بتركه في حياته، خرج عن حد الوجوب، وصار في حيز النوافل، لأن ما كان المأمور مخيرًا بين فعله وتركه، فهو نافلة، أو مباح. ولا خلاف أن الحج واجب، فبطل هذا القسم. وإن قلنا: إنه يلحقه التفريط بالموت، أدى ذلك إلى أن يكون الله- تعالى- ألزمه إتيان عبادة في وقٍت، لم ينصب له عليه دليلًا يوصله إلى العلم به، ونهاه عن تأخيرها عنه. ولا يجوز أن يتعبده الله بعبادة في وقت مجهول، كما لا يجوز أن يتعبده بعبادة مجهولة. فإذا بطل هذان القسمان صح القسم الذي ذهبنا إليه، وهو أنه على الفور.

ولا يلزم على هذا الزكوات، والنذور، والكفارات، فإن ذلك على الفور، وقد نص على ذلك في الزكاة فيما تقدم. ولا يلزم عليه قضاء رمضان، فإنه مؤقت بما بين رمضانين، ويأثم بتأخيره عن ذلك، فلا يؤدي إلى جعله في حد النَّوافل، ولا إلى أن يكون متعبدًا بعبادة في وقت مجهول. فإن قيل: لا يمتنع أن يتعبد الله بعبادة في وقت مجهول، ألا ترى أنه قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]؟ قيل له: وجوب الوصية متعلق بشرط، وهو حضور الموت، [وللموت أمارٌة يغلب معها في الظن وجوده، وهو أن يشتد مرضه، فإذا وجدت الأمارة وجبت، ولم يجز له تأخيرها، ويصير الوقت الذي يتعين وجوبها فيه معلومًا. فإن قيل: قيل في الحج مثله. قيل له: لا يغلب في ظنه أنه يموت إلا في وقت يكون عاجزًا عن أداء الحج بنفسه، وهو إذا اشتد مرضه، ولا يجوز أن يتوجه إليه الخطاب بأدائه في حال لا يقدر عليه، وليس كذلك الوصية، لأن وجود الأمارة التي يغلب معها في ظنه وجود الموت، لا يوجب عجزه عن الوصية، فجاز تعليق وجوبها بوجود تلك الأمارة.

فإن قيل: يجوز أن يوجب الله- تعالى- صلاة، ويعلق أداءها باختيار المأمور]، يؤديها أي وقت شاء. قيل له: لا يجوز أن [لا] يكون آخر وقتها معلومًا عند المخاطب. وحكم عن أبي إسحاق المروزي: أنه كان يقول: إذا كان قادرًا على أداء الحج في السنة التي هي من آخر عمره، فلم يؤده فيها، صار عاصيًا بتأخره عنها، لأنا إنما جعلنا له التأخير بشرط السلامة، فأي سنة تبينا أنه لم يمكنه الحج بعدها، علمنا أن وجوب أدائه متعين في تلك السنة. وقد بينا فساد هذا القول بما قدمنا. وروى عن أبي هريرة: أنه كان يقول: إن أخره، وهو عازم على فعله في الثاني، ومات، لم يكن عاصيًا، وإن اشتغل باللهو، ولم يعزم على فعله، كان عاصيًا بتأخيره. وهذا لا معنى له، لأنه قد سلم أنه يصير بتركه وترك ما يقوم مقامه عاصيًا، إلا أنه ادعى: أن العزم بدل عنه، وهذا فاسد، لأن البدل ما قام مقام المبدل، وسقط الفرض به، والعزم لا يسقط الفرض به. ووجه آخر، وهو: أن وجوه بتعلق بشرط، وهو وجود الاستطاعة، فإذا وجد الشرط لم يجز أن يتأخر ما علق به، كقوله: (أنت طالق إن دخلت الدار) ونحو ذلك.

فإن قيل: نحن نقول بأن الحج يجب بوجود الشرط، ولكن كلامنا في الأداء. قيل له: وجوب الأداء متعلق بالشرط، لأن قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] معناه: فعل الحج، يقال: حج يحج حجًا. ولأن الحج عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فوجب ألا يجوز تأخيرها بعد وجوبها عن حال الإمكان. دليله: صوم رمضان. ولأنها عبادة تجب بقطع مسافة، أو تجب بزاد وراحلة، وكان وجوبها على الفور، كالجهاد. ولأن وجوبه غير مؤقت، فوجب أن يلزم أداؤه على الفور. دليله: حقوق الآدميين. واحتج المخالف بأن فريضة الحج نزلت سنة سٍّت، وحج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر، فلو كان وجوبه مضيفًا لما أخره عن أول أحوال الإمكان. والجواب: أنه لم يثبت عندنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخره عن وقت وجوبه، لأن وجوب الحج ثبت بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. وروى: أنه نزل في سنة عشر، وروى: في سنة تسع، فإن كان في سنة عشر، فلم يؤخره، وإن كان في سنة تسع، فجائٌز أن يكون نزل بعد مضي وقت الحج، فلم يجب فعله إلا في سنة عشر.

وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه "لوامع الأمور وحوادث الدهور": أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع، فسأله عن الفرائض، وذكر من جملتها الحج. فإن قيل: فالدلالة على أن فريضة الحج نزلت سنة سًّت: أن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] [نزل سنة سًّت من الهجرة]، [حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم] معتمرًا، فصده المشركون عن البيت، فصالحهم على أن يرجع إلى المدينة، ويعود في القابل، ويقضي تلك العمرة، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. فرجع، ثم خرج في السنة السابعة لعمرة القضاء، فلما فرغ منها عاد إلى المدينة. وخرج لعشر مضين من رمضان في سنة ثمان من الهجرة، وفتح مكة، ودخلها، وانصرف إلى المدينة في شوال، واستخلف عليها عتاب ابن أسيد، ثم أمر أبا بكر في السنة التاسعة، فحج بالناس، وبعث خلفه عليًا، ليقرأ عليهم سورة (براءة) وحج في سنة عشر حجة الوداع، وعاش بعد ذلك شهرين، وقبض صلى الله عليه وسلم.

روي أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع، فسأله عن أشياء منها أن قال: آلله أمرك أن تحج هذا البيت؟ فقال: نعم. ولأنه أنفذ أبا بكر سنة تسع، ليحج بالناس، وهذا يدل على أن وجوبه كان قبل سنة عشر. قيل: أما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فإنه يقتضي وجوب إتمامه بعد الدخول فيه، وكلامنا في وجوبه ابتداًء قبل الدخول فيه، لأن هذا اللفظ يستعمل في العرف بعد الدخول في الشيء، يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] عقل منه وجوب المضي فيه والفراغ منه بعد ابتدائه. وكذلك [إذا] قيل: (أتم هذا الكتاب) يعقل منه الفراغ بعد الدخول فيه. كذلك اقتضى قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وجوب الإتمام بعد الدخول فيهما، وهكذا نقول. فإن قيل: الآية اقتضت أمرًا بالابتداء بهما، يدل عليه ما روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما: أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.

فحملا البناء على الابتداء. وروى أن عبد الله بن مسعود كان يقرؤها: (وأقيموا الحج والعمرة لله)، لأنه لم يكن بالحديبية [من كان] محرمًا بالحج، وإنما كانوا محرمين بالعمرة، فدل على: أن المراد بها الابتداء. قيل له: أما ما روى عن عمر وعلي، فلم يقصدا بذلك بيان معنى الإتمام، وأنه عبارة عن ابتداء الإحرام، وإنما قصدا إلى أن يبينا: أن النقصان ينتفي عنهما، والكمال يحصل لهما بالإحرام قبل الميقات، ولهذا قال قوم: الإحرام بهما قبل الميقات أفضل. وعلى أن الإحرام من دويرة الأهل مستحٌب، فكأنهما حملا الأمر على الاستحباب دون الوجوب، وهذا ترك الظاهر، فصار هذا دلالة على المخالف. وأما قراءة ابن مسعود، فيحتمل أن يريد به: أقيموا بعد الدخول فيهما، بدليل ما ذكرنا. وأما قوله: (إنه لم يكن بالحديبية من كان محرمًا بالحج، إنما كانوا

محرمين بالعمرة) فلا يمتنع أن يبين حكم الحج والعمرة، وإن كان التلبس بأحدهما. وأما حديث ضمام بن ثعلبة، فنحمله على وجوب كان تامًا في شريعة إبراهيم عليه السلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا بإتباعه فيما لم يثبت نسخه، فقوله: "نعم" يحتمل أن يريد به: أنه أمر على هذا الوجه، وكلامنا في نزول فرض الحج في شريعته. فإن قيل: هذا يؤكد السؤال، لأنه إذا كان ثبت وجوبه في شريعة إبراهيم، ولم يثبت نسخه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا به، وقد أخره إلى سنة عشر، دل على أن وجوبه لم يكن مضيقًا. قيل له: لم يثبت أن وجوبه في شريعة إبراهيم كان بلفظ يقتضي الفور، وكلامنا في حكم الأمر المقتضي لوجوبه في شريعة نبينا عليه السلام. وهكذا الجواب عن إنفاذه أبا بكر إنما كان على موجب شريعة إبراهيم عليه السلام. وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا أنه أخر الحج عن وقت وجوبه، فيحتمل أن يكون تأخيره لعذر، ونحن لا نأبى ذلك، والخلاف في تأخيره لغير عذر.

الدليل على صحة هذا: أنه لا يترك الأفضل، ويداوم على تركه فيما لا يتكرر فعله من جهته إلا لعذر، والعذر الذي ترك به الأفضلية عندهم، هو المعنى الذي جوز له تأخير الواجب عندنا. فإن قيل: الأصل عدم العذر. قيل له: ما يلزمنا من هذا في تأخير الواجب، يلزمك مثله في ترك الفضيلة. فإن قيل: أخره ليبين جواز التأخير. قيل له: كان يكفي أن يؤخر سنة واحدة. وجواب أخر، وهو: أنه إذا كان وجب في سنة ست، فلوجوبه شرائط لا يعلم أنها حصلت له، ألا ترى أن الحج يحتاج في وجوبه إلى الزاد، والراحلة، ونفقة الأهل، وأمن الطريق، ويحتاج (صلى الله عليه وسلم) إلى أصحاب يكفونه غزو الطريق؟ فيجوز أن تكون هذه الشرائط التي بها يحصل الوجوب لم تكمل إلا في سنة عشر. فإن قيل: فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) اعتمر سنة ست، فلا بد أن يكون حصل له الشرائط؛ لأنه كان معه عام الحديبية سبعون بدنه، وفي سنة ثمان اتسع من سبي هوازن حتى قال صفوان بن أمية حين أعطاه" هذا عطاء من لا يخاف الفقر، وفي سنة ثمان فتح مكة، وفرغ من هوازن والطائف، ولم يبق له مانع.

قيل له: يحتمل أن تكون الاستطاعة حصلت له في وقت العمرة، وزالت في وقت الحج؛ لأن قريشاً صالحوه في عمرة القضاء على العمرة، ولسنا نعلم أنهم مكنوه من الحج، وقد كانوا صالحوه على ثلاثة أيام، فأراد أن يقيم بها ليولم [...]، فمنعوه. فإن قيل: فقد كان في أصحابه أغنياء قيل له: شرط الاستطاعة ليس هو مجرد الغنى، بل يحتاج إلى ما ذكرناه من الشروط. وجواب أخر، أنه أخر بعد الوجوب؛ لأنهم كانوا يؤخرون الحج تارة، ويقدمونه أخرى، فيقع في غير وقته، فأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يحج في وقت يستقر فيه الحج؛ ليقع الاقتداء به من بعده، فلما وافق سنة عشر وقت الحج قال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته خلق [الله] السماوات والأرض. ولهذا فعل العمرة؛ لأن وقتها لا يتخصص. فإن قيل: فكيف أنفذ أبا بكر سنة تسع؟ قيل له: من حج على ما كانوا عليه لم يسقط فرضه، فأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يحج على جهة يقع بها الأجزاء، ويكون إمامًا في المستقبل يقتدى به.

وجواب آخر، وهو" أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويظهرون الكفر في التلبية، ويقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك*، فلما أنفذ أبا بكر سنة تسع، [و] نبذ إلى المشركين عهدهم، ونادي: (ألا لا يطوف بالبيت مشرك، ولا عريان) حج. فإن قيل: فكيف اعتمر؟ قيل: لأنهم أخلوا له مكة. فإن قيل: فكيف أمر أبا بكر بالحج؟ قيل: لأن حرمته لا تضاهي حرمة النبي (صلى الله عليه وسلم). وجواب آخر، وهو: أنه أخر حتى أمن كيد الأعداء. فإن قيل: كيف اعتمر؟ قيل له: يجوز أن يكون أمن ذلك في غير وقت الحج، ولم يأمن في وقت الحج. واحتج بما روى أبو بصرة، عن أبي سعيد: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في حجة الوداع: "من أحب أن يرجع بعمرة قبل الحج، فليفعل".

وروي أنه لما خرج من العمرة قال: "من أراد أن يقيم للحج معنا فليقم، ومن أراد أن ينصرف فلينصرف". والجواب: أنه يحتمل أن يكون قال ذلك لمن كان قد حج في سنة تسع مع أبي بكر. واحتج بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، والتحلل منه بالعمرة، فلو كان على الفور ما أمرهم بفسخه، وتأخيره إلى وقت آخر. والجواب: أنه لما فسخوا الحج، وجعلوه عمرة، أحرموا بالحج في تلك السنة يوم التروية، فحصل لهم التمتع بذلك، [يدل] على ذلك: ما روي عن أبي سعيد ألخدري: أنه قال: قدمنا نصرخ بالحج صراخاً، فلما طفنا بالبيت قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "اجعلوها عمرة"، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج. واحتج بأنه فعله في وقت لم يزل عنه اسم الأداء، فوجب أن لا يكون عاصياً، قياساً على السنة الأولى.

وعبارة أخرى: أن هذه عبادة مقصودة في نفسها، أتى بها في وقت لم يزل عنها اسم الأداء، فوجب أن لا يكون بتأخيرها عاصياً، قياساً على فعل الصلاة في الوقت الثاني. ولا يلزم عليه إذا ترك الصلاة والطهارة والطهارة حتى ذهب الوقت، ثم قضاها، يكون عاصياً يترك الطهارة، وهو مؤد لها؛ لأن الطهارة ليست بمقصودة في نفسها، وغنما هي شرط صحة الصلاة، فصار عاصياً بترك الطهارة لأجل الصلاة. وعبارة أخرى: عبادة وقت الدخول فيها موسع، فكان وقت أدائها موسعاً كالصلاة. و [أما] الجواب عن العبارة الأولى: فهو أنه لا يمتنع أن نقول: إنه قضاء. وليس من شرط صحة القضاء نية القضاء؛ لأن أحمد والشافعي قد قالا: إذا صام الأسير شهر رمضان باجتهاده، ثم بان أنه صادف بعده كان جائزاً، وإن كان قد نوى الأداء. وكذلك إذا صلى الظهر وعنده: أن الوقت باقٍ، ثم بان لأنه بعد فوات الوقت، أجزأه، وإن لم ينو القضاء. وعلى أنه ينتقض بتأخير الطهارة مع الصلاة حتى يخرج الوقت؛ فإن الطهارة لا تقبل نية القضاء، وإن كانت الفور في تلك الحال، وكذلك الزكوات، والكفارات، والنذور إذا أخرها بعد وجوبها.

وأما العبارة الثانية: فالكلام عليها نحو هذا. وأما الثالثة: فإنها منتقضة بالسنة التي يغلب على ظنه العجز بعدها؛ فإن وقت الدخول في تلك الحجة موسع، ووقت أدائها مضيق، ثم نقلب هذا فنقول: فلا يجوز تأخيرها عن أخر وقتها. دليله: الصلاة. ولأن الصلاة تجب بأول الوقت وجوباً موسعاً، ويتضايق بآخره، ويتسع وقت فعلها ما لم يتضايق، فالحج مثلها. واحتج بأنه لو تضيق وجوبه في السنة الأولى، كان بتأخره عن وقته قاضياً، كالصلاة إذا أخرها عن أخر وقتها. والجواب: أنا قد بينا أنه لا يمتنع أن نسميه قاضياً. وعلى أنه يبطل بالسنة التي يغلب على ظنه العجز عنها؛ فإنه بالتأخير عنها لا يصير قاضياً، ويأثم بالتأخير. ولأن القضاء تسمية شرعية، فتستعمل حيث أطلقتها الشريعة، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "من نام عن صلاة، فليؤذها إذا ذكرها". فسماها أداء، وهي قضاء.

مسألة أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة

وقد قال عليه السلام: "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا". ولأن الزكاة تجب وجوباً مضيفاً، ومع هذا، فلا يسمى بتأخيرها قاضياً، وكذلك الكفارات. واحتج [بأن] في إيجابية على الفور يؤدي إلى هلاك الحرث، والنسل، وخراب البلاد، وذلك أن أهل البلاد إذا وجدوا الاستطاعة، فإن لزمهم أن يخرجوا بأجمعهم، أدى إلى هلاك الأطفال، والبهائم، وتلف الغلات، وتأخير الزراعات، وفي ذلك خراب البلاد. والجواب: أنه لا يؤدي إلى ذلك؛ لأن شرائط الوجوب لا تكمل لجميع الناس في سنة واحدة، ومن تتفق له شرائط الوجوب تعترضه الأعذار، فيحج من وجب عليه- ولا عذر له- دون غيره، ويقوم بمصالح الدنيا من لم يحج. 31 - مسألة أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة: نص عليه في رواية المَرُّوذي وغيره.

وقال في رواية عبد الله: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشرة ذي الحجة. وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. وقال الشافعي: شوال، وذو القعدة، وتسعة أيام من ذي الحجة، فخالف في اليوم العاشر. ويفيد هذا الاختلاف عندنا: أنه لو حلف حالف أن يوم النحر من أشهر الحج، لم يحنث. وسألت قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني عن ذلك، فقال لي: الفائدة فيه اليمين، وليس تحته فائدة حكمية تختصه. وفائدته عند الشافعي: إن أحرم فيه بالحج لم ينعقد إحرامه به. وفائدته عند أصحاب مالك: إن أخر طواف الزيارة عن جميع ذي الحجة كان عليه دم، وأن أخره عن يوم النحر، وفعله في بقية الشهر، فلا دم عليه، هكذا ذكر لي القاضي أبو محمد بن نصر المالكي. دليلنا على أصحاب الشافعي: قوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، قال علي وابن عباس: يوم النحر، فدل على أنه من أشهره. وقد ذكره أبو داوود عن علي، وابن عباس بإسناده. ونص عليه أحمد- أيضاً- في رواية حرب، وأبي طالب.

وروى أبو حفص بإسناده، عن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "يوم الأضحى الحج الأكبر". ولأنه إجماع الصحابة، فروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير، وإحدى الروايتين عن ابن عمر مثل ذلك. وروى أبو الحسن الدارقطني بإسناده عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وبإسناده عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وبإسناده عن محمد بن عبد الله الثقفي، عن عبد الله بن الزبير قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وبإسناده عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وروى أبو بكر النجاد، عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير مثل ما رواه وأبو الحسن. وروى عن ابن عمر بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. فالرواية مختلفة عن ابن عمر.

فوجه الدلالة: أن العشر إذا أطلق في الشرع اقتضى الأيام، قال تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] والمراد به: عشرة أيام بلا خلاف. وكذلك قوله تعالى: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:42] قال أهل التفسير: أربعين يوماً، وأربعين ليلة. وقد قيل فيه طريقة أخرى، وهو: أن ذكر [أحد] العددين على طريق الجمع يوجب ما بإزائه من العدد [الآخر، بدلالة قوله: {ثَلاثَ لَيَالٍ} [البقرة: 196]، والقصة واحدة. فلما كان قولهم: (وعشر من ذي الحجة) يتضمن الليالي، وجب ما بإيذائه من الأيام. وفي هذه الطريقة ضعف على أصلنا؛ لأنا قد تكلنا عليها في الاعتكاف. فإن قيل: قولهم: (وعشر من ذي الحجة) المراد به: الليالي؛ لأنه لو كان المراد به: الأيام، لقال: وعشرة؛ لأن الهاء تدل على المذكر، وهي الأيام، وتحذف في المؤنث، وهي الليالي. قيل له: إنما غلب لفظ المؤنث؛ لأن العرب تغلب التذكير إلا

في عدد الليالي والأيام، فأنها تغلب التأنيث، فتقول: (سرنا عشراً) وتريد: سرنا عشر ليال وأيامها، ولهذا [قال] الله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، وأراد الليالي وأيامها، فغلب لفظ الليالي، كذلك هاهنا. وقد قيل: إنما غلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ؛ لأن ليلة الشهر غلبت يومه، ولم يلدها وولدته؛ لأن الأهلة لليالي دون الأيام، وفيها دخول الشهر. وكذلك لما ذكرهما الله- تعالى- قدم الليالي على الأيام بقوله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة:7]. وقال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [سبأ:18]. والعرب تستعمل الليالي في الأشياء التي يشاركها فيها النهار دون الليل، وإن كانت لا تتم إلا به. وقال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]. ويقولون: (إذا أدركنا الليل بموضع كذا) لاستهالته، ولأنه

أول ما يرى. والقياس: أنه يوم ليلته من الأشهر فكان منها، كما قبله. ولأنه أول وقت ركن من أركان الحج، فهو كيوم عرفة. ولأن أركان العبادة لا تتوقف بما بعد وقتها، كأركان الصلاة، فلما توقت ابتداء الطواف بيوم النحر، دل على أنه من وقت العبادة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قالوا: وفيها دليلان: أحدهما: أنه [حد شهور] الحج، وأخيراً أنها معلومات، والتحديد لا بد من فائدة، وتلك الفائدة عندكم كراهية الإحرام في غيرها، وعندنا منع صحة الإحرام [في غيرها، ولا يصح] عندنا، فثبت أنه ليس من أشهر الحج.

والثاني: قوله- تعالى- في سياق الآية: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فنهى عن الرفث- وهو الجماع- في وقت الحج، والوطء قد يحصل في يوم النحر؛ لأنه يرمي عندنا وعندكم قبل طلوع الفجر، ويطوف، فيحل له الوطء في جميع اليوم، فثبت أن هذا اليوم ليس من أشهر الحج. والجواب عن الدليل الأول: أن قوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] معناه: أفعال الحج في أشهر معلومات، ويوم النحر يختص بدخول وقت ركن من أركان الحج، وهو الطواف، ولا يجوز تقديمه عليه، وإذا كان المراد به الأفعال فقد جعلنا للتحديد فائدة. فإن قيل: فالإحرام من أفعال الحج أيضاً. قيل له: يحمل التحديد على أنه رجع إلى معظم الأفعال غير الإحرام بما ذكرنا. وأما الدليل الثاني- وأنه منع من الرفث في أشهر الحج، وذلك جائز في أيام النحر- فالجواب عنه: أن قوله: {فَلا رَفَثَ} [البقرة: 197] معناه: في أفعال الحج بدليل أنه متى كان متلبساً بها منع من الرفث، ومتى لم يكن متلبساً بها لم يمنع، وإن كانت الأشهر موجودة؛ لأنه لو لم يحرم من أول شوال جاز له الرفث- وإن كان من أشهر

الحج- لعدم الأفعال. وهذا موجود قي يوم النحر؛ لأنه متى لم يتحلل بالطواف، فالرفث محرم في حقه، وأن تحلل جاز له الرفث؛ لعدم الأفعال، كما يجوز في سائر الأيام. واحتج بأنه لو كان من أشهر الحج لم تفت العبادة فيه، كسائر أوقات الصلوات، فلما فاتت فيه دل على أنه ليس بوقت لها. والجواب: أنا نقابله فنقول: ولم لم يكن وقتاً لها لم يتقدر وقت الطواف بيوم النحر، دل على أنه منها. وتحريره: أنه لا يمتنع أن يكون من وقتها، وإن فاتت فيه، كما لم يكن وقتاً لها عندك، وتقدر بوقت ركن لها. فإن قيل: لا يتقدر بفعل الطواف؛ لأن وقته يتقدر عندنا بعد نصف الليل. قيل: ذلك وقت رخصة، كوقت الظهر لصلاة العصر في الجمع، فأما وقت العزيمة فبعده. واحتج بأن هذا يوم يسرع فيه الرمي، فلم يكن من أشهر الحج. دليله: ما بعده من أيام التشريق.

والجواب: أنه لا تأثير للرمي في نفي ذلك بدليل: أن ما بعد أيام التشريق ليس من أشهر الحج، وإن لم يسن فيه الرمي. ثم إن المعنى في الأًصل: إن ليلته لست من أشهر الحج، فلهذا لم يكن يومه منه، ليس كذلك يوم النحر؛ لأن ليلته من أشهر الحج فكان يومه من أشهره. دليله: ما قبله. واحتج بأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تفوت إلا بخروج وقتها. والجواب: أنه إنما تفوت العبادة يفوت الوقوف؛ لأنها لا تصح إلا به، فأما أن تفوت بخروج وقت الحج فلا. - فصل: والدلالة على مالك، وأن ما بعد يوم النحر ليس من أشهره: ما تعدد من تفسير الصحابة، وهو ما روينا عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير. فإن قيل: فقد روي عن ابن عمر خلاف ذلك. قيل له: قد روينا عن ابن عمر روايتين: فإما أن يتعارضاً فيسقطان، ونسلم قول غيره.

أو يكون ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنه يعضده قول غيره من الصحابة. ولأن ما بعد يوم النحر يطرأ بعد كمال التحلل من الحج، فلم يكن من أشهره، كالمحرم. واحتج المخالف بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأقلها ثلاثة كاملة. والجواب: أن (أشهر) اسم جمع، ويجوز إطلاق الجمع على الاثنين، وبعض الثالث، وعلى الاثنين أيضاً، قال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]. والأيام المعلومات عشرة، والتسمية إنما تكون في أيام النحر منها على الذبيحة. وقولهم: (حججت عام كذا) وإنما حج في بعضه. و: (لقيت فلاناً سنة كذا) وإنما كان لقاؤه في بعضها. و: (كلمته يوم الجمعة) وإنما المراد البعض. وقد حلوا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] على قرئين وبعض الثالث، لأن عندهم الإقراء الأطهار، فبعض طهر قرء. وقد أجاب عنه أبو بكر بن الأنبا ري فقال: العرب توقع الجمع على التنبيه بدليل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26]. وإنما يريد: عائشة، وصفوان بن المعطل.

مسألة ينعقد الإحرام بالحج فيغير أشهره

وكذلك قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يريد: لحكم داوود، وسليمان. وعلى أنه ليس يمتنع أن يكون الحج مضافاً إلى الأشهر بلفظ الجمع، والمراد به بعضها، كما قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:16]، فأضافه إلى السموات السبع، وليس هو إلا في بعضها، وهي السماء الدنيا، كذلك في الحج، واحتج بأن كل شهر كان أوله من أشهر الحج، كان آخره من أشهره. دليله: شوال، وذو القعدة. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون أوله من أشهر الحج، ولا يكون آخره، كالشهر الخامس في حق المتوفى عنها زوجها، أوله من زمان العدة، وآخره ليس منها. على أن شوال وذا القعدة وقت للدخول في العبادة، وليس كذلك ما بعد يوم النحر؛ لأنه يطرأ بعد كمال التحلل من الحج، فلم يكن من أشهره، كالمحرم. 32 - مسألة ينعقد الإحرام بالحج فيغير أشهره: نص عليه في رواية أبي طالب وسندي، فقال: من أحرم بالحج

في غير أشهر الحج، لزمه الحج، إلا أن يريد فسخه بعمرة، فله ذلك. وكذلك نقل عبد الله: إذا حرم بالحج في غير أشهره يجعلها عمرة. فقد نص على انعقاده، وأجاز له فسخه إلى العمرة وبناء على أصله في جواز فسخ الحج إلى العمرة. ونقل ابن منصور عنه: إذا أهل بالحج قبل أشهره فهو مكروه. وأراد بهذا كراهية تنزيه. وهو قول أبي حنيفة، ومالك. وقال الشافعي وداود: لا ينعقد الحرام بالحج في غير أشهره، وتكون عمرة. دليلنا: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فجعلها مواقيت للحج، كما جعلها مواقيت للناس، وكما أن جميعها للناس، وجب أن يكون جميعها للحج. فإن قيل: الله- تعالى- جعل الأهلة للناس والحج، فيجب أن تكون بينهما نصفين. كما لو قال: (هذا الثوب لفلان وفلان) أنه يكون بينهما. قيل له: اتفقوا أن الأهلة كلها مواقيت للناس، فيجب أن

تكون مواقيت للحج. على أنا لو أجبناك إلى ما دعوتنا إليه لم يضرنا؛ لأنا إذا جعلنا نصف الأهلة للحج، ثبت جواز الإحرام قبل شوال بأشهر، ومخالفنا يمنع جوازه قبل شوال. فإن قيل: إذا شرع الله التوقيت أقتضى الجواز والإباحة، فأما الكراهة فلا، وعندكم يكره الإحرام في غير أشهره. قيل له: الكراهة لا ترجع إلى الوقت، وإنما ترجع إلى معنى أخر، وهو الدخول في الخلاف، أو خوف مواقعه المحظور. والقياس: أنه زمان يصلح لإحرام العمرة، فوجب أن يصلح لإحرام الحج. دليله: أشهر الحج. فإن قيل: العمرة غير مؤقتة بأشهر الحج، فجاز تقديمها عليه، وليس كذلك الإحرام بالحج؛ فإنه مؤقت بأشهر الحج، فلم يجز تقديمه عليه، كما لا يجوز [تقديم] سائر أفعال الحج. قيل له: أفعال الحج مؤقتة بأشهر الحج، كالوقوف، والطواف الفرض، والرمي، والإحرام متميز من الأفعال؛ لأنها لا تتعقبه، فيصير كنية الصوم، والوضوء للصلاة.

فإن قيل: [العمرة] لا يتأفت إحرامها، والحج تتأفت أركانه، فتأفت إحرامه. قيل له: أركان الحج فيها ما يتوقف، وفيها ما لا يختص فعله بوقت، وهو طواف الزيارة، فلم توجب اعتبار الإحرام بما يتوقف دون ما لا يتوقف؟ فإن قيل: المعنى في أشهر الحج: أنها زمان للتمتع، فلهذا انعقد الإحرام بها، وليس كذلك غيرها؛ لأنه ليس بزمان للتمتع. قيل له: التمتع هو الجمع بين أفعال العبادتين، وأفعال الحج لا تصح في غير الأشهر؛ فلذلك لم يصح التمتع، وليس إذا لم يصلح الوقت للجمع، لم يصلح للإفراد، كوقت الصلاة. فإن قيل: العمرة عبادة لا يلحقها الفوات، فلم يكن لها وقت معين، والحج لما لحقه الفوات كان له وقت معين، كالجمعة. قيل له: علة الأصل تبطل بالطواف؛ فإن الفوات لا يلحقه؛ لأنه لو خرجت أيام التشريق فعله، ولا دم عليه، ومع هذا أول وقته معين، وهو يوم النحر.

وأما علة الفرع فيأتي الكلام على أصلها, وأنه أحد طرفي الحج, فوجب أن يجوز في غير أشهر الحج. دليله: الطواف الثاني. فإن قيل: لا يمتنع أن يكون الطرف الثاني في غير أشهره, والأول في أشهره, كالطرف الثاني من الجمعة يصح في وقت العصر, ولا يصح الأول فيه, وكذلك العدة والردة, والإحرام لا تمنع استدامته الإحرام, ويمنع ابتداؤه. قيل له: عند مخالفنا لا يصح فعل الطرف الأول منها في وقت العصر, ولا يصح بقاء الثاني فيه, والعمرة يصح الطواف الأول منها في الوقت الذي يصح الثاني. على أن الصلاة يجوز أن يقع الطرف الثاني في غير وقتها, كما [لو] قالوا في صلاة المغرب: يقع طرفها الثاني في غير وقتها إذا استدام الصلاة إلى غيبوبة الشفق؛ لأن تلك حال ضرورة بفوات الوقت, فأما يوم النحر فإنه وقت للطرف الثاني حال الاختيار وحالة الابتداء, فبان الفرق.

ولأنه لو كان الإحرام مؤقتًا لوجب أن يتراخى موجبه عنه, ألا ترى أن إحرام الصلاة لما كان مؤقتًا كان موجبه من فرضه متصلًا به, ولم يتراخ عنه, فلما اتفقنا على أن الأفعال الموجبة بأفعال الحج يجوز أن تتراخى عنه, وجب أن لا يكون الإحرام مؤقتًا, كالعمرة, والطهارة. وأيضًا للحج ميقاتان: أحدهما: المكان. والآخر: الزمان. ثم اتفقوا على جواز تقديم الإحرام على الميقات؛ الذي هو المكان, وجب أن يجوز تقديمه على الميقات؛ الذي هو الزمان. فإن قيل: ميقات المكان ضرب لئلا يتجاوز قبل الإحرام, فلم يجز التجاوز, كذلك ميقات الزمان ضرب لئلا يتقدم عليه بالإحرام, وجب أن يحرم التقدم, كما حرم التجاوز في ميقات المكان. قيل له: إلا أنه إن خالف وتجاوزه انعقد إحرامه مكروهًا, وإن كان ممنوعًا منه, كما انعقد إحرامه بعد مجاوزته, وإن كان ممنوعًا منه. فإن قيل: لما جاز تقديم الإحرام على المكان, لم يجز تأخيره, ولما جاز تأخير الإحرام عن أول الشهر, لم يجز تقديمه. قيل له: لا فق بينهما؛ لأنه يجوز تقديم الإحرام على الميقات,

وتأخيره عن أول حدود الميقات إلى آخر حده, ولا يجوز تأخيره عن جميع حدوده. كذلك يجوز تقديمه على الأشهر, وتأخيره عن أولها, ولا يجوز أن يتأخر لهذه السنة عن جميعها. فإن قيل: ميقات الزمان لا يختلف في حق الجميع, كما لا يختلف ميقات المكان والزمان في الوقوف, والطواف, والرمي, ويخالف ميقات المكان في الإحرام؛ لأنه يختلف في حقوق الناس؛ فإن لكل أهل ناحية ميقاتًا مخالفًا لميقات أهل ناحية أخرى, وكان إلحاق ميقات زمان الإحرام من ميقات الوقوف, والطواف, والرمي, والسعي أولى. قيل له: تلك المناسك يستوي فيها ميقات المكان والزمان في البطلان عند المخالفة, وفي الصحة عند الموافقة, يجب- أيضًا- أن يستوي في الإحرام ميقات المكان والزمان, فيصح مع الموافقة, ويكره مع المخالفة. وعلى أنهم تساووا في ميقات الزمان؛ لأن الوقت يجمعهم, ولا يجمعهم ميقات واحد؛ لاختلاف طرقهم وبلادهم. واحتج المخالف بقوله تعالى:} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ {] البقرة: 197 [, ومعناه: وقت إحرام الحج أشهر معلومات, فحذف المضاف] على عادة العرب في كلامها.

ومن [ذلك قوله تعالى:} ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ {. وقوله تعالى:} فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ {] الواقعة: 55 [؛ أي: مثل شرب الهيم. وقوله:} وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ {] آل عمران: 133 [؛ أي مثل السموات والأرض. وقوله:} وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ {[يوسف: 82]؛ أي أهل القرية. وإذا كان كذلك, دل على أن الإحرام مؤقت بأشهر معلومات, فمن جعل جميع السنة وقتًا له, فقد خالف الظاهر. والجواب: أن الآية لا حجة له فيها؛ لأنا قد علمنا أن فيها إضمارًا, وأن تفسير الأشهر لا يكون حجًا, والمضمر متنازع فيه, فنحن نضمر الفضيلة ونفي الكراهة, ومخالفنا يضمر الجواز, فسقط التعلق بالظاهر؛ لأن المضمرات لا يدعى فيها العموم. وقد قيل: إنه يمكن استعمال الآية من غير حذف, ويكون قوله:} الْحَجُّ أَشْهُرٌ {] البقرة: 197 [كقولهم: [هذا] الشعر, معناه: أنه أفضل الشعر وأحسنه, ولا ينفي ذلك شعر غيره, ومن يستعمل الآية من غير تقدير حذف فهو أولى.

وجواب آخر, وهو: أنهم يضمرون إحرام الحج في أشهر معلومات, ونحن نضمر أفعال الحج تقع في أشهر معلومات, وهو الطواف, والسعي, والوقوف, ولم نرد به أن جميع الحج يقع فيها, وهذا كما قال عليه السلام: ((الحج عرفة)) , ولم يرد به أن جميع الحج يقع في يوم عرفة؛ لجواز الطواف والسعي عليه, ووجوب تأخير طواف الزيارة عنه, وإنما أراد أن معظم أركان الحج والمقصود منه يقع فيه. وقيل في معنى الآية} الْحَجُّ أَشْهُرٌ {] البقرة: 197 [: ومعناه: أن الحج المقصود المأمور به هو ما وقع ف أشهر, كما تقول: (القتال قتال العرب) ولا ينفي ذلك] وجود القتال من غيرهم [. وقيل: إن الله- تعالى- ذكر التمتع بقوله:} فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ {] البقرة: 196 [الآية, ثم قال بعد ذلك:} الْحَجُّ أَشْهُرٌ {يعني: الحج الذي يكون به متمتعا, وعندنا: أن الحج الذي يكون به متمتعًا ما وقع في الأشهر. فإن قيل: أفعال الحج لا تقع في شهور, وإنما تقع في يوم. قيل له: الطواف, والسعي من أفعاله, وتقع في جميع شهور

الحج, وجميع السنة. واحتج بأن الحج مجمل في الكتاب, مفتقر إلى البيان, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد في هذا الباب, فإنما يرد على وجه البيان, وفعله إذا ورد مورد البيان كان على الوجوب. وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في أشهر الحج. والجواب:] أن النبي صلى الله عليه وسلم [قد بين الواجب, وبين المستحب. ] واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم [: ((خذوا عني مناسككم)) , والإحرام من المناسك, وقد فعله في هذه الأشهر, فيجب أن نأخذ به. والجواب: أن وجوب الأخذ منه ليس يختص بالواجب دون المسنون؛ لأنه يجب علينا أن نأخذ منه المسنون, كما نأخذ الواجب. واحتج بما روى النجاد بإسناده عن مقسٍم, عن ابن عباس قال: من السنة ألا يهل بالحج إلا في أشهر الحج. وبإسناده عن ابن الزبير, عن جابر قال: لا يحرم المحرم إلا في أشهر الحج. والجواب: أن هذا محمول على طريق الاستحباب. وعلى أنه قد روي عن عمر وعلي: ((إتمامهما أن تحرم بهما من

دويرة أهلك)) , ومن بعدت داره من مكة لا يحرم من دويرة أهله في الأشهر الحرم. واحتج بأن يوم النحر وقت لفوات العبادة, فلم ينعقد إحرامها فيه, كالجمعة في وقت العصر. والجواب: أن الجمعة لا يجوز أن تبقى أركانها عندهم إلى وقت العصر, فلم تنعقد فيه,] و [الحج من [صريح] ركنه أن يفعل يوم النحر, فلذلك انعقد فيه. واحتج بأن الإحرام ركن من أركان الحج, فوجب أن لا يجوز فعله قبل أشهر الحج, كالوقوف بعرفة. والجواب: أن الوقوف ليس في طرف الحج, فاختص بأشهر الحج, وليس كذلك الإحرام؛ لأنه أحد طرفي الحج, فوجب ألا يختص بأشهر الحج, كالطواف. واحتج بأنه نسك لا يتم الحج إلا به فكان مؤقتًا, كالوقوف, والطواف, والرمي. ولا يلزم عليه السعي؛ فإنه مؤقت؛ لأنه لا يجوز إلا بعد

الإحرام, وبعد الطواف. والجواب: أن الوقوف, والطواف, والرمي لما اختص بمكان لا يجوز التقدم عليه, كذلك يختص بوقت لا يجوز التقدم عليه,] أما الإحرام فلما جاز أن يتقدم على مكانه [, جاز أن يتقدم على وقته أيضًا. واحتج بأنه نسك لا يجوز تأخيره عن وقته, فلا يجوز تقديمه عليه. أصله: الوقوف, والرمي. والجواب: ما تقدم. واحتج بأنها عبادة أفعالها مؤقتة, فوجب أن يكون إحرامها مؤقتًا, كالصلاة. وعبارة أخرى: الحج عبادة يلحقها الفوات, فوجب أن يكون الدخول فيها مؤقتًا, كالصلاة. والجواب: أن الوقت الذي يصح فيه أحد فروض الصلاة يصح فيه إحرامها, فيجب أن يكون الوقت الذي يصح فيه أحد فروض الحج يصح فيه الإحرام بالحج. وعند مخالفنا لا يصح؛ لأن أحد فروضه يقع في أيام النحر, ولا يصح الإحرام بالحج في يوم النحر عنده, مع أنه قد قيل: الإحرام لا يفوت, وإنما يفوت الوقوف.

وجواب آخر, وهو أن تحريمه الصلاة تتصل أفعالها بها, ولا تتراخى عنها, فلم يجز أن تتقدم على وقت الأفعال, وأفعال الإحرام تتأخر عنه, فجاز أن يفعله قبل الوقت, كالطهارة. واحتج بأنها عبادة لا تفعل في السنة إلا مرة, فكان وقت التلبس بها محدودًا, كالصوم. والجواب عنه: ما تقدم, وهو: أن الصوم لا تتراخى أفعاله عن الدخول, فلم يجز التلبس به في عير وقت فعله, والحج تتراخى أفعاله عن وقت الدخول فيه, كالطهارة,] ونية الصوم [. واحتج بأنه لو كان ابتداء إحرام الحج في غير أشهر الحج, لوجب- إذا فاته الوقوف-] أن يبقى على [إحرامه إلى السنة القابلة؛ ليؤدي به موجباته. ألا ترى أنه لما جاز ابتداء إحرام صلاة الظهر بعد فوات وقتها, جاز البقاء عليه؛ ليؤدي به موجباته. فلما لم يجز البقاء على إحرام الحج بعد الفوات, ولزمه التحلل

منه, لم يجز ابتداؤه فيه. والجواب: أنه لما لم يجز [له أن] يبقى على ذلك الإحرام إلى السنة القابلة؛ لأنه أوجب عليه الوقوف بعرفة في تلك السنة, فإذا فاته وقت الوقوف لم يمكنه أن يؤدي به موجب الإحرام في السنة الثانية, فلزمه التحلل منه بعمل عمرة. وليس كذلك إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج؛ لأنه يمكنه أداء موجب الإحرام؛ لأن وقته لم يفت. على أن هذا دلالة لنا؛ لأنه إذا فاته الحج, فإن إحرامه لا يبطل, فهو باق ما لم يتحلل منه بعمل عمرة, فلو كان الوقت منافيًا لإحرام الحج لما صح بقاؤه فيه, كما أن وقت العصر لما كان منافيًا لإحرام الجمعة عندهم لم يصح بقاؤه فيه. وجواب آخر, وهو: أنه إذا فاته الحج انقطع إحرام الحج, وتحول إحرام عمرة, وإذا كان كذلك امتنع بقاؤه؛ لأنه قد تحول من طريق الحكم إلى عمرة. وهذا جواب جيد.

مسألة الأفضل أن يحرم من الميقات

33 - مسألة الأفضل أن يحرم من الميقات: نص عليه في رواية الأثرم- وقد سئل: أيما أعجب إليك: الإحرام من الميقات, أم قبل؟ - فقال: من الميقات أعجب إلي. وكذلك نقل ابن منصور عنه- وقد سئل: إنهم كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته, أو من بيت المقدس, أو من دون الميقات؟ -فقال: وجه العمل المواقيت. وكذلك نقل أبو بكر بن محمد عن أبيه, وقد سئل عن الحديث: ((أن تحرم من دويرة أهلك))؟ فقال: ينشئ لها سفرًا من أهله, كأنه يخرج للعمرة عامدًا, كما يخرج للحج عامدًا, وهذا مما يؤكد العمرة. فقد نص في الحج والعمرة على الإحرام من الميقات. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: الأفضل أن يحرم من دويرة أهله. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: مثل قول أبي حنيفة. ونقل صالح عنه: إن قوي على ذلك أرجو أن لا يكون به بأس. دليلنا: ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج في عمره مرًة, واعتمر مرارًا.

ولم ينقل أنه أحرم قبل الميقات, فلو كان تقديمه على الميقات أفضل لكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله؛ لأنه لا يختار من الأفعال إلا أفضلها. فإن قيل: قد يختار غير الأفضل للتعليم. قيل له: إنما يكون ذلك بمرة, فأما في جميع أفعاله فلا, وقد روينا: أن العمرة تكررت منه من الميقات. وعلى أنه قد كان يمكنه أن يعلم بقوله, ويعمل الأفضل بفعله. ثم هذا يجوز] أن يقال في الفعل الذي يتكرر منه, فأما الفعل [الذي [لا] يتكرر منه, فلا يجوز أن يترك الفضيلة والاختيار فيه, والحج لم يقع منه مكررًا. ولأن ترك الإحرام قبل الميقات مباح, فلو أحرم قبله؛ فإنه يطول بقاؤه عليه, فلا يأمن مواقعة المحظور, وهو الطيب, والحلق, واللباس, وإذا أحرم من الميقات فإنه يسلم من الغرر والخطر, وما كان أبعد من الغرر فهو أولى. روي عن ابن عباس: أنه سئل عن رجلين؛ أحدهما [قليل الطاعة

قليل المعصية [, والآخر كثير الطاعة كثير المعصية, أيهما أفضل؟ فقال: يا ابن أخي [! السلامة لا يعدلها عندك شيء. يعني: من قلت طاعته, وقلت معصيته, فهو أسلم. فإن قيل: فيجب أن يعتبر هذا المعنى في العمرة, وقد قال أحمد في رواية صالح: كلما تباعد فهو أعظم للأجر, والعمرة على قدر تعبها. فظاهر هذا: أن الأفضل الإحرام بها من دويرة أهله. قيل له: نعتبر في العمرة ما نعتبره في الحج. وإنما قال أحمد هذا في المكي: إن الأفضل في حقه أن يتباعد بالإحرام بالعمرة من ميقات أهل البلدان أفضل من الإحرام من أدنى الحل, وقد بين هذا في رواية بكر بن محمد- وقد سئل: من أين يعتمر الرجل؟ -قال: يخرج إلى المواقيت فهو أحب إلي, كما فعل ابن عمر, وابن الزبير, وعائشة رضي الله عنهم أحرموا من المواقيت, فإن أحرم من التنعيم

فهو عمرة, وذلك أفضل, العمرة على قدر تعبها. وإنما كان الأفضل الإحرام بالعمرة من ميقات أهل البلد؛ لأنه ميقات شرعي [وهو] عزيمة, وأدنى الحل جعل ميقات أهل مكة على وجه الرخصة, وهذا المعنى معدوم في الإحرام من دويرة أهله. فإن قيل: هذا يوجب أن يكون الإحرام يوم التروية أفضل من تقديمه عليه؛ لأنه يؤدي إلى ما ذكرت. قيل له: لأن ما قبله ميقات للحج شرعي بقوله تعال:} أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ {] البقرة: 197 [, وهي شوال, وذو القعدة, وعشرة من ذي الحجة. على أنا لا نسلم ذلك, بل نقول: الإحرام يوم التروية أفضل. وقد نص على ذلك في رواية الميموني, وأبي داود في المتمتع: يهل يوم التروية, فإن أهل قبله فجائز. فتبين أن الاختيار يوم التروية. ولأن الميقات ميقاتان: ميقات زمان: وهو شهور الحج. وميقات مكان. ثم ثبت أنه يكره التقديم على ميقات الزمان, فلا يستحب أن يحرم قبل أشهر الحج, كذلك [الإحرام] من ميقات المكان. فإن قيل: إنما كرهنا له ذلك إذا لم يأمن مواقعه المحظور, فإن

أمن كان الإحرام بالحج قبل أشهر الحج أفضل. قيل له: فيجب أن تقول هاهنا: (إذا لم نأمن مواقعه المحظور بالإحرام قبل الميقات يكره) , كما كرهت ذلك في الإحرام في غير أشهره, وقد أطلقت القول بالفضيلة في تقديم الإحرام على المكان. والمخالف] يسوي بينهما, ويقول [: إذا أمن من مواقعة المحظور لم يكره ذلك؛ لا في الزمان, ولا في المكان,] ولا يتصور الأمن [؛ لأنه تعرض عوارض لا يمكن دفعها. واحتج المخالف بما وت أم سلمة] قالت: سمعت [النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أهل بحجٍة أو عمرٍة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه, وما تأخر)) , أو: ((وجبت له الجنة)) شك الراوي. ] وروت أم سلمة قالت [: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أهل بعمرٍة أو حجٍة من بيت المقدس كانت كفارًة لما قبلها من الذنوب)).

والجواب: أن قوله: ((من أهل)) معناه: من قصد من المسجد الأقصى, ويكون إحرامه من الميقات. واحتج بما روي عن علي, وابن مسعود: أنهما قالا في قوله تعالى:} وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ {] البقرة: 196 [: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وأحرم ابن عمر من بيت المقدس بعمرة, وأهل ابن عباس من الشام, وأحرم عمران بن حصيٍن من البصرة, وأحرم ابن مسعود من القادسية. والجواب: أن هذا يعارضه ما رواه أبو بكر النجاد بإسناده عن الحسن: أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة, فقدم على عمر, فأغلظ له, وقال: يتحدث الناس أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من مصر من الأمصار. وبإسناده عن مسلم: أن رجلًا أحرم من الكوفة, فرآه عمر سيئ الهيئة, فأخذ بيده, وجعل يديره في الخلق, ويقول: انظروا إلى هذا ما صنع بنفسه وقد وسع الله عليه؟! وبإسناده عن الحسن: أن عبد الله بن عامر أحرم من سمرقند, فبلغ ذلك عثمان, فلامه. وفي لفظ آخر: أحرم من خراسان, فلما قدم عثمان لامه ولامه, وكره ما صنع.

مسألة يحرم في دبر صلاته

وبإسناده عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: استمتعوا بثيابكم؛ فإن وكاءكم لا يغني عنكم من الله شيئًا. واحتج بأن إحرامه من دويرة أهله يوجب بقاءه على العبادة, والبقاء على العبادة أفضل, ألا ترى أن الإحرام قبل يوم التروية أفضل لهذه العلة؟ والجواب: أن الإحرام قبل أشهر الحج يوجب البقاء على العبادة, ومع هذا قلتم: إنه يكره ذلك. 34 - مسألة يحرم في دبر صلاته: نص عليه ف رواية المروذي فقال: إذا أراد الإحرام يستحب أن يغتسل, وأن يلبس إزارًا وردًا ورداًء, فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم, وإن شاء إذا استوي على راحلته, فيلبى بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال- أيضًا- في رواية حنبل: إذا أراد الإحرام؛ فإن وافق صلاة مكتوبة صلى, ثم أحرم إن شاء, وإذا استوى [على راحلته].

وكذلك نقل أبو طالب عنه قال: إذا أراد الإحرام استحب له أن يغتسل, ويلبس إزارًا ورداًء؛ فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم, وإن شاء إذا استوى على راحلته, فلبى بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم. وقال- أيضًا- في رواية ابن منصور- وقد سئل: تحرم في دبر الصلاة أحب إليك؟ -قال: أعجب إلي أن يصلي, فلا تأثير. وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: إذا بلغ الميقات فالاختيار له أن يغتسل, ويلبس ثوبين نظيفين, ويتطيب, فإن حضر وقت صلاة مكتوبة, وإلا صلى ركعتين, فإذا أراد التمتع, وهو اختيار أبي عبد الله- رحمه الله- فيقول: (اللهم إني أريد العمرة) ويشترط, فإذا استوي على راحلته لبي. نص على أنه يحرم إذا صلى, ويلبي إذا استوي على راحلته. وقال في رواية الأثرم: وقد سئل: أيما أحب إليك: الإحرام في

دبر الصلاة, أو إذا استوت به ناقته؟ فقال: كل قد جاء؛ دبر الصلاة, وإذا علا البيداء, وإذا استوت به ناقته, فوسع فيه كله. وظاهر هذا: أنه مخير في جميع ذلك, وليس أحدهما بأولى من الآخر, والمذهب على ما حكينا, وأن المستحب أن يحرم دبر الصلاة. وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: إذا استوت به راحلته. وقال الشافعي في القديم مثل قولنا, [وقال] في ((المناسك الكبير)): إذا انبعثت به راحلته. دليلنا: ما روى أبو بكر الأثرم في ((مسائله)) بإسناده عن سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من صلاته, ثم خرج فلما ركب راحلته, واستوت به قائمة أهل, فأدرك ذلك قوم, فقالوا: أهل حين استوت به راحلته, وذلك أنهم لم يدكوا إلا ذلك, ثم سار حتى علا من البيداء, فأهل, فأدرك ذلك رجال, فقالوا: حين علا البيداء. وهذا نص لا يحتمل التأويل, وبيان لوجوه اختلاف الرواة فيه, فكان تقديمه على غيره أولى. وروي في حديث آخر عن ابن عباس: أنه قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة, وأنا معه, وناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد, وابن عمر معها, ثم خرج, فركب, فأهل, فظن ابن عمر أنه أهل

في ذلك الوقت. وروى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتأني آٍت من ربي وأنا بالعقيق, فقال لي: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين, وقل: لبيك بعمرة في حجٍة)). ولم يجعل بين الصلاة والتلبية أمرًا فاصلًا. ولأن التلبية ذكر أمر بتقديم الصلاة عليه, وكان فعله عقيبها أفضل من تأخيره عنها, كتكبيرات التشريق وخطبته. فإن قيل: لا يصح] هذا على أصلكم [؛ لأن عندكم أن التلبية تتأخر عن عقد الإحرام, ويأتي بها إذا استوت به راحلته. قيل له: إن كان الإحرام في مصر, فالتلبية تتأخر عنه؛ لما نذكره فيما بعد, وأنها لا تستحب] في الأمصار [. وإن كانت في الصحراء أو البرية, فإنه يستحب ذكها عقيب الإحرام. نص] عليه في رواية حرب [-وقد سأله عن الرجل إذا أحرم في

دبر الصلاة: أيلبي ساعة يسلم, أم متى؟ -قال:] يلبي متى شاء؛ ساعة [يسلم, وإن شاء بعد ذلك. وسهل فيه. واحتج المخالف بما روى الأثرم بإسناده:] أن ابن عمر [قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى انبعث به راحلته. رواه النجاد بإسناده عن ابن عمر, عن النبي صلى الله: أنه كان إذا استوب به] راحلته لبى. وروى الأثرم [بإسناده عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى ذا الحليفة فبات بها حتى أصبح, فلما أصبح بها ركب, حتى إذا كان بظاهر البيداء, واستوت أخفافها, واعتدلت صدورها, ونظرت إلى الناس مد بصري أمامي, وخلفي, وعن يميني, وعن شمالي, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا, ينزل القرآن, وهو يعلم تأويله, فنحن ننظر ما يصنع فنصنع, أخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأهللنا معه.

وروى أحمد فيما ذكره الأثرم بإسناده عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر, ثم ركب راحلته, فلما علا جبل البيداء أهل. وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقبلت به راحلته, وإذا أخذ طريق أحٍد أهل إذا علا شرف البيداء. والجواب: أن هذه الأخبار لا تعارض خبر ابن عباس؛ لأن الجماعة رووا في وقت عرفة [ما روى] ابن عباس, فساواهم, وانفرد بمعرفة إهلاٍل في وقت لم يعرفوه, فخبره زائد, فهو أولى. فإن قيل: أخبارنا أولى؛ لأنها أكثر رواة, وابن عباس انفرد به. قيل له: المثبت أولى من النافي, وإن كان النفي ترويه الجماعة. فإن قيل: فأخبارنا يرويها الرجال, وابن عباس كان صبيًا. قيل له: لا أحد يقدم خبر غيره عليه لهذه العلة.

وعلى أنهم رجَّحوا خبره في مسألة القرآن, فقالوا: هو من الأهل على رواية أنس, فكيف يجوز مناقضة ذلك؟! فإن قيل: فقد تعارضت الرواية عن ابن عباس: فروى أحمد فيما ذكره أبو بكر بإسناده عن قتادة, عن أبي حسان, عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة, ثم دعا ببدنة, فأشعر صفحة سنامها الأيمن, وسلت الدم عنها, وقلدها نعلين, ثم دعا براحلته, فلما استوت على البيداء أهل بالحج. قيل: هذا ليس بمعارض, وإنما بعض خبر سعيد بن جبير؛ لأنه بين في ذلك الخبر: أنه أهل عقيب الصلاة, وحين استوى على راحلته, وحين استوى على البيداء, فهذا بعض الخبر. واحتج بأن الشافعي روى عن مسلم بن خالد, عن [ابن] جريج, عن أبي الزبير, عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج)). قالوا: وهذا بعد إهلاله بذي الحليفة, فيكون نسخًا. والجواب: أن معناه: إذا أردتم الرواح, بدلالة: أنه لم يذكر الصلاة, ولا خلاف أن الصلاة تقدم على الإحرام, فعلم أنه قصد بهذا وقت الدخول, ولم يقصد به بيان كيفية الدخول.

مسألة التلبية غير واجبة, ويدخل في الإحرام بمجرد النية

وما ذكرناه أولى؛ لأن المحرم عقيب الصلاة أخشع منه عند الركوب, فإهلاله مع الخشوع أولى. ولأن في الأصول ذكر عقيب الصلاة, وليس فيها ذكرًا يتعلق] بالتوجه, ولا بالإشراف [على البيداء, فكان إثبات ما له نظير أولى. 35 - مسألة التلبية غير واجبة, ويدخل في الإحرام بمجرد النية: نص عليه في رواية الأثرم- وقد سئل: بأي شيء يكون الرجل محرمًا؟ -] فقال: بالنية. قيل له: فيكون محرمًا بغير تلبية؟ قال [: نعم إذا عزم على الإحرام فهو محرم, وقد يلبي الرجل, ولا يحرم, ولا يكون عليه شيء. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: التلبية واجبة في ابتداء الإحرام, فإن لم يلب, وقلد الهدي وساقه, ونوى الإحرام, صار محرمًا. وقال مالك: يجب بترك التلبية دم.

دليلنا على أبي حنيفة: أن كل ذكر جاز تركه في العبادة مع القدرة عليه, لم يكن واجبًا. دليله: دعاء الاستفتاح والاستعاذة. وذلك أنه يجوز تركه عندهم, والعدول إلى التقليد وسوق الهدي, فلو كان واجبًا لم يجز تركه إلى غيره. فإن قيل: جواز الإحرام بالتقليد وسوق الهدي لا يدل على نفي وجوب الذكر في أوله, ألا ترى أن المسح على الخفين قد يقوم مقام غسل الرجلين, ولم يدل هذا على نفي وجوب غسلهما في الوضوء؟ قيل له: [المسح] فعل, [و] قد يجوز أن يقوم الفعل مقام غيره, والتلبية قول, ولسنا نجد في الأصول ذكرًا واجبًا يقوم غيره مقامه مع القدرة عليه. ألا ترى أن الذكر في أول الصلاة, والقراءة في أثنائها, لما كان واجبًا لم يقم غيره مقامه مع القدرة عليه. وعلى أن المسح على الخفين يقوم مقام الغسل؛ لضرب من المشقة في نزع الخفين وغسل الرجلين, وهذا المعنى غير معتبر فيه. ولأن الإحرام أحد طرفي الحج, فلم يكن فيه ذكر واجب. دليله: الطرف الثاني, وهو الرمي والطواف. فإن قيل: لا يجوز اعتبار أوله بآخره في باب الإيجاب, كما لم

يصح اعتبار آخره بأوله في باب الاستحباب. قيل له: نحن نعتبر أوله بآخره في باب الاستحباب؛ لأنه يتحلل بالرمي لجمرة العقبة, والتلبية مسنونة إلى أن يرمي الجمرة. فإن قيل: لا يصح اعتبار أوله بآخره في الإيجاب, كما لم يصح اعتبار أول الطهارة عندك بآخرها في إيجاب التسمية. قيل له: الذكر في أول الطهارة لما كان واجبًا لم يقم غيره مقامه مع القدرة عليه, فلو كان الذكر في الحج عندك يجري مجرى الطهارة عندنا, لوجب ألا يقوم غيره مقامه. ولأنها عبادة تجب بإفسادها كفارة- أو نقول: يدخل في جبرانها المال- فلم يكن فيها ذكر واجب. دليله: الصيام. وعكسه: الصلاة والطهارة؛ لما لم يدخل فيهما المال, وجب فيهما ذكر. ولا يلزم عليه الاعتكاف؛ لأن في] إيجاب الكفارة روايتين [. فإن قيل: الصوم ليس فيه ذكر مسنون, فلهذا لم يكن واجبًا, والحج فيه ذكر مشروع, فجاز أن يجب فيه. قيل له: الوضوء فيه ذكر مشروع,] وليس فيه ذكر واجب عندك,

فانتقضت معارضتك [. واحتج المخالف بأن فرض الحج مجمل في الكتاب, مفتقر إلى] البيان, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد [مورد البيان كان على الوجوب. وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم] لبى حين أحرم, فوجب أن يكون على [الوجوب. والجواب: أنه قد يبين الواجب, ويبين المسنون, فنحمل بيانه هاهنا على المسنون. يبين صحة هذا: أنه استدام التلبية إلى أن رمى الجمرة, ومعلوم أن الأولى واجب عندك, وما بعدها مسنون. واحتج بما روي: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنها من شعار الحج)). وهذا يقتضي وجوب التلبية ورفع الصوت جميعًا, غير أن الدلالة دلت على أن رفع الصوت غير واجب.

والجواب: أن الخبر يقتضي الأمر برفع الصوت, والتلبية تجب بالمعنى دون اللفظ, فإذا سقط وجوب اللفظ- وهو رفع الصوت- سقط تابعه. وعلى أن نحمل ذلك على طريق الاستحباب دون الإيجاب بدليل ما تقدم. واحتج بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((انقضي رأسك, وامتشطي, واغتسلي, ودعي العمرة, وأهلي بالحج)). وأراد بالإهلال التلبية, وهذا أمر, والأمر يقتضي الوجوب. والجواب: أن الإهلال قد يراد به التلبية- كما ذكرت- بدليل ما روي عن عكرمة قال: دفعت مع الحسين بن علي من مزدلفة, فرأيته يلبي حين انتهى إلى جمرة العقبة, فقلت: ما هذا الإهلال يا أبا عبد الله؟. وأراد به التلبية, ولم يرد به الإحرام؛ لأنه معلوم أن الحسين لم يبتدئ الإحرام بعدما دفع من المزدلفة. وكذلك ما روي: أنه قيل لابن عباس: كيف اختلف الناس في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سأخبركم, أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه ... إلى أن قال: فلما استوى على راحلته أهل, وقال: فلما استوى

على البيداء أهل. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدد الإحرام في الأحوال الثلاثة. وقد يرد, ويراد به الإحرام, بدليل ما روي عن علي: أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن قال: ((بم أهللت؟)) قال: بإهلاٍل كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: كإحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر: يهل بالفرقد ركبانها أراد به: يحرم. وإذا كان كذلك, حلمناه على الإحرام دون التلبية. واحتج بأن الحج عبادة مقصودة لنفسها, تنتظم أفعالًا متغايرة, فوجب أن لا يصح الدخول فيها بمجرد النية. دليله: الصلاة. وعبارة] أخرى: عبادة لها [إحرام وإحلال, فوجب أن يكون

الذكر في ابتدائها واجبًا, كالصلاة. والجواب:] أن العبارة الثانية تنتقض [بالصيام؛ لأن له تحليلًا وتحريمًا, وليس فيه ذكر واجب. وذلك أن الإحرام] هو: الدخول في العبادة [التي يحرم عليه فيها ما كان حلالًا قبل الدخول, من قولهم: (أظهر) إذا دخل [في وقت] الظهر, و (أتهم) و (أنجد (إذا دخل أرض نجٍد وتهامة. وكذلك التحليل هو: الخروج مما كان] محرمًا عليه. وهذا موجود في [الصيام. ثم المعنى في الصلاة: أن الذكر فيها لما يقم مقامه فعل, لهذا ما كان واجبًا, وذكر الحج يقوم مقامه سوق الهدي مع قدرته على الذكر, فبان الفرق بينهما. * فصل: والدلالة على مالك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في المال

مسألة إظهار التلبية غير مسنون في الأمصار ومساجد الأمصار، وإنما هو مسنون في الصحاري والبراري

حق سوى الزكاة)). ولأنه ذكر في أثناء الحج، فلم يجب بتركه دم. دليله: الدعاء بعرفات، والمزدلفة، وعند رمي جمرة العقبة. واحتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتلبية، والأمر يدل على الوجوب. والجواب عنه: ما تقدم. وإن قاسوا على الصلاة في إيجاب الذكر، فنهي بالعبارة التي تقدمت. والجواب عنه: ما تقدم. وعلى أن الذكر في الصلاة آكد منه في الحج بدليل أنه يؤثر في فسادها، ولا يؤثر في فساد الحج. 36 - مسألة إظهار التلبية غير مسنون في الأمصار ومساجد الأمصار، وإنما هو مسنون في الصحاري والبراري: نص عليه في مواضع:

فقال في رواية المروذي: لتلبية إذا برزوا عن البيوت. وقال في رواية أبي داود: لا يعجبني أن يلبي في مثل بغداد حتى يبرز. وقال في رواية حمدان بن علي: إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي. وقال الشافعي: لا يكره إظهارها في الأمصار ومساجد الأمصار. دليلنا: ما روى حنبل بإسناده عن عطاء، عن ابن عباس: أنه سمع رجلًا يلبي في المدينة، فقال: إن هذا لمجنون! ليست التلبية في البيوت، إنما التلبية [إذا] برزت. ولأن التلبية غير واجبة، والإسرار بالتطوع أولى؛ لئلا يدخله الرياء والسمعة على من لا يشاركه في فعل تلك العبادة، ولهذا استحب الإسرار بصدقة التطوع وصلاة التطوع، تفارق هذا الصحارى والبراري؛ لأن إظهاره مع من يشاركه في النسك، فلا يؤدي إلى الرياء، وكذلك إظهارها بمكة وعرفات ومنى؛ لأن هناك محل النسك، فلهذا استحب إظهاره. واحتج المخالف بما روي في حديث جبريل وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: ((مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية))، وقوله: ((الحج العج والثج)).

مسألة لا تستحب الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، فإن زاد جاز

والجواب: أن هذا محمول على الصحارى بما تقدم. واحتج بأن إظهارها بمكة مستحب وإن كانت مصرًا، كذلك غيرها. والجواب عنه: ما تقدم. 37 - مسألة لا تستحب الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، فإن زاد جاز: نص على هذا في رواية أبي داود والأثرم: فقال في رواية أبي داود- وقد سئل عن التلبية، فذكرها، فقلت له: تكره أن يزيد على هذا؟ -قال: وما بأس أن يزيد؟ وقال الأثرم: فقلت له: هذه الزيادة التي يزيدها الناس في التلبية؟ فقال شيئًا معناه الرخصة. وقال في رواية المروذي: كان في حديث ابن عمر: ((والملك لا شريك لك)) فتركه؛ لأن الناس تركوه، وليس في حديث عائشة. وقال في رواية حرب في الرجل يزيد في التلبية كلامًا، أو دعاًء: أرجو ألا يكون به بأس.

وظاهر هذا: أن الزيادة مباحة. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن زاد فحسن. وظاهر هذا: أنها مستحبة، فالخلاف في الاستحباب. دليلنا: أن ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وابن عباس وأنس رووا تلبية النبي صلى الله عليه وسلم المشهورة، وقال: ((خذوا عني مناسككم)). فروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن جابر قال: كانت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك [لك لبيك]، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك)). وروى بإسناده عن ابن عمر: ان تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك)). وروى أحمد في ((المسند)) عن عائشة مثل ذلك. والمشهور من حديث عائشة أنه ثلاثة ألفاظ: ((لبيك اللهم لبيك،

لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك)). وروى حنبل بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأنس مثل حديث ابن عمر. وهو إخبار عن دوام الفعل، فكان هو المستحب. فإن قيل: هذا يدل على وجوب أحد المذكورين، ولا ينفي غيره. قيل له: يدل على استحباب أحمدهما؛ لأنه دام عليه. ولأن هذا الذكر شعار هذه العبادة، كالأذان وتكبيرة الإحرام، ثم الأذان والتكبير لا تستحب الزيادة عليه، كذلك هذا. فإن قيل: الأذان والتكبير لا يسن تكراره بعد تمامه، فلم تجز الزيادة عليه، ولا النقصان منه، ولما شرع تكرار التلبية بعد تمامها، جاز الزيادة عليها. قيل له: إنما لم يسن تكراره بعد تمامه؛ لأن القصد منه الإعلان واجتماع الناس، وهذا لمعني قد حصل، وأما التلبية فإنما يسن تكرارها لأجل تلبسه بالعباد، وذلك المعنى موجود ما لم يتحلل. واحتج المخالف بما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لبيك إله الحق)).

والجواب: أنه يحتمل أن يكون قال ذلك على طريق الجواز، أو لأنه لم يتكرر منه. واحتج بما روي عن ابن عمر: أنه زاد: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل. ذكره الأثرم، وذكر -أيضًا- عن عمر: أنه زاد فيها: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك، مرهوبًا ومرغوبًا إليك. والجواب: أن هذا محمول على الجواز. مع أنه قد روي: أن سعد بن أبي وقاص سمع بعض بني أخيه يلبي: لبيك ذا المعارج، فقال سعد: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: يحتمل أن يكون اقتصر على ذلك، [وعندنا يكرع ترك التلبية المشهورة]. قيل له: قوله: (سمعه وهو يلبي) يقتضي التلبية الشرعية، إلا أنه

زاد فيها، فأنكر عليه ذلك. واحتج بأن التلبية مستحب فيها نفي الشرك، فيستحب نفي الشبيه والثناء، كالخطبة. والجواب: أن الخطبة ليس فيها ألفاظ مشهورة مسنونة، فهي كالأذان والتكبير. واحتج بأنه زاد على التلبية المشهورة، فصار كما لو قال: (لبيك إن العيش عيش الآخرة). والجواب: أن الخلاف في ذلك كالخلاف في غيره. واحتج بأنه ذكر يقصد به تحميد الله، والثناء عليه، فلا تكره الزيادة عليه بعد استيفائه، كالتشهد. والجواب: أنا لا نكره الزيادة على ذلك إذا أوردها على وجه الذكر لله- تعالى- والتعظيم له، لا على أنها متصلة بالتلبية، وكذلك الزيادة على التشهد، ما يذكره من الدعاء بعده، ليس بزيادة فيه. واحتج بأنه ذكر شرع تكراره بعد تمامه، فإذا ابيح بعده الذكر المباح، فإن الذكر من جنسه أولى، كالأدعية. والجواب: أنا قد أجبنا عن هذا، وبينا الفرق بين التكرار وبين الزيادة.

مسألة يقطع المعتمر التلبية إذا افتتح الطواف

38 - مسألة يقطع المعتمر التلبية إذا افتتح الطواف: نص عليه في رواية الميموني والأثرم وحنبل وأبي داود فقال: يقطع التلبية إذا استلم الركن. وقال الخرقي: ومن كان متمتعًا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت. وظاهر هذا: أنه يقطع برؤية البيت، ويجوز أن يحمل هذا من كلامه على أنه رأى البيت، وافتتح الطواف. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: إن كان قد أحرم بها من الميقات، فإذا دخل الحرم قطع، وإن كان أحرم من أدنى الحل، فإذا رأى البيت قطع. دليلنا: ما روى حنبل بإسناده في ((مسائله)) عن عمرو بن شعيٍب، عن أبيه، عن جده قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمٍر، كل ذلك يلبي حتى يستلم الحجر. وروى بإسناده عن ابن عباس قال: يقطع المعتمر التلبية حين يستلم الحجر. وروى خلافه عن ابن عمر قال: يقطع المعتمر التلبية

مسألة ويقطع الحاج التلبية حين يرمي جمرة العقبة

إذا دخل الحرم. وأيضًا كل حالة لم يشرع فيها في التحلل لم يسن قطع التلبية فيها، كما لو يصل إلى الحرم. وعكسه إذا أخذ في الطواف؛ لأنه قد شرع في سبب التحلل. ولأنه إحرام بعمرة، فلم يقطع التلبية قبل الشروع في الطواف. ودليله: إذا أحرم من أدنى الحل. واحتج المخالف بأنه إحرام، فلم يقف قطع التلبية فيه على الطواف. دليله: إحرام الحج. والجواب: أنه يبطل به إذا أحرم من أدنى الحل. ثم المعنى في الأصل: أنه يقطع عند الرمي، وهو الشروع في التحلل، وكذلك يفعل مثل هذا في العمرة، يقطع عند الشروع في التحلل. 39 - مسألة ويقطع الحاج التلبية حين يرمي جمرة العقبة: نص عليه في رواية الأثرم وأبي داود: يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.

وفي رواية الميموني: يقطع عند أول حصاة. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك في الصحيح من الروايتين عنه: يقطع إذا زالت الشمس من يوم عرفة. دليلنا: ما روى الأثرم بإسناده عن الفضل بن العباس: أنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من جمٍع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة. وروى بإسناده عن الحسين بن علي، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهل حتى رمى جمرة العقبة. وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد قال: قال عبد الله- ونحن بجمع-: سمعت الذي أنزلت عليه سورة (البقرة) في هذا المكان يقول: ((لبيك اللهم لبيك)). فإن قيل: يحمل هذا على الجواز دون الفضيلة. قيل له: النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك الفضيلة إلى الجواز فيما لا يتكرر الفعل منه، والحج لم يتكرر منه. ولأنه ندب إلى الاقتداء به بقوله عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم)).

ولأن كل حالة لم يشرع فيها التحلل لم يسن قطع التلبية فيها. دليله: قبل الزوال. واحتج المخالف بما روى ابن شهاب قال: كانت الأئمة تقطع التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة، وسمى أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة. والجواب: أن أبا بكر الأثرم روى بإسناده عن ابن عباس قال: سمعت عمر يهل بالمزدلفة، فقلت: يا أمير المؤمنين! فيم الإهلال؟ قال: وهل قضينا نسكنا بعد؟!. وروى بإسناده عن ابن عباس قال: المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الحجر، والحاج إذا رمى الجمرة يوم النحر. [و] بإسناده عن أبي وائل قال: لم يزل عبد الله يلبي حتى رمى أول حصاة. وبإسناده عن كريٍب قال: أرسلني ابن عباس مع ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فانبعث هودجها، فلم أزل أسمعها تلبي حتى رمت الجمرة التي عند العقبة. وبإسناده عن عكرمة قال: أفضت مع الحسين بن على من المزدلفة، فلم أزل أسمعه بهل حتى رمى جمرة العقبة، فسألته عن ذلك

مسألة لا يكره فعل العمرة يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق على ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث: يعتمر الرجل متى شاء؛ في شعبان، أو في رمضان

فقال: أفضت مع أبي بكر من المزدلفة، فلم أزل أسمعه يهل حتى رمى جمرة العقبة، فسألته عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى رمى جمرة العقبة. وهذا كله يمنع الاحتجاج بما رووه. واحتج بأن التلبية إجابة النداء الذي دعي إليه، فإذا انتهى إلى الموضع الذي دعي إليه فقد فعل ما وجب عليه، وانتهى إلى غاية ما أمر به، فلا معنى لاستدامتها فيما زاد على ذلك. والجواب: أن التلبية إجابة للداعي بالحج كما ذكرت، ومعناها: ها أنا مجيب لما دعوتني، فمتى كان متلبسًا بالحج غير متحلل منه يجب أن تحسن منه الإجابة- التي هي التلبية- لأجل تلبسه بها، ومقامه عليها. 40 - مسألة لا يكره فعل العمرة يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق على ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث: يعتمر الرجل متى شاء؛ في شعبان، أو في رمضان: وقد قال أحمد في رواية ابن إبراهيم فيمن واقع قبل الزيارة:

يعتمر إذا انقضت أيام التشريق. وظاهر هذا: انه لم ير العمرة في أيام التشريق. والمذهب على ما حكينا؛ لأنه قد قال في رواية الأثرم: العمرة بعد الحج لا باس بها عندي. وهو قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: يكره في هذه الأيام. دليلنا: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وهذا عام في هذه الأيام، وفي غيرها. وأيضًا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما))، ذكره ابن بطة، ولم يفرق. ولأنه زمان لا يكره الإحرام بالحج فيه، فلا يكره الإحرام بالعمرة فيه. دليله: سائر الأيام. وغن شئت قلت: كل وقت يصلح للطواف المجرد صلح للعمرة. دليله: ما ذكرنا. ولأنها عبادة يجب المضي في فأسدها، فلم يكره فعلها في هذه الأيام، كالحج.

أو نقول: أحد نسكي القران، فأشبه الحج. فإن قيل: الحج لا يجوز فعله في سائر الأوقات، كذلك العمرة. قيل له: إنما لم يجز فعله في سائر الأوقات؛ لأن له وقتًا يفوت فيه، والعمرة ليس لها وقت تفوت فيه. ولأن الحج أكد في التخصيص بوقت من العمرة، ألا ترى أن أفعاله تختص بزمان، وأفعال العمرة لا تختص بزمان؟ ولأن أفعال العمرة لا تختص بوقت، فلم يختص أصلها بوقت، كالصدقة. وعكسه الحج؛ لما اختصت أفعاله بوقت، اختص الإحرام بها بوقت. واحتج بعض من نصر هذه المسألة بأن القارن إذا دخل مكة يوم عرفة، فإنه يبتدئ بالعمرة، ثم بالحج، ولو كان فعلها في يوم عرفة مكروهًا لما جاز للقارن فعلها فيه، والمخالف لا يسلم بهذا، بل يقول: إذا دخل مكة يوم عرفة وهو قارن، فإنه يرفضها، ويكره له المضي فيها. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة:3]، قيل في التفسير: يوم الحج الأكبر: يوم النحر، والحج الأكبر: الحج، فثبت أنه ليس بوقت لغيره. والجواب: أنه لا يقتضي أن يكون هذا اليوم وقتًا للحج، وهذا

لا ينفي أن يكون وقتًا للعمرة من حيث اللفظ، وإنما ينفيه من حيث الدليل، وهم لا يقولون به. وعلى أنه إنما خص هذا اليوم بالحج؛ لأن بعض أفعاله تختص بهذا اليوم، وتجوز في غيره، والعمرة لا تختص به، بل تجوز في غيره. واحتج بما روى النجاد بإسناده عن عائشة: أنها قالت: العمرة في السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق. ورواه الأثرم بإسناده عن عائشة قالت: حلت العمرة الدهر إلا ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومين من أيام التشريق. والجواب: أن ظاهر الخبر [مطرح؛ لأنها] كرهت العمرة، والعمرة عندهم هي الطواف والسعي، وذلك غير مكروٍه فعله عندهم في هذه الأيام، وإنما المكروه الإحرام بالعمرة، والإحرام ليس من العمرة عندهم. واحتج بأنها عبادة غير مؤقتة بها تحليل، فوجب أن ينقسم وقتها إلى مستحب ومكروه. دليله: صلاة التطوع. والجواب: أنه لا تأثير لقولك: (غير مؤقتة) في الأصل؛ لأن الصلاة

المؤقتة لها وقت تكره فيه، وهي صلاة الفجر عند طلوع الشمس. وعلى أنا نقلب العلة؛ فبقوله وجب أن تكون هذه الأيام وغيرها سواًء قياسًا على صلاة التطوع. وعلى أن إلحاق هذه بالطواف أولى من إلحاقها بصلاة التطوع، وقد ثبت أن الطواف لا يكره فعله في هذه الأوقات، كذلك هاهنا. وأجاب بعضهم عن هذا بأن صلاة التطوع لما اختصت فضيلة فعلها بوقت معين، وهي النوافل الراتبة، اختصت كراهيتها بوقت معين، ولما لم تختص فضيلة العمرة بوقت معين، لم تختص كراهيتها، وهذا غير صحيح عندنا؛ لأن فضيلة العمرة تختص بوقت معين، وهو غير أشهر الحج. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: في شهر رمضان أفضل، وهي في غير أشهر الحج أفضل. وكذلك نقل الأثرم. واحتج بحديث أم معقل وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عمرة في شهر رمضان تعدل حجة)). وبما روى النجاد بإسناده عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله عنه: افصلوا

مسألة يجوز فعل العمرة في السنة دفعتين، وأكثر

بين حجكم وعمرتكم؛ اجعلوا الحج في أشهر الحج، واجعلوا العمرة في غير أشهر الحج؛ أتم لحجكم وعمرتكم. وبإسناده عن طارق شهاب: سئل عبد الله عن العمرة في أشهر الحج، فقال عبد الله: الحج أشهر معلومات، ليس فيهن عمرة. 41 - مسألة يجوز فعل العمرة في السنة دفعتين، وأكثر: نص عليه في رواية ابن إبراهيم- وقد سئل عن العمرة في كل شهر مرة، أو مرتين- فقال: كل ذلك جائز، اعتمر في كل شهر مرارًا؛ إن شئت ثلاثًا، وإن شئت مرتين. وكذلك نقل أبو داود، وقد سئل عن العمرة في كل شهر، فقال: أرجو ألا يكون به باس. وكذلك نقل الأثرم وأبو الحارث. وبهذا قال [أبو حنيفة] والشافعي. وقال مالك: يكره أن يعتمر في السنة مرتين.

دليلنا: ما روى أبو [هريرة عن] النبي صلى الله عليه وسلم: ((العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما)). ولم يفصل بين أن يكون [ذلك في سنة]، أو سنتين. وأيضًا ما روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن [بن أبي بكر] أن يعمر عائشة من التنعيم ليلة المحصب. وهي ليلة الرابع عشر من ذي الحجة. ومعلوم [أن عائشة] قد كانت اعتمرت من هذا الشهر عمرة أخرى؛ فإنها كانت قارنه في هذه السنة، [وذلك أنها أدخلت] الحج على عمرتها، فصارت قارنه في هذه السنة. ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك)).

ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن على، وابن عمر، وعائشة، وأنس رضي الله عنهم: أما على فروى النجاد بإسناده عن كجاهد [قال]: قال على: في كل شهر عمرة. وبإسناده عن ابن عمر: أنه اعتمر عام القتال في شوال ورجب. وبإسناده عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تعتمر من الجحفة بعد عمرتها من التنعيم بعد أيام التشريق. وبإسناده عن أنس: أنه كان مقيمًا بمكة، وكلما جمم رأسه اعتمر؛ يعني: كلما نبت شعر رأسه بعد أن حلقه اعتمر. ولأنها عبادة لا تختص بوقت معين، فجاز فعلها على التكرار والتوالي. دليله: الصلاة النافلة، وصوم النافلة. واحتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي الحجة، ثم أقام حتى دخل المحرم واعتمر، فلو جاز الجمع لجمع. والجواب: أن هذا لا يمنع جواز الجمع بينهما، وإنما يدل على جواز التفريق، ونحن لا نمنع. واحتج بأنها عبادة تشتمل على إحرام وطواف وسعي، فاقتضى

مسألة العمرة واجبة

حكمها في الشرع أن تفعل مرة السنة، كالحج. والجواب: أن الحج يختص بوقت معين، وذلك الوقت لا يتكرر، وإنما يكون في كل سنة مرة، وكذلك صوم رمضان، فلهذا لم يجز فعله إلا دفعة، والعمرة لا تختص بوقت معين، فهي كصلاة التطوع وصوم التطوع. 42 - مسألة العمرة واجبة: نص عليه في رواية الأثرم، وبكر بن محمد، والمروذي، وإسحاق ابن إبراهيم. وهو قول الجديد للشافعي وداود. وقال في القديم: هي سنة. وهو قول أبي حنيفة ومالك. دليلنا: ما روى أبو بكر الأثرم بإسناده عن أبي رزيٍن قال: قلت: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، قال: ((حج عن أبيك واعتمر)). وهذا أمر بفعل العمرة، والأمر يقتضي الوجوب.

وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن سراقة بن مالك بن جعشم [أنه قال]: يا رسول الله! عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل للأبد)). فوجه الدلالة: أنه سأله عن التكرار، فدل على أن وجوبها في الأصل كان ثابتًا عنده. وأن قوله: ((للأبد)) يريد به: الوجوب؛ لأن الاستحباب لا يختص بذلك العام، بل يتكرر في كل يوم، وفي كل وقت. فإن قيل: لا حجة في هذا [على وجوب] العمرة ابتداء؛ لأن السؤال وقع عن عمرة بعينها كانت واجبة عندنا، وهي التي [أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن] يفسخوا بها إحرام الحج، ويتحللوا منه بعمل العمرة، فظن سراقة [أن ذلك يفعل كل سنة، فقال: أعمرتنا هذه التي تحللنا بها عن إحرام الحج، تفعل في كل سنة؟ فقال: ((لأبد الأبد))، ولا يجب نسخ الحج بها في كل سنة.

قيل له: قد سلمت بهذا الخبر: أنه قد كان هناك عمرة] واجبة، وادعيت نسخها، ومدعي النسخ يحتاج إلى دليل على أن النسخ منصرف على الفسخ، لا إلى فعل العمرة. والذي يبين صحة هذا: أنه روي في بعض الألفاظ: حجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال: ((بل للأبد)) ولم يقل أحد: إن ذلك منسوخ. وأيضًا ما روى عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: هل على النساء جهاد؟ قال: ((عليهن جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة)). وتقديره: يجب عليهن جهاد؛ لأنها سألته عن وجوب ذلك. وروى زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهن بدأت)). وأنا ابن أبي مسلم في الإجازة قال: ثنا محمد بن أحمد بن تميم قال: ثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: ثنا قتيبة قال: ثنا ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج والعمرة

فريضتان واجبتان)). فإن قيل: معناه مقدرتان؛ لأن الفرض في للغة هو التقدير. قيل له: إن كان هذا معناه في اللغة، كان معناه في عرف الشرع الإيجاب، فوجب حمله عليه. وعلى أن قوله: ((لا يضرك بأيهما بدأت)) يمنع أن يكون المراد به التقدير؛ لأن تقديرهما لا يوجب التسوية بينهما، وإيجابها يوجب التسوية بينهما في التقديم والتأخير. فإن قيل: يحمل هذا عليه إذا دخل في العمرة. قيل له: الفرض إذا أطلق فإنه يعقل منه الابتداء، ولأنه قال: ((لا يضرك بأيهما بدأت)) دل على أن المراد به الابتداء. والقياس: أنه إحرام يتضمن الطواف والسعي، فوجب أن يكون من جنسه باسمه الخاص ما هو واجب ابتداًء قياسًا على الحج. فإن قيل: نقول بموجب العلة؛ لأن الحج من جنس العمرة، وهو واجب ابتداء. قيل: نحن قلنا: (من جنسه باسمه الخاص) واسمها الخاص هو العمرة، أو الحج الأصغر، ولا يجب بهذين الاسمين عند المخالف ابتداء.

وإن شئت قلت: العمرة عبادة يحرم فيها لبس المخيط والطيب، أو يحرم فيها قتل الصيد، فوجه ذلك [أن] يكون لها مدخل في الوجوب ابتداء، ويجب أن يكون الواجب من جنسها باسمها الخاص كالحج؛ لأن العمرة أحد نسكي القرآن، [فوجب أن] يكون له مدخل في الوجوب كالحج، ولأن العمرة أجريت مجرى الحج في الإحرام [والإحلال، ووجوب] المضي فيها بعد الإفساد، ولزوم الكفارة والقضاء بإفسادها، وتحريم ما يحرم فيه من الطيب، والمحيط، وقص الأظفار، وحلق الشعر، وقتل الصيد، [ونحو ذلك]، فوجب أن يكون حكمهما في الوجوب سواء. فإن قيل: [الحجة الثانية موافقة للأولى في جميع هذه الأحكام، وتخالفها في الوجوب، كذلك العمرة. قيل: الحجة الثانية] مكررة، والمبتدأ واجبة، كذلك العمرة يجب أن يكون مبتدؤها واجبًا، والمتكرر منها ليس بواجب. [و] احتج المخالف بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ

اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فلو كانت العمرة واجبة لأخبر بوجوبها، كالحج. والجواب: أن اسم الحج واقع على الحج والعمرة، يدل عليه قوله تعالي: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة:3]، فدل على أن العمرة هي الحج الأصغر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كتب إلى عمرو بن حزم: ((والعمرة الحج الأصغر)). وعلى أن السنة قد دلت عليها. واحتج بما روى أبو صالح الحنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحج جهاد، والعمرة تطوع)). والجواب: أن هـ قد قيل: إن أبا صالح الحنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل. على أن قوله: ((الحج جهاد)) معناه: شاق، ولا تطاوع النفس على عمله لصعوبته ومشقته، كالجهاد. ((والعمرة تطوع)) معناه: أنها خفيفة تطاوع النفس على عملها

لخفتها؛ لأنها طواف وسعي. ولأنه لم يرد بالخبر تشبيه الحج بالجهاد في الوجوب؛ لأن الحج من فرائض الأعيان، فلا يصح تشبيهه بالجهاد الذي هو من فرائض الكفايات، وإنما أراد: أن ثواب الحج كثواب الجهاد؛ لأن مشقته كبيرة، وثواب العمرة كثواب التطوع؛ لأنها أخف خالًا منه. واحتج بما رواه حجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: ((لا، وأن تعتمر خير لك)). والجواب: أنه قد قيل: إن حجاجًا مدلس، وكان يعرف عند أصحاب الحديث بالكوفي المدلس. وعلى أنه يحتمل أن يكون السائل سأله عن حكم نفسه، وكان قد اعتمر، فلم يوجبها عليه. [من]: أنه أجابه بجواب يختصه، فقال: ((وأن تعتمر خير لك)). وعلى أنا نقابل هذا بما روينا [من] قوله: ((الحج والعمرة فريضتا ربك)). [...] أكثر ما أولى؛ لأنه يعضده قول ابن عمر، [وابن عباس].

فروى الأثرم بإسناده عن ابن عمر قال: ليس من أحد إلا وعليه حجة وعمرة. وبإسناده عن ابن عباس قال: الحج والعمرة واجبتان. واحتج بما روى أنس: أن رجلًا [جاء، فقال: يا] محمد! أتانا رسولك فزعم أن علينا خمس صلوات، وذكر الزكاة، وصوم [رمضان، وحج] البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: ((صدق)) قال: فبالذي أرسلك، [الله أمرك بهذا]؟ قال: ((نعم)) قال: فو الذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله، لئن صدق ليدخلن الجنة)). فوجه الدلالة: أن العمرة لو كان [كانت واجبة؛ لأنكر قوله]: لا أزيد شيئًا؛ لأنه نفي فرٍض آخر. والجواب: أنه إنما لم يذكر العمرة باسمها الخاص؛ لأن اسم الحج يتناولها من الوجه الذي ذكرنا.

واحتج بما روى سراقة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)). ومعناه -والله أعلم-:أن الحج ينوب عن العمرة؛ لأن الحج ينتظم أفعال العمرة، ويزيد عليها. والجواب: أن هـ يحتمل: أن هـ يريد به جواز الجمع بينهما، فتكون العمرة داخلة في أفعال الحج، ويجزئه عمل الحج إذا قرن. واحتج بأن العمرة نسك مقصود بعينه غير مؤقت، فأشبه طواف القدوم. ولا يلزم عليه السعي؛ لأنه غير مقصود بعينه، وكذلك الإحرام. والجواب: أن اللعمرة مؤقتة عندكم؛ لأنه لو أهل بها يوم النحر وأيام التشريق لم تجز، وكان عليه أن يرفضها. وعلى أن الطواف المجرد دليل لنا؛ لأن الواحد من جنسه وصورته واجب، وهو طواف الزيارة في الحج، [فـ]ــوجب أن يكون الواحد من جنس العمرة باسمها وصورتها واجب. ولأن نفي التوقيت في اللعبادة لا ينفي الوجوب بدليل الجهاد، والزكاة، وقضاء الصلاة. واحتج بأن العمرة بعض أعمال الحج، فوجب أن لا تجب

على الانفراد، كالطواف. والجواب: أن صلاة الصبح والمغرب بعض الصلاة الرباعية، ومع هذا فهما واجبتان على الانفراد. على أن الطواف المجرد لا يحتاج إلى إحرام وإحلال، ولا يحرم فيه الطيب والمخيط، وليس كذلك العمرة؛ لأنها تفتقر إلى إحرام وإحلال، ويحرم فيها الطيب ولبس المخيط، فيجب أن يكون لها مدخل في الوجوب ابتداًء، كالحج. واحتج بأنها عبادة غير مؤقتة من جنسها فرض مؤقت، فوجب أن تكون تطوعًا، كصلاة النافلة. والجواب: أنا قد بينًا أن نفي التوقيت لا ينفي الوجوب. ويبين صحة ذلك: أن الإحرام والسعي غير مؤقت، وهما واجبان، وكالطواف والرمي المؤقت. وعلى أن هذا يبطل بالصلاة المنذورة، والصوم المنذور؛ فإنه غير مؤقت، ومن جنسه فرض مؤقت، ومع هذا فهو واجب. وعلى أن الصلوات المفروضات لها فوائت من جنسها في وقتها، والحج ليس له قضاء فائت من جنسه في وقته، فلم يكن له تطوع في غير وقته.

أو نقول: [الصلاة لما كان من جنسها] فرض مكرر في غير وقتها، ولما لم يكن للحج فرض يتكرر في غير وقته، لم يكن له نفل. واحتج بأنها لو كانت واجبة لاستوى فيها المكي وغيره، كالحج. وقد قال أحمد في رواية الأثرم- وقد سئل عن عمرة أهل مكة- فقال: أهل مكة ليس عليهم عمرة، إنما قال الله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196]. فقال له الأثرم: إنما ذاك في الحج في المتعة، فأما العمرة التي تجب على الناس، كما يجب الحج، فكيف تسقط عنهم؟ فقال: كان ابن عباس يقول: العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة! ليس عليكم عمرة، وإنما عمرتكم بطوافكم بالبيت. قيل له: فإن إمامتهم بك تحرمهم من العمرة، فقال: نعم. وكذلك نقل عبد الله، وبكر بن محمد، والميموني، وهذا يقتضي: أنه لم يوجبها عليهم. والجواب: أنه قد أطلق القول بوجوب العمرة في المواضع التي حكيناها عنه.

وقال في رواية أبي طالب، وحرب، والفضل: العمرة واجبة فريضة. فيدخل فيه أهل مكة وغيرهم، وهو المذهب، وهو قول شيخنا. والموضع الذي نفى العمرة عنهم أراد به: نفي دم التمتع. وعلى أنه لو سلم ذلك لم يمتنع أن يسقط عنهم، ويجب على غيرهم لوجوده. أحدها: ما احتج به أحمد في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. ولا معنى لقوله: إن الاستثناء رجع غلى إسقاط الدم؛ لأنه راجع إلى الجميع، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5] رجع الاستثناء إلى الجميع. والثاني: ما احتج به -أيضًا- مما رواه أبو حفص العكبري بإسناده عن عطاء، عن ابن عباٍس قال: يا أهل مكة! ليس عليكم عمرة، فإن كنتم معتمرين لا محالة، فاجعلوا بينكم وبين مكة واديًا. ولا يعرف له مخالف. ولأنه لو كانت العمرة واجبة في حقهم، لكان مقيات الحج في حقهم ميقاتًا للعمرة، كأهل البلدان لما كانت مواقيت الحج في حقهم

ميقاتًا لعمرتهم كانت واجبة عليهم، ولما كان ميقات الحج في حقهم الحرم، وميقات العمرة من الحل، دل على أنها غير واجبة. فإن قيل: إنما اختلف ميقاتهما؛ ليحصل له الجمع بين الحل والحرم في العمرة، ولو أحرم بها من مكة لم يحصل له ذلك. قيل: النبي صلى الله عليه وسلم جعل [ميقاتهم] من مكة، فقال في حديث ابن عباس -وذكر المواقيت-: ((حتى أهل مكة يهلون من مكة))، ولم يفرق بين الحج والعمرة. ولأن دم التمتع لا يجب عليهم، ويجب على غيرهم. فإن قيل: إن غيرهم أهل بالإحرام من المقيات. قيل: المتمتع لا يجب عليه الإحرام بالحج من المقيات، وإنما يجب عليه أن لا يجاوز المقيات إلا محرمًا، وقد أحرم منه بالعمرة.

مسألة التمتع أفضل من الإفراد والقران، والإفراد أفضل من القران

43 - مسألة التمتع أفضل من الإفراد والقران، والإفراد أفضل من القران: نص عليه في رواية صالح، وعبد الله، فقال: الذي نختار المتعة؛ لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو [أن] يعمل لكل واحد منهما على [حدة. وبهذا] قال في الصحابة: ابن عباس، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وفي التابعين: [الحسن، وعطاء]، ومجاهد، حكاه أبو عبد الله بن بطة في جزء مفرد في فسخ الحج. ونقل المروذي: [إن ساق الهدي] فالقران أفضل، فإن لم يسق فالتمتع، نقلها أبو حفص. وقال أبو حنيفة: [القران أفضل من التمتع] والإفراد. وقال مالك والشافعي وداود: الإفراد أفضل. دليلنا: ما روى أحمد في ((المسند)) قال: ثنا حجاج قال: ثنا ليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع بالعمرة إلى الحج، وأهدى،

فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وكان من الناس من أهدى، فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال لناس: ((من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل له شيء حرم عليه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر، وليتحلل، ثم ليهل بالحج، وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أياٍم في الحج، وسبعٍة إذا رجع إلى أهله))، وذكر الخبر. وروى أحمد عن حجاج قال: ثنا ليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير: أن عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، وتمتع الناس معه، بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أحمد في ((المسند)) قال: ثنا يحيى بن آدم: ثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية.

وروى أبو عبد الله بن بطة في ((سننه)) قال: ثنا القاضي المحاملي، قال: ثنا زياد بن أيوب قال: ثنا شبابه قال: ثنا شعبة، عن مسلم القرى: سمع ابن عباس يقول: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرٍة، وأهل أصحابة بالحج. وروى أبو عبد الله قال: ثنا أبو بكر محمد بن محمود قال: ثنا الأشعث حمد بن المقدام العجلي، قال: نا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن طارق، عن ابن عباس قال: عجبت لمعاوية، وهو يقول في المتعة، وهو حدثني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع، فقصر بمشقٍص. وروى أحمد في ((المسند)) قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منيخ بالأبطح، فقال لي: ((حججت؟)) قلت: نعم، قال: ((فبم أهللت؟)) قال: قلت: لبيك بإهلاًل كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((قد أحسنت)) قال: ((طف بالبيت، وبالصفا والمروى، [ثم أحل])). ثم أتيت امرأة من بني قيس، ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، فكنت أفتي به الناس حتى كانـ[ـــت] خلافة عمر، فقال لي رجل: يا أبا موسى! -أو يا عبد الله بن قيس! -رويدك بعض فتياك؛ فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك [بعدك]، قال: فقال: يا أيها

الناس! من كنا أفتيناه فتيا، فليتئد؛ فإن أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فائتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك لعمر، فقال: إن آخذ بكتاب الله، فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن آخذ بسنة رسول الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله. وروى أبو حفص بإسناده عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل أن يحج. وروى بإسناده عن ابن عباس قال: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون! أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: نهى أبو بكر، وعمر، وعثمان! وأول من نهى عنه معاوية. قد ذكر أبو الحسن بن المظفر الحافظ في ((سننه)) من المناسك بابًا، وساق فيه أخبارًا كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تمتع، وعن جماعة من الصحابة: أنهم اختاروا ذلك، منهم على وغيرة. وإذا ثبت بهذه الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا، ثبت: أن التمتع أفضل؛ لأنه لا يختار من العمل إلا أفضله، سيما فيما لا يتكرر فعله، والحج لم يتكرر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153].

فإن قيل: كيف يجوز أن تعتقدوا صحة هذه الأخبار، وقد رويتم من الطرق الصحاح: ن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، وكذلك أصحابه، وأنه فسخ على أصحابه، فاعترضوا عليه، فقال: (([لو] استقبلت من أمري ما استدبرت، لجعلتها عمرًة، ولكن لبدت رأسي))، واعتمدتم على ذلك في جواز فسخ الحج إلى العمرة، فلا يخلو: إما أن يكون ما رويتموه من التمتع باطلًا، وما رويتموه من الإفراد صحيحًا، فلا يصح احتجاجكم به في فعل التمتع. أو يكون ما رويتموه من التمتع صحيحًا، وما رويتموه من الإفراد باطلًا، فلا يصح احتجاجكم به في فسخ الحج. قيل: يمكن الجمع بينهما من غير إسقاط أحدهما، وهو: أنه حين أمر أصحابه بالفسخ كان محرمًا بالحج، وكانت العمرة قد سبقت منه، وتحلل منها، وهذا ظاهر حديث ابن عمر: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج. فبين أن العمرة سبقت منه، ثم أحرم بالحج، فحصل أمره لهم بالفسخ في حال تلبسه بالحج، وامتنع من الفسخ بعد ذلك لوجهين: أحدهما: أنه كان قد ساق الهدي.

والثاني: لأنه قد [تقدمت منه العمرة]، فلا فائدة في الفسخ. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة في امتناعه [من الفسخ سوق] الهدي، ولم يجعل العلة وجود عمرة منه، وتأسف على الفسخ، ولو سبقت منه عمرة [ما تأسف] على ذلك. قيل: يجوز أن يذكر إحدى العلتين، ولا يذكر الأخرى، كما جاز أن يذكر بعض العلة، ويكل الباقي إلى المجتهد. وأما تأسفه على الفسخ، فلأنه أحب الوفاق بينه وبين أصحابه في الفعل، ولم يحب الاختلاف. يبين صحة هذا: ما رواه أبو داود بإسناده عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:)) لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي، ولأحللت مع الذين أحلوا من العمرة)). قال: أراد أن يكون أمر الناس واحدًا. وقد ذكر ذلك في حديث عائشة: ((أحب أن يكون أمر الناس واحدًا)). فإن قيل: قوله: ((وتمتع الناس معه)) يمنع أن يكونوا محرمين بالحج.

قيل: قوله: ((تمتع الناس معه)) محمول عليه لما فسخ عليهم حجتهم، فصاروا معتمرين. وطريقة أخرى اعتمد عليها أحمد في رواية الجماعة؛ صالح، وعبد الله، وابن منصور، وابن هانئ، فقال: المتعة آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يحلوا؛ يعني: من حجهم ليتمتعوا. وقد روي ذلك من طرق: فروى أحمد في ((المسند)) بإسناده عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم يومئٍذ هدي، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان على قدم من اليمن، ومعه هدي، فقال: أهلت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، [و] يطوفوا، ثم يقصروا -فلما قدم مكة قال: ((اجعلوها عمرًة)) فهو آخر الآمر به - و [يـ] حلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منًى، [وذكر أحدنا يقطر]، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: ((لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، وما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت))، وذكر الخبر. وروى -أيضًا- بإسناده عن أنس قال: خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة، فقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لجعلها عمرًة، ولكن سقت الهدي، وقرنت

بين الحج والعمرة)). وروى بإسناده عن عائشة قالت، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه الهدي أن يمضي على إحرامه، ومن لم يكن معه الهدي أن يحل إذا طاف. وروى -أيضًا- بإسناده عن ابن عباس قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجًا، فأمرهم، فجعلوها عمرة، ثم قال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لفعلت كما فعلوا، ولكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)) [ثم أنشب] أصابعه بعضها في بعض، فحل الناس كلهم إلا من كان معه هدي. فوجه الدلالة من هذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أنه فسخ عليهم الحج إلى العمرة. والثاني: أنه تأسف على ذلك. فلولا أن التمتع أفضل لم يأمر به، ولم يتأسف عليه. فإن قيل: لم يأمرهم بالفسخ لفضيلة التمتع، لكن لأنهم ما كانوا

يعتقدون [أن] العمرة في أشهر الحج جائزة, وكانوا يقولون: إذا انسلخ صفر, وبرا الدبر, وعفا الأثر, فقد حلت العمرة لم اعتمر. قيل: لم يكن الفسخ لهذه العلة, وإنما كان للمعنى الذي ذكرنا لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كما قالوه, لم يخص به من لم يسق الهدي؛ لأن الجميع كانوا في الاعتقاد على حد سواء. والثاني: أنه لو كان كذلك, لم يتأسف على الفسخ إلى العمرة؛ لأنه كان يعتقد جوازها في أشهر الحج, فلما جعل العلة في منع الفسخ في حقه سوق الهدي, امتنع أن تكون العلة ما قالوه, وكان يجب أن يقول: أنا معتقد لجوازها. وروى أبو حفص العكبري بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا الزبير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه هدي فليتم في إحرامه, ومن لم يكن معه هدي فليحلل)) , وكان مع الزبير هدي, فأقام على إحرامه. وقد صرح بأن العلة سوق الهدي: فروى أبو داود بإسناده عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: قلت

لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأن الناس حلوا, ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: ((إني لبدت رأسي, وقلدت هديي, فلا أحل حتى أنحر)). وفي رواية ابن بطة قالت حفصة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرٍة, فقلت: يا رسول الله! ما يمنعك أن تحل؟ قال: ((إني أهديت, ولبدت)). فإن قيل: فالدلالة على [أن] الفسخ لم يكن لهذه العلة: ما رواه ابن بطة بإسناده عن بلال بن الحارث المزني, عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! فسخ الحج لنا, أو لمن بعدنا؟ فقال: ((لا, لنا خاصة)). فلو كان المراد به فضيلة التمتع, لم يختص به؛ لأن فضيلة ذلك عامة في كل الناس. قيل له: معنى قوله: ((لنا خاصة)) من بين من ساق الهدي, دون من لم يسق؛ لأن من ساق لا يجوز له الفسخ. وجواب آخر, وهو: أن هذا الحديث ضعيف. قال عبد الله: قيل لأبي: حديث بلال بن الحارث؟ قال: لا أقول به, ولا نعرف هذا الرجل, ولم يروه إلا الدراوردي, وحديث بلال عندي ليس يثبت؛ لأن الأحاديث التي تروى: ((اجعلوا حجكم عمرة)). وقال في رواية الفضل, وابن هانئ: من الحارث بن بلال؟ ومن روى عنه؟ أبوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فأما هو لا.

وقال في رواية [الميموني: أرأيت] لو عرف بلال بن الحارث إلا أن أحد عشر رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [يرون] ما يرون [من الفسخ] , أين يقع بلال بن الحارث منهم؟ فقد قابل أحمد بين رواية بلال, وبين رواية غيره, ورجع رواية غيره- وأنها على العموم من غير تخصيص- بكثرة العداد. وقال في رواية: ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة, وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر الصديق, وشطٍر من خلافة عمر. فقد بين أحمد في رواية الفضل وابن هانئ وجه ضعفه, وأنه من جهة الحارث بن بلال, وأنه مجهول لا يعرف. فإن قيل: فالذي يعضد هذه الرواية ما روى ابن بطة بإسناده عن أبي ذر قال: لم يكن لأحد أن يفسخ حجة إلى عمرة, إلا الركب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. قيل: قد قال أحمد في رواية الأثرم: رواه مرقع الأسدي عن أبي ذر: شاعر من الكوفة, ولم يلق أبا ذر. وعلى أن هذا تأويل من أبي ذر, فلا يلزم قبوله, ويعارضه ما رواه

أبو حفص بإسناده عن ابن عباس: أنه كان يأمر القارن أن يجعلها عمرة إذا يسق الهدي. وجوب آخر عن هذا الخبر,] و [الذي قبله, وهو: ما رواه ابن بطة في مسألة مفردة بفسخ الحج بإسناده عن جابر بن عبد الله: أن سراقة ابن مالك بن جعشٍم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت ما أمرتنا به من المتعة, وإحلالنا من حجتنا, ألنا خاصة, أم هو شيء للأبد؟ قال: ((بل هي للأبد)). وفي لفظ آخر قال: يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة, أم للأبد؟ فقال: ((بل للأبد)). ومعنى قوله: ((هي للأبد)) يريد: حكم الفسخ باق على الأبد. وروى طاوس قال: علي رضي الله عنه هـ الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: الفسخ لمدتنا هذه أم لأبد؟ قال: ((للأبد)). وروى طاوس: قال له رجل: مدتنا هذه؟ قال: ((لا, بل للأبد)). وهذه الألفاظ تدل على أنهم لم يكونوا مخصوصين بذلك. والقياس على أبي حنيفة: أن إفراد النسكين عن الآخر أفضل من الجمع بينهما قياسًا على حجة كوفية وعمرة مفردين: أنهما أفضل

من القران, وإلى هذا المعنى أشار أحمد. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه أنشأ لكل واحد منهما سفرًا من أهله, وليس كذلك إذا قرن؛ لأنه أتى بهما في سفر واحد, وزيادة السفر أفضل؛ لأنه أشق. قيل: إذا أحرم من الميقات بالعمرة, ثم حج مفردًا يجب أن يكون أفضل من القران من الميقات؛ لأن كل واحد منهما أفده بقطع مسافة, ولأن عمل المفرد أكثر من عمل [القارن؛ يغتسل] غسلين, ويصلي مرتين, ويتجرد تجردين, [ويلبي تلبيتين] , ويحلق حلقين, [ويطوف طوافين] بإجماع, والقارن مختلف فيه؛ فعندنا طواف واحد, وعندهم طوافان, [فكان فعل] العمل على سبيل الوجوب بالإجماع أولى.

[وإن شئت قست بهذه العبارة على المكي فقلت: إفراد أحد النسكين عن الآخر أفضل من الجمع بينهما. دليله: المكي. فإن قيل: المكي يكره له القران والتمتع. قيل: عندنا لا يكره, بل لهم القران والتمتع, وإنما لا يجب [عليهم الدم. فإن قيل: المكي لا دم عليه, وغير المكي عليه دم, وذلك الدم زيادة نسك. قيل له: عندك يجب على المكي دم, ويكون دم جبران. وعلى أن غير المكي يجب عليه دم التمتع, وكان يجب أن كون أفضل من القران, وعندك أن القران أفضل. والقياس على الشافعي: أن في التمتع زيادة نسك ليس ف الإفراد ما يوازنه, وهو الدم, وذلك أن دم التمتع نسك, وليس بدم جبران؛ لأنه لو كان على وجه الجبران ما أتيح له التمتع بغير عذر, لأنه لا يجوز أن يحرم إحرامًا ناقصًا يحتاج أن يجبر النقصان بدم. ولا يلزم عليه الحلق إذا كان به أذى من رأسه؛ لأنه لا يجوز بغير عذر, وكذلك الطِّيب واللبس.

ولأنه لا يتعلق بدم يحظره الإحرام في الأصل, فوجب أن لا يكون دم جناية قياسًا على دم التطوع. ولا يلزم عليه دم اللباس والحلاق والطيب؛ لأنه يتعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل, وإنما تباح له هذه الأشياء للعذر. ولا يلزم عليه- أيضًا- دم الإحصار؛ لأنه يتعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل, وه التحلل قبل استيفاء موجب الإحرام. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية أبي طالب فقال: إذا دخل بعمرة يكون قد جمع الله له عمرة وحجة ودمًا. وإذا ثبت أنه نسك, وجب أن يكون التمتع أفضل من الإفراد؛ لاختصاصه بزيادة نسك, وليس في الإفراد ما يوازنه ويقاربه. فإن قيل: فيجب أن يكون القران أفضل من الإفراد بهما لهذا المعنى الذي ذكرت. قيل: لا يلزمنا؛ لأنا قلنا: التمتع يختص بزيادة نسك, وليس في الإفراد ما يوازنه, وفي الإفراد زيادة نسك ليس في القران, وه أنه يفرد كل واحد منهما بقطع مسافة, وإحرام مفرد, وغسل, وصلاة, وطواف, فلم يجز أن يكون القران أفضل منه.

وليس كذلك التمتع؛ فإنه قد ساوى المفرد في جميع هذه الأفعال, وزاد عليه بالدم, فكان أفضل. فإن قيل: لو كان دم نسك لم يدخله الصوم, كالهدى والأضحية, فلما دخله الصوم دل على أنه جاٍر مجرى الجبران. ولأنه لو كان نسكًا لوجب أن يستوي فيه التمتع والإفراد كسائر المناسك, ولما اختص بع التمتع والقران دل على أنه دم جبران. قيل: دخول الصوم فيه لا يخرجه عن أن يكن نسكًا وقربة؛ لأن الصوم بدل, والقرب تدخلها الإبدال, كالصلاة والصيام الفرض تقضى وإن كان القضاء بدلًا. وأما اختصاص التمتع والقران به, فلا يمنع كونه نسكًا, كما أن الإفراد والتمتع يختصان بطوافين؛ أحدهما للعمرة, والثاني للحج, وسعيين, والقارن يقتصر على أحدهما, ثم] لم يمنع من كونه نسكًا, كذلك هاهنا. وكذلك لو نذر حجة يهدي فيها هديًا, فإن هذا اهدي واجب] ,

وهو نسك, ويختص بالحجة المنذورة, والنذر في هذا كالتمتع؛ لأن سبب وجود الهدي هناك من جهته, وسبب التمتع من جهته أيضًا. وكذلك الإحرام من الميقات نسك في حق المفرد؛ فإنه لا يجوز مجاوزة الميقات بغير إحرام, وليس بنسك في حق المتمتع؛ لأن إحرام المتمتع بالحج من مكة. وعلى أنه إنما اختص بالتمتع؛ لأنه يوجد سببه, هو الترفه بأحد السفرين, ولا يوجد غيره. واحتج من قال: (إن القران أفضل) بما روى أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصرح صراخًا: ((لبيك بعمرٍة وحجٍة معًا)). وروى أنس- أيضًا- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل في هذا الوادي المبارك, وقال: قل: حجة في عمرٍة)). والجواب: أن الحديث الأول يحتمل أن يكون أنس سمع النبي صلى الله عليه وسلم, وهو يلقن القارن تلبيًة, فظن أنه يلبي بهما عن نفسه. ويحتمل أن يكون سمعه في وقتين, كما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلتين, وكان ذلك في وقتين مختلفين, وتكون الدلالة على هذا: ما روينا من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم. وأما الحديث الثاني فيحتمل أن يكون المراد به: عمرة داخله في

حجة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)). واحتج بما روي عن علي: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: ((بم أهللت؟)) قلت: بإهلاٍل كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ((إني سقت ولبدت)). وقالت عائشة: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا سوى عمرته التي قرنها بحجته. وقال ابن عباس: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا: أحدها عام الحديبية, والثانية عمرة القضاء, والثالثة من الجعرانة, والرابعة التي قرنها بحجته. والجواب: أنا نحمل قوله: (قرنها) بمعنى: فعل الحج بعد العمرة. وكذلك قول عائشة: سوى عمرته التي قرنها بحجته؛ يعني: سوى التي فعل الحجة بعدها.

وقد يسمى ذلك قرانًا من طريق اللغة؛ لأن من فعل الحج عقيب العمرة، فقد جمع [أحدهما إلى] الآخر، وقرنها بها، كما يقال: جمع بين الصلاتين؛ إذا صلى إحداهما عقيب الأخرى. واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صل الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي، وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ". والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: عمرة داخلة في حجة، كما قال النبي صل الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ". واحتج بما روى صبي بن معبد قال: كنت رجلاً نصرانيًا، فأسلمت، وأهللت بعمرة وحجة، فجئت إلى القادسية، فرآني سلمان بن ربيعة وزيد [بن صوحان أخو صعصعة بن] صوحان، فقالا: هذا أضل [من]

بعيره، فظللت كأني أحمل بعيري على عاتقي، فرأيت عمر بالموسم، فأخبرته بذلك، فقال: ما قالا شيئًا، هديت لسنة نبيك. والجواب: أن أكثر ما في هذا: [أن] القرآن سنة، وليس الخلاف في ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. وليس في هذا ما يدل على التمتع، فروى أبو عبيد في كتاب "الناسخ والمنسوخ "عن طاوس، عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لو اعتمرت، ثم اعتمرت، ثم حججت، لتمتعت. وهذا يدل على أنه كان يرى التمتع. وروي عنه في حديث آخر رواه النجاد: افصلوا بين الحج والعمرة؛ فإنه أتم لحجكم وعمرتكم. ولو كان معنى الخبر عنده: القرآن، لم يأمر الناس بخلافه. وروى أبو جعفر العكبري بإسناده عن طاوس: أن عمر بن الخطاب قال: لو اعتمرت وسط السنة لتمتعت، ولو حججت خمسين حجة لتمتعت. واحتج بأن المبادرة إلى فعل العبادتين أولى عندكم، كما قلتم في تعجيل الصلاة في أول وقتها، وهذا يحصل بالقران.

والجواب: أن تأخير الصلاة ليتم العمل أولى عندنا، ألا ترى أنه يؤخرها لطلب الماء، وطلب الجماعة؟ كذلك هاهنا. واحتج بأن القران يتضمن إيجاب دم هو نسك، فكان أفضل من الإفراد كالتمتع. والجواب: أن التمتع يتضمن إيجاب دم هو نسك، مع مساواة التمتع للإفراد في استيفاء أفعال الحج وأفعال العمرة على الإنفراد، والقران يتضمن إيجان دم هو نسك من [غير] استيفاء أفعال كل واحد على الإنفراد. واحتج من قال بالإفراد بما روى زيد بن أسلم قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن حج النبي صل الله عليه وسلم فقال: أفرد الحج، فلما كان العام المقبل أتاه، فسأله عنه، فقال: أليس قد أعلمتك عام أول: أنه أفرد الحج؟! فقال: أتانا أنس بن مالك، فأخبرنا: أن النبي صل الله عليه وسلم قرن، فقال ابن عمر: إن أنس بن مالك كان يتولج على النساء- وهن منكشفات- لا يستترن لصغره، وكنت أنا تحت ناقة رسول الله صل الله عليه وسلم يسيل لعابها. وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صل الله عليه وسلم

استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد، ثم استعمل [أبا بكر سنة] تسع، فأفرد الحج، ثم حج النبي صل الله عليه وسلم سنة عشر، فأفرد، ثم توفى، [فاستحلف أبو بكر، فبعث] عمر، فأفرد الحج، ثم حج عمر سنيه كلها، فأفرد، ثم توفى عمر، واستخلف عثمان، فأفرد الحج، ثم حصر عثمان، فأقام عبد الله بن عباس للناس، فأفرد الحج. والجواب: [أن قوله: (أفرد الحج) معناه: أفرد] عمل الحج عن عمل العمرة، وأراد بذلك بطلان قول من يقول: [إن القران أفضل. وتكون الدلالة على صحة هذا]: ما رواه ابن عمر صريحًا: أن النبي صل الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج، وبدأ رسول الله صل الله عليه وسلم فأهل بالعمر، ثم أهل بالحج. وهذا صريح، ولا يحتمل. ويبين صحة هذا: ما روى أبو عبيد في كتاب "الناسخ والمنسوخ"

بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال: لأن أعتمر في شوال، أو في ذي القعدة، أو في ذي الحجة؛ في شهر يجب علي فيه الهدي، أحب إلي من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي. وروى أحمد في "المسند "بإسناده عن سالم: أن ابن عمر قال: العمرة في أشهر الحج تامة، عمل بها رسول الله صل الله عليه وسلم، ونزل بها كتاب الله. وأجاب أحمد عن هذا في رواية أبي طالب فقال: هذا كان في أول الأمر بالمدينة. ومعناه: أنه في ابتداء إحرامه كان بالمدينة؛ أحرم بالحج، فلما وصل إلى مكة فسخ على أصحابه، وتأسف على التمتع لأجل سوق الهدي، وكان المتأخر أولى. واحتج بما روي عن عمر قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما. وعن معاوية مثل ذلك. والجواب: أن ظاهر هذا مطرح؛ لأنه لا خلاف في جواز التمتع، وإنما الخلاف في الفضيلة. وعلى أنا قد روينا عن عمر خلاف هذا، وهو قوله: لو اعتمرت، ثم اعتمرت، ثم حججت، لتمتعت.

وهذا يدل على استحباب المتعة. وروى الأثرم بإسناده عن طاوس قال: قال أبي بن كعب وأبو موسى لعمر: ألا تقوم فتبين للناس أمر هذه المتعة؟ فقال عمر: وهل بقي أحد إلا وقد علمها؟ أما أنا فأفعلها. وروى- أيضًا- بإسناده عن نافع بن جبير، عن أبيه قال: ما حج عمر قط حتى توفاه الله إلا تمتع فيها. وروى- أيضًا- بإسناده عن الحسن: أن عمر أراد أن ينهي عن متعة الحج، فقال له أبي بن كعب: ليس لك ذلك؛ تمتعنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم، فلم ينهنا عن ذلك، فأضرب عمر عن ذلك. وروى- أيضًا- بإسناده عن سالم بن عبد الله بن عمر [قال]: قلت: أنهي عمر عن المتعة؟ قال: لا، والله ما نهى عنها [إلا] عثمان، ولم يرد بذلك إلا خيرًا، ونهى عنها معاوية. وروى أبو بكر بن أبي داود في "سننه "بإسناده عن عمر قال: قال علي بن أبي طالب لعمر: أنهيت عن المتعة؟ قال: لا، ولكن أحببت أن تكثر زيارة البيت، فقال علي: من أفرد الحج فحسن، ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله وسنة نَبِيِّه.

وفي حديث آخر: أن عمر قال: كرهت أن يظلوا معرسين بالأرك، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم. وأما ما روي عن معاوية، فقد روينا عن ابن عباس [قال]: عجبت لمعاوية، و [ما] يقول في المتعة، وهو حدثني: أن رسول الله صل الله عليه وسلم تمتع، فقصر بمشقص. وظاهر هذا: إظهار الخلاف من ابن عباس عليه، مع أنه لا خلاف في جوازها، ونفي الكراهة. واحتج بأن كل نسكين لم يكن فيهما دم، كان أفضل من نسكين فيهما دم، بدلالة إفراد لا دم فيه، وإفراد فيه دم بقتل الصيد، وحلق الشعر، والطيب، واللباس، كالقران مع الإفراد. والجواب: أن التمتع الذي لا دم فيه- وهو المكي- والذي فيه الدم سواء عند المخالف، فلا تأثير لهذا. على أن الإفراد بالنسكين إذا كان فيهما دم تطوع أفضل من الإفراد بهما إذا لم يكن فيهما دم تطوع. وأما إذا كان فيهما دم بقتل الصيد وحلق الشعر، فإنما لم يكن أفضل؛ لأن الدم الذي يجب فيهما دم جناية. و [أما] دم التمتع فقد بينا: أنه دم نسك، فيجب أن يكون أفضل.

وأما القران مع الإفراد، فقد بينا: أن الإفراد فيه زيادة نسك ليس في القران؛ من إحرامين وطوافين وحلاقين وصلاتين، وهذه الأشياء أكثر من دم القران. واحتج بأن الإفراد أفضل؛ لأن أشهر الحج وقت [للحج] عزيمة، ووقت للعمرة على سبيل الرخصة، وما عدا أشهر الحج وقت للعمرة عزيمة؛ لأن العرب لا تعتمر في أشهر الحج، وتعتقد أن ذلك من أفجر الفجور إلى أن أمر النبي صل الله عليه وسلم أصحابه بالعمرة. فإذا ثبت هذا فالتمتع بفعل العمرة في أشهر الحج [رخصة]، وفعلها في ذلك الوقت عزيمة، وفعل العبادة على وجه العزيمة أولى من فعلها على سبيل الرخصة، ألا ترى أن الجمع بين الصلاتين لما كان رخصة كان فعلها في وقتها أفضل؟ وكذلك غسل الرجلين. والجواب: أنا لا نسلم أن أشهر الحج وقت رخصة، بل هو مخالفة للمشركين؛ لأنهم كانوا يرون ذلك، وكل ما فعله النبي صل الله عليه وسلم في المناسك مخالفة للمشركين فهو واجب، أو أفضلية، لا رخصة بدليل: الدفع من عرفة بعد غروب الشمس، والنفر من المزدلفة قبل طلوعها، والوقوف خارج الحرم، وكانت قريش تقف في الحرم، ونزول المحصب. ولو سلمنا أنه رخصة، لم يمتنع أن يكون أفضل بدليل: قصر الصلاة والجمع بعرفة.

وأكل الميتة رخصة، وهو واجب، حتى إن لم يأكل أثم. فإن قيل: فلو كانت وقت عزيمة لم يكن وقت العمرة في غيره أفضل، وقد نص أحمد على أن فعل العمرة في غير أشهر الحج أفضل في رواية ابن إبراهيم وغيره، وقد تقدم ذكر ذلك. قيل له: ليس إذا كان فعلها في غير أشهر الحج أفضل، دل على أن أشهر الحج رخصة، ألا ترى أن فعل الصلاة في أول وقتها أفضل، ولم يدل على أنه إذا فعلها في آخر وقتها كان ذلك وقتًا للرخصة، بل هو وقت عزيمة لفعلها؟ فإن قيل: فإذا كان التمتع عندكم أفضل، وهو فعل العمرة [في أشهر الحج في السنة التي يحج فيها]، فلم قال أحمد: إن فعلها في غير أشهر الحج أفضل؟ فقال الأثرم [وسعد بن يزيد: قيل لأبي عبد الله: تأمر بالمتعة، وتقول: العمرة في غير أشهر الحج أفضل! فقال: إنما سئلت عن أتم العمرة، فالمتعة تجزئه في عمرته، فأما أتم العمرة، فإنها تكون في غير أشهر الحج. قيل: إنما قال ذلك في عمرة] لا يتمتع بها؛ لأنه إذا تمتع في غير أشهر الحج أنشأ لها سفرًا، وإذا تمتع في أشهر الحج كان السفر

للحج، والعمرة التي قد ينشئ لها سفرًا أفضل، ولهذا قال عمر وعلي: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقالت عائشة: العمرة على قدر سفرك ونفقتك. ولأنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج كثر القصد للبيت في جميع السنة، واتسع الخير على أهل الحرم. يبين صحة هذا: ما رواه الأثرم بإسناده عن ابن الزبير قال: والله إنا لمع عثمان بن عفان بالجحفة إذ قال عثمان: إن أتم الحج والعمرة أن يكونا في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا البيت زورتين كان أفضل. وروى أبو حفص بإسناده عن عمر بن الخطاب: أنه قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم؛ فإنه أتم لحج أحدكم أن يعتمر في غير أشهر الحج. فقد قيل: يحمل قوله إذا ضاق الوقت عن العمرة في أشهر الحج يكون فعلها في غيره أفضل؛ لأن التشاغل بالحج أفضل من العمرة. وفي المسألة حكاية: أنا ابن جابر العطار في الإجازة بإسناده عن سلمة بن شبيب قال: قلت لأحمد: قويت قلوب الروافض حين أفتيت

مسألة الأفضل للمتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية

أهل خراسان بمتعة الحج، فقال: يا سلمة! قد كنت توصف بالحمق، فكنت أدفع عنك، وأراك كما قالوا. 44 - مسألة الأفضل للمتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية: نص عليه في رواية الميموني وأبي داود وحنبل: فقال في رواية الميموني: الوجه أن يهل المعتمر بالحج في اليوم الذي أهل فيه أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم، فإن أهل قبله فجائز. وقال في رواية أبي داود: إذا دخل مكة متمتعًا يهل بالحج يوم التروية، وإذا توجه من المسجد إلى منى، قيل له: فالمكي يهل إذا رأى الهلال؟ قال: كذا روي عن عمر. فقد نص على أن المتمتع يهل يوم التروية، والمكي يهل قبل ذلك. وقال- أيضًا- في رواية أبي طالب في المكي: إذا كان يوم التروية صلى الفجر، وطاف بالبيت، وإذا وصل إلى منى أحرم بالحج؛ لقول

جابر: فلما توجهنا إلى منى أهللنا بالحج. وقال أبو حنيفة: يستحب تقديم الحج قبل يوم التروية. وقال الشافعي: إن كان [معه هدي] فالمستحب أن يحرم يوم التروية بعد الزوال، وإن لم يجد الهدي فالمستحب أن يحرم [ليلة السادس] من ذي الحجة، والمستحب للمكي أن يحرم إذا توجه. دليلنا على أن المستحب [للمتمتع أن] يحرم يوم التروية: ما روي في حديث جابر بطوله: حتى إذا كان يوم التروية أمر من [كان أحل أن يهل] بالحج، ذكره أبو عبد الله بن بطة. وروي: أنه قال: "إذا توجهتم إلى منى، فأهلوا [بالحج ". فإن قيل: اختار] لهم في تلك السنة الخف والأيسر، ولهذا

أمرهم بالتحلل، والأسهل [أن يؤخروا] الإحرام إلى آخر وقته. قيل له: أمره لهم بالتحلل لم يكن لطلب التخفيف، وإنما كان لطلب الفضيلة عندهم؛ ليحصلوا متمتعين. فإن قيل: يحتمل أن يكون أراد أن يبين لهم آخر وقت الإحرام، وجواز التعجل قد بينه لهم بقوله: "من أراد الحج فليتعجل ". قيل: لا يصح أن يبين آخر وقت الإحرام، ولا يبين أوله، وقوله: "من أراد الحج فليتعجل "، لا يدل على أول الوقت. وأيضًا فإنه [من] تعجل قبل يوم التروية طال تلبسه بالعبادة، ولا يأمن مواقعة المحظور، ولهذا كرهنا الإحرام بالحج قبل ميقاته، وفي غير أشهر الحج، كذلك هاهنا. ولا يلزم عليه المكي؛ فإن حكمه حكم غيره في ذلك. نص عليه في رواية ابن منصور- وقد سئل: متى يهل أهل مكة بالحج؟ - فقال: إن تعجلوا قبل التروية، فلا بأس، قال عمر: إذا رأيتم الهلال فأهلوا. وقول أحمد: (لا بأس) يقتضي الجواز دون الفضيلة. واحتج أصحاب أبي حنيفة بما روي: أن عمر قال: يا أهل مكة!

إذا أهل ذو الحجة، فأهلوا بالحج؛ فلا يحسن أن يجيء الناس يلبون وأنتم سكوت. والجواب: أنه يحتمل أن يكون قصد بهذا ترغيبهم في الحج؛ لئلا يترك الواحد منهم الحج جملة لأجل أنه قد أسقط الفرض عنه، لا أنه قصد به التعجيل. واحتج بما روي عن النبي صل الله عليه وسلم قال: "من أراد الحج فليتعجل ". والجواب: أن المراد به: أن لا يؤخر جملة الحج عن وقته، ونحن هكذا نقول. واحتج بأنه إحرام بالحج في وقته، فكان التقديم أفضل، كغير المتمتع، وكالمكي. والجواب: أنا نقول في غير المتمتع ما نقوله هاهنا، إلا أن غير المتمتع إذا اجتاز على الميقات لم يجز له الجواز عليه محلاً، فهو مأمور بالإحرام بنسك في الجملة؛ بحج، أو بعمرة، لا أنا نستحب له التعجيل. وكذلك المكي، وقول أحمد في المكي: يهل إذا رأى الهلال، حكى في ذلك قول عمر، والحكم كالحكم في غيره. واحتج بأنه وقت يستحب لغير المتمتع تقديم الإحرام عليه، فيستحب للمتمتع ذلك.

مسألة يجوز فسخ الحج إلى العمرة

أصله: غروب الشمس من يوم التروية. والجواب: أنه قد بينا: أنه لا يستحب لغير المتمتع تقديم الإحرام، كما لا يستحب للمتمتع. وأما غروب الشمس من يوم عرفة فإنما لم يستحب التأخير عنه؛ لأن النبي صل الله عليه وسلم أمر بذلك بقوله: "إذا توجهتم إلى منى فأهلوا ". ولأن ذلك زمان يسير لا يطول التلبس بالعبا [د] ة، فتأمن مواقعة المحظور، فهو بقدر الزمان من الميقات الشرعي. 45 - مسألة يجوز فسخ الحج إلى العمرة: ومعناه: يفسخ نية الحج، ويقطع أفعاله، ويجعل أفعاله للعمرة، فإذا فرغ من أعمال العمرة حل، ثم أحرم بالحج من مكة؛ ليكون متمتعًا، وهذا إذا لم يسق الهدي، فأما إذا ساق الهدي لم يجز الفسخ. وكذلك يجوز فسخ القران إلى العمرة المفردة. نص على هذا في رواية ابن منصور في القارن: يتمتع إذا شاء إذا لم يسق الهدي، ويجعلها عمرة. ونص على جواز الفسخ إلى العمرة في رواية الجماعة: حنبل

وعبد الله والميموني وابن منصور: فقال في رواية عبد الله: أنا أروي فسخ الحج عن عشرة من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم؛ ابن عباس، وجابر، والبراء، وأنس بن مالك، وأسماء. وقال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول: وسئل عن فسخ الحج، فقال: قال سلمة بن شبيب لأحمد: كل شيء منك حسن غير نخلة واحدة، قال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج، قال أحمد: كنت أرى أن لك عقلاً! عندي ثمانية عشر حديثًا صحاحًا أتركها لقولك؟! وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود: لا يجوز فسخ الحج بحال. دليلنا: ما تقدم من حديث جابر، وأنس، وعائشة، وابن عباس: أن النبي صل الله عليه وسلم فسخ على أصحابه الحج إلى العمرة. وقد رواه أحمد عن جماعة مثل: البراء، وأسماء، وغير ذلك، فدل على جوازه. ولهم على هذه الأخبار اعتراضان: قد تقدم أحدهما: أن سبب الفسخ كان لأنهم ما كانوا يعتقدون جواز العمرة في أشهر الحج، وهذا المعنى معدوم في وقتنا. والثاني: قول النبي صل الله عليه وسلم: "هذا لكم خاصة ".

وقد تقدم الجواب عن ذلك بما فيه كفاية، فلا وجه لإعادته. وقد اعترض بعضهم على ذلك باعتراض آخر قال: لا أسلم أن القوم أحرموا بالحج، قال: لأن الشافعي روى: أن النبي صل الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا مطلقًا ينتظرون القضاء، فلما نزل عليهم القضاء، قال: "اجعلـ[و] ها عمرة ". و [من] لم يعين الإحرام بالحج جاز له صرفه إلى عمرة. ويبين هذا ما قاله أحمد في رواية صالح: قد روي عن النبي صل الله عليه وسلم: أنه قرن، وروي: أنه أفرد، وروي عنه: أنه خرج من المدينة ينتظر القضاء؛ لا يذكر حجًا، ولا عمرة. ويقال له: يا هذا! لو تأملت ما رويناه من الأخبار لم تورد هذا الاعتراض؛ لأن في رواية جابر: أن رسول الله صل الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج. وفي رواية أنس: خرجنا نصرخ بالحج. وفي رواية عائشة: خرجنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج. وفي رواية ابن عباس: قدمنا حجاجًا. وهذه نصوص، وفيها زيادة بيان وحكم، فوجب الرجوع إليها. وقد قيل في الجواب عنه: إنه مرسل؛ لأنه يرويه ابن طاوس، عن أبيه، عن النبي صل الله عليه وسلم، والمرسل عندهم ليس بحجة. ولأن جابرًا أحسن سياقًا للحديث من غيره؛ لأنه نقل أفعال

النبي صلى الله عليه وسلم في سفره على الوجوه، فكان حديثه مقدمًا. وطريقة أخرى جيدة، وهي: ما رواه أبو داود، وأبو عبد الله بن بطة- واللفظ له- بإسناده عن عائشة: أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولأحللت مع الذين أحلوا من العمرة "قال: أراد أن يكون أمر الناس واحدًا. وهذا نص؛ لأن النبي صل الله عليه وسلم بين أنه [لو] لم يسق الهدي لحل، وعندهم ما كان يجوز له ذلك. وهذا اللفظ لا يتوجه عليه ما ذكروه من الأسولة؛ لأن الفسخ كان عليهم؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون جواز العمرة، والنبي صل الله عليه وسلم كان يعتقد جواز ذلك، وقد أخبر: أن المانع منه سوق الهدي. وأيضًا فإن الحج من العبادات الخمس، فصح فسخها قبل الفراغ منها، كالصلاة، والصيام. ولا تلزم عليه العمرة؛ لأنها ليست من العبادات الخمس. ولأنه فسخ الحج إلى العمرة فجاز. دليله: الفسخ الذي كان في وقت النبي صل الله عليه وسلم. ولا يلزم عليه إذا ساق الهدي؛ لأن التعليل للجواز، ولأن هذا يستوي [فيه] الأصل والفرع.

ولأنه فسخ عقد كان جائزًا في وقت النبي صل الله عليه وسلم، فجاز بعده. دليله: سائر العقود من البيع وغيره بفسخ الإقالة. ولأنه ترك نسك يجوز في وقت النبي صل الله عليه وسلم، فجاز بعده. دليله: الترك بالإحصار لعذر. ولأن الحج نوع عبادة يحرم الطيب، جاز فسخها من غير عذر، كالعدة تنفسخ بفعل المطلق. ولا تلزم عليه العمر؛ لأن التعليل للنوع، والعمرة بعضه. ولأن من فاته الحج، فإنه يتحلل بعمل عمرة، وهذا قلب الحج إلى العمرة. فإن قيل: المعنى في المحصر [و] في الفائت: أن هناك ضرورة، وليس كذلك هاهنا. قيل: علة الأصل تبطل بمن تعذر عليه الوصول بمرض، أو ضل الطريق، لا يتحلل بعمرة، وهو مضطر. وعلة الفرع تبطل بالتحلل في وقت النبي صل الله عليه وسلم .. واحتج المخالف بقوله تعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. والجواب: أن هذا غير مبطل لإحرامه، على أنه محمول على غير مسألتنا.

واحتج بقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والأمر بالتمام يمنع الخروج. والجواب: أنا قد بينا: أن الآية اقتضت الابتداء بالحج والعمرة، فلم يكن فيها دلالة على البناء. واحتج بأنها عبادة يجب المضي في فاسدها، فلم يصح فسخها. دليله: العمرة إذا أحرم بها لم يجز له فسخها، كذلك هاهنا. والجواب: أنه لا يستفيد بفسخ العمرة إلى عمرة أخرى فائدة، ولهذا لم يجز، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه يستفيد بها فائدة، وهي فضيلة التمتع عندنا، وعند الشافعي إذا كان قارنًا استفاد فضيلة الإفراد، فجاز الفسخ، ألا ترى أنه لو أحرم [بصلاة الفرض] مفردًا، ثم أراد الفسخ بغير عوض لم يجز، وإن حضرت جماعة، فأراد أن يقلبها نفلاً؛ ليدرك الجماعة، جاز، وكان الفرق بينهما أن له عوضًا في أحد الموضعين، ولا عوض [له في الموضع] الآخر؟ كذلك هاهنا. فإن قيل: يجوز الفسخ عندكم، وإن لم يعتقد فعل [الحج من

سنته، فامتنع [أن يكون لفضيلة التمتع. قيل: إذا لم يعتقد الحج من سنته منعناه من الفسخ؛ لأنه لا يستفيد فضيلة التمتع، إلا أنه فسخ، فصح الفسخ؛ لأن الفسخ حصل على صفة يصح منه التمتع. وقد نص أحمد على أنه يفعل لأجل التمتع، فقال في رواية ابن منصور في القارن: له أن يحل إذا لم يسق الهدي، ولابد له من أن يهل بالحج في عامه ذلك. فقد نص على أنه يحج من سنته. وعلى أنه لا يجوز فسخ عمرة إلى عمرة بحال، ويجوز فسخ الحج إلى العمرة بحال، وهو: الفسخ الذي كان في وقت النبي "صل الله عليه وسلم"، وإذا فاته الحج تحلل بعمل عمرة، كذلك هاهنا. واحتج بأنه لم يجز فسخ الحج قبل أن يأتي بعمل عمرة، وهو الطواف والسعي، كذلك لا يجوز بعده، كمن ساق الهدى. وقد نص أحمد على هذا في رواية أبى طالب، فقال: يجعلها عمرة إذا طاف بالبيت، ولا يجعلها وهو في الطريق. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن ذلك الفسخ لم يكن جائزاً في وقت النبي "صل الله عليه وسلم"، بدليل ما رواه أبو حفص العكبري بإسناده عن أبي موسى قال: قدمت على

النبي "صلى الله عليه وسلم"، وهو منيخ بالبطحاء فقال: ((أحججت)) فقلت: نعم، قال: ((فبم أهللت؟)) قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي "صل الله عليه وسلم"، قال: ((أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أحل)). فأمره بالفسخ بعد الطواف والسعي. وبإسناده على ابن عباس قال: أمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف ويسعي، ويقصر، ويحلق، ثم يحل. والثاني: أنه إنما جاز له الفسخ ليصير متمتعاً، فإذا فسخ قبل فعل العمرة لم يحصل ذلك، ولا يجوز أن يقال: افسخ، واستأنف عمرة؛ لأنه يفضي إلى أن يعرى الإحرام الأول عن نسك، وأما إذا ساق الهدي، فيأتي الكلام عليه. واحتج أنه لو جاز فسخ الحج العمرة لفضيلة التمتع، لجاز فسخ القران إلى العمرة، ليستفيد ذلك أيضاً. والجواب: أنا هكذا نقول، نص عليه في رواية ابن منصور، والحسن بن ثواب: فقال في رواية ابن منصور: وقد سأله: يحل منها

إذا قرن؟ قال: نعم، إذا لم يسق الهدي، ولا بد له أن يهل بالحج في عامه، وليس عليه لعمرته شيء، وعليه دم إن عجل به العام. وكذلك قال في رواية الحسن:] وللذي يهل بحج [وعمرة- وليس معه هدي- أن يجعلها متعة، كما جعلها رسول الله "صل الله عليه وسلم" حين أمرهم بها. فقد نص على جواز الفسخ. والوجه فيه ما روى أبو حفص] بإسناده عن [أنس: أن رسول الله "صل الله عليه وسلم" وأصحابه قدموا مكة، وقد لبوا] بحج وعمرة [، فأمرهم النبي "صل الله عليه وسلم" بعدما طافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة،] أن يجعلوها عمرة، فأحل القوم، وتمتعوا].

وبإسناده عن ابن عباس: أنه كان يأمر القارن أن يجعلها عمرة إذا لم يسق معه الهدي. ولأنا إنما استحببنا فسخ الحج إلى العمرة؛ ليأتي بزيادة نسك، وهو الدم، وإذا كان قارناً ففسخ أتى بزيادة، وهي إفراد العمرة عن أفعال الحج، والدم أيضاً. واحتج بأنه لم يجز فسخ العمرة إلى الحج، كذلك ى يجوز فسخ الحج إلى العمرة. والجواب: أنه إنما لم يتحلل من العمرة إلى الحج؛ لأن نيته لم تشتمل على أفعال الحج، ونية الحاج شملت أفعال العمرة. ولأنه لا يجوز إدخال العمرة على الحج، ويجوز إدخال الحج على العمرة. ولأنه لو أحرم بعمرة لم يجز أن يتحلل منها بحجة، ولو أحرم بحجة، ثم أحصر، جاز أن يتحلل بعمل عمرة، فبان الفرق بينهما. ولأنه لا يستفيد بذلك فائدة، وهاهنا يستفيد فضيلة التمتع. واحتج بأن هذا فسخ الحج إلى العمرة، فلم يجز. دليله: إذا ساق الهدي. والجواب: أنه يبطل بالفسخ الذي كان في وقت النبي "صلى الله عليه وسلم".

ثم المعنى في الأصل: أن ذلك الفسخ لم يكن جائزاً في وقت النبي "صل الله عليه وسلم"، وهذا كان جائزاً في وقته، فجاز في وقتنا هذا، كفسخ البيع بالإقالة. ولأنه لو فسخ لتحلل من عمرته بمكة، فينحر بمكة، فتصير مكة محلاً للذبح، والمستحب أن ينحر بمنى، فيؤدي إلى مخالفة المسنون في الذبح، وهذا معدوم فيمن لم يسق الهدي، فبان الفرق بينهما. واحتج بأنه فسخ حج، فلم يجز. دليله: لو وقف بعرفة، ثم أراد الفسخ، او فسخ، لا بنية العمرة. والجواب عنه إذا أراد الفسخ بعد الوقوف: إنما لم يصح؛ لأنه لم يكن جائزاً في وقت النبي "صل الله عليه وسلم"، وهذا الفسخ كان جائزاً في وقته. ولأنه إذا فسخ قبل الوقوف استفاد به فضيلة التمتع، وهذا المعنى لا يحصل له بعد الوقوف؛ لأنه قد أدرك الحج. وهكذا الجواب عنه أراد الفسخ لغير عمرة: لأنه لم يكن ذلك جائزاً في وقت النبي "صل الله عليه وسلم". ولأنه لا يستفيد به فائدة، وهاهنا بستفيد به فضيلة التمتع، فبان الفرق بينهما.

مسألة المكي يصح له التمتع والقران، ولا يكره له ذلك، إلا أنه لا يلزمه دم

46 - مسألة المكي يصح له التمتع والقران، ولا يكره له ذلك، إلا أنه لا يلزمه دم: نص عليه في رواية ابن منصور في رجل مكة بعمرة في أشهر الحج، وهو يريد الإقامة، ثم ينشئ الحج، أمتمتع هو؟ قال: نعم. وقد نص على هذا في رواية] صالح، ذكره [في طاعة ((طاعة الرسول))، فقال تعالى:} فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ {] البقرة: 196 [، فالظاهر: أن الهدي قد وجب على من تمتع من الناس كلهم، من كان من أهل مكة] حاضري المسجد الحرام، فقال: ما اختلف [الناس أنهم لم يروا على أهل مكة هديا في متعة. وظاهر هذا: أنه حكم بصحة المتعة في حقه بظاهر الآية، وأسقط الدم عنه. وكذلك نقل المروذي عنه فقال: ليس على أهل مكة هدي المتعة، ولا لمن كان دون ما تقصر فيه الصلاة.

وظاهر هذا: أنه حكم بجوازها في حقهم من غير دم. وقد علق القول في موضع آخر من مسائل المروذي فقال: ليس لأهل مكة متعة. ومعناه: ليس عليهم دم المتعة. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح له التمتع والقران، بل له ذلك، ومتى فعله لزمه دم جناية. وفائدة الخلاف: أنا نحن لا نكره له ذلك، بل نستحب له ذلك، وعنده بكره، ويلزمه دم جناية؛ لأنه ملم بأهله، فيحصل الخلاف في نفي الكراهة، ونفي الدم الذي هو دم جناية. دليلنا: أن كل نسك جاز لأهل الآفاق جاز لأهل مكة. دليله: الإفراد. وكل من جاز له أن يفرد جاز له أن يتمتع ويقرن. دليله: غير أهل مكة. ولأن ما لا يكره لغير أهل مكة لا يكره لأهل مكة. أصله: سائر الطاعات من الصلاة، والصيام، والزكاة والحج المفرد، والاعتكاف، وسائر ما هو قربة وطاعة. ولأن ما كان طاعة لأهل الآفاق ينالون به رضا الله -سبحانه- ويستحقون ثوابه، فهو لأهل مكة أولى؛ لأن سكان حرم الله وحاضري

مسجده أولى بوفور القرب والطاعة من غيرهم. واحتج المخالف بقوله تعالى:} فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ {إلى قوله:} ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ {] البقرة: 196 [ فإنما أباح التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن قوله:} ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ {راجع إلى الهدي، فكانه قال: فمن تمتع فعليه الهدي إلا المكي؛ فإنه لا هدي عليه، ونحن نقول: لا دم عليه. فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ذلك على من لم يكن؛ لأن الهدي يكون عليه، لا له، ألا ترى أنه لا يصح أن يقال: لك صوم رمضان؛ بمعني: عليك. قيل له: يجوز أن تقوم (اللام) مقام (على) قال تعالى:} وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {] غافر: 52 [؛ معناه: عليهم. وقال:} إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا {] الإسراء: 7 [يعني: فعليها. فإن قيل: هذا مجاز. قيل له: الأصل في كلامهم الحقيقة، ومدعي المجاز يحتاج إلى دليل.

وجواب آخر عن أصل الدليل، وهو: أن قوله:} فَمَن {] البقرة: 196 [شرط، وقوله:} فَمَا اسْتَيْسَر {] البقرة: 196 [جزاء، و} ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ {] البقرة: 196 [استثناء،] والاستثناء يرجع [إلى الجزاء دون الشرط، كقول القائل: (من دخل الدار فأعطه إلا فلاناً) إن الاستثناء يرجع إلى الجزاء، وهو قوله: فأعطه، فيصير كأنه قال: إلا فلاناً، فلا تعطه، كذلك هاهنا يصير كأنه قال: فمن تمتع فعليه دم، إلا المكي؛ فإنه لا دم عليه. ويبين صحة هذا، وأن قوله:} ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ {لا يرجع إلى قوله:} فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ {] البقرة: 196 [:] أن [} ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ {] البقرة: 196 [لم يحسن] عقيبه [، وإذا ذكر عقيب الجزاء حسن، فدل على أنه راجع إليه. فإن قيل: قوله:} ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ {إشارة إلى من أتيح له التمتع، ونظير هذه الآية أن يقول قائل: من دخل الدار فعليه درهم، ثم يقول: ذلك لمن لم يكن من بلد كذا، فنفهم منه: أنه أراد بقوله: (ذلك لمن لم يكن) إشارة إلى من أبيح له دخول الدار. قيل: لا فرق بينهما، وذلك أن قوله: (لمن لم يكن من بلد كذا) راجع إلى الجزاء، وهو استحقاق الدرهم، ولم يرجع إلى الشرط الذي

هو جواز الدخول. وجواب آخر، وهو: أن الآية اقتضت متمتعاً يجب عليه الهدي، فيجب أن يكون الاستثناء راجعاً إلى متمتع يجب عليه الهدي، والمكي ليس عليه دم، فلم يرجع إليه الاستثناء. واحتج بأن المكي يحصل له إلمام بأهله بين العمرة والحج، ويباح له الإحلال بينهما، فوجب ألا يكون متمتعاً كالكوفي إذا أحرم بعمرة في غير أشهر الحج، وطاف لها في أشهر الحج، ورجع إلى الكوفة، ثم حج من عامة ذلك: أنه لا يكون متمتعاً. وفيه احتراز عن التمتع إذا ساق الهدي، ورجع إلى أهله، وحج من عامة ذلك: أنه يكون متمتعاً؛ لأنه إذا كان مقيماً على إرادته الحج في تلك السنة، فإن سوق الهدي يمنعه من الإحلال بينهما، فلا يثبت له حكم الإلمام. والجواب: أنه ينتقض بالمتمتع إذا ساق الهدي، ورجع أهله، فإنه وجد منه الإلمام، ومع هذا فهو متمتع. وقولهم: (إنه لا يثبت له حكم الإلمام) غير صحيح؛ لأن معنى الإلمام: هو النزول بأهله، والرجوع إلى منزله، لا غيره، وهذا موجود منه إذا رجع إلى أهله، ومعه هدي. ويبين صحة هذا: أنهم لا يشترطون في الإلمام الاستمتاع بأهله،

فلا معنى لقولهم: إنه إذا ساق الهدي، ليس هو على صفة تسبيح الاستمتاع. ثم المعنى في الأصل: أن الإحرام بالعمرة حصل في غير أشهر الحج، فهذا يجب دم التمتع، وكذلك هاهنا؛ لأنه جمع بين إحرام الحج وإحرام العمرة في أشهر الحج، ولم يتخللها سفر تقصر فيه الصلاة، أشبه غير المكي. واحتج بأنه لو صح التمتع للزمه هدي المتعة كالكوفي، فلما لم يلزمه دل على أنه لا يكون متمتعاً، كالكوفي إذا أحرم بعمرة في غير أشهر الحج. والجواب: أنه إنما لم يلزم المكي الدم؛ لأن دم التمتع وجب بنص القرآن والإجماع والنص ورد والإجماع انعقد في غير المكي، فلهذا لم يلزمه دم. ولأن دم التمتع يجب بشرائط منها الترفه بأحد السفرين؛ لأنه كان يلزمه أن ينشئ لكل واحد من الحج والعمرة سفراً من بلده، وهذا المعنى معدوم في المكي؛ لأنه لم يحصل له الترفه، ولهذا نقول: لو سافر بين الحج والعمرة سفراً تقصر فيه الصلاة لم يجب الدم.

مسألة إذا رجع المتمتع إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة لم يسقط عنه دم المتعة، فإن رجع إلى موضع تقصر فيها الصلاة سقط عنه دم المتعة

47 - مسألة إذا رجع المتمتع إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة لم يسقط عنه دم المتعة، فإن رجع إلى موضع تقصر فيها الصلاة سقط عنه دم المتعة: نص عليه في رواية الأثرم وحرب فيمن أحرم بعمرة في أشهر الحج: فهو متمتع إذا أقام حتى يحج، فإن خرج من الحرم سفراً تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع، فحج، فليس بمتمتع، ولا هدي عليه. وهذا لفظه في رواية حرب، وقد علق القول في رواية يوسف بن موسى وأحمد بن الحسين: إذا قام بإنشاء الحج من مكة فهو متمتع، فإن خرج إلى الميقات، فأحرم بالحج، فليس بمتمتع. وهذا محمول على أن بين الميقات وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن رجع إلى أهله سقط الدم فإن لم يرجع إلى أهله لم يسقط.

وقال مالك: إن رجع إلى بلده، أو بقدر مسافته في البعد سقط عنه الدم. وقال الشافعي: إن رجع إلى الميقات سقط عنه الدم. دليلنا: ما روي عن عمر بن الخطاب: أنه قال: إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم أقام، فهو متمتع، فإن خرج، ثم رجع، فليس متمتع. وهذا عام فيه إذا خرج إلى بلده، أو إلى ميقاته، أو غيرهما من البقاع. وروى أبو حفص بإسناده عن نافع، عن ابن عمر في الفتنة وأقام حتى الحج، وقال: من كان أقام معنا حتى الحج، فعليه المتعة، ومن رجع إلى أهله، ثم حج، فليس عليه متعة. فإن قيل: هذا يعارضه ما روي عن يزيد الفقير قال: دخلنا مكة عماراً، ثم زرنا قبر النبي "صل الله عليه وسلم"، وحججنا من عامنا ذلك، فسألنا ابن عباس فقال:] أنتم [متمتعون. قيل: هذا يقتضي: أنهم متمتعون، ونحن لا نمنع ذلك، لكن هل يكون عليه دم التمتع؟ ليس فيه، وغير ممتنع أن يكون متمتعاً لا دم عليه، كالمكي.

ويخص أبا حنيفة [بأنه جمع بينهما] في سفرين صحيحين، فسقط الدم. دليله: لو عاد إلى بلده، أو إلى مثله في المسافة. ويخص الشافعي بأن جمع بينهما في أشهر الحج من غير أن يتخللهما سفر تقصر فيه] الصلاة، أشبه [لو لم يخرج إلى الميقات. واحتج المخالف من أصحاب أبي حنيفة بأنه جمع] بينهما في أشهر الحج من غير [إلمام بأهله، أشبه لو لم يسافر، أو سافر ما لا تقصر فيه الصلاة. ] والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه [جمع بينهما في سفر واحد، وليس كذلك هاهنا، لأنه فصل بينهما بسفر تقصر فيه الصلاة، أشبه إذا رجع إلى أهله. واحتج بأنه لم ينقض سفره بالعود إلى ما تقصر فيه الصلاة، فصار كما لو سافر.

والجواب: أنا لا نسلم أنه لم ينقضه. يبين صحة هذا: أنه بالسفر يحصل ميقاته ميقات أهل البلدان. واحتج أصحاب الشافعي بأن دم التمتع يجب بشرائط، منها ترك الإحرام من الميقات، فإذا رجع إليه سقط. والجواب: أنا لا نسلم أنه يجب بترك الإحرام، وإنما يجب بالترفه بأحد السفرين، فإذا سافر ما يقصر فيه، لم يحصل منه ذلك. والذي يبين صحة هذا: أن القارن لم يترك الإحرام من الميقات، ومع هذا يجب عليه الدم، فعلم أن العلة الترفه. فإن قيل: لو كانت العلة الترفه لوجب أن يجب على المفرد الدم؛ لأنه مترفه بأحد السفرين. قيل له: إنما يجب بالترفه، والجمع بينهما في أشهر الحج، فإذا قدم الحج حصلت العمرة في غير أشهره. فإن قيل: فيجب أن يقول: لو تحلل من حجه في يوم النحر، ثم أحرم فيه بعمرة: أن يكون متمتعاً؛ لأن يوم النحر من أشهره، فيكون جامعاً بينهما في أشهر الحج، وقد قلتم: لا يكون متمتعاً، على ظاهر كلام أحمد في رواية إسحاق بن هانئ، فقال: لا يجب على من اعتمر

بعد الحج هدي. قيل: هو- وإن كان من أشهر الحج- فقد جعل في حكم ما ليس من أشهره، بدليل: أن الحج يفوت فيه، ولا يدركه بإدراكه، ومثل هذا ما قالوه إذا بقي من وقت صلاة الجمعة ركعة: هو وقت لصلاة الجمعة في حال الاستدامة، وليس بوقت في حال الابتداء، فلو أراد أن يبتدئ الجمعة في هذا الوقت، ويتمها في وقت العصر، لم يصح عندهم. واحتج بأنه رجع للإحرام بالحج إلى ميقاته، وجب أن لا يجب عليه دم قياساً عليه إذا رجع إلى ما تقصر فيه الصلاة. والجواب: أنه حصل مسافراً بين الحج والعمرة سفراً صحيحاً، وهذا معدوم هاهنا. واحتج بأنه موضع لا يستحق فيه الإحرام بالشرع، فلا يسقط دم التمتع بالعود إليه. دليله: ما ذكرنا. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأنا اعتبرنا الرجوع إلى الميقات، واعتبرتم الرجوع إلى ما تقصر فيه الصلاة، فكان اعتبارنا أولى؛ لأن للرجوع إلى الميقات والإحرام منه تأثيراً في إسقاط الدم، وهو إذا جاوزه غير محرم، ثم

مسألة إذا أحرم بعمرة في رمضان، وطاف لها في شوال، وحج من عامه ذلك، لم يكن متمتعا حتى يحرم بالعمرة في أشهر الحج

رجع إليه محرماً أو غير محرم، وأحرم منه، وليس للرجوع إلى غيره تأثير في إسقاط الدم في موضع من المواضع. والجواب: أنه إنما كان له تأثير في إسقاط الدم؛ لأنه كان يلزمه الإحرام من الميقات، فإذا جاوزه وجب عليه الدم وجوباً مراعى، فإذا رجع سقط عنه الدم،] و [ليس كذلك المتمتع؛ لأنه إذا أحرم بالعمرة من الميقات لم يلزمه الإحرام بالحج من ميقاته، بل ميقاته مكة، ولا يكون عوده إلى الميقات مسقطاً للدم؛ لأنه لم يلزمه الإحرام منه. 48 - مسألة إذا أحرم بعمرة في رمضان، وطاف لها في شوال، وحج من عامه ذلك، لم يكن متمتعاً حتى يحرم بالعمرة في أشهر الحج: نص عليه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: ومن أهل بعمرة في غير أشهر الحج، ثم قدم في شوال لا يكون متمتعاً. وكذلك نقل ابن إبراهيم فيمن أحرم بعمرة في شهر رمضان، ودخل الحرم في شوال: عمرته في الشهر الذي أهل. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون متمتعاً.

وللشافعي قولان: قال في القديم مثل قول أبي حنيفة. وقال في الجديد مثل قولنا. دليلنا: أن إحرام العمرة لم يحصل في أشهر الحج، فأشبه إذا طاف في رمضان. ولأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به، أو عمل من أعمال العمرة، فوجب أن يكون وجوده في أهر الحج شرطاً في وجود دم التمتع. دليله: الطواف. فإن قيل: الإحرام ليس من العمرة عندنا، وإنما هو سبب يتوصل به إلى أدنى أفعالها، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في الأفعال، بدليل: أنه ليس بمقصود في نفسه، وإنما يتوصل به إلى أدنى موجباته، فلم يجب اعتباره بسائر الأفعال. قيل: الدلالة على أن الإحرام من العمرة، وأن حكمه حكم سائر أعمال العمرة سواء، ألا ترى أنه لما لم تتوقت أفعال العمرة يتوقت الإحرام، ويشترط للإحرام ما يشترط لسائر الأفعال، وينافيه ما ينافي سائر الأفعال؟ ألا ترى أن استدامة الإحرام تمنع الطيب واللباس وقتل الصيد والوطء، كما يمنع حال انعقاده، وينعقد مع الفساد، ويلزم المضي فيه، كما لو طرأ الفساد عليه بعد انعقاده، والعمرة لا تتم

إلا بالطواف والسعي. فإن قيل: استدامة الإحرام في شوال تجري مجرى ابتدائه، ولهذا قلتم: إذا أحرم العبد، ثم عتق قبل الوقوف بعرفة، ووقف بعرفة وهو حر، فإنه يدرك الحج وتكون الاستدامة بمنزل] الابتداء [للإحرام في حال الحرية. قيل له: لا يجوز أن] تكون [استدامة الإحرام كابتدائه، كما لا يجوز] ذلك في الصلاة [، وقد ثبت أنه لو أحرم بالصلاة قبل دخول الوقت واستدامتها بعد دخول] الوقت، لم [يصح. وأما العبد إذا أعتق، فإنما قلنا: يجزئه؛ لأنه أدرك عرفة- وهي معظم الحج- في حال الكمال، لا أن الاستدامة تجري مجرى الابتداء. واحتج المخالف بأن طواف العمرة] حصل [في أشهر الحج، فأشبه إذا أحرم بها في هذه الأشهر. والجواب: أن المعنى في الأصل: أن الإحرام بها حصل في أشهر

مسألة يجب دم التمتع والصوم عنه يوم النحر

الحج، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الإحرام بها حصل في غير أشهره. واحتج بأن إحرام العمرة أحد طرفي التمتع؛ لأن التمتع لا يصح إلا بالعمرة والحج جميعا، فوجب أن لا يختص بأشهر الحج. دليله: آخر الحج. والجواب: أنه لا يتمنع أن يفعل الطرف الثاني في غير أشهر الحج، ولا يفعل الأول، كما قالوا: يكره الإحرام بالعمرة في يوم عرفة وأيام التشريق، ولا يكره استدامة الإحرام بها في هذه الأيام؛ لأن الطواف في آخر الحج يجوز أن يكون في غير أشهر الحج، فدل على الفرق بينهما. 49 - مسألة يجب دم التمتع والصوم عنه يوم النحر: وقد قال أحمد في رواية المروذي، وقد قيل: متى يجب على المتمتع الدم؟ قال: إذا وقف بعرفة، والقارن مثله، يروى عن عطاء. وقوله: (إذا وقف) معناه: إذا مضى وقت الوقوف، وإنما يمضي بطلوع الفجر يوم النحر. وقال في رواية ابن القاسم، وقد سئل: متى يجب صيام المتعة؟ فقال: إذا عقد الإحرام.

معناه: أن عقده الإحرام كان سبباً للوجوب، كما أن النصاب سبب؛ لأن الوجوب به يتعلق، وإنما يتعلق بيوم النحر، كما يتعلق وجوب الزكاة بالنصاب والحول. وبهذا قال أصحاب الشافعي: يجب ذلك إذا أحرم بالحج. دليله: قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ} [البقرة: 196]. وتقديره: فليهد. وحمله على أفعاله أولى من حمله على لم إحرامه من وجهين: أحدهما: قوله عليه السلام: «الحج عرفة»، فوصفه بذلك. وقوله تعالى: {يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، قيل: يوم النحر. ولأنه إحرام تتعلق به صحة التمتع، فلم يكن وقتاً للوجوب. دليله: إحرام العمرة. يبين صحة هذا: أن إحرام العمرة سبب لوجوب الهدي؛ لأنه إحرام تتعلق به صحة التمتع فهو كإحرام الحج. ويبين صحته أيضاً: أن كل شيئين تعلق الوجوب بهما، وجاز اجتماعهما، كان الأول منهما سبباً، كالنصاب، والحول، والظهار، والعود.

ولأن الهدي من جنس ما يقع به التحلل، فكان وقت وجوبه بعد وقت الوقوف. دليله: الطواف والرمي والحلق. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ} [البقرة: 196]، وإذا أحرم بالحج سمي متمتعاً إلى الحج. والجواب عنه: ما تقدم، وأن حمله على ما بعد الوقوف أولى. واحتج بأنه إحرام بالحج، وكان وقتاً لوجوبه. دليله: يوم النحر. والجواب عنه: أن ذاك وقت للتحلل، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه ليس بوقت له، كما لو أحرم بالعمرة. واحتج بأن المتمتع إذا ساق الهدي لم يجز له أن يتحلل من عمرته، ويكون إحرام العمرة سبباً له، ويثبت حكمه، وإن لم يوجد وقت الوقوف. والجواب: أنه إذا ساقه صار من جملة أفعالها، فوجب كما [وجب بقيه أفعالها]، ولهذا نقول: إذا ساق الهدي لم يجز له التحلل من العمرة قبل يوم النحر، وهو الذبح، وإذا لم يسق جاز له التحلل منها. واحتج بأنه لو كان الصوم يجب بيوم النحر لم يجز فعله قبله؛ لأنه من عبادات الأبدان، فلا يتقدم على وقت الوجوب.

مسألة لا يجوز ذبح هدي المتعة قبل طلوع الفجر من يوم النحر

والجواب: أنه غير ممتنع عندنا ذلك إذا وجد سبب الوجوب، ولهذا قلنا: يجوز صوم الكفارة قبل الحنث وبعد عقد اليمين، وكذلك إذا تعجل في يومين جاز أن يرمي ما كان يرميه في اليوم الآخر، وإن لم يكن وقتاً للوجوب، وهو من عبادات الأبدان، وكذلك إذا عجل السعي الواجب عقيب طواف القدوم أجزأه، وإن لم يكن وقتاً لوجوبه، وكذلك إذا طاف قبل طلوع الفجر أجزأه، وإن لم يكن وقتاً لوجوبه. 50 - مسألة لا يجوز ذبح هدي المتعة قبل طلوع الفجر من يوم النحر: نص عليه في رواية يوسف بن موسى، فقال: إذا قدم متمتعاً، وساق الهدي فإن قدم في شوال نحر الهدي وحل، وعليه آخر، [و] إذا قدم [في] العشر أقام على إحرامه، ولم يحل حتى يوم النحر. فقد نص على أنه إذا نحر قبل العشر كان عليه هدي آخر؛ يعني: في يوم النحر، ولم يعتد بما ذبح قبله. وقال - أيضاً - في رواية ابن منصور: وأما هدي المتعة فإنه يذبح يوم النحر. ويحمل قوله: (نحر وحل) على طريق التطوع، وقوله: (وعليه

هدي آخر) المراد به: دم التمتع الواجب. وبهذا فال أبو حنيفة ومالك. [و] قال الشافعي: للمتمتع أن يذبح هديه بعد الإحرام بالحج، وليس له أن يذبح قبل الفراغ من العمرة. وهل يجوز بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج؟ قولان: أحدهما: يجوز، وهو الصحيح. والثاني: لا يجوز. دليلنا: قوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] غاية الإباحة الحلق، فلو جاز أن يذبح قبل يوم النحر، لجاز له أن يحلق؛ لوجود الغاية، فلما لم يجز تقديم الحلق، لم يجز تقديم الذبح. فإن قيل: هذه الآية وارده في هدي الإحصار، ونحن نقول: إن المحصر لا يحلق حتى يذبح الهدي، وخلافنا في هذه [المتعة. فيقال له: ورودها في هدي الإحصار لا يمنع اعتبار عمومها؛ لأنه لا تراعى الأسباب. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لبدت رأسي، وسقت الهدي، فلا أحل إلى يوم النحر».

وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة». ولو كان يجوز ذبح الهدي قبل يوم النحر لذكره، وصار كمن لا هدي معه. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً، فالهدي تطوع، فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر. قبل: هدي التطوع لا تأثير له في المنع من التحلل اتفاقاً]، فعلم أنه كان واجباً. وعلى أنا قد بينا: أنه كان متمتعاً. والقياس: كل وقت لا يصح فيه طواف الزيارة لا يصح فيه ذبح هدي المتعة. دليله: قبل الإحلال من العمرة. فان قيل: المعنى في الأصل: أنه قد بقي لوجوبه أكثر من سبب واحد، وهو التحلل من العمرة وإحرام الحج، وبعد الفراغ بقي سبب واحد، وهو الإحرام، فجاز تقديمه عليه، كما يجوز تقديم الزكاة على الحول، وكفارة القتل على الموت.

قيل له: لا نسلم أن التحلل من العمرة سبب؛ لأنه لو لم يتحلل من العمرة حتى أحرم بالحج وجب الهدي، ففي الموضعين لم يبق إلا سبب واحد. نص عليه في رواية الميموني في المتمتع إذا لم يقمر ولم يحلق حتى أهل بالحج: ما أرى عليه شيئاً، إذا [بلغ] المتمتع المحرم حل من كل شيء إلا النسا، والطيب قبل أن يقصر. ولأن الزكاة صدقة، والكفارة عتق وصوم، وجميع ذلك يجوز في جميع الأوقات، فإذا وجد سببه جاز تقديمه، وأما الهدي فهو إراقة دم، وذلك في موضعه يختص بأوقات لا يجوز تقديمه عليها كالأضحية والتطوع. وعلة الفرع تبطل بمن قال: لثن شفى الله مريضي فلله علي أن أضحي، فوجد الشرط، فقد بقي للوجوب سبب واحد، ولا يجوز الذبح. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يجب، وليس كذلك إذا أحرم بالحج؛ لأنه قد وجب. قيل له: علة الأصل تبطل بالزكاة والكفارات، وعلة الفرع لا نسلمها؛ لأن أحمد قد قال في رواية المروذي وابن إبراهيم - وقد سئل عن المتمتع: متى يجب عليه الدم؟ قال: إذا وقف بعرفة، والقارن مثله. وروي عنه- أيضاً -[أنه سئل]: متمتع مات قبل أن يذبح؟ قال: إذا

وقف بعرفة فقد وجب عليه الهدي. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ} [البقرة: 196]، وإذا أحرم بالحج فقد تمتع بالعمرة إلى الحج؛ لأن (إلى) للغاية، فإذا وجد أول الحج فقد حصلت الغايتة، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فإذا وجد أول الليل فقد حصلت الغاية. والجواب: أن الحج عبارة عن الأفعال، فقد جعل الغاية وجود أفعال الحج، وذلك يكون قبل الوقوف والرمي؛ لأن الإحرام ليس من أفعال الحج المختصة به، فوجب حمله على الأفعال المختصة، وإذا وجب حمله على ذلك احتمل أن يكون [معنى] قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ}: فليذبح ما استيسر، واحتمل: فعليه ما استيسر؛ يعني: وجب عليه ما استيسر، ونحن نقول: قد وجب بوجود هذه الأفعال المختصة، وإذا احتمل الوجوب وقف على أوقات مخصوصة، مثل الوقوف والطواف والرمي. واحتج بما روى ابن عمر صلى الله عليه وسلم قال: تمتع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من كان معه هدي فإذا أهل بالحج فليهد، ومن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله». والجواب: أنه إن صح هذا فيحتمل أن يكون معنى قوله: «فليهد»

فليعين الهدي؛ ليذبحه يوم النحر، فهم يحملون قوله: «فليهد» على الدبح، ونحن نحمله على السوق والحمل. واحتج بأنه هدي ينوب عنه الصيام، أو يتعلق بالإحرام، فجاز ذبحه قبل يوم النحر قياساً على جزاء الصيد، ودم الحلق بالإحرام، والطيب، واللباس، والدم الواجب لترك الميقات. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه دم جبران، فلهذا لم يختص بوقت، وليس كذلك دم التمتع؛ لأته دم نسك، وقد دللنا على ذلك بما تقدم، فأشبه من هذا دم الهدايا والضحايا. واحتج بأن كل وقت صلح لجنس المبدل والبدل، وصح فيه البدل، صح فيه المبدل. أصله: التيمم مع الوضوء، وذلك أن كل وقت صح فيه التيمم إذا لم يجد الماء، صح فيه الوضوء إذا كان واجداً للماء. ولا يدخل عليه الإطعام في كفارة الظهار؛ فإنه يجوز بالليل، ولا يجوز مبدله، وهو الصوم؛ لأن الليل لا يقبل الصوم، ولا يصلح لجنسه، وليس كذلك ما قبل يوم النحر؛ لأنه يقبل الهدي ويصلح له؛ لأن هدي الجبران يصح فيه. والجواب: أنا لا نسلم أن ما قبل يوم النحر وقت الهدي الذي هو نسك، إنما هو وقت للجبران، وإن حذف هنا الوصف انتقض بالصوم في كفارة الظهار؛ فإن بدله الإطعام، ويصح ليلاً، وإن لم يصح المبدل

الذي هو الصوم ليلاً. وقولهم: لا يجوز الصوم بالليل؛ لأنه لا يحتمل الصوم، كذلك نقول: ما قبل يوم النحر وقت لا يعتمل الذبح الذي هو نسك. وعلى أن حكم البدل والمبدل في مسألتنا مخالف لحكم الإبدال والمبدلات في الأصول، بدليل أن تقديم صوم ثلاثة أيام على النحر جائز، وتقديم سبعة أيام لا يجوز، والجميع بدل عن الهدي، فجاز بعض البدل في وقت، ولا يجوز فيه البعض الآخر، وسائر الإبدال في الأصول إذا جاز بعضها في وقت جاز جميعها، فلا يمتنع أن يخالف حكم البدل والمبدل في هذا الموضع حكم الإبدال والمبدلات في الأصول. ثم المعنى في الوضوء والعتق: أن نفل كل واحد منهما لا يختص بوقت، ففرضها لا يختص بوقت، ونفل الهدي مختص بوقت، فالواجب منه يجوز أن يختص بوقت. واحتج بأنها عبادات بدل، فوجب أن لا يتأخر وقت جواز فعلها عن وقت البدل. أصله: العتق في كفارة القتل. ولأنه حيوان له بدل هو صوم، فجاز إخراجه في وقت جواز فعل الصوم، كالرقبة في الظهار.

والجواب: أنا قد بينا أنه لا يمتنع أن يجوز فعل البدل في وقت لا يجوز فعل المبدل، بدليل الصوم والإطعام في كفارة الظهار. ولأن هذا البدل يفارق سائر الإبدال في الأصول؛ لأن بعضه يجوز في وقت، وهو صوم الثلاثة، ولا يجوز صوم السبعة وإن كان بدلاً، وسائر الإبدال كل وقت جاز فيه بعض البدل جاز فيه جمع البدل. وعلى أن العتق والصوم يفعلان للتكفير والوقت محتمل لهما، فإذا جاز أحدهما جاز الآخر، والهدي والصوم يرادان للتحلل يوم النحر، والصوم لا يصح يوم النحر الذي هو مقصوده فقدم عليه، والذبح يصح فيه، فلم يتقدم. واحتج بأنه حق يتعلق وجوبه بالتمتع، فوجب أن يجوز عقيب الإحرام بالحج قياساً على صوم ثلاثة أيام. والجواب: أن هذا باطل بصوم سبعة أيام. فإن احترز عنه فقال: حق يتعلق وجوبه بالتمتع، ويجوز فعله بالحج، فأشبه ما ذكرنا، أجبنا عنه بأن الهدي لا يشبه الصوم؛ فإنه لا خلاف أن الصوم يتعين عليه قبل يوم النحر بحيث لا يجوز تأخيره إليه، ولا يتعين عليه وجوب ذبح الهدي قبله، بل يجوز تأخيره

مسألة إذا صام المتمتع ثلاثة أيام بعدما أحرم بالعمرة أجزأه

إليه، فإذا جاز أن يختلفا في وقت الوجوب، جاز أن يختلفا في وقت الجواز. 51 - مسألة إذا صام المتمتع ثلاثة أيام بعدما أحرم بالعمرة أجزأه: نص عليه في رواية الأثرم في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]: يجعل آخرها يوم عرفة، ولا يبالي إن تقدم أولها بعد أن يصومها في أشهر الحج، وإن صامها قبل أن يحرم فجائز. وأراد بذلك قبل أن يحرم بالحج. وقال _ أيضاً _ في رواية ابن القاسم وسندي، وقد سئل عن الصيام للمتعة: متى يجب؟ فقال: إذا عقد الإحرام، فصام، أجزاه إذا كان في أشهر الحج. وهذا يدخل على من قال: لا تجزئ الكفارة إلا بعد الحنث، ولعل هذا ينصرف، ولا يحج. وقوله: إذا عقد الإحرام، أراد به: إحرام العمرة؛ لأنه شبهه بالكفارة قبل الحنث، وإنما يصح الشبه إذا كان صومه قبل الإحرام بالحج؛ لأنه قد وجد أحد السببين، ولأنه قال: إذا عقد الإحرام في

أشهر الحج، وهذا إنما يقال في إحرام العمرة؛ لأن من شرط التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. وبهذا قال أبو خيفة. وقال مالك والشافعي: لا يجوز حتى يحرم بالحج. دليلنا: لأنه إحرام تتعلق به صحة التمتع، فجاز صوم المتعة عقيبه. دليله: إحرام الحج. فان قيل: إنما جاز الصوم عقيب إحرام الحج؛ لأنه يجوز ذبح الهدي عقيبه، وليس كذلك إحرام المتعة؛ لأنه لا يجوز ذبح الهدي عقيبه، فلا يجوز الصوم [أيضاً. قيل له]: لا يجوز ذبح الهدي عقيب الإحرام عندنا. وأيضاً العمرة سبباً لوجوب صوم المتعة، بدليل: أنه إحرام تتعلق به صحة التمتع، فوجب أن يكون سبباً لوجود الصوم، كإحرام الحج، وبدليل [أن] أكل شيئين تعلق الوجوب بهما، وجاز، اجتماعهما، كان الأول منهما سبباً، كالنصاب، والحول، والظهار، والعود، والجراحة، والموت. ولا يلزم عليه صوم رمضان؛ أنه ليس بسبب للكفارة، وإن كانت الكفارة لا تجب إلا بوجود الصوم والجماع؛ لأنه لا يجوز اجتماعهما، ولهذا قال أحمد في رواية ابن منصور: يجوز تقديم الفدية قبل أن يحلق

الرأس إذا آذاه القمل؛ لأنه [لا] يجوز اجتماع الإحرام والحلق، فجاز تقديم الفدية على الحلق. وإذا ثبت أن العمرة سبب لوجوب صوم المتعة، جاز أن يثبت حكمه عقيبها، كما ثبت حكم الزكاة إذا وجد النصاب، والكفارة إذا وجدت الجراحة. فإن قيل: فيجب أن تكون سبباً لهدي المتعة، وتثبت حكمه. قيل له: هي سبب له، ويثبت حكمه فيها، ألا ترى أنه إذا أحرم بعمرة وساق الهدي صار هدي متعة، ومنعه ذلك من الإحلال بين الحج والعمرة؟ نص عليه في رواية حنبل، وهذه مسألة ثانية إن شاء الله. فإذ قيل: فلم لا يجوز بذبحه؟ قيل: لأنه مخصوص بوقت، وهو يوم النحر، كما أنه مخصوص بمكان، وهو الحرم. وإن شئت قلت: إن العمرة سبب للصوم، وهو غير مخصوص

بوقت، فإذا وجد السبب جاز تقديمه، كما يجوز تقديم الزكاة إذا وجد النصاب، ويجوز تقديم الكفارة إذا وجدت الجراحة. ولا يلزم عليه الهدي؛ لأنه مخصوص بوقت، فلا يجوز تقديمه على وقته، وإن وجد سببه، كما لا يجوز تقديم الطواف والرمي على يوم النحر، وكذلك الوقوف على يوم عرفة. ولأن كل صوم جاز بعد إحرام الحج، جاز بعد إحرام العمرة. دليله: سائر الصيام. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فوجه الدلالة من وجهين: أحدهما: أنه أمر بالصوم بعد التمتع [بالعمرة] إلى الحج، فجعل الحج غاية، فلا يكون متمتعاً إلا بوجوده. والثاني: أنه أمر بالصيام في الحج، فلا يجوز تقديمه عليه. فأما الجواب عن الأول: فإنه إذا أحرم بالعمرة، وهو يريد الحج في تلك السنة، فإنه يصير متمتعاً، بدلالة أنه لو ساق الهدي كان ذلك هدي متعة، ومنعه من الإحلال قبل يوم النحر، فإذا ثبت أن التمتع يحصل بإحرام العمرة في أشهر الحج بشرط أن يحج في تلك السنة، وجب أن

يجزئه صومه؛ لأن الله _ تعالى _ أجاز الصوم في الحال التي لا يجيز فيها الهدي بقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ}. وأما قوله: {فِي الحَجِّ} فلا يخلو من أن يكون المراد: في إحرام الحج، أو: في أفعاله، أو: في وقته، ولا يجوز أن يريد به [ما] في الوجهين الأولين؛ لأن (في) من حروف الظرف، والفعل لا يكون ظرفاً للفعل حقيقة، وإنما يكون الوقت ظرفاً له، فإذا كان كذلك، ثبت أن المراد بقوله: {فِي الحَجِّ}: في وقت الحج، ووقت الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فإذا أحرم بعمرة في شوال، وصام ثلاثة أيام، حصل الصيام في وقت الحج، فوجب أن يجزئه. فإن قيل: {فِي الحَجِّ} معناه: في إحرام الحج، كما قال تعالى: {فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة: 197] تعين: في إحرام الحج، ويقال: صام في إحرام الحج، وطاف فيه، كما يقال: دعا في صلاته، وذكر الله فيها، وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن دعاء القنوت، وقال: «اجعله في وترك». قيل له: هذا مجاز، ومعناه: دعا في الوقت الذي يصلي فيه،

وذكر الله في وقت اشتغاله بالصلاة؛ لأنا قد بينا: أن الفعل لا يكون ظرفاً للفعل، وإنما يكون الوقت ظرفاً له. فإن قيل: لا يجوز أن يحمل قوله: {فِي الحَجِّ} على وقت الحج؛ لأن أحداً لا يقول: إن له أن يصوم في وقت الحج؛ لأنه لابد من الإحرام؛ إما بالعمرة عندك، أو بالحج عندنا. قيل له: إذا دلت الدلالة على امتناع جوازه بغير إحرام، صار تقديره: فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج إذا كان محرماً. فإن قيل: قوله: {فِي الحَجِّ} معناه: في حال الحج، ويكون هذا الإضمار أولى؛ لأنه [لا] يحتاج إلى تخصيص، والوقت يحتاج إلى تخصيص بما بعد إحرام العمرة، وتخصيص المضمر لا يجوز؛ لأنه إنما يضمر ما دل [عليه] الدليل، والدليل يدل على حاض دون العام. قيل له: حمله على حال الحج إنما هو عبارة عن وقت بصفة، وإضمار الوقت أولى من إضماره وزيادة عليه. وقولهم: إن ذلك يؤدي التخصيص، فليس بصحيح؛ لأن الذي يريد التمتع بالعمرة هو الذي فعلها ناوياً لضم الحج إليها، فلا نحتاج في إضمارنا إلى تخصيص. وقد قيل في جواب الآية: إنها أفادت وجوب الصوم، والكلام في الجواز

وعندنا يجب إذا أحرم بالحج، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي، وقد سئل عن صيام المتعة: متى يجب؟ قال: إذا عقد الإحرام. واحتج بأن كل وقت لا يجوز فيه فعل المبدل، [لا يجوز فيه فعل البدل]، بدلالة العتق والصوم في الكفارة، ولا خلاف في مسألتنا: أن المبدل _ وهو الهدي _ لا يجوز قبل إحرام الحج، كذلك البدل. والجواب: أن صوم المتعة يجوز في الحرم وخارج الحرم، وهدي المتعة لا يجوز ذبحه في غير الحرم، فإذا جاز فعل البدل في مسألتنا في موضع لا يجوز فيه فعل المبدل، لم يمتنع _ أيضاً _ أن يجوز فعل البدل في وقت لا يجوز فيه فعل المبدل، ويفارق [هذا] البدل والمبدل في الكفارة؛ لأن الموضع الذي يجوز فعل المبدل فيه [يجوز فعل البدل فيه]، كذلك الوقت الذي يجوز فعل البدل فيه، [يجوز فعل المبدل فيه. ولأن صوم ثلاثة أيام قبل يوم النحر جائز، وصوم سبعة أيام لا يجوز، والجميع بدل عن الهدي، وإذا جاز بعض البدل في وقت لا يجوز فيه البعض الآخر، لم يمتنع أن يجوز جميع البدل في وقت لا يجوز فيه المبدل، وبفارق هذا البدل والمبدل في الكفارة؛ لأن الوقت الذي يجوز فيه بعض المبدل يجوز جميعه، كذلك الوقت الذي يجوز فيه جميع البدل يجوز فيه المبدل.

مسألة إذا لم يصم المتمتع قبل يوم النحر، صامها قضاء، وعليه دم لتأخيرها عن أيام الحج، أو كان واجدا للهدي فأخره عن أيام النحر، فهل يجب عليه هديان؛ أحدهما لأجل التمتع والقران، والثاني لتأخيره ذلك عن وقته؟

ولأنه يجوز تأخير المبدل إلى يوم النحر، ولا يجوز تأخير صوم الثلاثة إلى يوم النحر. ولأن جنس المبدل الهدايا والضحايا، وذلك يختص بيوم النحر، وليس من جنس البال ما يختص بيوم النحر، فبان الفرق بينهما. واحتج المخالف بأن الهدي حق المال بدل من الصيام، فوجب أن لا يتقدم وقت جواز البدل على وقت جواز المبدل، كالرقبة والصيام في كفارة الظهار. ولأنه أحد موجبي المتعة، فلا يجوز فعله في العمرة قياساً على الذبح. والجواب: أنا قد بينا الفرق بين الصوم والهدي، وبينه وبين البدل والمبدل في الكفارة. 52 - مسألة إذا لم يصم المتمتع قبل يوم النحر، صامها قضاء، وعليه دم لتأخيرها عن أيام الحج، أو كان واجداً للهدي فأخره عن أيام النحر، فهل يجب عليه هديان؛ أحدهما لأجل التمتع والقران، والثاني لتأخيره ذلك عن وقته؟ وفيه روايات: إحد [ا] ها: بجب علبه دم لتأخير الصوم، ودم ثان لتأخير الدم.

قال في رواية أبي طالب في متمتع لم يكن معه هدي، ولم يصم حتى جاز يوم النحر: صام عشرة أيام إذا رجع، وعليه دم، قد فرط، وابن عباس يقول: من كان عليه دم، فلم يذبحه حتى جاز يوم النحر فعليه دمان: الدم الذي وجب عليه، ودم لما فرط. قيل له: فتقول به؟ قال: نعم، عليه دمان، دم لما عليه، ودم لما أخر. وكذلك نقل المروذي ويعقوب عنه في متمتع لم يهد إلى قابل: يهدي هديين، وهكذا قال ابن عباس. وفيه رواية ثانية: عليه دم واحد. نص عليه في رواية ابن منصور في متمتع لم يذبح حتى رجع إلى أهله: يبعث بالدم إذا كان ساهياً، والعامد عليه دم واحد إلا أنه قد أساء. وفيه رواية ثالثة: رواها حرب عنه في متمتع رجع إلى بلاده، ولم يهد: يجزئ عنه دم واحد إذا كان له عذر، وبعضهم يقول: عليه دمان، وهذا إذا لم يكن له عذر. وظاهر هذا: أنه فرق بين المعذور، وهو [من] تعذر ما يشتريه، أو تضيق نفقته، وبين من لا عذر له. والمذهب الصحيح: أن المعذور وغيره سواء؛ لأن في رواية

المروذي: إذا لم يجد ثمن ما يشتري حتى رجع إلى هاهنا عليه هديان، وهذه حالة عذر. وقال أبو حنيفة: إذا لم يصم قبل يوم النحر، ولم يجد ثمن الهدي، فحل بلا هدي ولا صيام، فعليه] هديان إذا أيسر؛ أحدهما لإحلاله بغير هدي ولا صوم، والآخر هو القران أو المتعة، ولا يجزئه الصوم بعد ذلك. وقال مالك والشافعي: يصوم، ولا دم عليه لأجل التأخير. فالدلالة على ثبوت الصوم خلافاً لأبي حنيفة: أنه صوم واجب، فوجب قضاؤه بفواته. دليله: صوم رمضان. وقيل: صوم واجب، فلم يسقط بفواته. دليله: صوم رمضان. والمخالف يمنع الأصل ويقول: قد سقط بفواته، وإنما وجب القضاء بدليل ثان، والصحيح هو العبارة الأولى. ولأنه صوم معلق بشرط، فلم يسقط بفوات شرطه. دليله: صوم الظهار، وهو مأمور بأدائه قبل المسيس، ثم لو

مسها لم يسقط. ولأنه أحد موجبي المتعة فجاز فعله خارج الحج. دليله: الهاي. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ}] البقرة:196 [، فجعله مؤقتاً بالحج، فإذا لم يصم قبل يوم النحر فات وقته، فلو أمرناه بالقضاء كان فيه إيجاب فرض مبتدأ، وذلك لا يجوز إلا بدلالة. والجواب: أن القضاء ليس بفرض مبتدأ على قول أصحابنا، بل الأمل بفعل العبادة يقتضي فعلها في وقتها وفي غيره. وعلى أنا قد دللنا على إيجاب ذلك. واحتج بأن الله - تعالى - جعل الصوم بدلاً عن الهدي في الحج، فلو أمرناه بالقضاء في غيره لأثبتنا للصوم في الحج بدلاً؛ لأن القضاء بدل عما تركه في وقته، وإثبات الإبدال لا يجوز إلا بتوقيف، كالمسح على الخفين؛ لما كان بدلاً لم يجز إثباته إلا بدليل. والجواب عنه ما تقدم، وهو: أن الأمر بالأداء يـ]ــتـ[ــضمن الأمر بالقضاء. وعلى أنا قد دللنا على ذلك. واحتج بأنه بدل مؤقت، فإذا فات وقته وجب الرجوع إلى المبدل،

كالجمعة إذا فات وقتها، وجب الرجوع إلى المبدل، وهو الظهر، والمسح على الخفين إذا مضى وقته، وجب الرجوع إلى المبدل، وهو الغسل. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون مؤقتاً، ولا يسقط، بل يقضى إذا فات، كما أنه إذا صار معلقاً بشرط، ففات الشرط، لم يسقط، ووجب قضاؤه، وهو صوم الظاهر إذا أخره عن المسيس؛ لأن الشرط والتأقيت واحد؛ لأن التأقيت شرط في المؤقت، ومأمور به في وقته، كما أن المظاهر مأمور بالصوم قبل المسيس. وعلى أنا لا نسلم: أن الجمعة بدل، هي أصل، والظهر بدل منها، يدل عليه: أنه إذا ترك الجمعة إلى الظهر عصى الله - تعالى - وأثم، والإنسان لا يعصى بترك البدل إلى المبدل. ولا نسلم - أيضاً - علة الفرع؛ لأن صوم الثلاثة مؤقت؛ لأنه مأمور به في الحج دون الزمان، والمؤقت ما خص فعله بوقت بعينه. وفي هذا ضعف؛ لأنا قد بينا فيما قبل: أن المراد بقوله تعالى: {فِي الحَجِّ} في وقت الحج. وأما المسح على الخفين فإنما جوز للحاجة إليه، ولا نحتاج في استدامته إلى أكثر من ثلاثة أيام في حق المسافر، ويوم وليلة في حق المقيم، فلم تجز الزيادة على ذلك، والصوم غنما جوز للمتمتع لكونه عادماً للهدي، وهذا المعنى موجود بعد يوم النحر، فجاز فعله. واحتج بأنه نسك مؤقت لا تعلق له بالبيت، فوجب أن لا يجوز

قضاؤه بعد مضي وقته، كرمي الجمار. والجواب: أن الجمار حجة لنا؛ لأنها تسقط إلى بدل هو الدم. يجب - أيضاً - أن نقول في صوم المتعة: يسقط إلى بدل، وهو القضاء، وعندهم يسقط لا إلى بدل؛ لأن الدم الذي يوجبونه هو الهدي الواجب في الأصل، وليس ببدل عن الصيام. على أن قياس هذا على صوم رمضان - لأنه من جنسه - أولى من الجمار. - فصل: والدلالة على أنه لا يلزم الهدي لتأخيره الصيام والهدي: أنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله، فلم يجب به دم. دليله: إذا أخر الوقوف من النهار إلى الليل. ولهذا المعنى قلنا: إذا أخر الطواف والحلاق عن أيام التشريق لا دم عليه لهذه العلة، وعكسه الرمي. ولا شبهة أن هدى التمتع نسك، وقد دللنا عليه فيما تقدم. ولا يلزم عليه إذا أخر الرمي؛ لأنه إن أخره عن اليوم الأول إلى الثاني والثالث، لا دم عليه، وإن أخره إلى ما بعد، فعليه دم؛ لأنه أخره عن وقت جواز فعله، وقد نص على هذا في رواية صالح، فيمن نسي

رمي جمرة العقبة، فذكرها في أيام التشريق: يرمي في أيام منى، فإذا جازت أيام منى، فعليه دم. وأما الصيام فهو بدل الهدي الذي هو نسك، فكان نسكاً. ولأنه دم أخره عن وقت وجوبه، فلا يجب بتأخيره دم. دليله: سائر الدماء الموجبات من الحلاق، وتقليم الأظفار، واللباس، وقتل الصيد، وغير ذلك. ووجه الرواية الثانية: ما روى النجاد بإسناده عن علي بن بذيمة مولى ابن عباس قال: تمتعت، فنسيت أن أنحر، وأخرت هديـ]ــي [، فمضت الأيام، فسألت ابن عباس فقال: اهد هديين؛ هدياً] لهديك [، وهدياً لما أخرت. والجواب: أنه محمول على الاستحباب. واحتج بأنه صوم واجب أخره عن وقته المعين، فجاز أن يجب به فدية. دليله: صوم القضاء والنذر. والجواب: أن ذلك الصوم ليس فيه معنى النسك، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه نسك أخره إلى وقت جوازه، أشبه ما ذكرنا.

مسألة إذا صام المتمتع السبعة بعد الفراغ من الحج قبل الرجوع إلى أهله أجزأه

53 - مسألة إذا صام المتمتع السبعة بعد الفراغ من الحج قبل الرجوع إلى أهله أجزأه: نص عليه في رواية الأثرم، وقد سأله عن صيام السبعة أيصومهن في الطريق، أم في أهله؟ فقال: كل قد تأوله الناس، ووسع في ذلك كله. وكذلك نقل أبو طالب عنه، قال: إن قدر على الهدي، وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة، أم في الطريق؟ فقال: كيف شاء. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: يصوم إذا رجع إلى أهله، فإن صام بمكة، أو في الطريق لم يجز، فإن حصل في وطنه، ثم عاد على مكة، جاز له أن يصوم بها وفي الطريق في أي موضع شاء، وإن لم يرجع إلى وطنه، ونوى المقام في مكة؛ وجعلها وطنه، جاز له أن يصوم بها. دليلنا: قوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ}] البقرة:196 [، تقديره: إذا رجعتم من الحج؛ لأن فيه إضماراً، فيجب أن يكون المضمر ما تقدم ذكره، كقوله تعالى: {والْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحَافِظَاتِ والذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا}] الأحزاب: 35 [، فإذا كان تقديره ما ذكرنا قلنا: إذا انقضت أيام منى لم يبق من أفعال الحج عليه شيء، فقد رجع من

الحج، فيجب أن يجزئه صوم هذه الأيام. فإن قيل: إطلاق اسم (الرجوع) إلى الوطن، فيجب أن يجمل عليه. يبين صحة هذا: أن الفراغ من العبادة لا يسمى رجوعاً، ألا ترى أنه إذا فرغ من صومه بغروب الشمس لا يقال: رجع من صومه، ورجع من زكاته، ورجع من صلاته؟ قيل له: في الآية رجوع مقيد، وتقديره: وسبعة إذا رجعتم من الحج، والحج عبارة عن الأفعال، فيصير كأنه قال: وسبعة إذا رجعتم من أفعال الحج، والرجوع من أفعال الحج هو الفراغ منها. ولا يشبه هذا قوله: رجع من صيامه، ومن صلاته؛ لأن الصيام والصلاة لا تختص بمكان، فلا يقال لمن فعلها: رجع، والحج يفعل في أماكن مخصوصة، فيجوز أن يقال لمن فرغ منه، وانتقل عنها: رجع. ولأنه يصح أن يقال في الصيام: رجع إلى الفطر، ويقال لمن فرغ من الحج: رجع إلى الإحلال. ويبين صحة هذا: أن أفعال الحج تقدم ذكرها، والسفر والخروج من الوطن لم يجر له ذكر يحمل الرجوع عليه. فإن قيل: كيف يقال لمن حصل بمكة: رجع، وأفعال الحج تقع فيها؟ قيل له: إذا فرغ من الأفعال يقال: رجع إلى حالته الأولى من الإحلال.

يبين صحة هذا: أن الرجوع إلى الأهل] غير [مراد بالاتفاق؛ لأنه لو رجع إلى وطنه، ولم يطف لم يجز الصوم، ولابد من اعتبار الرجوع الذي نقوله نحن. فإن قيل: قوله: {فِي الحَجِّ} معناه: في وقت الحج؛ لأن] في [من حروف الظرف، والفعل لا يكون ظرفاً للفعل، وإنما يكون الوقت ظرفاً له، فيصير تقديره كأنه قال: فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج، فإذا جعلنا قوله: {إذَا رَجَعْتُمْ} تقديره: إذا رجعتم من الحج، صار كأنه قال: إذا رجعتم من وقت الحج، والرجوع من وقت الحج لا يصح، وإذا بطل أن يكون تقدير الآية ما ذكرتم، ثبت أن تقديرها: إذا رجعتم إلى الوطن. قيل له: في الآية إضمار، فيجب أن يكون المضمر ما تقدم ذكره، وهو الحج، فيصير كأنه قال: فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم من الحج، ولو قال ذلك، ثم قامت الدلالة على أن المراد بالأول وقت الحج، لم يجب حمل الثاني عليه، بل يجب حمله على فعل الحج، ألا ترى أن قيام الدلالة على أن المراد بقوله: {فِي الحَجِّ} وقت الحج، لم يجوب أن يكون المراد بقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ}] البقرة:196 [وقت الحج؟ على أن الرجوع عن أفعال الحج مراد بالإجماع، لأنه لو رجع إلى الوطن قبل الرجوع من الحج لم يجز له أن يصوم. والقياس أنه متمتع صام بعد الفراغ من المناسك في وقت يصح

فيه الصوم، فيجب أن يجزئه إذا لم يكن معه هدي، كما لو رجع إلى الوطن، أو استوطن بمكة، ولم يرجع إلى أهله، جاز أن يؤديه إذا لم يستوطن. دليله: سائر الصيام. ولأن من لزمه صوم جاز له أن يؤديه بعد عوده إلى وطنه، وبعد حصوله إلى أهله، جاز أن يؤديه قبل ذلك. دليله: صوم رمضان وقضاؤه ونحوهما. ولا يلزم عليه إذا قال: إذا رجعت إلى أهلي ووطني، وتخلصت من سفري، فعلي صوم عشرة أيام، أن له أن يؤديه بعد عوده إلى وطنه، وليس له أن يؤديه قبل ذلك؛ لأن لزومه يتعلق بشرط العود إلى الوطن، فما لم يوجد الشرط لم يلزمه، فلا يجزئه عن الواجب، وأما صوم السبعة أيام فقد لزم المتمتع قبل عوده إلى الوطن. فإن قيل: صوم السبعة لا يجب إلا بعد الرجوع، وإن حصوله في أهله شرط في وجوبه. قيل له: فيجب أن لا يلزمه إذا استوطن في مكة لعدم الشرط. فإن قيل: إذا استوطن في مكة فقد حصل في وطنه وأهله، فوجد الشرط. قيل له: لو كان كذلك، لوجب إذا قال: إن عدت إلى وطني، وحصلت في أهلي، فعلي أن أصوم عشرة أيام، فاستوطن مكة، أن

يلزمه، كما قلت في مسألتنا، ولا خلاف أنه لا يلزمه، فبطل ما ذكرت. واحتج المخالف بما روى عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال: "فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذ رجع إلى أهله". وروى ابن جريج، عن عطاء، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن ساق الهدى فليذبح، ومن لم يسق الهدي فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله". والجواب: أنه يحتمل أن يريد به: إذا ابتدأ بالرجوع إلى أهله، وهذا يكون بعد الفراغ من الحج، وقد يسمى ذلك راجعاً، كما يقال: خرج فلان إلى مكة، وخرج إلى خراسان، وإن كان في الطريق، كذلك هاهنا. واحتج بأنه متمتع صام السبع قبل الرجوع إلى وطنه، فوجب أن لا يعتد به، كما لو صام قبل الفراغ من الرمي. والجواب: أن صومه قبل الرمي يحصل في يوم النحر وأيام التشريق، فلهذا لم يجز، ألا ترى أنه لو لم يرم حتى مضت أيام التشريق جاز له أن يصوم، وإن لم يرجع إلى أهله؛ لأن الرمي قد سقط، فلا

مسألة يستحب للمتمتع أن يصوم قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة

يحصل صومه في أيام التشريق؟ واحتج بأنه الله - تعالى - لما أمر بصوم رمضان وضعه عن المسافر تخفيفاً عنه، فلا يجوز أن نبتدئ بإيجابه عليه في حال سفره. والجواب: أن هذا باطل بصوم ثلاثة أيام. على أن نبيح له جواز تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله، كما نبيح للمسافر تأخير صوم رمضان، ونجيز فعله في حال سفره، كما نجيز صوم رمضان. واحتج بأنه إنما فرق بين صوم ثلاثة أيام، وبين صوم سبعة أيام رفقاً به، ومن الرفق أن لا يؤمر بالسبعة إلا بعد الرجوع إلى الأهل والاستقرار في الوطن. والجواب: أنا في بينا: أن له تأخيره إلى وقت الرجوع، وإنما خلافنا في جوازه في حال سفره، فقلنا: يجوز، وقال مخالفنا: لا يجوز. 54 - مسألة يستحب للمتمتع أن يصوم قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة: نص عليه في رواية الأثرم، وأبي طالب.

وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يستحب أن يكون آخر الصيام يوم التروية. دليلنا: يوم عرفة أفصل، ولم ينه عن الصوم فيه، وكان أولى بالصيام الواجب. ولأن يوم السادس لا يسن الخروج إلى منى فيما يليه، فلم يستحب فيه ابتداء صوم الثلاثة. أصله: ما قبله. فإن قيل: أليس قد قلتم: لا يستحب أن يتطوع بصوم هذا اليوم؛ لأنه يضعفه عن الدعاء؟ كذلك في صوم التمتع. قيل: لا يمتنع أن نقول هذا في التطوع، ولا نقولـ]ـه [في الواجب، كصيام يوم الشك ويوم الجمعة، فيكره التطوع فيه، ولا يكره القضاء فيه. واحتج بما روى الأثرم بإسناده، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم عرفة بعرفات. والجواب: أنه محمول على التطوع، بدليل ما روى الأثرم بإسناده عن عائشة قالت: الصيام لم تمتع ولم يجد الهدي: ما بين أن يهل إلى

مسألة في المتمتع إذا دخل في الصوم، ثم وجد الهدي في صيامه، أجزأه المضي فيه

يوم عرفة، و [إن] لم يصم، صام أيام منى. 55 - مسألة في المتمتع إذا دخل في الصوم، ثم وجد الهدي في صيامه، أجزأه المضي فيه: نص عليه في رواية حنبل في المتمتع إذا صام أياماً، ثم أيسر: أرجو أن يجزئه الصيام، ويمضي فيه. وكذلك نقل ابن منصور في متمتع لم يجد ما يذبح فصام، ثم وجد يوم النحر ما يذبح: فمتى دخل في الصوم فليس عليه. ويقول في الكفارات كلها: إذا دخل في الصوم يمضي فيه، وكذلك إذا تيمم ثم دخل في الصلاة فليمض. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبي حنيفة: إن وجده في صوم السبعة أجزاه، ولم يلزمه الهدي، وإن وجده في صوم الثلاثة لم يجزه الصوم، ويلزمه الهدي، وكذلك إن وجده بعد الفراغ من صومه ثلاثة أيام، وقبل الإحلال، لم يجزه إلا الهدي، وإن حل ثم وجد الهدي أجزاه الصوم. وفرق بين الثلاثة وبين السبعة بأن الثلاثة بدل عن الهدي، فبطل

حكمها بوجود المبدل، والسبعة ليس ببدل عنه، وعلى قولنا الجميع بدل عن الهدي. والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما: في صوم السبعة؛ هل هو بدل، أم لا؟ والثاني: الإجزاء. فالدلالة على أنها بدل عن الخدي قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}] البقرة:196 [، فمنها دليلان: أحدهما: أنه شرط عدم الهدي في الثلاث، وعطف السبعة عليها، والمعطوف بمنزلة المعطوف عليه، وهما بمنزلة الجملة الواحدة الملفوط بها دفعة واحدة. فإن قيل: قد يتشرط في صحة الشيء عدم غيره، ولا يكون بدلاً عنه، كما يشترط عدم الطول وخوف العنت في نكاح الأمة، وليس ببدل عنه. قيل له: فيجب أن تقول في الثلاث مثل ذلك، وأن الشرط هاهنا لم يفد البدل. على أنا نقول: إن نكاح الأمة بدل من نكاح الحرة. والدلالة الثانية من الآية: أن الله - تعالى - جمع بينهما لإزالة

الإشكال فقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}] البقرة:196 [فدل هذا على أن السبعة تكمل ثواب الصوم؛ لأن البدل ينقص عن ثواب المبدل، وكمل الله - تعالى - الثواب بضم سبعة إلى الثلاث. قالوا: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية المروذي فقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} كملت الهدي. قيل: بل الجمع لإزالة الإشكال؛ لأن الواو قد تكون بمعنى (أو) نحو قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ}] النساء:3 [وتقديره: أو ثلاث، أو رباع، فأزال الإشكال وأخلصها للجمع. ولو كان المراد تكميل الثواب لقال: تلك عشرة مكملة، فلما قال: {كَامِلَةٌ} دل على أن المراد به ما ذكرنا. ولأن عدم الهدي في صوم السبعة، كما هو شرط في الثلاث، وكل صوم لزمه عند عدم الهدي، فوجب أن يكون بدلاً عنه، كصوم الثلاثة. ولأنه صوم لزمه عند عدم حيوان، فوجب لا يكون بدلاً عنه، كالصوم في الكفارات المرتبة. واحتج المخالف بأن صوم ثلاثة أيام جائز في الحج، وصوم سبعة لا يجوز إلا بعد الفراغ منه، فلو كان الجميع بدلاً عن الهدي لكان وجوبه

على وجه واحد، كالصوم في كفارة الإفطار والظهار. ] والجواب: أنه [إنما جاز صوم الثلاثة في الحج؛ لأنه وقته، وذلك أن وقته في الحج، وصوم] السبعة لا يختص وقته في الحج، فيفرق لهذه العلة. وغير ممتنع أن يكون بعض هذه البدل في وقت وبعضه في وقت آخر بخلاف سائر المبدلات، كما كان وقت المبدل - وهو الهدي - في وقت غير وقت البدل -] و [هو الصوم - بخلاف سائر المبدلات. وعلى أن الصوم في كفارة الظهار والفطر حجة لنا؛ لأنه لما وجب عند عدم الرقبة كان جميعه بدلاً، ولم يكون بعضه بدلاً، وبعضه غير بدل، كذلك صوم العشرة لما وجب عند عدم الهدي يجب أن يكون جميعه بدلاً، ولا يكون بعضه بدلاً، وبعضه ليس ببدل. ولأنا وجدنا الجمع والتفريق يجريان في العبادات مجرى واحداً في باب الجواز بدليل قضاء رمضان؛ يجوز الجمع والتفريق فيه، فإذا كان في الأبدال ما يجب جميعه، وهو صوم الظهار والقتل، جاز أن يكون فيها ما يجب تفريقه؛ لأنهما يجريان مجرى واحداً. واحتج بأنه صوم يجوز فعله بعد التحلل، فهو كصوم فدية الأذى،

ولأن وجود الهدي لا يمنع ابتداءه، فلم يكن بدلاً. أصله: ما ذكرنا. والجواب: أنه إنما جاز فعله بعد التحلل لدخول وقته؛ لأنه قبل التحلل لم يدخل وقته، وجاز فعله - أيضاً - مع وجود الهدي؛ لأنه بعض البدل وجد البدل في أثنائه. وأما فدية الأذى، فلم يشترط في جوازها عند عدم الهدي، فلهذا لم تكون بدلاً عنه، وهذا بخلافه. واحتج بأن الهدي مشروط لإباحة الإحلال؛ لأن المتمتع إذا كان معه هدي لا يجوز له أن يحل حتى يذبحه، ومتى حل قبله لزمه دم، وإذا لم يكن معه هدي لزمه أن يقيم الصوم مقامه، والصوم الذي يقوم مقامه في إباحة الإحلال صوم ثلاثة أيام، فعلمنا أنه هو البدل؛ إذ البدل هو ما يقوم مقام المبدل في حال العجز عنه، ولو كان صوم سبعة أيام بدلاً عنه لما جاز التحلل إلا بعد وجوده، كما لا يجوز إلا بعد وجود صوم ثلاثة أيام في حال عدم الهدي. والجواب: أن صوم الثلاثة إنما جاز عند عدم الهدي؛ لأنه وقت له؛ لان وقته أن يصوم في الحج، لا لأجل التحلل، وصوم السبعة

لا يختص وقته بالحج، فامتنع أن يكون صوم الثلاثة لأجل التحلل، وإنما كان لما ذكرنا. - فصل: والدلالة على أنه يجزئه الصيام، ولا يلزمه الخروج إلى الهدي: هو أنه وجد الهدي بعد دخوله في الصوم، فوجب ألا يلزمه الانتقال إليه قياساً عليه إذا دخل في صوم السبعة أيام ثم وجده. وقيل: صوم تلبس به لعدم الهدي، فلم يبطل بوجوده كالسبعة. والعبارة الأولى أصح؛ لأن الحكم في الثانية ضد الوصف؛ لأن ما تلبس به للعدم يدل على تأثير الوجود فيه. فإن قيل: المعنى في صوم السبعة: أنه ليس ببدل، وليس كذلك الثلاث؛ لأنها بدل. قيل: قد بينا: أن الجميع بدل، فلا فرق بينهما. واحتج المخالف عليه إذا وجده قبل الفراغ من الصوم: أنه يلزمه؛ لأنه بدل عن الهدي، فإذا قدر على المبدل قبل الفراغ من البدل لزمه أن ينتقل إليه، كالمعتدة بالشهور إذا حاضت، والمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة.

ولا يلزم عليه إذا وجده قبل صوم السبعة؛ لأنه ليس ببدل عن الهدي. والجواب: أنه قوله: وجده قبل الفراغ من الصوم، لا تأثير له عندك؛ لأنه لا فرق بين أن يجده قبل الفراغ من صوم الثلاثة، أو يجده بعد الفراغ منها، وقبل التحلل من إحرام الحج،] فـ[ـإنه ينتقل إلى الهدي، وإذا كان كذلك لم يكن لاعتبار وجود الهدي في البدل تأثير، ووجب إسقاط الوصف. وعلى أن فرقاً بين وجود الماء في الصلاة، أو قبل الدخول فيها، وبين مسألتنا، وذلك أن ظهور المبدل هناك يبطل حكم البدل من أصله؛ لأنه يبطل ما مضى من الصلاة، ويمنع كونها قربة وطاعة، وقبل الصلاة - أيضاً - تبطل حكم التيمم من أصله، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن وجود الهدي لا يوجب بطلان الصوم من أصله، ولا يخرجه عن أن يكون قربة في نفسه، فدل على الفرق بين البدلين. وأما العدة ففرق بينها وبين مسألتنا، وذلك أن الهدي يجوز تركه للمشقة، وهو إذا لم يجده في البلد، وإذا كان له مسكن يمكنه أن يشتري بثمنه هدياً إلا أنه يحتاج إليه، لم يلزمه، وأجزأه الصوم، وليس كذلك العدة بالأقراء؛ فإن المرأة إذا حاضت مرة، ثم ارتفع حيضها، لم يجز لها أن تعتد بالأشهر، بل تتربص حتى يعود الحيض، أو ييأس أضرابها. واحتج بأن ما كان شرطاً في صحة اليوم الأول كان شرطًا في الثاني.

دليله: النية وترك الأكل. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون شرطاً في الأول، ولا يكون شرطاً في الثاني، كما كان شرطاً عندك في الثلاث، ولم يكن شرطاً في السبع. وعلى أنه متى كان الهدي موجوداً في اليوم الأول، فلم يوجد شرطه، وليس كذلك إذا شرع فيه، ثم وجده؛ لأنه وجد شرطه، فهو كما لو وجده في السبع. وعلى أن ترك نية الإمساك في صوم السبعة يمنع الإجزاء، ووجود الهدي فيها لا يمنع. واحتج بالقياس عليه إذا وجده بعد صيام الثلاثة - وقبل الإحلال - بأنه متمتع وجد الهدي قبل الإحلال من الإحرام، فوجب أن ينتقل إليه. دليله: إذا لم يصم ثلاثة أيام. والجواب: أن المعنى ف الأصل: أنه وجده قبل الشروع في الصوم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه وجد] هـ[بعد الشروع فيه، فأشبه إذا وجده بعد الشروع في السبعة. واحتج بأن الهدي مشروط لإباحة الإحلال عندنا وعندكم، والصوم بدل عنه وقائم مقامه، فإذا وجد قبل حصول الإحلال بطل حكم البدل، ووجب الانتقال إلى المبدل، كما تقول: إن الطهارة بالماء تراد لأداء الصلاة، والتيمم بدل عنها، ثم لو وجد الماء قبل الإحلال من الصلاة

مسألة المتمتع الذي يسوق الهدي لا يحل إلا يوم النحر، فإذا كان يوم النحر ذبح وحل، فإذا طاف وسعى لعمرته لم يحل منها، ولكن يحرم بالحج، ثم لا يحل حتى يتحلل منهما معا

بطل حكم البدل، ووجب الانتقال إلى المبدل. والجواب: أن لنا في رؤية الماء في الصلاة روايتان: إحداهما: لا تبطل. فعلى هذا: لا نسلم. والثانية: تبطل. فعلى هذا] نقول [: فرق بينهما، وذلك أن ظهور المبدل هناك يبطل حكم البدل من أصله، وليس كذلك هاهنا؛ لأن ظهور المبدل هاهنا لا يبطل حكم البدل من أصله؛ لأنه صوم صحيح يثاب عليه. وعلى أنا قد بينا أنه ليس بمشروط لإباحة الإحلال، وإنما تأخر فعله لدخول وقته. 56 - مسألة المتمتع الذي يسوق الهدي لا يحل إلا يوم النحر، فإذا كان يوم النحر ذبح وحل، فإذا طاف وسعى لعمرته لم يحل منها، ولكن يحرم بالحج، ثم لا يحل حتى يتحلل منهما معاً: نص عليه في رواية حنبل فقال: إذا قدم في أشهر الحج - وقد ساق

الهدي - فلا يحل حتى بنحر، وإذا قدم في العشر لم يحل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم في العشر، ولم يحل. وظاهر هذا: أنه لا يحل إلى يوم النحر سواء قدم مكة في العشر، أو قبله. وروى أبو طالب عنه في الذي يعتمر قارناً أو متمتعاً، ومعه الهدي: قصر من شعرك، ولا تمس شاربك، ولا أظفارك، ولا لحيتك، كما فعل النبيصلى الله عليه وسلم؛ فإن شاء لم يفعل، وإن شاء أخذ من شعر رأسه، وهو حرام. وظاهر هذا: انه يحل من التقصير فقط، ولا يحل من جميع المحظورات، كما يحل الحاج إذا رمى من بعض المحظورات. وروى يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعاً، وساق الهدي: فإن قدم في شوال نحر الهدي وحل، وعليه هدي آخر، وإذا قدم في العشر أقام على إحرامه، ولم يحل، فقيل له: معاوية يقول: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، فقال: إنما حل بمقدار التقصير، ويرجع حراماً مكانه.

وظاهر هذا: أنه إن قدم مكة قبل العشر جاز له أن يتحلل، وينحر الهدي، وإن قدم في العشر لم يحل له التحلل قبل يوم النحر إلا بقدر تقصير الشعر. وهذا يقتضي أن سوق الهدي لا يمنع التحلل عنده، وإنما استحب له المقام على إحرامه إذا دخل في العشر؛ لأنه لا يطول تلبسه بالإحرام، وإذا دخل قبل العشر طال تلبسه به؛ فلا يأمن مواقعة المحظور، فيتحلل. وقال في رواية أبي طالب: إذا كان الهدي نمنعه من التحلل من جميع الأشياء في العشر وغيره. وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي: له أن يحل من العمرة بعد الفراغ منها؛ سواء ساق الهدي، أو لم يسق. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" بإسناده عن ابن عمر قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقتضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر، وليحل، ثم ليهل بالحج". وروى - أيضاً بإسناده عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن

يجعلوها عمرة، ويحلوا إلا من كان معه هدي، وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت". وروى - أيضاً - بإسناده عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أرى إلا أنه الحج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي أن يمضي على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي أن يحل. فإن قيل: لا دلالة في هذه الأخبار على مواضع الخلاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن ساق الهدي أن يفسخ الحج ويجلعها عمرة، ومنع من كان ساق الهدي من فسخه، وأمره بالبقاء على إحرامه إلى يوم النحر، وخلافنا في المتمتع إذا ساق الهدي، وفرغ من أعمال العمرة: هل له أن يحل، أم لا و] ليس [في هذه الأخبار بيان هذا الموضع. قيل له: أما حديث ابن عمر فهو خاص في المتعة. وعلى أن ورود الخبر فيمن كان مهلاً بالحج لا يوجب أن يكون حكمة مقصوراً عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلق الحكم على الإحرام بالحج، وإنما علقه بسوق الهدي وعدمه، فوجب أن يعتبر هذا في كل محرم. وأيضاً هدي المتعة نسك يجب فعله في الإحرام، فوجب أن يكون موقتاً كسائر أفعال المناسك، وإذا ثبت أنه موقت ثبت أنه وقته يوم النحر؛ لأن أحداً لم يوقته بغيره، وإذا صح ذلك لم يجز ذبحه قبل وقته،

وإذا لم يجز ذبحه قبل يوم النحر، لم يجز التحلل من عمرته؛ لأن كل من أباح له الإحلال، أجاز ذبحه قبل يوم النحر. ولأن التمتع أحد نوعي الجمع بي الإحرامين، فجاز أن يقف التحلل منه على يوم النحر، كالقران. فإن قيل: ذكر الجواز في الأصل لا معنى له. قيل له: بل له معنى؛ لأنه يجوز أن يتحلل قبل يوم النحر بالإحصار. واحتج المخالف بأنه متمتع أكمل أعمال عمرته، فجاز له التحلل، كما لو لم يسق. والجواب: أنا لا نسلم أنه أكمل أعمال عمرته؛ لأن الهدي من جملة أعمالها [، وكماله يحصل يوم النحر. وعلى أن المعني في الأصل: أنه لم يسق الهدي، وليس كذلك هاهنا؛ لأن ساق الهدي، ولسوق الهدي تأثير في منع التحلل. الدليل عليه: من كان محرماً في وقت النبي صلى الله عليه وسلم] و [فسخ عليه، فإن سوق الهدي منعه من الفسخ. وعلى أن هذا قياس يعارض السنة الصحيحة، فلا يلزم الكلام عليه.

مسألة حاضرو المسجد الحرام هم أهل الحرم، ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة

واحتج بأن كل من جاز له أن يحل قبل يوم النحر بإنه لا يختلف أن يكون قد ساق الهدي، أو لم يسق، ومن لا يجوز له الإحلال إلى يوم النحر لا يختلف - أيضاً - كالقارن والمفرد إذا لم يحصر، كذلك هاهنا. والجواب: أنا قد بينا: أن لسوق الهدي تأثيراً في منع الفسخ بدليل من كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وفسخ عليه. 57 - مسألة حاضرو المسجد الحرام هم أهل الحرم، ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة: وفائدة هذا: أنهم إذا تمتعوا لا دم عليهم. نص عليه في رواية أبي طالب في من كان حول مكة فيما لا تقصر فيه الصلاة، فهو مثل أهل مكة ليس عليهم عمرة ولا متعة إذا قدموا في أشهر الحج، ومن كان منزله فيما تقصر فيه الصلاة، فعليه المتعة إذا قدم في أشهر الحج، وأقام إلى الحج. وكذلك نقل المروذي فقال: إذا كان منزله دون الميقات بما لا تقصر فيه الصلاة فهو من أهل مكة. وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: حاضروا المسجد الحرام هم أهل المواقيت ومن دونها إلى أهل مكة. وقال مالك: هم أهل مكة نفسها. فالدلالة على أبي حنيفة: أن بينه وبين مكة مسافة تقصر في مثلها الصلاة، فأشبه إذا كان منزله وراء المواقيت إلينا أن يلزمه دم المتعة، وهذه العلة تصور في ذي الحليفة وما بعد من المواقيت التي بينها وبين الحرم أكثر من ستة عشر فرسخاً؛ لأن بين مكة وبين ذي الحليفة عشر مراحل، وهي أبعد المواقيت، ولأن القريب أولى باسم الحضور من البعيد. وعلى قولهم يؤدي أن يخرج القريب من الاسم، ويدخل البعيد فيه؛ لأن عندهم أن أهل ذي الحليفة ومن كان دونها داخل في اسم الحاضرين، وبينهم وبين البيت مسيرة ليلتين. ولأن من كان على مسافة لا يقصر فيها الصلاة فهو في حكم الحاضر بدليل أنه يمسح مسح مقيم، ويتم الصلاة، ويصوم، ومن كان على مسافة بعيدة فإنه يباح له هذه الأشياء، فيجب أن لا يكون حاضراً. فإن قيل: فائدة الخلاف في أنه حاضر أم لا: أن يتعلق به حكم الإحرام المخصوص، وهو أن يحرم للعمرة من الميقات، وللحج من

مكة، فيجب أن يعتبر الموضع الذي هو ميقات للإحرام. قيل له: لو كان صحيحاً لوجب أن نقول: من كان منزله دون ذي الحليفة فما يلي مكة أن لا يكون من حاضري المسجد؛ لأن إحرامه من دويرة أهله، لا من الميقات الشرعي، ولما كان هذا من حاضري المسجد الحرام بطل أن تكون فائدة الخلاف ما ذكرته. واحتج المخالف بأنه من أهل الميقات، فوجب أن يكون من حاضري المسجد الحرام قياساً على أهل الميقات الذي بينه وبين مكة مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة مثل قرن. والجواب: أن المعنى هناك: أنه في حكم الحاضر بدليل أن أحكام الحاضرين ثابتة في حقه من الصوم، وإتمام الصلاة، ومسح يوم، وليس كذلك ما اختلقنا فيه، ولأنه في حكم المسافرين، ولأن ذلك لا يؤدي إلى إخراج القريب من اسم حاضر، وإدخال البعيد فيه، وهاهنا يؤدي، فبان الفرق بينهما. واحتج بأن له دخول مكة بغير إحرام، أشبه من كانت قريته قريبة من مكة مثل بستان بني عامر. والجواب: أنه لا يجوز له الدخول بغير إحرام، وحكمه حكم الخارج عن الميقات سواء، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي: لا يعجبني أن يدخل مكة تاجراً، ولا غير تاجر إلا بإحرام. ثم المعني في الأصل: ما تقدم من أنه في حكم الحاضر من

الوجه الذي ذكرنا. واحتج بأن من كان وراء المواقيت إلينا فليس من الحاضرين، فلابد من حد فاصل بينهما، فالأولى أن يكون الحد ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً لأهله ولمن مر عليه، ومنع أهل الآفاق من مجاوزته إلا بإحرام، وجعل حكم أهله حكم أهل الحرم ومن قرب منهم في جوازه دخولهم مكة بغير إحرام. والجواب: أن المواقيت مضروبة للإحرام، لا لبيان القرب والبعد، وإنما الحد المشروع لبيان البعد والقرب ستة عشر فرسخاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل مكة! لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان"، وذلك ستة عشر فرسخاً. فإن قيل:] من في [المواقيت في حكم الحاضرين بدليل أن له دخول مكة بغير إحرام. قيل له: قد بينا أنه ليس له ذلك. وعلى أنه لو كان منه لما جاز أن يدخل الميقات إلا بإحرام، كما لا يجوز له العبور إلا بإحرام. فإن قيل: حدنا أولى؛ لأنه منصوص عليه.

قيل له: [إنا] قد بينا: أن النص أفاد الإحرام منه، ولم يفد القرب والبعد. وعلى ان حدنا أولى من وجهين: أحدهما: أنه لا يختلف باختلاف الجهات من مكة، وحدهم يختلف؛ لأن المواقيت بعضها أبعد من بعض. والثاني: ما كان في الموضع الذي نعتبره، فهو في حكم المقيم بمكة بدليل أنه لا يترخص برخص المسافرين، وحدهم بخلاف ذلك. - فصل: والدلالة على مالك: أن من كان خارج الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فهو في حكم المقيم بدلالة أنه لا يترخص برخص السفر، فوجب أن يكون من حاضري المسجد الحرام، كمن كان مقيماً بمكة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ}] البقرة:196 [، وحاضر الشيء من لا يحتاج إلى تكلف] للوصول [إليه، وقطع مسافة للحضور فيه، وذلك مقصور على أهل مكة فقط. والجواب: أن حاضر الشيء هو من كان قريباً منه، أو مجاوراً

مسألة إذا جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم، ثم عاد إلى ميقات، لم يسقط عنه الدم؛ لبي أو لم يلب

له، أو كان حالاً فيه، كما يقال: كنت بحضرة فلان؛ يعني: كنت بقربه، لا أني جلست في مجلسه، كذلك أيضاً من كان قريباً من الحرم وجب أن يكون من حاضريه. واحتج بأن من ليس بمكة لا يوصف بأنه من حاضري المسجد الحرام. دليله: إذا كان منها على مسافة تقصر فيها الصلاة. والجواب: أن أحكام المسافرين ثابتة في حقه، فهذا لم يكون من حاضريه، وليس كذلك هاهنا؛ لأن أحكام الحضر ثابتة في حقه، فجاز أن يكون من حاضريه. 58 - مسألة إذا جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم، ثم عاد إلى ميقات، لم يسقط عنه الدم؛ لبي أو لم يلب: ذكره الخرقي في "مختصره"، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: إن عاد إلى الميقات ملبياً سقط الدم، وإن لم يعد ملبياً لم يسقط. وقال الشافعي: يسقط في الحالين إذا عاد قبل أن يطوف.

دليلنا: أنه ترفه لو استدامه لوجب الدم، فإذا قطعه لم يسقط الدم. دليله: إذا تطيب، أو لبس، ثم غسل الطيب، وخلع اللباس بعد ذلك، فإنه يلزمه الدم، كما لو استدامه، كذلك هاهنا، لو استدام المضي على إحرامه، ولم يرجع، لزمه، كذلك إذا رجع. فإن قيل: إنما لزم الدم؛ لأنه حصل له هناك الاستمتاع بالطيب، ولبس الثوب، ونزعه وغسله لا يزيلان ذلك، وإنما يقطعان الاستمتاع في الحال، فلزمته الفدية لأجل ما حصل له، وفي مسألتنا إذا عاد لزمته مشقة في العود مقابل ما حصل له من الترفه. قيل له: فيجب إذا رجع ولم يلب - أو رجع بعدما طاف - أن يسقط عنه أيضاً للمعنى الذي ذكرته. وعلى أنه لا فرق بينهما، وذلك أنه لما حصل في الميقات، لزمه الإحرام منه، ولم يجز له مجاوزته محلاً، فإذا جاوزه محلاً فقد ترفه بترك الإحرام في ذلك الزمان، فإذا عاد إليه محرماً فلم يزل ذلك الترفه في الزمان الماضي، وإنما حصل منه الرجوع بأحرام في الزمان الثاني. ولأن كل دم استقر عليه إذا تلبس بالطواف، أو لم يأت بالتلبية، استقر عليه قبل التلبس به وبعد التلبية. دليله: سائر الدماء المواجبة بقتل الصيد، والحلاق، وتقليم الأظفار، ونحو ذلك. ولأنه مريد للنسك مر على الميقات محلاً، وأحرم دونه، لزمه الدم.

دليله: إذا لم يعد، أو عاد ولم يلب، أو عاد بعدما طاف. وقولنا: (مريد للنسك) احتراز من الحطابة والحشاشة. وقولنا: (أحرم دونه) احتراز منه إذا رجع قبل الإحرام فما بعد. فإن قيل: إنما لزمه الدم إذا لم يعد؛ لأنه لم يحصل في الميقات محرماً، وهاهنا قد حصل. قيل له: فإذا عاد بعدما طاف، أو عاد ولم يلب، فقد حصل في الميقات محرماً وعليه الدم. فإن قيل: إنما لم يسقط عنه الدن إذا عاد يلبـ]ـي [؛ لأن المتروك في الميقات هو التلبية، فإذا لم يأت بها في الميقات، فلم يأت بالمتروك، فلهذا وجب عليه الدم، وإذا لبى فقد أتى بالمتروك، فلهذا سقط الدم. قيل له: لا نسلم أن التلبية يلزمه الإتيان بها في الميقات، وإنما يستحب ذلك، ولهذا نقول: ينعقد الإحرام بمجرد النية. فإن قيل: إذا عاد بعدما طاف فلم يأت بالنسك بإحرام كامل، فلهذا لم يسقط الدم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه متى عاد قبل الطواف فقد أتى بالنسك بإحرام كامل، فلهذا سقط الدم. قيل له: لا نسلم أنه أتى بالنسك بإحرام كامل؛ لأن النقص إذا دخل

على إحرامه بعد مجاوزته [الميقات]، وإحرامه من غيره، وبعوده لا يزول النقص السابق، كما إذا غسل الطيب، وخلع اللباس في الثاني، فإن النقص السابق لا يزول، كذلك هاهنا. ثم هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأنه يقول: هذا الإحرام مراعى؛ فإن عاد إلى الميقات تبيناً أنه وقع تاماً. وقد عاد، فلا يصح قوله: إذا طاف في إحرام ناقص. وعلى أنه كان يجب أن يقول: يسقط الدم لأجل عوده، ويلزمه إعادة الطواف؛ ليأتي به في إحرام كامل. واحتج المخالف بأنه حصل في الميقات محرماً قبل التلبس بشيء من أفعال النسك التي تلي الإحرام، فلم يلزمه دم الميقات، كما لو أنشأ الإحرام من الميقات. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه حصل إحرامه من الميقات، فلهذا لم يلزمه دم للميقات، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه أحرم بعد مجاوزته للميقات، فلزمه دم الميقات، كما لو لم يعد، أو عاد بعدما طاف. واحتج بأنه لو جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم بحجة أو عمرة، ثم جامع فيها، فقضاها، وسقط عنه الدم لترك الميقات، كذلك هاهنا. والجواب: أن في تلك المسألة روايتين: إحداهما - وهي الصحيحة -: أنه لا يسقط، فعلى هذا لا فرق بينهما. والثانية: يسقط، فعلى هذا المعنى فيه: أن الدم قائم مقام النسك

المتروك، [....] وهو الإحرام من الميقات، فإذا قضى ذلك الإحرام من الميقات، فقد فعل المتروك فسقط الدم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه إذا عاد محرماً، فلم يأت بالمتروك، وهو الإحرام في الميقات، فلهذا لم يسقط، فنظيره في مسألتنا أن يعود محلاً، ويحرم من الميقات، فيسقط الدم. واحتج بأن المكي لو ترك الإحرام بالحج من الحرم، وأحرم من الحل، لا دم عليه، كذلك هاهنا. والجواب: أن المعنى هناك: أنه لا يجب عليه الإحرام من الحرم على قولنا، بل هو مخير، ولهذا نقول: لو لم يعد، ومضى إلى عرفات، فلا دم. واحتج [بأنه] لو عاد إلى الميقات محلاً، وأحرم منه، لم يلزمه دم، وعوده هناك حصل بغير نسك، وهاهنا حصل بنسك وعبادة، فلأن لا يلزمه الدم أولى. والجواب: أن هذا موجب أن لا يلزمه الدم إذا عاد بعدما طاف؛ لأنه عاد بنسك، ومع هذا فالدم لازم له. وعلى أنه إذا عاد قبل الإحرام فإنما لم يلزمه الدم؛ لأن إحرامه

حصل من الميقات، فلهذا لم يلزمه دم الميقات، وهاهنا حصل إحرامه بعد الميقات. واحتج بأنه إنما لزمه الدم بترك الإحرام من الميقات، فإذا عاد فقد تلافى ما كان منه، فلم يلزمه دم، كما لو دفع من عرفات قبل المغيب، ثم عاد قبل طلوع الفجر، وكما لو صاد صيداً، ثم أرسله، وكما لو ضرب رأس رجل، فابيضت عيناه، ثم زال البياض، فإنه لا تلزمه الدية. والجواب: أنه لا يمتنع أن يحصل منه التلافي، ومع هذا فلا يسقط عنه الدم، كما لو غسل الطيب، وخلع اللباس، فقد تلافى، ومع هذا لا يسقط عنه الدم، وكذلك إذا أخرج الوديعة من حرزها، ثم ردها إلى الحرز، فقد تلافى، ومع هذا لا يبرأ من ضمانها، وكذلك إذا ترك التشهد الأول، ثم عاد إليه، لم يسقط عنه سجود السهو، كذلك هاهنا. وعلى أن الدم إنما يجب عندنا بترك الإحرام من الميقات، وإيقاعه في غيره، وذلك لا يرتفع بعوده، فلا نسلم أنه تلافى ما كان منه. وعلى أنه إذا رجع إلى عرفات قبل المغيب، فإنما يسقط الدم؛ لأن المأخوذ عليه الجمع بين الليل والنهار، وقد حصل له ذلك. وكذلك إذا أرسل الصيد، فإنما لم يلزمه الضمان؛ لأنه إنما يجب بالإتلاف، وهو غير متلف. وكذلك إذا عاد ضوء عينه لم يلزمه الضمان؛ لأن الإتلاف غير حاصل.

مسألة المكي إذا خرج إلى الحل، فأحرم منه بالحج، لم يلزمه الدم؛ سواء عاد إلى الحرم، أو لم يعد، ومضى على إحرامه إلى عرفة

وليس كذلك هاهنا؛ المأخوذ عليه عقد الأحرام من الميقات، والرجوع إليه لا يقوم مقامة بدليل أنه لو عاد بعدما طاف - أو عاد ولم يلب - لم يسقط. فإن قيل: لا نسلم أن المأخوذ عليه كونه محرماً في الميقات. قيل: يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه المواقيت لمن مر عليها"، ولا يخلو إما أن يفيد ذلك منع التقدم أو التأخر، وأجتمعنا على جواز التقدم، [فـ]ــعلم أنه أفاد منع التأخر. ولأنه لو عاد إلى الميقات بعدما طاف فقد وجب عليه الدم، وإن كان قد حصل محرماً في الميقات. 59 - مسألة المكي إذا خرج إلى الحل، فأحرم منه بالحج، لم يلزمه الدم؛ سواء عاد إلى الحرم، أو لم يعد، ومضى على إحرامه إلى عرفة: نص عليه في رواية ابن منصور: وقد ذكر له قول سفيان: الحرم

ميقات أهل مكة، فمن خرج من الحرم، فلم يهل، أمرته أن يرجع، وأرى عليه - إذا كان ذلك حدهم - ما أرى على غيرهم إذا جاوز الميقات، فقال أحمد: ليس لهم حد محدود، إلا أنه أعجب إلي أن يحرموا من الحرم، إذا توجهوا إلى منى. وكذلك نقل الأثرم في رجل تمتع بعمرة، فحل منها، ثم أقام بمكة، فلما كان يوم الترويح خرج إلى التنعيم، وأحرم بالحج، ثم توجه إلى منى وعرفات، ولم يأت البيت: ليس عليه شيء. وقال أبو حنيفة: إذا لم يعد إلى الحرم، أو عاد إليه، ولم يلب، فعليه دم، وإن عاد إليه ملبياً فلا دم عليه. والحكم عنده في المكي كالحكم في ميقات أهل البلدان. وقال الشافعي: [إذا] لم يعد عليه دم. دليلنا: أن الحج أحد النسكين، فإذا أحرم به المكي من الحل لم يلزمه دم. دليله: العمرة. فإن قيل: المعنى في العمرة: أنه يجب الإحرام لها من الحل، فإذا أحرم به فقد أتى بالواجب، فلهذا لم يلزمه الدم، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الحج يجب الإحرام له من الحرم، فإذا أحرم من الحل - ولم يعد -

فقد أخل بالواجب، فلهذا لزمه الدم. قيل له: لا نسلم أنه يجب الإحرام بالحج من مكة، بل هو مخير بين الإحرام منها، أو من الحل، كما تخير الإنسان أن يحرم من دويرة أهله، وبين أن يحرم من الميقات. ولأنه أخل بالإحرام من مكة فلم يلزمه دم. دليله: غير المكي. ولأنه لو خرج إلى الميقات الشرعي، فأحرم منه، لم يلزمه دم، كذلك إذا أحرم من أدنى الحل؛ لأنه في الموضعين مخل بالإحرام من مكة. واحتج المخالف بأنه أخل بالإحرام من ميقاته، أشبه إذا أخل بالإحرام من ميقات بلده. والجواب: أنا قد بينا: أنه ليس بمحل لإيجاب الإحرام، بل هو مخير بين الإحرام منه، أو من غيره، كما هو مخير في دويرة أهله. على أن هذا يبطل به إذا [....].

مسألة إذا جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم بحجة أو عمرة، ثم جامع فيها، فعليه قضاؤها، فإن قضاها لم يسقط عنه الدم لترك الميقات في أصح الروايتين

60 - مسألة إذا جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم بحجة أو عمرة، ثم جامع فيها، فعليه قضاؤها، فإن قضاها لم يسقط عنه الدم لترك الميقات في أصح الروايتين: نص عليه في رواية ابن منصور: وقد ذكر له قول سفيان في رجل جاوز الميقات، فأهل، ثم جامع: فعليه أن يحج من قابل، وعليه بدنة، وليس عليه دم لتركه الميقات. قال أحمد: عليه دم لتركه الميقات، ويمضي في حجته، ويصنع ما يصنع الحاج، ويلزمه ما يلزم المحرم في كل ما أتى؛ لأن الإحرام قائم، وعليه الحج من قابل والهدي. وفيه رواية أخرى: يسقط عنه الدم. نص عليه في رواية مهنا في رجل جاوز الميقات إلى مكة، ثم أحرم بعمرة، فأفسدها: عليه قضا [ؤ] ها؛ يرجع إلى الميقات يحرم منه، فسئل: فلا يكون عليه شيء لتركه الميقات أول مرة؟ قال: لا. وبه قال أبو حنيفة. ووجه الأولى: أن من أصلنا: أن الدم الواجب بترك الإحرام من الميقات لم يسقط عنه أداء، كذلك إذا قضى الإحرام من الميقات لم يسقط عنه.

وكل دم لم يسقط عنه إذا لم يوجد القضاء، لم يسقط عنه إن وجد القضاء. دليله: الدم الواجب باللباس والطيب وقتل الصيد في الإحرام الفاسد. واحتج المخالف بأن الدم قائم مقام النسك المتروك، وهو الإحرام من الميقات، فقد فعل المتروك، فسقط عنه الدم، ألا ترى أنه لو لم يفسد الإحرام حتى عاد إلى الميقات سقط عنه الدم؟ ولا يلزم عليه إذا تطيب في الإحرام الفاسد أو لبس، ثم قضى: أنه لا يسقط عنه الدم؛ لأن الدم هاهنا ليس بقائم مقام نسك متروك، وإنما هو واجب لأجل الجناية، وتلك الجناية لم ترتفع، فلا يسقط عنه الدم. ولا يلزم عليه إذا ترك رمي الجمار في الإحرام الفاسد، أو الوقوف بالمزدلفة، ثم قضى ذلك الإحرام، فإنه يسقط عنه الدم كما يسقط في مسألتنا. والجواب: أنا لا نسلم أنه إذا قضى الإحرام من الميقات، فقد فعل المتروك؛ لأنا قد بينا من أصلنا: أنه لو عاد، ولم يفسد الحج، لم يسقط عنه الدم.

مسألة يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب لإحرامه

61 - مسألة يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب لإحرامه: ص عليه في رواية حنبل وعبد الله، فقال: لا بأس أن يتطيب قبل أن يحرم. وذهب فيه إلى الحديث. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يجوز، فإن فعله غسله واستدامه، ولا كفارة عليه. دليلنا: ما روى ابن بطة في "سننه" بإسناده عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين [لـ] إحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وروي - أيضاً بإسناده عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتطيب بالطيب عند الإحرام. وروى بإسناده عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. وقال مرة أخرى: وهو يلبي. وروي في لفظ آخر عن مسروق، عن عائشة قالت: لقد رأيت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي، وإني لأنظر إلى ويبص المسك في مفارقه. وروى أبو بكر الخلال في "العلل" بإسناده عن ابن عباس: أنه سئل عن الطيب قبل الإحرام، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك قبل أن يحرم، أو طيب ذلك؟!. فإن قيل: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بذلك، ولهذا قال: "حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب ... ". قيل له: فقد قال: "خذوا عني مناسككم"، وهذا يقتضي مساواته. فإن قيل: يحتمل أن يكون تطيب قبل الغسل، ثم اغتسل للإحرام، فزال ريحه، وبقي أثره، وقد روت عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاف على نسائه. ومعلوم أنه يغتسل بعد ذلك. قيل له: قولها: (عند الإحرام) يقتضي معه. ولأن العادة أن الطيب يكون بعد الغسل، ولأن وبيص الطيب

لا يبقى بعد الغسل، ولأن الطيب معنى يراد به للاستدامة والبقاء، فإذا منع المحرم [من] ابتدائه لم يمنع من استدامته كالنكاح، وعكسه اللباس؛ لأنه لا يراد للاستدامة. واحتج المخالف بما روى صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة إذ أتاه أعرابي، وعليه جبة عليها ردع من خلوق، فقال: يا رسول الله! أحرمت بالعمرة، وعلي هذه، فما أصنع؟ قال: "انزع الجبة، واغسل الصفرة". والجواب: أنه إنما أمره بغسل ذلك؛ لأنه كان عليه الزعفران، والرجل منهي عن المزعفر. وعلى أن هذا المنسوخ؛ لأنه كان بالجعرانة، والنبي صلى الله عليه وسلم تطيب لإحرامه في حجة الوداع. واحتج بما روي عن عمر: أنه أنكر على معاوية حيث رأى عليه ثوباً مطيباً. والجواب: أنه إنما أنكر عليه خوفاً أن يراه الجاهل، ويظن أنه ابتدأ الطيب في إحرامه. على أن هذا مذهب لعمر، وقد خالفه ابن الزبير، وابن عباس، وعائشة، ومعاوية، وأم حبيبة، وسعد بن أبي وقاص.

مسألة إذا أحرم بنسك، ثم نسي ما أحرم به، فهو مخير؛ إن شاء صيره حجا، وإن شاء صيره عمرة

ذكره أبو بكر الخلال في كتاب "العلل". واحتج بأن الطيب معنى يراد للترفه، فإذا منع المحرم من ابتدائه، منع من استدامته، كاللباس. والجواب: أن اللباس لا يراد للاستدامة والبقاء، وإنما يراد للترفه والنزع، والطيب يراد للاستدامة والبقاء، فهو كالنكاح. واحتج بأنه طيب فمنع من استدامته، كالطيب الذي له أثر. والجواب: أن الأثرم ذكر في "مختصر الحج": تطيب بأي طيب الرجال شئت مثل الذريرة والمسك والعنبر والعود. وهذا يدل على جواز ذلك، فلا نسلم الأصل. واحتج بأنه إنما منع من الطيب في الإحرام؛ لئلا يدعوه ذلك إلى الوطء، وهذا موجود في استدامة الطيب. والجواب: أنه منع المحرم من عقد النكاح؛ لئلا تدعوه نفسه إلى الوطء، ثم لا يمنع من استدامته. 62 - مسألة إذا أحرم بنسك، ثم نسي ما أحرم به، فهو مخير؛ إن شاء صيره حجاً، وإن شاء صيره عمرة: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: وقد ذكر له قول سفيان في

رجل أهل لا يدري بحج أو عمرة، فأوجب عليه أن يجمعهما، قال أحمد: أنا أقول: إن كان أهل بحج، فشاء أن يجعله عمرة فعل، وإن كان أهل بحج وعمرة، ولم يسق، وشاء أن يجعلهما عمرة فعل. وظاهر هذا أنه لا يتعين عليه صرفه إلى القران، ولا إلى الحج. وكذلك نقل أبو داود عنه في رجل لبى، فنسي؛ لا يدري بحج أو عمرة: يجعلهما عمرة، ثم يلبي من مكة. وللشافعي قولان: أحدهما: يصير قارناً. والثاني: يجتهد، ويعمل على حسب ما يؤديه اجتهاده إليه. والدلالة على أنه لا يلزمه صرفه إلى القران، ولا إلى الحج: هو أن براءة ذمته عن كل واحد، فلم يجب إلزامه ذلك بالنسك. ولأنه لو نذر الإحرام بنسك، وشك، فلم يدر الحج أو القران أو العمرة، [لا] يلزمه إلا العمرة؛ لأنها في اليقين، وما زاد عليها محتمل، كذلك هاهنا. وتحريره: أن الإحرام سبب يلزم به فعل العبادة كالنذر، ثم ثبت أنه لو شك في النذر لم تلزمه إلا عمرة، ولم يلزمه التحري، كذلك في الإحرام.

ولأنه لو أحرم إحراماً مطلقاً صح، وكان لو صرفه إلى أحد النسكين. نص عليه في رواية مهنا في من أحرم، ولم ينو حجاً ولا عمرة حتى مضت أيام، قال: يقدم مكة بعمرة، ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يلحق أو يقصر، ثم يحرم بالحج، كذلك هاهنا. واحتج لقوله: (إنه يصير قارناً) [بـ]ـأنه تيقن الدخول في العبادة، فيجب أن لا يخرج منها إلا بيقين، كما لو نسي صلاة من يوم لا يعرفها، فإنه تلزمه صلاة يوم كامل، كذلك هاهنا. والجواب: أنه يبطل بمن نذر الإحرام بنسك، وشك، فإنه لا يلزمه إلا العمرة، وإن كان تيقن شغل ذمته بالنسك. ولأنه يقابل هذا اليقين مثله، وهو أن الأصل براءة ذمته، فلم يجز شغلها بالقران إلا بيقين. ولأنه يبطل بمن تيقن الطلاق، وشك في عدده، فإنه تيقن الطلاق، ومع هذا فلا تلزمه الثلاث. واحتج لقوله بالاجتهاد بأنه بالاجتهاد يمكنه التوصل إلى غير ما أحرم به، فجاز ذلك كما لو شاك في عين القبلة. والجواب: أنه باطل على أصله بالمصلي إذا شك في عدد الركعات، فإنه لا يجتهد في ذلك، وإن كان يتوصل به إلى معرفة ذلك، وكذلك

مسألة لا يجوز للمحرمة لبس القفازين

إذا شك في عدد الطلاق. وعلى أنه قد قيل: إن القبلة [مما] لا يتعلق بفعله، [فـ]ـيجوز أن يجتهد فيه، كالوقت لما لم يتعلق [بـ]ـــفعله اجتهد فيه، وهذا شك لحقه في فعله، فلم يجتهد فيه، كالحاكم إذا وجد في ديوانه حكماً حكم فيه، فلا يجوز العمل به إلا بعد أن يتيقنه، [و] كالمصلي إذا شك في عدد الركعات. ولأن القبلة عليها علامات ودلائل يمكن التوصل بها إلى معرفتها. 63 - مسألة لا يجوز للمحرمة لبس القفازين: نص عليه في رواية ابن منصور، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: لها ذلك. وللشافعي قولان: أحدهما: هو مثل قولنا. والثاني: مثل قول أبي حنيفة. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي النساء في الإحرام عن القفاز،

والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب. وروى ابن المنذر عن الليث بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين". وهذا نهي، والنهي يدل على التحريم. فإن قيل: هذه الأخبار غير مشهورة، ولا نعرفها. قيل له: حديث ابن عمر مشهور رواه أحمد في "مسنده" وأبو داود، وحديث الليث رواه ابن المنذر. فإن قيل: يحمل النهي على التنزيه دون التحريم. قيل له: لا يمكن ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالنهي عن القفازين، ثم عطف النقاب وما مسه الورس والزعفران، والنهي عن النقاب والورس نهي تحريم، كذلك القفازان المعطوف عليهما. ولأنهما إذا لم يحرما عليها لم يكره ذلك، كما لا يكره لبس المخيط والخفين. والقياس: انه عضو يلحقه حكم التيمم، أو يباح لمن أراد نكاحها رؤيته، فوجب أن يتعلق به حكم الإحرام في اللباس، كالوجه.

فإن قيل: لو كان حكم الكفين حكم الوجه في تعلق الإحرام لوجب عليها كشفهما، كما يجب عليها كشف الوجه، ولوجب إذا غطتهما بكمها أن لا تلزمها الفدية، كما [لا] تلزمها إذا غطت وجهها بكمها. قيل له: ليس إذا جاز لها تغطيتهما بكميها يجب أن يجوز بالقفازين المخيطين على قدر الكفين، كما يجوز للمحرم تغطية قدميه بإزاره، ولا يجوز له تغطية قدميه بالخفين المعمولين على قدر الرجلين. ولأن الرجل لما لزمه كشف عضو، وهو الرأس، تعلق الإحرام بغير ذلك العضو، فمنع من لبس المخيط في جميع بدنه، كذلك المرأة لما لزمها كشف عضو، وهو الوجه، وجب أن يتعلق حكم الإحرام بغير ذلك العضو، وليس ذلك إلا اليدين. وإن شئت قلت: شخص محرم بالنسك، فلا يجوز له لبس القفازين من غير عذر. دليله: الرجل. فإن قيل: لو كانت بمنزلة الرجل في تحريم المخيط لوجب أن يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخفين كالرجل، فلما اتفقنا على أنه لا يحرم عليها لبس هذه الأشياء، فتخالف الرجل كذلك في القفازين. قيل له: كفا المرأة بمنزلة كفي الرجل؛ لأنهما ليستا بعورة منهما

عند المخالف، وعندنا على أحدى الروايتين، فلما حرم على الرجل ليس القفازين وجب أن يحرم على المرأة، وليس كذلك سائر بدنها، فإنه مخالف لبدن الرجل؛ فإن بدنها عورة، وبدن الرجل ليس بعورة، فجاز لها ان تستر بدنها بكل ما يستره من مخيط وغيره، ولا يجوز ذلك للرجل بالمخيط. فإن قيل: لو كان كذلك لم يجز لها أن تغطي كفيها بكميها كما لا يجوز للرجل. قيل له: الرجل يحرم عليه لبس القميص، فكيف يستر كفيه بكمية؟ والمرأة يباح لها لبس القميص للعلة التي ذكرنا، ويشق عليها مع لبس القميص أن تحترز من الكمين، فرخص لها في ذلك. فإن قيل: ما بين سرته وركبته عورة، فكان يجب أن يجوز له لبس السراويل، كما يجوز للمرأة. قيل له: لا يمكنه لبس السراويل إلا بأن تستر قدميه وساقيه بالسراويل، وذلك ليس بعورة منه، فمنع من ذلك. واحتج المخالف بأن كل حالة جاز لها أن تلبس فيها الخفين جاز لها أن تلبس فيهـ[ــا] القفازين. دليله: بعد رمي الجمرة، وإذا كانت حلالاً. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار ما بعد الرمي وإذا كانت حلالاً بحالة

مسألة إذا لم يجد المحرم الإزار لبس السراويل، ولا فداء عليه

الإحرام بدليل أنه يجوز لها في تلك الحال أن تغطي وجهها، كذلك لا يمتنع أن يكون ذلك في اليدين في تلك الحال، ولا يجوز في حال الإحرام. واحتج بأنه معمول على قدر العضو، فلا يحرم على المحرمة لبسه. دليله: الخف. والجواب: أن قدمها عورة عندنا، وإذا ظهر منها بطلت صلاتها، فلهذا جاز لها تغطيته بكل شيء، كسائر بدنها، وليس كذلك الكفان؛ فإنه ليس بعورة عندهم، وعندنا في إحدى الروايتين محرم عليها فيها ما يحرم على الرجل في كفيه. وإن شئت قلت: القدمان لا يتعلق بهما حكم التيمم، والكفان يتعلق بهما حكم التيمم، أشبه الوجه. 64 - مسألة إذا لم يجد المحرم الإزار لبس السراويل، ولا فداء عليه: نص عليه في رواية بكر بن محمد: وذكر له: إذا لم يجد إزاراً يلبس السراويل، قال: أذهب إليه. وفي رواية مهنا - أيضاً - وقد حكي له أنه ناظر بعض أصحاب الشافعي في قطع الخفين، وإن سبيل السراويل وسبيل الخف واحد،

فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن ما احتججت عليه. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن لبس سراويل وجبت الفدية. واختلف أصحاب أبي حنيفة: هل يجوز له لبسه؟ فقال الطحاوي: لا يجوز له لبسه حتى يفتقه. وقال الرازي: يجوز له لبسه، ويفتدي، وبه قال أصحاب مالك. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" بإسناده عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب - يقول: "من لم يجد إزاراً، ووجد سراويل، فليلبسها، ومن لم يجد نعلين، ووجد خفين، فليلبسهما" قلت: ولم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا. ورواه أبو بكر النجاد بإسناده عن جابر بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خطب بعرفات، فقال: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً، فليلبس سراويل".

وروى النجاد بإسناده عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً، فليلبس سراويل". وروى النجاد بإسناده عن بكر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاةً، فلما انصرف لبى، ولبى القوم، وفي القوم رجل أعرابي عليه سرا [و] يل، فلبا معهم كما لبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السراويل إزار من لا إزار له، والخفان نعلا من لا نعل له". فأجاز لبس السراويل إذا لم يجد إزاراً، وإذا ثبت جواز لبسه، ثبت أنه لا فدية فيه؛ لأن أحداً لا يفرق بين الأمرين، ولأن النبي بين حكم اللبس وجوازه، وأعرض عن ذكر الفدية، ولو كانت واجبة لبينها؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك؛ لأن من جهل جواز اللبس كان بأن يجهل وجوب الفدية أولى. فإن قيل: قوله: "فليلبس سراويل"؛ يعني به: بعدما يفتقه، كما

قال: "فليلبس خفين" وأراد به بعدما يفتقهما أسفل من الكعبين. قيل له: حمله على هذا يبطل فائدة قوله: "فمن لم يجد إزاراً" لأنه إذا فتقه جاز أن يتزر به مع وجود الإزار؛ لأن جواز لبسه بعد فتقه لا يشتبه على أحد، فحمل الخير عليه لا يفيد شيئاً، ولهذا نقول في الخفين ما نقوله في السراويل، والكلام عليه يأتي. فإن قيل: فأكثر ما فيه إباحة لبسه على جهته في حال عدم الإزار، وليس فيه نفي وجوب الفدية، فلا دلالة فيه على موضع الخلاف. قيل [له]: لو كانت واجبة لبينها؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك؛ لأنه إذا كانت إباحته مع الفدية لا يجوز أن يلبس اللبس، ولا يبين ما يجب عليه، ولاسيما وهو بعرفات يخاطب المحرمين الذين يحتاجون إلى معرفة الفدية، كما يحتاجون أن يعلموا إباحة اللبس، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والقياس أنه لبس أباحه الشرع نطقاً، فوجب أن لا تجب به الفدية. دليله: لبس الإزار والنعلين. ولا يلزم عليه لبس القميص والبرنس لشدة حر أو برد أنه مباح، وتجب الفدية؛ لأن إباحته باجتهاد، لا من جهة النطق. واحتج المخالف بما روى ابن عمر: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبسه المحرم: فقال: "لا يلبس المحرم القميص، ولا السَّراويلات،

ولا العمائم، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين"، فنهى عن السراويل نهياً عاماً. والجواب: أن هذا محمول عليه إذا كان واجداً للإزار بدليل حديث ابن عباس. واحتج بأنه لو لبسه مع وجود الإزار لزم دم، كذلك إذا لبسه مع عدمه كالقميص. والجواب: أن هذا موضوع فاسد؛ لأنه لا يجوز اعتبار حالة العذر بحالة عدم العذر في وجوب الضمان؛ لأن وجوب الضمان طريقه التغليظ، فلا يستدل بذلك في حالة عدم العذر. ثم المعنى في القميص: أنه ممنوع من لبسه، فلهذا كانت عليه الفدية، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لبس أباحه الشرع نطقاً، فلم تجب به الفدية. دليله: لبس الإزار والنعلين. وقد دللنا على إباحة الشرع نطقاً بحديث ابن عباس. واحتج بأن إباحة لبسه في حالة عدم الإزار لا تمنع وجوب الدم؛ لأن ما يستبيحه المحرم إذا كان فيه ضرر من الاستمتاع، فإنه لا يختلف حال العذر وغيره. والجواب: أن للعذر تأثير في إسقاط الفدية بدليل أن الصيد إذا

صال عليه، فقتله دفعاً عن نفسه، فلا فدية عليه، وكذلك ترك طواف الصدر يوجب دماً، ويختلف حال العذر وغيره، ألا ترى أن المرأة لو تركته - وهي طاهر - لزمها دم، و [لو] تركته - وهي حائض - لم يلزمها شيء، وبهذا وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رخص للحيض في ترك طواف الصدر، ولم يوجب عليهن شيئاً. ثم المعنى في الأصل: هو إذا لبسه لشدة برد أو حر أن ذلك لإحياء نفسه، ولهذا تأثير في الضمان بدليل أنه إذا أكل طعام غيره لإحياء نفسه ضمنه، وليس كذلك هاهنا؛ لأن السراويل بدل عن مبدل هو المئزر، ومن شأن البدل أن يقوم مقام المبدل بدليل التيمم والصيام في الكفارة، وقد ثبت أن المئزر لا يوجب الكفارة، كذلك ما قام مقامه. فإن لم يسلموا أن هذا بدل فالدلالة عليه قول عليه السلام: "فإن لم يجد الإزار، فليلبس السراويل". وهذه صيغة بدل كقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة:6]، وقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92].

مسألة إذا لم يجد المحرم النعلين لبس الخفين، ولا يقطعهما، ولا فدية عليه

65 - مسألة إذا لم يجد المحرم النعلين لبس الخفين، ولا يقطعهما، ولا فدية عليه: نص عليه في رواية أبي طالب ومهناً وبكر بن محمد وإسحاق، ونقل أبو داود عنه في من لبس الخف، وهو يجد النعل، إلا أنه لا يمكنه لبسهما: يلبسه، ويفتدي. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجوز لبسهما على صفتهما]، بل يقطعهما أسفل من الكعبين، فإن لبسهما افتدى. دليلنا: ما تقدم من حديث ابن عباس وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يجد النعلين، فليلبس خفين". فأجاز لبس الخفين إذا لم يجد النعلين، وإذا ثبت جواز لبسه ثبت أنه لا فدية عليه؛ لأن أحداً لا يفرق بين الأمرين. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم اللبس وجوازه، وأعرض عن ذكر الفدية، ولو كانت واجبة لبينها؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك؛ لأن من جهل جواز اللبس كان بأن يجهل وجوب الفدية أولى. فإن قيل: قوله "فليلبس خفين"؛ يعني: من بعد ما يقطعه. قيل له: حمله على هذا يبطل فائدة قوله: "فمن لم يجد النعلين"؛

لأنه إذا قطعه جاز أن يلبس مع وجود النعلين. وعلى أن جواز لبسه بعد قطعه لا يشتبه على أحد، فحمل الخبر عليه لا يفيد شيئاً. فإن قيل: أكثر ما فيه جواز لبسه، وليس فيه نفي وجوب الفدية. قيل له: لو كانت الفدية واجبة لبين. وروى أبو حفص العكبري في "شرحه" بإسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عبد الرحمن بن عوف يطوف وعليه خفان، فقال له عمر: تطوف وعليك خفان؟ فقال: لقد لبستهما مع من هو خير منك. يعنى: رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنه لبس أباحه الشرع نطقاً، فلم يتعلق به وجوب الفدية قياساً على لبس الإزار والنعلين. ولأن في قطعة ضرراً عليه، كما أن عليه في فتق السراويل ضرر [اً]. ثم قد ثبت أنه يجوز لبس السراويل عند عدم الإزار على قول الشافعي، كذلك هاهنا. فإن قيل: القصد من المئزر الستر، وبفتق السراويل لا يوجد الستر، والنعلين المقصود منهما متابعة المشي عليهما، وهذا يحصل من الخف

المقطوع، وكذلك المرأة القصد في حقها من لبس القميص الستر، ولا يحصل ذلك بفتقه. قيل له: ليس كذلك؛ لأنه يمكنه أن يفتقه، ثم يستر به عورته من غير أن يلبسه على هيئته، وكذلك المرأة يمكنها أن تستر عورتها بقميص وإزار من غير أن تلبس السراويل والخفين. فإن قيل: الفرق بين الخف والسراويل: أن الخف يقصد به منفعة نفسه، ويفعله لمعنى فيه، وليس كذلك السراويل وقميص المرأة وخفها؛ لأنه يفعله لمنعني في غيره، وهو أنه يستر العورة لأجل الغير؛ لئلا ينظر إليها، والأصول فرقت بين أن يفعل الشيء لمعنى في نفسه، أو في غيره، ألا ترى أنه لو اضطر إلى أكل الصيد، فقتله، كان عليه الجزاء؛ لأنـ[ـه] قتله لمعنى في نفسه، وهو حاجته إليه، ولو صال عليه الصيد فقتله، لم يكن عليه الجزاء؛ لأنه قتله لمعنى في الصيد. ولأن لبس السراويل ألجأه الشرع إليه؛ ليستر عورته، فلم تتعلق به فدية، كالحائض بترك طواف الوداع، وهذا المعنى معدوم في الخفين. قيل له: إذا كان الفدية تسقط عنه بلبس السراويل لما ذكرت، وهو ستر العورة لأجل الغير، فيجب إذا لم يكون بحضرته أحد يحتاج إلى ستر العورة لأجله أن تلزمه الفدية؛ لأن لبسه في هذه الحال لا لمعنى من غيره.

وقولهم: (إن الشرع ألجأه إلى لبسه) غير صحيح؛ لأنا قد بينا أنه يفتقه، ويستر عورته، والحائض ما ألجأها الشرع إلى ترك الطواف؛ لأنها تقدر أن تقيم حتى تطهر وتطوف، وإنما خفف الشرع عنها ذلك. وأما استشهاده بالصيد، فلا معنى له؛ لأنه إن اضطر إلى أكله، فإنما يقتله لمعنى في نفسه، وهو ضرر الجوع، وإن قتله لأنه صال عليه، فإنما قتله - أيضاً - لمعنى في نفسه، وهو خوفه على نفسه، ألا ترى أنه لو لم يخف لم يجز له قتله؟ وخوفه على معنى فيه نفسه. واحتج المخالف بما تقدم من حديث ابن عمر: "فإن لم يجد النعليم فليلبس الخفين، ويقطعهما أسفل من الكعبين". فنص على القطع، وهذا مقيد، وخبر ابن عباس مطلق، والمقيد يقضي على المطلق. والجواب: أنا نقابل هذا بحديث ابن عباس، وهو أولى من وجوه: أحدها: أنه لم يختلف فيه، وخبر ابن عمر اختلف في اتصاله، فقال أبو داود في "سننه": رواه مرسى بن طارق، عن موسى بن عقبة موقوفاً على ابن عمر، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب. والثاني: أن لفظ خبر ابن عباس لم يختلف، وخبر ابن عمر اختلف؛ فروي القطع، وروي ترك القطع، رواه أبو بكر النجاد في كتابه عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السراويل لمن لم يجد النعلين".

والثالث: أن خبرنا رواه ابن عباس [وغيره]، [وخبرهم] تفرد بروايته ابن عمر. والرابع: خبرنا عملت عليه الأئمة؛ عمر، وعلي، وابن عباس، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص. فروى أبو بكر النجاد بإسناده عن الأسود قال: سألت عمر بن الخطاب قلت: من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، وقال: الخفان نعلان لمن لا نعل له. وروى - أيضاً - عن الحارث، عن علي قال: السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين. وبإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه قال: إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين. وبإسناده عن مولى الحسن بن علي قال: رأيت على المسور بن مخزمة خفين وهو محرم، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أمرتنا به عائشة. وروى بإسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عبد الرحمن بن عوف في سفر ومعنا حاد - أو مغني - فأتاه عمر في بعض الليل، فقال: ألا أرى أن يطلع الفجر، اذكر الله، ثم التفت فرأى عليه خفين، وهو محرم، فقال: وخفين؟ فقال: قد لبستهما مع من هو خير منك.

وجواب رابع، وهو: أنا نحمل قوله: "وليقطعهما" على الجواز، وتكون فائدة التخصيص: أنه يكره قطعهما لغير الإحرام؛ لما فيه من الفساد. وأما قولهم: (إن خبرنا مقيد، وخبركم مطلق) فإنما يكون المقيد يقضي على المطلق إذا لم يمكن تأويله، وقد تأولنا التقييد على الجواز دون الإيجاب. وعلى أن أبا بكر المروذي قال: احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: هو زيادة في الخبر، فقال: هذا حديث، وذاك حديث، ورد هذا الكلام. وظاهر هذا أنه لم يحمل المطلق على المقيد. فإن قيل: فخبرنا فيه زيادة لفظ، وهو القطع. قيل له: وخبرنا فيه زيادة حكم، وهو جواز اللبس بغير قطع. وإن قاسوا عليه إذا لبسهما مع وجود النعلين، فالمعنى فيه: أنه ممنوع منه، وهاهنا قد أباحه الشرع نطقاً، فهو كخف المرأة. وإن قالوا: ليس في لبسه أكثر من أنه معذور، وذلك لا يسقط الكفارة، كلبس القميص في شدة البرد. فالجواب عنه: ما تقدم.

مسألة إذا لبس [الخفين] المقطوعين مع وجود النعلين افتدى

واحتج بأن كل عضو لا يجبب تغطيته، لا يجوز ستره بالمخيط، كبقية البدن. والجواب: أنه يبطل بالساق والقدم؛ يسترهما بلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، وإن لم يجب تغطيته. ولأن المعنى في الأصل: أن الشرع لم يبحه، وهذا بخلافه. واحتج بأنه عضو في أحد طرفي الطهارة، فلا يجوز تغطيته بالمخيط، كالوجه. والجواب: أن الوجه لا يجوز تغطيته بمخيط، ولا بغيره، وفلا معنى لتخصيصه بالمخيط، وإذا سقط ذلك، انتقض إذا غطى رجليه بإزاره. ولأن اليدين ليست بطرف الطهارة، فلا يجوز تغطيتهما بالمخيط [....] القفازين، والمعنى في الأصل ما تقدم. 66 - مسألة إذا لبس [الخفين] المقطوعين مع وجود النعلين افتدى: قال في رواية إبراهيم - وقد سئل عن لبس الخفين دون الكعبين - فقال: يلبسه ما لم يقدر على النعلين؛ إذا اضطر إلى لبسهما. وقال في رواية الأثرم: لا يلبس نعلاً لها قيد - وهو السير يجعل في

الزمام معترضاً - فقيل له: فالخف المـ[ـقـ]ـطوع؟ فقال: هذا أشد. وقال - أيضاً - في رواية المروذي: أكره المحمل الذي على النعل والعقب، وكان عطاء يقول: فيه دم. بهذا قال أبو حنيفة، ومالك. وللشافعي قولان. دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لبسهما عند عدم النعلين بقوله: "فمن لم يجد النعلين فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين". فعلق جواز لبس المقطوع بشرط عدم النعلين، فدل على أنه لا يجوز عند عدم الشرط. فإن قيل: لو كان لبسه بعد قطعه يوجب الفدية، لم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم القطع؛ لأن حكمه بعد القطع حكمه قبله، فلما شرط دل على اختلاف الحكم. قيل له: إنما أباح ذلك عند عدم النعلين، وأجاز لبسهما؛ لأنه يقارب النعلين، ولم يبح ذلك لإسقاط الكفارة. فإن قيل: فهما بعد القطع في حكم النعلين بدليل امتناع المسح. قيل له: الخف الذي فيه خرق قدره ثلاث أصابع لا يجوز المسح عليه، ويمنع المحرم من لبسه، وإن لبسه افتدى.

مسألة إذا لبس المحرم القباء، فادخل كتفيه فيه لزمته الفدية

وأيضاً فإنه ستر قدميه بما يعد للمشي عادة، فأشبه الخف. 67 - مسألة إذا لبس المحرم القباء، فادخل كتفيه فيه لزمته الفدية: قال في رواية حرب: لا يلبس الدواج ولا شيئاً يدخل منكبيه فيه. وقال في رواية إبراهيم: إذا لبس القباء لا يدخل عاتقه فيه. وهو قول مالك والشافعي. وقول أبو حنيفة: لا فدية عليه. دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - كرم الله وجهه - قال: من اضطر إلى لبس قباء، وهو محرم، ولم يكن له غيره، فلينكس القباء، وليلبسه. وهذا يمنع إدخال منكبيه فيه. ولأنه لبس مخيطاً على الوجه الذي يلبس مثله في العادة، فلزمته الفدية، كما لو لبس القميص والسراويل. واحتج المخالف بأن المخيط لم يشتمل على بدنه على الوجه المعتاد، فهو كما لو ارتدى بالقميص. والجواب: أنه لم يلبسه على الوجه الذي يلبس مثله في العادة،

مسألة للمحرم أن يغطي وجهه في أصح الروايتين

وهاهنا لبسه على الوجه المعتاد. واحتج بأنه لبس يحتاج في حفظه إلى تكلف، كما لو ارتدى به. والجواب عنه: ما تقدم. 68 - مسألة للمحرم أن يغطي وجهه في أصح الروايتين: رواهما حنبل وابن مشيش عنه في محرم مات: يغطي وجهه، ولا يغطي رأسه. وكذلك نقل حنبل عنه، وقد سئل عن المحرم: يعطي وجهه؟ قال: لا بأس بذلك. وكذلك نقل أبو داود عنه: يغطي وجهه وحاجبيه. وبهذا قال الشافعي. وفيه رواية أخرى: لا يغطي وجهه. رواها ابن منصور وإسماعيل بن سعيد الشالنجي في المحرم يموت: لا يغطى رأسه، ولا وجهه. وأومأ إليه - أيضاً - في رواية أبي طالب: يخمر أسفل من الأنف، ووضع يده على فمه دون أنفه يغطيه من الغبار. وبهذا قال أبو حنيفة.

وقال مالك: لا يغطي وجهه، فإن غطاه فلا فدية عليه. ومن أصحابه من قال: فيها روايتان. وجه الرواية الأولى: ما روى أحمد في "المسند" قال: ثنا هشيم قال: أنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته، وهو محرم، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً". فوجه الدلالة: أنه خص الرأس بالكشف، فدل على أن الوجه مخالف له؛ لأنهما لو كانا سواء لما خص الرأس، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وروى سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أبي حرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وخمروا وجهه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيباً؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً". وهذا نص. ولأنه إجماع الصحابة، روي عن عثمان، وزيد، وابن الزبير،

وجابر، وابن عباس، وسعد: فروى أبو بكر النجاد بإسناده عن الفرافصة قال: رأيت عثمان، وزيد، وابن الزبير يغطون وجوههم - وهم محرمون - إلى قصاص الشعر. وروى بإسناده عن أبي الزبير، عن جابر قال: ليغشى وجهه بثوبه، وأهوى إلى شعر رأسه، وأشار أبو الزبير بثوبه حتى رأسه. وبإسناده عن عطاء، عن ابن عباس قال: المحرم يغطي وجهه ما دون الحاجب. وبإسناده عن عائشة بنت سعد قالت: كان أبي يأمر الرجال أن يخمروا وجوههم وهم حرم، وينهي النساء عن ذلك. فإن قيل: يقابل هذا ما رواه النجاد بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال: المحرم لا يغطي وجهه إلا دون الحنك. وفي لفظ آخر: ما فوق الذقن من الوجه، ولا يخمر المحرم. قيل له: وقد روى النجاد بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال: إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه.

فإما أن تتعارض الروايتان، فتسقطان، ويسلم قول غيره، أو يكون ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنه يعضده قول غيره من الصحابة. فإن قيل: فقد قال في الخبر الذي رويتموه: الذقن من الرأس. قيل له: لا يجوز أن تجعل هذا خلافاً؛ لأنه معترف بأن إحرام الرجل في رأسه، وإنما ذهب إلى أن ما فوق الذقن يدخل في اسم الرأس، وهذا غير صحيح؛ لأن حقيقة اسم الرأس لا يتناول الوجه، فكان هذا القول مطرحاً. والقياس أن ما وجب كشفه في أحد الجنسين، لم يجب كشفه في الجنس الآخر. أصله: الرأس؛ لما وجب كشفه في جنس الرجال، لم يجب كشفه في جنس النساء. وكل عضو لا تتعلق به سنة التقصير من الرجل، لا تتعلق به حرمة التخمير قياساً على سائر بدنه. وفيه احتراز من وجه المرأة. واحتج المخالف بما روى أبو بكرة النجاد بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "اغسلوه بماء وسدر، ولا تحنطوه، ولا تخمروا وجهه؛ فإنه يبعث [يوم القيامة ملبياً].

والجواب: أن الرواية في الوجه متعارضة، ولا تعارض في الرأس، فيجب أن يبقى حكم الوجه على ما كان عليه، وهو ستر الوجه في حق الموتى. ولأن خبرنا أولى؛ لأن فيه مخالفة بين العضوين، وذلك زيادة علم ليست في خبرهم، فكان تقديمها أولى. وقد قيل: إنا نستعمل خبرهم فنقول: معناه: لا تخمروا من الوجه مقدار ما لا يمكن كشف جميع الرأس إلا بكشفه. والمخالف يقابل هذا الاستعمال بمثله فيقول: خمروا وجهه؛ معناه: ذاته، ولا تخمروا رأسه؛ يعني: ما علا الرقبة، كأنه قال: غطوا جملته، وهذا بعيد؛ لأن الوجه عبارة عن عضو مخصوص لا يتناول الجملة. واحتج بأنه ممنوع من الطيب لأجل الإحرام، فوجب أن يكون ممنوعاً من تغطية الوجه. دليله: المرأة. وإن شئت قلت: شخص محرم فلزمه كشف وجهه. دليله: المرأة. والجواب: أنا نقابله فنقول: فلم يلزمه كشف أكثر من عضو واحد. دليله: المرأة ولأن وجه المرأة يحصل بكشفه إشعار بالإحرام، لأنه مغطى في

العادة، ووجه الرجل مكشوف، فلا يحصل بكشفه إشعار بالإحرام، وإنما رأسه هو المغطى في العادة، فكان رأس الرجل بمنزلة وجه المرأة. واحتج بأن حكم المرأة أخف في حال الإحرام من حكم الرجل. يبين صحة هذا: أنهـ[ـــا] لا تمنع من لبس المخيط، والرجل يمنع منه، فإذا منعت من تغطية وجهها فالرجل أحرى. والجواب: أنا قد بينا: أن المرأة لا يلزمها كشف أكثر من عضو، كذلك الرجل. ولأن الإشعار يحصل بكشف وجهها، والرجل بخلافه. وإنما فارقت الرجل في المخيط؛ لأن جميع بدنها عورة، فجاز ستره بكل ما يمكن، وليس كذلك الرجل؛ لأنه ليس جميع بدنه عورة، فلهذا لم يجز له سترة بالمخيط. واحتج بأن الوجه يجمع مفروضات الطهارة ومسنوناتها، فلزم المحرم كشفه، كالرأس. والجواب: أنه يبطل باليدين والرجلين؛ لأنها تجمع المفروض - وهو دفعة - والمسنون - وهو زاد -. ثم المعنى في الرأس: أن النسك يتعلق بأخذ شعره، فلهذا وجب كشفه في حقه، والوجه بخلافه.

مسألة لا يستظل المحرم على المحمل، فإن فعل افتدى في أصح الروايتين

69 - مسألة لا يستظل المحرم على المحمل، فإن فعل افتدى في أصح الروايتين: نص عليها في رواية جعفر بن محمد، وبكر بن محمد، عن أبيه: لا يستظل المحرم، فإن استظل يفتدي بصيام، أو صدقة، أو نسك بما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة. وبهذا قال مالك. وفيه رواية أخرى: لا يستظل، فإن فعل فلا فدية عليه. نص عليه في رواية الأثرم، وعبد الله، والفضل بن زياد: فقال في رواية الأثرم: أكره ذلك، فقيل له: فإن فعل يهرق دماً؟ فقال: لا، وأهل المدينة يغلطون فيه. وفي رواية الفضل: الدم عندي كثير. وفي رواية عبد الله: إن استظل أرجو أن لا يكون عليه شيء. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز له أن [يستظل] بظل المحمل. فالدلالة على أنه ممنوع من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المحرم الأشعث [ا] لأغبر"، والظل لا ينفي الشعثَ والغبار،

والخبر يقتضي منعه. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخلوا مكة مضحين، وقال: "خدوا عني مناسككم". وروى الأثرم بإسناده عن نافع، عن ابن عمر: أنه رأى محرماً على رحل قد رفع ثوباً بعود يسـ[ـتـ]ـتر من حر الشمس، فقال: أضح لمن أحرمت له. وروى النجاد بإسناده في لفظ آخر عن نافع: أن ابن عمر رأى رجلاً قد نصب في مقدمة رحله عوداً عليه ثوب، وهو محرم، فقال ابن عمر: إن الله لا يحب الخيلاء، إن الله لا يحب الخيلاء. وروى بإسناده في لفظ آخر عن نافع، عن ابن عمر: أنه رأى رجلاً من آل ... بن أسيد يظلل عليه بشيء من الشمس، فناداه ابن عمر: اتق الله.

وفي لفظ آخر عن نافع: أن ابن عمر رأى رجلاً قد وضع عودين على راحلته، وهو محرم، يستتر بهما، فاتنزعهما. فإن قيل: يعارض هذا ما روى النجاد بإسناده عن الحسن: أن عثمان ظلل عليه، وهو محرم. و [ما روى] عكومة، عن ابن عباس: لا بأس بالظل للمحرم. قيل له: هذا محمول عليه إذا كان هناك عذر من حر، أو برد، فلا يكون بينهما تعارض. ولأنه محرم ستر على رأسه بما يقصد به الترفه في بدنه، فجاز أن تتعلق به الفدية، كما لو غطاه. وفيه احتراز من الزمان اليسير؛ لأن التعليل للجواز، وفيه احتراز منه إذا جلس تحت خيمة، أو تحت سقف. ولأن ذلك لا يقصد به الترفه في البدن في العادة، وإنما يقصد به جمع الرحال. وأيضاً فإن الفدية تجب بإتلاف وبغير إتلاف، ثم ثبت أن الإتلاف لا فرق بين أن يكون عن مباشرة، أو غير مباشرة، وهو أن يدل على الصيد، أو ينصب شركاً، كذلك ما لم يكون عن إتلاف لا فرق بين أن يكون عن مباشرة، أو غيرها، وهذا إذا ظلل على رأسه. ولا يلزم [عليه] الحلاق، وتقليم الأظفار، والطيب؛ لأن ذلك

لا تتصور فيه إلا المباشرة. وأيضاً فإن الإحرام يحرم تغطية رأسه بغير إذنه، ثم ثبت أن ثوب الغير يستوي في المنع من استعماله المباشرة وغيرها، كذلك ثوب نفسه في حق الإحرام بعلة أنه أحد التحريمين، أو أحد نوعي التحريم. ولا يجوز أن يقال: إن ثوب الغير يحرم إمساكه؛ لأنا نفرض المسألة في ثوب الغير إذا كان وديعة عنده؛ فإنه لا يمنع من إمساكه، وإنما يمنع من التصرف فيه. يبين صحة هذا: أنهم منعوا الجنب من الاجتياز في المسجد، وقالوا: كل بقعة منع من الجلوس فيها منع من الاجتياز، كدار الغير. وطريقة أخرى جيدة، وهو: أن المحرم أمر أن يكشف رأسه؛ ليحصل له الشعث والغبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المحرم الأشعث الأغبر". وإذا ظلل على رأسه زال ذلك المعنى، فمنع منه. ولا يلزم عليه إذا جلس تحت سقف، أو تحت خيمة؛ لأن ذلك لا يستدام في حال سيره وقعوده، وهذا يستدام، وجرى ذلك مجرى ما لو ترك يده على رأسه، أو ترك على رأسه مكتلاً، لم يمنع، ولم تجب الفدية؛ لأنه لا يستدام في العادة. واحتج المخالف بما روت أم الحصين قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم

حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً، وأحدهما آخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه؛ ليستره من الحر حتى رمي جمرة العقبة. والجواب: أن ذلك الاستظلال كان زماناً يسيراً، وقد أجاز أحمد مثل هذا في رواية الأثرم وقد ذكر له هذا الحديث، فقال: هذا في الساعة رفع له الثوب بالعود، يرفعه بيده من حر الشمس. وقال - أيضاً - في رواية أبي داود: إذا كان بطرف كساء أرجو أن لا يكون به بأس. وهكذا نقل ابن منصور - وقد سئل عن القبة المحرمة - فقال: لا، إلا أن يكون شيئاً يسيراً باليد، أو ثوباً يلقيه على عود. وقال - أيضاً - في رواية حرب - وقد سئل: هل يتخذ على رأسه الظل فوق المحمل؟ - فقال: لا، إلا الشيء الخفيف. وإذا كان كذلك، فقد قلنا بموجب الخبر؛ لأن الخلاف فيما وراء ذلك، هو إذا اتخذ الظل على طريق الاستدامة. واحتج بأنه لو تعلقت به الفدية لا يستوي فيه الزمان اليسير والكثير، كما لو غطى رأسه. والجواب: أن الترفة بتغطية الرأس أبلغ من الاستظلال، فجاز أن يستوي في ذلك القليل والكثير، ويفترق الحال في غيره، كالاستمتاع

بالوطء في الفرج؛ لما كان أبلغ منه فيما دون الفرج استوى في ذلك الإنزال وعدمه، [و] في ما دون الفرج يفترق الحال بين الإنزال وعدمه. ولأن أبا حنيفة قد فرق بين أن يستديم اللبس جميع النهار أو بعضه في باب الفدية. ولأنه لا يمتنع أن يختلف حكم القليل والكثير في إيجاب الدم في مسألتنا، كما اختلف حكمه في إتلاف الشعر بين القيل والكثير في الدم. واحتج بأن ما جاز التظلل به راكباً كالسقف، ولأنه تظلل بما لم يماس رأسه، فجاز ذلك، كما لو تظلل نازلاً، وقد نص أحمد على أنه لو جلس تحت خيمة، أو تحت سقف جاز. وقال - أيضاً - في رواية حنبل: لا يستظل على المحمل، ويستظل بالقارة والخيمة في الأرض، وهي بمنزلة البيت. والجواب: أنه لا فرق بين الراكب والنازل، وإن طال ذلك وكثر افتدى؛ راكباً كان، أو نازلاً، وإن قل ذلك، ولم يكثر، فلا فدية عليه؛ سواء كان راكباً، أم نازلاً. وقد بينا الفرق بين اليسير والكثير، وبين الخيمة والسقف وبين المحمل، وأن ذلك لا يقصد به الترفه في البدن في العادة، وهذا بخلافه.

مسألة إذا لبس أو تطيب ناسيا فعليه الفدية في أصح الروايتين

70 - مسألة إذا لبس أو تطيب ناسياً فعليه الفدية في أصح الروايتين: رواها صالح وعبد الله وحنبل، فقال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع عنه يلزمه لو قتل صيداً ناسياً أو ... ناسياً - وهو محرم - لم يكن عليه شيء، وقد أوجب الله عز وجل في قتل الخطأ عتق رقبة. وقال - أيضاً - في رواية ابن منصور في من لبس قميصاً عشرة أيام ناسياً: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وفيه رواية أخرى: لا كفارة عليه. رواها أبو طالب، وحرب، وابن القسم: فقال في رواية أبي طالب: إذا وطئ - يعنى: ناسياً - بطل حجه، وإذا قتل صيداً، أو حلق شعره، لم يقدر على رده، فهذه الثلاثة العمد والنسيان سواء، وكل شيء من النسيان بعد الثلاث فهو يقدر على رده مثل أن يغطي برأسه، ليس عليه شيء، ويلقيه. وكذلك نقل حرب عنه: إذا لبس قميصاً ناسياً يخلعه، ويفزع إلى التلبية. وكذلك نقل ابن القاسم: إن تعمد التغطية وجب عليه، والناسي

يفزع إلى التلبية. وبهذا قال الشافعي، وهو اختيار الخرقي من أصحابنا. وجه الرواية الأولى: أن هذا معنى يحظره الإحرام، فلم يختلف فيه الساهي والعامد. دليله: الحلاقـ، وقتل الصيد، وتقليم الأظفار. فإن قيل: ذكر ابن أبي هريرة: أن للشافعي في قتل الصيد قولين: أحدهما: لا جزاء عليه. قيل له: الصحيح أن عليه الجزاء. فإن قيل: الحلق والقتل إتلاف، فلهذا استوى حكم الساهي والعامد، كإتلاف مال الغير، وليس كذلك اللبس والطيب؛ لأنهما ليسا بإتلاف. قيل له: هذا يوجب الفرق بينهما، ألا ترى أن الحلق وفوات الحج ليس بإتلاف، ومع هذا لا يختلفان في حال العمد والسهو؟ على أن هذا المعنى لا يوجب الفرق بينهما في حال السهو، كما لم يوجب في حال العمد. وربما قالوا: إن الحلق والقتل لا يمكن تلافيهما بعد وقوعهما، فاستوى فيهما حكم العمد والسهو، وليس كذلك الطيب واللباس؛ لأن تلافيهما بعد وقوعهما ممكن بأن يغسل الطيب، وينزع المخيط.

وهذا لا معنى له؛ لأن الفدية تجب بحصول الاستمتاع باللبس والطيب في الأوقات الماضية، وهذا المعنى لا يمكن رفعه، وإنما يمكن الامتناع [من ذلك] في الأوقات المستقبلة، والفدية لا تجب باستمتاع لم يحصل بعد. على أن هذا المعنى لم يوجب الفرق بينهما في حال العمد، كذلك لا يوجب في حال السهو. وربما قالوا: المحرم من الحلق والقتل جهة الإتلاف دون الاستمتاع والترفه، ألا ترى أنه لو نتف شعره بحيث يتألم به الفدية؟ فاستوى عمده وسهوه كسائر الإتلاف، وليس كذلك الطيب واللباس؛ لأن المحرم منهما جهة الاستمتاع دون الإتلاف بدليل أنه لو أتلف طبياً كثيراً لم يلزمه الفدية، فاعتبر فيه القصد إلى الاستمتاع به مع العلم بتحريمه وذكره لإحرامه. وهذا - أيضاً - لا معنى له؛ لأن الاستمتاع قد حصل له في الزمان الماضي، وقد بينا أن الفدية تجب لما يمضي من الزمان. وعلى أن هذا المعنى [لا] يوجب الفرق بينهما في حال العمد، كذلك لا يوجبه في حال السهو. وقياس آخر، وهو: أنه محرم لبس ما يشتمل عليه بالخياطة، أشبه إذا لبسه، وهو عالم بتحريمه.

ولا يلزم عليه إذا لبسه بعد التحلل الأول وقبل الطواف؛ لأنه لا فرق بين الأصل والفرع في العمد والسهو؛ ففي الأصل تسقط الكفارة في الحالين، وهاهنا تجب في الحالين. وعلى أنه بعد التحلل ليس بمحرم على الإطلاق. وأيضاً فإن ما يحظره الإحرام لا يختلف فيه حكم العالم بحظره والجاهل بدلالة الحلق، وقتل الصيد، وتفويت الحج، وترك الميقات، وتشهد لصحة ذلك الأصول، ألا ترى أن كل عبادة خطر فيها معنى من المعاني فإن حكم العالم بحظره والجاهل سواء، كالأكل والجماع في الصوم والصلاة. فإن قيل: الإحرام من الميقات مأمور به، وهذا منهي عنه. قيل له: الحلاق وقتل الصيد منهي عنه، ويستوي فيه العامد والجاهل. ولأن المأمور به فرض عليه، كما أن تجنب المحظورات فرض عليه، فحكم أحدهما حكم الآخر. ولأن الجهل بأحكام الشرع مع التمكن من العلم لا يسقط أحكامها عن الجاهل، كمن جعل تحريم الزنا ووجوب العبادات. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وروي: "عفي لأمتي".

والجواب عنه: أن الظاهر يقتضي أن يكون [نفس] النسيان مرفوعاً عن الأمة، وقد علمنا أنه غير مرفوع، فثبت أن المراد بالخبر غير ما يقتضي ظاهره، ولا يخلو إما أن يكون المراد به الحكم، أو المأثم، وليس واحد منهما مذكوراً في الخبر، فليس له أن يدعي أن المراد به الحكم، إلا ولنا أن ندعي أن المراد به المأثم. فإن قيل: نحمله عليهما. قيل له: العموم يدعى في الألفاظ، وليس هاهنا لفظ يبني عليهما. واحتج بما روى صفوان بن يعلى بن أمية، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وعليه مقطعة تضمخ بالخلوق، فقال: يا رسول الله! أحرمت بالمعمرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت تصنع في حجتك؟ " قال: كنت أنزع هذه المقطعة، وأغسل هذا الخلوق، أو قال: الصفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجتك". فوجه الدلالة من الخبر: أن السائل كان جاهلاً بالحكم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الخلوق، ولم يأمره بالفدية، فلو كانت واجبة لأمره بها؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. والجواب: أن تحريم الطيب يثبت في ذلك بدلالة أنه روي في

الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر الوحي حين سئل، فلما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة؟ " فأتي به، فقال: "أما الجبة فاخلعها، وأما الطيب فاغسله"، ولم يوجب الفدية؛ لأن الطيب كان قبل التحريم. فإن قيل: في الخبر ما يدل على أن تحريمه كان ثابتاً قبل ذلك، وهو ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل: "ما كنت تصنع في حجتك؟ " قال: كنت أنزع المقطعة، وأغسل الخلوق. ولأنه روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يومئون إليه، ويستجهلونه في فعله، وهذا يدل على تقدم التحريم وشهرته. ولأنه يحتمل أن يكون توقف؛ لا [ن] تحريم التزعفر لم يكن حصل. قيل له: يجوز أن يكون حرم في الحج، ولم يحرم في العمرة إلى هذه الحال. وأما قوله: إن الناس كانوا يسخرون مني، فيجوز أن يكون اعتقدوا: أن العمرة محمولة على الحج قياساً، والنص إنما علم بالوحي، وما ظنوه قبل ذلك لا حكم له.

وقولهم: إنه توقف في تحريم التزعفر، فلو كان كذلك لبين له تحريم اللبس المختص بالإحرام، فأما التزعفر فلا يختص تحريمه بالإحرام؛ لأنه استعماله قبل الإحرام، فلا يمنع من البقاء عليه لأجل الإحرام، وإنما يمنع منه لمعنى آخر. فإن قيل: هذه القصة كانت بالجعرانة سنة ثمان، وتحريم اللباس سنة ست عام الحديبية بقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ} [البقرة: 196]. قيل له: هذا دل [على] تحريم الحلق والطيب، [و] ليس فيه اللباس. واحتج بأن الحج عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فوجب أن يكون في محظوراتها ما يختلف حكم عمده وسهوه قياساً على الصوم. والجواب: أن الصوم يفرق بين عمده وسهوه في جميع محظوراته عندهم؛ لأن الأكل والشرب والجماع يفرق بين عمده وسهوه، فالوصف غير صحيح. وعلى أن الصوم ليس للصائم أمارة تدل على كونه صائماً، فلذلك جاز أن يعذر في النسيان، وفي المحرم علامة تدل على كونه محرماً، وهو التجرد، والتلبية، وأعمال النسك، فلم يعذر في النسيان، فلذلك

استوى العامد والساهي. وعلى أنه لو أكل في الصيام ناسياً لم يفسد، ولو أكل جاهلاً بالحكم فسد صومه، وكان يجب أن يقول في الحج كذلك. فإن قيل: قولكم: (إن الحج عليه أمارة، فلهذا سوى بين عمده وسهوه، والصوم لا أمارة عليه) تنتقض علة الفرع بالطهارة؛ لا أمارة عليها، ومع هذا يستوي عمد الحدث وخطؤه، وعلة الأصل تبطل بالذبيحة؛ عليها أمارة، وقد فرقت بين العمد والخطأ في باب التسمية. قيل: نحن اعتبرنا وجود الأمارة وعدمها حال التلبس بالعبادة، وعدم الأمارة في الطهارة بعد الفراغ منها، وبعد نقضها، فلا يلزم عليه على ما قلنا. وأما الذبيحة فإن الأمارة إنما توجد في وقت الذبح، والتسمية تنعدم على تلك الحال، فلا توجد الأمارة المشروطة في وقت التسمية. واحتج بأنها عبادة لها تحليل وتحريم، وكان من المنهي عنه فيها ما يفرق بين عمده وسهوه، كالصلاة. والجواب: أن السلام مشروع في الصلاة، واللباس غير مشروع في الحج.

مسألة قليل اللبس وكثيره سواء في إيجاب الدم، وكذلك الحكم في الطيب

71 - مسألة قليل اللبس وكثيره سواء في إيجاب الدم، وكذلك الحكم في الطيب: نص عليه في رواية ابن القاسم، وسئل: هل تغطية الرأس وقت؟ فإن هؤلاء يقولون: إذا كان قدر يوم وجبت كفارة، ومالك يقول: إذا [....] من حر أو برد، فقال أحمد: إذا تعمد التغطية، وقصد ذلك، وجبت عليه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن لبسه يوماً كاملاً - أو ليلة كاملة - فعليه دم، وإن لبسه أقل من يوم فعليه صدقة، وكذلك إن لبس أقل من ليلة، وإن طيب عضواً كاملاً فعليه دم، وإن طيب أقل من عضو فعليه صدقة. وقال مالك: إن نزعه أو غسله في الحال، فلا فدية عليه، وإن حصل له انتفاع ما، فعليه الفدية. دليلنا: قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196]. وتقديره: من كان مريضاً، فلبس، ففديه، أو به أذى من رأسه، فحلق أو ستر، ففدية.

وظاهر الآية يقتضي تعلق الفدية بوجود اللبس والستر من غير اعتبار معنى آخر معه. ولأنه لبس ممنوع منه، أو طيب ممنوع منه لحرمة الإحرام، فوجب أن يكون مضموناً بالفدية، كما لو طيب عضواً كاملاً، أو استدام اللبس يوماً كاملاً. ولأن الطيب واللباس استمتاع، فاعتبر فيه مجرد الفعل دون الاستدامة. دليله: الوطء في الفرج. وإن شئت قلت: فعل حرمه الإحرام، فلم تتقدر فديته بالزمان، كسائر المحظورات من الوطء، والحلق، وتقليم الظفر، وقتل الصيد. واحتج المخالف بأن المعتاد من اللبس هو لبس يوم كامل، أو ليلة كاملة، ألا ترى أن الناس يلبسون ثياب النهار في أوله، وينزعونها في آخره، ويلبسون ثياب الليل في أوله، وينزعونها في آخره؟ فإذا لبس أقل من يوم، أو ليلة، فلم يلبس لبساً معتاداً، فيجب أن لا يلزمه دم، ألا ترى أنه لو اتزر بالقميص، أو تردى به، لم يجب عليه دم؛ لأنه لم يلبسه لبساً معتاداً. وكذلك إن طيب عضواً فعليه دم، وإن طيب أقل من عضو.

وكذلك إذا قص ظفراً أو ظفرين فعليه صدقة، ولا يلزمه دم؛ لأنه ليس في العادة أن يقص ظفراً أو ظفرين، ويترك الباقي. وكذلك إذا حلق شعرة، أو شعرتين. والجواب: أن المعلوم من أحوال الناس أنهم يمسحون بالطيب بعض الرأس، وبعض الوجه، ومن أنكر هذا فإنه ينكر الضرورات. وكذلك معلوم في لبس الثياب من الليل، فتكون من أوله، ثم ينزعها وينام في الفراش، ولا يستديم لبس القميص والسراويل من أول الليل إلى آخره، وكذلك ثياب النهار في الصيف، وتكون في طرفي النهار. ولأن الإنسان لا يلبس الخفين في بيته في العادة. ولأنه لو لبس الجوربين في الكفين، أو لبس الخفين في رأسه، وجبت الفدية، وهو غير معتاد، وكذلك لو لبس الجبة والفرو في الصيف فعليه الفدية، وإن لم يكن معتاداً، فبطل اعتبار العادة في ذلك؛ لأن حلق اللحية والحاجبين ليس بمعتاد، ومع هذا تجب الفدية. فأما القميص إذا اتزر به فإنه بمنزلة الإزار، وذلك لبس مباح، فلهذا لم تجب الفدية، وليس كذلك هاهنا، لأن هذا لبس محظور لحرمة الإحرام.

مسألة إذا دهن المحرم بزيت، أو شيرج، فلا فدية عليه في أصح الروايتين، وسواء في ذلك استعماله في رأسه، أو بدنه

وأما حلق الشعر، وتقليم الأظفار، فذلك يجري مجرى الإتلاف، فاختلف حكم كثيرة وقليله، كما يقول في إتلاف الصيد، وليس كذلك اللباس والطيب؛ فإن المحرم منهما جهة الاستمتاع، فكان الاعتبار فيهما بما يقع عليه الاسم، كما يقول في الاستمتاع بالمرأة وبالجماع؛ فإنه يستوي يسيره وكثيره. فإن قيل: أليس قد قلتم: إذا ظلل على رأسه زماناً طويلاً افتدى، وإن كان يسيراً لم تجب الفدية؟ كذلك هاهنا. قيل: الترفه بالظلال دون الترفه بما يلاقي جسده، فجاز أن يفرق بينهما، كما أن الاستمتاع بالوطء في الفرج أبلغ منه دون الفرج، فاعتبرنا الإنزال فيما دون الفرج في الفساد والفدية، ولم نعتبره في الفرج لقوته. وفيما ذكرنا على أبي حنيفة دلالة على مالك. 72 - مسألة إذا دهن المحرم بزيت، أو شيرج، فلا فدية عليه في أصح الروايتين، وسواء في ذلك استعماله في رأسه، أو بدنه: قال في رواية الأثرم - وقد سئل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج - قال: نعم، يدهن به إذا احتاج إليه. وظاهر هذا: أنه لا فدية عليه؛ لأنه أباح استعماله.

وفيه رواية أخرى: عليه دم. قال في رواية أبي داود: الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه، فذكرت له حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت، فسمعته يقول: الأشعث الأغبر. وظاهر هذا: أن فيه الفدية؛ لأنه منع منه، وهو اختيار الخرقي، وقد يحتمل أن يكون منع منه على طريق الكراهية من غير فدية. وقال أبو حنيفة: عليه الفدية. وقال الشافعي: إذا دهن به رأسه أو وجهه، فعليه الفدية، وإن دهن به سائر بدنه لم يجب عليه شيء. والرواية الأولى: ما روى أحمد في "المسند" قال: ثنا روح، قال: ثنا حماد، عن فرقد السبخي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت، وهو محرم. قال أبو عبيد: يعني: غير مطيب، والمقتت الذي فيه الرياحين، يطبخ بها الزيت حتى تطيب، ويتعالج به من الرياح. فإن قيل: يجوز أن يكون ادهن بعد الحلق، وقبل الطواف.

قيل له: إذا رمى فقد تحلل، ولا يسمى محرماً على الإطلاق. ولأنه في هذا الوقت كان يتطيب بأطيب الطيب، وهو المسك، وقد روته عائشة رضي الله عنها، فلا معنى لتخصيص الزيت، واستثنى الذي ليس بمطيب في هذا الوقت، فلم يجز حمل الخبر عليه. والقياس أنه ليس عليه رائحة مستطابة، فلم يكن من الطيب، أو نقول: فلم تجب به فدية. دليله: السمن والزبد. ولأنه لو استعمله في بعض عضو كامل لم يجب به الدم. دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف بان الزيت والشيرج، كما أصل الأدهان التي هي الطيب، ومعلوم أن الدهن لم يكتسب من هذه الأشياء إلا الرائحة؛ لأن جرم البنفسج والورد غير قائم فيه، ولا مخالط له، ووجدنا الرائحة بانفرادها لا حكم لها في الأصول، ولا تتعلق بها وجوب الكفارة، ألا ترى أنه لو لبس ثوباً مبخراً بند أو عود، لم يلزمه شيء؟ فلما اتفقوا على أنه يجب في دهن البنفسج والورد دم، علم أنه إنما يجب لأن الشيرج الذي هو أصله في نفسه طيب. ويدل على أنه طيب ما روي عن علي: أنه كان إذا أراد أن يحرم ادهن من دبة زيت. وهذا يدل على أنه طيب؛ لأنه كان يستعمله على وجه التطيب

الذي ندب إليه لأجل إحرامه. والجواب: أن قولهم: (إنه لم يكتسب من تلك الأشياء إلا الرائحة، والرائحة بانفرادها لا تجب بها الفدية) غير مسلم؛ لأن المقصود من الطيب ريحته دون جرمه، وغاية الطيب هو الشم، فإذا كان كذلك لم يكن فرق بين ما طيب برائحته من غير جرمه، وبين ما خلط بجرم الطيب. وما ذكروه من الثوب المبخر فإن الفدية تجب [فيه] به. وما ذكروه من حديث علي فيحتمل أن يكون قصد بذلك التداوي؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يبارك في الزيت، لا أنه على وجه الطيب. - فصل: والدلالة على الشافعي: أنه لو دهن به بدنه لم يجب به دم، كذلك إذا دهن به رأسه ووجهه. دليله: السمن والزبد. ولأنه عضو لو دهنه بالسمن والبزر، لم يجب به الدم، كذلك إذا دهنه بالزيت والشيرج، كالبدن. ولأن الرأس موضع [من] بدنه، فإذا دهنه بالزيت والشيرج لم يلزمه دم.

مسألة إذا لبس المحرم ثوبا مصبوغا بعصفر جاز له ذلك، ولا فدية عليه

دليله: سائر البدن. ولأن حكم الرأس والجسد سواء فيما يرجع إلى تغطيته وطيبه، وكان يجب مثله هاهنا. فإن قيل: إنما يقصد باستعمال الشيرج في الرأس والوجه تحسين الشعر وترجيله وإزالة الشعث عنه، فلهذا وجب فيه دم، وليس كذلك سائر البدن؛ لأن هذا المعنى معدوم فيه. قيل له: إذا استعمل الماء في رأسه ووجهه، فإنه يقصد به إزالة الشعث وتحسين الشعر، ومع هذا لا يجب فيه شيء. على أنه يجوز [أن يقصد] باستعمال الشيرج في سائر بدنه إزالة القشف والشعث، كما يقصد باستعماله في رأسه ووجهه. 73 - مسألة إذا لبس المحرم ثوباً مصبوغاً بعصفر جاز له ذلك، ولا فدية عليه: نص عليه في رواية حنبل، فقال: لا بأس أن يلبس المحرم الثوب المصبوغ ما لم يمسه روس، ولا زعفران، وإن كان غير ذلك فلا بأس، ولا بأس أن تلبس المحرمة الحلي والمعصفر.

وكذلك نقل الفضل بن زياد عنه: لا بأس أن تلبس المرأة الحلي والمعصفر من الثياب، ولا تلبس ما مسه الورس والزعفران. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: يمنع من لبسه، وإن لبسه - هو ينفض - فعليه الفدية. دليلنا: ما روى أبو داود قال: ثنا ابن حنبل قال: ثنا يعقوب قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: فإن نافعاً مولى عبد الله بن عمر حدثني عن عبد الله بن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص، أو خف. هذا نص. فإن قيل: يحمل هذا عليه إذا كان لا ينفض. قيل له: لو كان كذلك لم يفرق بين المصبوغ بالورس والزعفران وبين المصبوغ بالعصفر، ولما فرق بينهما دل على أن المعصفر مباح على الإطلاق. وعلى أن الإباحة عامة، فمن خصها فعليه الدليل.

ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن علي، وابن عمر، وجابر، وعائشة: فروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي جعفر: أن عمر رأى على عقيل ثوبين موردين، وهو محرم، فقال له عمر: إن هذا لا يصلح، فقال له علي: إنا أهل بيت لا يعلمنا أحد بالسنة. وفي لفظ آخر: قال عمر: ما هذا؟ قال علي: ما إخال لأحد يعلمنا بالسنة. وروى بإسناده عن أبي هريرة: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج حاجاً، ومعه علي، قال: وجاء محمد بن جعفر، وقد كان دخل بأهله في تلك الليلة، فلحقهم بليل، فجاء وعليه معصفرة، فلما رآه عثمان انتهره، وأفف به قال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المعصفر؟ فقال له علي: إنه لم ينهك، ولا إياه، وإنما نهاني. فإن قيل: فلا حجة في هذا؛ لأن عمر وعثمان خالفاه. قيل له: لم ينكر عمر ذلك إلا مخافة أن يرى الجاهل ذلك، فيظن أن جميع الصبغ واحد، وأن ثياب الطيب يجوز لبسها في الإحرام، ألا ترى أنه سكت عنهما، وأقرهما على لبسه؟ ولو كان عنده حراماً لما سكت، ولا أقر على ذلك. والذي يبين صحة هذا؛ أن إنكاره إنما كان على هذا الوجه لا غير:

ما رواه النجاد بإسناده عن نافع: أن عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبين مصبوغين بمشق، وهو محرم، فقال: ما هذا الثوب؟ فقال: هذا ما ترى مصبوغين بمشق، فقال: إنكم أئمة ينظر إليكم، فعليكم بهذا البياض، ويراكم الرجل فيقول: رأيت على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين مصبوغين!. وهذا يدل على ما قلناه. وأيضا [ما] روى النجاد بإسناده عن أبي الزبير قال: كنت مع ابن عمر، فأتاه رجل عليه ثوبان معصفران، وهو محرم، فقال: في هذين علي بأس؟ قال: فيهما طيب، قال: لا، قال: لا بأس. وروى أبو بكر بن جعفر بإسناده عن نافع قال: كن - نساء ابن عمر وبناته - يلبسن الحلي المعصفرات وهن محرمات، لا ينكر ذلك عبد الله. فإن قيل: فقد روى النجاد بإسناده عن نافع: أن ابن عمر كان يكره المعصفر للمحرم. قيل له: قد نقلنا عنه ما يدل على إباحته، ويحتمل أن يكون كره ذلك

مخافة أن يراه الجاهل، فيظن جواز سائر الأصباغ مما فيها طيب وغيره. وأيضاً روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي الزبير، عن جابر قال: إذا لم يكن في الثوب المعصفر طيب، فلا بأس به للمحرم أن يلبسه. وأيضاً روى أبو بكرة بن جعفر بإسناده عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: أن عائشة كانت تلبس المعصفر وهي محرمة. فإن قيل: فقد روى أبو بكر بإسناده عن الأسود، عن عائشة قالت: تلبس المحرمة ما شاءت إلا البرقع، وتلبس ما شاءت إلا المتورد بالمعصفر. وروى النجاد بإسناده عن إبراهيم، عن عائشة: أنها كانت تكره الثوب المصبوغ بالزعفران والمشبعة بالعصفر للرجال والنساء، إلا أن يكون ثوباً غسيلاً. قيل له: تحمل كراهتها لئلا يظن الجاهل أن جميع الأصباغ التي فيها الطيب يجوز لبسها. وروى حنبل في "مسائله" قال: ثنا أبو عبد الله قال: ثنا روح قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن عائشة بنت سعد قالت: كن - أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

يحرمن في المعصفرات. والقياس أن كل ثوب يجوز للمحرم لبسه إذا لم ينفض، جاز لبسه وإن كان ينفض عليه. أصله: المصبوغ بالسواد والكحلي وسائر الأصباغ. وإن شئت قلت: كلما لا تجب به الفدية إذا كان لا ينفض، لا تجب به وإن كان ينفض. دليله: ما ذكرنا. ولأنه لبس ثوباً معصفراً فأشبه إذا كان لا ينفض. فإن قيل: إذا كان ينفض وصل جرم الطيب، وهو المعصفر إلى جسمه، وليس كذلك إذا لم ينفض؛ فإنه لا يصل إلى جسمه جرمه، ولا يعلق بيديه شيء منه. قيل له: ما يصل إلى جسمه، وما يصل إلى ثوبه سواء في التطيب في العادة؛ لأنه قد جرت العادة: أن الناس يطيبون ثيابهم، كما يطيبون أبدانهم. ولأن الإحرام بالصلاة لما أوجب إزالة النجاسة عن بدنه، أوجب إزالتها عن ثوبه، كذلك الإحرام بالحج والعمرة لما أوجب إزالة الطيب عن بدنه، وجب أن يوجب إزالته عن ثوبه.

فإن قيل: إذا لم ينفض فليس هناك إلا اللون، واللون بانفراده لا حكم له، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء: "اغسليه، ولا يضرك أثره"، فأمر بإزالة أجزاء الدم، وأسقط حكم اللون. قيل له: لا نسلم أن هاهنا اللون فقط، بل اللون والرائحة، وللرائحة تأثير في إيجاب الفدية كالطيب، فلما لم تجب الفدية بهذا إذا لم ينفض، لم تجب وإن نفض. وأما النجاسة فيجوز أن يقال: عفي عن لونها للمشقة، ولا مشقة هاهنا. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن لبس المعصفر في الإحرام. والجواب: أن هذا - إن ثبت - فقد روينا عن علي: أنه قال: لم ينهك، ولا إياه، إنما نهاني. فيحمل النهي إليه خاصاً. وعلى أنا نحمله على الاستحباب؛ لأن المستحب لبس البياض في الإحرام. واحتج بأن المعصفر صبغ له رائحة مستلذة، فأشبه الزعفران والورس.

مسألة إذا خضب المحرم لحيته بالحناء، أو يديه، أو رجليه، فلا فدية عليه، كالمعصفر

والجواب: أن قوله: (صبغ) لا تأثير له؛ لأن الصبغ وغيره - مما له رائحة تستلذ كالكافور والعود والعنبر وغير ذلك - سواء في المنع، وإيجاب الفدية، وإذا وجب حذف هذا الوصف انتقض بكل ما له رائحة تستلذ، كالتفاح والسفرجل والخوخ والشيح والقيصوم. وعلى أنا لا نسلم الوصف؛ لأن القصد من العصفر اللون دون الرائحة؛ لأن رائحته غير مستلذة. ثم المعنى في تلك الأشياء: أنها طيب، فلهذا منع منها، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه ليس بطيب. ولأنه [إذا] لم ينفض لم تجب به فدية، فلهذا لم تجب به - وإن نفض - كالسواد. 74 - مسألة إذا خضب المحرم لحيته بالحناء، أو يديه، أو رجليه، فلا فدية عليه، كالمعصفر: وقد قال أحمد في رواية الميموني: الحناء مثل الزينة، ومن يرخص في الريحان يرخص فيه. وقال - أيضاً - في رواية محمد بن حرب، وقد سئل عن الخضاب للمحرم، فقال: ليس بمنزلة طيب، ولكنه زينة، وقد كره الزينة عطاء للمحرم.

وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه الفدية. دليلنا: ما روى ابن المنذر بإسناده في كتابه عن عكرمة: أن عائشة وأزواج النبي صل الله عليه وسلم كن يخضبن بالحناء، وهن حرم. فإن قيل: يحتمل أن يكون بعد التحلل الأول. قيل له: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم، وأن ذلك لا يقع عليه اسم المحرم على الإطلاق. ولأن في تلك الحال يجوز استعمال الطيب، فلا معنى لتخصيص الحناء بذلك. ولأنه يقصد لونه دون رائحته في العادة، فأشبه الوشمة- وهي خضاب يصبغ به- والسواد والنيل. واحتج المخالف بما روي عن النبي صل الله عليه وسلم: أنه نهى المعتدة أن تختضب بالحناء، وقال: "الحناء طيب ".

مسألة فإن لبس ثوبا مبخرا بعود أو ند فعليه الفدية

وإذا ثبت أنه طيب وجبت فيه الفدية. والجواب: أن هذا من النبي صل الله عليه وسلم على وجه الزينة، لا أنه طيب في الحقيقة، فمنعت منه لأجل الزينة. واحتج بأن له رائحة مستلذة، فوجبت الفدية باستعماله في بدنه، كالزعفران، وماء الورد، والمسك. والجواب: أنه ينتفض بالتفاح والسفرجل والخوخ وسائر الرياحين. وعلى أن المعنى في الورس والزعفران: أنه تقصد رائحتهما، وهما طيب في العادة، والحناء يقصد لونه دون رائحته، فبان الفرق بينهما. 75 - مسألة فإن لبس ثوبًا مبخرًا بعود أو ند فعليه الفدية: وقد قال أحمد في رواية أحمد بن نصر في المحرم يشم الطيب: عليه الكفارة. وقال في رواية ابن إبراهيم: لا يلبس ثوبًا فيه طيب. وقال في رواية ابن قاسم- وقد سئل عن المحرم يفترش الفراش والثوب المطيب- فقال: هو بمنزلة ما يلبس.

وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، ويجوز عنده لبس الثوب المطيب والنوم عليه إذا كان جافًا لا ينتفض عليه، وإن كان على ظاهر الثوب طيب- وليس على ما يلي بدنه طيب- جاز لبسه. دليلنا: ما تقدم من حديث ابن عمر: أنه سأل رسول الله صل الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبًا مسه الورس ولا الزعفران ". وفي لفظ آخر: نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مسه الورس والزعفران من الثياب. وإذا ثبت تحريم لبس الثوب الذي مس الورس والزعفران، فالثوب المصبوغ بهما- أو بغيرهما من الطيب- أولى بالتحريم. والقياس أنـ[ـه] يعد طيبًا في العادة، فوجب أن يكون محرمًا تتعلق به الفدية قياسًا على استعمال الغالية. ولأن المقصد من الطيب رائحته لا لعينه، ألا ترى أنه إذا استعمل ماء الورد- وقد ذهبت رائحته- لم تلزمه الفدية؟ فإذا كان كذلك، وجب أن تجزئه الفدية في مسألتنا.

فإن قيل: يبطل بالجلوس في العطارين. قيل له: ذلك لا يسمى متطيبًا في العادة. واحتج المخالف بأنه غير مستعمل لجرم الطيب، وإنما تختلف الروائح فقط، والرائحة بانفرادها لا حكم لها؛ لأنه لو جلس في العطارين، أو في الكعبة وهي تجمر، فشم روائح الطيب لم يلزمه شيء. والجواب: أن دخان العود والند جسم، والزعفران والعنبر والكافور جسم، فاستعماله استعمال لجسم الطيب. وعلى أنا قد بينا: أن الاعتبار بالرائحة دون جسم الطيب بدليل ماء الورد إذا ذهب ريحه. وأما إذا جلس في العطارين أو إلى الكعبة، واعتمد شم الروائح، فإن أحمد قد أطلق القول في رواية ابن القاسم، فقال في المحرم يشم الطيب: عليه كفارة. وقال- أيضًا- في رواية ابن القاسم في الرجل يحمل معه الطيب، وهو محرم: كيف يجوز هذا؟ وعطاء يقول: إن تعتمد شمه فعليه الفدية. قيل له: يحمله للتجارة؟ فقال: لا يصلح إلا أن يكون فيما [لا] ريح له. وهذا يقتضي وجوب الكفارة. وإن شيخنا يقول: لا فدية عليه في ذلك؛ لأنه لا يسمى متطيبًا في

مسألة إذا شم المحرم شيئا من الرياحين لم يلزمه شيء في إحدى الروايتين

العادة، وليس كذلك إذا تبخر بالعادة؛ فإنه متطيب في العادة، فلهذا فرقنا بينهما. 76 - مسألة إذا شم المحرم شيئًا من الرياحين لم يلزمه شيء في إحدى الروايتين: رواها جعفر بن محمد عنه فقال: المحرم يشم الريحان، ليس هو من الطيب، ورخص فيه. وكذلك نقل ابن منصور عنه في المحرم: يشم الريحان، وينظر في المرآة. وكذلك نقل حرب عنه قال: أما الطيب فلا تقربه، والريحان ليس مثل الطيب. وبهذا قال أبو حنيفة. وفيه رواية أخرى: فيه الفدية. قال في رواية أبي طالب والأثرم: لا يشم المحرم الريحان، كرهه ابن عمر، ليس هو من آلة المحرم. والروايتان فيما يتخذ منه الطيب مثل البنفسج، والورد، والقيصوم،

والياسمين، وهو الذي يتخذ منه الزنبق، والخيري، وهو المنثور، وفيما لا يتخذ منه كالريحان الفارسي، والثمام، والبرم، والنرجس، والمرزيكوش، ففي الجميع روايتان على ظاهر كلام أحمد. وهو قول شيخنا أبي عبد الله. وقد قال أحمد في رواية المروذي وابن إبراهيم- وقد سئل عن الريحان والبقول للمحرم- فقال: ما زرعته أنت فلا بأس، وما نبت فلا. وهذا يقتضي أن جميع ما ينبته يجوز شمه، وامتنع مما ينبت لنفسه؛ لأن جنس الحرم يمنع من أخذه. ويحتمل أن يكون المذهب رواية واحدة: لا كفارة عليه، ويكون قوله: (ليس من آلة المحرم) على طريق الكراهة دون التحريم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه بشم شيء من الرياحين فدية. وللشافعي في شم الريحان الذي لا يتخذ منه الطيب قولان: أصحهما: أن عليه الفدية. دليلنا: ما رواه أبو بكر، عن عثمان بن عفان: أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "المحرم يدخل البستان، ويشم الريحان ".

ولأن من شم شيئًا من هذه الأشياء لا يسمى متطيبًا في العادة، فلم تجب به الفدية، كما لو شم الفاكهة التي لها رائحة طيبة كالأترج، والتفاح، والسفرجل، ونحو ذلك. ولأنه لو شمه ناسيًا لم تلزمه الفدية، كذلك إذا تعمد شم الأترج والتفاح ونحو ذلك. أو نقول: إنه لا يتخذ منه الطيب، أشبه ما ذكرنا. وفيه احتراز من الورد، والبنفسج؛ لأنه يتخذ منه الطيب، وهذه العلة أجود مما قبلها. واحتج المخالف بما روى الشافعي بإسناده عن جابر: أنه سئل عن المحرم: يشم الريحان؟ فقال: لا. وروى ابن المنذر، عن جابر قال: لا يشم المحرم الريحان، ولا الطيب. وروى- أيضًا- عن عمر: أنه كان يكره شم الريحان للمحرم. وقد روى الأثرم ذلك.

مسألة إذا حلق المحرم ثلاث شعرات من رأسه- أو قصر- قبل أن يحل له ذلك، فعليه دم في أصح الروايتين

والجواب: أنه يعارض هذا ما روى حمران بن أبان، عن أبان بن عثمان بن عفان: أنه سئل عن المحرم: يدخل البستان؟ قال: نعم، ويشم الريحان. وروى ابن المنذر عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسًا للمحرم [أن] يشم الريحان. وإذا اختلفوا لم يمكن ترجيح قول بعضهم على بعض. واحتج بأن الشم تطيب في العادة، فجاز أن تجب به الفدية، كاستعمال الغالية، وشم الزعفران، والورس، والمسك. والجواب: أنا نقول بموجب هذا، وأنه تجب بالشم فدية إذا كان للطيب مثل الزعفران، والمسك، ونحو ذلك، وما اختلفنا فيه ليس بطيب في العادة، فهو كالفواكه الطيبة الرائحة. 77 - مسألة إذا حلق المحرم ثلاث شعرات من رأسه- أو قصر- قبل أن يحل له ذلك، فعليه دم في أصح الروايتين: رواها حنبل عنه فقال: إذا نتف المحرم ثلاث شعرات أهراق لهن

دمًا، فإذا كانت شعرة، أو اثنتين كان فيهما قبضة من طعام. وبهذا قال الشافعي. وفيه رواية أخرى: في أربع شعرات فصاعدًا دم، فأما الثلاث فما دون فلا دم في رواية المروذي وابن إبراهيم وابن منصور: فقال في رواية المروذي: كان عطاء يقول: إذا نتف ثلاث شعرات فعليه دم، وكان ابن عيينه يستكثر الدم في ثلاث، ولست أوقت، فإذا نتف متعمدًا أكثر من ثلاث شعرات فعليه دم، والناسي والمعتمد سواء. قال أبو حنيفة: إذا حلق أو قصر ربع رأسه فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة. وقال مالك: إن حلق أو نتف مقدارًا يماط به الأذى فعليه دم من غير تقدير ثلاث أو أربع. وجه الرواية الأولى: قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} [البقرة: 196]. وتقديره: فحلق، ففدية، ومن حلق ثلاث شعرات يسمى حالقًا. ولأنه محرم حلق من شعره عددًا يقع عليه اسم الجمع المطلق لم يلجئه الشعر إليه، أشبه إذا حلق ربعه، أو حلق ما يماط به الأذى. وفيه احتراز من شعر الحلال، ومن شعر البهيمة؛ لقولنا: من شعره.

وفيه احتراز مما دون الثلاث؛ لقولنا: الجمع المطلق. وفيه احتراز منه إذا نتف شعرًا يؤذيه؛ لأنه ألجأه. ولأنه إذا كان لابد من تقديره بالثلاث أولى من الربع، لأن الربع لم يقدر به في شيء من الشريعة، والثلاث قد قدرت بها أحكام كثيرة مثل المسح، وخيار الشرط عندهم، وخيار المصراة عندنا، وصوم كفارة اليمين، وصوم المتمتع في الحج، وقال {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. واحتج المخالف بأنه حلق من رأسه أقل من الربع، أو قدرًا لا يماط به أذى، أشبه إذا حلق شعرة، أو شعرتين. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الثلاث بما دونها؛ لما بينا، وهو: أن الثلاث قد جعلت حدًا في الشريعة في أحكام كثيرة، وخولف بينها وبين ما دونها، والربع لم يثبت حدًا، فبطل ما ذكره. وكذلك ما يماط به الأذى لم يتعلق به حد في الأصول، ألا ترى أنه لو غطى يسيرًا من رأسه افتدى؟ واحتج بأن القليل لا يوجب الدم، والكثير يوجبه، فلابد من حد فاصل بينهما، فيجب أن يكون ذلك الحد الربع؛ لأنا وجدنا الربع يقوم مقام الكل في كثير من المواضع، ألا ترى أن الرائي إذا رأى شخصًا يقول: رأيت فلانًا، وإنما رأى أحد جوانبه الأربع. والجواب: أنا قد بينا: أن الربع لا يجوز أن يكون حدًا هاهنا؛ لأنه

لم يحد حدًا في بعض الأصول، وقد جعل الثلاث حدًا. وما ذكروه من رؤية مقدم الإنسان فلا يصح؛ لأن الإنسان ليس بمربع، فيكون مقدمه ربعه، وإنما هو مسطح. وعلى أنه إنما يقول: رأيته؛ إذا عرفه، لا لأجل أنه رأى ربعه، ومتى عرفه بجزء منه يقول: رأيت فلانًا، ورأسه أقل من الربع، وكذلك إذا رأى يده وعرفه بها، قال: رأيته، فبطل ما قاله. واحتج مالك بأنه قدر لا يؤثر في إماطة الأذى، فلا يجب به الدم. دليله: ما دون الثلاث. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق. واحتج بعض أصحابنا بأنه حلق أقل من أربع شعرات، فلم يجب الدم، كما لو حلق شعرتين. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن ما يجزئ في مسح لا يجب به دم. أصله: ما دون الثلاث. والجواب: أنه لا يمتنع أن [لا] تتقدر الثلاث في المسح، وتتقدر في الحلق، كما لو يتقدر كشف الرأس بربعه، ويتقدر المسح بربعه عندهم. والمعنى في الأصل: أنه لا يتناوله اسم الجمع، وهذا بخلافه.

مسألة فإن حلق شعرة ففيها مد من طعام، وفي شعرتين مدان في أصح الروايات

78 - مسألة فإن حلق شعرة ففيها مد من طعام، وفي شعرتين مدان في أصح الروايات: نص عليها في رواية أبي داود، فقال: إذا نتف شعرة أطعم مدًا. وهو اختيار الخرقي. والثانية: في شعرة قبضة من طعام. نص عليها في رواية حنبل، فقال: في شعرة، أو شعرتين: قبضـ[ــه] من طعام، وفي ثلاثة دم. وتتخرج رواية ثالثة: في كل شعرة درهم، أو نصف درهم، وفي الثلاث دم. نص عليها في ليلة من ليالي منى في رواية إسحاق بن إبراهيم في الرجل يبيت من ليالي منى بمكة: يتصدق بدرهم، أو بنصف درهم. وكذلك نقل أبو طالب عنه: من غلبته عينه تصدق بدرهم، أو بنصف درهم. ولا تختلف الرواية: أنه لا يجب ثلث الدم. واختلف قول الشافعي على ثلاثة أقوال: أحدها: يجب ثلث الدم. والثاني: مد.

والثالث: درهم. فالدلالة على وجوب الضمان في الجملة: أن كل جملة كانت مضمونة، كانت أبعاضها مضمونة، كالصيد. والدلالة على أنه [لا] يجب ثلث دم: أن في تضمينه بالدم إيجاب أجزاء الحيوان، وإيجاب جزء من حيوان يشق ويحرج، ألا ترى أن زكاة الغنم والبقر من جنسها، ولم يوجب فيها جزءًا من حيوان، وزكاة الإبل قبل خمس وعشرين من غير جنسها؛ لأن إيجاب جزء منها يشق، كذلك هاهنا يشق، فوجب أن يسقط وجوبه. والدلالة على إيجاب مد: أن للطعام مدخلاً مع الدم في أجزاء العبيد، وفي هذه الكفارات، فإذا كان الطعام له مدخلاً في الصيد كان له مدخل في فدية الأذى؛ لأنه إليه أقرب، وبه أشبه. واحتج من قال: يجب ثلث دم بأن الدم لما وجب في ثلاث شعرات، وجب في كل واحدة منها ثلث دم. والجواب: أنا قد بينا: [أن] في إيجاب أجزاء الحيوان مشقة بدليل ما ذكرنا من الزكاة، كذلك هاهنا.

مسألة إذا حلق المحرم شعر بدنه لزمته الفدية

واحتج من قال: (يجب درهم) بأن كل شيء ضمن بمثله، فإذا تعذر مثله كان عليه قيمته من غالب نقد البلد، كذلك هاهنا، قد تعذر إيجاب المثل، فوجب أن يجب من غالب نقد البلد. والجواب: أنه يبطل بالعبيد، فإذا تعذر مثله عدل إلى الطعام، ولم يعدل إلى الدراهم، كذلك هاهنا. 79 - مسألة إذا حلق المحرم شعر بدنه لزمته الفدية: نص عليه في رواية حبيش بن سندي: شعر الرأس واللحية والإبط سواء، لا أعلم أحدًا فرق بينهما. وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي. وقال داود: لا فدية في شعر البدن. دليلنا: قوله تعالى {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196]. فنص على الرأس لينبه؛ لأن معنى حلق الرأس موجود في حلق البدن وزيادة؛ لأن الحاجة تمس وتدعو إلى حلق الرأس، فإذا نص على وجوب الفدية فيه، كان فيه دلالة على إيجابها في شعر البدن.

فإن قيل: فالآية حجة عليكم؛ لأنه لما خص الرأس بالمنع دل على أن سائر البدن بخلافه. قيل له: قد بينا: أن التخصيص للرأس أفاد التنبيه على غيره، كما أفاد التخصيص في منع التأفيف التنبيه على غيره من الضرب. ولأنه محرم ترفه بأخذ شعر لم يلجئه الشعر إليه، فلزمه الضمان كما لو حلق شعر رأسه، ولأن شعر الرأس إنما يحصل بحلقه الترفه فحسب، وإلا فالزينة في تركه، وحلق شعر البدن يحصل به الترفه والزينة، وكان بوجوب الفدية أولى. واحتج المخالف بقول النبي صل الله عليه وسلم: "ليس في المال حق سوى الزكاة ". والجواب: أن هذا محمول على غير مسألتنا بما تقدم. واحتج بأن الأصل براءة ذمته، فمن أوجب الدم بهذا فعليه الدليل. والجواب: أنا قد [.....] الأصل لنا على ذلك بما تقدم.

مسألة إذا حل له الحلق، فحلق جميع رأسه- أو قصر- أجزأه، وإن حلق- أو قصر- أقل من ذلك لم يجزئه على المنصوص في المذهب؛ فإن في رواية ابن إبراهيم وأبي داود

80 - مسألة إذا حل له الحلق، فحلق جميع رأسه- أو قصر- أجزأه، وإن حلق- أو قصر- أقل من ذلك لم يجزئه على المنصوص في المذهب؛ فإن في رواية ابن إبراهيم وأبي داود: وقد سئل عن المرأة إذا أرادت أن تقصر من شعرها: تقصر منه كله، أو بعضه؟ قال: منه كله؛ تأخذ منه قدر الأنملة. وقال- أيضًا- في رواية ابن منصور، وقد سئل عن "من لبد أو ضفر. وقال- أيضًا- في رواية حرب: تقصر المرأة من شعرها قدر أنملة من أطراف شعرها كله [.....] رأسها. وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة: إن حلق أو قصر ربع رأسه أجزأه، وإن كان أقل من ذلك لم يجزئه. وقال الشافعي على القول الذي يقول: إن الحلق نسك، وإن [ما] يقع به التحلل ثلاث شعرات.

دليلنا: أن النبي صل الله عليه وسلم لم يقتصر على ذلك. روى أنس: أن النبي صل الله عليه وسلم لما رمى جمرة العقبة أتى بنسكه، فنحره، ثم دعا الحلاق، فبدأ بالشق الأيمن فحلقه. فدخل تحت قوله: "خذوا عني مناسككم ". وروى ابن عمر: أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "من عقص أو لبد فعليه الحلاق ". وفائدة ذلك: أن يستوعب الرأس، ولا يمكنه ذلك مع العقص. ورواه النجاد موقوفًا على عمر، وابن عمر: فروى بإسناده عن عمر قال: من لبد أو ضفر فليحلق. وروى ابن عمر قال: من لبد أو ضفر أو فتل، حلق. وفي لفظ آخر: من لبد رأسه، أو عقص رأسه، أو ضفره، أو عقده، أو فتله، فليحلق. وفي لفظ آخر: أن رجلاً سأله، وقال: إني جمعت شعري وأنا محرم، فقال ابن عمر: أما سمعت مولاك يقول: "من ضفر رأسه أو

لبَّده، فليحلقه "، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن! إني لم أضفر [هـ]، وإنما جمعته، فقال: عنز وتيس، وتيس عنز!. وروى بإسناده عن جعفر، عن أبيه، عن علي- عليه السلام- قال: من عقص رأسه، أو لبده، فلابد من حلاقه. ولأنه نسك يتعلق بالرأس، فتعلق بجميعه. أصله: كشفه. ولأنه حلق أو قصر بعض رأسه، فأشبه الشعرة والشعرتين وأقل من الربع. ولأنه قد ثبت عندنا: أن المقدار المفروض من مسح الرأس هو الكل؛ لأنها عبادة متعلقة بالرأس، وكذلك الحلق والتقصير. واحتج المخالف بأنه حلق من رأسه عددًا يقع عليه اسم الجمع المطلق، فأشبه الكل. والجواب: أن من حلق جميع رأسه لا يقال: حلق منه عددًا. وعلى أن المعنى في الأصل: أنه استوفى جميع شعره، وهاهنا حلق بعضه، فهو كالشعرة والشعرتين.

مسألة على المحصر حلق أو تقصير في أصح الروايتين

81 - مسألة على المحصر حلق أو تقصير في أصح الروايتين: رواها ابن منصور عنه في المحصر: يحل من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق، ويرجع، وليس عليه قضاء. وهو قول الشافعي على القول الذي يقول: إن الحلاق نسك. وفيه رواية أخرى: ليس عليه حلق، ولا يقصر. وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني: إذا حصره العدو؛ فإن كان معه هدي نحره مكانه، وحل، وليس عليه أكثر من هذا. وهو ظاهر كلام الخرقي- أيضًا- لأنه قال: نحر ما معه من الهدي، وحل. وبه قال أبو حنيفة. فعلى هذا يحل من إحرامه بأداء ما يحظره الإحرام من طيب، أو غيره. وجه الرواية الأولى: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن ابن عمر: أن رسول الله صل الله عليه وسلم حلق رأسه في عمرة الحديبية.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محصرًا في غير الحرم. وروي عن النبي صل الله عليه وسلم: أنه قال لأصحابه بالحديبية: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا ". ذكره أبو عبد الله بن عرفة في كتاب "الإستثناء والشروط في القرآن "بإسناده عن المسور بن مخرمة. فإن قيل: القوم كانوا محصرين في الحديبية، وبعض الحديبية حل وبعضها حرم، وروي: أن النبي صل الله عليه وسلم كان مضربه في الحل، ومصلاه في الحرم، فيحتمل أن الذين أمرهم النبي صل الله عليه وسلم بالحلق كانوا في الحرم، وعندنا أن المحصر إذا كان في الحرم يحلق. قيل له: النبي صل الله عليه وسلم لم يكن متمكنًا من الحرم بحال بدلالة قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الفتح: 25] وكل موضع ذكر المسجد فيه، فالمراد به الحرم، فأخبر أنه كان مصدودًا عنه. ثم قال: {والْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ومحله الحرم، ويأتي الكلام على هذا السؤال في ذبح هدي المحصر: هل يختص بالحرم، أو لا؟ ولأنه مأمور بالذبح لأجل الإحلال، فوجب أن يكون مأمورًا بالحلق بعده. دليله: المتمتع والقارن.

ولأن هدي المحصر يقوم مقام العمرة التي تلزم بالفوات؛ لأنه يتحلل به من إحرامه، كما يتحلل من فاته الحج بعمل العمرة، ولا خلاف بأن من فاته الحج فإنه يقلق بعد عمل العمرة، كذلك المحصر يجب أن يحلق بعد ذبح الهدي عنه. واحتج المخالف بأن الحلق خارج الحرم ليس بنسك بدليل أنه من توابع الإحرام، فأشبه الرمي. ولا يلزم عليه الوقوف؛ لأنه ليس من توابعه، وإنما هو من أركانه وفروضه، ولأنه يقع بين التحلل فأشبه الطواف. وإذا ثبت أنه ليس بنسك خارج الحرم لم يجب على المحصر، كسائر المباحات، ولهذا نقول: إذا كان الحصر في الحرم يجبه عليه الحلق. والجواب: أن الحلق خارج الحرم عندنا نسك، وقد نص عليه أحمد في رواية أبي داود، ومهنا في من حلق خارج الحرم: ما أعلم عليه شيئاً، ولا بأس؛ حلق في الحرم، أو غير الحرم. على أن قوله: (هو من [توابع الإحرام) لا] يمنع صحته خارج الحرم، كعقد الإحرام؛ فإنه ليس بمقصود عند أبي حنيفة، وإنما يدخل

مسألة إذا حلق القارن والمتمتع قبل أن يذبح، أو يرمي، فليس عليه إلا دم القران في أصح الروايتين

به إلى المقصود، ومع هذا فيصح في غير الحرم. ولأنه إذا كان الوقوف _ وهو معظم الحج _ نسكاً في غير الحرم، فأولى أن يكون كونه نسكاً. وأما الطواف والرمي [فلما اختص ببقعة] من الحرم لهذا اختص الحرم، والحلاق لا يختص ببقعة منه، ولا فيه منفعة المساكين، فلهذا لم يختص الحرم، كالإحرام والطواف. وعلى أنه لا يجوز أن تكون العلة كونه من توابع الإحرام؛ لأن الطواف ليس من توابعه، ويختص الحرم. 82 - مسألة إذا حلق القارن والمتمتع قبل أن يذبح، أو يرمي، فليس عليه إلا دم القران في أصح الروايتين: نص عليه في رواية أحمد بن الحسن الترمذي في من قدم من نسكه شيئاً، أو أخره، فإن فعل ذلك جاهلاً، أو ناسياً [فلا شيء عليه]، وإن تعمد كان أشد عندي، ومن قال: لا شيء عليه إذا تعمد فقد قال بأكثر الأحاديث.

وظاهر هذا: أن العمد والسهو سواء في إسقاط الجبران. وبه قال الشافعي. وفيه رواية أخرى: إن فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً، فلا شيء عليه، وإن فعل ذلك عامداً فعليه دم لمخالفة الترتيب، وهو اختيار أبي بكر. نص عليه في رواية أبي طالب في من نحر قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن ينحر، أو زار البيت قبل أن يرمي وإن كان ناسياً، فلا بأس وإن كان عامداً فلا؛ إنما هو على النسيان. وكذلك نقل ابن مسعود عنه: أنه ذكر له قول مالك في من حلق قبل أن يرمي، فقال أحمد: إن كان جاهلاً، فلا شيء عليه، وإن كان عالماً، فعليه دم. وقال في رواية المروذي في من قدم من نسكه شيئاً قبل شيء ناسياً: لم يكن عليه شيء، وإن فعله متعمداً [فعليه] شيء، فإن جاء بالدم فليس فيه كلام. كأنه رخص فيما هو أقل من الدم. وظاهر هذا: أنه يجبره بما دون الدم بصدقة. وقال أبو خيفة: إن كان متمتعاً أو قارناً فحلق قبل أن يذبح، أو يرمي، فعليه دمان؛ دم للقران أو التمتع، ودم للعلق قبل الذبح. وقال مالك: إن حلق قبل أن يرمي فعليه دم، وان حلق قبل أن يذبح، فلا دم عليه.

وجه الرواية الأولى: ما روى أبو بكر بإسناده عن عمرو بن العاص قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على ناقته، فجاء رجل فقال: ما وصول الله! إني كنت أظن أن الحلق قبل النحر، فحلقت قبل أن أنحر، فقال: «أنحر، ولا حرج»، وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله! إني كنت أظن أن الحلق قبل الرمي، فحلقت قبل أن أرمى، قال: «ارم، ولا حرج»، قال: فما سئل عن شيء يومئذ قدمه رجل أو أخره إلا قال: «افعل، ولا حرج». [و] روى أحمد بإسناده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن حلق قبل أن يذبح، ونحو ذلك، فجعل يقول: «لا حرج، لا حرج». فلو كان الدم واجباً في ذلك لبينه، وأمر به. فإن قيل: إنما نفى المأثم، ولم يتعرض لغيره. يبين صحة هذا: ما روى في حديث عمرو بن العاص: أن رجلاً قال له: إني كنت أظن [أن] الحلق قبل الرمي، فحلقت قبل أن أرمي، فقال: «ارم، ولا حرج». وروى زياد بن علاقة، عن أسامه بن شريك قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً، وكان الناس يأتونه، فمن قائل يقول: يا رسول الله!

سعيت قبل أن أطوف، أو قدمت شيئاً، أو أخرت شيئاً، وكان يقول: «لا حرج، لا حرج إلا [على] رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك». ولا خلاف أن تقديم السعي على الطواف لا يجوز، فعلم أن المراد ما ذكرنا. قيل له: لو كان الدم واجباً لبينه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وعلى أن السؤال مطلق عما يجب عليه الدم؛ لأنه يحتاج إلى معرفته؛ ليخرج من الواجب عليه، ويبرئ ذمته منه. والذي روي في حديث عمرو بن العاص: أنه حلق قبل الرمي، فالخلاف فيه كالخلاف في مسألتنا، وإنا إذا قلنا: إن الحلاق نسك، فإن ترتيبه على الرمي مستحب لا يجب بتركه دم، وإن قلنا: هو إطلاق محظور، وجب الدم لتقديمه قبل التحلل. وأما حديث أسامة بن شريك فهو محمول على أنه كان قد طاف طواف القدوم، وسعى خلفه؛ فإن هذا السعي معتد به من الفرض، ويطوف طواف الزيارة، ولا حرج عليه، فيكون الخبر محمولاً على أنه

قدمه على طواف [الزيارة]. والقياس: أنه ذبح يجوز العلق عقيبه، فجاز قبله. أصله: إذا كان عليه دم الطيب واللباس وجزاء الصيد. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الدم [دم] جبران، وليس بنسك، وليس كذلك في دم التمتع والقران؛ فإنه دم نسك، فكان الحلق مرتباً عليه. قيل له: فالدم في حق المفرد دم نسك، ومع هذا فلا يترتب الحلق عليه؛ لأنه لو حلق قبل أن يذبح لم يلزمه دم لأجل ذلك. فإن قيل: الدم في حق المفرد تطوع، وليس بواجب، والدم الذي يثبت في حق القارن والمتمتع واجب، فلهذا اعتبر الترتيب فيه. قيل له: طواف القدوم غير واجب، ومع هذا فإن السعي يترتب عليه، فلو كان الترتيب في الحلق مستحق لاستوى فيه التطوع والواجب؛ كطواف القدوم مع السعي. ولأن كل حالة جاز للمفرد أن يخلق رأسه فيها، جاز للقارن أن يحلق رأسه فيها. دليله: بعد الذبح. وإذا شئت قلت: حلق بعد الرمي، فلم يلزمه دم، كما لو حلق بعد الذبح. والعبارة الأولى أجود؛ لأنه لو حلق قبل الرمي كان حكمه عندنا

حكمه قبل الرمي إذا قلنا: إن الحلاق نسك. واحتج المخالف بقوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. فنهى عن الحلق قبل الذبح، ومخالفنا لا ينهى عنه، بل يبيحه، وإذا ثبت أنه منهي عنه ثبت أنه يلزمه دم؛ لأن أحداً لا يفرق بينهما. قال: وليس لقاتل أن يقول: إن الآية نزلت في المحصر، وخلافنا في القارن؛ لأنها عامة، ونزولها على سبب لا يمنع عمومها، ولأن من قال: الحلق نسك، لا يفرق بين المحصر وغيره في أن للمحصر أن يحلق قبل أن يذبح. والجواب: أنا نحمل ذلك على الاستحباب؛ لأنا نستحب الترتيب دون الإيجاب. وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]؛ يعني: الحلق. وهكذا الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا»، وكانوا محصرين في الحرم. واحتج بأن هذه مناسك تفعل بحكم الإحرام المتقدم، فوجب أن

لا يباح ترك الترتيب فيها، كالطواف، والسعي، والرمي، وطواف الصدر، ومخالفنا يقول: الأفضل أن يرتب، فإن تركه جاز، وإذا ثبت أنه منهي عن ترك الترتيب، ثبت أنه يجب دم؛ لأن أحداً لا يفرق بينهما. والجواب: أن المروذي قال: سئل أبو عبد الله عن رجل طاف بين الصفا والمروة قبل البيت، [فقال]: لا يجوز حتى يبدأ بالبيت، وذهب إلى قول سفيان: يعيد إذا كان عامداً، فإذا كان جاهلاً أرجو. وظاهر هذا: أن الترتيب يسقط في ذلك في حال النسيان. ونقل ابن منصور: وقد سئل عن من بدأ بالصفا والمروة قبل البيت، [فقال]: لا يجزئه. وظاهر هذا: إيجاب الترتيب في العمد والسهو، وهو المذهب الصحيح. ونقل ابن منصور وطاهر في موضع آخر: إذا طاف بالصفا والمروة قبل البيت في العمرة، ثم حلق، عليه دم. وظاهر هذا: أنه يجزئه، ويجبره بدم، ويكون الفرق بينهما: أن السعي لما كان مرتباً على الطواف لم يفترق الحال بين طواف الفرض وبين طواف التطوع. وكان يجب _ أيضاً _ أن يعتبر مخالفنا الترتيب في الذبح التطوع والفرض. ولأن ترتيب السعي مع الطواف معتبر في حق المفرد والقارن

مسألة إذا أخر الحلاق عن أيام النحر لم يلزمه دم في أصح الروايتين

سواء، كذلك يجب أن نقول في الحلق مع الذبح: يستوي فيه القارن والمتمتع والمفرد. واحتج بأنه قدم الحلاق على الذبح، فلزمه دم، كما لو قدمه على الرمي. والجواب: أنا إذا قلنا: إن الحلاق نسك، فلا دم عليه، ولا يجب الترتيب بينه وبين الرمي، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الترمذي، وقد سوى بينهما _ أيضاً _ في رواية أبي طالب وابن مسعود. وإن قلنا: الحلاق إطلاق محظور، وجب عليه دم. ولأنه حلق قبل التحلل الأول، كما لو تطيب، أو لبس. ويقابل هذا بمثله بأنه حلق قبل الرمي، أشبه إذا حلق بعد الذبح، وهكذا الحكم فيه إن قاسوا ترتيب الرمي على الطواف، فإنه غير واجب. 83 - مسألة إذا أخر الحلاق عن أيام النحر لم يلزمه دم في أصح الروايتين: رواها صالح في من لم يحلق حتى مضت أيام منى: فإن جاء بدم، فلا بأس، وإن لم يجيء فأرجو أن لا يكون عليه شيء. وكذلك نقل حرب عنه في امرأة نسيت أن تأخذ من شعرها حتى

خرجت من مكة، ثم أخذته بعد ذلك بأيام: أرجو أن لا يكون به بأس، وإن تصدقت بشيء أحب إلي. وبهذا قال الشافعي. وفيه رواية أخرى: يلزمه دم. نص عليه في رواية مهنا في امرأة حجت، فنفست، فلم تأخذ من شعرها حتى خرجت من مكة بعد أيام: يكون عليها دم. وبه قال أبو حنيفة. وجه الرواية الأولى: قوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، فأجاز فعله بعد بلوغ الهدي، ولم يخصه بوقت. وكذلك قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، قيل: هو الحلق، ولم يخصه بوقت، وإذا لم يختص بوقت لم يجب بتأخيره دم. والقياس أنه فعله في وقت جوازه، فلم يجب بتأخيره إليه دم، كالسعي. ولهذه العلة قلنا: إن الطواف غير موقت بأيام النحر. ولا يلزمه عليه إذا أخر صوم دم المتعة، أو أخر دم المتعة عن وقته؛ لأن فيه روايتين، والصحيح أنه لا يجب به دم. فان قيل: المعنى في السعي: أنه لا يجب فعله في الإحرام، فهو كطواف الصدر، والحلق يجب فعله في الإحرام، فأشبه الرمي. قيل له: علة الأصل تبطل بالرمي في اليوم الثاني والثالث؛ لم

يجب فعله في الإحرام، ومع هذا يجب بتأخيره دم. وقوله: (وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يفعل في الإحرام، فهو كالرمي والوقوف) فالمعنى في الرمي: أنه ليس بوقت لجواز فعله، فلهذا وجب عليه الدم بتأخيره، وليس كذلك الحلق؛ لأنه أخره إلى وقت جواز فعله، فهو كالسعي. ولأن ما بعد هذه الأيام الثلاثة وقت يجوز فيه الحلق، فلم يجب بالتأخير إليه دم. دليله: إذا أخره إلى اليوم الثاني. فإن قيل: المعنى هناك: أنه لم يؤخره عن وقته، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه أخره عن وقته. قيل له: لا نسلم هذا؛ لأنه غير مؤقت عندنا. وإن شئت احترزت عن تأخير صوم الثلاثة بأنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله، والصيام بدل عن النسك، وليس بنسك، ولتأخير البدل تأثير في إيجاب الفدية بدليل قضاء رمضان إذا أخره. واحتج المخالف بأنه نسك يجب فعله في الإحرام، فوجب أن يكون مؤقتا، كالوقوف والرمي. ولهذه العلة قلنا: إن الطواف مؤقت بأيام النحر. ولا يلزم عليه السعي؛ لأنه لا يجب فعله في الإحرام؛ لأنة يجوز أن يفعله بعد طواف الزيارة، وبعد طواف الزيارة لا يكون محرماً.

مسألة إذا حلق المحرم رأس حلال، فلا شيء عليه

والجواب: أن قوله: (يجب فعله في الإحرام) لا تأثير له؛ لأن ما لا يجب فعله في الإحرام وما يجب سواء بدليل الرمي؛ لا يجب في الإحرام، ومع هذا يجب بتأخيره الدم. ثم المعنى في الأصل: أن ذلك أخره عن وقت جواز فعله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لم يؤخره عن وقت جواز فعله، فهو كالسعي. واحتج بأنه موضوع للإحلال من الإحرام، فأشبه الطواف. والجواب: أن الطواف غير مؤقت عندنا، ولا يجب بتأخيره دم مثل مسألتنا، ويأتي الكلام عليه، إن شاء الله. فإن قيل: أليس قد قلتم: إذا أخر صوم التمتع عن وقته وجب بتأخيره دم، هلا قلتم هاهنا كذلك؟ قيل: في ذلك روايتان، والصحيح: أنه لا دم فيه. على أن صوم دم التمتع ليس بنسك، وإنما هو بدل عن النسك، وقد يجب بتأخير البدل ما لا يجب بتأخير المبدل بدليل قضاء رمضان؛ يجب بتأخيره فدية، ولا تجب بتأخير رمضان. 84 - مسألة إذا حلق المحرم رأس حلال، فلا شيء عليه: نص عليه في رواية ابن منصور، وحرب، ومهنا:

فقال في رواية ابن منصور: وقد سئل: يقصر المحرم رأس الحلال؟ قال: نعم. وفي رواية مهنا: إذا حلق المحرم رأس حلال، وهو نائم، أو كاره، لا كفارة عليه. وبهذا قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه الفدية؛ يطعم شيئاً. دليلنا: قوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وهذا خطاب للمحرمين، [فنهاهم] من حلق رؤوسهم، فدل على أن لهم أن يحلقوا رؤوس المحلين. فإن قيل: تقديره: لا يحلق أحد رأسه، ولا رأس غيره، كما قال تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، لا يقتل أحد نفسه، ولا نفس غيره. قيل له: قوله: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] خطاب للمحرمين، فلا يدخل فيهم غيرهم، وقوله: {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} خطاب لجميع المكلفين، وكان ذلك في المكلفين بمنزلة قوله: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} في المحرمين. فإن قيل: العادة أنهم لا يحلقون رؤوسهم، وإنما يحلقون رؤوس

غيرهم، فحمل النهي على ذلك. قيل له: قد ثبت أن هذا خطاب للمحرمين، فإن لم يتأت فعله في نفسه، حمل على فعله في محرم مثله؛ لأن قوله: {ولا تَحْلِقُوا} خطاب لكل واحد منهم، وقوله: {رُءُوسَكُمْ} لفظ الجمع المعرف فيقتضي جنس رؤوس المحرمين. والقياس: أنه حلق شعر محل، فلا يلزمه الفدية. دليله: إذا كان الحالق حلالاً. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه إذا حلق شعر نفسه لم تلزمه الفدية، وكذلك إذا حلق شعر محل، وليس كذلك المحرم؛ [فإنه] إذا حلق شعر نفسه لزمته الفدية. قيل: إذا كان الحالق حلالاً فاستوى شعره وشعر المحلوق؛ لأن كل واحد منهما شعر محل، فلم تختلف [......] الفدية، وليس كذلك إذا كان الحالق محرماً؛ لأن شعره مخالف لشعر المحل، فلهذا افترقا في وجوب الفدية. وقياس آخر: وهو: أنه شعر لا يختلف باختلاف المكان، فإذا لم يضمنه المحل لم يضمنه المحرم قياساً على شعر البهيمة. أو نقول: كل شعر لم يضمنه المحل لم يضمنه المحرم قياساً

على شعر البهيمة. ولا يدخل عليه شعر الصيد؛ لأنه يضمنه المحل في الحرم. أو نقول: شعر لا يتعلق بمنبته حرمه الإحرام، أشبه شعر البهيمة. وقياس آخر، وهو: أنه معنى يراد للترفه، فإذا فعله المحرم بالمحل لم يلزمه الضمان، كالطيب واللباس. وعبر عن هذا المعنى بعضهم، فقال: عبر على المحل كراهية المحرمين، فلم يلزمه فدية. دليله: اللبس. وهذا ينتقض بالمحرم إذا وطئ المحلة، فإنه يلزمه الفدية، وقد عبر على المحلة هيئة المحرمات، والصحيح ما ذكرنا. فان قيل: فرق بينهما، وذلك أن اللبس والطيب غير محرم على المحرم في حال العذر على الإطلاق؛ لأن له لبس الإزار والرداء، وإنما نهي عن لبسه على صفة، وهو أن يشتمل عليه بالخياطة. وكذلك لم ينهه عن التطيب على الإطلاق؛ لأن له أن يلبس ثوباً

مبخراً بعود وند. وليس كذلك الحلق؛ فإنه محرم على المحرم في غير حال العذر على الإطلاق، فوجب أن يستوي في وجوب الكفارة في حقه وحق وغيره. دليله: قتل الصيد. قيل له: هذا ينتقض بقتل الصيد؛ فإن المحرم يمنع من قتله على الإطلاق في غير حال العذر؛ لأن صيد البحر من جمله الصيد، ومع هذا فلا يمنع منه، وكذلك الذئب عندهم هو صيد لا يمنع، ومع هذا لا يستوي في وجوب الكفارة في حقه وحق غيره، وكذلك لحم الصيد ليس بمجرم على المحرم إذا لم يصد لأجله، ولحمه يجرى مجرى الصيد في باب التحريم إذا ذبح لأجله. وعلى أن الحلاق واللباس فد تساويا في حق المحرم في إيجاب الفدية عليه، وإن كانا يختلفان من الوجه الذي ذكروه، وهو: أن اللبس يباح في غير حال العذر، والحلق لا يباح، يجب _ أيضاً _ أن يتساويا في حق المحل. وعلى أن أكثر ما في هذا [أن] تحريم الحلاق أعم من تحريم اللبس، وهذا لا يوجد الفرق بينهما في باب الضمان، ألا ترى أن كل ما يؤكل لحمه من الحيوان لا يباح قتله لغير ضرورة، وما يباح أكله

[يقتل] للضرورة ولغيرها، ثم يتساويان في الضمان في حق الأجنبي إذا أتلفه عليه، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأنه محرم حلق شعر الآدمي، فوجب أن تلزمه الفدية، كما لو حلق رأس نفسه، أو رأس محرم آخر. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه لو ألبسه المخيط أو طيبه وجب عليه الفدية، فكذلك إذا حلقه، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لو ألبسه أو طيبه لم تلزمه الفدية، وليس كذلك هاهنا؛ لأن منبته لا تتعلق به حرمة الإحرام. ولأن شعر المحرم مضمون بالدم، وما اختلفنا فيه مضمون بالصدقة، فلو كانا سواء لوجب أن يتساويا في مقدار الضمان. واحتج بأنه معنى نهي عنه المحرم في غير حال العذر على الإطلاق، فوجب أن يستوي في وجوب الكفارة في حقه، وحق غيره. دليله: الصيد. قالوا: ولا يلزم عليه إذا ألبس غيره، أو طيبه؛ أنة لا فدية؛ لأنه لم ينه عن اللبس على الإطلاق، إنما نهي عن لبس على صفة هي المخيط، وكذلك الطيب؛ لم ينه عن ثوب مبخر بعود. والجواب: أنا قد بينا: أن الصيد لم يمنع منه المحرم على الإطلاق

في حال العذر من الوجه الذي ذكرنا. وعلى أن الصيد قد يحرم إذا كان للمحل على المحل، ويجب الجزاء بقتله، وهذا إذا كان في المحرم، ولا يحرم شعر المحل على المحل بحال، ولا تجب الفدية عليه بحلقه. ولأن الله _ تعالى _ أطلق تحريم الصيد بقوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95]، فلهذا استوى صيده وصيد غيره، وقيد الحلق فقال: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196]، وهذا خطاب للمحرمين خاصة من الوجه الذي ذكرنا، فبان الفرق بينهما. ولأن الصيد لما منع من قتله في حقه وحق غيره استوى الجزاء، فلو كان الحلق كذلك لاستوى، ولما فرق بينهما، فقال: في شعر المحرم دم، وفي شعر الحلال صدقة، دل على الفرق بينهما. فإن قيل: اختلافهما في المقدار لا يمنع استواءهما في وجوب الفدية فيهما، كما أن اختلاف المقدار الواجب في شعرة واحدة وفي ثلاث شعرات لا يمنع استواهما في الوجوب، وإنما اختلفا في المقدار؛ لأنه إذا حلق رأس نفسه حصل له الانتفاع به، وإذا حلق رأس غيره حصل الانتفاع به للمحلوق. قيل له: إنما اختلف المقدار فيما دون الثلاث؛ لأنه لا يقع عليه اسم الجمع المطلق، ويقع على الثلاث، وليس كذلك هاهنا؛ لأن اسم الجمع المطلق قد وجد، وعند مخالفنا ربع الرأس في حق الحلق، فلو

مسألة إذا حلق الحلال رأس المحرم، وهو نائم، أو مكره، فالفدية على الحالق

كان ممن تتعلق به الفدية، لوجب أن يستوي حكمه في حقه، كما استوى في حق المحرم. واحتج بأن الاعتبار بالمحرم، لا بالشعر، كما أن الاعتبار به، لا بالصيد، ألا ترى أن رجلاً لو كان في الحرم، فرمى صيداً في الحل، لزمه الجزاء، وإن كان الصيد في الحل مباحاً؛ لأن حال الرجل يحظر الصيد، كذلك إذا حلق رأس الحلال يجب أن تلزمه الفدية؛ لأن حاله يحظر حلق الشعر. والجواب: أنه لما كان الاعتبار به في مثل الصيد، لا بالصيد، لزمه بقتل صيد الحل ما يلزمه بقتل صيد الحرم، فلو كان الاعتبار به، لا بالسفر، لوجب أن يلزمه بذلك ما يلزم المحرم. 85 - مسألة إذا حلق الحلال رأس المحرم، وهو نائم، أو مكره، فالفدية على الحالق: وذكره أبو بكر في كتاب «الخلاف» عن أحمد في رواية ابن منصور. وقياس المذهب يقتضيه في المحرمة إذا جومعت مستكرهة:

لا كفارة عليها. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: الفدية على المحلوق رأسه. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: مثل قول أبي حنيفة. دليلنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي عن ما استكرهوا عليه». والمحرم مستكره، فيجب أن يعفى عنه. ولأنه شعر زال عن رأسه من غير صنع من جهته، فلم تلزمه الفدية، كما لو تمعط شعره بمرض. فإن قيل: لو كان كذلك، لما وجبت الفدية أصلاً، كما لا تجب بالتمعط. قيل له: إنما يجب الضمان في الأصل بحال؛ لأنه ليس هناك حالق يتوجه عليه الضمان، وفي مسألتنا حالق يتوجه عليه الضمان، فأوجبنا الفدية عليه، وهذا كما نقول في المودع: إذا تلفت الوديعة في يده بمرض لم يجب الضمان على أحد، فإذا أتلفها غير المودع لم يجب الضمان على المودع، ووجب على المتلف، كذلك هاهنا.

مسألة إذا حلق المحرم شعر المحرم بإذنه, فعلى المحلوق شعره فدية, ولا شيء على الحالق

واحتج المخالف بأن الانتفاع بالحلق حصل للمحرم, فوجب أن تكون الفدية عليه دون غيره, كما لو حلقه بأمره. ولا يلزم عليه إذا تمعط لعلة؛ لأن الفدية لم تجب أصلًا. والجواب: أن المعنى في الأصل: أن الشعر زال بصنع من جهته, فلزمه الضمان, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه زال من غير صنع من جهته, فلم يضمن, وهما سواء؛ لأن المحرم مأمور حفظ شعره, كالمودع. واحتج بأن الانتفاع بالحلق للمحرم, فلو أسقطنا الفدية عنه لأسقطناها للعذر لا يمنع وجوب الفدية بدلالة وجوبها على من كان به أذى من رأسه فحلقه, أو كان ناسيًا. والجواب: أن فريقًا بين العذر بالمرض, وبين العذر بالإكراه, ألا ترى أنه لو احتاج إلى الفطر, لزمه القضاء, ولو صب الماء في حلقه لم يفطر, ولم يلزمه القضاء, فدل على الفرق بينهما. 86 - مسألة إذا حلق المحرم شعر المحرم بإذنه, فعلى المحلوق شعره فدية, ولا شيء على الحالق: وقال أبو حنيفة: عليه صدقة, كما قالوا في المحرم إذا حلق شعر المحل.

مسألة الحلق في الإحرام نسك يثاب على فعله ويعاقب على تركه

دليلنا: أنه شعر زال عن المحرم باختياره, فلم يلزم غيره ضمانه. دليله: لو كان الحالق محلًا. ولأنه محرم حصل له ترفه باختياره, فلم يلزم الفاعل به ذلك ضمانه. دليله: لو طيبه, أو ألبسه. ولا يجوز القياس عليه إذا حلق بغير إذنه؛ لأن الشعر زال عن المحرم بغير اختياره بالتفريط من الحالق, فلزمه الضمان. 87 - مسألة الحلق في الإحرام نسك يثاب على فعله ويعاقب على تركه: نص عليه في مواضع ابن إبراهيم, وأبي داود: تقصر المرأة من جميع رأسها قدر الأنملة. وقال في رواية حنبل والميموني: إن شاء قصر, وإن شاء حلق, والحلق أفضل. وقال في رواية منها: إذا أخت المرأة التقصير حتى خرجت أيام منى, فعليها دم.

وقال- أيضًا- في رواية بكر بن محمد: إذا اعتمر الرجل, فلابد من أن يحلق, أيقصر, ولا يعتمر حتى شعره, فيمكن حلقه, أو يقصره. وقال في رواية أبي داود: يعجبني إذا دخل متمتعًا أن يقصر؛ ليكون الحلق للحج. وهذا كله يدل على أنه نسك, وبهذا قال أبو حنيفة, ومالك. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: إطلاق محظور, كاللباس والطيب. دليلنا: قوله تعالى:} ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ {] الحج: 29 [. روى ف التفسير: أن المراد به الحلق, وروى: بقايا أفعال الحج مثل رمي الجمار, ونحوه, وهو عليهما جميعًا. وإذا ثبت أن الحلق من قضاء التفث وقد أمر الله به, وجب أن يكون نسكًا. وأيضًا قوله تعالى:} لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ {] الفتح: 27 [. فامتن علينا بدخولنا على هذه الصفة, فدل على أن الفضل يحصل بها. ولأنه عبر عن الإحرام بالحلق والتقصير, ولا يعبر عن العبادة إلا

بما هو منها, كقوله:} وَقُرءَانَ الفَجرِ {] الإسراء: 78 [. ويدل عليه ما روى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلقين)) , قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: ((اللهم ارحم المحلقين)) , قالوا: يا سول الله! والمقصرين؟ قال: ((والمقصرين)). فدعا للمحلقين ثلاثًا, وللمقصرين مرة واحدة, فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء. فإن قيل: إنما دعا لهم؛ لأن فيه قربة, وهو النظافة. قيل له: هذا المعنى لا يوجد في التقصير, وقد دعا للمقصرين. ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((اذبحوا, واحلقوا)). فأمرهم بالحلق, وأمره على الوجوب, فدل على لسانه أنه نسك. ولأن الأمة قد نقلت من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الحلق للحاج قولًا وفعلًا, كما نقلت سائر المناسك, فدل على أنه نسك, وليس من الأفعال المباحة. ولأن هذه عبادة لها إحلال وإحرام, فوجب أن يكون من محظوراتها

ما هو قربة فيها, كالصلاة من محظوراتها ما هو واجب فيها. أصله: ما ذكرنا. واحتج المخالف بأنه محظور في الإحرام, فوجب أن يكون في وقته إطلاق محظور قياسًا على الطيب واللبس وقتل الصيد. والجواب: أن كونه محظورًا ف حال الإحرام لا يمنع أن يكون قربة عند الإحلال, كالسلام هو محظور في الصلاة, كالكلام والمشي ونحو ذلك ثم يكون مسنونًا في آخرها. ثم المعنى في سائر المحظورات: أن الشرع لم يرد باستحقاق الثواب عليه, فلهذا لم يكن نسكًا, هاهنا قد ورد, فلهذا كان نسكًا. واحتج بأنه لو كان من أعمال الحج لوجب إذا فعله قبل وقته] أن [لا يتعلق به وجوب الدم, كالطواف والرمي. والجواب: أن السلام قربة في الصلاة عند التحلل منها, ثم إذا قدمه على وقته على سبيل السهو تعلق به الجبران, كذلك لا يمنع أن يقع التحلل بالحلق, وإذا قدمه على وقته تعلق به الجبران, وهو الدم. فإن قيل: لو كان الحلاق يجري مجرى السلام لوجب أن يقع التحلل به, كما يقع بالسلام. قيل له: في ذلك روايتان:

إحداهما: أن التحلل يقع به وبالرمي, كما يقع التحلل من الصلاة بالسلام. وقد نص على هذا في مواضع: فقال في رواية أبي داود في من دخل بعمة, فلم يقصر حتى كان يم التروية: فهذا لم يحل بعد, يقصر, ثم يهل بالحج, ولا شيء عليه, وبئس ما صنع. ونقل عنه في موضع آخر في المعتمر يقع بامرأته قبل أن يقصر: عليه الفدية. وكذلك نقل أبو طالب في معتمر طاف فوقع على امرأته قبل أن يسعى: فسدت عمرته وعليه مكانها, وإن طاف وسعى, ثم وطئ قبل أن يحلق, فعليه دم. وقال- أيضًا- في رواية الأثرم في معتم حل من عمرته, فوقع على امرأته قبل أن يقصر, فعليه دم؛ يذبح شاة. وقال- أيضًا- في رواية ابن إبراهيم في محرم وقع بأهله قبل أن يقصر قال: عليه دم. وهذا صريح في أنه لا يقع التحلل قبل الحلق, أو التقصير, وإنما يقع به, وبه جاءت السنة: فروى أحمد في ((المسند)) بإسناده عن عائشة قالت: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رميتم وحلقتم, فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء)). فعلق التحلل بالرمي, والحلاق. ولأنها عبادة لها تحليل وتحريم, فوجب أن يقع التحلل منها بمعنى محظور عليه فيها خلال الإحرام, كالصلاة. فعلى هذا لا يلزم السواك. وفيه رواية أخرى: يقع التحلل برمي الجمرة, ولا يقف عليه. أومأ إليه في رواية أبي الحارث فقال: الإحرام قائم عليه, فإذا رمي الجمرة فقد انتقض إحرامه. وقال- أيضا- في رواية ابن منصور: وقد سئل عن المحرم يغسل رأسه قبل أن يحلقه, فقال: إذا رمى الجمرة فقد انتقض إحرامه, إن شاء غسله. وقال في رواية ابن منصور في الذي يصيب أهله في العمرة قبل أن يقص: الدم لها كثير. وهذا يقتضي أنه قد تحلل؛ لأنه لو كان الإحرام باقيًا لأوجب الدم؛ لأنه قد نص على أنه من وطئ في العمرة عليه شاة في رواية أبي طالب.

مسألة إذا كان المحرم أصلع, أو محلوق الرأس, استحب إمرار الموسى على رأسه, ولم يجب عليه

فعلى هذا: لا يمنع هذا كونه نسكًا, وإن لم يقع التحلل به, كالمبيت في المزدلفة, ورمي الجمار في اليوم الثاني والثالث. وقد روى أحمد في ((المسند)) بإسناده عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيٍء إلا النساء)). وهذا نص في أن التحلل يقع بالرمي فقط. 88 - مسألة إذا كان المحرم أصلع, أو محلوق الرأس, استحب إمرار الموسى على رأسه, ولم يجب عليه: وقد قال: أحمد في راية المروذي في المتمتع: إذا دخل يوم التروية فأعجب إلي أن يقصر, إن دخل في العشر, فأراد أن يحلق حلق, فإن هو دخل في يوم التروية, فحلق فلا بأس به, ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق. وهذا محمول على طريق الاستحباب؛ لأنه قد قال في رواية بكر ابن محمد: لا يعتمر حتى يخرج شعره, فيمكن حلقه, أو تقصيره. وهذا يدل على أن إمرار الموسى لا يجب, ولا يقوم مقام الحلق. وقال أبو إسحاق في ((تعاليق كتاب العلل)): قد قال أحمد في الذي

يولد, وليس له شيء: كأنه مختون, يمر الموسى على الموضع, كما قال ابن عمر في الأصلع. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجب. دليلنا: قوله تعالى:} مُحَلِقِينَ رُءُوسَكُم وَمُقَصِرِينَ {] الفتح: 27 [والمراد به: شعور رؤوسكم؛ لأن الرأس لا يحلق, ولا يقصر, فإذا لم يكن على رأسه شعر لم يتناوله الأمر. ولأن إمرار الموسى لو كان حلقًا لوجب إذا فعله قبل التحلل أن يجب به الفدية, فلما لم يجب به ثبت أنه ليس بحلق يؤمر به حال التحلل. ولأن الفرض تعلق بشعر الرأس مع وجوده, فإذا عدم الشعر سقط الفرض, كالطهارة لما تعلقت بالعضو سقطت بعدم العضو. فإن قيل: فيجب أن لا يستحب إمرار الموسى على رأسه لعدم الشعر. قيل له: لا فرق بين الأصل والفرع في باب الاستحباب, فإنه يستحب له أن يمر الماء على محل القطع وإن لم يجب, كما نستحبه هاهنا. نص عليه أحمد في رواية صالح وعبد الله: من قطعت يده من المرفق يغسل الموضع الذي قطع؛ يدير الماء بيده الأخرى.

وقال في رواية مهنا: المتيم يمسح الموضع الذي قطع بالتراب. واحتج المخالف بما روي عن ابن عمر: أنه قال في الأصلع: يمر الموسى على رأسه. ولا يعرف له مخالف ذكره النجاد بإسناده. والجواب: أن هذا محمول على الاستحباب دون الإيجاب. واحتج بأنها عبادة متعلقة بالرأس, فإذا لم يكن عليه شعر تعلقت ببشرة الرأس, كالمسح. والجواب: أنه مأمور في الطهارة بمسح الرأس, والماسح على بشرة الرأس يسمى ماسحًا, فجاز أن تتعلق العبادة بها, وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه مأمور بحلق الرأس, وهذا لا يسمى حالقًا. فإن قيل: لا يمتنع أن يؤمر بالتشبه بالحالق, وإن لم يسم حالقًا, كما أن من أصبح في أول يوم من رمضان, وهو يظن أنه من شعبان, فأكل, ثم استبان له في بعض النهار أنه من رمضان, فإنه يؤمر بالتشبه بالصائم بالإمساك, وإن لم يسم صائمًا. قيل: إنما لزمه الإمساك هاهنا, وإن لم يكن صائمًا؛ لأن الصيام

لزمه باطنًا, ومحل الصوم باٍق, فلزمه الإمساك, وهاهنا محل الفرض متعلق بالشعر, وذلك غير موجود, فمثاله: أن يستبين له أنه كان من رمضان بعد دخول الليل, فلا يلزمه الإمساك بفوات الزمان. ويبين صحة هذا: أن فرض المسح تعلق بالرأس دون الشعر بدلالة أنه لو كان الشعر على بعض رأسه دون بعض كان بالخيار عندهم؛ إن شاء مسح على البشرة, وإن شاء مسح على الشعر, فلم يسقط الفرض لعدم الشعر. وفي الحلق تعلق بالشعر بدلالة أنه لو كان الشعر في بعض رأسه دون بعض, لم يجز له إمرار الموسى على البشرة, فإذا عدم ما تعلق به الفرض سقط. فإن قيل: تعلق الفرض به لا يوجب سقوطه بعدمه بدلالة فرض الطهارة يتعلق بالماء, ثم لا يسقط الفرض بعدمه, وكذلك الصوم في أول يوم من رمضان. قيل له: قد بينا أن الأصول على هذا, وأن الفرض إذا تعلق بمحل مخصوص سقط بفواته, كالطهارة لما تعلقت بالأعضاء سقطت بفواتها, وكذلك الإيجاب إذا تعلق برقبة سقط بفواتها. وأما الصيام فقد تكلمنا عليه, وأما انتقال الطهارة إلى التيمم عند عدم الماء, فذلك بالشرع لا غيره.

مسألة إذا حلق لغير عذر لزمه دم, ولم يخير بين ثلاثة أشياء؛ كاللبس والطيب

89 - مسألة إذا حلق لغير عذر لزمه دم, ولم يخير بين ثلاثة أشياء؛ كاللبس والطيب: نص عليه في رواية سندي الحواتيمي وابن القاسم في المحرم يحلق رأسه من غير أذى ليس هو عندي بمنزلة من يحلق من إذا حلق رأسه من أذي, فهو مخير في الفدية, ومثل هذا لا ينبغي أن يكون مخيرًا. وبهذا قال أبو حنيفة. قال الشافعي: يخير كما لو حلق لعذر. دليلنا: أن الله- تعالى- خير الحالق بين ثلاثة أشياء لوجود معنى, وهو الأذى, فإذا عدم المعنى لم يثبت التخيير, ووجب دم للجناية في حال الإحرام. ولأنها كفارة وجبت بجناية في الإحرام, لا على طريق العوض, فوجب أن لا يخير بها بين الدم, والإطعام, والصوم. أصله: الكفارة والتي تجب بالوطء. ولا يلزم عليه جزاء الصيد؛ لأنه عوض, والحلق من

أذى ليس بجناية. ولأنه دم يتعلق بمحظور يختص الإحرام, فلا نخيره بينه وبين الصوم. أصله: الدم الذي يجب بترك الرمي ومجاوزة الميقات. ولا يلزم عليه جزاء الصيد؛ لأنه لا يختص الإحرام, بدلالة أنه محظور في الحرم. ولا يلزم عليه الحلق من أذى؛ لأنه غير محظور. واحتج المخالف بأنه كفارة ثبت فيها التخيير إذا كان سببها مباحًا, فوجب أن يثبت فيها التخيير إذا كان سببها محظورًا. أصله: جزاء الصيد. وربما قالوا: الحلاق إتلاف, فلم يختلف حكمه لعذٍر, كقتل الصيد. والجواب: أنه لا فرق عندك بين ما هو إتلاف, وما ليس بإتلاف؛ لأنه لبس لغير عذر, فكان مخيرًا, واللبس ليس بإتلاف. ثم الصيد كفارته وجبت على طريق العوض, فإذا خف سببها بالإباحة, خف حكمها, وإذا تغلظ سببها بالحظر, تغلظ حكمها. ولأن الله- تعالى- نص على التخيير في قتل الصيد في أغلظ

مسألة إذا غسل المحرم رأسه بالسدر والخطمي لم تلزمه الفدية في إحدى الروايتين

الأحوال, وهو العمد, فلما أوجب الكفارة المخففة في أغلظ الأحوال كان ذلك تنبيهًا على تخفيف حكمها فيما لم تتغلظ فيه, وهو الخطأ, والقتل بعذر. وأما كفارة اللبس والحلق فنص على حكمها مخففة عند أخف أسبابها, فلم يجز أن يستدل على ثبوت حكم التخفيف في أغلظ الأحوال. 90 - مسألة إذا غسل المحرم رأسه بالسدر والخطمي لم تلزمه الفدية في إحدى الروايتين: قال في رواية حنبل: المحرم يدخل الحمام, وليس عليه كفارة, ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه. فقد أطلق القول في ذلك. وقال في رواية أبي داود: حديث ابن عباس: أن رجلًا وقصته ناقته, وهو محرم, فيه خمس سنن: ((كفنوه في ثوبين, ولا تخمروا رأسه, ولا تمسوه طيبًا, واغسلوه بماٍء وسدٍر)). أي: في الغسلات كلها, فقد أجاز غسل الميت بالسدر. وقال أيضًا في الحناء: ليس بطيب, ولا كفارة فيه.

وبهذا قال الشافعي. وفيه رواية أخرى: فيه الفدية. قال في رواية صالح: إذا غسل المحرم رأسه بالخطمي افتدى. وقال أيضًا- في رواية المروذي: لا يغسل رأسه بالخطمي, ولكن يصب على رأسه الماء صبًا, ولا يدلكه. وروى عنه محمد بن أبي حرب: وقد سئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب, فكرهه, وكره الأشنان. وبه قال أبو حنيفة. وجه الرواية الأولى: ما روى عبد الله بن عباس: أن محرمًا خر من بعيره, فوقص, فمات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوه بماٍء وسدٍر, ولا تقربوه طيبًا)). وذلك المحرم كان باقيًا على إحرامه عندنا وعندهم, فثبت أن المحرم غير ممنوع من استعمال ذلك. فإن قيل: حكم الإحرام بعد الموت أخف منه في حال الحياة, فلذلك جاز استعماله. قيل له: فيجب أن يجوز استعماله الطيب, وتغطيه الرأس والوجه. فإن قيل: الحاجة تدعو في الميت؛ لأنه لا ينقيه غيره, فجاز

للحاجة, وهذا المعنى غير موجود في الحي؛ لأنه يزيل الدرن عنه بعد التحلل, فلا حاجة به إليه في الإحرام. قيل له: قد يقوم غيره مقامه في إزالة الدرن من الأشنان ونحوه. ولأن القصد من السدر والخطمي القصد منه النظافة وإزالة الوسخ والدرن, فهو كالأشنان والماء, وذلك لا يوجب الفدية, ويفارق الدهن؛ لأن ذلك يقصد به الترجيل وإزالة الشعث. واحتج المخالف بأن هذا يزيل التفث, ويقتل الدواب, فهو كالحلق. والجواب: أنا لا نسلم هذا؛ لأنا قد بينا: أن القصد منه إزالة الوسخ, فهو كالأشنان. واحتج بأنه يعتاد استعماله في الشعر, وله رائحة مستلذة, كالدهن. والجواب: أن السفر جل والتفاح له رائحة مستلذة, ولا يوجب الفدية, وأما الدهن فيحمل به ترحيل الشعر, ولأنه طيب. واحتج بأن الشعر تارة يستصلح ما يغسل به, وتارة بما يدهن به, فإذا وجبت الفدية بأحدهما, جاز أن تجب بالآخر. والجواب عنه: ما تقدم.

مسألة إذا قلم ثلاثة أظفار فصاعدا, ففيها دم, وإن قلم أقل من ذلك, فهو على الروايات التي تقدمت في حلق الشعر

91 - مسألة إذا قلم ثلاثة أظفار فصاعدًا, ففيها دم, وإن قلم أقل من ذلك, فهو على الروايات التي تقدمت في حلق الشعر: وقد قال أحمد في رواية مهنا في محرم قص أربع أصابع من يده: فعليه دم, قال عطاء: في شعره مد, وفي شعرتين مدان, وفي ثلاث شعرات فصاعدًا دم. والأظفار أكث من ثلاث شعرات. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن قص خمسة أظفار من يد واحدة, أو رجل واحدة, وجب عليه دم, وإن كان أقل من ذلك, فعليه صدقة في كل ظفر نصف صاع حنطة. ولأنه قص خمسة أظفار من يدين, أو رجلين, كان عليه اسم الجمع المطلق, لم يلجه الظفر إليه, وأشبه إذا قلم أظفاره يده. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه قد استعمل منفعة إحديهما, وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لم يستعمل. قيل له: يبطل به إذا حلق ربع رأسه؛ فإنه لم يستعمل المنفعة, ومع هذا ففيه دم. ولأن القليل لا يوجب الدم, وهو ظفر واحد, والكثير يوجبه,

وأقل ما يتعلق به حكم الكثرة في الأصول هو ثلاثة, وكانت حدًا فاصلًا بين ما يوجب وما لا يوجب بقلم خمسة أظفار, ولا يوجب بقلم ستة عشر ظفرًا, وهو إذا قلم أربعة من كف وأربعة من كف, وأربعة من قدم, وأربعة من قدم. وهذا ظاهر الفساد. ولأن ما ذهبوا إليه يؤدي إلى أن يصم بعضه إلى بعض, والذي تقتضيه الأصول عنده الضم, ويجعل بمنزلة الموجود في كف واحدة, وقدم واحدة, كما ضم النجاسات بعضها إلى بعض, فإذا بلغت مقدار درهم كانت بمنزلة المتصلة, وكذلك ضم خرق الخف بعضه إلى بعض, وجعل المتفرق بمنزلة المتصل, وكذلك ضم الجنايات بعضها إلى بعض في الأطراف, فإذا بلغت نصف عشر الدية حملها العاقلة عنده, فيجب أن ينظر مثل هذا في مسألتنا. وقضم الخمسة من يدين كأنه وجد من يد واحدة. فإن قيل: المقصد من النجاسة تطهير الثوب منها, فإذا وجد منها مقدار ما يجب غسله لو وجد في موضع واحد, وجب غسله إذا كان في مواضع متفرقة.

وقص الأظفار المقصد فيه الجمال والمنفعة, فإذا لم يحصلا له لم يجب عليه دم. وأما الخف إذا تخرق فإنه يضم بعضه إلى بعض إذا كان في خف واحد, وأما إذا كان في خفين, فلا يضم كمسألتنا. فأما الجنايات, فلا تشبه مسألتنا؛ لأنه لو قطع أصابع اليدين وجبت عليه الدية, ولو قطع أصابع إحدى اليدين وجب نصف الدية, وفي قص الأظفار جب في اليدين ما يجب في اليد الواحدة إذا كان في مجلس واحد. قل له: أما قولك: (إن القصد من الأظفار الجمال والمنفعة) فغير صحيح؛ لأن يسير النجاسة لا تجب إزالته عندهم, القصد موجود, فعلم أن القصد إزالته على صفة, وهو جمع بعضه إلى بعض. وقوله: (القصد من الأظفار الجمال والمنفعة) غير صحيح؛ لأنه لو قطع ظفره افتدى, وإن لم يوجد هذا المعنى. وأما قوله: (إن الجنايات أن لا يتداخل أرشها إذا كانت في مجلس, والقص يتداخل إذا كان في مجلس) , فذلك لأن الجنايات حق لآدمي, وحقوق الآدميين يختلف البدل باختلاف المبدل؛ بقلته وكثرته, واليدان أكثر من اليد الواحدة. فأما تقليم الأظفار فإنه- وإن كان مصرفه إلى الآدميين- فإنه حق لله

تعالى, فلم يجب في اليد الثانية أكثر مما يجب في الأولى, ودخله التقدير. واحتج المخالف بأنه لم يستكمل منفعة إحدى اليدين بإزالة التفث عنها [, فصار كمن قلم ظفرا أو ظفرين. والجواب: أنه إذا حلق ربع رأسه, لم يستكمل منفعته بإزالة التفث عنه, ومع هذا فهو كمن حلق جميع رأسه. وربما قالوا: اليد عضو له نظير في البدن, ولم يستكمل منفعته, فوجب أن لا يلزمه دم, كما لو قلم ظفرين من يد واحدة. ولا يلزم عليه إذا حلق ربع الرأس؛ أنه يجب به دم, وإن لم يستكمل منفعته؛ لأنه لا نظير له في البدن. والجواب: أن العضو الذي لا نظير له والعضو الذي له نظير في موجب الإحرام واحد؛ لأن إزالة التفث عن الرأس محرم, كما يحرم عن اليدين والرجلين, والواجب فيهما من الصدقة والدم وما يتداخل على طريقة واحدة, فيجب أن يكونا سواًء في مسألتنا, وأنه لا اعتبار في إكمال الدم باستكمال المنفعة. وعلى أن هذا الاعتبار ليس بصحيح؛ لأنه إذا لم يخلق لكفه إلا

ثلاثة أصابع، وكان الباقيس مقطوعًا، وإذا قلم الظفر الموجود فقد استكمل منفعة العضو، ولا يجب به الدم، ولو خلق لكفه ستة أصابع، وقلم أصابعها الأصلية وجب الدم عليه، وغن لم يستكمل منفعة الكف؛ لأنه قد بقي ظفر طويل. ثم المعنى في الأصل: أنه قصر أقل من ثلاثة أظفار، فلهذا لم يجب الدم، وليس كذلك في الفرع؛ لأنه قلم ثلاثة فصاعدًا، أشبه إذا قلم خمسة من يد. واحتج بانا قد جعلنا اليد الواحدة فيما أوجبنا فيها من الفدية بمنزلة اليدين، وأنه يجب في الجميع ما يجب في يد واحدة، وهو دم واحد، فغير جائز أن نقيم أكثر إحداهما مقام اليدين، ألا ترى أنا لما جعلنا أحد الإبطين [بمنزلة الإبطين]، لم يجز أن نقيم أكثر أحدهما مقام الإبطين؟ وكما أنا لما جعلنا ثلاث شعرات بمنزلة الكل في إيجاب الدم فيه إذا حلقه، لم يجز أن نقيم أكثر الثلاث مقام الجميع، كذلك هاهنا.

والجواب: أنا نقيم أكثر الإبطين مقام الإبطين في إيجاب الدم، فإذا حلق من أحدهما ثلاث شعرات، كان [كما لو] حلق الإبطين. وأما الأكثر من ثلاث شعرات فإنما لم يقم مقام جميع الرأس؛ لأنه لم يحلق ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، وهاهنا قد وجد اسم الجمع المطلق. واحتج بأن هذه جنايات حصلت في أعضاء متفرقة تجب بها كفارة، فوجب ان يعتبر كل عضو على حاله، ولا يضم بعضه إلى بعض، كما لو حلق بعض إبطه، وبعض عانته، وبعض رأسه. والجواب: أنه يبطل بالجناية على الأعضاء؛ فإنه يضم بعضها إلى بعض في باب الدية وتحمل العاقلة. وما ذكروه من شعر الإبط والعانة، فإنه يضم بعضه إلى بعض، فإذا كان الجميع ثلاث شعرات وجب الدم. وأما شعر الرأس واليدين فعندنا أنه في حكم الجنسين، ولهذا نقول: إذا حلق شعر رأسه، وحلق شعر يديه، وجب عليه دمان. فعلى هذا: إذا حلق شعرتين من رأسه، وشعره من يديه، وجب أن لا تضم في إكمال الدم، كما لم يضم حلق جميع الرأس وجميع البدن في الاقتصار على دم واحد.

مسألة إذا حلق ثم حلق، أو قلم ثم قلم، أو لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب، أو وطئ ثم وطئ، ولم يكفر عن الأول، فكفارة واحدة في أصح الروايتين

92 - مسألة إذا حلق ثم حلق، أو قلم ثم قلم، أو لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب، أو وطئ ثم وطئ، ولم يكفر عن الأول، فكفارة واحدة في أصح الروايتين: نص عليها في رواية ابن منصور في من وقع باربع نسوة - وهو محرم - في يوم واحد، أو أيام متفرقة، فسد حجه، وعليه كفارة واحدة، ما لم يكفر. وكذلك نقل ابن القاسم: وقد حكي له قول بعضهم: إذا وجبت عليه كفارة في لباس، أو طيب، ونحو ذلك، ثم كفر، ثم عاد بمثله، فعليه الكفارة، وإن لم يكفر حتى عاد، فليس عليه إلا كفارة واحدة، فقال: هو هكذا؛ إذا لم يكفر، فليس عليه إلا كفارة واحدة. وفيه رواية أخرى: إن كان السبب مختلفًا، كمن لبس بالغداة لبرد، ووقت الظهر لحر، ووقت المغرب لعلة، أو حلق لعلة، ولبس لعلة أخرى، وتطيب لسبب آخر، فعليه لكل واحد كفارة، فإن كان السبب واحدًا، فالكفارة واحدة. روى ذلك الأثرم عنه في محرم اعتل، فلبس جبة، ثم برئ، ثم اعتل، فلبس جبة، يكفر كفارتين، فإن اعتل علة واحدة، فلبس عمامة، واحتاج في علته في الغد إلى جبة، وبعد غد [إلى] قميص، فإذا كانت

علة واحدة، وكان شيئًا متقاربًا، فكفارة، فإن تداوى بأدوية دواء بعد دواء، فحكمه حكم اللباس. وقال أبو حنيفة: إن كرر ذلك في مجلس واحد تداخل، وإن كان في مجالس لم يتداخل. وقال مالك: إذا أفسد الحج بالوطء لزمه الهدي، فإن كرره لم يلزمه هدي، إن كفر عن الأول، أو لم يكفر، فعنده أن الكفارة [لا] تتكرر إذا فعله إلا على وجه الرفض. وللشافعي قولان: قال في الجديد: لا يتداخل سواء كان في مجلس، أو مجالس. وقال في القديم: يتداخل. ولا يختلف قوله أن الحلق واللبس إذا كان متصلاً، ففدية واحدة. وجه الرواية الأولى: أن الأفعال التي إذا اتصلت تداخلت، فإنها إذا تفرقت جاز أن تتداخل تحت الأحداث والحدود مثل السرقة وشرب الخمر، وعكسه قتل الصيد؛ لما لم يتداخل حال الاتصال لم يتداخل حال التفرق. ولأنهما أفعال منع المحرم منها للترفه والاستمتاع، فإذا تكررت منه - ولم يتخللها تكفير - تداخلت قياسًا عليه إذا والى بينهما في وقت متصل.

فإن قيل: لا يجوز اعتبار الاتصال بالانفصال، ألا ترى انه لو حلف: (لا أكلت اليوم إلا أكلة واحدة) فاستدام الأكل إلى آخر النهار لم يحنث؛ لأنه فعل واحد، ولو فرقه حنث. قيل له: لا تأثير للمجلس والمجالس في ذلك، وإنما الاعتبار في الحنث بالتكرار، فإن تكرر منه دم حنث سواء كان في مجلس، أو مجالس، وإن اتصل لم يحنث بالتكرار. ولأنه لو وجبت إذا تفرقت لوجبت كفارات إذا اجتمعت، كالصيد. ويخص مالكًا بأنه وطء، بأنه وطء صادف إحرامًا لم يتحلل منه، فجاز أن يتعلق به كفارات، كالوطء الأول. ولأن الوطء معنى تجب به الكفارة، فجاز أن تتكرر بفعله. دليله: لبس الثياب، وحلق الشعر، وقتل الصيد. ويخص الشافعي بأن الكفارات تجري مجرى الحدود والطهارات، قال صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارات لأهلها". ثم ثبت أنه لو زنا ثم زنا، أو احدث ثم احدث، فحد واحد، وطهارة واحدة، كذلك الكفارات. فإن قيل: الحدود والطهارات لا يتعلق بها حق آدمي، والكفارات

يتعلق بها حق آدمي، وهم المساكين، فلم تتداخل. قيل: علة الأصل تبطل بالصلاة والصيام، لا يتعلق بها حق آدمي، ولا تتداخل. وعلة الفرع تبطل به إذا كرر اليمين على شيء واحد، وجبت كفارة واحدة. فغن قيل: الحدود تسقط بالشبهة، والكفارات لا تسقط بالشبهة. قيل: علة الأصل تبطل بالقتل؛ [فإنه] يسقط بالشبهة، واجتماع أسبابه لا يصير شبهة؛ لأنه لو قتل جماعة لم تتداخل. وعلى أن الشبهة قد تؤثر في هذه الكفارة عندهم، وهو النسيان؛ لأنه لو لبس أو تطيب ناسيًا، لا كفارة. ولأنها كفارة لا يتضمن سببها إتلاف نفس، فجاز أن تتداخل عند اجتماع أسبابها، ككفارة اليمين إذا كررها على فعل شيء واحد، ثم حنث. ولا تلزم عليه كفارة القتل، وقتل الصيد؛ لأن سببها يتضمن إتلاف نفس. ولا تلزم عليه كفارة الظهار؛ لأنها تتداخل، وهو إذا ظاهر منها فوطئ قبل أن يكفر، وكرر الوطء، فكفارة واحدة.

وكذلك إذا ظاهر من جميع نسائه بلفظ فكفارة. ولا تلزم عليه كفارة الصوم؛ لأنها تتداخل إذا كرر الوطء في يوم واحد، ولم يكفر. فإن قيل: إذا كررها على فعل واحد، فهناك يمين واحدة؛ لأنه حنث واحد. قيل: بل هناك يمينان، بدليل أنه لو قال: والله لا دخلت هذه الدار، ثم قال: والله لا حلفت، ثم قال: والله لا دخلت هذه الدار التي حلف عليها حنث. ولأنها عبادة تجبر بالكفارة، فجاز أن تتداخل كفارتها، كالصوم إذا كرر الوطء في يوم واحد. وليس لهم أن يقولوا: هناك لا تتكرر الكفارة في اليوم الواحد؛ لأنا لا نسلم هذا، بل عندنا تتكرر إذا كفر عن الوطء الأول، ثم وطئ ثانيًا. واحتج المخالف بأن هذه جنايات حصلت منه في حال الإحرام من غير أن تتعلق بسبب واحد، ولا حصلت في مجلس واحد، فوجب أن يجبر كل واحد منهما بدم قياسًا على جنسين مختلفين مثل الحلاق، وتقليم الأظفار، واللباس، والطيب. ولا يلزم عليه إذا حصل منه مرارًا على وجه الرفض؛ لأنه قد تعلق

بسبب واحد، ألا ترى انه لا يختلف أن يكون ذلك من جنس واحد، أو جنسين؟ والجواب: أنه لا تأثير لقولك: ولا حصلت في مجلس واحد؛ لأن ما يحصل في مجلس ومجلسين سواء، ألا ترى أنه لو تكرر منه قتل الصيد في مجلس واحد تكرر الجزاء. وكذلك لا تأثير له في الأصل؛ لأنه لو فعل جنسين مختلفين في مجلس واحد، جبر كل واحد بدم عندك. ثم لا يجوز اعتبار الجنس الواحد بالجنسين في باب التداخل بدليل الحدود؛ إذا كانت من جنس واحد تداخلت، وإذا كانت من أجناس لم تتداخل واحتج بان القياس [أنه] يجب عليه لكل مرة كفارة، وإن كان ذلك في مجلس واحد؛ لأنها جنايات في الإحرام، وهي كقتل الصيد، إلا إذا تركنا القياس في مجلس واحد لدلالة الإجماع، وحملنا حكم المجلسين والمجالس الكثيرة على موجب القياس. والجواب: أنهم لما أجمعوا على التداخل في مجلس واحد، وجب التداخل في مجالس؛ لأن الأصول توجب التسوية بين المجلس والمجالس.

واحتج بأن هذه أفعال تفرقت في أوقات لو انفرد كل واحد منها، وجبت به كفارة، فإذا اجتمعت وجبت بكل واحدة كفارة، كما لو كفر عن الأول. والجواب: أنه إذا كفر عن الأول فقد سد لخلل الذي هتكه، فإذا عاد فهتكه، كان عليه كفارة ثانية، كالحدود؛ إذا حد عن الأول، ثم عاد، فعليه حد ثان، وليس كذلك إذا لم يكفر. ولأنه لم يحصل جبران فعله بالفعل الثاني لم يصادف حرمة مهتوك، فهو كما لو زنا، ولم يحد، فعاد فزنا ثانيًا، فعليه حد واحد، كذلك هاهنا. واحتج بأنهما فعلان مفترقان، لو كفر عن الأول لزمته كفارة عن الثاني، فوجب أن تلزمه، وإن لم يكفر، كالصيدين، وكما لو كانا من جنسين مثل إن حلق وقلم، وتطيب ولبس. والجواب عن الصيدين: أن فيهما روايتين: روى حنبل عنه: أنه إذا لم يكفر عن الأول، فكفارة واحدة. فعلى هذا: لا فرق بينهما. وروى الجماعة أن عليه للثاني كفارة ثانية. فعلى هذا: الفرق بينهما أن قتل الصيدين لو اتصل لم يتداخل، كذلك إذا تفرقت جاز أن تتداخل. وأما إذا قتل من جنسين ففيه - أيضًا - روايتان:

إحداهما: تتداخل. رواه ابن منصور عنه: أنه سئل عن محرم من طيبًا، ولبس ثوبًا، وحلق رأسه، ولبس الخفين، وما أشبه ذلك مما لا ينبغي له أن يفعل، قال: عليه كفارة واحدة، وإن فعل ذلك واحدًا بعد واحد فعليه دم لكل واحد. وقد نص على التداخل في الجنسين، وهذا اختيار أبي بكر، ذكره في كتاب "الخلاف". ووجهه: أنها أفعال مضمونة ببدل، لا على سبيل التعديل، فإذا فعلت في وقت واحد لم تجب إلا كفارة واحدة. دليله: إذا كانت من جنس واحد. فعلى هذا: لا فرق بينهما. وروى عنه ابن منصور في موضع آخر كلامًا يقتضي: أنها لا تتداخل، فقال ابن منصور: قلت: قال سفيان: في الطيب كفارة، وفي الثياب كفارة، وفي الشعر كفارة، قال أحمد: جيد، في كل واحد كفارة. فقد أوجب كفارات، ولم يعتبر تكفيرًا متقدمًا عن الفعل الأول. وقال في موضع آخر من "مسائله": إذا جامع، ثم أصاب صيدًا، أو حلق رأسه، أو أشباه ذلك، فالإحرام قائم، وكلما أصاب من

مسألة إذا وطئ وكفر، ثم وطئ ثانيا، فعليه كفارة ثانية

ذلك فعليه كفارة. وقال - أيضًا - في رواية ابن إبراهيم في محرم مرض في الطريق، فحلق رأسه، ولبس ثيابه والحلي: عليه هدي. فعلى هذا: الفرق بينهما أن تلك أفعال مختلفة، وموجباتها، مختلفة، فإذا اجتمعت لم تتداخل، كما لو زنا، وقذف، وشرب الخمر، فعليه لكل واحد حد؛ لانهالا أجناس مختلفة، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ لأنه جنس واحد، وفعل واحد، فجاز أن تتداخل، كالزنا إذا تكرر، والسرقة إذا تكررت، ولما يحد. ولأن الأجناس المختلفة اتصلت، ولم تتداخل، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الجنس الواحد لو اتصل تداخل، كذلك إذا تفرق، فبان الفرق بينهما. 93 - مسألة إذا وطئ وكفر، ثم وطئ ثانيًا، فعليه كفارة ثانية: وهي [.....] على قياس قول أحمد في الصائم: إذا وطئ في اليوم الواحد مرتين، وقد كفر عن الأول، فعليه كفارة ثانية، وهي العتق.

وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: عليه شاة. دليلنا: انه وطء صادف إحرامًا لم يتحلل منه بشيء، أشبه الأول. ولأنه كلما ابتدأ به [وجبت] كفارة، فإذا كرره وجبت تلك الكفارة، كاللباس، والطيب. واحتج المخالف بأنه استمتاع لم يفسد الحج، فلم تجب به بدنة، كالوطء دون الفرج. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يفسد، وتجب به بدنة، كالنعامة. وعلى أن الوطء دون الفرج لو ابتدأ به لم تجب بدنة، كذلك إذا كرره، وهذا لو ابتدأ به وجبت به، كذلك إذا كرره، كقتل النعامة. واحتج بأنه وطء صادف إحرامًا نقصت حرمته بالوطء، فصار كما لو وطئ بعد التحلل، وقد نص أحمد على الشاة في رواية بكر بن محمد. والجواب: أن الوطء هناك صادف إحرامًا تحلل منه بدليل أنه تباح فيه جميع المحظورات غير النساء. واحتج بأنها عبادة تجب بالوطء فيها الكفارة العظمى، فلا يتكرر الوطء، كالصوم. والجواب: أنا لا نسلم الأصل؛ لأنها تتكرر عندنا إذا كفر عن الأول.

مسألة إذا جمع في حلق الشعر بين الرأس والبدن دفعة واحدة؛ فحلق من شعر رأسه ثلاث شعرات فصاعدا، ومن بدنه ثلاث شعرات فصاعدا، فعليه فديتان

وعلى أن الحج يفارق الصوم؛ لأن محظوراته بعد الفساد يتعلق بها الجزاء، كما يتعلق بها قبل الفساد، والصوم بخلافه. 94 - مسألة إذا جمع في حلق الشعر بين الرأس والبدن دفعة واحدة؛ فحلق من شعر رأسه ثلاث شعرات فصاعدًا، ومن بدنه ثلاث شعرات فصاعدًا، فعليه فديتان: نص عليه في رواية المروذي، وجعفر بن محمد، وعبد الله، وابن إبراهيم [قال]: في الرأس كفارة، وفي البدن كفارة، خلافًا لأبي حنيفة ومالك والشافعي في قولهم: كفارة واحدة، كما لو حلقه من أحدهما. دليلنا: أن الرأس والبدن في حكم الجنسين بدليل: أن النسك يتعلق بأخذ شعر الرأس دون البدن، فجرى مجرى من حلق وغطى رأسه، أو حلق ولبس في بدنه، فإنه يلزمه كفارتان. وكذلك في اللباس؛ لأن الرأس يمنع من المخيط وغير المخيط، والبدن يمنع المخيط فقط. وكذلك في الطيب؛ قالوا: لو دهن رأسه بالزيت افتدى، ولو دهن بدنه لم تجب فدية.

مسألة فإن أصاب صيدا، وحلق، وتطيب، ولبس على وجه الرفض لإحرامه، فعليه لكل واحد من ذلك كفارة

ولأن شعر البدن لا يتعلق بالنسك بأخذه، فلم يضم إلى شعر الرأس، كشعر الصيد. واحتج المخالف بأنه لو جمع بين الرأس والجسد في اللباس والطيب، لزمته كفارة واحدة. نص عليه في رواية أبي طالب في من لبس عمامة وجبة: فهو كفارة إذا لم يفرق. وقال في رواية الأثرم: إذا اعتل علة واحدة، فلبس اليوم عمامة، واحتاج في الغد في علته هذه، فلبس جبة، واحتاج إلى قميص في علته، وكان [شيئًا] متقاربًا، فكفارة، أرجو. والجواب: أنا قد بينا: أنها في حكم الجنسين في الحلاق واللباس. وعلى أن الحلاق إتلاف فهو آكد، ولهذا سووا بين عمده وسهوه، واللباس بخلافه، فهو اخف. 95 - مسألة فإن أصاب صيدًا، وحلق، وتطيب، ولبس على وجه الرفض لإحرامه، فعليه لكل واحد من ذلك كفارة: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور في من أحرم دون الميقات، ثم ترك إحرامه: فهو لا يستطيع أن يتركه، وهو محرم، وكل ما أصاب

من لباس، أو صيد، أو غير ذلك، فعليه في كل واحد كفارة. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه دم واحد استحسانًا. وقال مالك: لكل صيد أصابه جزاء بعد جزاء، وأما اللباس والطيب والجماع فعليه لكل ذلك كفارة واحدة، وإن فعله مرارًا. دليلنا: أن هذه جنايات مختلفة حصلت منه في حال الإحرام، فوجب ان يكون لكل جناية كفارة، كما لو فعلها على وجه الرفض. واحتج المخالف بأنها حصلت على وجه واحد، وتعلقت بسبب واحد، فوجب في جميعها ما يجب في الواحد، كالوطء الكثير إذا حصل في النكاح الفاسد؛ أنه يجب بجميعه مهر واحد. والجواب: أنه يبطل به إذا تطيب، وحلق، ولبس لمرض واحد، فالسبب والحد، وتجب كفارات. وأما الوطء في النكاح الفاسد فإنما تداخل؛ لأنه وجد منها إباحة للثاني؛ لأنها دخلت على ان تستحق مهرًا واحدًا. وهذه أجناس مختلفة والأصول مثبتة، على أن اختلاف الأجناس بمنع التداخل، كالحدود المختلفة. فإن قيل: معنى الكفارات واحد، وهو الترفه. قيل: لا ترفه في قتل الصيد. وعلى أن هذا يوجب أن يكون معنى حد الزنا والشرب معنى

مسألة نكاح المحرم لنفسه ولغيره باطل

واحد، وهو اللذة، وقد أجمعنا على خلاف ذلك. 96 - مسألة نكاح المحرم لنفسه ولغيره باطل: نص عليه في رواية الجماعة؛ الميموني، وابن منصور، وأحمد ابن أبي عبدة, وغير ذلك. فقال في رواية الميموني: لا ينكح المحرم، فإن نكح رحلا. وقال في رواية ابن منصور: إذا نكح المحرم يفرق بينهما. وقال - أيضًا - في رواية حرب: لا يتزوج، ولا يزوج، والرجل والمرأة سواء، وإن فعل يفرق بينهما. وقال في رواية أبي عبده: لا يراجع زوجته. وبهذا قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: نكاح المحرم صحيح. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" قال: ثنا عبد الله بن بكر، ومحمد بن جعفر قالا: ثنا شعبة، عن مطر ويعلي بن حكيم، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، عن عثمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب".

وهذا نهي، والنهي يقتضي التحريم، وفساد المنهي عنه. فإن قيل: نبيه بن وهب ضعيف. قيل: نبيه ثقة صدوق من أهل المدينة، وكبار التابعين. وقد رواه أحمد عنه، ومالك في "الموطأ"، وقد قال أحمد في رواية المروذي: أذهب إلى حديث نبيه، وهو رجل من أهل المدينة، ثقة، ولا أعلم إلا خيرًا. فإن قيل: نبيه لم يلق أبان بن عثمان. قيل: روى أبو بكر الحميدي في كتابه عن نبيه بن وهب: أنه سمع أبان بن عثمان يحدث عن أبيه. وهذا يدل على أنه لقيه، ولو لم يلقه لم يضر؛ لأن أكثر ما فيه أنه مرسل، وهو حجة على المذهبين. فإن قيل: النكاح عير الوطء حقيقة، فقوله: "لا ينكح" معناه: لا يطأ، و"لا ينكح"؛ يعني المحرمة لا تمكن من الوطء، وقد دل على هذا قول الشاعر: ومن أيم قد أنكحتها رماحنا يعني: مكنتنا من وطئهن. قيل له: إن كان هذا حقيقة في اللغة، فإن عرف الشرع في ذلك

العقد، فيجب أن يحمل عليه. قال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} [النساء: 3]، وقال: {إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49]، وقال: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} [النور:32]، وقال: {فَانكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، و {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "انكحي أسامة"، و"ولا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها"، و"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". وجواب آخر، وهو: لو صح هذا في قوله "لا ينكح"، لم يصح في قوله: "ولا ينكح"؛ لأن المراد به العقد، لا غيره، ولا يصح حمله على التمكين؛ لأن الولي لا يمكن من الوطء، وإنما المرأة هي التي تمكن من الوطء، وهي المطالبة بالتمكين دون الولي. ولأن الولي المحرم يجوز أن يمكن المنكوحة من الوطء، وهو إذا كان الزوج والمرأة حلالين، جاز للولي أن يقول لها: مكنيه من نفسك. ولا يصح حمله على المرأة بمعنى: لا تمكن من وطئها إذا كانت محرمة؛ لأن اللفظ لفظ تذكير، ولو كان المراد به المرأة لأورده بلفظ التأنيث.

ولأن هذا يؤدي إلى حمل اللفظ على معنيين مختلفين في شخصين، وهو الجماع في حق الذكور، والتمهيد في حق النساء، ونحن نحمله على عقد النكاح. وجواب ثالث، وهو: أن في الخبر: "ولا يخطب" فلما قرن بالنهي عن الخطبة دل على أن المراد بقوله:"لا ينكح"، ولا ينكح" هو العقد. فإن قيل: قوله: "لا يخطب" معناه: لا يسأل وليها أن يمكنه منه؛ ليطأها؛ لأن الخطبة عبارة عن المسألة، يقال: فلان يخطب عمل كذا؛ يعني: يطلبه ويسأله. قيل له: الخطبة المشهورة المعروفة في الشرع هو طلب العقد، كقوله تعالى: {ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} [البقرة:235]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه". وقولهم: فلان خطب بنت فلان. فالمعقول في العرف هو طلب العقد. وجواب رابع، وهو: الراوي حمل ذلك على العقد، وهو ما روى نبيه بن وهب في هذا الحديث: أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه طلحة بابنة شيبة بن جبير، فأرسل إلى أبان بن عثمان، وأبان يومئذ أمير

الحاج، وهما محرمان: إني أردت أن أنكح طلحة ببنت شيبة، وأردت أن تحضر ذلك، فأنكر ذلك عليه أبان، وقال: إني سمعت عثمان ابن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب". وجواب خامس، وهو: أنه قد روي في الخبر لفظ صريح يدل على أن المراد به العقد رواه الدارقطني بإسناده عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتزوج المحرم، ولا يزوج"، وهذا نص. وروى أبو بكر النيسابوري بإسناده عن عكرمة بن خالد: أنه قال: سألت عبد الله بن عمر عن امرأة أراد أن يتزوجها، وهو محرم، فقال: لا تزوجها وأنت محرم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وأيضًا فالمسألة إجماع الصحابة. وروى أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبي عطاف بنطريف أخبرني: أن أباه طريفًا تزوج امرأة، وهو محرم، فرد عمر بن الخطاب نكاحه.

وروى بإسناده عن قتادة، عن الحسن، عن علي: أنه قال: من تزوج- وهو محرم- نزعناها منه، ولم يجز نكاحه. وروى- أيضاً- بإسناده عن شوذب مولى زيد بن ثابت: أنه تزوج، وهو محرم، ففرق زيد بن ثابت بينهما. فاتفق عمر وعلي وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت على إبطال نكاح المحرم. والقياس: أن العقد معنى ثبت به تحريم المصاهرة؛ أعني: تحريم أم المرأة، فوجب أن يمنع منه الإحرام، كالوطء. ولا تلزم عليه الرضاعة؛ لأن ذلك التحريم الحاصل ليس تحريم المصاهرة، وإنما هو تحريم النسب. فإن قيل: نقلبه فنقول: إذا وجد في الإحرام ثبت حكمه وموجبه، كالوطء. قيل: قد ثبت بعض أحكامه عندنا، وهو وقوع الطلاق فيه، وثبوت المسمى، والوطء- أيضاً- ثبتت بعض أحكامه في النسب وغيره، ولا تثبت جميع أحكامه، وهو استدامة الوطء. فإن قيل: المعنى في الوطء: أنه تمنع استدامته فمنع ابتداؤه،

ولا يمنع الإحرام استدامة النكاح، فلا يمنع ابتداءه. قيل: علة الأصل تبطل بالإسلام؛ يمنع استدامة الملك على العبد، ولا يمنع ابتداءه عندهم، وكذلك الخلع؛ يمنع الاستدامة، ولا يمنع الابتداء. وعلة الفرع تلزم عليها العدة؛ لا تمنع الاستدامة، وتمنع ابتداء النكاح. وإن شئت قلت: العقد سبب تصير به المرأة فراشاً، فوجب أن يحظره الإحرام. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: قد فرقت الأصول بين الوطء والعقد، ألا ترى أن الصوم يمنع الوطء، ولا يمنع العقد؟ قيل له: الإحرام أغلظ فيما يحرم ويمنع من الصوم، ألا ترى أنه يحرم القبلة، وقص الشعر، وقتل الصيد، والصوم لا يمنع ذلك، فجاز أن يحرم العقد أيضاً، وإن لم يحرمه الصوم. وقياس آخر، وهو: أن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه؛ أعني: القبلة واللمس بشهوة، فوجب أن يمنع عقد النكاح، كالعدة. ولا يلزم عليه الصيام؛ لأنه لا يمنع دواعي الوطء، كالقبلة والطيب إذا كان الصائم ممن لا تحرك القبلة شهوته، وفي المعتكف نظر.

وقد قيل: يثبت تحريم الطيب أشبه العدة. وهذا غير صحيح؛ لأن العدة التي تحرم الطيب، والتي لا تحرم الطيب سواء في منع النكاح؛ لأن الرجعية لا يحرم عليها الطيب، وهي محرمة النكاح، وكذلك الموطوءة لشبهة، وفي النكاح الفاسد. والأجود في ذلك ما ذكرنا. فإن قيل: العدة لا تمنع النكاح؛ لأن له أن يتزوجها، وهي معتدة منه. قيل له: إن لم تمنع الزوج من العقد، فهي مانعة لغيره، فالعدة في الجملة تمنع العقد. وقياس آخر، وهو:؛ أن العقد من دواعي الجماع، فوجب أن يمنع منه الإحرام، كالطيب. ولا تلزم عليه الرجعة؛ لأن الصحيح من الروايتين: أنه يمنع منها الإحرام. ولأنه عقد لا تتعقبه استباحة استمتاع في عين من الأعيان بحال، فأشبه نكاح المعتدة والمرتدة. ولا يلزم عليه نكاح الصغيرة ابنة يوم؛ لأن ذلك العقد قد يتعقبه استباحة الاستمتاع في عين أخرى، وهي الكبيرة. ولأن المقصود بالنكاح استباحة الاستمتاع، والإحرام يمنع ذلك، فمنع صحة العقد.

دليله: شراء الصيد؛ لما كان المقصود بشراء الصيد تملكه، والإحرام يمنع تملكه، فمنع الشراء. ولا يلزم عليه شراء الطيب والمخيط؛ لأن المقصود من ذلك تملكهما دون استعمالهما، والإحرام لا يمنع ذلك. واحتج المخالف بما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج، وهو محرم، واحتجم، وهو محرم. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعض نسائه، وهو محرم. وعن ابن عباس: أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو محرم. والجواب: أن أبا الحارث قال: سئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، فقال: هذا الحديث خطأ. وقال في رواية المروذي: قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس، وميمونة تقول: تزوج، وهو حلال، وإن ابن عباس ابن أخت ميمونة، ويزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة يقول: نكحها، وهي حلال [.....].

وقال أبو رافع: كنت السفير بينهما. وهذا من أحمد تضعيف له. وعلى أن الرواية مختلفة في ذلك: فروى مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو حلال. وروى يزيد بن الأصم، عن ميمونة بنت الحارث: أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. وروى الأثرم عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو حلال، وبنى بها، وهو حلال، وكنت السفير بينهما. وروى الحميدي عن عبد العزيز بن محمد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العباس بن عبد المطلب وأبا رافع، فزوجاه بسرف، وهو حلال بالمدينة.

وروى ميمون بن مهران، عن صفية بنت شيبة، وكانت عجوزًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ملك ميمونة، وهو حلال، وبنى بها، وهو حلال، وخطبها، وهو حلال. وإذا ثبت هذا الاختلاف: فإما أن تتعارض الروايات في نكاح ميمونة، فتسقط، وتبقى رواية عثمان أنها لم تختلف. أو نرجح، فتكون رواية من روى الإحلال [أرجح] من وجوه: أحدها: أن أحدًا لا يطعن في روايتنا، وقد طعن سعيد بن المسيب في روايتهم، فروى أبو داود عن سعيد ابن المسيب: أنه قال: وهم ابن عباس في قوله: تزوج ميمونة، وهو محرم. والثاني: أنها أكثر رواة؛ لأنه رواها أبو رافع وميمونة وصفية بنت شيبة، فكانت أولى من رواية ابن عباس. الثالث: أن ميمونة صاحبة القصة، وهي أعرف، وأبو رافع كان السفير بينهما، فهو أعرف، ألا ترى أن الصحابة كانوا يرجعون إلى عائشة في الغسل من التقاء الختانين، وإلى علي في السمح؟ وابن عباس كان في وقت موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عشر سنين، وكان تزوج ميمونة في سنة سبع التي أحرم فيها بعمرة القضية، فيجب أن يكون لعبد الله بن عباس في ذلك الوقت سبع سنين، وفي هذا السن

لا يُحصِّل هذا المعنى، ولا يضبطه، وإنما يجب أن يكون سمعه من غيره، فكانت رواية من حضر أولى. الرابع: أن من روى: أنه كان حلالاً نقل الحكم والسبب؛ لأن العقد يتعلق بكونه محلاً، ومن روى: أنه كان محرمًا لا يكون سببًا؛ لأن جواز العقد لا يتعلق بكونه محرمًا. فإن قيل: روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة: "دعوني أعرس بينكم؛ لتأكلوا من وليمتها"، فقالوا: لا حاجة لنا في وليمتك، فاخرج من عندنا، فخرج حتى أتى سرفًا، وعرس بها. وهذا يدل على أن العقد كان قد تقدم الإحلال، وبلوغه سرف، وهذا يضاد ما روي عن ميمونة أنها قالت: تزوجني بسرف. قيل له: يحتمل قوله: "دعوني أعرس" معناه: أعقد واعرس، فلما منعوه خرج إلى سرف، فعقد وعرس. على أنا قد بينا: أن ما رويناه عنها أولى. فإن قيل: يحتمل قولها: تزوجني: بنى بي. قيل له: التزويج لا يعبر به عن الوطء. فإن قيل: ما رويناه عن ابن عباس أولى؛ لأنه أخبر عن أمر طارئ؛ لأن الأصل الإحلال والإعراس حادث عليه، علمه هو ولم يعلم به غيره، فكان روايته أولى من رواية من خبر عن الأصل، كشاهدين شهدا: أن هذا عبد فلان، وشهد آخران: أن فلانًا ذلك أعتقه؛ فإن شاهدي

العتق أولى؛ لما ذكرنا. قيل له: ما رواه أبو رافع هو الزائد؛ لأنه أثبت عقدًا في وقت نفاه ابن عباس، وذلك أن العقد كان بسرف، وهو بقرب مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم قط من المدينة، وإنما أحرم من ذي الخليفة، فعلم أبو رافع ومن معه: أن النكاح عقد بسرف، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لم يخرج إلى ذي الخليفة، وخفي ذلك على من روى: أنه كان محرمًا حين العقد، وقدر أن النكاح عقد بعد خروجه وإحرامه، فكان ما نقله أبو رافع من عقد النكاح، وهو محل بالمدينة زيادة علم خفيت على غيره. فهذا الكلام على الخبر من جهة الترجيح، وإن صرنا إلى الاستعمال: فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصًا بذلك. والثاني: أنه قد كان من مذهب ابن عباس: أن من قلد الهدي صار محرمًا، فيحتمل أن يكون رآه وقد قلد الهدي، فاعتقد أنه محرم، فرواه على هذا الاعتقاد، وعن ابن عباس روى أنه حلال. فإن قيل: هذه المسألة خلاف في السلف، وليس فيها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقها الاجتهاد، فلا يجوز أن يقطع ابن عباس، ويحمل حال النبي صلى الله عليه وسلم على رأيه، وما يغلب على ظنه يؤدي اجتهاده إليه، مع علمه بان غيره يخالفه في ذلك. قيل له: يجوز ذلك إذا كان معتقدًا لصحة ما يراه، ويذهب إليه.

تأويل ثالث: يحتمل أن يكون من روى: أنه تزوجها، وهو محرم، أراد: أنه نكحها في الشهر الحرام، وقد يسمى من كان في الشهر الحرام والبلد الحرام محرمًا. قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا وأراد: أنه كان في البلد الحرام، لا أنه كان محرمًا بالنسك. تأويل رابع: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تزوجها قبل أن يحرم، ولم يعلم به ابن عباس، وعلم ذلك أبو رافع وميمونة؛ لأنهما كانا خبيرين بالقصة، ثم ظهر ذلك بعدما أحرم، فنقل ابن عباس: أنه تزوج، وهو محرم، ونقل غيره: أنه كان محلاً. وهذا تأويل جيد. واحتج بأن كل حالة جاز له أن يعقد فيها عقد البيع، جاز أن يعقد فيها عقد النكاح، كالصوم. ولا يلزم عليه إن كان تحته أربع نسوة؛ لأنه يجوز أن يعقد النكاح لغيره من جهة الولاية، أو الوكالة، وعندكم لا يجوز للمحرم بذلك بحال. والجواب: أنه لا يمتنع أن يجوز له عقد البيع، ولا يجوز له عقد النكاح بدليل أن من تحته أربع يجوز له عقد البيع لنفسه، ولا يجوز له

عقد النكاح لنفسه، وكذلك المعتدة يجوز لها أن تعقد البيع لنفسها، ولا يجوز لها عقد النكاح لغير زوجها، فبان أن حكم البيع أوسع من النكاح. وجواب آخر، وهو: أن الإحرام لا يمنع المقصود بالبيع، فلم يمنع صحة البيع، ويمنع المقصود بالنكاح، وهو الوطء ودواعيه، فمنع صحة النكاح، ألا ترى انه لما منع المقصود بشراء الصيد، منع العقد عليه. فإن قيل: ليس إذا منع المقصود بالنكاح يجب أن يمنع النكاح، ألا ترى أنه يمنع المقصود بالرجعة، وهو الوطء، ولا يمنع الرجعة، وكذلك الصوم يمنع المقصود بالنكاح، ولا يمنع النكاح، وهكذا لا يمنع العقد على الطيب والمخيط، وإن منع من مقصوده، وهو الاستعمال. قيل له: لنا في الرجعة روايتان: إحداهما - وهي الصحيحة-: أنها لا تصح. فعلى هذا سقط السؤال. وأما الصوم، فلا يمنع دواعي الجماع، وهو القبلة إذا أمن الإنزال. ولأنه أخف بدليل أنه لا يمنع الطيب.

وأما الطيب والمخيط فليس المقصود منه الاستعمال، وإنما المقصود منه التملك، وذلك يحصل في حال الإحرام. فإن قيل: عقد النكاح لا يشبه شراء الصيد، وذلك أن الصيد لما لم يجز اجتذاب ملكه، لم يجز إزالة ملكه بالبيع، والنكاح يجوز إزالة ملكه بالطلاق، فجاز اجتذاب ملكه. قيل له: إنما استوى البيع والشراء في الصيد؛ لأنه تصرف في الرقبة؛ لأن الشراء تمليك بعوض، والبيع تملك بعوض، وليس كذلك النكاح؛ لأنه ملك بعوض، والطلاق إسقاط حق كالعتاق، وليس بتمليك، فلم يمنع الإحرام الطلاق ومنع النكاح. ولأن الطلاق موجبه التحريم، والإحرام لا يمنع موجبه، فلم يمنعه، والنكاح موجبه استباحة الاستمتاع، والإحرام بمنعه، فمنع العقد، وليس كذلك الشراء والبيع؛ لأن موجبهما واحد، والإحرام يمنع موجبهما في الصيد، فمنع صحتهما. واحتج بأن النكاح سبب يملك به البضع، فوجب أن لا يمنع منه الإحرام قياسًا على شراء الأمة. والجواب: أن الوصف غير مسلم في الأصل؛ لأن شراء الأمة لا يملك البضع، وإنما يملك به الرقبة، ويستبيح وطأها بحق الملك. ثم المعنى في الشراء: أن القصد منه تملك الرقبة، والإحرام

لا يمنع من ذلك، فلم يمنع صحة العقد، وليس كذلك النكاح؛ لأن المقصود منه الاستمتاع، والإحرام يمنع من ذلك، فمنع صحة النكاح، ولهذا نقول: إنه يجوز للمحرم شراء الطيب والمخيط؛ لأنه ليس المقصود بالشراء استعمالهما، وإنما القصد تملكهما، والإحرام لا يمنع ذلك. ولأن شراء الأمة لا ينافيه التحريم، ألا تراه يشتري من هي محرمة عليه؟ وأكثر ما في الإحرام التحريم، فلم يناف ذلك، والنكاح ينافيه التحريم. واحتج بأن هذا سبب يتوصل به إلى استباحة الوطء، فأشبه الرجعة، وكفارة الظهار. والجواب: أن في الرجعة روايتين، والصحيح: أنها محرمة، فلا فرق بينهما. وأما الكفارة فيأتي الكلام عليها في المسألة التي بعدها. واحتج بأن الإمام إذا أحرم جاز له أن يزوج، كذلك ولي محرم. والجواب: أنا لا نعرف الرواية عن أصحابنا في ذلك، ولا يمنع أن نقول: لا يجوز له أن يزوج، ولكن يزوج خلفاؤه، فعلى هذا: لا نسلم. وعلى أنه يجوز أن يزوج بولاية الحكم ما لا يجوز بولاية النسب، كما نقول: إن الإمام يزوج الكافرة، ولا يجوز للولي المناسب أن يزوج مع اختلاف الدينين.

مسألة لا تصح الرجعة في حال الإحرام في أصح الروايتين

واحتج بأنه لما جاز أن يكون شاهدًا في عقد النكاح، جاز له أن يكون عاقدًا، كالمحل. والجواب: أن أحمد قال في رواية حنبل: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب"، ومعناه: لا يشهد النكاح، فعلى هذا: لا نسلم. وإن سلمنا ذلك، فلا يمتنع جواز شهادته، وإن لم يجز عقده، كالمحرم يجوز أن يكون شاهدًا في شراء الصيد، ولا يجوز أن يكون عاقدًا، ويجوز أن يكون المصلي شاهدًا في عقد النكاح، ولا يجوز أن يكون عاقدًا. ولأن الشاهد لا فعل له في العقد، وإنما يعتبر سماعهما للإيجاب والقبول، وليس كذلك القابل والموجب] ............. [عاقدان بقولهما، فكان حكمهما أغلظ من حكم الشهادة. 97 - مسألة لا تصح الرجعة في حال الإحرام في أصح الروايتين: نقلها أحمد بن أبي عبده، والفضل بن زياد، وحرب.

وروى عبد الله عنه جواز ذلك. وهو قول مالك والشافعي. وجه الأولى: أنه عقد يتوصل به إلى استباحة بضع مقصود في عينه، فمنع] منه [الإحرام. دليله: عقد النكاح. ولا يلزم عليه شراء الأمة؛ لأنه ليس القصد منه استباحة البضع، وإنما القصد الملك. ولا يلزم عليه المظاهر إذا كفر في حال الإحرام؛] فإنه [يصح، وإن كان يتوصل به على الإباحة؛ لأنه ليس القصد منها الاستباحة، وإنما القصد إسقاط ما وجب في ذمته؛ لأن عندهم لو قال: أنت علي كظهر أمي، ثم طلقها ثلاثًا، وجبت الكفارة في ذمته. وعلي أنا قلنا: عقد، والتكفير ليس بعقد. فإن قيل: كيف يجوز أن تقولوا: إن الرجعة سبب يتوصل به] إلى [استباحة البضع، وعندكم أنها مباحة؛ لأن الطلاق الرجعي لا يوجب التحريم؟! قيل: في ذلك روايتان: نقل أبو داود عنه أنه قال: أكره أن يرى شعرها. وظاهر هذا يقتضي أنها محرمة عنده، فعلى هذا: لا يصح السؤال.

ونقل أبو طالب عنه: لا تحجب عنه. وقال في رواية أبي الحارث: تتشوف له ما كانت في العدة. وظاهر هذا: أنها مباحة، فعلى هذا: الرجعة تتعلق بها استباحة الوطء؛ لأنه لو تركها حتى مضت المدة حرم وطؤها، فإذا راجعها استباح بالرجعة الوطء بعد مضي مدة العقد. فإن قيل: الرجعة لا توجب ابتداء تملك البضع، وإنما توجب بقاء البضع في ملكه بدلالة: أن العبد لا يحتاج إلى إذن المولى في الرجعة، ويحتاج إلى إذنه في ابتداء العقد، والإحرام لا يمنع بقاء الملك، وإنما يمنع ابتداء الملك، فلهذا صحت الرجعة، ولم يصح ابتداء العقد. قيل: الرجعة توجب استباحة مبتدأة، ولهذا قال مخالفنا: إذا وطئها الزوج في مدة العدة قبل الرجعة كان عليه مهرها. فلو كان الملك باقيًا لم يلزمه المهر، كما لا يلزمه بعد الرجعة. فإن قيل: فالدلالة على بقاء الملك: أن خصائص الملك باقية بدلالة وقوع الطلاق، وصحة الظهار، واللعان، والإيلاء، والإرث. قيل: والدلالة على أنها في حكم الملك المبتدأ ثبوت المهر عندك بوجود الوطء، والمهر لا يجب إلا في حق أجنبية. وعلى أن بقاء الملك لا يدل على جواز الرجعة لوجود المانع من النكاح. ألا ترى أن الردة لا تمنع بقاء الملك على البضع مادامت العدة

باقية، ومع هذا تمنع من الرجعة؛ لأنها تمنع من النكاح، كذلك ههنا؛ لما كان الإحرام يمنع النكاح منع من الرجعة. وعلى أن الطلاق لا يختص الملك عندنا، ولهذا يقع في النكاح الفاسد، وكذلك اللعان يقع بالوطء في النكاح الفاسد، وكذلك الظهار ينعقد قبل النكاح. فإن قيل: المعنى في النكاح: أنه يفتقر إلى الولي والشهود، والرجعة لا تفتقر إلى ذلك. قيل: عقد الشراء على الصيد لا يفتقر إلى ذلك، ومع هذا لا يصح. على أن الشهود إنما اعتبروا في عقد النكاح احتياطًا للنسب خوف التجاحد، وهذا المعنى معدوم في الرجعة؛ لأن السبب ثابت بالعقد السابق، والولي شرط خوفًا] أن [تضيع نفسها في غير كفء، وقد أمن ذلك في الرجعة. فأما نفس الرجعة، فإن معناها ومعنى النكاح سواء، وهو أنها تدعو إلى الجماع، أو أنها استباحة مقصودة. فإن قيل: الرجعة تزيل التحريم العارض في عقد النكاح، ويستباح الوطء بعقد النكاح، فهي بمنزلة أن يكفر المظاهر، فيحل له الوطء، ويكون الوطء مستباحًا بعقد النكاح، والتكفير مزيل للتحريم العارض في النكاح. قيل: الرجعة استباحة مبتدأة من الوجه الذي بينا، وأما التكفير

فإنما جاز في حال الإحرام لوجهين: أحدهما: ليس القصد بها استباحة الوطء. الدلالة على ذلك: أنه لو وطئ، ثم طلق، أو ماتت الزوجة، لزمه إخراج الكفارة، وإن كان الاستمتاع معدومًا في المستقبل، والنكاح القصد منه الاستمتاع، وذلك معدوم حال الإحرام. والثاني: أنه لا يمنع أن تجوز الكفارة في حالة لا تجوز فيها الرجعة، كما أن الكفارة قد تجوز عندهم في حالة لا يجوز عقد النكاح بدليل أن من تحته أربع زوجات قد ظاهر من إحداهن، وأراد أن يكفر عن ظهاره جاز، ولو أراد أن يعقد عليها عقد النكاح لم يجز، وكذلك لو كانت معتدة، وهي تحته _بأن تكون وطئت بشبهة_ صح أن يكفر عن ظهاره، ولا يصح أن يعقد النكاح في مثل تلك الحالة، وكذلك في حالة الإحرام. وطريقة أخرى، وهو: أنه لما منع من ابتداء عقد النكاح، منع استصلاحه، ألا ترى أن الصيد لما منع ابتداء تملكه، منع استصلاحه، وهو إذا باع المحل بشرط الخيار، ثم أحرم، فاختار الفسخ، لم يصح، كما لم يصح ابتداء تملكه. فإن قيل: الفسخ هناك ابتداء تملك؛ لأن ملكه زال بالبيع،

والملك هاهنا لم يزل. قيل: قد ثبت أنه في حكم ما قد زال ملكه بدليل وجوب المهر. وطريقة أخرى، وهو: أن كل من لم يصح منه عقد النكاح، لم تصح منه الرجعة، كالصبي، والمجنون. ولا يلزم عليه العبد؛ أنه لا يملك العقد بنفسه، ويملك الرجعة؛ لأن العبد في الجملة يصح منه عقد النكاح، لكن بإذن سيده، والمحرم لا يصح منه العقد بحال. وإنما فرقنا بين العقد والرجعة في حق العبد، وسوينا بينهما في حق المحرم؛ لأن المانع من النكاح عدم الإذن، وذلك معدوم في الرجعة؛ لأن إذنه في النكاح يقتضي استدامته، والملك باق في حق الرجعية، والمانع من النكاح هو الإحرام، وذلك موجود في الرجعة، فهو كالردة يمنع العقد والرجعة. وطريقة أخرى، وهو: أن الرجعة من دواعي الجماع، أشبه لطيب. فإن قيل: هي مباحة عندكم، فكيف يكون من دواعي الجماع؟ قيل: قد بينا: أنها تؤثر في الاستباحة، وهو تحصيلها فيما بعد العدة. وطريقة أخرى، وهو: أن المقصود بالرجعة الاستمتاع، كما أن المقصود بشراء الصيد ملكه، فلما لم يصح تملكه، لم يصح شراؤه، كذلك الرجعة. وطريقة أخرى، وهو: أن المعتدة في حال الإحرام محرمة الوطء

بدواعيه، فلم يصبح رجعية منها. دليله: المعتدة في حال الردة، والمعتدة عن طلاق رجعي إذا وطئت بشبهة، ووجب عليها عدة الوطء؛ فإنه لا يصح الرجعة عليهما جميعًا، وكذلك هاهنا. ولا تلزم عليه المطلقة في الصيام والحيض، ولأن هناك لا تحرم دواعي الوطء من الطيب والقبلة، وكذلك الاعتكاف. وإن شئت قلت: تحريم يمنع عقد النكاح فمنع الرجعة. دليله: ما ذكرنا. وهذه العبارة أجود. فإن قيل: المعتدة من غيره، هل تصح رجعتها؟ على وجهين. والمرتدة لا تصح رجعتها وجهًا واحدًا. قيل: المشهور عندك في المعتدة: أنها كالمرتدة؛ لا تصح رجعتها. فإن قيل: تحريم الزنا آكد؛ لأنه يؤول إلى زوال النكاح، والإحرام لا يوجب زواله. قيل: فالمعتدة من غيره لا توجب زوال النكاح، ولا تصح رجعتها. وعلى أنه إن لم يوجب زوال النكاح، فقد منع من ابتداء النكاح،

كما منعت العدة والردة. على أن على الأصل تبطل بمن علق طلاقها بمجيء الشهر، ثم طلقها؛ فإنه تصح رجعتها، وإن كانت جارية إلى فرقة. فإن قيل: إذا كانت في عدة غيره إنما لم تصح الرجعة؛ لأنه قد يظهر بها حمل، فتكون معتدة من غيره، وتتأخر عدتها منه، فلهذا لم تصح الرجعة. قيل: فلو لم يظهر بها، فإنها تكمل عدتها أولًا، ثم من الزوج، ثم من الواطئ، ومع هذا فلا تصح الرجعة وهي في بقية عدتها منه. واحتج المخالف بأنه عقد لا يفتقر إلى الولي، ولا إلى الشهود، أشبه الشراء. والجواب: أنه يبطل بشراء الصيد. وعلى أنا قد بينا العلة في إسقاط الولي والشهود وثبوتها في الرجعة، والمعنى في الشراء: أنه نوع لا يقصد به استباحة البضع، وهذا بخلافه. واحتج بأنها زوجة بدليل أن أحكام الزوجات باقية في حقها من الطلاق والظهار والإيلاء والتوارث. والجواب: أن من أحكام الزوجات سقوط المهر بوطئها، وجواز المسافرة بها، وإباحتها، واعتبار مدة الإيلاء والعنة في حقها، وهذا معدوم هاهنا.

مسألة إذا أحرم بالحج من مكة؛ إما أن يكون متمتعا، أو من أهل مكة، ففي حقه طواف قدوم مسنون، لكنه لا يطوف طواف القدوم حتى يرجع] من [مني

98 - مسألة إذا أحرم بالحج من مكة؛ إما أن يكون متمتعاً، أو من أهل مكة، ففي حقه طواف قدوم مسنون، لكنه لا يطوف طواف القدوم حتى يرجع] من [مني: نص عليه في رواية الأثرم وحرب فقال في متمتع قدوم بعمرة، فطاف بها، ثم حج من مكة: يطوف إذا رجع من منى، ولا يطوف قبل خروجه، أذهب إلى حديث جابر: أنهم طافوا بعدما رجعوا من منى. وبه قال مالك. ونقل ابن منصور عن أحمد: أنه يجوز الطواف قبل الرجوع، فقال: وقد سئل عن طواف المكي قبل المغرب، فقال: لا يخرج من مكة حتى يودع البيت، وطوافه للحج بعد أن يرجع من منى. وكذلك نقل أبو داود، وحكى لي بعض الشافعية: أنه ليس في حق المكي، ولا المتمتع طواف قدوم؛ لا في حالة إحرامه، ولا بعد رجوعه من منى. فالدلالة على أن في حقه طواف قدوم: أنه إحرام بحج، فشرع فيه طواف القدوم. دليله: المفرد إذا قدم من بلده. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه يوجد في حقه معناه، وهو القدوم، وهذا معدوم في من أحرم من مكة.

قيل: بل يوجد معناه أيضاً، وهو قدومه من منى، ولهذا قلنا يؤخره حتى يقدم من حل. فإن قيل: فالمفرد والقادم من بلده لم يتعين عليه طواف الفرض،] و [ليس كذلك هاهنا؛ لأنه بعد قدومه من منى قد تعين عليه طواف الفرض، فسقط طواف القدوم، كما سقطت تحية المسجد في حق من أحرم بالفرض. قيل: هذا يبطل بطواف الوداع؛ فإنه لا يسقط في حق من تعين عليه طواف الزيارة، بل قالوا: إذا أراد أن ينفر إلى بلده عقيب طواف الزيارة شرع في حقه طواف الوداع، كذلك القدوم. وأما تحية المسجد فتفارق الطواف؛ لأنه لو كان في ذمته صلاة مفروضة، ودخل المسجد، فأخر فعل الفريضة، لم تسقط تحية المسجد] عنه [بحصول الفرض في ذمته، وعلى قول المخالف: إذا كان في ذمته طواف الزيارة سقط طواف القدوم. وقياس آخر، وهو: أن طواف القدوم يفعل إذا لم يتعين عليه غيره، فشرع فعله، وإن تعين عليه غيره. دليله: طواف الوداع؛ يفعله عند انصرافه سواء كان طواف الزيارة باقياً في ذمته،] أ [وكان قد فعله، كذلك هاهنا. ] و [لأن طواف القدوم تحية المسجد الحرام، كما أن الركعتين تحية

لسائر المساجد، ثم ثبت أن تحية المسجد] مسنونة [في حق من في ذمته صلاة مفروضة إذا أخر فعلها حتى الدخول، كذلك الطواف؛ يجب أن يكون مسنوناً في حق من في ذمته طواف واجب. والدلالة على تأخيره بعد قدومه: ما احتج به أحمد: فروى الأثرم بإسناده عن جابر قال: قدم رسول الله "صل الله عله وسلم"، فلما طفنا بالبيت وبالصفا والمروة قال: ((اجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي)) فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر طافوا. وروي بلفظ آخر عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله "صل الله عليه وسلم"، فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعدما رجعوا من منى لحجهم. وروى الأثرم بإسناده عن نافع قال: كان ابن عمر إذا أهل من مكة لم يرمل البيت، ولم يسع بن الصفا والمروة حتى يرجع من منى، وإذا جاء مهلاً بالحج رمل بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة. وروى بإسناده عن عطاء، عن ابن عباس قال: طواف من قدم مكة قبل أن يخرج إلى عرفات، وطواف من أهل من مكة بعدما يرجع من عرفة.

مسألة استلام الركن اليماني مسنون

ولأنه إحرام يتضمن طواف، فلم يشرع الطواف إلا بعد قدومه من حل. دليله: الإحرام بالعمرة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الإحرام بها من الحل، فلهذا كان الطواف بعد مجيئه منه، وهاهنا إحرامه من الحرم، فلهذا كان عقيبه. قيل: إذا وجد في الحرم لم يوجد معناه، والذي قو القدوم، فلهذا لم يطف، ألا ترى أن طواف الوداع لما لم يوجد معناه في حق المكي لم يطف؛ لأن معناه الانصراف؟ كذلك هاهنا. فإن قيل: هذا الطواف غير واجب، فعلى أي وجه أوقعه جاز. قيل: طواف العمرة الثانية غير واجب، ولا يصح إلا بعد دخوله من الحل. 99 - مسألة استلام الركن اليماني مسنون: نص عليه في رواية الأثرم فقال: لا يستلم إلا اليماني والحجر الأسود، ويقبل الحجر الأسود، ولا يقبل اليماني. وقال -أيضاً- في رواية حنبل: يستحب أن يستلم الركن اليماني

الذي يلي الحجر الأسود، ولا ستلم غيرهما. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: ليس بسنة. دليلنا: ما روى عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله "صل الله عليه وسلم" كان يستلم الركن اليماني الأسود في كل طواف، ولا يستلم الآخرين الذين مما يلي الحجر. وفي لفظ آخر: لم أر رسول الله "صل الله عليه وسلم" يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين. وروى جابر: أن النبي "صل الله عليه وسلم" بدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه من البكاء حتى انتهى إلى الركن الآخر، واستلمه، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً. وروى ابن عباس: أن رسول الله "صل الله عليه وسلم" لم يستلم غير الركنين اليمانيين. وروى معاوية -أيضاً- استلم رسول الله "صل الله عليه وسلم" الركنين اليمانيين.

رواه أحمد في ((علل أبي بكر الخلال)). فإن قيل: تحمل هذه الأخبار على الاستحباب. قيل له: هذا يرفع الخلاف. ولأن معنى قولنا: أنه مسنون؛ معناه: أنه مستحب، فإذا قال: قلتم: أنه مستحب، فقد اتفقنا على الحكم، واختلفنا في عبارة، ولا فائدة في ذلك. وأيضاً فهو إجماع الصحابة؛ روي عن عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس: أنهم استلموا الركن اليماني، وقلبوا أيديهم، ولا يعرف لهم مخالف. والقياس أنه ركن مبني على قواعد إبراهيم، فوجب أن يكون استلامه مسنوناً قياساً على الركن الذي فيه الحجر الأسود، وعكسه الركنان الآخران. فإن قيل: لو كان بمثابة الركن الأسود لكان من سنته التقبيل، كما كان من سنته ذلك. قيل له: إنما اختص الحجر الأسود بالتقبيل لفضيلته على اليماني؛ لأن الحجر فيه وفيه فضائل، ولأنه يبدأ به ويختم، به فجاز أن يختص بالقبلة.

فإن قيل: فهذا المعنى الذي أوجب تخصيصه بالاستلام. قيل له: هذا المعنى يوجب اختصاصه بمزية على غيره من وجه من الوجوه، ولا يوجبه من جميع الوجوه، وهذا كما قلنا وإياهم: وإن الجرم يساوي الكعبة في أنهما] أمان [لمن دخلهما وهو قاتل، وإن كان للكعبة مزية من وجه آخر، وهو: أنها قبلة المصلين، ومحل للطائفين، وكذلك إحرام الحج آكد من إحرام العمرة, وقد تساويا في أحكام. واحتج المخالف بأنه ركن لا يسن تقبيله، فلا يسن استلامه. أصله: الركن العراقي والشامي. ولأنه ركن لا يجب الافتتاح به، أو ركن لا يجب العود إليه؛ يعني: عند الفراغ من الطواف، أشبه ما ذكرنا. والجواب: أن هذا قياس يعارض السنة. على أن المعنى في الأصل: أنهما غير مبنيين على قواعد إبراهيم. وقد روت عائشة: أن النبي "صل الله عليه وسلم" قال: ((إن قومك حين بنوا الكعبة

مسألة إذا استلم الركن اليماني لم يستحب تقبيل يده

اقتصروا عن قواعد إبراهيم)) فقلت: يا رسول الله! أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: ((لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت)). والذي دل على أن العلة ما ذكرنا: ما روى سالم عن أبيه قال: ما أرى ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم. ذكره أحمد في ((كتاب المناسك)) عن ابن عمر، عن عائشة. ] و [ذكره ابن المنذر أيضاً. 100 - مسألة إذا استلم الركن اليماني لم يستحب تقبيل يده: نص عليه في رواية الأثرم فقال: يضع يده، فقيل له: ويقبل؟ فقال: يقبل الحجر الأسود، فقيل له: كيف يصنع في استلام الحجر من لم يقدر على تقبيله؟ قال: إن قدر مسه بيده، وقبل يده. دليلنا: ما روى جابر قال: استلم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الركن

مسألة إذا لم يقدر على تقبيل الحجر، وضع يده عليه، ثم وضعها على فيه، وقبلها

اليماني، ولم يقبله. ولأن كل ركن لم يسن تقبيله لم يسن تقبيل ما لمسه، كالعراقي والشامي، وعكسه الحجر الأسود. ولأن تقبيل المواضع الشريفة خلاف القياس، هكذا قال عمر: إنك حجر لا تضر، ولا تنفع، فلم يجز إثبات ذلك إلا بتوقيف، ولا توقيف في ذلك. واحتج المخالف بأن هذا ركن سن استلامه، فيسن تقبيل اليد بلمسه، كالأسود. والجواب: أن الأسود لما سن تقبيله سن تقبيل ما لمسه، وهذا لما لم يسن تقبيله لم يسن تقبيل ما لمسه، بل هذا أولى؛ لأنه إذا لم يباشر بالقبلة، فأولى أن لا يقبل ما لمسه. 101 - مسألة إذا لم يقدر على تقبيل الحجر، وضع يده عليه، ثم وضعها على فيه، وقبلها: نص عليه في رواية الأثرم قال: يضع يده على الحجر

الأسود، ثم يقبل يده. وقال في رواية ابن منصور: وقد سئل عن تقبيل اليد إذا لمس الحجر فقال: لا بأس به. فظاهر هذا: أنه جائز غير مكروه، ولا مستحب. وقال مالك: يضعها على فيه من غير تقبيل. دليلنا: ما روى الأثرم بإسناده عن عطاء: أنه رأى أبا سعيد وابن عمر وجابر وأبا هريرة يستلمون الركن، ثم يقبلون أيديهم، قال: قلت: وابن عباس؟ فقال: وابن عباس -حسبت- كثيراً. وهذا إجماع منهم. وأيضاً رواه البرقاني بإسناده عن ابن عباس قال: طاف رسول الله "صل الله عليه وسلم" حول البيت على بعير ثم استلم الحجر بمحجن معه، ثم قبله. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده عن ابن عمر: كان رسول الله "صل الله عليه وسلم" يستلم الركن بمحجنه، ثم يقبله. وبإسناده عن جابر] قال [: طاف رسول الله "صل الله عليه وسلم" على راحلته، ثم

مسألة لا تكره القراءة في الطواف في أصح الروايتين

أتى الحجر فاستلمه تعصيباً، وعصبت معه، ثم قبل العود. وبإسناده عن أبي الطفيل قال: طاف رسول الله "صل الله عليه وسلم" بالبيت سبعاً، واستلم الركن بمحجنه وقبل طرف المحجن. ولأنه لما استحب تقبيله تعظيماً له استحب تقبيل ما باشره تعظيماً له. واحتج المخالف بأنه لو كان مسنوناً لفعله النبي "صل الله عليه وسلم". والجواب: أنه قد فعله بما روينا، فسقط هذا. واحتج بأن الركن اليماني لا يستحب تقبيل ما باشره، كذلك الأسود. والجواب: إنما لم نستحب تقبيل اليماني، لهذا لم نستحب تقبيل ما باشره وهذا بخلافه. 102 - مسألة لا تكره القراءة في الطواف في أصح الروايتين: نقلها الأثرم وأبو طالب فقال: القراءة في الطواف جائزة.

وظاهر هذا: أنها غير مكروهة. وقال -أيضاً- في رواية أبي داود: وقد سئل: أيما أحب إليك: القرآن، أم الدعاء في الطواف؟ فقال: كل. وروى الميموني وحنبل عنه: لا يقرأ في الطواف. وظاهر هذا: أنه مكروه. وهو قول مالك. وجه الأولى: ما روي عن النبي "صل الله عليه وسلم" قال: ((الطواف بالبيت صلاة إلا إن الله أباح فيه النطق)). فشبهه بالصلاة، واستثنى الكلام فقط، والصلاة يقرأ فيها. وروى عبد الله بن السائب قال: كان رسول الله "صل الله عليه وسلم" يقول في طوافه: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)). وهذا من القرآن. وروى الأثرم بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول الله "صل الله عليه وسلم" ((إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله)).

والقرآن من ذكر الله تعالى. واحتج المخالف بما روى حنبل بإسناده عن يحيى البكاء: أن عمر رأى رجلاً يقرأ في الطواف، فضرب صدره. والجواب: أن هذا يقابله ما روى الأثرم بإسناده عن عطاء قال: أدركت الطواف وما فيه إلا قراءة القرآن والذكر، فصار الناس يتتابعون. وهذا لإشارة إلى فعل الصحابة. واحتج بأنه موطن للدعاء، فكرهت قراءة القرآن فيه، كالركوع والسجود والتشهد. والجواب: أنه يبطل بالوقوف بعرفات، وعند المشعر الحرام؛ فإنه موطن للدعاء، ولا تكره القراءة فيه. وأما الركوع والسجود والتشهد فإنما لم تجز القراءة فيها لنهي النبي "صل الله عليه وسلم" عن ذلك. وعلى أن الصلاة حجة لنا؛ لأن الطواف مثلها. و] على [أنه يحتمل أن يكون المحل الواحد لجنسين، كما أن القيام لدعاء الاستفتاح وللقراءة.

مسألة إذا طاف محدثا، أو على بدنه نجاسة، أو مكشوف العورة، لم يجزئه، وعليه الإعادة في أصح الروايتين

تابع كتاب الحج 103 - مسألة إذا طاف محدثاً، أو على بدنه نجاسة، أو مكشوف العورة، لم يجزئه، وعليه الإعادة في أصح الروايتين: نص عليها في رواية أبي طالب: إذا طاف محدثاً، أو جنباً، أعاد طوافه. وكذلك نقل حنبل عنه إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر لم يجزئه. وكذلك نقل الأثرم وابن منصور. وبهذا قال مالك والشافعي. وروى أبو بكر بن محمد، عن أبيه، عن أحمد في من طاف للزيارة أو للصدر، وهو جنب أو على غير وضوء: أرجو أن يجزئه أن يهريق دماً إذا كان ناسياً. وكذلك نقل الميموني فقال: الناسي أهون بكثير. وظاهر هذا أن الطواف جائز، وعليه دم.

وهو قول أبي حنيفة. وقد ذكر أبو بكر المسألة على روايتين فى كتاب "الشافي". وقال أبو حفص العُكبري: لا يختلف قوله إذا تعمد -وطاف على غير طهارة-: لا يجزئه، واختلف قوله في النسيان على قولين: أحدهما: أنه معذور بالنسيان. والآخر: لا يجزئه مثل الصلاة. وجه الرواية الأولى: ما روى طاوس، عن عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "الطواف صلاة، إلا أن الله - تعالى - أحل لكم به النطق، ولا ينطق إلا بخير". رواه حنبل بهذا اللفظ في "مسائله" بإسناده. قوله: "الطواف صلاة"؛ معناه: مثل الصلاة، والعرب تحذف المضاف كثيراً، وأكثر ما يُحذف منه المثل، وقد ورد بذلك القرآن في مواضع كثيرة: قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55]؛ أي: مثل شرب الهيم. وقال أيضاً: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]؛ أي: مثل عرض السموات والأرض.

وقال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]؛ أي: مثل أمهاتهم. فإذا كان كذلك، وجب أن يكون الطواف بمنزلة الصلاة فى جميع الأحكام، إلا فيما استثناه، وهو إباحة النطق. وأيضاً ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". وهذا نهي، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. والقياس: أن الطواف عبادة تجب فيها الطهارة، فوجب أن تكون الطهارة شرطاً فى صحتها قياساً على الصلاة. فإن قيل: لا يمنع أن تكون الطهارة واجبة للطواف، ولا تكون شرطاً فى صحته، كالرمي، وطواف الصدر، والإحرام من الميقات، وترك المحظورات من الطيب وغيره، واجب فى الحج، وليس بشرط فى صحته. قيل له: لم نقل: إن كل واجب شرط، وإنما قلنا: الطهارة إذا وجبت كانت شرطاً فى الصحة، كما نقول فى الصلاة: الفريضة، والنافلة، وصلاة الجنازة، وسجود القرآن. يبين صحة هذا: أن سجود السهو يجب فى الصلاة، ولا يكون شرطاً فى صحتها، وتجب الطهارة للصلاة، وتكون شرطاً فى صحتها، ولم يعتبر أحدهما بالآخر.

وإن شئت قلت: عبادة تتعلق بالبيت فكانت الطهارة شرطاً فى صحتها. دليله: الصلاة. أو تقول: عبادة تتعلق بالبيت فلم تُجبر بالدم. دليله: ما ذكرنا. ولأنه ترك من الطواف ما يسقط إلى غير شيء، فلم يعتد به، كما لو أخل بأشواط. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]. وهذا قد طاف، فوجب أن يجزئه بظاهر الآية. والجواب: أن طواف المحدث منهي عنه، وإنما المنهي عنه معنى غيره، وهو ترك الطهارة. قيل له: الطهارة غير مقصودة فى نفسها، وإنما أُمر بها للطواف، والطواف بغير طهارة منهي عنه، فلا يدخل تحت الأمر. واحتج بأنه ليس من شرط صحته ترك الكلام فيه، فوجب أن لا يكون من شطره الطهارة، كالصوم. يبين صحة هذا: أن الكلام أكبر فى إفساد العبادة المقصودة لنفسها من الحدث بدلالة أنه من تكلم فى صلاته مع علمه بحاله فسدت صلاته،

والمستحاضة تجزئها صلاتها مع وجود الحدث، وعلمها بحالها، وكذلك المتيمم. فإن كان كذلك، وقد ثبت: أن الكلام لا يفسد الطواف، فلأن [لا] يفسده الحدث أولى. والجواب: أنه يبطل بمس المصحف؛ من شرطه الطهارة، وليس من شرطه ترك الكلام. وكذلك اللبث فى المسجد من شرطه الطهارة الكبرى، وليس من شرطه ترك الكلام. فإن قيل: مس المصحف والكون فى المسجد حاصل، وإن ترك الطهارة، فيجب أن يحصل الطواف. قيل له: مس المصحف حاصل غير صحيح؛ لأنه لا يكون مساً شرعياً، كالنافلة إذا صلاها من غير طهارة، لا تكون صلاة صحيحة. ثم المعنى فى الأصل: أن الطهارة غير واجبة فيه، وليس كذلك الطواف؛ لأن الطهارة واجبة فيه، فكانت شرطاً فيه. واحتج بأنه لو كان من شرطه الطهارة، لوجب أن يكون من شرطه استقبال القبلة فى غير حال العذر، كالصلاة، ولما لم يكن من شرطه استقبالها، وجب أن لا يكون من شرطه الطهارة، كسائر أفعال المناسك.

والجواب: أن من شرطه استقبال القبلة؛ لأنه لا يجوز أن يبتدئ الطواف غير مستقبل للرُّكن. وعلى أن استقبال القبلة قد سقط فى الصلاة فى حال المسابقة، وفى النوافل على الراحلة فى السفر، ولا تسقط الطهارة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. واحتج بأنه لو كانت الطهارة شرطاً فى صحة الطواف، لوجب أن تكون شرطاً فى صحة الإحرام، ألا ترى أنها لما كانت شرطاً في أفعال الصلاة، كانت شرطاً في إحرام الصلاة. والجواب: أنها إنما لم تكن شرطاً في صحة الإحرام؛ لأنها غير واجبة فيه، وليس كذلك فى الطواف؛ لأنها واجبة فيه. وهكذا الجواب عن قولهم: إن الطواف فعل من أفعال الحج، فلم تكن الطهارة شرطاً فيه، كالسعي، والوقوف، وسائر الأفعال؛ لأن تلك الأفعال لا تجب [لها] الطهارة، وليس كذلك الطواف؛ لأن الطهارة تجب له، مع أن هذا يبطل بركعتي الطواف؛ لأنها من أفعال الحج، ومن شرط صحتها الطهارة. على أن إسحاق بن إبراهيم نقل عنه قال: الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة. وظاهر هذا: أن الطهارة شرط له في السعي، ولكن المذهب الصحيح أن الطهارة لا تجب في ذلك.

مسألة إذا انعكس الطواف - وهو أن يجعل البيت عن يمينه - لم يغنه

نص عليه في رواية أبي طالب [قال]: إذا حاضت المرأة، وهي تطوف بالبيت قبل أن تقضي الطواف، خرجت، ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأنها لم تتم الطواف، فإن طافت بالبيت، ثم خرجت تسعى، فحاضت، فلتمضِ في سعيها؛ فإنه لا يضرها، وليس عليها شيء. وكذلك نقل حرب عنه أنه قال: الحائض لا تطوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، إلا أن تكون قد طافت قبل ذلك، فإنها تسعى. * ... * ... * 104 - مسألة إذا انعكس الطواف - وهو أن يجعل البيت عن يمينه - لم يغنه: نص عليه في رواية حنبل فقال: من طاف بالبيت طواف الواجب منكوساً لم يجزئه حتى يأتي به على ما أمر الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلّم، فإن طاف كذلك وانصرف، فعليه أن يأتي به، ولا يجزئه. وقال - أيضاً - في رواية حرب في محرم نسي، فبدأ بالمروة قبل الصفا: يعيد الشوط. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يعيد إن كان بمكة، وإن رجع إلى أهله، فعليه دم، ويجزئه. دليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: [أنه] لما طاف جعل الكعبة عن

يساره، وقال: "خذوا عني مناسككم". وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: الواجب عليه إذا أراد الطواف أن يطوف غير منكوس، وليس فيه أنه إذا خالف: أنه لا يعتد به. قيل: إذا ثبت أنه أوجب عليه، لم يسقط إلا بفعله؛ لأن الإيجاب يقتضي الإيجاد، فمن أراد أن يقيم ما لم يتضمنه الأمر مقام ما تضمنه يحتاج إلى دليل. ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وتركه، ولا يجوز تركه إلى غيره بدليل. وأيضاً ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". وروي: "من أحدث من أمرنا ما ليس منه فهو رد". وأيضاً الطواف عبادة متعلقة بالبيت، فإذا نكسها لم يعتد بها، كالصلاة، وهو أن يبدأ بالسلام، ثم بالتشهد، ثم بالسجود، ثم بالقيام، ثم الركوع، ثم يستوي قائماً يقرأ. وإن شئت قلت: كل عبادة يجب بها الترتيب، كان شرطاً فى صحتها.

دليله: الصلاة. فإن قيل: الصلاة آكد بدليل لا يصح فعل الفرض منها راكعاً لغير عذر، والطواف يجوز. قيل له: لا يجوز عندنا لغير عذر مع أن هذا لما لم يوجب الفرق بينهما في إيجاب الترتيب، لم يوجبه في أشراطه. ولأنه قد طاف منكوساً، فلم يجزئه، كما لو كان بمكة. فإن قيل: إذا كان مكة، فلا مشقة عليه في الرجوع، وإذا خرج منها شق عليه الرجوع، فيجبره بدم، كطواف الوداع. قيل: هذا باطل؛ لأنه إذا ترك جميع الطواف وخرج، كان عليه مشقة، ومع هذا لا ينوب عنه الدم. ويفارق هذا طواف القدوم؛ لأنه ينوب الدم عن جميعه. ولأن ما أوجب إعادة الطواف إذا كان بمكة، أوجبه إذا رجع إلى أهله. دليله: إذا طاف منكوساً قبل طلوع الفجر يوم النحر. فإن قيل: إنما يعتد به هناك؛ لأنه قدمه على وقته. قيل: لا نسلم لك هذا. ولأن هذا الفرق يبطل به إذا كان بمكة، وطاف بعد طلوع الفجر منكوساً؛ فإنه لا يجزئه، وإن لم يقدمه على وقته.

ولأنه ترك من الطواف ما لا يسقط على غير شيء، فلم يعتد به، كما لو ترك شرطاً من الشرائط. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]. وهذا قد طاف. والجواب: أن هذا الطواف منهي عنه، والله - تعالى - لا يأمر بالمنهي عنه. فإن قيل: نفس الطواف غير منهي عنه، وإنما المنهي عنه ترك الترتيب. قيل له: إذا وقع الطواف على هذه الصفة فهو منهي عنه. واحتج بأنه طاف بالبيت مع وجود النية، وهو ممن يصح منه فعل الطواف، فوجب أن يجزئه، كما لو طاف غير منكوس. والواجب: أنه لا يجوز اعتبار المنكوس بعدمه في مسألتنا، كما لم يجز ذلك في الصلاة، وإن كان الفعل موجوداً في الموضعين. واحتج بأنه قد فعل الطواف، وإنما خالف في هيئته، وذلك لا يمنع وقوعه موقع الجواز، كما لو طاف راكباً لغير عذر، أو طاف، ولم يرمل، ويضطبع. وقد نص أحمد على أنه إذا ترك الرمل صح، ولا دم عليه.

في رواية أبي طالب في من ترك الرمل عامداً: أرجو أن ليس عليه شيء. وكذلك نقل ابن منصور عنه قال: من ترك الرمل لا شيء عليه. قيل له: من ترك السعي بين الصفا والمروة؟ قال: كلاهما عندي واحد. والجواب: أن عندنا أنه إذا طاف راكباً لغير عذر لا يُعتد به في إحدى الروايتين، والأخرى يعتد به. فعلى هذا: لا يدل على إسقاط الترتيب، ألا ترى أن صلاة النافلة في السفر وصلاة الفرض في الخوف تجوز على الراحلة، ومن شروطها الترتيب. وأما إذا لم يرمل، ولم يضطبع، فالمعنى فيه: أنه يسقط إلى غير شيء، فلم يكن شرطاً، وإذا ترك الترتيب فقد ترك إلى ما يسقط إلى بدل، فلهذا لم يعتد بطوافه. واحتج بأنها عبادة لم تشترط فيها الموالاة، فلم يشترط فيها الترتيب، كالزكاة. وقد نص أحمد على أن الموالاة غير واجبة، فقال في رواية حنبل: وذكر له أن الحسن طاف بين الصفا والمروة أسبوعاً، فغشي عليه، فحمل إلى أهله، فجاء من العشا، فأتمه، قال أحمد: إن أتمه فلا بأس، وإن استأنف فلا بأس.

ونقل ابن منصور عنه: وقد سئل: إذا قطع الطواف يبني، أو يستأنف؟ قال: يبني. وقال - أيضاً - في رواية ابن إبراهيم في الرجل يطوف، فيرى جنازة: يقطع، ويصلي عليها، ويبني. وسئل عن الرجل يطوف بالبيت، فيعيي: هل يستريح؟ فقال: نعم، قد فعله ابن عمرو وابن الزبير؛ طافا واستراحا. وظاهر هذا: أن الموالاة غير واجبة. والجواب: أن حرباً نقل فى امرأة طافت ثلاثة أشواط، ثم حاضت: تقيم حتى تطوف. فقيل له: تبني على طوافها؟ قال: لا، تبتدئ. وقال في رواية أبي طالب: إذا طاف خمساً أو ستاً، ورجع إلى بلده، يعيد الطواف. وظاهر هذا: اعتبار الموالاة؛ لأنه إنما بقي عليه شوط واحد. وقد خرجها أبو بكر في كتاب "التنبيه" على روايتين فقال: لو طافت خمساً، ثم حاضت، بنت، وقيل: تبتدئ. قال: وهو اختياري. وعلى أن الزكاة لا ترتيب فيها بحال، والطواف فيه ترتيب، ألا ترى أنه يجبر تركه بالدم؟ وبهذا المعنى بين بين الموالاة وبين الترتيب، وهو أن الموالاة تركها لا يوجب الدم، والترتيب تركه يوجب الدم. ولأن الزكاة عبادة لا تتعلق بالبيت، ولا هي شرط في ما يتعلق

مسألة إذا ترك بعض الطواف لم يعتد به، ولم يجبره بالدم

بالبيت، فلهذا لم تفتقر إلى الترتيب، والطواف عبادة تتعلق بالبيت، فأشبهت الصلاة. * ... * ... * 105 - مسألة إذا ترك بعض الطواف لم يعتد به، ولم يجبره بالدم: نص عليه في رواية الأثرم في من ترك من الطواف الواجب فقال: لا يجزئه حتى يأتي بسُبع تام، لا بد منه. وكذلك نقل ابن منصور: وقد ذكر له قول سفيان: إذا لم يكمل سبعه فهو بمنزلة من لم يطف؛ يكون حراماً، ثم يرجع، فيقضي؛ حجة كانت، أو عمرة، فقال أحمد: ما أحسن ما قال. وكذلك نقل عنه حنبل في رجل طاف ستة أشواط، وصلى ركعتين، ثم ذكر بعد: يطوف شوطاً، ولا يعيد، وإن طاف ابتداء فهو أحوط. وكذلك نقل أبو طالب عنه: وقد ذكر له قول عطاء: إذا طاف أكثر الطواف؛ خمساً، أو ستاً، فقال: أنا أقول: يعيد الطواف. قيل له: فإن كان بخراسان؟ قال: يرجع، فإذا بلغ التنعيم أهل، ثم طاف، ويهدي مثل قول ابن عباس. وبهذا قال مالك والشافعي. قال أبو حنيفة: إذا طاف الأكثر، وترك الأقل؛ فإن كان بمكة أتمه،

وإن رجع إلى أهله ناب عن الباقي الدم. دليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه طاف سبعاً، وقال: "خذوا عني مناسككم". وهذا الأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: نقول: إن السبعة كلها واجبة، والخلاف في الدم؛ هل يقوم مقام الأقل، أم لا؟ وليس في وجوبها ما يمنع، كما تقول في طواف الصدر، ورمي الجمار، والإحرام من الميقات. قيل له: إذا ثبت وجوب السبعة لم يسقط منها شيء إلا بفعله؛ لأن الإيجاب يقتضي الإيجاد، ومن أراد أن يُقيم ما لم يتضمنه الأمر مقام ما تضمنه يحتاج إلى دليل. ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وتركه، فلا يجوز تركه إلى غيره إلا بدليل. والقياس أنه ترك بعض الأشواط الواجبة عليه، فلا يتحلل من إحرامه قبل إتمامه قياساً على الأكثر إذا تركه.

وإن شئت قلت: يلزمه إتمامه إذا كان بمكة، فوجب أن يلزمه إذا رجع إلى أهله. دليله: ما ذكرنا. وإن شئت قلت: ترك من الطواف ما لا يسقط إلى غير شيء، فلم يجزئه. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: لا يجوز أن يكون حكم الأقل حكم الأكثر، كما لم يجز أن يكون حكم الأقل من أفعال الحج حكم الأكثر، وحكم أقل أفعال الركعة حكم الأكثر، وإنما لزمه إتمامه ما دام في مكة؛ لأنه يمكنه أن يجبر النقص الداخل فيه من جنسه، ولا يتعذر عليه، وإذا رجع إلى أهله تعذر عليه العود إلى مكة، فجاز أن يجبر النقص بالدم. قيل: أما قولك: (إنه إذا تعذر عليه العود، فجاز أن يجبره بالدم) فيبطل به إذا ترك الأكثر؛ فإنه يتعذر، ومع هذا لا يجبره. وأما قولك: (إنه لا يجوز اعتبار الأقل بالأكثر) فغير صحيح؛ لأن أكثر الركعات لا تقوم مقام الجميع، وكذلك أكثر أعضاء الوضوء، وأكثر غسل البدن في الجنابة، وأكثر الآذان والإقامة، وأكثر أيام رمضان، وسائر صيام الكفارة، وأكثر النصاب، وأكثر الزكاة، وغير ذلك مما يكثر تعداده. ثم هذا المعنى يبطل به إذا كان مقيماً بمكة؛ فإنه لم يقم

الأكثر مقام الجميع. ولأنه لو كان الأكثر قائماً مقام الجميع لم يجبر بالدم، كما لا يجبر في الإدراك مع الإمام أكثر أفعال الركعة. ولأن أكثر أفعال الركعة ليس بقائم مقام الجميع، وإنما تُحسب له بفعل الإمام، ولا نظير له من الطواف. ولأن الطواف عبادة تتعلق بالبيت، فلا يقوم المال مقام شيء منها، كالصلاة. فإن قيل: الحج آكد من الصلاة بدليل أن معظمه يقوم مقام جميعه في باب المنع من ورود الفساد عليه، ألا ترى أنه لو جامع بعد الرمي وقبل الطواف، لم يفسد حجه، ومعظم الصلاة لا تمنع من ذلك، فإن كان كذلك، فلهذا فرقنا بينهما. قيل له: إنما افترقنا من هذا الوجه؛ لأن للحج تحليلين، فإذا وجد أحدهما، ثم تعقبه محظور، لم يؤد إلى الفساد، والصلاة لها تحلل واحد، فإذا وجد المحظور سرى إلى جميعها. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]. وهذا قد طاف.

والجواب: أن المراد به: سبعة أطواف بالإجماع، وما أجمعوا عليه فهو بمنزلة المنطوق به، فكأنه قال: وليطوفوا سبعة أطواف، فإذا طاف بعضها، كان باقياً عليه. واحتج بأن كل ما حظر عليه بعقد الإحرام جاز أن يستبيحه قبل استيفاء فروضه، كاللبس والطيب والصيد والحلق، وعندكم لا يستبيح الجماع إلا بعد الفراغ من الطواف. وربما قالوا: تحلل من إحرام الحج، فجاز أن يحصل قبل استيفاء فروضه، كالتحلل الأول. والجواب: أن هذه الأشياء تُستباح بالتحلل الأول، والاستمتاع بالنساء لا يستباح إلا بعد الفراغ من الطواف، وإنما يقوم الدم مقام ما بقى منه، وجعله بمنزلة فعل الجميع، فلم يصح الجمع بينهما؛ لأن استباحة الاستمتاع لا يجوز أن تكون سابقة للفراغ من الطواف، أو ما يقوم مقام الفراغ منه. واحتج بأن الحج آكد من الصلاة بدليل أن معظمه يقوم مقام جميعه في باب المنع من ورود الفساد عليه؛ لأنه لو جامع بعد الرمي وقبل الطواف، لم يفسد حجُّه، ومعظم الصلاة لا يمنع من ذلك، ثم ثبت أن في أركان الصلاة ما يقوم معظمه مقام جميعه، وهو إدراك المأموم الإمام في الركوع، فلا يكون في أركان الحج ما هو بهذه الصفة أولى.

والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن الطواف ركن في الحج، فجاز أن يجبر الدم بعض أجزائه، كالوقوف. والجواب: أن الدم لا يجبر بعض الوقوف؛ لأن القدر الذي يجب في الوقوف هو الحصول في الموقف فحسب، والزيادة على ذلك مسنونة فيه. وعلى أن الدم يجبر معظم الوقوف، ولا يجبر معظم الطواف، فافترقا. واحتج بأنه أتى بمعظم الطواف، أشبه لو أتى بالسُّبْع، وأخل بالرَّمل والاضطباع. والجواب: أن هناك قد أتى بجميع العبادة، والرمل والاضطباع صفة فيها، فلم يؤثر تركها في الطواف، فهو كالصلاة إذا أتى بركعاتها، وأخل بهيآتها من الجهر، والإخفات، والرفع، ووضع اليمين على الشمال؛ فإنه يحكم بصحتها، ولو نقص من ركعاتها ركعة، لم يعتد به. ويبين صحة الفرق بينهما: أنه لا يجب بترك الرمل والاضطباع دم، ويجب الدم بترك شوط، فبان الفرق بينهما. * ... * ... *

مسألة إذا سلك في الطواف الحجر لم يجزئه إلا أن يستأنف الطواف، فيبنى على الموضع الذي دخل من الحجر

106 - مسألة إذا سلك في الطواف الحجر لم يجزئه إلا أن يستأنف الطواف، فيبنى على الموضع الذي دخل من الحجر: نص عليه فى وراية الأثرم في من طاف في الحجر، فاخترقه: لم يجزئه؛ لأن الحجر من البيت، فإذا كان شوطاً واحداً أعاد ذلك الشوط، وإن كان قبل الطواف أعاده. وكذلك نقل حنبل عنه في من طاف، واخترق الحجر: لا يجزئه، ويعيد. وكذلك نقل حرب. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزئه. دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف حول الحجر، فروى الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال: من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر؛ فإن الله - تعالى - يقول: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلّم من وراء الحجر. وإذا ثبت هذا من فعله دخل تحت قوله: "خذوا عني مناسككم".

وهذا أمر فهو على الوجوب. وأيضاً ما روي عن عائشة: أنها قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أصلي في البيت، فقال: "صلي في الحجر؛ فإن الحجر من البيت". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعائشة: "لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت، ورددته على قواعد إبراهيم؛ فإن قومك قلت نفقاتهم، فاقتصروا بالبيت عن قواعد إبراهيم". فثبت بهذه الأخبار: أن الحجر من البيت، ووجب الطواف حوله بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]. فإن قيل: هذه أخبار آحاد، ولا نقطع بها. قيل: ليس الأمر على هذا، بل كل أحد من أهل العلم ومن أهل التفسير والسنن يعلم: أن الحجر من البيت على ما ذكرنا. وعلى أن إثباته من البيت أنه يفيد إيجاب الطواف حوله، ومثل هذا المعنى يجوز إثباته بأخبار الآحاد؛ لأنه لم يستوعب البيت العتيق بطوافه، فلم يعتد به، كما لو ترك بعض البناء. واحتج المخالف بأنه مكان لا يُقطع على كونه من البيت، فالطواف عليه ليس بشرط كسائر البقاع. ولأن فرض الصلاة لا يسقط بالتوجه إليه، أشبه سائر البقاع.

مسألة إذا طاف راكبا لغير عذر لم يجزئه في إحدى الروايتين

والجواب: أن كونه غير مقطوع عليه لا يمنع من ثبوته بدليل سائر الأحكام الذي ثبتت بأخبار الآحاد، والاجتهاد، وسائر المسائل المختلف فيها؛ فإنه غير مقطوع عليها، ومع هذا فإنها ثابتة، كذلك هاهنا. وأما التوجه إليه في الصلاة؛ فإنه يجزئه، وتصح صلاته، كما إذا توجه إلى حائط الكعبة. واحتج بأنه ركن تعلق بمكان، فلا يكون من شرطه استغراق جميع المكان بالكون فيه، كالوقوف بعرفة. والجواب: أنه بيطل بالسعي؛ بإنه يختص بمكان، ومن شرطه استغراق جميع جميع المكان. على أن الطواف يجب استيعاب الأكثر فيه، والوقوف لا يجب، ويجزئ الأقل، فبان الفرق بينهما. * ... * ... * 107 - مسألة إذا طاف راكباً لغير عذر لم يجزئه في إحدى الروايتين: نص عليه فى وراية محمد بن أبي حرب الجرجرائي: وقد سئل عن الرجل يطوف حول البيت على بعيره، وهو صحيح، فقال: لا، إنما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكي يراه الناس. وكذلك قال في رواية حنبل: ولا يطوف راكباً، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلّم لكي يراه الناس.

وكذلك قال في رواية أبي الحارث: وقد سأله عن من طاف بالبيت محمولاً من غير علة، ولا مرض، فقال: الذي سمعنا أن يكون مريضاً، فإذا كان صحيحاً فما سمعت فيه شيئاً، ما أدري. وظاهر هذا الكلام منع الإجزاء. وفيه رواية أخرى: يجزئه، ولا دم عليه. ذكره أبو بكر النجاد في كتاب "المناسك" فقال: قال أبو عبد الله: أكره أن يطوف راكباً من غير عذر، وإن طاف رجوت أن يجزئه، فإذا اشتكى طاف محمولاً لم يرمل به الذين يحملونه. وقال في رواية محمد بن منصور الطوسي في الرد على أبي حنيفة: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بعيره. وقال هو: إذا حُمل عليه، فعليه دم. وهو اختيار شيخنا أبي عبد الله، وأبي بكر بن عبد العزيز، ذكره في كتاب "زاد المسافر" فقال: إذا طاف راكباً أجزأه ذلك، ولم يوجب عليه دم. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: إذا طاف لغير عذر راكباً كُره له ذلك، وقيل له: أعد، فإن لم يعد أجزأه، وعليه دم. وقد كنت أنصر قبل هذا أنه إذا طاف لغير عذر راكباً يجزئه، ولا دم

عليه، ورأيت أكثر كلام أحمد أنه لا يجزئه، فنصرت نفي الإجزاء. والدلالة على أنه لا يجزئه: ما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "الطواف بالبيت صلاة"؛ معناه: مثل صلاة، فحذف المضاف. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون بمنزلة الصلاة في جميع الأحكام إلا ما استثناه، وهو إباحة النطق، وصلاة الفرض لا تجوز راكباً لغير عذر. وإنها عبادة متعلقة بالبيت، فلم يصح فعلها راكباً في غير حال العذر. دليله: الصلاة. ولأن المشي نفس الطواف، فإذا تركه حصل ناقصاً فلم يجزئه. دليله: لو ترك شوطاً، أو شوطين. فإن قيل: المشي هيئة وصفة فيه، فهو كالرمل والاضطباع. قيل: فيجب أن يجعل القيام في الصلاة هيئة، ويجوز له أن يصلي راكباً. ولأنه طاف محمولاً لغير علة، فلم يجزئه. دليله: إذا كان الحامل له آدمياً؛ فإن الصحيح من قولي الشافعي: أن الطواف للحامل دون المحمول، كذلك هاهنا. فإن قيل: الفرق بينهما أن فعل الحامل منسوب إليه دون المحمول،

وليس كذلك فعل الراكب. ولأن فعل الدابة منسوب إليه، وقائم على اختياره. قيل: وكذلك فعل الحامل منسوب إلى المحمول؛ لأنه قصده بذلك بدليل أنه يأخذ الأجرة عليه، ولا يصح أن يأخذ الأجرة على نفع نفسه. ونخص أبا حنيفة بطريق آخر فنقول: طاف راكباً لغير عذر، فلم يجزئه. دليله: لو طاف قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وكما لو كان مقيماً بمكة. ولأنه ترك من الطواف ما لا يسقط إلى غير شيء، فلم يعتد به، كما لو ترك من الطواف بعض الأشواط؛ لأن الطواف عبادة تتعلق بالبيت، فلا يقوم المال مقام شيء منها. دليله: الصلاة. واحتج المخالف لما رواه أحمد فيما ذكره الخلال في كتاب "العلل" بإسناده عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطوف بالبيت على ناقة، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك. قال أبو إسماعيل الترمذي: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال:

[...] ثقة، والحديث غريب. وروى أبو الطفيل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجن، ثم يقبله. والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف راكباً لعذر بدلالة ما روي عن ابن عباس: أنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم راكباً لشكاة كانت به. وروى جابر: أنه طاف راكباً؛ ليشرف على الناس، ويرونه؛ فإن الناس غشوه. وهذا عذر يبيح الركوب. وعلى هذا حمله أحمد، وتأوله عليه، وجعله عذراً. ومثل هذا ما روى سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى على المنبر، فركع، ورجع القهقهري حتى نزل، وسجد. وحمل هذا على أنه فعله؛ ليأتموا به، ويتعلموا صلاته، وليس أن يمتنع أن يقع البيان على وجه مكروه، كما أخر صلاة المغرب عن أول وقتها ليبين الجواز. واحتج بأنه ركن من أركان الحج، فإذا فعله راكباً صح.

دليله: الوقوف والإحرام والسعي. والجواب: أنه قد قال أحمد في رواية حرب: لا بأس بالسعي بين الصفا والمروة على الدواب لضرورة. وظاهر هذا يقتضي: أن السعي كالطواف، وأنه يجوز راكباً للضرورة، فلا فرق بينهما. وكأن المعنى فيه: أن المشي نفس السعي، كما أنه نفس الطواف، وأما الوقوف والإحرام: فالمعنى في الإحرام: أنه وجود النية والقصد، وهذا يوجد في حق الراكب، كما يوجد في حق الراجل. وأما الوقوف فهو الكون بعرفة، وهذا موجود في حق الراكب. فأما الطواف فإن المشي نفس الطواف، فإذا ركب، فلم يوجد ذلك. أو نقول: الطواف عبادة تتعلق بالبيت أشبه بالصلاة. واحتج بأن المشي هيئة في الطواف فهو كالرمل والاضطباع، وقد ثبت أن الإخلال بذلك لا يمنع صحة الطواف، كذلك المشي. والجواب عنه: ما تقدم. * ... * ... *

مسألة طواف الحامل غير جائز عنه، وطواف المحمول كطواف الراكب؛ إن كان لعذر أجزأه، وإن كان لغير عذر، فعلى الروايتين

108 - مسألة طواف الحامل غير جائز عنه، وطواف المحمول كطواف الراكب؛ إن كان لعذر أجزأه، وإن كان لغير عذر، فعلى الروايتين: إحداهما: لا يجزئه. والثانية: يجزئه، ولا دم عليه. وقد ذكر الخرقي هذا في "مختصره" فقال: ومن طاف وسعى محمولاً لعلة أجزأه، وأجاز ذلك في حق المحمول للعذر. وقال في موضع آخر: ومن طيف به محمولاً كان الطواف له دون حامله. فنص على أنه غير جائز للحامل. وقال أبو حنيفة: طواف الحامل جائز عنه، ولا دم، وطواف المحمول كطواف الراكب يجزئه، وعليه دم. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: يجزئ عن الحامل دون المحمول، وهو الصحيح عندهم. فالدلالة على أنه لا يجزئ عن الحامل خلافاً لأبي حنيفة وأحد القولين للشافعي: أنه قد جاز فعله عن طواف المحمول عندهم على الإطلاق، وعندنا إذا كان لعذر، لم يجز عن طواف نفسه؛ لأن فعلاً واحداً لا يتأدى به اثنين، أو لا يسقط به فرض اثنين.

ولأن الطواف إذا أجزأ عن المحمول لم يجز عن الحامل. دليله: ابن خمس عشرة سنة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]. وهذا الحامل قد طاف. والجواب: أنه محمول على غير الحامل بدليل ما ذكرنا. واحتج بأن كونه حاملاً لإنسان ليس بأكثر من كونه حاملاً للمتاع، ولا خلاف أن ذلك لا يمنع من جواز طرفه، كذلك هاهنا. والجواب: أن فيه ما هو أكثر من هذا، وهو أنه يؤدي إلى أن يسقط بفعل واحد فرضين، وهذا المعنى معدوم في حمل المتاع. واحتج بان طواف المحمول جائز؛ لحصوله في تلك المواضع مع وجود النية، كذلك الحامل أولى بجواز طوافه من المحمول؛ لأن الحامل قد فعل الطواف بنفسه، والمحمول لم يفعله. والجواب: أنه إنما حصل المحمول؛ لأنه مقصود بالطواف. ولأنه يؤدي إلى أن يحصل الفعل الواحد لفاعلين، وليس كذلك الحامل؛ لأنه غير قاصد، ولا هو يؤدي إلى أن يحصل الفعل لفاعلين، فلهذا فرقنا بينهما.

واحتج بأن محرماً لو حمل محرماً بعرفة لكان ذلك مجزءاً عنهما، كذلك الطواف. والجواب: أن الطواف مخالف للوقوف؛ لأنه لو وقف من غير نية وغير علم بالموضع لصح الوقوف، وليس كذلك الطواف؛ فإنه لا يصح إلا مع القصد والنية، فافترقا. ولأنه إذا كان حاملاً له في الموقف لم يرد إلى أن يسقط بفعل واحد فرضين؛ لأت المأخوذ عليه الكون، وليس كذلك الطواف؛ لأن الفعل واحد، فيؤدي إلى أن يسقط به فرضين. واحتج بأن فعل الواحد يكون في حكم الفعلين كما نقول في من حلف: لا يدخل هذه الدار، وحلف آخر - أيضاً - مثل ذلك، فحمل أحدهما صاحبه برضاه، ودخل الدار: إنهما يحنثان جميعاً، ويصير فعل الداخل في حكم الفعلين، وكذلك إذا ركبا جميعاً دابة واحدة، ودخلا. والجواب: أنه يجوز أن يحنث رجلان بفعلة واحدة، ولا يجوز أن يسقط فرض اثنين بفعل واحد. * فصل: وأما المحمول قائماً جاز طوافه؛ لأنه بمنزلة الراكب، ولو طاف على دابة لصح طوافه عندهم على الإطلاق، وعندنا على التفصيل بين المعذور وعدمه، كذلك المحمول. فإن قيل: فعل الدابة منسوب إليه، وقائم مقام فعله، وواقف على

مسألة يجوز تقديم السعي على طواف الزيارة، وهو أن يفعله عقيب طواف القدوم

اختياره، وليس كذلك فعل الحامل؛ لأنه بخلافه. قيل له: وكذلك الحامل فعله منسوب إلى المحمول؛ لأنه قصده بذلك بدليل أنه يصح أن يأخذ الأجرة على حمله، فلولا أنه قاصد للمحمول ما صح أخذ الأجرة؛ لأنه لا يصح أخذ الأجرة عن ما يفعله عن نفسه. واحتج المخالف بأن الفعل للحامل؛ لأنه هو الطائف، وهو الحامل، فيجب أن يقع الفعل عنه. والجواب: أن الراكب لم يوجد من جهته فعل الشيء، وإنما وجد من جهة البهيمة، ومع هذا يجزئه، كذلك هاهنا؛ لأنا قد بينا: أن هذا الفعل مضاف إلى المحمول بدليل أنه قصده، ويأخذ العوض عنه. * ... * ... * 109 - مسألة يجوز تقديم السعي على طواف الزيارة، وهو أن يفعله عقيب طواف القدوم: نص عليه فى وراية نصر خلافاً لما حكي عن أبي ثور قال: لا يجوز تقديمه. دليلنا: قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].

مسألة ركعتا الطواف غير واجبتين

وقال صلى الله عليه وسلّم: "اسعوا؛ فإن الله كتب السعي". وليس فيه بيان أنه يقع عقيب طواف الزيارة. ولأنه طواف في إحرام الحج، فجاز السعي عقيبه. أصله: طواف الزيارة. * ... * ... * 110 - مسألة ركعتا الطواف غير واجبتين: نص على ذلك في مواضع: فقال في رواية أبي طالب: تجزئ المكتوبة من الركعتين، وليس هما واجبتان، ولكن يستحب إذا طاف صلاهما. وقال - أيضاً - في رواية الأثرم: وقد سئل: هل تجزئ المكتوبة من ركعتي الطواف دم؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه. وكذلك نقل حنبل عنه أنه قال: إن ركعهما كان أحب إلي، فإذا لم يفعل أجزأه.

وقد علق القول في رواية حرب في من نسى ركعتي الطواف، فقال: يعيد متى ذكر. وهذا محمول على طريق الاختيار. وقال بو حنيفة ومالك: هما واجبتان. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: مثل قولنا. دليلنا: ما روي أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الفرائض في اليوم والليلة، فقال: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده في اليوم والليلة"، فقال الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا، إلا أن تطوع". فإن قيل: إنما سأله عن الصلاة المكتوبة، ولا مكتوبة في غير الخمس. قيل له: السؤال عن جنس الصلوات، والسؤال عاد إلى نفس الجنس. ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود ليس لها وقت راتب، فلم تكن واجبة بأصل الشرع. دليله: تحية المسجد وغيرها من النوافل. ولا يلزم عليه صلاة الجنازة؛ لقولنا: ذات ركوع وسجود.

ولا يلزم عليه الفرائض؛ لقولنا: ليس لها وقت راتب. ولأنها صلاة تابعة لغيرها، فلم تكن واجبة بنفسها. دليله: ركعتي الصبح. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِ‍يمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. والأمر يدل على الوجوب. والجواب: أنه محمول على الاستحباب. واحتج بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف راكباً، فلما أراد أن يصلي الركعتين، نزل فصلاهما، وقال: "خذوا عني مناسككم". والجواب: أنه محمول على الاستحباب. واحتج بما روي عن عمر: أنه طاف بالبيت، وترك ركعتي الطواف، فلما كان بذي طوي قضاهما. فلو كانتا غير واجبتين، سقطتا بفوات موضعهما؛ لأن السنن إذا فاتت عن مواضعهما لا تقضى. والجواب: أن النوافل الراتبة تقضي عندنا استحباباً. واحتج بأنهما تابعان للطواف، فوجب أن تكونا واجبتين، كالسعي.

والجواب: أن كونها تابعة لا يدل على وجوبها، كالسنن الراتبة بعد الفرائض، ومع هذا فهي غير واجبة، كذلك هاهنا. وعلى أن السعي غير تابع للطواف، وإنما هو تابع للركعتين؛ لأنه يُفعل بعدهما، فالوصف غير صحيح في الأصل. ولأن السعي ليس بتابع للطواف، وإنما هو فرض مقصود كالطواف، ولهذا نقول: إن بقاء السعي يمنع من استباحة النساء، كما يمنع بقاء الطواف. وإنما هو مرتب عليه، وكونه مرتباً عليه لا يدل على أنه تابع له، كالسجود مرتب على الركوع، وليس بتابع له، بل كل واحد منهما فرض مقصود. وعلى أن السعي ركن واجب، فوجب أن يكون من توابعه ما هو واجب، كالوقوف من توابعه ما هو واجب، وهو الرمي. والجواب: أنا نقلبه فنقول: وجب أن لا يكون من توابعه صلاة واجبة، كالوقوف. وعلى أن الرمي له وقت، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه صلاة ليس لها وقت معين، وهي ذات ركوع وسجود، فأشبه ما ذكرنا. * ... * ... *

مسألة لا بأس أن يجمع بين الأسابيع من غير أن يفصل بين كل أسبوعين بركعتين، ثم يصلي بعد ذلك

111 - مسألة لا بأس أن يجمع بين الأسابيع من غير أن يفصل بين كل أسبوعين بركعتين، ثم يصلي بعد ذلك: نص على هذا في رواية الأثرم وابن حنبل وأبي داود وابن منصور وحرب: قال في رواية الأثرم: وقد سئل: يقرن بين السُّبعين في الطواف؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس. قيل له: فتكره القران بين الأسابيع؟ فقال: ما أكرهه. وقال في رواية حنبل: من طاف فجمع بينهما يصلي لكل أسبوع ركعتين، ويجمع بينهما. وقال فب رواية أبي داود: وقد سئل عن الرجل يقرن الطواف، فرخص فيه، وقال: قد قرنت عائشة، والمسور بن مخرمة. وقال في رواية ابن المنصور: وقد سئل: يقرن بين الطواف؟ قال: إن قرن أرجو أن لا يكون به بأس، وإن لم يقرن فهو أفضل. فظاهر كلامه: جواز ذلك من غير كراهية سواء قطع على وتر، أو شفع. ونقل ابن منصور عنه في موضع آخر في من طاف ثمانياً أو تسعاً: يتم طوافين، أو يقطع؟ قال: إن شاء أتم طوافين، وإن شاء قطع، ولا ينصرف إلا على وتر.

وظاهر هذا: أنه إن قطع على شفع كُره. وقال أبو حنيفة والشافعي: يُكره ذلك. وقال أبو يوسف: إن قطع على شفع كُره ذلك، وإن قطع على وتر لم يُكره. دليلنا: ما روى حنبل بإسناده عن عطاء، عن عائشة: أنها كانت تطوع الأسبوعين والثلاثة، ثم تصلي لكل أسبوع ركعتين. وروى في لفظ آخر بإسناده عن محمد بن السائب ابن بركة، عن أمه بركة: أنها أخبرته عن عائشة: أنها أرسلت إلى أصحاب المصابيح أن أطفئوها، فأطفؤوها، فطفت معها في ستر، أو حجاب، فكانت كلما فرغت من أسبوع استلمت الحجر الأسود، وتعوذت بين الباب والركن، حتى إذا فرغت من ثلاثة أسابيع ذهبت دبر سقاية زمزم مما يلي النساء، فصلت ست ركعات، كلما ركعت ركعتين انحرفت إلى النساء وكلمتهن، تفصل بذلك صلاتها حتى فرغت. وروى بإسناده عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سئل عن الجمع بين الأسبوعين والثلاثة، فقال: لكل أسبوع ركعتان. وروى بإسناده عن المسور بن مخرمة: أنه كان يقول لغلامه:

أحصِ ما أطوف، فإذا مشى قضى لكل أسبوع ركعتين. وقد روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في "سننه" عن عيسى بن يونس، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرن بين ثلاثة أطواف، ليس بينهما طواف. قال عبد الرحمن: هو حديث منكر، وعبد السلام ضعيف. ورواه أبو حفص العُكبري قال: ثنا ابن السماك قال: ثنا أيوب بن سليمان الصعيدي قال: ثنا أحمد بن المصيصي قال: ثنا عيسى بن يونس قال: ثنا عبد السلام بن أبي الجنوب قال: حدثني الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلّم بالبيت ثلاثة أسباع جميعاً، ثم أتى المقام، فصلى خلفه ست ركعات. وقال أبو هريرة: إنما أراد أن يعلمنا. وأيضاً فإن الطواف يتناوله اسم الصلاة بدليل قوله صلى الله عليه وسلّم: "الطواف بالبيت صلاة". ثم ثبت أنه يجوز الجمع بين الصلاتين على وجه يؤدي إلى تأخير الصلاة المسنونة فيما بينهما، كذلك الطواف. ولأنه لو فصل بينهما بكلام، أو فعل مباح، جاز فلأن يجوز

الفصل بينهما بالطواف أولى. واحتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى عقيب الطواف، وقال: "خذوا عني مناسككم". والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلّم فعل الأفضل، وكذلك نقول، وخلافنا في الجائز الذي ليس بمكروه، وليس في الخبر ما يدل عليه. واحتج بأنه لو أراد أن يفصل بين الطواف والسعي بطواف آخر لم يجز، كذلك إذا أراد أن يفصل بين الطواف والصلاة. ولأن الصلاة مسنونة عقيب الطواف، كما أن السعي مسنون عقيب الصلاة. والجواب: أنه لا يمتنع ذلك. وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا بأس أن يفرق ذلك، ويؤخره حتى يستريح، وإلى العشاء. يعني: يؤخر السعي عن الطواف. واحتج بأن سنتها أن تقع عقيب الطواف، كالسنن التي تُفعل عقيب الفرائض، ثم ثبت أنه لا يُفصل بينهما وبين المفروضات بصلاة أخرى فائتة ذكرها بعد الفراغ من الفرض. وكذلك تكبيرات التشريق لما كانت مسنونة عقيب الصلوات

المفروضات لم يجز أن يُفصل بينهما وبين المفروضات بشيء آخر. وكذلك سجود التلاوة لما كان من سننها أن تفعل عقيب التلاوة كُره تأخيرها إلى آخر الصلاة قبل أن يسلم؛ لما يحصل بينها وبين القراءة من الفصل بعدها. والجواب: أن الصلاة حجة لنا؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين الصلاتين على وجه يؤدي إلى تأخير السنن الراتبة من غير كراهة، فأولى أن يجوز الجمع بين الأسابيع على وجه يؤدي إلى قضاء الصلاة في الثاني. وأما سجود التلاوة وتكبيرات التشريق فإنما لم تؤخر؛ لأنه بالتأخير يؤدي إلى إسقاطه، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه بالجمع لا يؤدي إلى إسقاط الصلاة، فلهذا فرقنا بينهما. يبين صحة هذا: أنه يجوز أن يفعل الطواف عند أبي حنيفة على صفة تؤدي إلى تأخير الصلاة، وهو أن يطوف في الوقت المنهي عن الصلاة فيه، ويصلي بعد ذلك. وجواب آخر، وهو: أن تأخير السنن الراتبة وسجود التلاوة وتكبير التشريق لا حاجة به إلى تأخيره، وليس كذلك تأخير الركعتين؛ لأن به حاجة، وهو كثرة الزحام، ويشق عليهم الخروج والعود في كل أسبوع، فجاز الجمع، كما جاز الجمع بين الصلاتين. * فصل: وهو مخير: إن شاء قطع على وتر، وإن شاء قطع على شفع

في إحدى الروايتين. وهو ظاهر كلامه في رواية الأثرم: وقد سئل: يقرن بين السبعين في الطواف؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا طاف أربع عشرة طوافاً صلى أربعاً. وفي رواية أخرى: يُكره له أن يقطع على شفع. وهو ظاهر كلامه في رواية ابن منصور: لا ينصرف إلا على وتر. وهو قول أبي يوسف. وجه الأولى: ما تقدم؛ فروي عن عائشة: أنها كانت تطوف الأسبوعين والثلاثة، ثم تصلي لكل أسبوع ركعتين. وظاهر هذا: أنها قد كانت تقطع على أسبوعين. وكذلك روي عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن الجمع بين الأسبوعين والثلاثة، فقال: لكل أسبوع ركعتان. وظاهر هذا: أنه لم يكره الأسبوعين. وكذلك المسور بن مخرمة كان يقول لغلامه: أحص ما أطوف. وظاهر هذا: أنه ما كان يعتبر عدداً معلوماً يقطع عليه؛ لأنه فوَّض

مسألة إذا أخر طواف الزيارة إلى أيام التشريق لم يلزمه شيء

ذلك إلى علم غلامه. ولأنه لما جاز الجمع بين الصلاتين، وهما شفع، كذلك جاز الجمع بين أسبوعين، وهما شفع. ووجه الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قطع على وتر، وهو الثلاث، فدل على أنه أفضل. ولأن عدد الطواف وتر فاستحب له أن يقطع على وتر. * ... * ... * 112 - مسألة إذا أخر طواف الزيارة إلى أيام التشريق لم يلزمه شيءٌ: نص عليه فى رواية ابن منصور: وذكر له سفيان: إذا أخر الطواف إلى الإفاضة يهريق دماً، قال أحمد: ليس بشيء. وكذلك نقل حرب عنه في من نسي طواف الزيارة حتى رجع إلى بلده: رجع إلى مكة، وطاف طواف الزيارة، وليس عليه دم. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا أخره إلى اليوم الثالث من أيام التشريق وجب عليه دم. دليلنا: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 29]. ولم يقدره بوقت فوجب أن يجوز فعله كل وقت، إلا ما أجمعوا

على المنع منه، وإذا ثبت جواز فعله في كل وقت لم يجب الدم عليه. فإن قيل: فالآية حجة لنا؛ لأنه أمر بالطواف، والأمر على الفور، فلو خلينا والظاهر لم يجز فعله في اليوم الثالث. قيل له: قد ثبت بالإجماع أن هذا الأمر ليس على الفور؛ لجواز تأخيره عن أول وقته أياماً، فسقط السؤال. وأيضاً فإنه ركن أخره عن وقت الاختيار إلى وقت الجواز، فوجب أن لا يتعلق به دم قياساً على من لم يقف بعرفة نهاراً، ووقف ليلاً؛ فإنه يجزئه، ولا دم عليه. ولا يلزم عليه تأخير صيام دم المتعة عن وقته أنه يجب به دم؛ لقولنا: ركن، وذلك الصوم ليس بركن. فإن قيل: لنا في الوقوف بعرفة مثل ما للمخالف؛ لأنه مؤقت، فيجب أن يكون الطواف مؤقتاً. قيل له: الوقوف لما لم يصح فعله بعد خروج وقته؛ لهذا كان مؤقتاً، كالرمي، وهذا لما صح فعله بعد خروج وقته، دل على أنه غير مؤقت. وقياس آخر، وهو: أن بعد الأيام الثلاثة وقت يجوز فيه الطواف، فوجب أن لا يجب بتأخير فعله دم قياساً عليه إذا أخره عن يوم النحر إلى اليوم الأول والثاني من أيام التشريق. ولا يلزم عليه صوم دم المتعة إذا أخره أنه يجب به دم؛ لقولنا: وقت يجوز فيه الطواف، فلم يجب بتأخيره دم.

فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يؤخره عن وقته، وهذا قد أخره عن وقته. قيل له: لا نسلم أنه مؤقت حتى يكون أخره عن وقته. ولأنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله، فلم يلزمه دم. دليله: السعي. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. فأباح النفر في اليومين، وهو اليوم الثاني والثالث من أيام النحر، ومعلوم أنه لا يجوز له النفر قبل الطواف، فثبت أنه مؤقت بهذه الأيام. والجواب: أنه لا دلالة في هذا على تخصيص الطواف بهذه الأيام، وإنما فيها بيان جواز التعجيل وترك الرمي في اليوم الثالث، وانه لا حرج عليه. واحتج بأن الطواف نسك يجب فعله في الإحرام، فوجب أن يكون مؤقتاً، كالوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، وإذا ثبت أنه مؤقت ثبت بتأخيره عن وقته وجوب دم؛ لأن أحداً لا يفصل بينهما. والجواب: أن قولك: (يجب فعله في الإحرام) لا تأثير له؛ لأن الرمي مؤقت، وليس في الإحرام. ثم المعنى في الوقوف والرمي: لما كان مؤقتاً لم يصح فعله بعده،

مسألة أول وقت طواف الزيارة إذا مضى النصف الأول من ليلة النحر، وذلك مبنى على رمي جمرة العقبة؛ يجوز في النصف الثاني

فلو كان الطواف مؤقتاً لم يصح بعده أيضاً، ولما صح فعل الطواف بعده، دل على أنه غير مؤقت، كالسعي. فإن قيل: أليس قد قلتم: إنه إذا أخر هدي المتعة أو بدله - الذي هو الصوم - حتى خرجت أيام الحج، كان عليه دم التأخير؟ فيجب أن تقولوا كذلك في مسألتنا. قيل له: ولم كان كذلك؟ وما أنكرت أن لا يجب عليه دم، كما لم يجب بتأخير السعي والوقوف؟ وعلى أن لنا في ذلك روايتين، وكذلك في تأخير الحلاق روايتان، وتتخرج في الطواف روايتان. والصحيح عندي في الطواف إذا أخره، وفي الحلاق، وفي هدي التمتع، وفي بدله الذي هو الصوم: أنه لا يجب بتأخير ذلك دم. * ... * ... * 113 - مسألة أول وقت طواف الزيارة إذا مضى النصف الأول من ليلة النحر، وذلك مبنى على رمي جمرة العقبة؛ يجوز في النصف الثاني: نص عليه فى رواية حرب وحنبل:

وقد قال في رواية حرب: إذا خرج من المزدلفة نصف الليل، فأتى مني وعليه ليل، فرمى الجمار: أرجو أن لا يكون به بأس. فقيل له: فإن مضى من ليلته حتى أتى مكة، فطاف طواف الزيارة قبل أن يطلع الفجر؟ فقال: لا يمكنه أن يأتي مكة وعليه ليل؛ لأنه لا يجوز أن يخرج من جمع حتى يغيب القمر، فلا يمكنه أن يأتي مكة بليل. وليس هذا منه على أنه لا يعتد بطوافه، وإنما خرج هذا منه على غالب الحال، ولأنه لا يتسع له الزمان، فإن اتسع له بأن يكون خرج في أول النصف الثاني، فطاف بعد الرمي أجزأه؛ لأنه لا يجوز له الدفع منها قبل نصف الليل. نص عليه في رواية حرب - أيضاً - في الإفاضة من جمع بليل من غير عذر: أرجو؛ إلا أنه في وجه السحر، أو آخر الليل. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: أول وقت الطواف إذا طلع الفجر الثاني. والكلام معه في هذه المسألة مبني على أنه يجوز رمي جمرة العقبة في النصف الثاني من ليلة النحر، وكل وقت صح فيه الرمي صح فيه الطواف. دليله: يوم النحر.

وعنده لا يجوز الرمي، والكلام معه يأتي في ذلك، إن شاء الله. ويُبنى أيضاً على أصل آخر، وهو جواز الدفع من المزدلفة في هذا الوقت، وكل وقت جاز الدفع فيه جاز الطواف فيه. دليله: بعد الفجر. وعنده لا يجوز الدفع لغير المعذور، والكلام عليه يأتي، إن شاء الله. وندل على المسألة من غير بناء، فنقول: طاف بعد نصف الليل من ليلة النحر، فأجزأه. دليله: إذا طاف بعد طلوع الفجر. واحتج المخالف بأن ما قبل طلوع الفجر وقت للوقوف بعرفة، فلم يكن وقتاً للطواف. دليله: النصف الأول. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون وقت نسك وقتاً لنسك آخر، كما كان وقت الوقوف وقتاً للإحرام، ووقت الرمي وقتاً للطواف. وعلى أنه لا يجوز اعتبار النصف الأول بالثاني من الليل، كما لم يجز اعتبار النصف الأول من النهار بالنصف الثاني منه في الرمي في أيام التشريق؛ لأنه يجوز في النصف الثاني، ولا يجوز في الأول. وعلى أن النصف الأول لا يجوز الدفع فيه، فبان الفرق بينهما. واحتج بأنه لو جاز الطواف في النصف الأخير، لوجب أن يصح

أداء حجتين في عام واحد؛ لأنه يرمي ويطوف ويسعى في النصف الأخير من ليلة النحر، ثم يحرم بحجة أخرى، ويقف بعرفة قبل طلوع الفجر، ويمضي فيها، فيكون قد حج حجتين، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز في عام واحد إلا حجة واحدة، فكان قولكم مخالف للإجماع. والجواب: أنه لا يجوز أن يحرم بحجة أخرى، فإن كان قد رمى وطاف وسعى، وقد نص أحمد في رواية أبي طالب في من قال: (لبيك بحجتين): ليس عليه إلا حجة، لا يكون إهلال بشيئين. فإن قيل: فإن لم تقولوا بجواز حجتين في عام واحد لزمكم أن تقولوا به؛ لأنه إذا تحلل من إحرامه، وخرج منه، لم يكن لمنعه من الإحرام مع بقاء وقته معنى. قيل له: الرمي المستحق عليه بالإحرام السابق يمنع من إحرام آخر؛ لأنه عمل واجب بالإحرام السابق، فلا يجوز مع بقائه أن يحرم بغيره. وقد قيل: يجوز حجتان في سنة واحدة في مسألة، وهو: أن يفسد حجه، ثم يحصر، فيتحلل بالهدي، ثم يزول الإحصار، وقد بقي وقت الإحرام، فيحرم بالحج، فيقضي ما أفسده في سنته، ولا يكون هذا إلا في هذه المسألة. * ... * ... *

مسألة طواف الزيارة يفتقر إلى تعيين نية الفرض، فإن طاف بنية التطوع بعد دخول وقته، أو طاف للوداع، لم يقع عن طواف الزيارة

114 - مسألة طواف الزيارة يفتقر إلى تعيين نية الفرض، فإن طاف بنية التطوع بعد دخول وقته، أو طاف للوداع، لم يقع عن طواف الزيارة: نص عليه في مواضع: فقال في رواية أبي طالب في من نسى طواف الزيارة، وكان قد طاف تطوعاً: فلا حتى يطوف، لا تجزئ نافلة عن فرض. وقال - أيضاً - في رواية ابن إبراهيم: إذا نسى طواف الزيارة، وطاف طواف الصدر، لا يجزئ؟ كيف يجزئه التطوع من الفرض، لا يجزئه حتى يطوف طواف الزيارة. وقال - أيضاً - في رواية ابن منصور في رجل نسى طواف الإفاضة حتى رجع إلى بلاده: فلا بد أن يرجع إلى البيت يعتمر، فإن كان قد طاف طواف الوداع لم يجزئه من الإفاضة إلا أن ينوي ذاك. وقال في موضع آخر: وذكر له سفيان في من طاف يوم النحر لم ينو طواف الزيارة: يجزئه منه، فقال: معاذ الله! لا يجزئه إلا بالنية. وكذلك نقل المروذي عنه في من نسى طواف الزيارة، فطاف طواف الصدر: لا يجزئه، كيف يجزئ التطوع عن الفرض. فقد نص على نفس النية. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يفتقر إلى تعيين النية، فإن

نوى الطواف مطلقاً، أو طاف بنية الوداع، ونوى تطوعاً، انصرف إلى طواف الزيارة. دليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى". وهذا لم ينو الطواف الواجب، فيجب أن لا يجزئه. ولأنها عبادة واجبة متعلقة بالبيت، فافتقرت إلى تعيين النية. دليله: صلاة الفرض. ولا يلزم عليه الإحرام والوقوف والسعي؛ لأن ذلك لا يتعلق بالبيت. واحتج المخالف بأن الطواف ركن من أركان الحج، فلم يفتقر إلى نية التعيين. دليله: الإحرام والوقوف. والجواب: أن ذلك الركن لا يتعلق بالبيت، وليس كذلك هاهنا؛ لأنها عبادة واجبة متعلقة بالبيت، أشبه بالصلاة؛ لأن الوقوف لا يفتقر إلى النية أصلاً؛ لأنه لو اجتاز بعرفة غير ناوٍ أجزأه، ولو طاف حول البيت في طلب صيد، أو غريم له، لا يقصد الطواف، لم يجزئه، فبان الفرق. فإن ارتكب بعضهم، ومنع من إيجاب النية في الجملة، دللت

مسألة السعي ركن في الحج، لا ينوب عنه دم في أصح الروايتين

عليه بأن الطواف عبادة تفعل في حال النسك، وينتفل بها في حال غير النسك، فافتقرت إلى النية. دليله: ركعتا الطواف. فإن قيل: لو نوى الإحرام التطوع وقع عن فرضه، كان يجب في الطواف مثله. قيل: لا يجب مثل هذا؛ لأن الإحرام لا يتعلق بالبيت، وهذا يتعلق بالبيت، فهو كالصلاة. وعلى أنا حكينا عن أحمد رواية فيما تقدم: إذا أحرم بنية التطوع لا يجزئه عن الفرض كالطواف سواء. * ... * ... * 115 - مسألة السعي ركن في الحج، لا ينوب عنه دم في أصح الروايتين: رواها الأثرم عنه في من انصرف، ولم يسع: يرجع فيسعى، وإلا فلا حج له. وقال في رواية ابن منصور: إذا بدأ بالصفا والمروة قبل البيت لا يجزئه. وبه قال مالك والشافعي. وفيه رواية أخرى: ليس بركن.

نص عليه في رواية أبي طالب والميموني وحرب: فقال في رواية أبي طالب في من نسى السعي بين الصفا والمروة، أو تركه عامداً: فلا ينبغي له أن يتركه، أرجو أن لا يكون عليه شيء. وقال في رواية الميموني: السعي بين الصفا والمروة تطوع، والحاج والقارن والمتمتع عنه واحداً إذا طافوا، ولم يسعوا. وقال في رواية حرب في من نسى السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله: لا شيء عليه. وبهذا قال أبو حنيفة؛ إلا أن أبا حنيفة يقول: يجب بتركه دم، وعلى هذه الرواية: لا دم عليه. وجه الرواية الأولى: ما روى أحمد في "المسند" بإسناده عن صفية بنت شيبة أنها قالت: أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة؛ إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: نظرت إلى رسول صلى الله عليه وسلّم، وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: "اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي". ومنه أدلة:

أحدها: أنه فعل السعي، وقال: "خذوا عني مناسككم". الثاني: قوله: "اسعوا"، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. والثالث: قوله: "فإن الله كتب عليكم السعي" إخبار عن إيجاب الله تعالى؛ لأنه لا فرق أن يقول: قال الله: أوجبت عليكم، وبين أن يقول: كتب الله عليكم. فإن قيل: الخبر يدل على الوجوب، ونحن نقول بموجبه، وليس فيه: أن الدم لا ينوب عنه. قيل له: إذا ثبت وجوده اقتضى إيجاده؛ لأن ما أوجبه الشرع اقتضى إيجاده إلى أن يدل الدليل على أن غيره يقوم مقامه. والقياس: أنه نسك يدخل في الحج والعمرة، فوجب أن لا ينوب عنه الدم. أصله: الطواف والإحرام. ولا يلزم عليه الحلاق؛ لأنه لا ينوب عنه الدم، ولا يتحلل إلا بالحلق أو التقصير على الصحيح من الروايتين، وقد حكيناه فيما تقدم. ولا تلزم عليه التلبية؛ لأن الدم لا ينوب عنهما، وإنما يدخل الحلاق والتلبية على من جعل حكم العلة أن يكون ركناً، وذلك ليس بركن.

فإن قيل: ذكر الطحاوي في "اختلاف الفقهاء" عن محمد أنه قال: إذا وقف بعرفة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى أن يتم عنه حجه؛ فإنه يذبح عنه للمزدلفة دم، ولرمي الجمار دم، وللحلق دم، ولطواف الزيارة بدنة، ولطواف الصدر دم. قيل له: الدم لا يقوم مقام الطواف مع القدرة على فعله. فإذا قلنا في حكم العلة هكذا لم يصح ما قاله. وقد ذكر في هذا المهنى عبارات لا تأثير لها، منها أنها عبادة مبنية على تكرار المشي، أشبه الطواف. أو مشي يتكرر فعله من بقاع الحرم. أو سعي مشروع يتضمن رملاً ومشياً، فلا ينوب عنه الدم، كالطواف. وإنما لم يؤثر ذلك؛ لأن ما كان مبيناً على التكرار، وما لم يتكرر، سواء في أن الدم، لا ينوب عنه، كالوقوف والإحرام. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. فأثبته حاجاً ومعتمراً قبل السعي؛ لأن قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} يقتضي: فمن فرغ من الحج، فلو كان السعي ركناً لما أثبت له الحج والعمرة قبل وجوده. والجواب: أن هذا لا يدل على ما قاله؛ لأن من قال: من صلى

فليقرأ فيها بفاتحة الكتاب، أو فليقرأ فيها من القرآن، لا يدل على أن الصلاة تخلو من القرآن. قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا" لا يدل على أن استقبال القبلة ليس منها، وأنه يجوز خلو الصلاة منه. فإن قيل: فقول القائل: لا جناح عليك في فعل كذا، يقتضي إباحته. قيل له: الظاهر يقتضي كون الشيء مباحاً، وقد أجمعنا على خلافه؛ لأنه عنده واجب، وعندنا شرط. وعلى أن هذا ورد على سبب، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بين الصفا والمروة تقرباً إلى صنمين، كان أحدهما على الصفا، والآخر على المروة، ويسمى أحدهما إساف، أو إيساف، والآخر نائلة، فتحرج المسلمون من ذلك؛ لما فيه من التشبه بفعل الجاهلية، فأنزل الله - تعالى - أنه لا حرج في التشبه بالذي تفعل الجاهلية، وكان ذلك راجعاً إلى هذا المعنى دون فعل السعي. واحتج بأنه نسك مخصوص بالحرم كالجمار. ولا يلزم عليه الإحرام؛ لأنه غير مخصوص بالحرم، وكذلك الوقوف بعرفة لا يحصل في الحرم.

ولا يلزمه عليه الطواف؛ لأنه يجوز أن يقدم الدم مقامه؛ لأن الطحاوي ذكر في "اختلاف الفقهاء" عن محمد: إذا وقف بعرفة، ثم حضرته الوفاة، تُذبح عنه بدنة للطواف. ولا يلزم عليه ركعتا الطواف؛ لأنهما غير مخصوصين بالحرم، فلم يجز أن يقوم الدم مقامهما. والجواب: أن العلة منتقضة بالطواف؛ فإنه يختص الحرم، ولا يقوم الدم مقامه مع القدرة عليه. والذي ذكره محمد إنما هو عند عدم القدرة، ومسألة الخلاف في قيام الدم مقامه مع قدرته على السعي، ولا يجوز ذلك. ولأن قياس السعي على الطواف أولى من قياسه على الوقوف بالمشعر والرمي؛ لأنه من جنس الطواف. ولأن السعي آكد منهما؛ لأنه يفعل في الحج والعمرة، فهو كالطواف. واحتج بأن السعي نسك، ولا يجوز أن يكون بانفراده مقصوداً بالإحرام، فوجب أن يكون من توابع الإحرام. دليله: الوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار. ولا يلزم عليه الوقوف؛ لأنه يجوز أن يكون بانفراده مقصوداً بالإحرام، وهو أنه إذا أحرم ووقف بعرفات، ثم مات: أن حجه تام، ولا يقضي عنه، ويقوم مقام الثاني دم.

ولا يلزم عليه الطواف؛ لأنه يجوز أن يكون بانفراده مقصوداً بالإحرام بدليل أنه لو طاف للزيارة جُنباً، وعاد إلى أهله، حل له النساء، وعليه أن يعود إلى مكة، فيعيد، فإن عاد إليه بإحرام جديد، ولم يلزمه الإحرام عند الطواف الذي قصده بإحرامه، وكذلك إذا أحرم بعمرة، وترك السعي، أجزأه، وناب عنه دم. والجواب: أن الركوع لا يكون بانفراده مقصوداً بالإحرام، ومع هذا فليس من توابع التحريمة. وعلى أن الرمي والوقوف بالمزدلفة إنما كانا من توابع الإحرام؛ لأنهما يسقطان بسقوط الوقوف، ألا ترى أن العمرة لما لم يكن فيها وقوف لم يكن فيها رمي، ووقوف المزدلفة؟ ومن فاته الحج، لما سقط عنه الوقوف، سقط عنه الرمي، وليس كذلك السعي؛ لأنه لا يسقط بسقوط الوقوف. فإن قيل: ركعتا الطواف لا تسقطان بسقوط الطواف، ومع هذا لا خلاف انها من توابعه. قيل له: يسقطان بسقوط الطواف، ألا ترى لو أنه حُصر بعد الوقوف، سقط عنه الطواف وركعتاه. واحتج بأن السعي تبع للطواف بدلالة أن من طاف جاز له أن يسعى عقيبه، ومن لم يطف لم يجز له ذلك، وإن كان في وقت السعي موجوداً، وإذا كان كذلك أشبه رمي الجمار.

والجواب: أنا لا نسلم: أن السعي تابع للطواف، وإنما هو فرض مقصود، كالطواف، ولهذا نقول: إن بقاء السعي يمنع من استباحة النساء، كما يمنع بقاء الطواف. وقد نص على هذا في رواية أبي طالب في معتمر طاف، فواقع أهله قبل أن يسعى: فسدت عمرته، وعليه مكانها، ولو طاف وسعى، ثم وطئ قبل أن يحلق، أو يقصر، فعليه دم، إنما العمرة الطواف والسعي والحلاق. وكونه مرتباً عليه لا يمنع كونه مقصوداً، كترتيب السجود على الركوع، وكل واحد منهما فرض مقصود. فإن قيل: إنما كان كذلك؛ لأن القيام يجوز أن ينفرد عن الركوع، وهو في صلاة الجنازة، والركوع يثبت حكمه من غير تقدم القيام له، وهو الركوع والسجود والتلاوة، والسجود ثبت حكمه من غير ركوع تقدم، وهو سجود التلاوة، فإذا جاز أن ينفرد أحدهما عن الإحرام لم يكن تبعاً، والسعي لا ينفرد عن الطواف. قيل له: السجود لا يجوز أن ينفرد عن الركوع في صلاة الفرض مع القدرة عليه، ومع هذا فليس بتبع له. واحتج بأنه نسك يتكرر، ولا تعلق له بالبيت، فوجب أن لا يكون ركناً، ويكون تابعاً، كرمي الجمار. والجواب: أن هذا الوصف لا تأثير له عند الخالف؛ لأن الوقوف

بالمزدلفة في النصف الثاني لا يتكرر، ولا يختص البيت، وليس بركن. على أن المعنى في الأصل: ما تقدم. واحتج بأن السعي لو كان ركناً لكان مؤقتاً، كالطواف والوقوف. والجواب: أنه يبطل بالإحرام؛ فإنه ركن، وليس بمؤقت، والرمي مؤقت، وليس بركن، فلم يكن لهذا المعنى تأثيراً. واحتج بأنه لو كان ركناً لكان من جنسه ما ليس بركن، كالطواف والوقوف؛ فإن من جنس الطواف ما ليس بركن، وهو طواف الصدر، ومن جنس الوقوف ما ليس بركن، وهو الوقوف بالمزدلفة. والجواب: أن الإحرام ركن، وليس من جنسه ما ليس بركن، والركوع والسجود والقراءة والقيام في الصلاة أركان، وليس للركوع والسجود من جنسهما ما ليس بركن، وهو القراءة المستحبة، والقيام بعد الركوع. * فصل: فإن قلنا: ليس بركن، لم يجب بتركه دم خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يجب الدم. والدلالة عليه: أنه يترتب على الطواف، فلم يجب بتركه دم، كركعتي الطواف. ولأنه سعي مشروع يتضمن رملاً ومشياً، فلا يجب بتركه دم. دليله: طواف القدوم.

مسألة يكفي القارن طواف واحد وسعي واحد لهما في أصح الروايتين

واحتج المخالف بأنه من توابع الوقوف بدليل أنه يسقط بفواته، كما أن الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار من توابع الوقوف؛ لأنه يسقط بفواته، ثم وجب الدم بترك المبيت والرمي، كذلك السعي. والجواب: أنه يلزم عليه ركعتا الطواف. وأما الوقوف والرمي فإلحاق السعي بركعتي الطواف، وطواف القدوم قائم بنفسه. * ... * ... * 116 - مسألة يكفي القارن طواف واحد وسعي واحد لهما في أصح الروايتين: رواها الأثرم وحنبل وابن إبراهيم وابن منصور وأبو طالب والمروذي وابن القاسم: فقال في رواية الأثرم: والقارن يجزئه طواف واحد وسعي واحد، والمتمتع طوافان وسعيان. وقال في رواية حنبل: وقد سُئل عن القارن: كم يطوف ويسعى بين الصفا والمروة؟ فقال: يجزئه طواف واحد إذا دخل بالحج والعمرة، فإن دخل متمتعاً بعمرة، ثم حج، فأرى أن يسعى سعياً للعمرة، وسعياً للحج. وقال في رواية ابن إبراهيم: وقد سأله عن القارن: يجزئه طواف

واحد، وسعي واحد؟ قال: يجزئه. وقال في رواية ابن منصور: وذُكر له قول سفيان عن رجل أهل بالحج والعمرة، فقرن بين الطواف، والسعي بين الصفا والمروة: يعيد. قال أحمد: طواف واحد يجزئه، ولم ير ما قاله سفيان. وقال أبو طالب: سألته عن حديث عائشة لما حاضت: كيف تصنع مثلها؟ قال: لما دخلت بعمرة حاضت بعد ما أهلت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أمسكي عن العُمرة، وأهلي بالحج"، فهذه شُبهت بالقارن، فتذهب، فتقضي المناسك كلها، فإن كان يوم النحر جاءت إلى مكة، وطافت بالبيت، وسعت بين الصفا والمروة. قيل له: طواف واحد؟ قال: نعم، طواف واحد يجزئ القارن، وهذه يجزئها طواف واحد. وقال المروذي: قال أبو عبد الله: إن شاء القارن طاف طوافاً واحداً. وقال في رواية ابن القاسم: القارن يجزئه طواف واحد. وبهذا قال مالك والشافعي. وفيه رواية أخرى: لا يجزئ القارن عن عمرته، بل تجب عليه عمرة مفردة. نص عليه في رواية الأثرم في القارن: ليس فيه شك أنه لا يجزئه قرانه مع عمرته، وهو بين في حديث عائشة، وإنما تكون العمرة تجزئ؛ لأنه يجيء به مفرداً بعمرة، فيكون قد أنشأ لها سفراً.

وكذلك قال في رواية بكر بن محمد في من يهل بحجة وعمرة: أخاف أن لا يجزئه من العمرة الواجبة. وكذلك قال في رواية أبي طالب: ومن قرن لم تجزئه عمرته؛ لأنهما أمر واحد. وهو اختيار أبي بكر وأبي حفص. وقال أبو حفص: والذي عندي: أن القرآن لا يسقط فرض العمرة؛ لأنه لم يجيء بها مجردة. وقال أبو حنيفة: يطوف طوافين، ويسعى سعيين. وقد أجزأه لهما - على قوله: يجزئه ذلك - بإحرام واحد. وعلى ما نقله الأثرم وبكر وأبو طالب: لا يجزئه حتى يفرد لهما إحراماً. وجه الرواية الأولى - وهو اختيار الخرقي-: ما روى أحمد في "المسند" قال: نا أحمد بن عبد الملك الحراني قال: نا الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من قرن بين حجته وعمرته، أجزأه لهما طواف واحد". وروى أبو الحسن الدارقطني في لفظ آخر قال: "من أحرم بالحجِّ

والعمرة أجزأه طواف واحد، وسعي واحد، ولا يحل من واحد منهما حتى يحل منهما". وفي لفظ آخر: "من أهل بالحج والعُمرة". فإن قيل: قوله: "من جمع بين الحج والعمرة" يقتضي ظاهره: من جمع بين أفعالهما؛ لأن الحج والعمرة عبارة عن الأفعال، ونحن نقول: من فرغ منهما، وأتى بأفعالهما، كفاه لهما طواف واحد للصدر. قيل له: طواف الوداع ليس بسعي، والخبر يقتضي طواف يعقبه سعي، وليس هذا للصدر. على أن السعي لا يجزئ عنهما عند المخالف بحال، والخبر يقتضي أن السعي عنهما، فلو سلم التأويل في الطواف، فلا يسلم في السعي. ولأن طواف الصدر لا يكون لهما؛ لأن العمرة ليس لها طواف الصدر. فإن قيل: قد يجوز أن يقول: لهما، ويريد به: لأحدهما، كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وأراد به: من أحدهما. قيل له: هذا مجاز.

فإن قيل: نحمله على طواف القدوم؛ فإنه إذا قدم، كفاه طواف واحد للقدوم، فيكون عنهما. قيل له: طواف القدوم ليس معه شيء، فلا يجوز أن يكون المراد به ذلك. ولأن طواف القدوم لا يكون لهما؛ لأن العمرة ليس لها طواف قدوم، ألا ترى أنه لو أفرد العمرة لم يطف لها للقدوم. وعلى أن لفظة (الإجزاء) إنما تستعمل فيما كان واجباً، وطواف القدوم غير واجب. وأيضاً ما روي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لها: "طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعُمرتك". فإن قيل: خلافنا في القارن، وعائشة لم تكن قارنة، وإنما كانت مفردة، يدلك على صحة ذلك ما روي: أنها أحرمت بعمرة، فحاضت، فلم يمكنها أن تطوف بالبيت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم: "انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة، وأهلي بالحج". وفي بعض الألفاظ: "ارفضي العمرة، وأهلي بالحج".

قيل له: عائشة كانت قارنة بدليل قوله: "طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك". وهذا يدل على أنها كانت محرمة بالحج والعمرة، وأن طوافها كان واقعاً عنهما. وأما قوله: "انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة، وأهلي بالحج"، فلا حُجة فيه؛ لأنه يجوز للمحرمة أن تنقض شعرها، وتمتشط وترفق حتى لا تنتف شيئاً من الشعر. وقوله: "وأهلي بالحج"؛ لتصيري قارنة بإدخال الحج على العمرة. وأما قوله: "ارفضي العمرة، وأهلي بالحج" فمعناه: ارفضي أعمال عمرتك، وأهلي بالحج؛ لتصيري قارنة؛ لأنها لو أقامت على إحرام العمة حتى تطهر، ثم تطوف، ثم تحرم بالحج، فاتها الحج لضيق وقته، فأمرها بإدخال الحج على العمرة؛ لتفعل جميع المناسك؛ لأن الحائض لا ينافيها إلا الطواف. فإن قيل: لا يجوز أن تحمل قوله: "ارفضي عمرتك" على الأفعال؛ لأنه روي في الخبر ما يمنع هذا، وهو أنها قالت حين فرغت من الحج: أو كل نسائك يرجعن بنسكين، وأنا أرجع بنسك واحد؟ وروي أنها قالت: أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج؟

فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر؛ ليُعمرها من التنعيم، فلما فرغت من العمرة قال: "هذه عمرة مكان عمرتك"؛ لأنها مضت في حجها وعمرتها. قيل له: معناه عندنا: أنهن يرجعن بحج وعمرة مفردين، وأنا أرجع بالقران، واعتقدت أن الإفراد أفضل من القران، والتمتع أفضل من القران إذ كن متمتعات، وهذا مذهب أحمد. فإن قيل: نحمل قوله: "طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" أراد به: يكفيك لحجك وعمرتك المرفوضة. وأفاد بذلك أنه لا يجب عليها أن تتحلل من العمرة بالطواف. قيل له: الحجة المرفوضة ليس فيها طواف: وقوله: "يكفيك" يقتضي أن يكون هناك طواف واجب تقع الكفاية عنه بهذا الطواف الواحد. فإن قيل: لو سلمنا أنها كانت قارنة لم يكن فيها دلالة على موضع الخلاف؛ لأن قوله: "طوافك بالبيت" لا يقتضي طوافاً واحداً، ويحتمل أن يريد به: طوافك لكل واحد منهما. قيل له: لا يصح هذا؛ لأن قوله: "طوافك" يقتضي ما يقع عليه اسم الطواف؛ لأن قوله: "طواف" يقتضي طوافاً واحداً، فإذا أضاف الطواف إليها لم يُفد زيادة العدد، وإنما يفيد تعريف الفعل، وهو فعل المضاف إليه، فيجب أن يكون طوافها الواحد يجزئها لحجها وعمرتها؛

لأنها لو كان المراد به: أكثر من طواف واحد، وسعي واحد، لم يكن للبيان فائدة؛ لأنه لا يشكل ذلك على أحد؛ فإنه لا يشكل أن يكون في حال القران يصير الطواف ثلاثاً، وإن كان هذا لا يشكل، لم يكن لهذا البيان فائدة. ولأن أبا الحسن الدارقطني روى بإسناده عن عبد الله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعائشة: "يكفيك طوافك الأول لحجك وعمرتك"؛ يعني: طواف الزيارة؛ لأنها لم تكن طافت طواف القدوم؛ لأنها حاضت بسرف، وقدمت مكة وهي حائض، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلّم أن تُهل، وتصنع ما يصنع الحج غير أنها لا تطوف بالبيت، فكام أول طوافها طواف الزيارة. ولا يصح أن يحتج في هذه المسألة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "دخلت العمرة في الحج"؛ لأن أحمد حمل ذلك على دخول وقتها في الحج، ولم يحمله على دخول الأفعال. قال في رواية عبد الله وابن منصور: لا بأس بالعمرة في أشهر الحج، قال النبي صلى الله عليه وسلّم"دخلت العمرة في الحج". والقياس: أن الطواف والسعي نسك يدخل في الحج والعمرة، فوجب أن يقتصر القارن على واحد منهما، كالحلق.

فإن قيل: هذا باطل بالإحرام والتلبية؛ فإن كل واحد منهما نسك في الحج والعمرة، ولا يقتصر في القران على واحد منهما؛ لأنه يحتاج إلى نيتين في القران وتلبيتين، فيقول: لبيك بحجة وعمرة. قيل له: لا يلزم؛ لأن من أحرم بالحج، فيحتاج أن ينوي فيه الحج، وهذه النية لا تكون في العمرة، وكذلك نية العمرة لا تكون في الحج، فإذا جمع بينهما احتاج أن يأتي بالنيتين جميعاً، فلا يدخل على ما قلنا؛ لأننا عللنا النسك الذي يكون في الحج والعمرة معاً. وكذلك التلبية؛ من أحرم بالحج؛ فإنه يقول: لبيك بالحج، وذكر الحج لا يأتي به في العمرة، وذكر العمرة لا يأتي به في الحج، وقوله: (لبيك) يأتي به في الحج والعمرة معاً، ويقتصر في القران على واحد؛ لأنه لا يحتاج أن يقول: لبيك بالحج، ثم يقول: لبيك بالعمرة. فإن قيل: جواز الاقتصار على حلق واحد في حال الجمع، لا يوجب الاقتصار على طواف واحد وسعي واحد، كما لم يوجب الاقتصار على نية واحدة. قيل له: نية الحج مخالفة لنية العمرة، كنية صلاة الظهر مخالفة لنية صلاة العصر، فلم يتداخلا، وليس كذلك طواف الحج وطواف العمرة؛ لأنهما على صفة واحدة، فهما كالحلق لهما، فتداخلا، كما تداخل الحلق.

فإن قيل: الحلق غير مقصود في نفسه، إنما هو موضوع للخروج منه، فيجوز أن يختلف حكمه في حال الجمع، وحال الإفراد، ولا يوجب ذلك اختلاف حكم الأفعال المقصودة بالإحرام في الحالتين، ألا ترى أنه يقتصر في حال الجمع بين أربع ركعات في التطوع على سلام واحد، ولا يقتصر عليه في حال الإفراد، بل لكل ركعتين منهما ما يوجب ذلك اختلاف حكم القيام والقعود والركوع والسجود في حال الجمع والإفراد، كذلك هذا. قيل له: أربع ركعات فأكثر عبادة واحدة، والإحرام بها واحد، فكان السلام في آخرها واحداً، وليس كذلك القارن؛ فإنه متلبس بعبادتين، محرم بهما جميعاً، تحتاج كل واحدة منهما إلى إحرام، وتحلل من الإحرام، وقد جاز الاقتصار على إحديهما، كذلك في مسألتنا. فإن قيل: الحق موضوع للإحلال، وبقاء إحرام الحج بعد الفراغ من عمل العمرة يمنعه من الإحلال، فلم يجز له أن يحلق في هذه الحال، وإذا استوفى فروض الحج، وحلق، حل من إحرامه، فاستحال إيجاب حلق آخر عليه، وليس كذلك الطواف؛ لأن بقاء إحرام الحج عليه لا يمنعه من الطواف، فجاز أن يجب عليه طواف العمرة؛ لوجود السبب الموجب له، وطواف آخر للحج. قيل له: فكان يجب أن يحلق حلقين في يوم النحر؛ أحدهما عن

العمرة، والآخر عن الحج؛ لأنه ليس هناك مانع، والحلق عنده يتقدر بربع الرأس، فيمكنه الإتيان بحلقين، ومع هذا فلا يجب عنده، فسقط هذا. وعلى أن بقاء إحرام الحج لا يمنع غسل ثاني، وتلبية ثانية، ومع هذا لا يتداخلان. وقياس آخر، وهو: أن القارن يكفيه حلق واحد، فيجب أن يكفيه طواف واحد وسعي واحد قياساً على المفرد بالحج والعمرة. فإن قيل: المفرد محرم بنسك واحد، والقارن محرم بنسكين. قيل: هذا لا يوجب الفرق بينهما في باب الطواف والسعي، كما لم يوجب الفرق بينهما في باب الحلاق. وقياس آخر، وهو: أن الحج والعمرة عبادتان من جنس واحد، فإذا اجتمعا وجب أن تدخل الصغرى في الكبرى، ويسقط عمل الصغرى، كالمحدث إذا أجنب يدخل الوضوء في الغسل. فإن قيل: يقتصر في الغسل على نية واحدة، والقارن يحتاج إلى نيتين. قيل له: وكذلك الغسل عندنا يحتاج فيه إلى نيتين؛ إحداهما للكبرى، والأخرى للصغرى، كالقارن سواء. وعلى أنه لا يمتنع أن لا يتداخلا في النية، ويتداخلا في الطواف والسعي، كما تداخلا في الحلاق.

واحتجَّ المخالف بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. وإتمامهما: أن يأتي بهما على الكمال والتمام. والجواب: أنه قد روي عن عمر وعلي: أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وعلى أنه إذا طاف وسعى لهما واحداً، فقد أتمهما، ثم نخصه بأخبارنا. واحتج بما روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه قرن، فطاف طوافين، وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والجواب: أن أبا الحسن الدارقطني قال: رواه حفص بن أبي داود، وهو ضعيف. وعلى أنه يجوز أن يكون رآه فعل الطوافين والسعيين في حال التمتع والإفراد بفعل مثله في حال القران؛ فإنه قد صح عندنا أنه كان متمتعاً أو مفرداً، لم يكن قارناً. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان". والجواب: أنه إن صح هذا فهو محمول عليه إذا أجمع بينهما بأن

فعل أحدهما عقيب الآخر، وقد يعبر بالجمع عن القران بين العبادتين، والإتيان بإحداهما عقيب الأخرى، كالجمع بين الصلاتين. وعلى أنه محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرنا. واحتج بأن وجود الإحرام بالحج والعمرة يوجب طوافين وسعيين. دليله: حال الإفراد بكل واحد منهما. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار المفرد بالقارن في باب الطواف والسعي، كما لم يجز اعتبارهما في باب الحلاق. وعلى أن المعنى في المفرد: أن الأفعال لم تلتق، فلهذا لم تتداخل، وهاهنا الأفعال قد التقت، فتداخلت، كالغسلين والعدتين عندهم. وربما عبروا عن هذا القياس بأنه محرم بإحرامين، فأشبه المفرد، لأن كل واحد منهما مفرد للإحرام، وليس بجامع بينهما. ولأنه لا نسلم أنه محرم بإحرامين، وإنما هو محرم بعبادتين بإحرام واحد، كما إذا باع عبدين، أو دارين، يكون بائعاً عبدين بعقد واحد. واحتج بأنه لو كان طواف القارن يوم النحر للحج والعمرة جميعاً، لما جاز له أن يحل قبله؛ لأن بقاء طواف العمرة يمنعه من الإحلال بدلالة المفرد بالعمرة؛ ليس له أن يحل حتى يطوف، ولما جاز أن يحل بالحلاق دل على أنه ليس للعمرة. والجواب: أنه إنما يمنع طواف العمرة الحلاق إذا أفردهما، فأما

إن جمع بينها وبين الحج، فلا يمنع؛ لأن ترتيبها يسقط، ويصير الترتيب للحكم، والحكم وطواف الحج لا يمنع الحلاق قبله. يبين صحة هذا: أن المفرد للعمرة إذا طاف وسعى وجب أن يحلق، والقارن عنده يطوف ويسعى عن العمرة، ولا يجوز له أن يحلق إلا في يوم النحر، فإذا جاز أن يتغير الترتيب، فيتأخر الحلق إلى يوم النحر؛ لأجل الإحرام بالحج، جاز أن يتقدم على الطواف؛ لأجل الحج، ويكون الاعتبار بترتيبه، كما فعل المخالف في تأخيره إلى يوم النحر. واحتج بأنه لو كان طواف الزيارة نائباً مناب طواف العمرة، لوجب إذا جامع القارن قبله أن تفسد عمرته، كما لو أفرد بعمرة، وجامع قبل الطواف. والجواب: أنا قد بينا: أن ترتيب العمرة يسقط، ويحصل الترتيب للحج بدليل أنه يتأخر الحلاق إلى يوم النحر، ولو كان مفرداً بالعمرة لتقدم، وإذا كان الترتيب للحج، فالوطء قبل الطواف لا يفسده. واحتج بأن الجمع بين الإحرامين لا يسقط الترتيب الواجب في حال الإفراد بدلالة الترتيب بين السعي والطواف، فإذا كان كذلك، وثبت أن الترتيب بين طواف العمرة والحلق واجب في حال الإفراد بهما؛ لأن عليه أن يقدم الطواف على الحلق، وجب أن لا يسقط به الجمع، فإذا

جعلنا طواف القارن يوم النحر للحج والعمرة حصل الحلق للعمرة قبل الطواف، فيجب أن يقدم أفعال العمرة قبل يوم النحر حتى يحصل الحلق للعمرة بعد الطواف في حال الجمع، كما يحصل الحلق للعمرة بعد الطواف في حال الجمع، كما يحصل قبله في حال الإفراد. والجواب: أنه لو كان الترتيب مستحقاً بين الحلاق والطواف في حال الجمع، كما يستحق حال الانفراد، لوجب أن لا يتأخر الحلاق إلى يوم النحر، كما لا يتأخر في حال الإفراد بالعمرة، ولما تأخر إلى يوم النحر، وتقدم في حال الإفراد، دل على إسقاط الترتيب في ذلك في حال الجمع، ويفارق ترتيب الطواف والسعي؛ لأن ذلك الترتيب مستحق في حال الإفراد بكل واحد من النسكين، فلهذا كان مستحقاً في حال الجمع بينهما. واحتج بأن طواف العمرة غير مؤقت، وطواف الحج مؤقت، فلا يجوز أن ينوب أحدهما مناب الآخر، كالحج والعمرة. والجواب: أن حلاق العمرة غير مؤقت، وحلاق الحج مؤقت، وينوب أحدهما عن الآخر؛ لأن نية كل واحد منهما غير نية الآخر، فهو يحل بما يجب عليه من النية، وهذا معدوم في الطوافين. واحتج بأنه لو كان طواف يوم النحر للحج والعمرة جميعاً لكان ممنوعاً من الحج بين الحج والعمرة، والمضي فيهما؛ لوقوع أفعالهما في وقت أحدهما، كما يمنع من المضي في الحجتين لهذه العلة. والجواب: أنه إنما لم يصح المضي في الحج؛ لأن الوقت لا يصلح

لهما، ولا يصح المضي فيهما، وليس كذلك الحج والعمرة؛ لأن الوقت يصح لهما، ويصح اللمضي فيهما، فبان الفرق بينهما. * فصل: والدلالة على من قال من أصحابنا: لا يجزئه حتى يستأنف عمرة: ما تقدم من حديث ابن عمر: "من قرن كفاه لهما طواف واحد". وحديث عائشة: "طوافك يجزئك لحجك وعمرتك". ولأنه قد صح إحرامه بهما، فيجب أن يجزئه عنهما، كما لو أفرد كل واحد منهما بإحرام. ولأنهما عبادتان؛ إحداهما صغرى، والأخرى كبرى، فدخلت الصغرى فى الكبرى، كالطهارة الصغرى مع الكبرى. وفي تلك المسألة روايتان كمسألتنا. ووجه الرواية الأخرى: ما روى ابن بطة بإسناده قال عائشة: يا رسول الله! أينطلقون بحجة وعمرة، وأنطلق بحجة؟ فأمر عبد الرحمن أن ينطلق بها إلى التنعيم. وروى أبو حفص بإسناده في لفظ آخر: قالت: يا رسول الله! يصدر الناس بنسكين، وأصدر بنسك واحد؟ قال: "انطلق بها إلى التنعيم".

فوجه الدلالة: أنها قالت: أنطلق بحج، وأنطلق بنسك، وعندكم أنها كانت منطلقة بحجة وعمرة، بنسكين. والجواب: أنها طلبت كمال أفعال العمرة لاجتماعنا على أنها محرمة بنسكين. واحتج بأن الإحرامين في حكم الإحرام الواحد بدليل أنها تقتصر على حلاق واحد، وصلاة واحدة، وتجرد واحد، وتلبية واحدة، وإذا قتل صيداً فعليه بقتله جزاء واحد، وإذا كان في حكم الإحرام الواحد لم يجزئه عن نسكين. والجواب: أنا قد بينا: أنه ينوي لهما، ويلبي بهما، ويجب عليه دم القران، ولو كان في حكم الإحرام الواحد لم يجب الدم، كما لو أفرد الحج، أو العمرة. واحتج بأن الأفعال إذا ترادفت من جنس، فإنما تتداخل إذا اتفقا في المقدار، كالغسل من الجنابة والحيض، والوضوء من النوم والبول، فأما إذا اختلفا في المقدار؛ فإنه يؤتي بكل واحد منهما، كحد الزنا، وشرب الخمر. ولا تلزم على هذا الطهارة الصغرى مع الكبرى؛ لأن فيها روايتين: إحديهما: لا تتداخل كمسألتنا.

مسألة إذا وقف القارن بعرفة قبل الطواف والسعي لم يصر رافضا للعمرة

والجواب: أنها قد تتفق في المقدار، ولا تتداخل، كما لو كان عليه صوم يومين، أو ظهر يومين، أو حجتين، وقد تختلف وتتداخل، كما لو زنا وسرق وقتل؛ فإنها تتداخل، ويجزئ فيها القتل، وكذلك الطهارة الصغرة مع الكبرى تتداخلان على المذهب الصحيح، وهما مختلفتان. * ... * ... * 1117 - مسألة إذا وقف القارن بعرفة قبل الطواف والسعي لم يصر رافضاً للعمرة: نص على هذا في رواية أبي طالب في من قدم بعمرة، فخشى الفوات: لم يطف، وأهل بالحج، وأمسك عن العمرة، كما فعلت عائشة. قيل له: إن أبا حنيفة يقول: قد رفض العمرة، وصار حجاً، فقال: ما قال هذا غير أبي حنيفة، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "أمسكي عن عمرتك، وامتشطي، وأهلي بالحج"، وما رفضت العمرة، فلما قالت: أيرجع أزواج بعمرة وحج؟ قال لعبد الرحمن: أعمرها من التنعيم؛ أراد: أن يطيب نفسها، ولم يأمرها بالقضاء. وكذلك قال في رواية الميموني: وقد ذكر له عن أبي معاوية يرويه:

"انقضي عمرتك"، فقال: غير واحد يرويه: "أمسكي عن عمرتك"، أيش معنى انقضي، هو شيء تنقضه؟! هو ثوب تلقيه؟! عجب من أبي معاوية. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يصير رافضاً للعمرة. ويفيد هذا الاختلاف: أن عندنا لم يجب عليه القران، وتسقط عنه العمرة، وعلى قولهم يسقط دم القران، ويجب دم جناية، وعليه فعل العمرة فيما بعد. دليلنا: أم الوقوف فعل من أفعال الحج، فلا يتعلق به رفض العمرة قياساً على الإحرام بالحج. ولأن الإحرام إذا انعقد؛ فإنه لا ينحل بقوله: رفضت، وأبطلت، فوجب أن لا يصير مرفوضاً بعمله الذي لم يجعل للتحلل منه قياساً على الإحرام بالحج. ولأن إحرام العمرة لا يتحلل بفعل ما حرم فيه، فوجب أن لا يتحلل بفعل عبادة غيرها، كالحج. ولأن عقد الإحرام إذا لم يتحلل بالوطء مع تأكد حاله، فلأن لا يتحلل بالوقوف أولى.

واحتج المخالف بما روى مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً"، فقدمت مكة، وأنا حائض لم أطف بالبيت، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: "انقضي، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة". وروى جابر أنه قال: انطلقنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مُهلين بالحج، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، فحاضت قبل أن تطوف للعمرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم: "انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج". وقال في بعض الألفاظ: "اغتسلي، ودعي العمرة، وأهلي بالحج". وقال في بعضها: "ارفضي العمرة، وأهلي بالحج". فوجه الدلالة: لو كان الوقوف بعرفة يجامعه بقاء العمرة لما أمرها برفض العمرة، فلما أمرها برفضها دل على أنها لو لم ترفضها، وأهلت بالحج، ووقفت بعرفة، صارت رافضة لها بالوقوف. والجواب: أن قوله: "دعي العمرة" معناه: أفعال العمرة.

وأما قوله: "ارفضي عمرتك" فقد أنكر أحمد هذه الزيادة، ولم يثبتها. على أن معناها: ارفضي أفعالها، ولم يرد إحرامها بدليل ما تقدم من قوله: "طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة، يُجزئك لحجك وعمرتك". واحتج بأنه لو لم يصر رافضاً لإحرام العمرة لما جاز للقارن أن يحلق قبل الطواف؛ لأن بقاء طواف العمرة يمنع من الإحلال، ألا ترى أن المفرد بالعمرة لا يحل قبل الطواف؟ أن الجواب: أن طواف العمرة يمنع من الحلق إذا انفردت العمرة، فأما في القران؛ فإنه لا يمنع من ذلك، ولا يكون حكمه حكم المفرد للحج بدليل أن المفرد للعمرة يحلق عقيب الطواف والسعي، والقارن لا يجوز له أن يحلق إلى يوم النَّحر؛ لأجل إحرام الحج، ويحلق لهما حلقاً واحداً، ويكون بمنزلة المفرد للحج. واحتج بأنه لو لم يصر رافضاً لحصل موجب إحرام العمرة في وقت الحج، ألا ترى أن الجمع بين إحرام الحجتين والمضي فيهما لا يجوز؛ لوقوع أفعالهما في وقت إحديهما؟ ولما اتفقوا على جواز الجمع بينهما عُلم أن الوقوف بعرفة يمنع بقاء إحرام العمرة.

مسألة يجوز للحاج الجمع بين صلاتي عرفة وحده

والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أن الإحرام بحجتين إنما لم يصح الجمع بينهما؛ لأنه لا يصح المضي فيهما، والوقت لا يصلح لهما، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يصح المضي فيهما، والوقت يصلح لهما. * ... * ... * 118 - مسألة يجوز للحاج الجمع بين صلاتي عرفة وحده: نص على هذا في رواية ابن القاسم وبكر بن محمد والأثرم وإبراهيم ابن الحارث في من فاته الصلاة مع الإمام بعرفة: جمع في رحله، هكذا يروى عن ابن عمر. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجمع إلا مع الإمام. دليلنا: ما احتج به أحمد من حديث نافع، عن ابن عمر قال: كان ابن عمر يجمع بينهما إذا فاته مع الإمام الظهر والعصر بعرفة. ولا يعرف له مخالف. وكل صلاتين جاز الجمع بينهما مع الإمام، جاز الجمع بينهما على الانفراد. دليله: المغرب والعشاء بالمزدلفة.

ولأن الإمام لو حضر وحده جمع بينهما، ولو كان الإمام شرطاً في صحة الجمع، لم يجز له الجمع منفرداً، لأنه لا إمام له. واحتج المخالف بأن صلاة العصر قد ثبت لها وقت مُخصص بنقل مستفيض، فلا يجوز تقديمها على وقتها وفعلها في وقت صلاة أخرى إلا بنقل مثله. والجواب: أن ذلك الوقت المخصوص ثبت لها من غير عذر، فأما في حال العذر، وهو السفر، فلا نسلم أن ثبت لها ذلك، ووقتهما واحد. واحتج بأن العصر صلاة مفروضة تؤدي في وقت الظهر في حال مخصوصة؛ عندنا في الحج، وعندهم في السفر، فوجب أن يكون الإمام شرطاً في أدائها فيه، كالجمعة. ولا يلزم عليه صلاة الظهر؛ لأنها تؤدي فيه في جميع الأحوال. ولا تلزم عليه الفائتة؛ لأنها تقضي في وقت الظهر، ونحن قلنا: صلاة تؤدى في وقت الظهر. والجواب: أن الجمعة لا يجوز للإمام فعلها منفرداً، ومن شرطها العدد المخصوص، وليس كذلك فعل العصر في وقت الظهر بعرفة؛ فإنه يجوز فعلها منفرداً، فبان الفرق بينهما. واحتج بأنا قد اتفقنا على جواز الجمع بينهما، فلا يخلو إما أن يجوز

مسألة للحلال أن يجمع بين صلاتي عرفة إذا كان مسافرا

لأجل السفر، أو لاتصال الوقوف للدعاء، أو لأجل الإمام. والقسم الأول باطل؛ لما بينا فيما تقدم: أن السفر لا يبيح الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما. والقسم الثاني لا يصح أيضاً؛ لأن اتصال الوقوف نفل، وأداء الصلاة في وقتها فرض، فلا يجوز أن يؤمر بترك الفرض لأجل النفل. والجواب: أن الجمع إنما يجوز عندنا لأجل السفر، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم، وأن السفر يُبيح الجمع بين الصلاتين، لا غيره. * ... * ... * 119 - مسألة للحلال أن يجمع بين صلاتي عرفة إذا كان مسافراً: وقد قال أحمد في رواية عبد الله: يؤخر الظهر إلى العصر في كل سفر تُقصر فيه الصلاة. وقال أبو حنيفة: لا يجمع بينهما إلا محرماً. دليلنا: أن هذا مسافر يجوز له القصر، فجاز له الجمع. دليله: إذا كان محرماً. ولأن من أصلنا: أن الجمع يتعلق بالسفر، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم، فلا فرق بين أن يكون المسافر حلالاً، أو محرماً. واحتج المخالف بأن صلاة العصر قد ثبت لها وقت مخصوص

مسألة وقت الوقوف بعرفة من طلوع الفجر الثاني من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر

بالنقل المستفيض، فلا يجوز تقديمها على وقتها وفعلها في وقت صلاة أخرى إلا بنقل مثله، وقد ثبت فعلها في حال الإحرام بنقل مثله، ولم يثبت في حال أخرى، فوجب أن يأتي بها في وقتها الذي ثبت في الأصل. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أن ذلك الوقت المخصوص ثبت لها من غير عُذر، فأما في حال العذر - وهو السفر - فلا. واحتج بأن لا يخلو الجمع بينهما من أن يكون متعلقاً بالسفر، أو بإحرام الحج، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بالسفر؛ لما بينا فيما تقدم: أن السفر لا يبيح الجمع بين الصلاتين في وقت إحديهما، ثبت أنه متعلق بإحرام الحج. والجواب: أنا قد بينا: أنه متعلق بالسفر، والسفر موجود، فسقط هذا. * ... * ... * 120 - مسألة وقت الوقوف بعرفة من طلوع الفجر الثاني من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر: وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وأبي الحارث وعبد الله وحنبل: من وقف بعرفة من ليل ونهار، ولو ساعة، فقد تم حجبه. وهكذا ذكر شيخنا رحمه الله، وقال أبو حفص العُكبري في كتابه

"الكبير": سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول: أول وقت عرفة من زوال الشمس يوم عرفة. قلت له: فإن وقف رجل قبل الزوال، ثم انصرف؟ قال: لا يجزئه، حجه باطل إذا لم يقف بعد الزوال إلى طلوع الفجر. وذكر أبو حفص في "خلاف مالك": أول وقتها من وقت زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. وقال أبو حنيفة والشافعي: إن وقف قبل الزوال لم يجزئه، وإن وقف بعده أجزأه. وقال مالك: إن وقف بالليل أجزأه، وإن اتقصر على الوقوف بالنهار لم يجزئه. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" بإسناده عن عروة بن مُضرس الطائي قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالموقف، فقلت: جئت يا رسول الله! من جبلي طيئ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، هل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً، أو نهاراً، تم حجبه، وقضى تفثه". وروى أبو بكر بإسناده في لفظ آخر عن الشعبي، عن عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو في الموقف، فقلت: يا رسول الله! جئت من جبل طيئ، وأتعبت نفسي، وأنضيت مطيتي، والله ما تركت

جبلاً إلا وقفت به، فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من صلى صلاتنا هذه - يعني: صلاة الغداة - وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد قضى تفثه، وتم حجه". فوجه الدلالة من قوله: "وكان قد أتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً"، وهذا عام في جميع أجزاء النهار، كما هو عام في جميع أجزاء الليل. فإن قيل: يحمل هذا على ما بعد الزوال. قيل: هذا تخصيص بغير دلالة. والقياس: أنه وقف من يوم عرفة، أشبه إذا وقف بعد الزوال. أو نقول: أحد طرفي نهار عرفة، أشبه الطرف الثاني. فإن قيل: لا يمتنع أن يكون الطرف الثاني محلاً للوقوف، وإن لم يكن أوله محلاً، كأيام التشريق؛ الطرف الثاني محل للرمي، وإن لم يكن أوله محلاً، وكذلك الطرف الثاني من ليلة النحر محل للدفع من المزدلفة وللطواف وللرمي، وإن لم يكن أوله محلاً. قيل: يجوز أن يفترق الزمان في الرمي، ولا يفترق في الطواف

بدليل الليل جميعه وللوقوف. على أن الرمي حجة لنا؛ لأن اول وقته يدخل في نصف الليل من ليلة النحر عندنا وعند الشافعي، وعند أبي حنيفة بطلوع الفجر من يوم النحر، فيجب أن يدخل وقت الوقوف قبل الزوال. وعلى أنه إنما اختص الرمي بما بعد الزوال؛ لأنها أيام أكل وشرب وأشغال، فالعادة أنهم متفرقون في أشغالهم إلى الزوال، فإذا زالت الشمس اجتمعوا للصلالاة في مسجد منى؛ لأنه ذلك مستحب، ووصلوا صلاتهم بالرمي. فأما الوقوف في يوم عرفة فإن قبل الزوال وبعد الزوال فيه على حد سواء؛ لأنه ليس هناك اشتغال يمنع من الوقوف فيما قبل الزوال. وأجود من هذا: أن يوم النحر قد تجتمع عليه فيه أفعال كثيرة؛ والرمي والحلاق والطواف، فلو جعلنا بعد الزوال ضاق الوقت عليه في ذلك، وبقية الأيام ليس فيها ذلك. فأما الوقوف فقبل الزوال وبعده سواء. وأما الدفع من المزدلفة؛ فإنه يختص بما بعد نصف الليل؛ لأن البيتوتة واجبة، فأخر حتى يمضي معظمه. وقياس آخر، وهو: أن النهار أحد الزمانين، وكان جميعه محلاً للوقوف، كالليل. فإن قيل: إذا غربت الشمس فقد فات الزمان المستحب، فلهذا كان

جميعه محلاً، وليس كذلك النهار؛ لأن وقت الاستحباب باقٍ، فلهذا اختص ببعض النهار. قيل له: لم كان كذلك؟ وعلى أنه يبطل به إذا وقع قبل الغروب؛ فإنه يجزئه، وإن كان وقت الاستحباب باقياً، وكذلك إذا رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر؛ فإنه يجزئه عند الشافعي، وإن كان وقت الاستحباب باقياً إلى طلوع الشمس، وكذلك يجوز الذبح من أول نهار يوم النحر، وإن كان وقت الاستحباب باقياً، وكذلك الإحرام بالعمرة وقت متسع، وإن كان جميع ذلك في الاستحباب سواء. وقياس آخر، وهو: أنها عبادة يجتمع في وقتها الليل والنهار، فوجب أن يتسع وقتها ليوم كامل. أصل ذلك: مدة المسح في حق المقيم. وليس لهم أن يقولوا: إن مدة المسح أوسع، ألا ترى أن المسافر يمسح ثلاثاً؛ لأن قياسنا على مدة المقيم، وتلك المدة لا تتسع لأكثر من يوم وليلة. فإن قيل: المسح إنما جوز للحاجة، ولا حاجة بالمقيم إلى أكثر من يوم وليلة، وليس كذلك الوقوف؛ لأنه موطن للدعاء.

قيل: الوقوف بالمزدلفة موطن للدعاء، ويدخل وقته بطلوع الفجر، وكذلك الطواف. ولأن الوقوف ركن من أركان الحج، فلا يختص فعله بوقت من النهار، كالإحرام والطواف. فإن قيل: الإحرام والطواف أوسع وقتاً، ألا ترى أنه يحرم في جميع شهور الحج، والطواف ليس له وقت يفوت فيه؟ وليس كذلك الوقوف؛ فإنه وقته يضيق، ألا ترى أنه يفوت؟ قيل: المسح يفوت، ومع هذا يتسع ليوم كامل، وكذلك رمي جمرة العقبة يفوت، ويتسع لجميع اليوم. واحتج المخالف بما روى الأثرم بإسناده عن جابر: فذكر حجة النبي صلى الله عليه وسلّم قال: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى اتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر القصواء، فرُحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، ثم أذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى الموقف. فوجه الدلالة: أنه وقف بعد الزوال، ولو كان قبل الزوال وقتاً للوقوف لبادر إليه؛ لأن المسارعة إلى العبادة في أول وقتها أفضل، وآمن

من الغرر، وقال: "خذوا عني مناسككم". والجواب: أنه إنما وقف بعد الزوال؛ لأنه هو المستحب عندنا والأفضل، فأخر الوقوف إلى وقت الفضيلة. وقوله: "خذوا عني مناسككم" عاد إلى الفضيلة. وجواب آخر، وهو: أنه يحتمل أن يكون أخر الوقوف؛ ليتصل به الدعاء، ولو قدمه قبل الصلاة لانقطع عليه ذلك بالصلاة. واحتج بأنه وقف قبل الزوال، فلم يجزئه، كما لو وقف قبل طلوع الفجر. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار ما قبل طلوع الفجر من يوم عرفة بما بعده في الإجزاء، كما لم يجز اعتبار بعد طلوع الفجر من يوم النحر بما قبله في الإجزاء، وكل فرق لك هناك هو فرقنا. ثم المعنى في الأصل: أنه وقف قبل يوم عرفة مع العلم به، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه وقف من يوم عرفة مع العلم به، أشبه بعد الزوال. * فصل: والدلالة على مالك ما تقدم من الخبر، وقوله: "وكان قد أتى عرفات

قبل ذلك ليلاً، أو نهاراً"، فعلق الإجزاء بحضور أحد الزمانين. ولأن النهار وقت للزوال، وكان وقتاً لجوازه، كالليل. واحتج المخالف بما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "الحج عرفة؛ فمن أدرك عرفة ليلاً فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة ليلاً فقد فاته الحج". والجواب: أنه إن صح هذا، فلا حجة فيه؛ لأن قوله: "من أدرك عرفة ليلاً فقد أردك الحج" قصد بيان أن الوقوف لا يفوت بفوات النهار، ولم يقصد بيان أول الوقت بدليل ما ذكرنا. واحتج بأنه زمان يصح فيه الصيام، فلا يكون محلاً للوقوف. دليله: نهار يوم التروية. ولأنه لم يقف من الليل، فلا يجزئه. دليله: ما ذكرنا. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه ليس بوقت للوقوف، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه وقت للوقوف، وكان وقتاً لجوازه، كالليل. واحتج بأنه لو وقف بعرفة نهاراً، ودفع فبل غروب الشمس، كان عليه دم، فلولا أن عليه أن يقف جزءاً من الليل، لم يلزمه الدم.

مسألة إذا دفع من عرفات قبل غروب الشمس، ولم يعد إليها، فعليه دم

والجواب: أنه لا يمتنع أن يجب عليه الدم لترك واجب، ليس بركن، ألا ترى أن تركه ليلة المزدلفة وليالى منى والإحرام من الميقات وترك الجمار يوجب دماً، وليس بركن. * ... * ... * 121 - مسألة إذا دفع من عرفات قبل غروب الشمس، ولم يعد إليها، فعليه دم: نص عليه في رواية أبي الحارث، فقال: إذا دفع قبل الإمام، فأقل ما عليه دم. وقال أيضاً في رواية الأثرم: مالك يقول: إذا دفع قبل غروب الشمس فسد حجه، وهذا شديد، والذي يذهب إليه عليه دم. ونقل حرب - أيضاً - عنه: إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس يهريق دماً. ونقل أبو طالب عنه في من وقف بعرفة مع الإمام من الظهر إلى العصر، ثم ذكر أنه نسي نفقته بمنى: يستأذن الإمام، ويخبره، فإذا أذن له ذهب، ولا يرجع. وإنما رخص هاهنا لأجل العذر، فأما لغير العذر فالدم واجب. وهو قول أبي حنيفة. وللشافعي قولان:

قال في "الأم" والقديم مثل قولنا. وقال في "الإملاء": يستحب، ولا يجب. ومحصول الخلاف: أن عندنا يجب عليه الوقوف في زمن الليل، وعندهم لا يجب. والدلالة على وجوبه: ما روي في حديث محمد بن قيس بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال، وهو بعرفة: "أيها الناس! إن هذا يوم الحج الأكبر، وإن الجاهلية كانوا يُفيضون من عرفات قبل أن تغيب الشمس، فلا تعجلوا؛ فإنا ندفع بعد غروبها". ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف إلى غروب الشمس، وفعله خرج مخرج البيان. ولأنه دفع قبل غروب الشمس، فأشبه إذا دفع قبل الزوال. فإن قيل: المعنى هناك: أنه لم يدرك الوقوف. قيل له: عندنا قد أدرك الوقوف، فسقط هذا. ولأن الليل أحد الزمانين، فوجب الوقوف فيه، كالنهار، وإذا ثبت وجوب الوقوف، وجب بتركه دم، ولم يفرق. ولأنه ترك سنة الدفع من موضع يؤدى فيه ركن من أركان الحج، فإذا لم يأت بالمتروك لزمه دم. دليله: إذا جاوز الميقات غير محرم، ثم لم يعد إليه.

فإن قيل: هذا يبطل بمن دفع بعد غروب الشمس قبل دفع الإمام، أو دفع من غير وقار، ولا سكينة. قيل له: لا يلزم؛ لأن ذلك هيئة. وإن شئت قلت: ركن من أركان الحج، فجاز أن يجب الدم متى أخل به في المكان المأمور به، كالإحرام من غير الميقات. فإن قيل: المعنى في الميقات: أن الإحرام منه واجب، فإذا أخل به جاز أن يجب الدم، وليس كذلك الوقوف؛ فإن القدر الذي يجب منه ما يقع عليه اسم الوقوف، وما زاد على ذلك فضيلة وكمال، فلم يتعلق بها دم. قيل له: الرُّكن أن يقف؛ إما بالنهار، أو بالليل، والواجب جزء من الليل، فإذا وقف نهاراً فقد فعل الرُّكن، وترك الواجب، وإذا وقف ليلاً، فالجزء الأول هو الركن، والثاني هو الواجب، فقد أتى بالأمرين. يبين صحة هذا: أنه يستحب له الدم عنهم في مسألتنا، ولا يُستحب إذا وقف ليلاً. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "من وقف بعرفة فقد تم حجه"، وإذا كان حجه تاماً لم يجب عليه دم؛ لأن وجوبه

يمنع تمام الحج، ويوجب نقصانه. والجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد به: التمام الذي هو ضد النقصان؛ لاتفاقهم على أن بعد الوقوف يبقى عليه ركن من أركان الحج، وبعض توابعه، فثبت أنه أراد به تماماً يمنع ورود الفساد عليه، وهكذا نقول، وهذا لا يمنع وجوب الدم. واحتج بأنه ترك سنة الدفع من الموقف، فوجب أن لا يجب به شيء، كما لو ترك الدفع من المزدلفة مع الإمام، أو ترك السكينة والوقار. والجواب: أنه لو كان ذلك يجري محجرى الدفع قبل الغروب، لوجب أن يُستحب الدم، كما استحببته هاهنا. واحتج بأنه وقف في أحد زماني الوقوف، فلا يجب الدم بترك الوقوف في الزمان الآخر. دليله: لو وقف بالليل دون النهار. وربما قالوا: لا يخلو وجوب الدم من أن يكون؛ لأنه وقف بالنهار، ولم يقف في جزء من الليل، أو يكون؛ لأنه لم يدفع مع الإمام، وتقدم عليه. ولا يجوز أن يجب الدم لإفراده النهار بالوقوف؛ لأنه إذا لم يقف إلا بالليل، وأفرد الليل، ولم يقف في زمان النهار، لم يجب عليه الدم،

فإذا أفرد زمان النهار، ولم يقف في زمان الليل، فأولى أن لا يجب عليه الدم؛ لأن النهار متبوع في الوقوف، والليل تابع، فحصل الإدراك. ولا يجوز أن يكون؛ لأنه ترك الدفع مع الإمام؛ لأنه لو وقف حتى غابت الشمس، ثم دفع قبل الإمام، لم يجب. والجواب: أن الأثرم روى عنه: أنه سئل عن رجل دفع قبل الإمام من عرفة بعدما غابت الشمس، فقال: ما وجد أحداً سهل فيه، كلهم يشدد فيه، وما يعجبني أن يدفع قبل الإمام. وظاهر هذا: أنه تابع له، وإن غربت الشمس. ويجب أن يُحمل هذا على طريق الاستحباب، وأنه إن دفع قبله بعد الغروب، فلا دم عليه. على أنه إذا لم يقف نهاراً وقف ليلاً، وإنما لم يلزمه الدم؛ لأنه لم يلزمه الوقوف إلى غروب الشمس، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه إذا وقف بعرفة نهاراً لزمه اتباع الإمام، فإذا دفع قبله فقد ترك واجباً، فلهذا جاز أن يلزمه الدم. والذي يبين صحة هذا: أنه يُستحب الدم عندهم إذا دفع قبل غروب الشمس، ولا يُستحب إذا وقف ليلاً. وعلى أن أحمد قد قال في رواية المروذي وصالح في من فاته الوقوف بالمزدلفة: عليه دم، فلا يمتنع في مسألتنا مثله. واحتج بأنه دفع من الموقف قبل وقته، فلا يجب عليه دم.

مسألة إذا صلى المغرب في طريق المزدلفة أجزأته صلاته، ولم يكن مسيئا

دليله: لو دفع من المزدلفة، فقد أتى قبل أن يُسفر النهار. والجواب: أنه إذا جاوز نصف الليل بالمزدلفة، فقد أتى بالقدر الواجب، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه قد أتى بالركن، وأخل بالواجب، وهو جزء من الليل. ولأن الوقوف بالمزدلفة يقوم الدم مقام جميعه، فلا يجوز أن يقوم مقام سنة الدفع منه، والوقوف بعرفة لا يقوم الدم مقامه، فجاز أن يقوم مقام سنة الدفع منه. واحتج بأن ذلك بمنزلة تطويل الركوع والسجود، وإذا حصل ما يقع عليه اسم الركوع والسجود لم يتعلق بترك تطويله وقطعه دون تكميله جبران، كذلك هاهنا. والجواب: أنه لو كان كذلك، لوجب أن لا يستحب الدم هاهنا، كما لم يستحب السجود هناك. ولأن هناك قد أتى بالقدر الواجب، وهاهنا قد أخل بما وجب عليه من الوقوف بجزء من الليل. * ... * ... * 122 - مسألة إذا صلى المغرب في طريق المزدلفة أجزأته صلاته، ولم يكن مسيئاً: نص عليه في رواية أبي الحارث: إذا صلى المغرب بعرفة، أو في

الطريق، ثم وصل إلى جمع أرجو أن تجزئه، والسُّنة أن يصلي المغرب بجمع. وقال -أيضاً- في رواية أبي طالب: وقد سئل: ما الحجة فيه إذا لم يصل مع الإمام بجمع؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلّم ضعفة أهل من جمع، فلم يشهدوا معه الصلاة. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: تجزئه، وعليه أن يعيدها إذا أتى المزدلفة. دليلنا: ما روي في بيان مواقيت الصلوات: أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلّم المغرب في اليومين بعد غروب الشمس، وقال: "هذا وقت الأنبياء من قبلك". ولم يُفرق بين المزدلفة وبين سائر المواضع. ولأنهما صلاتا جمع، فوجب أن يجوز فعل كل واحدة في وقتها، كصلاتي عرفة. وكل زمان كان وقتاً للصلاة في غير الإحرام؛ فإنه يكون وقتاً لها في الإحرام قياساً لها على وقت العشاء الآخرة. فإن قيل: نقول بموجب هذا؛ لأنه لو وصل إلى المزدلفة قبل دخول وقت العشاء، جاز له أن يصليها في وقتها، وإنما منعناه من

أدائها قبل إتيان المزدلفة لأجل المكان دون الوقت. قيل له: نحن نفينا العلة فعل كل واحدة في وقتها على الوجه الذي يجوز في صلاتي عرفة، وقد أجمعنا على جواز ذلك في صلاتي عرفة قبل إتيان المزدلفة وبعدها، كذلك يجب أن يكون في مسألتنا. وكذلك صلاة عشاء الآخرة يجوز فعلها قبل وقتها؛ قبل إتيان المزدلفة وبعده. فإن قيل: إذا لم يجمع بينهما بعرفة حتى يخرج وقت الظهر فاته الجمع، فيصلي العصر في وقتها. ونظير مسألتنا من هذه: أن يطلع الفجر وهو في الطريق، ويفوته الجمع بينهما في وقت العشاء، فيسقط اعتبار المكان. قيل له: قولك: (إذا لم يجمع بينهما بعرفة حتى خرج الوقت فاته الجمع) لا نسلمه؛ لأن الجمع وقت عندنا جائز لأجل السفر، فيجوز تارة في وقت الظهر، وتارة في وقت العصر، فكل مكان يجوز أن يصلي فيه المغرب بعد نصف الليل، جاز أن يصلي قبله. أصله: سائر الأماكن. وذلك أن الحسن بن زياد روى عن أبي حنيفة: أنه قال: إذا خشي طلوع الفجر في طريق المزدلفة صلاها في الطريق.

وذكر في "كتاب الصلاة": إذا صلى بعد نصف الليل أجزأه. واحتج المخالف بما روي عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عرفة حتى إذا كان بالشعب، نزل، فبال، فتوضأ، ولم يُسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة، فقال: "الصلاة أمامك". وفي حديث يرويه يحيى بن سعيد وحماد بن سلمة، عن موسى بن عقبة قال: "المصلى أمامك". فقوله: "الصلاة أمامك" حكم منه على وجه القطع بأنها تفعل في المزدلفة، فلا يجوز تقديمها عليها. والجواب: أن قوله: "الصلاة أمامك" على طريق الاستحباب، وقوله: "الصلاة ليست هاهنا". واحتج بأن حكم الوقت آكد من حكم سائر واجبات الصلاة بدلالة جواز أدائها قاعداً، ونائماً، ومع الاختلاط والمشي في حال الخوف؛ لئلا يخرج وقتها، وجاز ترك أوصافها، فثبت أن الوقت آكد، ثم اتفقوا أن الأوصاف التي هي أخف حكماً لا يجوز تركها إلا في حالة العذر، وعدم القدرة، وتلزم مع القدرة عليها، فالوقت أولى أن لا يسقط حكمه في حال القدرة عليه، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلّم الوقت مع القدرة على

مسألة يجوز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل من ليلة النحر

أدائها فيه، ثبت أنه إنما تركه؛ لأنه لم يكن وقتاً لها. والجواب: أنه يجوز ترك العصر في وقتها بعرفة مع القدرة على أدائها فيه، وإذا لم يجز ترك شيء من واجباتها، كذلك في المغرب، وكذلك إذا خشي فوات الوقت. واحتج بأن الجمع بالمزدلفة نسك في مكان مخصوص، فلم يجز فعله في غيره، كالطواف والوقوف والرمي. والجواب: أنه ليس بنسك، وإنما هو جمعٌ للسفر عندنا، ثم إن هذا منتقض بصحة الإحرام في غير الميقات، ثم لا يجوز الوقوف والطواف والرمي في غير مواضعه، ويجوز فعل المغرب في الطريق في النصف الأخير إذا خشي طلوع الفجر. * ... * ... * 123 - مسألة يجوز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل من ليلة النحر: نص عليه في رواية حرب: وقد سئل عن الإفاضة من جمع بليل من غير عذر، فقال: أرجو، إلا أنه قال: في وجه السحر. وقال في موضع آخر من "مسائله": وقد سُئل عن الرجل يخرج من المزدلفة نصف الليل، يأتي منى يرمي الجمار؟ فقال: نعم، أرجو أن لا يكون به بأس.

وكذلك نقل أبو الحارث عنه في من أفاض من جمع بليل قبل طلوع الفجر، فقال: إذا نزل بها، أو مر بها، فأرجو أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله. وقال -أيضاً- في رواية حنبل: من لم يقف بعرفة غداة المزدلفة ليس عليه شيء، ولا ينبغي له أن يفعل. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا ترك الوقوف بالمزدلفة بعد طلوع الفجر فعليه دم؟ دليلنا: ما روى أبو داود بإسناده عن عروة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلّم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تعني: عندها. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في "سننه" بإسناده عن هشام بن عروة، عن أم سلمة قالت: قدمني النبي صلى الله عليه وسلّم في من قدم من أهل ليلة المزدلفة، قالت: فرميت الجمرة بليل، ثم مضيت إلى مكة، فصليت بها الصبح، ثم رجعت إلى منى. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتك بإسناده عن القاسم، عن عائشة

قالت: كانت سودة بنت زمعة امرأة ثقيلة ثبطة، فأستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أن تُدلج من جمع، فأذن لها، وكانت عائشة تقول: لوددت أني كنت استأذنته. وكانت تقول: ليس الإدلاج من المزدلفة إلا لمن أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وهذا يقتضي أنها استأذنته في ذلك ليلاً؛ لأنه لو كان نهاراً لم تحتج إلى إذن. ولأن عائشة قالت: لوددت أني كنت استأذنته، فتأسفت على ذلك. وكانت تقول: ليس الإدلاج إلا لمن أذن لمن أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهذا يدل على أنه كان ليلاً؛ لأن ما بعد طلوع الفجر يجوز لكل أحد. فإن قيل: إنما قدمها، وأذن لها في ضعفة أهله خوف الزحام، وأباح لها ولغيرها ترك الوقوف للعذر، كما أباح لصفية ترك طواف الصَّدر لعذر؛ لأنها كانت امرأة ثبطة، وخاف عليها الزحام، وكان يوم قسمها. قيل: ليس ذلك بعذر؛ لأن كونها ثبطة، وحق القسم لها، ووجود الزحام، لا يوجب العذر في ترك النُّسك. يدل على صحة ذلك: أنه لو كان خوف الزحام عذراً في ذلك المكان، لكان عذراً في ترك الوقوف والسعي؛ لأن الزحام فيهما أكثر،

وقد نُقل أن امرأة قُتلت في زحام الطواف، وقضى عثمان فيها بدية وثلث، ولم يُنقل ذلك في زحام طريق منى من المزدلفة. وكذلك حق القسم لها ليس بعذر؛ لأنه حق واجب لها، أو عليها، وذلك لا يوجب ترك نسك واجب، كسائر الحقوق. وكذلك كونها ثبطة لا يوجب تأخير ذلك، كما لم يوجب تأخير الطواف. ولأنه دفع منها بعد نصف الليل، فلم يلزمه الدم. دليله: إذا دفع بعد نصف طلوع الفجر. وإن شئت قلت: الإفاضة منها في النصف الآخر جائزة للمعذور، وجب أن لا يكون وقتاً لوجوب الوقوف فيها قياساً على ما بعد طلوع الفجر. فإن قيل: لا يمتنع أن يجوز ذلك في حق المعذور، ولا يجوز في حق غيره، كما أن الحائض يجوز لها أن تنفر من مكة بغير وداع، ولا يجوز ذلك لغير الحائض. قيل له: وهذا معذور أيضاً؛ لأن به حاجة إلى التعجيل؛ لتخيير فضيلة أول الوقت، ويتخلص من الزحام، ونحو ذلك. واحتج المخالف بما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من ترك نُسكاً فعليه دم".

وهذا نسك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف بها بعد طلوع الفجر، وقال: "خذوا عني مناسككم". والجواب: أن وقوف النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الفجر محمول على الاستحباب والفضيلة دون الإيجاب، وقوله: "من ترك نُسكاً فعليه دم" محمول على غير مسألتنا بدليل ما تقدم. واحتج بأن نصف الليل وقت للعشاء الآخرة، فلم يجز الوقوف فيه. دليله: قبل نصف الليل. أو نقول: وقت للوقوف بعرفة، أشبه قبل نصف الليل. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار النصف الأخير بالنصف الأول؛ لأن الدفع من المزدلفة في النصف الأول لا يجوز في النصف الأخير لأهل الأعذار. واحتج بأن هذا وقوف مأمور به، فوجب أن يكون واجباً، كالوقوف بعرفة. والجواب: أنا نوجب الكون بمزدلفة، كما نوجبه بعرفة، وإنما الخلاف في الوقوف بعد الفجر، وليس في القياس ما يدل عليه. * ... * ... *

مسألة فإن دفع من المزدلفة قبل نصف الليل، أو لم يبت بها جملة لغير عذر؛ فهل عليه دم، أم لا؟

124 - مسألة فإن دفع من المزدلفة قبل نصف الليل، أو لم يبت بها جملة لغير عذر؛ فهل عليه دم، أم لا؟ فالمنصوص عنه في رواية أبي طالب وحنبل وصالح والمروذي: أن عليه دماً. قال في رواية أبي طالب: من لم يقف بجمع فعليه دم. وفي رواية حنبل: إذا لم يبت بالمزدلفة فعليه دم. وفي رواية صالح: إذا مر بجمع بعد طلوع الشمس فعليه دم. وفي رواية المروذي: إذا وقف بعرفة، فغلبه النوم حتى طلعت عليه الشمس، فعليه دم. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. ونقل الجماعة عنه؛ الأثرم وابن إبراهيم وأبو طالب والمروذي: إذا ترك ليالي مني فلا دم عليه. فيُخرج في ليلة المزدلفة كذلك. وللشافعي قولان، كالروايتين. فإذا قلنا: عليه دم، فوجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلّم بات بها، وهذا خرج مخرج البيان. ولأنه قال: "خذوا عني مناسككم"، وهذا أمر فهو على الوجوب.

مسألة يجوز رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل، وقبل طلوع الفجر

وإذا ثبت بهذا وجوب البيتوتة دخل تحت قوله: "من ترك نُسكاً فعليه دم"؛ لأنه مبيت مأمور به في مكان مخصوص، وكان واجباً، أو نقول: فوجب بتركه دم. دليله: ليالى منى. ومن قال: لا يجب؛ فإن البيتوتة بمزدلفة غير مقصودة، وإنما يبيت ليتأهب لفعل النسك في الغد، فلم يجب بتركه دم، ولم يكن واجباً. والجواب: أنا لا نسلم أن ذلك غير مقصود. وإن قاسوا على ليالي منى ففيها روايتان، والفرق بينهما أنها تقصد للجمع. * ... * ... * 125 - مسألة يجوز رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل، وقبل طلوع الفجر: نص عليه في رواية حرب، وقد تقدم ذكرها. نص عليه -أيضاً- في رواية حنبل، فقال: ومن رمى جمرة العقبة قبل الفجر فهو جائز. وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز. دليلنا: ما تقدم من حديث أم سلمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلّم قدمها في من قدم، فرمت فبل الفجر. وفي لفظ آخر: فرمت بليل. فإن قيل: ليس فيه أنها رمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم. قيل: لا يجوز أن يأمر زوجته بالإفاضة من المزدلفة من الليل قبل الناس، ويأمرها بأن توافي مكة مع صلاة الصبح، ولا يُعلمها ما تفعله، ولا يوافقها عليه، ولا يجوز أن تفعل أم سلمة ذلك، ولا تسأله، ويجتمع معها في يوم النحر، فلا تخبره بما فعلته. وجواب آخر، وهو: قوله: (أرسل أم سلمة، فرمت قبل الفجر) يقتضي أن يكون أرسلها؛ لترمي قبل الفجر، كما لو قال: أذن فلان لفلان، فباع عقاره، أو أجره، أو أدى خراجه؛ فإنه يقتضي أن يكون الإذن في إرساله، وفيما فعله. وجواب آخر: هو أن أبا عبد الله بن بطة روى هذا الحديث في "سننه" بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرمت الجمرة، وصلت الفجر بمكة. وقوله: (أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرمت) يدل على أنها رمت الجمرة بأمره، وأنه أمرها بالإضافة لرمي الجمرة. والقياس: أن الرمي وجد بعد نصف الليل، أشبه إذا وُجد

بعد طلوع الفجر. وإن شئت قلت: كل وقت جاز فيه الدفع جاز فيه الرمي قياساً على ما بعد طلوع الفجر. ونريد بقولنا: إنه يجوز فيه الدفع لأهل الأعذار، وهذا مسلم. وإن شئت قلت: ما كان وقتاً للرمي فيه مع الجهل به، كان وقتاً له مع العلم به. دليله: ما بعد الفجر. وقد قالوا: إنه لو اعتقد أن الفجر طلع، فرمى، ثم بان أنه لم يطلع الفجر، أجزأه. فلولا أنه وقت للرمي لم يجزئه، ألا ترى أن ما قبل نصف الليل لما لم يكن وقتاً للرمي، استوى فيه الجاهل والعالم. واحتج المخالف بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قدم ضعفة أهله ليلة المزدلفة خوف الزحام، وقال لهم: "لا ترموا جمرة العقبة إلا مُصبحين". والجواب: أن هذه اللفظة غير محفوظة، وإنما المحفوظ من ذلك ما رواه أحمد في "المسند" بإسناده عن ابن عباس قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم -أُغيلمة بني عبد المطلب- على حُمُرات لنا من جمع، قال: فجعل يلطح

أفخادنا، ويقول: "أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". فهذا هو المعروف، والمراد به الاستحباب دون الإيجاب. والدلالة على ذلك: أنه أمرهم بذلك بعد طلوع الشمس، وذلك مستحب، وليس بواجب. وهكذا الجواب عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه رمى بعد الفجر: أنه على الاستحباب دون الإيجاب بما ذكرنا. واحتج بأنه وقت للوقوف بعرفة، فوجب أن لا يكون وقتاً للرمي. دليله: قبل نصف الليل. ولأنه لو رمى قبل نصف الليل لم يجزئه، كذلك إذا رمى بعد نصف الليل قياساً على اليوم الثالث والرابع من يوم النحر. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون وقت نُسك وقتاً لنسك آخر، كما كان وقت الوقوف وقتاً للإحرام، ووقت الرمي وقتاً للطواف. وأما النصف الأول، فلا يجوز فيه الدفع من المزدلفة فيه، كما يجوز قبل طلوع الفجر. وعلى أنه لا يجوز اعتبار النصف الأخير بالنصف الأول، كما لا يجوز ذلك في الرمي في أيام التشريق؛ فإنه يجوز في النصف الأخير من النهار، ولا يجوز في النصف الأول.

مسألة لا يجوز رمي الجمار إلا بالحجر خاصة

وأما اليوم الثالث والرابع، فالمعنى فيه: أنه لا يجوز الرمي فيها قبل الزوال، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا. * ... * ... * 126 - مسألة لا يجوز رمي الجمار إلا بالحجر خاصة: نص عليه في رواية حنبل في من رمى بخزف: فلا يجزئه حتى يرمي بالحصى على ما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "بمثل حصى الخذف". وقال -أيضاً- في رواية المروذي: وقد سأله عن من رمى بقص، وكان حجراً، فقال: لا يرمي إلا بمثل ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلّم "بمثل حصى الخذف". قيل له: فإن رمى من غير تلك الحجارة؟ قال: يرمي بما أُمر الحاج مثل حصى الحذف. ونقل حنبل عنه: إذا رمى بغير حصى، فإن كان قد أخذه، فأعده، فسقط منه، فلا بأس على معنى الضرورة، فأما أن يتعمد لذلك، فلا. وظاهر هذا: أنه إذا رمى بغير الحصى من غير قصد يجزئه، والمذهب على ما حكيناه.

وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالنورة، والزرنيخ، والجص، ونحو ذلك. دليلنا: ما روى أحمد بإسناده -وذكره حنبل- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداة جمع: "القط لي حصى"، فلقطت له حُصيات هن كالخذف، قال: "نعم، عليكم بأمثال هذه، وإياكم والغلو في الدين". وروى أحمد فيما ذكره حنبل بإسناده عن معاذ، أو ابن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "عليكم بمثل حصى الخذف". ومعناه: عليكم بمثل حصى الخذف من الحجر. وأيضاً فإنه رمى بغير جنس الحجر، فوجب أن لا يجوز، قياساً على الدراهم والدنانير والحديد والنحاس والرصاص. وإن شئت قلت: الكحل جوهر مودع فيها، فأشبه ما ذكرنا. فإن قيل: المعنى في هذه الأشياء: أنها ليست من جنس الأرض، وإنما هي جواهر مودعة في الأرض، ألا ترى أن طبعها مخالف لطبع الأرض؛ لأنها تنطبع، وأجزاء الأرض لا تنطبع؟

قيل له: أجناس الأرض مختلفة الطباع؛ فمنها الطين، وهو ينطبع بالندا، ومنها الرمل والحجارة، ولا ينطبعان، والحجارة من جنس الأرض، وهي مختلفة؛ فمنها ما ينطبع ويلين للنحت، وتُعمل منه الآنية، ومنها ما لا يلين ويتشقق، فلا يمتنع أن يكون الذهب والفضة وسائر الجواهر من الأرض، وإن كانت تنطبع بالنار. وقد قيل: إن الرمي عبادة لا يُعقل معناها؛ لأنه إن كان للكرامة فرمى الدراهم والدنانير واللوز والسكر أولى، وإذا كان للنكاية كان رمي والسكاكين أولى، فإذا كان كذلك، وجب المصير إلى ما ورد به الشرع، ولا يصح قياس غيره عليه. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". والجواب: أن هذا محمول على الحجارة بما ذكرنا. واحتج بما روي أن سكينة بنت الحسين رمت بستة أحجار، وأعوزها سابع، فرمت بخاتمها. والجواب: أن الفرض قد سقط بالست، والسابعة تطوع، وقد نص على ذلك في رواية حنبل وغيره.

مسألة إذا رمى بحجر قد رمى به غيره لم يجزئه

وقد قيل: يحتمل أن يكون فصه حجراً فاعتدت بذلك، والخواتيم لا تخلو من فص. واحتج بأنه رمى بما هو من جنس الأرض، أشبه ما ذكرنا من الأحجار. والجواب عنه: ما ذكرنا. واحتج بأنها عبادة تتعلق بالأحجار، فجازت بغيرها، كالاستجمار. والجواب: أن الاستجمار لما جاز بما ليس من جنس الأرض، وهو الخزف ونحوها، جاز بما كان من جنسها، وليس كذلك الجمار؛ لأنه لا يجوز بما ليس من جنس الأرض، فهو أضيق، فوُقف على الأحجار. * ... * ... * 127 - مسألة إذا رمى بحجر قد رمى به غيره لم يجزئه: ذكره أبو بكر في "الخلاف"، وحكاه عن أحمد خلافاً للشافعي في قوله: يجزئه. دليلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلّم لابن عباس: "القط لي مثل حصى الخذف". أمره بذلك من المزدلفة، وقال "خذوا عني مناسككم"؛ فاقتضى

ذلك أنه لا يجوز من غيره. كذا رواه أحمد في رواية حنبل، فقال: أحب إليَّ من المزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أن يُلتقط له من المزدلفة؛ يعني: حصى الجمار. ويدل عليه ابن عباس قال: الحجر قربان؛ فما تقبل رفع، وما لم يُتقبل تُرك، وكرهنا أن نرمي بما لم يُتقبل. فقد بين أن ما لم يُقبل يبقى مكانه، فلم يجز أن يرمي به؛ لأن القصد منها القبول، فلا يأمن أن لا يتقبل منه. ورواه أبو حفص بإسناده عن ابن عباس قال: ما يُقبل من الحصى رُفع، ولولا ذلك لكان أعظم من ثبير. وأيضاً ما حصلت به القربة على وجه الإتلاف انتقل المنع إليه. دليله: العتق، والماء المستعمل. ولا يلزم عليه إذا صلى في ثوب: أنه لا ينتقل المنع إليه؛ لأنه لم يقصد به الإتلاف. ولا يلزم عليه الحجر الذي استجمر به إذا غسله، ثم استجمر به ثانياً: أنه لا يجوز؛ لأنا لا نعرف فيه رواية، وإن سلمناه، فلا يلزم؛ لأن المنع قد انتقل إليه في الحال، وإنما يزول بغسله، ومثله في الماء

المستعمل قد انتقل المنع إليه، ويزول إذا خالطته قُلتين، والمنع قد يحصل على وجه ينتقل كتحريم الطلاق الثلاث، وقد لا ينتقل كتحريم اللعان. واحتج المخالف بما رُوي أن ابن مسعود أخذ الحصى من المرمى، ورمى به. والجواب: أن قول الواحد وفعله ليس بحجة عند مخالفنا، وأما على قولنا، فيعارضه ما رويناه عن ابن عباس. واحتج بأنه لو استجمر بحجر وغسله، ثم استجمر به ثانياً، جاز، كذلك إذا رمى الجمار. والجواب: أن القصد من الاستجمار إزالة النجاسة، وهذا موجود بالحجر الواحد، والقصد من الرمي القبول، وذلك لا يحصل. ولأن الاستجمار يُعقل معناه، وهو الإزالة، وهذا لا يُعقل معناه، فوُقف على ما ورد الشرع به. ولأن الاستجمار ليس بقُربة محضة، ولهذا يصح من الكافر، ولا يفتقر إلى النية، وهذا قربة محضة، ولهذا لا يصح من الذمي، ويفتقر إلى النية. * ... * ... *

مسألة فإذا وقعت حصاة في ثوب إنسان، فنفضها عن ثوبه، فوقعت في المرمى، فحكى أبو بكر في "الخلاف" عن أحمد جواز ذلك في رواية بكر بن محمد خلافا للشافعي في قوله: لا يجزئه

128 - مسألة فإذا وقعت حصاة في ثوب إنسان، فنفضها عن ثوبه، فوقعت في المرمى، فحكى أبو بكر في "الخلاف" عن أحمد جواز ذلك في رواية بكر بن محمد خلافاً للشافعي في قوله: لا يجزئه: دليلنا: أن الاعتبار بأن ينفرد بالرمي لا بالأصول، ألا ترى أنه لو رمى بها، فوقعت على موضع صلب مثل محمل، أو حجر، فاستثبتت، فوقعت في المرمى، أجزأه؟ كذلك هاهنا. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنها حصلت في المكان بفعله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنها لم تتحصل في المكان بفعله، فهو كما لو رمي حربه إلى صيد، فتلقاها مجوسي، فرمى بها إلى الصيد، فقتله، لم يجزئه؛ لأن الذي قتله فعل غيره، كذلك هاهنا. قيل: قوله في علة الفرع: (لم تتحصل في المكان بفعله) لا يصح؛ لأن رجلاً لو جعل في الطريق نبله، فوقع الحجر عليها، ثم استثبتت، وحصلت في المكان؛ فإنها لم تحصل بفعله، بل حصلت بفعله وفعل صاحب النبلة؛ لأن حكم فعله باقٍ بدليل أنه لو عثر بها إنسان، فوقع، فمات، كان ضامناً، ثم مع هذا يجزئه، فالعلة تبطل بهذا. فأما المجوسي إذا تلقى الرمية، فرمى بها الصيد؛ فإنه إنما حرمناه لاشتراكهما، والذكاة إذا اشترك فيها من تصح ذكاته ومن لا تصح غلبنا

مسألة إذا رمى في آخر أيام التشريق قبل الزوال لم يجزئه

الحظر، وهاهنا يجب أن يختص الرمي بالرامي نفسه؛ لأن هناك العلة: أنه انفرد المجوسي بالرمية. * ... * ... * 129 - مسألة إذا رمى في آخر أيام التشريق قبل الزوال لم يجزئه: نص عليه في رواية الأثرم وابن منصور فقال: إذا رمى قبل الزوال يعيد. وقال أيضاً في رواية المروذي في من نفر قبل الزوال: عليه دم. وكذلك نقل ابن إبراهيم. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزئه استحساناً. وقد روى الأثرم عن أحمد نحو هذا، فقال: أحب إلي أن لا يرمي حتى تزول الشمس. وظاهر هذا: أنه حكم بصحة الرمي. وقد علق القول في رواية ابن منصور إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول، ثم نفر: كأنه لم ير عليه دماً. وجه الرواية الأولى: ما روى الأثرم بإسناده عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، ورمى سائر أيام

التشريق بعدما زالت الشمس. وروى بإسناده عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رمى الجمار بعدما زالت الشمس. وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع، فمكث بمنى ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى وعند الثانية، فيطيل المقام، ويتضرع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها. وإذا ثبت هذا من فعله دخل تحت قوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم". فإن قيل: يُحمل فعله على الجواز. قيل له: لا يمكن لوجهين: أحدهما: أنه خارج مخرج البيان. والثاني: أنه قال عليه السلام: "خذوا عني مناسككم"، وهذا أمر.

ولأنه رمي لا يجوز تقديمه على طلوع الفجر، فلا يجوز تقديمه على زوال الشمس. دليله: اليوم الثاني والثالث. ولأنه رمي يتعلق بالجمار الثلاث، أو رمي يوم من أيام التشريق، أشبه ما ذكرنا. واحتج المخالف بأن وجوب الرمي في هذا اليوم مقصور على من أصبح بمنى، ألا ترى أنه لو نفر قبل ذلك لم يلزمه شيء؟ فإذا كان وقتاً لوجوبه جاز الرمي فيه، ولا يجوز أن يكون وقتاً للوجوب، ولا يكون وقتاً للجواز. وليس كذلك ما قبله من الأيام؛ لأن وجوب الرمي فيها غير مقصور على من أصبح كائناً فيها، ألا ترى أنه لا يجوز له النفر في تلك الأيام قبل الرمي، وإن تركه لزمته الفدية؟ والجواب: أنا لا نسلم أن وجوب الرمي في هذا اليوم مقصور على من أصبح بمنى من هذا اليوم، وإنما وجوبه متعلق بغروب الشمس في اليوم الثاني، فإذا لم ينفر حتى غربت الشمس لزمه أن يبيت بمنى، ويرمي من الغد إذا زالت الشمس، فامتنع أن يكون وجوب الرمي مقصور

على الصبح من اليوم الآخر، وإنما هو مقصور على ليلة هذا اليوم، والقرآن يشهد لهذا، وهو قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، وهذا يقتضي أن يكون التعجيل في اليوم الثاني، وهو قبل غروب الشمس، فمن لم يتعجل فيه لزمه أن يقيم فيه. وجواب آخر، وهو: أن وجوبه مقصور على ترك التعجيل في يومين، فعاد إلى أصله؛ لأن الله -تعالى- جعل التعجيل رخصة في ترك الرمي في اليوم الثالث، وإذا لم يتعجل زالت الرُّخصة، ولزمه أن يبيت، ويرمي في وقته، كما أن تعجيل العصر إلى الظهر رخصة عندنا، فإذا لم يتعجل زالت الرُّخصة، ولزمه أن يصلي العصر في وقتها. واحتج بأنه يوم سن فيه الرمي يجاوره يوم لا رمي فيه، أشبه يوم النحر. والجواب: أنا لا نسلم أن العلة في الأصل ما ذُكر، وأنه يوم لا يجاوره يوم لا رمي فيه. ثم نقابله فنقول: يوم شُرع فيه رمي، يتقدمه يوم شرع فيه رمي، فلا يجوز تقديمه على زوال الشمس. أصله: اليوم الأول واليوم الثاني من أيام التشريق. وعكسه: يوم النحر؛ فإنه لما كان لا يتقدمه يوم شرع فيه رمي، جاز تقديمه على زوال الشمس.

مسألة إذا غابت الشمس يوم النفر الأول، وهو بمنى، فعليه أن يبيت الليلة بها، ويرمي من الغد

ولأن إلحاق اليوم الثالث باليوم الأول والثاني، أولى من إلحاقه بيوم النحر؛ لأن اليوم الثالث من جنس اليوم الأول والثاني في تعلق الرمي بالجمار الثلاث، وفي عدد الحصيات، وكونه خارج الإحرام؛ لا يتعلق به التحلل منه، وقياس الشيء على نظيره أولى. * ... * ... * 130 - مسألة إذا غابت الشمس يوم النفر الأول، وهو بمنى، فعليه أن يبيت الليلة بها، ويرمي من الغد: نص عليه في رواية المروذي، فقال: ينفر الرجل، فإن صلى العصر وأمسى، فلا ينفر إلى الغد. وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم في القوم ينفرون النفر الأول: فإن أمسوا بمنى لم ينفروا، وإن لم يمسوا، فلا بأس أن يقيموا بمكة. وكذلك نقل ابن منصور عنه في من أدركه المساء يوم الثاني بمنى: يقيم إلى الغد حتى تزول الشمس. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: له أن ينفر قبل طلوع الفجر من آخر أيام التشريق، فإن طلع الفجر، وهو بمنى، وجب الرمي في اليوم.

دليلنا: قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. وهذا ظاهر في أن التعجيل بالنهار دون الليل؛ لأن اسم اليوم للنهار. يدل عليه: أن أهل اللغة قالوا: اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. ويدل عليه: أنه إذا قال: (لله على أن أعكتف يوماً) لزمه أن يعتكف ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه أمر رجلاً فنادى: أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر، فلا إثم عليه. وروى المنذر بإسناده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى، فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس. ولا يُعرف له مخالف. ولأنه لم يتعجل في يومين، فلزمه المقام حتى يرمي قياساً على من لم ينفر حتى طلع الفجر. واحتج المخالف بأنه لم يدخل وقت الرمي في اليوم الأخير،

مسألة إذا بدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة، ثم بالوسطى، ثم بالأولى، لم يجزئه إلا مرتبا، ويعيد الوسطى والأخيرة

فوجب أن لا يلزمه الرمي في ذلك اليوم، وله أن ينفر. دليله: قبل غروب الشمس من يوم النفر الأول. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه لم يدركه الليل قبل النفر، وليس كذلك هاهنا؛ فإن الليل أدركه قبل النفر، فزالت رخصة التعجيل. ولأن التعجيل في اليومين رخصة، فإذا انقضى اليومان زالت رخصة التعجيل، ولزمه الرمي في وقته، فكان الاعتبار بانقضاء اليومين، لا بدخول وقت الرمي. * ... * ... * 131 - مسألة إذا بدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة، ثم بالوسطى، ثم بالأولى، لم يجزئه إلا مرتباً، ويعيد الوسطى والأخيرة: نص عليه في رواية الأثرم وابن منصور. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزئه. وقد أومأ إليه أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحَّال في من رمى الجمرة قبل جمرة: أرجو أن لا يكون عليه شيء إذا كان ناسياً. دليلنا: ما تقدم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع، فمكث بمنى ليالي أيام التشريق،

[يرمي الجمرة إذا زالت الشمس]، كل جمرة بسبع حصيات، [يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى وعند الثانية، فيطيل المقام، ويتضرع]، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها. فأخبرت أنه بدأ برمي الأولى، ثم الثانية، ثم جمرة العقبة، وفعله إذا ورد مورد البيان اقتضى الوجوب. ولأنه قال: "خذوا عني مناسككم". ولأنه نسك يتكرر من جنس متعلق بأماكن، فيجب أن يكون الترتيب المشروع فيه شرطاً في صحته. دليله: ترتيب السعي على الطواف. ولا يلزم عليه الرمي وطواف الزيارة أن الترتيب فيهما غير واجب؛ فإنهما جنسان، ونحن قلنا: من جنس، والطواف والسعي من جنس؛ لأنهما جميعاً شيء ذو عدد. فإن قيل: المعنى في تقديم السعي على الطواف: أنه تابع للطواف، فلهذا كان الترتيب مستحقاً، وليس كذلك هاهنا؛ لأن كل جمرة ليست بتابعة لغيرها.

قيل له: لا نسلم لك هذا؛ لأن الجمرات تتبع بعضها بعضاً، كالسعي مع الطواف. وقد قيل: إنه نسك مبني على التكرار، فوجب أن يكون موضع البداية مستحقاً، كالبداية بالصفا ثم بالمروة إذا أراد السعي بينهما، والبداية بالحجر الأسود في الطواف. وبعضهم يمنع هذا الأصل، ويقول: روى ابن شجاع عن أبي حنيفة: أنه إن بدأ بالمروة وختم بالصفا أجزأه. واحتج المخالف بأنها مناسك تتعلق بأمكنة، جمعها وقت واحد، ليس بعضها تابعاً لبعض، فوجب أن يكون الترتيب فيها ساقطاً. دليله: الرمي وطواف الزيارة. ولا يلزم عليه صلاتا عرفة؛ لأنها لا تتعلق بأماكن متفرقة. ولا يلزم عليه تقديم الطواف على الوقوف؛ لأنه لا يجوز؛ لأنه لم يجمعها وقت واحد. ولا يلزم عليه تقديم السعي على الطواف؛ لأنه تبع للطواف. والجواب: أنا لا نسلم أن بعضها ليس بتابع لبعض، وإذا سقط هذا الوصف انتقض بالسعي مع الطواف. على أن أعمال يوم النحر فيها نص، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم فيما قُدم وأُخر:

مسألة إذا أخر رمي يوم إلى الغد -أو إلى ما بعده- رماه، ولا دم عليه، وأيام الرمي كلها بمنزلة اليوم الواحد، فإن ترك الرمي في يوم منها، رماه فيما بعد إلى أن تنقضي أيام التشريق

"افعل، ولا حرج"، وليس في الفرع ما يمنع الترتيب، فوجب أن يكون شرطاً. ولأن أعمال يوم النحر يجب الدم بتقديم بعضها على بعض عنده، وهاهنا لا يجب الدم عنده، وعندنا لا يجب الدم فيها، وتجب الإعادة في الجمرات، فدل إجماعنا على الفرق بينهما. * ... * ... * 132 - مسألة إذا أخَّر رمي يوم إلى الغد -أو إلى ما بعده- رماه، ولا دم عليه، وأيام الرمي كلها بمنزلة اليوم الواحد، فإن ترك الرمي في يوم منها، رماه فيما بعد إلى أن تنقضي أيام التشريق: نص على هذا في رواية ابن منصور: وقد سئل عن الرمي بالليل إذا فاته، فقال: أما للرعاء فقد رخص لهم، وأما غيرهم، فلا يرمي إلا بالنهار من الغد إذا زالت الشمس، يرمي رميين. وقال في رواية أبي طالب: من نسى رمياً، ثم ذكر من الغد، يرمي من الغد، ومن نسي رمي الجمار حتى خرج، فعليه دم. قال في رواية إسحاق بن إبراهيم: وقد سئل عن الرجل ينسى رمي جمرة العقبة، فذكرها في أيام التشريق، فقال: يُروى عن سعيد بن

المسيب في الرجل ينسى الرمي: يرمي إذا ذكر في أيام منى، فإذا جازت أيام منى، ثم ذكر، فعليه دم. وسئل -أيضاً- عن الرجل ينسى رمي الجمار إلى الغد قال: لا بأس، يرميها من الغد. قيل له: فإن نسي، ثم خرج من البلاد، فقال: كان عطاء يقول: عليه دم. وقال أبو حنيفة: إن أخَّر رمي يوم إلى الليل رمى، ولا شيء عليه، وإن أخَّر إلى الغد رماه، وعليه دم. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: إن رمي كل يوم محدود الأول محدود الآخر، فيرمي، ويريق دماً. فالدلالة على أنه يقضي من الغد، ولا دم عليه: ما روى عبد الله ابن بطة بإسناده عن أبي البداح بن عاصم، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. وروى في لفظ آخر قال: رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلّم للرعاء أن يرموا

يوماً، ويدعو يوماً. وقد رواه أحمد، كذلك ذكره أبو بكر. فوجه الدلالة: أنه رخص في التأخير إلى الغد، ولم يوجب الدم. فإن قيل: معناه رخص لهم في تأخيره إلى الليل. قيل له: قد روينا في الخبر: أنه قال: رخص للرعاء أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً. وهذا يقتضي أن يكون الرمي في النهار دون الليل. وفي لفظ آخر قال: ثم يرموا يوم النفر. وهذا يقتضي التأخير إلى آخر النهار. فإن قيل: الدم مسكوت عنه، فلا دلالة فيه على إسقاطه. قيل له: لو كان واجباً لذكره وبينه، كما بين رخصة التأخير، ولما لم يبين ذلك دل على أنه غير واجب. والقياس أنه زمان يصح فيه الرمي، فلا يجب بتأخيره إليه دم. دليله: إذا أخره من النهار إلى الليل. فإن قيل: تأخير الرمي إلى الليل ليس بمنهي عنه، فلهذا لم يجب الدم، وتأخيره إلى اليوم الثاني منهي عنه، فلهذا وجب الدم. قيل: لا نسلم أنه منهي عنه، بل جميع الأيام الثلاثة وقت للرمي؛

أداء لا قضاء، إنما يكون تاركاً للفضيلة، كما يكون تاركاً لها بالتأخير إلى الليل. ولأنه أخر الرمي إلى يوم فيه رمي، فوجب أن لا يفوت فيه، كالرعاء. ولأنه بتأخيره إلى اليوم الثاني والثالث يكون مؤدياً لا قاضياً؛ لأنه لو كان قضاء لم يكن زمانه محصوراً يفوت بفواته، كسائر العبادات، فلما ثبت أنه يفوت بفوات أيام التشريق ثبت أنه وقت للأداء. ولا يدخل عليه قضاء رمضان؛ لأن القضاء ليس له وقت يفوت فيه. ولأنه نسك أخره عن وقت الفضيلة إلى وقت الجواز، فلم يجب بتأخيره دم، كما لو أخَّر الوقوف من النهار إلى الليل. ولهذه العلة قلنا: لا يجب بتأخير طواف الزيارة والحلاق ودم المتعة وصوم المتعة دم على الصحيح من الروايات؛ لأنه أخَّره إلى جواز فعله. ولا يلزم عليه إذا أخره عن أيام التشريق؛ لأنه أخره عن جواز فعله، وكذلك إن أخر الوقوف حتى طلع الفجر. واحتج المخالف بأنه منهي عن تركه إلى الغد لغير عذر، وكونه منهياً عنه يوجب نقصانه، فيحتاج أن يجبر ذلك، كالنقص الداخل في سائر المناسك مثل الإحرام من غير الميقات وغيره. ولا يلزم عليه تأخيره إلى الليل؛ لأنه غير منهي عن تأخيره إليه؛

مسألة لا يختلف المذهب إذا ترك ثلاث حصيات: أنه يجب عليه الفدية، وإذا ترك أقل من ثلاث ففيه ثلاث روايات

لأن النبي صلى الله عليه وسلّم رخص للرعاء أن يرموا ليلاً. والجواب: أنا قد منعنا الوصف، وقلنا: إنه غير منهي عنه؛ فإن جميع الأيام الثلاثة وقت للرمي. ثم هذا يبطل به إذا نكس الجمار؛ فإنه منهي عنه، ومع هذا، فلا دم عليه عندهم. وكذلك منهي عن ترك الاضطباع والرمل في الطواف، ولا يجب الدم بتركه. ثم المعنى في الإحرام من الميقات: أنه واجب، ولا يجوز تأخيره عن الموضع الذي شرع فيه، وليس كذلك هاهنا؛ فإن الرمي حيث شُرع فيه، فهو بالنهار غير واجب فيه؛ لأنه يجوز تأخيره إلى الليل عند المخالفة. ولأن مخالفة المكان مفارقة لمخالفة الزمان، ألا ترى أن تأخير الوقوف من النهار إلى الليل لا يوجب دماً، وإذا أخره عن موضعه لم يصح، ولم يعتد به، وكذلك الطواف. * ... * ... * 133 - مسألة لا يختلف المذهب إذا ترك ثلاث حصيات: أنه يجب عليه الفدية، وإذا ترك أقل من ثلاث ففيه ثلاث روايات: إحداها: يجب الجزاء بترك كل واحدة من الحصيات.

قال في رواية: إذا ترك حصاة ففيها دم. وهو قول الجماعة. وفيه رواية ثانية: لا جزاء فيها. قال في رواية حنبل: إذا رمى بست، فلا بأس. قيل له: وخمس؟ قال: وخمس، وأحب إلى سبع. وفي رواية ثالثة: لا يجب الجزاء بترك حصاة، ويجب بترك حصاتين. وقال في رواية صالح: وقد سئل عن الرجل يرمي بخمس، أو بست، قال: خمس لا، ولكن بست وسبع. وكذلك قال في رواية المروذي: إذا رمى سادسة ونسي السابعة، فلا شيء عليه، فإن رمى بخمسة فعليه دم. وكذلك قال في رواية ابن منصور: إذا رمى بست أرجو. وجه الرواية الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلّم رمى بسبع، وقال: "خذوا عني مناسككم". وهذا يدل على وجوب السبع، فإذا ترك بعضها دخل تحت

قوله عليه السلام: "من ترك نُسكاً فعليه دم". وكل جملة كانت مضمونة كانت أبعاضها مضمونة. دليله: الصيد. ووجه الثانية والثالثة: ما رواه أبو طالب بن العشاري بإسناده عن سعد قال: رمينا الجمرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جلسنا نتذاكر، فمنا من قال: رميت بست، ومنا من قال: رميت بسبع، ومنا من قال: رميت بثمان، ومنا من قال: رميت بتسع. ورواه حنبل بإسناده عن عبد الله بن أبي نجيح قال: سألت طاوساً عن الرجل يرمي الجمار بست حصيات، قال: يتصدق بقبضة من طعام؟ فلقيت مجاهداً، فسألته، وأخبرته بقول طاوس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن! سمع قول سعد: رمينا في حجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جلسنا نتذاكر، فمنا من قال: رميت بست، ومنا من قال: رميت بسبع، ومنا من قال: رميت بثمان، ومنا من قال: رميت بتسع. فلم يرَ بذلك بأساً. والجواب .... واحتج بأنه ترك من الرمي ما لا يُضمن بالدم، فلم يكن مضموناً،

كالدعاء عند الجمرة واستقبال القبلة. والجواب: أن ما لا مثل له من الصيد لا يُضمن بالدم ويُضمن بالجملة، وكذلك الشعر والظفر إن سلمه هذا القائل. * فصل: إذا ثبت أن ما دون الثلاثة مضمون، فبماذا يُضمن؟ فيه روايات: أحدها: يضمن الواحدة بمُد، والاثنتين بمدين بناء على الشعرة والشعرتين. نص عليه في رواية حنبل في الشعر. وفيه رواية ثانية: في حصاة قبضة من طعام، وفي حصاتين قبضتان من طعام، وفي ثلاثة دم. نص على ذلك في الشعرة والشعرتين في رواية حنبل، فقال: في شعرة أو شعرتين قبض من طعام، وفي ثلاثة دم. وفيه رواية ثالثة: في حصاة درهم، أو نصف درهم، وفي حصاتين درهمان، أو درهم، وفي الثلاث دم. نص على ذلك في ليالي منى، فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم في الرجل يبيت من ليالي منى بمكة قال: يتصدق بدرهم، أو بنصف درهم.

وكذلك نقل أبو طالب. ووجه الجمع بين الأحجار وبين الشعر وليالى منى: أن كل واحد من ذلك للدم مدخل في جميعه، ولغير الدم مدخل في بعضه، فجاز أن يُبنى بعضه على بعض. وفيه رواية رابعة: يجب في حصاتين دم. نص عليه في رواية المروذي: إذا رمى بسادسة ونسى السابعة، فلا شيء عليه، فإن رمى بخمسة فعليه دم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، وقال أبو حنيفة: إذا ترك حصاة فعليه طعام مسكين نصف صاع. وحُكي عن مالك: عليه دم. وللشافعي ثلاثة أقاويل: أحدها، وهو المشهور: مُد من الطعام. والثاني: درهم. والثالث: ثلث دم. فالدلالة على إيجاب الإطعام خلافاً لمالك وأحد الأقوال للشافعي: أن ضمان الجمار يجري مجرى ضمان الصيد؛ لأن جملتها مضمونة، وإبعاضها مضمونة، كالصيد، ثم ثبت أن للإطعام مدخلاً في جزاء الصيد؛ لأنه بالخيار بين المثل وبين الإطعام، وكذلك يجب في مسألتنا.

ولأن في تضمينه بالدم إيجاب أجزاء الحيوان، وإيجاب جزء من حيوان يشق ويحرج، ألا ترى أن زكاة الغنم والبقر من جنسها، ولم يجب فيه جزء من حيوان، وزكاة الإبل قبل خمسة وعشرون من غير جنسها؛ لأن إيجاب جزء منها يشق، كذلك هاهنا يشق، فوجب أن يسقط وجوبه. والدلالة على أن ما قدره مد خلافاً لأبي حنيفة في قوله: نصف صاع: أنه طعام من البر مقدر على وجه التكفير، فوجب أن يتقدر بالمد. دليله: كفارة اليمين. ولا يلزم عليه طعام التمر والشعير؛ لقولنا: في البر. فإن قيل: لا نسلم الأصل؛ لأن عندنا: أنه يجب نصف صاع من البر، وهذا خلاف ظاهر مذكور في الكفارات. قيل: إذا لم يسلم دللنا عليه بما رواه أحمد قال: ثنا إسماعيل قال: ثنا أيوب عن أبي زيد المدني قال: جاءت امرأة من بني بياضة بن سوار بنصف وسق شعير، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم للمظاهر: "أطعم هذا؛ فإن مُدي شعير مكان مُدبر". وهذا نص في الاقتصار على مد البر. وأيضاً فإن مقدار المد واجب بالإجماع منا ومنهم، وما زاد عليه

من المد الثاني مختلف فيه، فمن ادعى وجوبه فعليه الدليل؛ لأن الذمة بريئة. فإن قيل: الذمة قد ارتهنت بترك حصاة، واختلفنا في براءتها بمد، فمن ادعى براءتها فعليه الدليل. قيل له: لا نقول: إن ذمته اشتغلت على الإطلاق، وإنما نقول: ارتهنت بمقدار المد، وإذا أداه برئت ذمته؛ لأنه قد أدى ما ارتهنت به ذمته. وأيضاً فإنها كفارة، فلا يجب فيها الدرهم. دليله: سائر الكفارات. واحتج من أوجب الدم بأنه ضمان لأجل الإخلال برمي واجب، وكان مضموناً بالدم. دليله: إذا ترك ثلاث حصيات. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الكثير بالقليل في باب الفدية، ألا ترى أن مالكاً قال في حلق الشعر: إذا كان ما يميط أذى وجبت فيه الفدية، وإن لم يمط أذى، فلا فدية عليه. وكذلك لو أتلف جميع الصيد ضمنه بكمال القيمة، ولو أتلف عضواً منه لم يضمنه بذلك. واحتج من قال: (يجب درهم) بأن كل شيء ضمن بمثله، فإذا تعذر

مسألة فإن ترك ثلاث حصيات ففيها دم، وفي جميع الجمار دم

مثله وجبت قيمته من غالب نقد البلد، كمن أتلف على غيره ما له مثل، فتعذر مثله، كان عليه قيمته من غالب نقد البلد. والجواب: أن هذا يبطل بالصيد؛ فإنه إذا تعذر مثله عدل إلى الطعام، ولم يعدل إلى الدراهم، كذلك هاهنا. واحتج من قال: (يضمنه بنصف صاع) بأنه طعام مقدر على وجه التكفير، فوجب أن لا يتقدر للمسكين أقل من نصف صاع، كفدية الأذى. والجواب: أنه لا فرق بين المسألتين، وذلك أن في فدية الأذى يجزئه مد من بر، أو نصف صاع تمر، أو شعير، ومثله نقول هاهنا. وقال في إطعام المساكين في الفدية: إن أطعم براً مد لكل مسكين، وإن أطعم تمراً نصف صاع لكل مسكين، وهي ستة مساكين. * ... * ... * 134 - مسألة فإن ترك ثلاث حصيات ففيها دم، وفي جميع الجمار دم: وقد حكينا كلام أحمد في رواية المروذي: في حصاتين دم، وإن نسيها كلها فعليه دم، وإن نسى جمرة واحدة فعليه دم. وقال أبو حنيفة: في ثلاث طعام؛ في كل حصاة نصف صاع، إلا أن تبلغ قيمة الطعام قيمة شاه، فيكون مخيراً بين الطعام وبين الدم، فإن زادت قيمته على قيمة الشاه لم يلزمه أكثر من شاة.

واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال: في ثلاث حصيات دم إلى آخر حصاة، وهو المشهور عندهم. وفيه قول آخر: أن كل يوم منفرد بنفسه، في ثلاث حصيات من يوم النحر إلى إتمام سبع حصيات دم، وفي ثلاث حصيات من أيام منى إلى آخر حصاة من أيام منى دم. فحصل من هذه الجملة أنه إذا ترك جميع الحصيات ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: دم واحد، وهو أصح. والثاني: دمان. والثالث: ثلاثة دماء. والدلالة على أنه يجب في الثلاثة فصاعداً دم خلافاً لأبي حنيفة: أنه ترك من عدد الحصى ما يقع اسم الجمع المطلق، فوجب أن يكون فيه دم. دليله: إذا كانت قيمة الطعام أكثر من قيمة شاة. ولأن القليل لا يوجب الدم، والكثير يوجبه، ولا بد من حد فاصل بين القليل والكثير، وكان أولى معدود ثلاثة؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة. واحتج المخالف بأنه قد ثبت أن في ترك جميع الحصى دم، فوجب أن يكون في ترك أوله صدقة، كما لو ترك حصاة واحدة.

مسألة ليس في يوم النحر خطبة

والجواب: أن الحصاة ناقصة عن أقل الجمع، فلهذا فيها صدقة، وليس كذلك في الثلاثة؛ فإنه جمع مطلق، وكملت الفدية فيه، فوجب الدم. * ... * ... * 135 - مسألة ليس في يوم النحر خطبة: نص عليه في رواية ابن القاسم: وقد سئل: كم يخطب في الحج؟ فقال: أما ابن الزبير؛ فإنه يروى عنه: أنه كان يخطب أيام الحج كلها، ولكن يخطب بعد يوم النحر بيوم. قيل له: فيخطب يوم النحر؟ قال: يخطب بعد يوم النحر بيوم. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي: يخطب فيه. دليلنا: أن يوم عرفة فيه خطبة مسنونة، فوجب ألا يكون في اليوم الذي يليه خطبة، ألا ترى أنه لما كان في يوم النفر الأول خطبة لم يكن في الذي يليه -وهو النفر الثاني- خطبة. ولأن الإمام يعلمهم في خطبة يوم عرفة ما يحتاجون إليه في يوم النحر، فلا حاجة به إلى إعادة الخطبة، ألا ترى أنه لما أعلمهم في النفر الأول ما يحتاجون إليه في الغد، وهو النفر الثاني، لم يحتج إلى إعادة الخطبة فيه.

فإن قيل: فقد يحتاج في يوم النحر إلى أشياء تفتقر إلى الخطبة؛ لأن يوم الحج الأكبر، وفيه مناسك كثيرة بمنى، وخروجهم إلى مكة لطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة، وعودهم إلى منى للمبيت غير أهل السقاية والرعاء ومن له عذر، وهذا يحتاج إلى خطبة مستأنفة. قيل له: هذا يذكره في خطبة عرفة. واحتج المخالف بما رواه أبو داود بإسناده عن الهرماس بن زياد الباهلي: أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم النحر بمنى. وروى أبو داود بإسناده عن أبي أُمامة الباهلي أنه قال: سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم النحر بمنى. وروى ابن جريج، عن أبي الزبير، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلّم بينما هو يخطب يوم النحر إذ قام إليه رجل، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، فذكر الحديث، وذكر الخطبة. والجواب: أن تلك الخطبة لم تكن من أسباب الحج، ولم يذكر

فيها مناسك الحج، وإنما ذكر أحكاماً أخرى، وهي خطبة مشهورة. فإن قيل: فهذا لا يدل على أنه لم تكن من خطب الحج، ألا ترى أن أبا داود روى بإسناده عن أبي جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أنه وصف حج النبي صلى الله عليه وسلّم، فذكر فيه: أنه خطب يوم عرفة، فقال في خطبته: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا. ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هُذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب. اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله". وذكر كلاماً طويلاً لا يتعلق بالحج، ولم يدل على أن تلك الخطبة لم تكن من خطب الحج. وقد ذكر في هذا ما يتعلق بمناسك الحج؛ فإنه قال فيما سُئل عنه: "لا حَرَجَ، لا حَرَجَ". وقال: "أيها الناس! تعلموا مناسككم؛ فإنها من دينكم".

وقال فيها: "إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". وغير ذلك. قيل له: هذا الاحتمال موجود في خطبة عرفة أيضاً، وفي كل خطبة خطبها، وأنه يحتمل أن يكون لبيان حكم شرعي لا يتعلق بالحج، ولكن الإجماع حصل على أن خطبة عرفة كانت للحج. واحتج بأنه يوم معين شُرع فيه ركن من أركان الحج، وهو طواف الزيارة، فوجب أن تكون الخطبة فيه مسنونة قياساً على يوم عرفة. وفيه احتراز من اليوم الذي يحرم بالحج فيه؛ لأنه غير معين. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه من أيام الحج لم يخطب في الذي قبله، وهذا قد خطب في الذي قبله، فلم يخطب فيه. ولأن يوم عرفة يختتص الرُّكن به، فقوي، وهذا اليوم لا يختص الرُّكن به، فضعف. ولأن يوم النحر يُخطب فيه في سائر الأمصار؛ ليُعلم ما يُفعل فيه، ولم يحتج إعادة الخطبة. قالوا: إذا سُنت الخطبة في يوم عرفة فلأن تُسن في يوم النحر أولى؛ لأن يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأعمال المناسك فيه أكثر. والجواب: أن هذا يوجب أن يكون يوم التروية أولى أن تُسنَّ

مسألة في النفر الأول خطبة مسنونة، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق

فيه الخطبة من اليوم الذي قبله؛ لما ذكرت. * ... * ... * 136 - مسألة في النفر الأول خطبة مسنونة، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق: وهو معنى قول أحمد في رواية ابن القاسم: يخطب بعد يوم النحر بيوم. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: ليس فيه خطبة مسنونة، وإنما الخطبة المسنونة اليوم الثاني من يوم النحر. وهو قول مالك. دليلنا: ما روى أبو داود في "سننه": أن النبي صلى الله عليه وسلّم خطب في أوسط أيام التشريق. فإن قيل: ليس فيه بيان كيفية تلك الخطبة. قيل له: ولأن الإمام يحتاج أن يعلم الناس أن من تعجل في ذلك اليوم، فلا إثم عليه، ومن تأخر، فلا إثم عليه، وأن من تأخر فعليه الرمي في اليوم الرابع.

مسألة ليس في اليوم السابع خطبة

فإن قيل: هذه الأحكام يذكرها في خطبته يوم الثاني من يوم النحر. قيل له: في اليوم الثاني ليس عندنا خطبة. وعلى أنه إن جاز أن يقال: يذكرها في خطبة اليوم الثاني، جاز أن يقال: يذكرها في خطبة يوم عرفة. واحتج المخالف بأنه يوم أُبيح فيه للحاج النفر، فأشبه اليوم الأخير. والجواب: أن اليوم الأخير لا حاجة به إلى الخطبة؛ لأنه لم يُشرع فيه، ولا بما بعده نسك، وليس كذلك في النفر الأول؛ لأن فيه نسكاً يحتاج إلى بيان من تعجل وتأخر، فلهذا أفرقنا بينهما. * ... * ... * 137 - مسألة ليس في اليوم السابع خطبة: وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم؛ لأنه سأله: متى يخطب يوم عرفة، فقال: قبل صلاة الظهر، فقيل له: ثم يخطب في الحج؟ فقال: يخطب بعد يوم النحر. وظاهر هذا: أنهما خطبتان في الحج؛ يوم عرفة ويوم النَّفر الأول.

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يخطب يوم السابع. دليلنا: أنه يوم لم يُشرع فيه نسك من مناسك الحج، فلم تُشرع فيه الخطبة. دليله: اليوم الأخير من أيام التشريق. ولا يلزمه عليه يوم عرفة، ويوم النفر الأول؛ لأنه يوم شرع فيه النسك. واحتج المخالف بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلّم خطب الناس اليوم السابع من ذي الحجة، وأمرهم بالغدو إلى منى. والجواب: أنه ليس فيه بيان الخطبة. واحتج بأن هذا اليوم، وإن لم يكن فيه نسك؛ فإنه يخطب لما يعلمونه من اليوم الثامن، وهو يوم التروية؛ فإنه يأمرهم بالغدو إلى منى محرمين، وأن يوفوا منى قبل صلاة الظهر، فيصلون الظهر فيها مع الإمام، ويصلون العصر في وقتها، والمغرب في وقتها، والعشاء الآخرة في وقتها، والصبح في الغد في وقتها، فإذا طلعت الشمس رحلوا إلى عرفة في أول بزوغها، فهو كيوم عرفة، يبين لهم ما يفعلون في يومهم؛ لأن في مناسك كثيرة، ويبين لهم رجوعه من عرفة، ومبيتهم بالمزدلفة، وجمعهم بين المغرب والعشاء الآخرة، ووقوفهم على قرح إذا أصبحوا، ودفعهم الإمام منها إذا اشتد النهار قبل طلوع الشمس إلى أن يوافوا منى.

مسألة إذا ترك المبيت بمنى الليالي الثلاث من غير عذر فقد أساء، وهل يجب عليه الدم، أم لا؟

والجواب: أن هذه الأشياء ليست مناسك في أنفسها، ولا هي مقصودة، فلم تشرع الخطبة لبيانها، وتفارق الخطبة في يوم عرفة ويوم النفر الأول؛ لأنها تتضمن بيان أشياء مقصودة؛ إما أركان، أو واجبات يأثم بتركها. ويجبرها الدم. * ... * ... * 138 - مسألة إذا ترك المبيت بمنى الليالي الثلاث من غير عُذر فقد أساء، وهل يجب عليه الدم، أم لا؟ قال أبو بكر في كتاب "الشافي": فيه ثلاث روايات: أحدها: عليه دم. رواها حنبل عن أحمد أنه قال: ولا يبيت أحد ليالي منى من وراء العقبة، ومن وراء البيت رجع من ساعته، فمن بات فعليه دم. وقد نص -أيضاً- في رواية الجماعة: إذا ترك المبيت بالمزدلفة فعليه دم، والحكم فيهما واحد. وبهذا قال مالك. وفيه رواية أخرى: لا دم عليه، ولا صدقة. نص عليه في رواية المروذي: من بات بمكة ليالى منى يتصدق بشيء، وإن بات من غير عُذر أرجو أن لا يكون عليه شيء.

وهو اختيار أبي بكر، وبه قال أبو حنيفة. وفيه رواية ثالثة: عليه صدقة قدرها درهم، أو نصف درهم. نص عليه في رواية أبي طالب وابن إبراهيم: لا يبيت أحد بمكة ليالى منى، فمن غلبته عينه فليتصدق بدرهم، أو بنصف درهم، كذا قال عطاء. وقال -أيضاً- في رواية حرب في الرجل يبيت من وراء العقبة ليالى منى، قال: يتصدق بشيء. وقال في رواية الأثرم: فمن جاء للزيارة فبات بمكة يعجبني أن يطعم شيئاً، وخففه بعضهم بقول: ليس عليه شيء، وإبراهيم يقول: عليه دم، وضحك، وقال: الدم شديد. وكذلك نقل محمد بن عبده. وللشافعي قولان: أحدهما: عليه دم، وهو أصح. والثاني: لا دم عليه. وجه الرواية الأولى -وأنه يجب الدم خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه-: ماروى عبد الله بن عمر: أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له. فدل على أنه ليس لسائر الناس ترك المبيت، ولا الترخص بذلك،

وإذا لم يجز تركه ثبت وجوبه، ووجوب الدم لتركه لقوله عليه السلام: "من ترك نُسكاً فعليه دم". فإن قيل: نحن نقول: ليس لأحد أن يترخص بغير عذر، وتاركه مسيء. قيل: إذا ثبت أنه ليس لأحد تركه لغير عذر ثبت وجوبه، وعندك أنه لا يجب. فإن قيل: قد يجوز لغير العباس تركه عندك، وهم الرعاة ومن له عذر. قيل له: لأنه في معنى العباس من جهة العذر، فلهذا جاز له تركه. ولأنه نسك يفعل بعد كمال التحلل، وكان واجباً يجب بتركه دم. دليله: الرمي والطواف والوداع. فإن قيل: طواف الوداع نسك في نفسه، وهذا ليس بنسك في نفسه. قيل له: الرمي بنسك في نفسه، ومع هذا فهو واجب، ويجب بتركه دم. ولأنه مبيت مأمور به بعد الوقوف، وكان واجباً.

دليله: ليلة لمزدلفة؛ فإنها تجب رواية واحدة. فإن قيل: تلك مقصودة لفعل نسك، وهو الجمع بين المغرب والعشاء، وهذا معدوم في ليالي منى. قيل: الجمع عندنا لا يُفعل للنسك، وإنما يفعل لأجل السفر. واحتج المخالف بأن البيتوتة بمنى ليست نسكاً في نفسها، وإنما تراد للتأهب لغيرها، وهو الرمي بالنهار، فصار كالبيتوتة بها ليلة عرفة؛ لما أُريدت للتأهب لغيرها، وهو الخروج إلى عرفات بالنهار، لم يجب بتركها شيء، كذلك هاهنا. والجواب: أن قوله: (البيتوتة ليست بنسك في نفسها) غير صحيح، بل هي مقصودة في نفسها بدليل أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يبيت بمكة ليال منى لأجل سقايته، فأذن له، فلو لم تكن مقصودة لم يستأذن فيها، ولم يخصها بالذكر. وعلى أن الرمي بعد الزوال لا تعلق له بالبيتوتة، ولا تفتقر إليه، ويفارق هذا المبيت ليلة عرفة؛ لأن ذلك ليس بنسك، وإنما هو استراحة، ولهذا الناس بين بائت بمكة في هذه الليلة، وليس كذلك هاهنا؛ لأن هذا نسك يُفعل بعد كمال التحلل، فهو كالرمي والطواف. فإن قيل: والدلالة على أنها مأمور بها لأجل الرمي بالنهار: أنها

تسقط بالفراغ من الرمي، وهو ترك الكون بها بالليل. قيل له: يجوز أن يُقال: إن الكون بها نهاراً وقت الرمي يُراد للتأهب للرمي، فإذا فرغ منه سقط الكون بها بقية النهار، فأما الليل فلا تعلق له بالرمي؛ لأن التأهب للرمي لا يحصل فيه. يبين صحة هذا: أنه يُكره له ترك الكون بها نهاراً بعد الرمي. واحتج بأنه لما رُخص للرعاة وأهل السقاية ترك المبيت بها، عُلم أن تركه للعذر ولغير العذر لا يوجب شيئاً. والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلّم رخص للحائض في ترك طواف الصدر، ورخص لضعفة أهله في الدفع من المزدلفة، ولم يدل ذلك على جواز الرخصة لغيرهم، كذلك هاهنا. * فصل: فإن ترك ليلة من ليالي منى ففيها روايات: أحدها: في ليلة مُدٌّ، وفي ليلتين مُدَّان. والثانية: في ليلة قبضة من طعام، وفي ليلتين قبضتان. وهاتان الروايتان نص عليهما في حلق الشعر. والثالثة: في ليلة درهم، أو نصف درهم، وكذلك في الليلة الثانية. نص عليه ذلك في رواية إسحاق بن إبراهيم. ولا تختلف الرواية أنه لا يجب في ليلة دم، وقد نص في رواية الجماعة في ليلة المزدلفة، وكان الفرق بينهما: أن ليلة المزدلفة نسك

مسألة طواف الصدر واجب، وتركه لغير عذر يوجب دما

بانفرادها، وليالي منى جميعاً نسك واحد، فلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها، كما قلنا في ترك حصاة وحصاتين، والكلام في هذا قريب من الكلام في ترك حصاة وحلق شعر، وقد مضى. ونقل الأثرم عنه في رجل جاء للزيارة، فبات بمكة: يعجبني أن يطعم شيئاً، وقال إبراهيم: عليه دم، وضحك، وقال: دم شدَّد فيه، يطعم شيئاً؛ تمراً أو نحوه. فقد نص على إسقاط الدم في ليلة. ونقل ابن منصور عنه: من بات دون منى ليلة يطعم شيئاً. * ... * ... * 139 - مسألة طواف الصدر واجب، وتركه لغير عذر يوجب دماً: نص عليه في رواية ابن منصور وابن إبراهيم وأبو طالب والأثرم والمروذي وحرب وأبو داود: فقال في رواية ابن منصور فيمن نفر، ولم يودع البيت: فإذا تباعد فعليه دم، وإذا كان قريبا رجع. وكذلك نقل ابن إبراهيم: إذا نسى الرجل طواف الصدر، وتباعد بقدر ما تُقصر فيه الصلاة، فعليه دم.

وكذلك نقل الأثرم عنه في من ترك طواف الصدر: عليه دم. وكذلك نقل المروذي عنه في من نسى طواف الوداع: عليه دم، فإن كان بالقرب فليرجع. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال مالك: ليس بواجب. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: مثل قول مالك. دليلنا: ما روى أبو بكر الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت". وهذا أمر فاقتضى الوجوب. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلّم رخص للحائض في تركه، فلو لم يكن واجباً لما احتاجت إلى الرُّخصة في تركه، فروى الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال: أُمر الناس أن يكون آخ عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.

فإن قيل: ولو كان واجباً لما كان الحيض عذراً في سقوطه، كطواف الزيارة. قيل له: الصلاة واجبة، وتسقط لأجل الحيض. وأيضاً طواف الصدر نسك يُفعل بعد كمال التحلل، فوجب أن يجب بتركه دم، أو نقول: وكان واجباً، كالرمي في أيام منى. ولأنه طواف شُرع بعد الوقوف فكان واجباً. دليله: طواف الزيارة. ولأن المناسك على ضربين: منها ما لا يتعلق بالبيت، فيجب بتركه دم. ومنها ما يتعلق بالبيت، فيجب -أيضاً- أن لا يجب بتركه دم. واحتج المخالف بأنه لو كان واجباً يلزمه بتركه دم، لما اختلف المعذور وغيره، كاللباس. والجواب: أن هذا لا ينفي وجوبه، ألا ترى أن الشافعي قد قال في المريض الذي لا يستطيع الرمي بنفسه: إذا أذن لغيره، فرمى عنه، أجزأه؟ ولو كان صحيحاً لم يجزئه، ولزمه الدم إذا ذهب الوقت، ففرَّق بين المعذور وبين غيره، ولم يدل ذلك على نفي وجوبه. ولأن المناسك التي ليست بأركان إذا تركها لعذر لم يجب بتركها شيء. واحتج بأن طواف لا يتعلق به تحلل، أو طواف ليس بركن في

مسألة إذا طاف للصدر، ثم أقام بعد ذلك لشراء حاجة، أو عيادة مريض ونحوه، لم يجزئه من طواف الصدر، وعليه أن يطوف حين يخرج

الحج، فوجب أن لا يكون واجباً قياساً على طواف القدوم. والجواب: أن طواف القدوم مشروع قبل التحلل، وطواف الصدر مشروع بعد التحلل، فهو كطواف الزيارة. على أن محمد بن أبي حرب الجرجرائي نقل عن أحمد قال: الطواف ثلاثة واجبة: طواف القدوم، وطواف الزيارة، وطواف الصدر، أما طواف الزيارة فلا بد منه، فإذا تركه رجع معتمراً، وطواف الصدر إذا تباعد بعث بدم. * ... * ... * 140 - مسألة إذا طاف للصدر، ثم أقام بعد ذلك لشراء حاجة، أو عيادة مريض ونحوه، لم يجزئه من طواف الصدر، وعليه أن يطوف حين يخرج: نص عليه في رواية الأثرم وحرب: فقال في رواية الأثرم في رجل ودع البيت، ثم تشاغل: فإذا كان قد جاوز الردم رجع، فودع. أي: إذا جاوز الردم، ثم رجع في حاجة، فليودع. وكذلك نقل حرب عنه: إذا فرغ، ثم بدت له حاجة، أراه قال: إذا جاوز الردم، ولا شيء عليه، وإن لم يجاوز أعاد.

وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يعيد، وإن أقام شهراً. دليلنا: ما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت". وهذا يقتضي أن آخر شغله بمكة يكون الطواف بالبيت، وإن أقام لقضاء حوائجه وأشغاله، وزيارة أصدقائه، لم يكن آخر عهده بالبيت. فإن قيل: المراد بالخبر: أنه يختم مناسكه بالطواف، وقد وُجد ذلك منه. قيل له: لا يصح هذا التأويل؛ لأنه قال: "حتى يكون آخر عهده بالبيت"، ولم يقل: آخر مناسكه بالبيت. وأيضاً فإن هذا الطواف سُّمي طواف الصدر، وطواف الوداع، وإذا أقام بعده شهراً لم يوجد الاسم في العرف والعادة، فيجب أن لا يُعتد به. فإن قيل: تأخيره لا يمنع وقوع الاسم، ألا ترى أن طواف الزيارة سُّمي طواف الإفاضة والزيارة، ثم لو أفاض ولم يطف حتى ترك مكة شهراً وأكثر، ثم طاف، وقع موقع الواجب، وإن زال الاسم عنه. قيل له: حقيقة الاسم معتبرة في طواف الوداع بدليل أنه لو طاف

قبل النفر الثاني لم يعتد به، ولو طاف للزيارة قبل ذلك لاعتد به. واحتج المخالف بأنه طاف بالبيت بعدما حل له النفر، فوجب أن يجزئه من طواف الصدر. دليله: إذا خرج بعده. والجواب: أنه إذا خرج بعده وُجد الاسم، وإذا أحدث مقاماً بعده زال عنه الاسم، فلهذا لم يعتد به. واحتج بأن الطواف الذي فعله جائز بلا خلاف، ولا يخلو إما أن يكون تطوعاً أو الصدر؛ لأن طواف الصدر مستحق عليه في هذا الحال، ولا يقع عن تطوع، ويقع عن المستحق، كمن عليه طواف الزيارة لا يقع عن تطوع، ويقع عن المستحق. والجواب: أنه يقع تطوعاً عندنا، وليس يمتنع مثل هذا على أصلنا؛ لأنه لو طاف بنية الوداع من لم يكن قد طاف للزيارة، لم يجزئه عندنا طواف الزيارة، وإن كان الفرض في ذمته، وكذلك لو طاف بنية التطوع، وعليه طواف الزيارة، لم يقع عن الفرض. على أن قوله: (لا يكون تطوعاً؛ لأن طواف الصدر مستحق عليه) غير صحيح؛ لأنه إنما يستحق عند العزم على الخروج. واحتج بأنه لو طاف بالبيت، ثم اشتغل بعده بإخراج رحله من منزله وشدِّه، أو اشترى بعده خبزاً يأكله في الطريق، لم يبطل الوداع، ولم يلزمه أن يعيد الطواف.

مسألة والصبي له حج صحيح، فإن كان مميزا، فأحرم بإذن الولي، صح إحرامه، وإن لم يكن مميزا، فأحرم عنه الولي، صار محرما بإحرامه، ويجتنب ما يجتنب المحرم، فإن فعل شيئا من محظورات الإحرام لزمته الفدية

والجواب: أن أبا داود قال: قلت لأحمد: إذا ودع البيت، ثم نفر يشتري طعاماً يأكله؟ قال: لا، يقولون: حتى يجعل الردم وراء ظهره. وقال -أيضاً- في رواية أبي طالب: إذا ودع لا يلتفت، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت. وظاهر هذا: أن فعل هذه الأشياء يمنع من الاعتداد بالطواف. ولو سلمنا ذلك، فالمعنى فيه: أن هذا أُهبة الخروج والصدر، فلم يُبطل الطواف، ولأنه لم يحدث مقاماً، ولا مُكثاً، وهاهنا قد أحدث مقاماً، فلهذا فرقنا بينهما. * ... * ... * 141 - مسألة والصبي له حج صحيح، فإن كان مميزاً، فأحرم بإذن الولي، صح إحرامه، وإن لم يكن مميزاً، فأحرم عنه الولي، صار محرماً بإحرامه، ويجتنب ما يجتنب المحرم، فإن فعل شيئاً من محظورات الإحرام لزمته الفدية: نص عليه في مواضع: فقال في رواية الأثرة في الصبي يُحج به: يجتنب ما يجتنب الكبير. واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلّم: ألهذا حج؟ قال: "نعم".

وقال وفي رواية حنبل: إذا رمى عن الصغير أبوه، أو وليه، أجزأه ذلك، وكذلك المريض إذا لم يُطق. وقال في رواية أبي طالب: الأخرس والمريض والصبي يُلبي عنهم. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح حج الصبي، وإن أصاب في إحرامه شيئاً قد حظره الإحرام، لم يلزمه شيء. دليلنا: ما روى أحمد في "مسنده" بإسناده عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلّم بالروحاء، فلقى ركباً، فسلم عليهم، فقال: "من القوم؟ " قالوا: المسلمون، قالوا: فمن أنتم؟ قال: "رسول الله صلى الله عليه وسلّم" ففزعت امرأة، فأخذت بعضد صبي، فأخرجته من مِحفتها، فقالت: يا رسول الله! هل يصح لهذا حج؟ قال: "نعم، ولكِ أجر". فأثبت له حجاً صحيحاً، فوجب أن تلزمه الفدية بالجنابات، كما تلزم غير الصبي. فإن قيل: يحتمل أن يكون بالغاً، فسُمي صبياً لقرب عهده بالبلوغ. قيل له: حقيقة اسم الصبي يقع على غير البالغ، فلا يجوز حمله على المجاز. ولأن جواز حج البالغ كان مشهوراً معلوماً بينهم، ولهذا لم تسأل عن حج نفسها، ولا سأل أهل الرفقة عن حج أنفسهم.

وعلى أن البالغ لا يمكن رفعه بعضده، فلما قال الراوي: (رفعت صبياً من محفتها) دل على أنه صغير. ولأن قولها: (ألهذا حج؟) محمول على أن المراد ألهذا تعلم أفعال الحج حتى يمرن عليها، ويعتادها، فقال صلى الله عليه وسلّم: "نعم". قيل: لسنا نمع أن يحصل له التمرين ويعتاده، لكن الخبر يقتضي أن يكون له حج. وأيضاً روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "أيما صبي حج، ثم بلغ فعليه حج"، فأثبت له حجاً، وعندهم لا حج له. والقياس أن من صح وُضوءه صح عقده الإحرام، كالبالغ. فإن قيل: الوضوء لا يفتقر إلى النية، والحج يفتقر إلى النية، فلم يصح منه. قيل له: الوضوء يفتقر عندنا إلى النية كالحج، فلا فرق بينهما. ولأنه يصح إحرامه بالصلاة، فصح إحرامه بالنُّسك، كالبالغ. فإن قيل: لا يصح إحرامه بالصلاة عندنا. قيل له: يصح عندك؛ لأن أبا حنيفة قد قال في ثلاثة أنفس؛ أحدهم صبي: إذا صلوا جماعة كان الصبي والرجل صفاً خلف الإمام، فإن أوقف صبية بجنب رجل في الصف، ونوت صلاة الإمام، وأحرمت،

بطلت صلاة الرجل الذي بجنبها وخلفها. فدل على أن صلاة الصبي صحيحة، وأن له موقفاً في الصف، ولو لم تكن له صلاة صحيحة لم يكن له موقف. وقد قيل: إن كل من جُنب ما تجنبه المحرم كان إحرامه صحيحاً، كالبالغ إذا أغمي عليه؛ فإنه يُجنب ما تجنبه المحرم. والقوم يمنعون من هذا، ويقولون: لا يُجب على طريق الوجوب، بل على وجه التمرين والتعليم. ولأن الحج من فرائض الأعيان يجب بوجود مال، فجاز أن ينوب الولي عن المولى عنه. دليله: زكاة الفطر. فإن قيل: الأب لا يؤدي عنه أفعال الحج كما يؤدي صدقة الفطر، فكيف يجوز أن تعتبروا الإحرام بها؟ قيل له: يؤدي عنه ما يعجز عنه من أفعال الحج إذا كان طفلاً، فيحرم عنه، ويقف به، ويرمي، ويطوف به. وأيضاً فإن أبا حنيفة قد قال: يجوز أن يصير المغمى عليه محرماً بإحرام يفعله غيره عنه.

فهلا جاز أن يصير الصبي محرماً بإحرام يفعله غيره؟ فإن قيل: المغمى عليه من أهل العبادات وحكم التكليف، فلم يجز أن يثبت له حكمُ الإحرام بفعل غيره. قيل له: المغمى عليه غير مكلف عندك؛ لأنه لا يقضي ما تركه من الصلوات، فسقط هذا. وعلى أنه لا يمتنع أن لا يكون مكلفاً، ويصح منه، كما صحت منه الطهارة، وتحريمة الصلاة، وكما صح منه الإسلام، وكما صحت من العبد والمرأة الجمعة. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم". وفي إيجاب الفدية عن الصبي إثبات القلم عليه. والجواب: أن هذا محمول على رفع المأثم، أو محمول على غير مسألتنا من العبادات بدليل ما ذكرنا. واحتجَّ بأن الصبي لا يكون محرماً حقيقة؛ لأنه لو صح لوجب أن يلزمه الحج إذا وجد زاداً وراحلة كالبالغ، فلما لم يلزمه دل على أنه لا يصير محرماً، كالمجنون. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يلزمه الحجُّ إذا ملك زاداً وراحلة، ويصح منه فعل الحج بدليل أنه يصح وضوءه، ولا يجب عليه بوجود

الماء، وتصح من البالغ أكثر من حجة، ولا تجب عليه، كذلك هاهنا. وأما المجنون ففرق بينه وبين الصبي بدليل أن لا تصح منه الطهارة، ولا موقف له في الصف، ولا حكم لقوله؛ لنه لا يُقبل إذنه في دخول الدار، ولا تُقبل الهدية من يده إذا قال: (هو رسول فلان)، والصبي بخلاف ذلك. واحتج بأنه غير مكلف، فلم يصح إحرامه بالحج، كالمجنون. والجواب: أنه يبطل بالمغمى عليه؛ فإنه غير مكلف عنده، ويصح عقدة الحج عنه عندهم. وعلى أن عدم التكليف لا يمنع صحة العقد بدليل أنه يصح وضوءه وعقوده ووكالته، وإن كان غير مكلف، وتصح الجمعة من المرأة والعبد، وإن لم يكلفا فعلها. ثم المعنى في المجنون ما ذكرنا. واحتج بأن ما يوجبه الإنسان على نفسه من العبادات بالقول آكد مما يوجبه بالدخول فيه؛ لأن وجوبه بالدخول مختلف فيه، وبالقول متفق عليه، ثم لا خلاف أن الصبي لو أوجب الإحرام بالقول، وهو النذر، لم يجب، فالدخول فيه أولى أن لا يجب. والجواب: أن نذره للوضوء لا يصح، وفعله له يصح، ونذر أهل الرفقة للمغمى عليه لا يصح، وعقدهم الإحرام عنه يصح. ولأن المقصود بالنذر هو الوجوب واللزوم، والصبي ليس من أهل

الوجوب بدليل الصلاة والصيام، وليس كذلك العقد والدخول فيه؛ فإن المقصود به فعله، والصبي ممن يصح منه الفعل. يبين صحة هذا: أن الوضوء يصح منه، ولا يجب عليه، فدل على الفرق بينهما. واحتج بأنه لو صح إحرامه، لوجب أن يفسد بوطئه فيه، وإذا فسد أن يلزمه قضاؤه؛ لأنه ليس من أهل الوجوب. والجواب: أنا نقول: إنه يفسد حجه؛ لأن أكثر ما فيه: أن عمد الصبي خطأ، ووطء الناسي والمخطئ عندنا يفسد الحج، والصبي كذلك. وأما القضاء فيحتمل أن لا يجب؛ لأنه ليس من أهل الوجوب، وتجب الفدية في ماله، ويحتمل أن يجب القضاء؛ لأنه سبب من جهته، وإنما لا يجب عليه ابتداءً بالشرع، وهو أشبه بقول أحمد؛ لأنه قال في رواية أبي طالب في العبد يأذن سيدهن فيحج، فيطأ وهو محرم: فسد حجه، يتم على ما قبل، وعليه الحج متى قدر. فقد أوجب عليه القضاء، وإن لم يكن من أهل الوجوب. فعلى هذا: هل يلزمه القضاء في حال صغره، أم بعد بلوغه؟ يحتمل وجهين؛ أصحهما: أن يلزمه في حال صغره. وأما الطيب واللباس وقتل الصيد: فإن قلنا: لا تجب الفدية بفعله خطأ، وإنمات تجب بفعله عمداً، لم يلزمه الفدية؛ لأن عمد الصبي خطأ.

مسألة إذا حج الولي بالصبي فقياس قول أحمد: أن النفقة في مال الصبي؛ لأنه قال: يضحي عنه الوصي من مال الصبي

وإن قلنا: تجب الفدية بفعله خطأ، وجبت الفدية. وهل تجب في ماله، أو في مال وليه؟ يحتمل أن تجب في مال وليه الذي أدخله فيه وعرضه للزومه. والمنصوص عنه في رواية الأثرم: وقد سئل عن الصغير يُحج به، فيصيب صيداً: أيُجزى عنه؟ قال: نعم. وكذلك نقل أبو الحارث عنه في صبي محرم أصاب صيداً: يجزي عنه وليه. ونقل الميموني عنه في عبد قتل صيداً بعد أن أحرم: هل جزاؤه على مولاه: فقال: إن أذن له. وهذا يقتضي أن لا يكون ذلك على الولي. * ... * ... * 142 - مسألة إذا حج الولي بالصبي فقياس قول أحمد: أن النفقة في مال الصبي؛ لأنه قال: يضحي عنه الوصي من مال الصبي: وقال مالك: إن كان للصبي من يحفظه ويكنفه، فالنفقة الزائدة على نفقة الحضر من مال الصبي. وللشافعي قولان:

مسألة إذا أغمي على رجل من أهل الرفقة، فأحرم عنه رجل من أهل الرفقة، لم يصر محرما، ولم ينعقد الإحرام

أحدهما: مثل قول مالك. والثاني: مثل قولنا. دليله: أن هذا مما له فيه مصلحة؛ لأنه يعرف أفعال الحج، ويألفها، فهو كنفقة المعلم على الخط، وتعليم القرآن، وأجرة من يحمله إلى الجامع. فإن قيل: مؤنة تلك الأشياء تقل، ومؤنة الحج تكثر. قيل له: لا فرق عندك بين القريب من مكة والبعيد في ذلك. فإن قيل: فلو لم يتشاغل بتعليم الطهارة والصلاة أدى ذلك إلى فواتها في كبره؛ لأنها تجب على الفور وجوباً مُضيقاً. قيل له: وكذلك الحج عندنا يجب على الفور وجوبه مُضيقاً. * ... * ... * 143 - مسألة إذا أُغمي على رجل من أهل الرفقة، فأحرم عنه رجل من أهل الرفقة، لم يصر محرماً، ولم ينعقد الإحرام: نص على هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم في من أغمي عليه حتى بلغ الميقات، فأحرم عنه رفيقه، وقدم مكة، وطاف به، وسعى به، وشهد المشاهد كلها، فلما قضى حجه، وهو لا يعقل: فإن كان أفاق بعرفة،

أجزأه الحج، وإن لم يعقل، فلا حج له. وقوله: (إن كان أفاق بعرفة أجزأه)؛ يعني: إذا عقد الإحرام لنفسه بعرفة أجزأه، فأما إن استدام الوقوف بإحرام الرفيق، فلا يجزئه. وقال -أيضاً- في رواية ابن منصور: وذكر له قول سفيان في المغمى عليه: هل يُلبي عنه؟ قال: أرى أن يمضي، فإذا أفاق لبى، فإن كان عليه أيام يرجع، وإن لم يكن عليه أيام لبى، وأهراق دماً، ومضى. قال أحمد: جيد. قال سفيان: وإن لم يفق ما أرى أن يُلبي عنه، ليس هو بمنزلة الصبي. قال أحمد: جيد. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يصير محرماً، وينعقد الإحرام عنه. دليلنا: أنه بالغ، فوجب أن لا يصير محرماً بإحرام غيره عنه. دليله: النائم. فإن قيل: النائم غير عاجز عنه؛ لأنه إذا نُبه ينتبه، وليس كذلك هذا؛ لأنه عاجز عنه. قيل له: فيجب أن يحرم عنه غير أهل الرفقة لعجزه عنه، ولما لم يجز ذلك، بطل الفرق. ولأنه إحرام عن المغمى عليه، فلم ينعقد، كما لو أحرم عنه غير أهل رفقته. وأ نقول: كل من لم يجز له أن يحرم عنه قبل الإغماء، لم يجز أن

يحرم عنه بعد الإغماء. دليله: غير أهل الرفقة. فإن قيل: ليس عند أبي حنيفة في ذلك نص. قيل له: إلا أن أصحابكم قد سلموا ذلك. فإن قيل: فأهل رفقته أخص بحفظ متاعه، والتصرف عليه، فلا يمتنع أن يكونوا أخص بهذا الحكم من غيرهم، كالأب لما كان أخص بالتصرف عن ابنه الصغير، كان أخص بالإحرام عنه عندكم. قيل له: أهل الرفقة في حفظ متاعه يجرون مجرى الملتقط للمال؛ إنما يأخذه يحفظه على صاحبه، فأما أن يملكوا التصرف فيه، فلا يجوز، وليس كذلك الأب؛ فإنه يملك التصرف في ابنه في ماله بالعقد، فملك الإحرام عنه. ولأن الإحرام عنه لا يصح إلا بالنية، والمغمى عليه لم توجد منه نية. فإن قيل: المسألة محمولة على أنه توجد ونوى. قيل له: تلك النية لا حكم لها؛ لأنه قد عرض ما يقطعها، ألا ترى أنه لو كان صحيحاً، فنوى الإحرام، ثم عزبت نيته، واستعمل بعمل

آخر، ثم أحرم، لم يجزئه. واحتج المخالف بأن الإحرام ركن من أركان الحج، وفرض من فروضه، فجاز أن يقوم فعل غيره مقام فعله في حال العُذر، ويصير كأنه فعله بنفسه، كما لو كان مريضاً لا يمكنه أن يطوف بنفسه، فطيف به، قام فعل غيره مقام فعله في ثبوت حكم الطواف له، وصار كأنه طاف بنفسه. والجواب: أنا نقول بموجبه، وأنه يجوز الإحرام عن الغير في الجملة، وهو في حق الصغير والكبير والمريض، وعلى أن فرقاً بين الطواف وبين الإحرام، وذلك أنه لو طاف به غيره، وهو صحيح أجزأه، ولو أحرم عنه غيره، وهو صحيح، لم يجزئه، لأن المأخوذ عليه في الطواف حصوله حول البيت إذا طيف به، فقد حصل حوله، فصار كأنه طاف بنفسه، وإذا أحرم عنه غيره، فلم يحصل فيه معنى يصير به محرماً، فنضير الإحرام عنه أن يطوف غيره عنه، فلا يجزئه. واحتج بأن أحمد قد وافقنا على أن الإنسان يجوز أن يصير محرماً بإحرام يفعله عنه غيره؛ لأنه يقول: إن الإنسان إذا أحرم عن ابنه الصغير، صار الابن محرماً به، ونحن نقول: إنه إذا أحرم عن المغمى عليه يصير المغمى عليه محرماً. فإذا حصل الاتفاق على هذه الجملة احتجنا أن ننظر أيُّما أولى بأن يثبت له حكم الإحرام، فقلنا: إن المغمى عليه أولى بذلك من الصبي لوجهين:

مسألة إذا أحرم العبد، ثم عتق قبل الوقوف، أجزأه عن حجة الإسلام

أحدهما: أن أحكام العبادات قائمة عليه، ألا ترى أنه يلزمه قضاء الصوم والصلاة؟ والثاني: أن نية الحج قد وجدت منه، وهو عاجز عن أدائها. والصبي لا تلزمه العبادات، ولا تصح منه النية. والجواب: أن الصبي أولى بذلك؛ لأن وليه يعقد عليه النكاح والعقود، ولا يعقد رجل من أهل الرفقة النكاح، ولا سائر العقود. وقولهم: (إن المغمى عليه يتوجه عليه وجوب العبادات) لا يصح على أصلهم؛ لأن عندهم يسقط عنه فرض الصلاة بعد اليوم والليلة. وعلى أن هذا يوجب أن يصح الإحرام عن النائم؛ لأنه تتوجه عليه العبادات. وقولهم: (إن نية الحج قد وجدت منه) فقد بيَّنَّا فساد النِّيَّة، فلم يصح ما قاله. * ... * ... * 144 - مسألة إذا أحرم العبد، ثم عتق قبل الوقوف، أجزأه عن حجة الإسلام: نص عليه في رواية حرب وابن القاسم وسندي وابن منصور.

وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجزئه عن حجة الإسلام. دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد، فقالوا: يا رسول الله! كيف الحج؟ فقال: "الحج عرفة، فمن جاء قبل طلوع الفجر ليلة جمع فقد تم حجه". فإن قيل: الخبر يقتضي أن حجه تام، ونحن نقول: حجه تام، وليس فيه أن يجزئه من حجة الإسلام. قيل له: قولهم: (كيف الحج؟) يقتضي حجة الإسلام. ولأن التعريف يرجع إلى المعهود، وهو حجة الإسلام، فيجب أن يرجع الخبر إليه. ولأنه وقف بعرفة في زمانه في إحرام صحيح، وهو كامل، فوجب أن يدرك به حجة الإسلام. دليله: إذا أسلم، وهو حر بالغ. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الإحرام حصل في حال الحرية، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه حصل في حال الرِّق. قيل له: يجوز أن ينعقد الإحرام على سبيل المراعاة، فإذا كمل في حال الوقوف يكون فرضه، ويكون بمنزلة ما لو أحرم بالفرض.

ويبين صحة هذا: أنه ينعقد موقوفاً على الوقوف والإدراك والفوات، فجاز أن يكون موقوفاً على إدراك حجة الإسلام، وعلى التطوع. وإن شئت قلت: أتى بأفعال إحرامه على كمال حاله، فوجب أن يجزئ عن حجة الإسلام قياساً على ما ذكرنا. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه أتى بالإحرام وأعماله في حال الكمال. قيل له: قد بينا: أن الإحرام يقع مُراعي موقوفاً على الوقوف على ما بينا. فإن قيل: جاز أن يقال: يقع مراعى، فيجب أن نقول: إذا أعتق بعد الوقوف أو بعد الفراغ: أن يجزئه، ويكون مراعى. قيل له: [....]. واحتج المخالف بأن هذه حجة أُديت بإحرام حصل في حال الرِّقِّ، فوجب أن لا تُجزئ عن حجة الإسلام. دليله: إذا أعتق بعد الوقوف. والجواب: أن المعنى في الأصل: أن الأفعال وُجدت في حال النقص، وليس كذلك هاهنا؛ لأنها وُجدت في حال الكمال، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج بأن إحرامه في الابتداء لم يقع بحجة الإسلام بدلالة أنه لو

مضى فيه لم يجزئه عنها، فلم يجز له أن يبني عليه حجة الإسلام، كما لو أحرم بعمرة لم يجز أن يؤدي به حجة الإسلام. والجواب: أنا قد بينا: أنه يقع مراعى في الوقوف: فإن وقف كاملاً كان الإحرام عن فرضه. فإن وقف كاملاً كان الإحران عن فرضه. وإن وقف ناقصاً كان عن تطوعه. وقد يكون الإحرام مراعى بين الحج والعمرة، وهو إذا نوى الإحرام؛ فإنه ينعقد، ويصرفه إلى أيهما شاء. وعلى أن الحج والعمرة عبادتان مختلفتان، فلا يجوز أن ينعقد بإحداهما وينصرف إلى الأخرى، وليس كذلك الفرض والتطوع، ألا ترى أن الصلاة لا يجوز أن تنعقد بالظهر، ثم تنصرف إلى العصر، ولا بالعصر ثم تنصرف إلى الظهر، ويجوز أن يصلي في أول الوقت، ثم تنصرف في آخر الوقت إلى الفرض. والجواب: أن الصلاة والصوم يقعان على سبيل المراعاة عندنا في الصبي، وعند أبي حنيفة في الصلاة في أول الوقت؛ فإنها تقع مراعاة: فإن بقى على شرط التكليف إلى آخر الوقت كانت عن فرضه. وإن زال شرط التكليف قبله كانت تطوعاً.

مسألة إذا أحرم العبد بإذن سيده لم يكن له أن يحلله، وكذلك الأمة

وإذا كفر المرتد بالمال كان موقوفاً، فإن أسلم، أجزأه عن فرضه. وعلى أن الصلاة تفتقر إلى تعيين النية، ألا ترى أنه لو أطلق النية لم تصح؟ والحج لا يفتقر إلى تعيين النية، ألا ترى أنه يصح أن يطلق النِّية؟ * ... * ... * 145 - مسألة إذا أحرم العبد بإذن سيده لم يكن له أن يُحلله، وكذلك الأمة: وقد أومأ إليه أحمد في رواية عبد الله وإسحاق بن إبراهيم، ويأتي شرح كلامه فيما بعد. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز له تحليله. دليلنا: أنه عقد لازم، فإذا وقع بإذن المولى لم يكن له أن يفسخه. دليله: النكاح. فإن قيل: العبد يملك البُضع بعقد النكاح، ألا ترى أن بدله، وهو المهر، يلزمه؟ وإذا ملكه لم يجز لغيره أن يفسخه، وإن كان الملك قد حصل له بإذن الغير، كالصغير إذا زوجه أبوه، وتزوج هو بإذن الأب،

وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لا يملك منافعه بالإذن بأمره. ولأنه غير جائز أن يثبت له حق على مولاه على جهة الاستحقاق، ألا ترى أنه لا يثبت عليه دين لهذه العلة؟ فإذا كان كذلك، صار إذنه له في الإحرام بمنزلة العارية، وللمُعير أن يرجع في عاريته أي وقت شاء. قيل له: ليس هذا بإعارة، وإنما هو إسقاط حق؛ لأن العبد ممنوع من عقد الإحرام وعقد النكاح لحق سيده، فإذا أذن له فيه، فقد أسقط حقه عنه، ولزمه عقد الإحرام لحق الله تعالى، كما يلزم الحر الذي لا حق لأحد عليه. يبين صحة هذا: أنه لو كان بمنزلة المعير لوجب إذا رضى به السيد أن يكون للعبد فسخه؛ لأنه يجوز للمستعير أن يرجع في العارية، كما يجوز للمعير، فلما لم يجز للعبد فسخه، ولا يكون بمنزلة المستعير، كذلك السيد لا يجوز فسخه، ولا يكون بمنزلة المعير. وقياس آخر، وهو: أنه عقد لازم لو لم يأذن لكان له أن يفسخه، وإذا أذن لم يكن له أن يفسخه، كالزوج إذا أذن له لزوجته في حجة التطوع. فإن قيل: الزوجة تملك منافعها بالإذن، كما تملك سائر الأشياء إذا ملكتها، فلم يكن له أن يرجع فيها، كما لو ملكها شيئاً لم يكن له

مسألة فإذا أحرم العبد بغير إذن سيده انعقد إحرامه، وكذلك الزوجة إذا أحرمت بحجة التطوع بغير إذن الزوج

أن يرجع فيه، وليس كذلك العبد؛ فإنه يملك من الوجه الذي ذكرنا. قيل له: قد أجبنا على هذا في السؤال الذي قبله. واحتج المخالف: بأن إذنه في الإحرام لا يوجب استحقاق منافعه عليه؛ لأنه لا يجوز أن يثبت له على مولاه حق، فصار بمنزلة العارية، وللمعير أن يرجع في ذلك. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج المخالف بأن السيد إذا باع العبد كان للمشترى تحليله منه، فوجب أن يكون ذلك للبائع؛ لأن المشتري يملكه على الوجه الذي كان للبائع مالكاً له. والجواب: أنه لا يملك تحليله، كما لا يملك البائع، بل ننظر فيه: فإن علم المشتري أنه محرم لم يكن له فسخ البيع، ولزمه تركه حتى يحج. وإن لم يكن علم كان له ردُّه بالعيب، وإن لم يكن له تحليله. * ... * ... * 146 - مسألة فإذا أحرم العبد بغير إذن سيده انعقد إحرامه، وكذلك الزوجة إذا أحرمت بحجة التطوع بغير إذن الزوج: وهل يجوز للزوج والسيد أن يحلله من الإحرام؟ على روايتين:

إحديهما: يجوز ذلك. قال في رواية عبد الله في مملوك لرجل قال: إذا دخل أول يوم من رمضان، فامرأته طالق ثلاثاً إن لم يُحرم أول يوم من رمضان: يحرك أول يوم ولا تطلق امرأته. قيل له: فيمنعه سيده أن يخرج إلى مكة؟ قال: لا يعجبني أن يمنعه أن يخرج. فقد حكم بصحة الإحرام بغير إذنه، ولم يستحب أن يحلله؛ لأنه قال: لا يعجبني أن يمنعه، وظاهر هذا على طريق الاختيار، وهو اختيار شيخنا، وهو قول أكثر الفقهاء. وفيه رواية أخرى: لا يجوز أن يحلله. وهو ظاهر كلامه في رواية إسحاق بن إبراهيم في مملوك لرجل قال: إذا دخل أول يوم من رمضان فامرأته طالق ثلاثاً إن لم يُحرم. فقال: يُحرم، ولا تطلق امرأته. قيل له: فإن منعه سيده أن يخرج؟ قال: ليس له أن يمنعه أن يمضي إلى مكة إذا علم منه رُشداً. وقال -أيضاً- في موضع آخر من "مسائل ابن هانئ" في المرأة تحلف بالحج والصوم، ولها زوج؛ هل لها أن تصوم بغير إذنه؟ قال: نعم، فما تصنع وقد ابتليت، وابتلى زوجها، وقد أوجبت على نفسها؟ وقال في رواية ابن منصور امرأة أهلت بالحج، وزوجها كاره، قال: لا ينبغي أن يمنعها، وإن كانت على وجه اليمين، فعليها كفارة. وقال في موضع آخر من "مسائله" في امرأة أرادها زوجها، فلبت

بحج، أو عمرة: وجب عليها ما لبت. فقد صرح بأنه لا يجوز له أن يحلله، وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، ذكره في كتاب "الخلاف". وقال داود: لا ينعقد الإحرام من أصله. فالدلالة على أنه ينعقد في الجملة: ما روى أبو بكر بإسناده عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "إذا حج المملوك أجزأ عنه حجة المملوك، فإن أعتق فعليه حجة الإسلام، وكذلك الأعرابي والصبي مثل هذه القصة، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين". فوجه الدلالة: أنه أثبت له حجاً صحيحاً، ولم يُفصل بين أن يكون بإذن سيده، أو بغيره. ولأن الحج من العبادات المحضة، فوجب أن ينعقد بغير إذن سيده، كالصلاة والصيام. وإن شئت قلت: كل عبادة يصح إحرام العبد بها بإذن السيد صح إحرامه بغير إذنه. دليله: ما ذكرناه. ولأنه مكلف، فصح إحرامه بالحج على الإطلاق، كالحر. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "كل عمل ليس عليه

أمرنا فهو رد"، وإحرامه بغير إذن سيده ممنوع منه، فوجب رده. والجواب: أنه محمول على غير الحج بما ذكرنا. واحتج بأنه محجور عليه، أشبه الصبي والمجنون. والجواب: أنه يبطل بالمحجور عليه لسفه، أو فلس. ثم المعنى في الصبي والمجنون عدم التكليف، وهذا مكلف. واحتج بأنه عقد من العقود فلهذا لم يصح من العبد؛ ليقف على إجازة السيد، كالنكاح. والجواب: أن النكاح لا يصح موقوفاً، فلهذا لم يصح من العبد؛ ليقف على إجازة السيد، والإحرام يصح موقوفاً على إجازة السيد. والدلالة على أن للسيد أن يحلله: أن السيد تملك رقبته، ومتى مضى على إحرامه عطل حق السيد، وكان له منفعة. ولأن الحر إذا حُصر بغير حق كان له أن يتحلل، فلأن يتحلل العبد بالقهر الواجب أولى وأحرى. واحتج من قال: (ليس له تحليله) بأنه إحرام انعقد صحيحاً، فلم يملك تحليله. دليله: لو أذن له في ذلك.

والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الإذن بعدمه في الإحرام، كما لم يجز ذلك في عقد النكاح والبيع وغيره من العقود. ولأنه إذا أذن له فقد رضى بإسقاط حقه من المنفعة. واحتج بأن الحج عبادة، فأشبه الصلاة والصيام. والجواب: أنه يملك تحليله من ذلك إذا كان نفلاً، كما يملك في الحج. واحتج بأن الحج يلزم بالدخول فيه، كما تلزم حجة الفرض ابتداء بالشرع، ثم ثبت أنه لا يملك تحليله في عبادة واجبة، كالصوم والصلاة الفرضين، كذلك هاهنا. والجواب: أن الصوم والصلاة وجبا بأصل الشرع، فلهذا لم يملك تحليله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه وجب بسبب من جهته يقصد به إسقاط حق سيده، فملك تحليله، كالبيع ونحوه. وتأملت كلام أحمد، فرأيت أكثره يدل على أنه يملك تحليله، وتكون الدلالة على ذلك: عموم قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وقوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، وهذا اسم عام. ولأنا قد حكمنا بصحة الإحرام، وإذا صح تعلق به حق الله تعالى، كالحر إذا أحرم بحجة التطوع تعلق بها حق الله، وقد تعلق بمنافعه حق

السيد، فلو قلنا: (له أن يحلله) غلبنا حق السيد على حق الله تعالى، وهذا لا يجوز، ألا ترى أن العدة لما تعلق بها حق الله وحق الزوج، وكان المغلب فيها حق الله، فلو أسقطها الزوج لم تسقط؟ وكذلك القتل في المحاربة المغلب فيه حق الله تعالى، فلو عفا الولي لم يسقط قتله. ولأنها عبادة تلزم بالدخول فيها، فإذا عقدها بغير إذن سيده لم يملك فسخها. دليله: الإيمان. [ولا يلزم عليه الدخول في النوافل] من صلاة التطوع وصوم التطوع أن له أن يحلله؛ لأنه لا يلزم بالدخول فيه. وما ذكروه من أن مُضيه في الحج تعطيل لحق سيده من منافعه، فلا يمتنع مثل هذا، كالسيد إذا كان ذمياً، وله عبد ذِمِّيُّ، أسلم العبد الذمي؛ فإن إسلامه يوجب قطع استدامة ملك السيد عليه، ويُؤمر بإزالته، ومع هذا فليس له فسخ الإسلام عليه. وكذلك لو كان السيد مسلماً، وله عبد ذمي، فأسلم، لم يملك فسخ الإسلام عليه، وإن كان -على قول بعضهم- فيه ضرر، وهو نقصان قيمته. وما ذكروه من ان الحصر بغير حق يثبت التحلل، فأولى أن يثبت بحق، فلا نسلم أن هاهنا حصر ثابت؛ لأنا قد بينا: أنه ليس للسيد أن

مسألة فإن أحرمت المرأة بحجة الإسلام لم يجز لزوجها أن يحللها رواية واحدة

يحلله، فإذا تعدى وصده عن البيت جرى مجرى حصر العدو. * ... * ... * 147 - مسألة فإن أحرمت المرأة بحجة الإسلام لم يجز لزوجها أن يُحللها رواية واحدة: نص عليه في رواية صالح في امرأة تريد الحج الفرض مع ابنها: فليس لزوجها أن يمنعها، ولا تخرج إلا بإذنه. وكذلك نقل أبو طالب عنه قال: ليس له أن يمنعها من الفرض. وهو قول أبي حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: له أن يحللها. دليلنا: قوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]. وتحليلها يمنع وجوب الإتمام عليها، وذلك خلاف مقتضى الظاهر. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]؛ يعني: فإن منعتم، ولم يفرق بين أن يكون المنع من جهة الزوج، أو من جهة غيره. قيل له: قد حكينا عن أهل اللغة، وأن منهم من قال: أحصره

المرض، وحصره العدو، ومنهم من قال: أحصرتم يصلح لهما، ولم يقل واحد منهم: إنه يستعمل في الزوج. ولأن الحج عبادة مفروضة، فلا يجوز للزوج أن يمنعها من أدائها، كالصلاة والصيام. ولا تلزم عليه المنذورة؛ فإن الحكم فيها كالحكم في المفروضة بأصل الشرع، وقد حكينا كلام أحمد في ذلك. فإن قيل: ليس في اشتغالها بالصلاة إبطال حق الزوج؛ لأنها لا تمتد، ولا تطول، وفي اشتغالها بالحج إبطال حق الزوج؛ لأنه يمتد في الوقت، ويطول بقاؤها على الإحرام. قيل له: فأفرق بين هذا المعنى، بين صلاة التطوع وصوم التطوع، وبين حج التطوع. وعلى أن وق الحج لأهل مكة يقصر، ومع هذا تحتاج إلى الإذن عندكم. فإن قيل: الصلاة تجب عليه، كما تجب عليها، فالوقت لهما واحد، فلا يستضر بتشاغلها فيه. قيل له: قد تختار أن تصلي في أول الوقت، فلا يمنعها، وإن لم يتعين عليه الصلاة فيه. على أن استضراره في ما كان حقاً عليه غير مُعتبر بدليل

حبسها في الدين. واحتج المخالف بما روى عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في امرأة لها مال، ولها زوج، ولا يأذن لها الزوج في الحج: "ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها". والجواب: أن هذا الحديث، إن كان صحيحاً، فهو محمول على وجه التطوع بدلالة ما قدمنا. فإن قيل: شرط المال يدل على أن المراد الحج الواجب؛ لأن المال شرط فيه، وليس بشرط في التطوع. ولأن الحج معرف بالألف واللام، فرجع إلى حجة الإسلام؛ لأن التعريف يرجع إلى المعهود. قيل له: الحجة المنذورة يُشترط فيها المال، وهي معرفة، فالخبر محمول عليها على إحدى الروايتين. على أنه ليس في قوله: "لها مال" ما يدل على أن المراد به الفرض؛ لأن المال عون على كل حج النفل، كما هو عون على حج الفرض، فلا يمتنع أن يكون السؤال عن النفل خرج. وقولهم: (ليس يأذن لها في الحج) لا يختص الفرض؛ لأن الألف واللام للجنس، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "ليس لها أن تُصلي إلا بإذن

زوجها" لا يختص الفرض دون النفل. واحتج بأنه نوع ملك يتعلق به وجوب النفقة، فوجب أن يستحق به المنع من الحج. دليله: ملك اليمين. يبين صحة الجمع: ما روي عن عائشة أنها قالت: النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته؟ والجواب: أن العبد يشتغل بالتطوع عن خدمة المولى، فنظيره من المرأة أن تحرم بحجة التطوع، فيجوز للزوج أن يحللها، فأما إذ أحرمت بحجة الإسلام، فإنما اشتغلت بأداء الفرض، فهي كالعبد إذا اشتغل بأداء الظهر والعصر. فإن قيل: فالعبد إذا أحرم وجب عليه الحج بالإحرام، ومع هذا فله منعه. قيل له: قد حكينا في ذلك روايتين: إحداهما: ليس له منعه. فعلى هذا: لا نسلم ذلك، ويجب أن تكون هذه الرواية هي الأشبه؛ لأنه قد نص على أن المرأة إذا نذرت لم يكن له منعها، والدخول في الحج من جهته كالنذر.

والثانية: له منعه، وكذلك في المنذورة؛ لأن الإيجاب هناك من جهة العبد وجهة المرأة، فلم تملك إسقاط حق الزوج، وفي مسألتنا الإيجاب من جهة الله، فهو كالصلاة والصيام. واحتج بأنها حجة واجبة، فكان لزوجها منعها من الخروج لها، كالمنذورة. والجواب: أنه ليس له المنع من المنذورة، وقد حكينا كلام أحمد في رواية ابن إبراهيم في المرأة تخلف بالحج والصوم، ويريد زوجها منعها، فقال: ليس له ذلك، قد ابتليت وابتلى زوجها. يعني بقوله: حلفت: نذرت، مع أن النذر وجوبه من جهته، فهو أخف، وما اختلفنا فيه وجوبه بأصل الشرع، فهو آكد. ويتخرج في رواية أخرى له المنع بناءً على الرواية التي أجاز له تحليل العبد من الحج، وكان المعنى في النذر ما ذكرنا. واحتج بأن حق الزوج مُضيق يتجدد حالاً فحالاً، والحج موسع؛ لأنه على التراخي، والحقان إذا اجتمعا، ولم يكن بد من تقديم أحدهما وجت تقديم المُضيق منهما إذا كان في تأخيره ضرر على المستحق، ألا ترى أن العبد إذا أحرم بغير إذن المولى كان له أن يحلله لهذا المعنى؟ والجواب: أن الحج غير موسع عندنا، فلا يلزمنا ما ذكره.

مسألة إذا اشترى الرجل جارية محرمة، وقد كان البائع أذن لها في الإحرام، لم يكن للمشتري أن يحللها

فإن قيل: فتصور المسألة في امرأةنذرت أن تحج: أنها تؤديه متى شاءت، والخلاف فيه كالخلاف في حجة الإسلام. قيل له: لا يمتنع أن نقول: له أن يحللها، كما يحللها في حجة التطوع. على أن وقت الصلاة في أول الوقت موسع، ومع هذا فلا يُعتبر إذن الزوج فيه، والحج في السنة التي تغلب على ظنها أنها تعجز، فإن الحج مضيق عندكم، ويحتاج إلى إذن الزوج فيه، فلم يصح ما قاله. * ... * ... * 148 - مسألة إذا اشترى الرجل جارية مُحرمة، وقد كان البائع أذن لها في الإحرام، لم يكن للمشتري أن يحللها: نص على هذا في رواية الحارث في رجل اشترى جارية محرمة، فهل له أن يطأها؟ فقال: وكيف يطؤها وهي محرمة؟! هذه أذن لها مولاها بالإحرام، وباعها وهي محرمة، يعلم بها المشتري، ثم قال: ما تقول في رجل زوج جارية له، ثم باعها، وعلم المشتري أن لها زوجاً، هل له أن يطأها؟ هذه مثلها، قد أحرمت بإذن سيدها، ليس له أن يطأها حتى تقضي حجها. نقلتها من كتاب النجاد. وقال أبو حنيفة: له أن يحللها.

مسألة في العبد يدخل مكة مع مولاه بغير إحرام، ثم يأذن له مولاه، أو يعتقه، فيحرم، والصبي يدخل مكة بغير إحرام، ثم يبلغ، أو يأذن له وليه، فيحرم، فلا دم عليهما

دليلنا: أن الإحرام عقد لازم، فأشبه عقد النكاح، ولا خلاف أنه ليس للمشتري أن يفسخ النكاح، كذلك الإحرام. واحتج المخالف بأن إذن البائع لا يوجب استحقاق منافعها عليه، وأن له أن يحللها، فإذا باعها انتقل إلى المشتري جميع ما كان للبائع منها، فلما ثبت للبائع ذلك، ثبت كذلك للمشتري. والجواب: أنا لا نسلم لك هذا، وقد ثبت أن البائع لا يجوز أن يحللها، فالمشتري مثله. * ... * ... * 149 - مسألة في العبد يدخل مكة مع مولاه بغير إحرام، ثم يأذن له مولاه، أو يعتقه، فيحرم، والصبي يدخل مكة بغير إحرام، ثم يبلغ، أو يأذن له وليه، فيحرم، فلا دم عليهما: نص عليه في رواية ابن منصور: وذكر له قول سفيان في مملوك جاوز المواقيت بغير إحرام، منعه مواليه أن يحرم حتى وقف بعرفة، قال: يحرم مكانه، وليس عليه دم؛ لأن سيده منعه. قال أحمد: جيد، حديث أبي رجاء، عن ابن عباس. وقال أبو حنيفة في العبد: عليه دم، وفي الصبي: لا دم عليه.

وللشافعي قولان في العبد والصبي. دليلنا: أن العبد والصبي لم يلزمهما الإحرام من الميقات؛ لأن العبد لا يملك منافع نفسه، وللسيد منعه، وكذلك الصبي لا يملك الإحرام بنفسه، فإذا أخر ما بعد ذلك لم يلزمهما دم، كالمجنون. ولهذا نقول: لو أذن لهما الولي في الإحرام من الميقات، فلم يحرما، لزمهما دم. ولأن سبب وجوب العبادة حصل بعد البلوع، فلم يلزمه بترك الفعل شيء، كما لو وجد الزاد والراحلة. ولأن الحج وجب عليه بمكة، فصار كأهلها. ونخص أبا حنيفة بأن العبد مولى، فإذا منعه الولي من الإحرام، ثم أحرم بعده، لم يلزمه دم، كالصبي. فإن قيل: الصبي يصح منه الإحرام، وليس كذلك العبد؛ لأنه لا يصح منه. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل عندنا يصح إحرامه. واحتج المخالف بأنه ممن تصح منه العبادات، أو ممن يصح منه الإحرام في الحال، فوجب أن يلزمه لتركه في الوقت دم، كالحر. والجواب: أن الحر يلزمه الإحرام من الميقات، ومع هذا لا يلزمه. * ... * ... *

مسألة في نصراني دخل مكة، فأسلم، ثم أحرم منها، فعليه دم لترك الميقات في أصح الروايتين

150 - مسألة في نصراني دخل مكة، فأسلم، ثم أحرم منها، فعليه دم لترك الميقات في أصح الروايتين: نص عليها في رواية أبي طالب في نصراني أسلم بمكة: يخرج إلى الميقات، فيحرم، فإن خشى الفوات أحرم من مكة، وعليه دم. وبه قال الشافعي. وفي رواية أخرى: لا شيء عليه، أومأ إليها في رواية حنبل في الذمي يسلم بمكة، ويحرم من مكة، أو من موضع أسلم؟ وكذلك نقل ابن منصور عنه في نصراني أسلم بمكة، ثم أراد أن يحج: هو بمنزلة من وُلد. وظاهر هذا: أنه لا يلزمه الإحرام من الوقت، ولا دم عليه، وقد ذكرها أبو بكر على روايتين. وبهذا قال أبو حنيفة. وجه الرواية الأولى: أنه حر بالغ عاقل لا يتكرر دخوله إلى مكة، فإذا دخلها لغير قتال، وأحرم دون الميقات، لزمه دم.

دليله: المسلم. فإن قيل: المسلم لو أحرم من الميقات صح إحرامه، فإذا تركه لزمه دم، وليس كذلك الذمي؛ فإنه لو أحرم من الوقت لم يصح إحرامه، فلا يلزمه دم، كالمجنون. قيل: إلا أنه يمكنه أن يسلم، ويحرم، فإذا لم يفعل مع التمكن وجب الدم، وكان بمنزلة المسلم إذا ترك الإحرام من الميقات. يبين صحة هذا: أن من ترك الصلاة حتى فات وقتها، وهو محدث، كان منزلة من ترك الصلاة، وهو متطهر؛ لأنه كان متمكناً من ذلك، كذلك هاهنا. وأما المجنون فلم يتمكن من إزالة المانع من الإحرام، وليس كذلك الكافر؛ لأنه متمكن من إزالته، فلهذا لزمه الدم؟ واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "الإسلام يجُب ما قبله". والجواب: أن الدم يتحدد وجوبه بعد الإسلام، فلا يسقط الإسلام؛ لأنه إنما يجب إذا أحرم من سنته من غير الميقات، وهذا السبب حدث بعد إسلامه، فلم يكن في الخبر حجة.

مسألة من أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كالتجارة ونحوها، لزمه دخولها بإحرام، سواء كان منزله الميقات، أو وراء الميقات إلينا، أو إلى مكة

واحتج بأنه لا يصح منه الإحرام، فلم يلزمه دم بترك الوقت، كالمجنون. والجواب عنه": ما تقدم. * ... * ... * 151 - مسألة من أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كالتجارة ونحوها، لزمه دخولها بإحرام، سواء كان منزله الميقات، أو وراء الميقات إلينا، أو إلى مكة: وقد نص على هذا في مواضع: فقال في رواية ابن منصور: لا يدخلها أحد إلا بإحرام. وقال في رواية ابن إبراهيم: وقد سئل عن رجل أراد أن يدخل مكة بتجارة: أيجوز أن يدخلها بغير إحرام؟ قال: لا يدخل مكة إلا بالإحرام، ويطوف، ويسعى ويحلف، ثم يحل. وقال في رواية ابن القاسم وسندي: قد رُخِّص للحطابين والرعاء، ونحن هؤلاء، وقد رجع ابن عمر من بعض الطريق، فدخلها بغير إحرام،

فقيل له: إنهم يقولون ابن عمر لم يكن بلغ الميقات، فمن أجل ذلك دخل بغير إحرام، فقال: الميقات وغيره سواء. وإنما رجع لاضطراب الناس والفتنة، فدخل كما هو. وكان ابن عباس يشدد في ذلك، فقيل له: فالنبي صلى الله عليه وسلّم دخلها يوم الفتح بغير إحرام، فقال: ذلك من أجل الحرب. وهذا يدخل مع فعل ابن عمر. فقد نص على ما ذكرنا. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: إن كان وراء الميقات إلينا لم يجز دخولها بغير إحرام لقتال أو غيره، وإن كان من أهل الميقات، أو كان من رواء الميقات إلى مكة، لم يلزمه دخولها بإحرام. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: يجوز دخولها بغير إحرام إذا لم يكن مُريداً للنسك. وقد أومأ أحمد إلى مثل هذا في رواية الأثرم والمروذي: لا يعجبني أن يدخل مكة تاجر ولا غيره إلا بإحرام تعظيماً للحرم، وقد دخلها ابن عمر بغير إحرام. وظاهر هذا: أنه على طريق الاختيار، والمذهب على ما حكينا.

والدلالة عليه: ما روى أبو شريح الكعبي: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال يوم فتح مكة حين دخلها، وعلى رأسه عمامة سوداء: "إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا لأحد بعدي، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار". فلا يخلو إما أن يكون أراد به القتال، أو دخولها بغير إحرام، فلما اتفق الجميع على جواز القتال فيها متى عرض مثل ذلك الحال، علمنا أن التخصيص وقع لدخولها بغير إحرام. فإن قيل: إنما أراد به القتال، ولهذا دخلها بأُهبة الحرب وعُدتها؛ لأنه كان لا يأمن الغدر والنَّكث. قيل له: قد بينا جواز القتال فيها لغيره متى عرض مثل تلك الحال، فعلمنا أن التخصيص وقع لدخولها بغير إحرام. وقد ورى بعض من نصر هذه المسألة: عن خُصيف، عن سعيد ابن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم، إلا من كان أهله دون الميقات". وروى أبو حفص في كتابه بإسناده عن مجاهد وطاوس قالا: ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم قط -هو ولأصحابه- إلا وهم محرمون. وأفعال النبي صلى الله عليه وسلّم تقتضي الوجوب. ولأن كل من لا يتكرر دخوله إلى مكة إذا دخلها لغير قتال، وهو

من أهل فرض الحج، لزمه الإحرام. دليله: لو دخلها مريداً للنسك. وفيه احتراز من دخولها لقتال، ومن يتكرر دخوله كالحطابة والرعاء، ومن العبد والصبي والمجنون. فإن قيل: إذا كان مريداً للنسك فإن الميقات موضع للنسك، وهو الإحرام، فلم يجز أن يتجاوز بغير فعله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه غير مريد للنسك، فلم يتعين عليه فعل الإحرام فيه. قيل له: إذا أراد دخولها فقد أراد النُّسك في محله، فيجب أن يأتي به. ولأن كل معنى إذا فعله المريد للنسك أوجب دماً، جاز أن يوجبه إذا لم يرده. دليله: قتل صيد الحرم. ولأنه لو نذر المشي إلى بيت الله، أو نذر دخول مكة، لزمه أن يدخلها بأحد النُّسكين، فلولا أن إحرامه نسك يختص بدخولها، لم يُوجب عليه غير ما نذره. ولأنها تختص بأشياء منها: وجوب الجزاء على قاتل الصيد، والتحلل من الإحرام بها، واختصاصها بالهدايا. واحتج المخالف بما روى ابن عباس: أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله! الحج في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: "بل، مرة واحدة،

وما زاد فهو تطوع". وروي أن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله! أعمرتنا هذه لعامنا، أم للأبد؟ فقال: "بل للأبد". فدل على أن الحج والعمرة بعد أدائهما مرة تطوع، وإذا كان تطوعاً لم يلزمه. والجواب: أنا لا نوجب عليه حجة أخرى، بل نقول: إذا أراد دخولها لا يدخلها إلا محرماً، ومتى دخلها على هذه الصفة كان تطوعاً، كما نقول: إذا أراد أن يصلي يتطهر ويكبر ويقرأ، ومتى فعل ذلك كان متطوعاً، ولهذا نقول: لا فرق بين أن يدخلها بحج، أو عمرة. ولأن الخبر تضمن ما وجب بإيجاب الله تعالى، وكلامنا فيما وجب من جهة المكلف، ولهذا لم يدخل النذر تحته. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "هذه المواقيت لأهلها، ولكل آتٍ عليها من غير أهلها ممن أراد حجة، أو عمرة". فظاهر هذا: أن من مر على الميقات غير مريد للحج والعمرة لم يلزمه الإحرام بحال. والجواب: أن الخبر قُصد به بيان حد المواقيت التي يجب الإحرام

منها، ولم يُقصد به بيان من أراد الجواز عليها؛ هل يلزمه الإحرام، أم لا؟ وقوله: "ممَّن أراد حجاً، أو عمرة"؛ معناه: أنه يلزمه الإحرام بكل حال، ومن لا يريد النُّسك تارة يلزمه الإحرام إذا أراد دخول مكة، وتارة لا يلزمه إذا أراد مجاوزة الميقات إلى [....] وما قبله. ففائدة التخصيص لمن أراد النُّسك يرجع إلى هذا. ولأن قوله: "ممن أراد حجاً، أو عمرة"؛ معناه: من أراد مكان الحج والعمرة، وقد يُسمى مكان العبادة باسمها، كقوله تعالى: {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40] الآية. فإن قيل: هذا مجاز. قيل له: قوله: "من أراد الحج والعمرة" يقتضي شرط إرادتها، وذلك غير معتبر باتفاق، فكل منا ترك الظاهر من وجه. واحتج بما روي عن ابن عمر: أنه دخلها بغير إحرام. والجواب: أن هذا محمول على أنه دخلها بغير إحرام من الميقات، وهو أنه يجوز أن يكون قصد ما قبل الحرم، فلما حصل هناك قصد

مكة، فأحرم من ذلك الموضع. وعلى أنه يقابلها ما رواه الأثرم وغيره بإسناده عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم. واحتج بأنه دخل موضع النُّسك غير مريد للنسك، فلم يلزمه الإحرام، كما لو تكرر دخوله بأن يكون حطاباً، ودخلها لقتال. والجواب: أنا لو كلفنا هؤلاء الدُّخول إليها بإحرام مع تكرر ذلك منهم لأدى إلى مشقة عظيمة، وأن يبقوا على إحرامهم أبداً؛ لأنهم يدخلون ويخرجون في كل يوم، ولاستضر أهل مكة أيضاً؛ لأن مصالحهم متعلقة بهم، فصاروا مخصوصين بذلك. وأما دخولها لقتال [....]. واحتج بأن القربة المفعولة لحرمة المكان لا تجب بالشرع. دليله: تحية المسجد. والجواب: أنه باطل بتفرقة لحم الهدي في الحرم. على أنا لا نقول: إن دخول مكة يوجب الإحرام، بل نقول: لا يدخلها إلا محرماً أي إحرام كان، كما نقول: لا نصلي إلا بطهارة أي

طهارة كانت، فلو تظهر قبل الوقت للنفل، ثم دخل الوقت، جاز أن يصلي الفرض بتلك الطهارة. على أن تحية المسجد لم تجب؛ لأنها لا تختص بمسجد بعينه، فتلحق المشقة في إيجابها، فيجري حكمها مجرى الحطابة، وهذا بخلافه. ولأن تحية المسجد لا تجب إذا أراد الفريضة، والإحرام من الميقات يجب إذا أراد الحج. واحتج بأنه لو كان دخول مكة يوجب الإحرام، لوجب أن لا ينوب عنها الإحرام بحجة الإسلام، كما لو نذر حجة، لم تنب عنها حجة الإسلام. والجواب: أنا لا نقول: إن دخول مكة يوجب الإحرام، بل نقول: لا يدخلها إلا محرماً أي إحرام كان، كما نقول: لا نصلي إلا بطهارة أي طهارة كانت، فلو تطهر للنفل جاز أن يصلي به الفرض، كذلك هاهنا. وذكر بعضهم هذا الاستدلال بعبارة أخرى، فقال: لو كان واجباً لكان على من دخلها بحجة الإسلام وعمرته أن يقضيه؛ لأن الدخول إلى الحرم قد خلا عن الإحرام لسنته، وإنما دخلها لواجب سابق. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنا لا نقول: إن دخولها يوجب الإحرام، بل نقول: لا يدخلها إلا محرماً أي إحرام، كما لا يصلي إلا

متطهراً أي طهارة كانت. وأما أبو حنيفة فالدلالة عليه- وأن من كان منزله الميقات أو وراء الميقات إلى مكة: أنه لا يجوز له دخولها بغير إحرام-: ما تقدم من حديث شريح، وهو عام، وحديث ابن عباس، والقياس على من مكان منزله وراء الميقات إلينا بالعبارة التي تقدمت، وهو: أن من لا يتكرر دخوله، فإذا دخلها لغير قتال، وهو من أهل فرض الحج، لم يجز له دخولها بغير إحرام. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه يجتاز بالميقات، فلهذا لزمه الإحرام، وهذا لا يجتاز به. قيل له: قريته ميقاته، ولهذا لا يجوز أن يتجاوزها إذا أراد الإحرام إلا محرماً. وعلى أن الإحرام لتعظيم الحرم دون الميقات؛ لأنه إذا اجتاز بالميقات لدخول قرية في الحل لم يجب عليه الإحرام، فإذا كان دون الميقات، فأراد أن يدخل الحرم، استحب له أن يحرم، فدل على أنه لحرمة الحرم وتعظيمه وتشريفه، فإذا وجب على من كان منزلة وراء الميقات إلينا، وجب على من كان منزلة وراء الميقات إلى مكة. * ... * ... *

مسألة إذا جاوز الميقات غير محرم لزمه إحرام على وجه القضاء، فإن أدى به حجة الإسلام في سنته سقط عنه، وإن أخره إلى السنة الثانية لم تجزأه حجة الإسلام عنه، ولزمه حجة، أو عمرة

152 - مسألة إذا جاوز الميقات غير محرم لزمه إحرام على وجه القضاء، فإن أدى به حجة الإسلام في سنته سقط عنه، وإن أخره إلى السنة الثانية لم تجزأه حجة الإسلام عنه، ولزمه حجة، أو عمرة: أومأ إليه أحمد في رواية حرب في من قدم مكة من بلد بعيد تاجراً، فدخل مكة بغير إحرام: يرجع إلى الميقات، فيُهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج، وإن كان في أيام الحج أهل بحجة. وظاهر هذا: أنه أوجب عليه القضاء؛ لأنه مر بالرجوع والإحرام بحج أو عمرة على نحو ما كان يلزمه إذا دخلها. وقال في رواية أبي طالب في من دخل مكة بغير إحرام، وهو يريد الحج: فإن كان عليه وقت رجع إلى الميقات فأهل منه، ولا شيء عليه. وظاهر هذا: أنه لا شيء عليه من إحرام آخر. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال مالك، والشافعي على القول الذي قال: إن الإحرام من الميقات واجب: لا يلزمه شيء إذا تجاوزه ودخل. دليلنا: أنه إذا أراد دخولها لزمه أن يحرم، فإذت لم يفعل فقد ترك إحراماً لزمه، فعليه أن يأتي به، كما لو قال: لله عليَّ إحرام، وقد تركه؛

فإنه يلزمه الإتيان به. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الوجوب لا يسقط بحجة الإسلام. قيل: ليس إذا سقط الوجوب بفعل واجب آخر ما يدل على سقوط الوجوب، كما أن الطهارة واجبة لصلاة الفرض، فلو توضأ لصلاة جنازة، سقط بذلك ما وجب عليه، ولم يدل على أن الطهارة لم تكن وجبت. ولأنه إحرام واجب، فجاز أن يلزمه فعله بعد مضي وقته، كإحرام حجة الإسلام. واحتج المخالف بأنها قربة مفعولة لحرمة المكان، فوجب أن لا تُقضى، كتحية المسجد. والجواب: أن تحية المسجد ليست واجبة، فلم يجب قضاؤها، والإحرام في مسألتنا واجب، فإذا لم يفعله لم يسقط وجوبه. واحتج بأنه دخل على صفة لو حج من سنته لم يستقر عليه القضاء، كذلك وإن لم يحج من سنته. أصله: من يتكرر دخوله إلى مكة. والجواب: أنه يبطل بمن دخل مكة مُهلاً بحجة، ثم أفسدها. ولأنه إذا حج بعد فعل المأمور به، وإذا لم يحج فقد ترك المأمور به، وليس إذا لم يلزمه القضاء من أدى الفعل وجب أن يلزم من لم يفعل شيئاً. ولأن من يتكرر دخوله لا يلزمهم الإحرام؛ لأن مصالحهم متعلقة

بدخول مكة، وكذلك مصالح أهل مكة متعلقة بهم، ففي إيجاب الإحرام عليه إلحاق مشقة، وهذا المعنى لايوجد في غيرهم؛ لأن الإحرام يلزمهم من الميقات. واحتج بأن كل من لا يستقر عليه القضاء بدخول الحرم محلاً إذا كان ممن يتكرر عليه دخوله، كذلك إذا كان من غيرهم. دليله: إذا حج من سنته. والجواب: أنه إذا حج من سنته فقد فعل ما اقتضاه الأمر، وإذا أخر الحج فلم يفعل ما يقتضيه الأمر، وفرق بين الأمرين وإيجاب القضاء بدلالة أن من أحرم بحجة الإسلام، فأداها، سقط عنه مقتضى الأمر، ولو أفسدها لما لم يفعل مقتضى الأمر، استقر عليه القضاء. واحتج بأن الإحرام لا يجب عليه بالدخول بدليل أنه لو ورد ليدخل، وأقام في مكانه، أو انصرف إلى بلده، لم يجب عليه الإحرام، فثبت أنه يلزمه إذا أراد الدخول، فصار كالطهارة لصلاة النافلة. والجواب: أن وجوب الإحرام يتعلق بإرادة الدخول، فإذا تم الدخول وجب عليه، كما أن الدخول في الإحرام يتعلق بالإرادة، فإذا دخل وجب عليه بالدخول حتى إذا أفسد وجب عليه القضاء. واحتج بأنه لو وجب القضاء بترك الإحرام لأدى إلى إيجاب الإحرام إلى غير نهاية؛ لأنه كلما حضر الميقات لزمه إحرام، فوقع ما يفعله عن الحال دون الماضي، وهذا كما لو نذر أن يصوم أبداً، ثم أفطر، لم يلزمه

القضاء؛ لأن كل يوم مشغول بما وجب فيه من القضاء. والجواب: أن هذا غير صحيح؛ لأن عندنا إذا عاد إلى الميقات في سنة أخرى،÷ فأحرم، والذي يجب لحرمة الميقات أن لا يجاوزه إلى مكة محرماً، وليس عليه أن يأتي بإحرام للميقات، وإذا حضره أحرم بما عليه، لم يلزمه معنى آخر لمجاوزته الميقات، وهذا كما لو أحرم فيه بحجة الإسلام. ومثل هذا ما نقوله جميعاً في الإحرام: أنه يوجب الحج عندنا وعندهم، ولو أحرم بحجة الإسلام أو المنذورة صح، ولا يُقال: قد لزمه بالدخول إحرام، وحجة الإسلام لازمة بالشرع، فيؤدي إلى إيجاب ما لا نهاية. وقد قيل: إن له سبيلاً إلى القضاء من غير ما ذكروه، وهو أن يأتي بإحرام من مكة، فيسقط عن نفسه موجب ما لزمه، وهذا لا يخرج على أصلنا؛ لأن أحمد قال في رواية حرب: يرجع إلى الميقات، فيحرم بحجة، أو عمرة. واحتج بأن هذا أمر مؤقت، فسقط بفوات الوقت، والقضاء يجب بأمر آخر، فموجبه يحتاج إلى دليل. والجواب: أنا إذا اتفقنا أن مجاوزة الميقات توجب إحراماً آخر،

مسألة إذا أحرم بحجتين، أو عمرتين، لزمه إحرام واحد

فهو كمن قال: لله عليَّ الحج في هذه السنة؛ لأن الإيجاب تعلق بسبب من جهته، وقد اتفقنا على أن النذر المؤقت لا يسقط بفوات الوقت، كذلك هذا. على أن القضاء عندنا يجب بالأمر السابق. * ... * ... * 153 - مسألة إذا أحرم بحجتين، أو عمرتين، لزمه إحرام واحد: نص عليه في رواية أبي طالب وابن منصور في من أهل بحجتين: لا تلزمه إلا حجة. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه الإحرامان، ثم يرفض إحداهما، ويمضي في الأخرى، فإذا فرغ من هذه قضى الأخرى. وقال داود: يقع إحرامه باطلاً، ولا ينعقد بواحد منهما. فالدلالة على صحة الإحرام في الجملة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى". ولو خلينا والظاهر لقلنا: يصح إحرامه بهما؛ لأنه نواه، لكن قام

دليل الإجماع على إسقاط أحدهما، فبقى ما عداه على موجب الظاهر. ولأن الزمان يصلح للإحرام بحجة واحدة، فإذا أحرم بحجتين وجب أن يصح بما يصلح له الزمان، ويبطل فيما لا يصلح، كما لو عقد الإمام الهدنة زيادة على المدة صح فيما صح، وكذلك لو باع ملكه وملك غيره، وكذلك إذا أحرم بالحج في غير أشهره لم يصح عندهم بالحج، ويصح بالعمرة. واحتج المخالف بقوله صلى الله عليه وسلّم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"، وهو منهي عن الإحرام بحجتين. وإن قاسوا على الإحرام بالصلاتين، فالمعنى فيه ما نذكره فيما بعد، وهو اعتبار التعيين. والدلالة على أنه ينعقد بأحدهما: أنهما عبادتان لا يصح المضي فيهما بوجه، فلم يصح الإحرام بهما. دليله: الصلاتان. ولا يلزم عليه إذا أحرم بالحج والعمرة في يوم عرفة بالكوفة أن يصح إحرامه بهما، وإن لم يمكن المضي فيهما؛ لأنهما يمكن المضي

فيهما بوجه، وهو إذا كان بمكة، وإن لم يكن المضي فيهما في هذه الحال. وإن شئت قلت: عبادتان لا يصح المضي فيهما، ولا في شيء من أفعالهما بوجه، أشبه الصلاتين. ولا يلزم عليه إذا أحرم الكوفي بالحج والعمرة في يوم عرفة؛ فإنه يصح إحرامه بهما؛ لأنه يمكن المضي في أكثر أفعالهما؛ لأنه يطوف، ويسعى، ويحلق أو يقصر، وذلك من أفعال الحج والعمرة. فإن قيل: المعنى في الصلاتين: أنه لما لم يصح الجمع بينهما إذا كانا من جنسين، لم يصح إذا كانا من جنس واحد، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لما صح الجمع بينهما إذا كانا من جنسين، وهو الحج والعمرة، صح إذا كانا من جنس واحد؛ لأنه لو أحرم بصلاتين لم ينعقد بواحدة منهما، ولو أحرم بحجتين لزمه أحدهما، فدل على الفرق بينهما. قيل له: إنما لم يصح الإحرام بأحد الصلاتين، ووقع باطلاً فيهما، وإن اتفق الجنسان، أو اختلفا؛ لأن من شرط صحة الصلاة تعيين النية لها، فلو قلنا: تنعقد إحدى الصلاتين؛ لانعقدت بلا تعيين، وهذا لا يجوز، وليس كذلك الحج؛ فإنه ليس من شرطه تعيين النية، فجاز أن ينعقد بحجة واحدة، ويبطل في الأخرى؛ لأن الوقت يصلح لأحدهما.

فإن قيل: إذا نوى صلاة فريضة ونافلة، كان يجب أن ينعقد الإحرام بصلاة النافلة التي لا تفتقر إلى التعيين. قيل له: كذلك نقول: تحصل له نافلة. وجواب آخر عن أصل السؤال: وهو أنه ليس أنه إذا صح في إحديهما يجب أن يصح فيهما، كمن نوى صومين في يوم رمضان، صح لأحدهما عندهم، ولم يصح للآخر، وإذا نذر أن يحج في عام واحد حجتين، وجبت إحداهما، ولم تجب الأخرى. وعليه أنه ليس إذا لم يتناف الإحرام بهما في صحة أحدهما، يجب أن لا يتنافى في صحتهما معاً، ألا ترى أن المضي فيهما لا يتنافى في صحة أحدهما، ويتنافى في صحة المضي فيهما؟ أما الحج والعمرة فيأتي الكلام عليهما. وقياس آخر، وهو: أن الإحرام فعل من أفعال الحج، فلا يجوز أن يجمع به بين حجتين. أصله: الوقوف، والطواف، والسعي، والرمي. ولأن الحجة الثانية لو كانت منعقدة لم تنفسخ إلا بسبب طارئ بعد الانعقاد، كالفساد والفوات، ولم يحدث سبب يوجب الفسخ، فدل على أنها لا تنعقد. فإن قيل: أخذه في الطواف الذي لا يصلح لهما يوجب الفسخ قبل الطواف في موجب الإحرام، وفعل ما يقتضيه الإحرام ويوجبه،

لا يوجب فسخه. واحتج المخالف بأننا اتفقنا على جواز الجمع بين إحرام الحج والعمرة، والمعنى فيه: وجوب التلبية بهما مع النية، وهو ممن يصح منه الإحرام، وهذا المعنى موجود في إحرام الحجتين أو العمرتين. والجواب: أنه إنما صح الجمع بين إحرام الحج والعمرة؛ لأنه لا يمكنه المضي فيهما، فوجب أن لا يلزماه بإحرام واحد، كالصلاتين. فإن قيل: تعذر المضي فيهما لا يمنع لزومه، ألا ترى أنه لو أحرم بالكوفة يوم عرفة لزمه الإحرام، وإن لم يمكنه المضي فيه؟ وكذلك لو أحرم، وهو محصر، وكذلك إذا أحرم بشيء مجهول انعقد إحرامه للحج، ولا يمكنه المضي فيه، وكذلك إذا أحرم الماسح على الخفين بالصلاة، فمضى وقت المسح لم يمكنه المضي فيها، وإحرامه صحيح. قيل له: قد يستفيد بالإحرام في تلك المواضع فائدة، وهو أنه إذا فاته الحج تحلل بعمرة، وإذا أحرم بشيء مجهول عينه في الثاني، ومضى فيه، وإذا أحرم بالصلاة الماسح حصل له بعض أفعال العبادة، وهذا معدوم في مسألتنا؛ فإنه لا يستفيد بالحجة الثانية شيئاً. واحتج بأن الحج يلزم بالدخول كلزومه بالنذر، ثم النذر تلزم به حجتان وأكثر، كذلك الدخول؛ لأن كل واحد منهما سبب للوجوب. والجواب: أن الزاد والراحلة سبب للوجوب، ولا يجب به

مسألة يضيف الحج إلى العمرة، ولا يضيف العمرة إلى الحج، فإن فعل لم تنعقد العمرة على ظاهر كلام أحمد في مواضع

إلا حجة واحدة. وعلى أن الشروع لا يجب اعتباره بالنذر، ألا ترى أنه يصح أن ينذر صلوات كثيرة، ولا يصح أن يشرع في صلوات كثيرة. وعلى أن النذر هو التزام في الذمة، وهي تتسع لوجوب حج، وعمرة، وليس كذلك الإحرام؛ فإنه لا يصح إلا فيما يصلح له الوقت، والوقت لا يصح لحجتين، فلم يصح الشروع فيهما [....] أن ينذر حجتين في سنة واحدة، فتلزمه إحداهما؛ لأن الوقت لا يتسع لهما. * ... * ... * 154 - مسألة يضيف الحج إلى العمرة، ولا يضيف العمرة إلى الحج، فإن فعل لم تنعقد العمرة على ظاهر كلام أحمد في مواضع: فقال في رواية المروذي في من قدم يوم عرفة معتمراً، فخاف أن يفوته الحج: إن طاف أدخل الحج على العمرة، ويكون قارناً. قيل له: فيدخل العمرة على الحج؟ قال: لا. وكذلك نقل حنبل عنه: إذا أهل بعمرة، أضاف إليها الحج، وإذا أهل بالحج لم يضف إليه عمرة. وكذلك نقل الأثرم عنه: إذا أهل بعمرة أضاف إليها الحج،

ولا بأس، إنما الشأن في الذي يهل بالحج يضيف إليه عمرة، ثم قال علي: لو كنت بدأت بالعمرة. وكذلك نقل حرب عنه، وقد سأله عن من أهل بالحج، فأراد أن يضم إليها عمرة، فكرهه. وكذلك نقل أبو الحارث عنه قال: إذا أحرم بعمرة، فلا بأس أن يضيف العمرة إلى الحج، فإن فعل فقد أوتي وهو قارن. وبه قال مالك. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: مثل قول أبي حنيفة ومالك. دليلنا: ما احتج به أحمد، ورواه الأثرم في "مسائله" بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي نصر، عن أبيه قال: خرجت أريد الحج، فقلت: أمر بالمدينة، ثم خرجت، فأدركت علياً في الطريق، وهو يهل بعمرة وحجة، فقلت له: يا أبا الحسن! إنما خرجت من الكوفة؛ لأقتدي بك، وقد سبقتني فأهلك بالحج، أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه؟ قال: لا، إنما ذلك لو كنت أهللت بعمرة. فإن قيل: نحمل قوله على الكراهة، ونحن نكره ذلك.

قيل له: النهي يدل على فساد المنهي عنه، فوجب أن تكون العمرة فاسدة. وأيضاً فإن القارن يفعل ما يفعله على أصلنا، فإذا كان محرماً بالحج لم يستفد بإضافة العمرة إليه فائدة، وقد صارت هذه الأعمال مُستحقة عليه بالحج، ولا يجوز إسقاط عبادة أخرى بها، ولا يجوز استحقاقها بعقد مستأنف عليها. ألا ترى أن المنافع المستأجرة لا يجوز عقد الإجارة عليها؛ لأنها صارت مستحقة بالعقد الأول، ولا يجوز استحقاقها بعقد مستأنف، كذلك هاهنا. فإن قيل: لا نسلم لك هذا الأصل؛ لأن القارن عندنا يفعل ما يفعله المفرد بكل واحد منهما. قيل له: قد دللنا على هذا الأصل فيما تقدم، وهذه المسألة مبنية عليه. فإن قيل: فهذا لا يوجب أن لا يصح الجمع بينهما؛ لأنه لا يستفيد بالجمع بينهما شيئاً. قيل له: إذا عقد عليهما دفعة واحدة فقد صارت أعمال الحج التي مثلها في العمرة مستحقة بالحج والعمرة، وليس كذلك إذا عقد الحج مفرداً؛ فإن عمله قد صار مستحقاً به، فلا يصح عقد العمرة عليه، كما قلنا في الإجارة.

وأيضاً فإن الحج آكد من العمرة؛ لأنه متفق على وجوبه، والعمرة مختلف في وجوبها. ولأن كل ما في العمرة ففي الحج مثله، ويختص بأشياء زائدة، فلم يجز إدخال الضعيف على القوي، كما لا يجوز إدخال الفراش بملك اليمين على الفراش بالنكاح؛ لأن الفراش بالنكاح أقوى؛ لأنه يتعلق به الظهار، واللعان، والإيلاء، وغير ذلك مما لا يتعلق بالفراش بملك اليمين. واحتج المخالف بأنه لما جاز الجمع بينهما، كذلك إذا تقدم أحدهما، وتأخر الآخر، كما لو أحرم بعمرة، ثم أدخل عليها الحجة. والجواب: أنه إنما جاز الجمع بينهما؛ لأنه تصير أفعال الحج والعمرة مستحقاً بالإحرام، وليس كذلك إذا عقد الحج مفرداً؛ لأن عمله قد صار مستحقاً به، فلا يصح عقد العمرة عليه، كما قلنا في الإجارة. وأما إدخال الحج على العمرة فإنما جاز، لأنه إدخال القوي على الضعيف، وفي إدخال العمرة على الحج إدخال الضعيف على القوي، وهذا لا يجوز، كما يجوز إدخال فراش النكاح على فراش ملك اليمين، ولا يجوز إدخال فراش ملك اليمين على فراش النكاح؟ واحتج بأن كل شيئين صح الجمع بينهما في عقد واحد، جاز إدخال كل واحد منهما على الآخر، كالأختين، وعكسه نكاح الأختين. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أنه إنما جاز الجمع بينهما؛ لأنه

مسألة إذا أفسد الحج لم يخرج منه بالإفساد، بل يلزمه المضي في فاسده

تصير أفعالهما مستحقة بالإحرام، وليس كذلك في إدخال العمرة على الحج؛ لأن عمل الحج قد صار مستحقاً به، فلا يصح عقد العمرة عليه، ولا يشبه هذا نكاح الأختين؛ لأنه إذا عقد على أحديهما منفردة صح؛ لأنه لا يوجب استحقاق ما كان مستحقاً بعقد مستأنف، وهاهنا يوجب استحقاق ما كان مستحقاً بعقد مستأنف، وهاهنا يوجب استحقاق بعقد مستأنف، فهو كما لو استأجر داراً، لم يجز أن يعقد عليها عقداً مستأنفاً في مدة الإجارة، ويجوز أن يعقد على غيرها عقداً مستأنفاً للمعنى الذي ذكرنا. واحتج بأن الإحرام بالحج والعمرة لا يتنافيان بدلالة جواز الإحرام بهما معاً، وليس في إدخال العمرة على الحج أكثر من كونه منهياً عنه، وهذا لا يمنعن لزومه بدلالة الإحرام من الميقات؛ لأنه منهي عنه ويلزمه. والجواب: أن فيه ما هو أكثر من هذا، وهو استحقاق ما كان مستحقاً بعقد مستأنف، وذلك غير جائز. * ... * ... * 155 - مسألة إذا أفسد الحج لم يخرج منه بالإفساد، بل يلزمه المضي في فاسده: نص عليه في رواية عبد الله، وابن منصور، وأبي الحارث: فقال في رواية عبد الله: إذا وطئ، وهو محرم، ثم أصاب صيداً، عليه الجزاء، الإحرام قائم، يُؤمَر أن يتم حجه، ولا يحلق، ولا يصيد.

وفي رواية ابن منصور: إذا جامع، ثم أصاب صيداً، أو حلق، فالإحرام قائم، كلما أصاب من ذلك فعليه كفارة. وفي رواية أبي الحارث: إذا وطئ امرأته وهما محرمان، فسد حجه، يتم هذا، والإحرام قائم، وعليه الحج من قابل، فقيل له: أيهما حجة الفريضة التي أفسدها، أو التي قضى؟ قال: لا أدري. وبهذا قال جماعة الفقهاء. وحُكي عن داود: أنه قال: يخرج منه بالإفساد. دليلنا: قوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، ولم يفرق بين الفاسد والصحيح. وأيضاً روى أبو بكر النجاد في "سننه" قال: ثنا زكريا قال: ثنا أحمد بن سعيد قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً من حذام جامع امرأته وهما محرمان، فسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال لهما: "أتما حجكما، ثم ارجعا، وعليكما حجة أخرى من قابل، حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما، وتفرقا، ولا يُواكل واحد منكما صاحبه، ثم أتما مناسككما، وأهديا". وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.

ولأنه إجماع الصحابة. روى النجاد قال: حدثنا القعنبي، عن مالك: أنه بلغه: أن عمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة رضى الله عنه سُئِلُوا عن رجل أصاب أهله، وهو محرم بالحج، فقالوا: ينفذان لوجههما حتى يُتما حجهما، ثم عليهما الحج من قابل، والهدي. وروى بإسناده عن ابن عباس في رجل أصاب امرأته، وهو محرم: يمضيان لوجههما، ثم يحجان من قابل، ويحرمان من حيث أحرما، ويتفرقان، ويهديان جزوراً. ولأنه معنى يجب به قضاء الحج، ولم يخرج منه، كالفوات. واحتج المخالف بما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "كُلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو رد". والحج الفاسد ليس عليه أمره. والجواب: أن الذي ليس عليه أمره هو الوطء، وهو مردود، فأما الحج فهو مأمور به. واحتج بأن هذه عبادة، فخرج منها بالفساد، كالصوم وسائر العبادات. والجواب: أن تلك العبادات يخرج منها بقوله، وهو أن يقول:

مسألة إذا أفسد الحج بالوطء، وعادا للقضاء؛ فإنهما يتفرقان

أخرجت نفسي من هذه العبادة، فلهذا خرج منها بالإفساد، والحج لما يخرج منه بالقول، لم يخرج منه بالإفساد. * ... * ... * 156 - مسألة إذا أفسد الحج بالوطء، وعادا للقضاء؛ فإنهما يتفرقان: نص عليه في رواية الأثرم في الرجل يصيب امرأته، وهما محرمان: يتفرقان إذا أعادا الحج في النزول والمحمل والفسطاط، وما أشبه ذلك. وكذلك نقل ابن منصور عنه في الذي يصيب أهله مُهلاً بالحج: يحجان من قابل، ويتفرقان، وأرجو أن يجزئهما هدي واحد. فقد أطلق القول بالتفرق، قال شيخنا أبو عبد الله: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه واجب. والثاني: أنه مستحب. وقال مالك والشافعي: يتفرقان. واختلف أصحاب الشافعي: هل ذلك واجب، أم مستحب؟ على وجهين. وقال أبو حنيفة: لا يتفرقان في الجملة. والدلالة على التفرق في الجملة: ما تقدم من الحديث الذي رواه النجاد، وذكر فيه: "حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه، فأحرما،

وتفرقا، ولا يُواكل واحد منكما صاحبه". وهذا أمر فهو على الوجوب. ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس: فروى النجاد بإسناده عن مجاهد: وقد سئل عن الرجل يأتي امرأته، وهو محرم، قال: كان ذلك في عهد عمر بن الخطاب، فقال: يمضيان بحجهما، والله أعلم بحجهما، ثم يرجعان حلالاً كل واحد منهما بصاحبه، حتى إذا كان من قابل حجَّا، وأهديا، وتفرقا من حيث أصابا حتى ينقضي حجُّهما. وروى مالك عن علي: فإذا أهلا بالحج من قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما. وروى النجاد بإسناده عن الزهري، عن عبيد الله قال: سئل ابن عباس عن رجل أصاب امرأته، وهو محرم، قال: عليها الحج من قابل، ثم يفترقان من حيث يحرمان، ولا يجتمعان حتى يقضيا نسكهما، وعليهما الهدي. ولأنه إذا كان قد جامعها مرة لم يُؤمن إذا بلغ ذلك الموضع أن يذكره، فتتوق نفسه إليه، فيواقعها، وتفسد الحجة الثانية، فيجب أن

يُفرَّق بينهما؛ لتؤمن هذه الحال، كما يمنع من القُبلة والطِّيب؛ ليأمن مواقعه الوطء. فإن قيل: ففي الابتداء لا يأمن أن يجامعها، فيفسد حجمها، ومع هذا لا يُؤمران بالافتراق، وكذلك إذا لبس القميص مرة، ثم نزعه، فإنه لا يأمن أن يلبسه ثانياً، ومع هذا لا يُفرق بينه وبين قميصه وسائر ثيابه. ولأنه إذا جامع في موضع، وأفسد الحج، فالقضاء بالحذر والإشفاق أولى. ولأنه إذا بلغ ذلك الموضع يستغفر الله، ويحذر أن يعود إليه، فيفسد حجه، فيمسك عنه، فلا يُقدم عليه. قيل له: أما قولك: (إنه في الابتداء لا يأمن أن يجامعها) فلا يصح؛ لأنه ليس هناك داعٍ، وهو ذكره عند بلوغه الموضع. وأما لبسه القميص فغير ممنوع من دواعي اللبس؛ لأنه لا يُمنع من النظر إليه في الوقت الذي تتوق نفسه إلى لبسه، وفي الزوجة مُنع من الدواعي. وقوله: إنه في الحجة الثانية أشد حذراً من الأولى، فهذا يوجب جواز الطيب في القضاء والقُبلة؛ لأنه يتحذر من الوطء. واحتج المخالف بأنه لو وجب الافتراق في القضاء لوجب في الابتداء، ألا ترى أنه لما وجب الامتناع من الجماع في القضاء وجب في الابتداء؟

والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أن الأداء ليس فيه داعٍ، وفي القضاء داعٍ. واحتج بأنه لا يُفرق بينهما في الابتداء فلم يفرق بينهما في القضاء قياساً على رمضان إذا جامع فيه امرأته، وأفسد الصوم، ثم أراد القضاء؛ فإنه لا يُفرق بينهما. يبين صحة هذا: أن كل واحد منهما يجب بإفساده الكفارة. والجواب: أن الحج أبلغ في منع الدواعي من الصوم بدليل المنع من الطيب والقبلة، والصوم بخلافه. * فصل: ويفترقان من الموضع الذي وطئها. وهو قول الشافعي. وقال مالك: يتفرقان من حيث يحرمان. دليلنا: ما تقدم من حديث النجاد، وذكر فيه: "حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه، فأحرما، وتفرقا"، فأوجب التفريق في المكان الذي أصابها فيه. ولأن المعنى الذي لأجله أُمر بالتفرق: أنه لا يأمن إذا بلغ ذلك الموضع أن يذكره، فتتوق نفسه إلى مثل ذلك، وهذا المعنى لا يُوجد فيما قبله.

مسألة إذا وطئ قبل الوقوف فسد حجه، وعليه بدنة

واحتج المخالف بما رُوي عن علي وابن عباس: أنهما قالا: يفترقان من حيث يحرمان. والجواب: أن عمر قد خالفهما، وقال: يفترقان من حيث أصابها. واحتج بأن الذي لأجله أُمر بالافتراث هو خوف الإفساد ثانية، وليس آخر الإحرام بأولى في الاحتياط من أوله. والجواب: أن أول الإحرام لا يوجد فيه ما يدعو إلى فساده، وإنما يوجد في آخره، فلهذا فرقنا بين الابتداء والانتهاء. * ... * ... * 157 - مسألة إذا وطئ قبل الوقوف فسد حجه، وعليه بدنة: قال في رواية حنبل ويعقوب بن بختان في الرجل يقع على امرأته، وهو محرم: عليه بدنة، والحج من قابل. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: شاة. دليلنا: إجماع الصحابة. روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس: فروى أبو بكر النجاد بإسناده عن مجاهد عن عمر بن الخطاب

قال: يقضيان حجهما، والله أعلم بحجهما، وعليهما الحج من قابل، ويفترقان من حيث وقع عليها، وينحر عنه وعنها جزوراً. وروى بإسناده عن الحكم بن عُتيبة، عن علي قال: يفترقان، ولا يجتمعان إلا وهما حلالان، وينحر كل واحد منهما جزوراً، وعليهما الحج من قابل، يُحرمان بمثل ما كانا أحرما به في أول مرة، وإذا مرا بالمكان الذي أصابها فيه تفرقا، فلم يجتمعا إلا وهما حلالان. وروى بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن رجل أصاب امرأته، وهو محرم فقال: يمضيان لوجههما، ثم يحجان من قابل، ويحرمان من حيث أحرما، ويفترقان، ويهديان جزوراً. والقياس: أنه وطء صادف إحراماً بالحج تاماً، فأوجب البدنة. دليله: لو وطئ بعد الوقوف وقبل الرمي. ولا يلزم عليه وطء دون الفرج؛ لأن ذلك ليس لوطء في الحقيقة. ولا يلزم عليه إذا وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل الطواف؛ لأنه لم يصادف إحراماً تاماً. ولا يلزم عليه إذا وطئ في العمرة: أنه تجب شاة؛ لقولنا: في الحج. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الجماع لا يوجب القضاء،

والجماع قبل الوقوف يوجب القضاء. قيل: لا فرق بينهما على أصلنا في أن الجمع يوجب القضاء. وقياس آخر، وهو: أن ما يجب بمواقعة محظورات الإحرام لا يختلف قبل الوجوب وبعده بدلالة الفدية الواحبة بالحلق واللباس وقتل الصيد، ونحو ذلك. وإن شئت قلت: كل ما إذا فعله بعد الوقوف وجب به كفارة، فإذا فعله قبل الوقوف وجب به تلك الكفارة، كالطيب واللباس. فإن قيل: فعل تلك الأشياء لا يتعلق الفساد بها، والوطء يتعلق الفساد به، فجاز أن يختلف قبل الوقوف وبعده. قيل: كونه موجباً للفساد يدل على تأكده، وإيجاب الشاة يدل على تخفيفه، وهذا لا يجوز. ولأن سلامه في الصلاة من ركعتين يتعلق به الفساد إذا كان على وجه العمد، وتركه دعاء القنوت والتشهد الأول لا يفسد عندهم، ثم هما سواء في الجُبران. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال للذي جامع امرأته قبل الوقوف: "عليكما الهدي، واذهبا، واقضيا ما عليكما". وظاهره يقتضي أن عليهما أدنى ما يقع عليه اسم الهدي. والجواب: أنه محمول على البدنة بدليل ما ذكرنا. واحتج بأنه معنى يوجب قضاء الإحرام، فلا يوجب بدنة قياساً على

مسألة إذا وطئ بعد الوقوف بعرفة، وقبل التحلل، فسد حجه

الفوات والتحلل بالإحصار. والجواب: أن الفوات والإحصار يحصل من غير تفريط في العادة؛ لأنه يقع خطأ؛ لأن الإنسان لا يقصد تفويت الحج على نفسه، فخُفف الأمر فيه، فلم تجب به الكفارة العظمى، والوطء أمر محظور، ويقع عن عمد وقصد، فغُلظ الأمر فيه بإيجاب الكفارة العظمى. وجواب آخر، وهو: أن الفدية بالجماع أغلظ حكماً من الفوات، ألا ترى أن فساد صوم رمضان بالجماه يوجب القضاء وعتق رقبة، وفواته بترك النية إلى بعد الزوال يوجب القضاء فقط، كذلك الحج فساده بالوطء يوجب القضاء وبدنة، فواته يوجب القضاء، ولا يوجب بدنة. واحتج بأن إيجاب البدنة في هذا الموضوع يوجب تغليظين في فعل واحد، وهو القضاء والبدنة، ولا سبيل إلى ذلك. والجواب: أن الوطء في رمضان يجب به القضاء والكفارة العظمى، وهما تغليظان. * ... * ... * 158 - مسألة إذا وطئ بعد الوقوف بعرفة، وقبل التحلل، فسد حجه: نص عليه في رواية الأثرم وأبي الحارث والمروذي:

فقال في رواية الأثرم: والذي يصيب أهله قبل أن يرمي الجمرة فحجه فاسد. وكذلك نقل أبو الحارث في الذي يطأ، ولم يرم الجمرة: أفسد حجه، وإن وطئ بعد رمي الجمرة، فعليه أن يأتي مسجد عائشة، فيحرم بعمرة، فتكون أربعة أميال مكان أربعة أميال، وعليه دم. وكذلك نقل المروذي في من وطئ قبل رمي الجمرة: فسد حجه، وعليه الحج من قابل، فإن رمى وحلق وذبح، ووطئ قبل أن يزور البيت، فعليه دم، ويعتمر؛ يخرج إلى التنعيم؛ لأنه من منى إلى مكة أربعة أميال، ومن التنعيم أربعة أميال. فقد بين أن المسافة من التنعيم مثل المسافة من منى إلى مكة؛ لأنه كان يلزمه الدخول إلى مكة للطواف بالإحرام الأول. وبهذا قال مالك والشافعي, وقال أبو حنيفة: عليه بدنة، وحجه تام. دليلنا: أنه وطء صادف إحراماً تاماً، فأفسده. دليله: إذا وطئ قبل الوقوف. ولا يلزم عليه إذا وطئ بعد الرمي؛ لأن الوطء لم يصادف إحراماً تاماً. ولأن الوطء من محظورات الإحرام، فوجب أن يستوي حكمه قبل الوقوف وبعده، كسائر المحظورات.

ولأن الحج عبادة يجوز أن يطرأ عليها الفساد، فجاز ورود الفساد عليها إلى أن يحل منها. دليله: الصوم والصلاة. فإن قيل: الحج آكد من الصلاة؛ لأن مواقعة الأفعال المحظورة لا توجب الخروج من الإحرام، وتوجب الخروج من الصلاة والصوم، فإذا كان كذلك، لم يمنع أن يرد الفساد عليها إلى أن يحل منها، ولا يرد على الحج. قيل له: إذا فسد الصوم بغير عذر، وجب عليه الإمساك بقية نهاره، ولم يدل على أن الفساد لا يرد عليه إلى أن يحل منه. على أنه إذا دل هذا على تأكيد الحج، دل على تأكيد القضاء؛ لأن في إيجابه تأكيداً للحج. فإن قيل: لا يؤمن ورود الفساد على الصوم والصلاة إلا بعد استيفاء أفعالهما والخروج منهما، وقد يؤمن ورود الفساد على الحج قبل استيفاء فرضه بدلالة أنه لو وطئ قبل الطواف وبعد الحلق لم يفسد حجه. قيل له: لأنه بالحلق يتحلل مما مضى من الأفعال، كما أنه بالتسليم يخرج من الصلاة، وبالإفطار يخرج من الصوم. فإن قيل: لو كان كذلك، لارتفع تحريم الوطء، كما يرتفع بالخروج من الصلاة.

قيل له: إنما لم يرتفع؛ لأنه قد بقى من الإحرام بقية لم يتحلل منها، فلهذا بقى شيء من محظوراته. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "من وقف بعرفة فقد تم حجه". وورود الفساد عليه بالجماع يمنع تمامه. والجواب: أنه لا خلاف أنه لم يتم؛ لأنه قد بقى عليه ركن من أركان الحج، وهو الطواف، فعلم أن المراد به: قد قارب التمام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "إذا رفع الرجل رأسه من السجدة فقد تمت صلاته"؛ يعني: قاربت التمام. واحتج بأنه لو جامع بعد سقوط فرض الوقوف، فوجب أن لا يفسد حجه، كما لو جامع بعد رمي جمرة العقبة والحلق. ولأنه قد أمن فوات الحج، فوجب أن يأمن فساده.

دليله: ما ذكرنا. والجواب: أن الأمن من الفوات لا يوجب الأمن من الفساد بدلالة العمرة تأمن فواتها، ولا تأمن فسادها. فإن قيل: زمان الفوات يطلق على ما يجوز أن يفوت بحال، والعمرة لا تفوت بحال؛ لأنها ليست مؤقتة. قيل له: إذا كانت العمرة لا فوات فيها بحال، والحج يفوت في حالة، ولا يفوت في أخرى، فالأمن من الفوات في العمرة آكد من الفوات في الحج، وكذلك إذا صلى ركعتين من صلاة الجمعة فقد أمن فواتها، ومع هذا يلحقها الفساد، وكذلك من نوى قبل الزوال الصيام فقد أمن فوات الصوم، ولا يأمن فساده. ثم المعنى في الأصل: أن الوطء صادف إحراماً تحلل منه، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه صادف إحراماً تاماً. يبين صحة هذا: أن التلبية مستحبة، وبعد الرمي قد انقطعت. واحتج بأن ما بعد الوقوف من أفعال الحج لو تركها لم يبطل حجه، ألا ترى أن الحاج إذا مات بعد الوقوف لم يبطل حجه، ولم يجب استيفاؤه وقضاؤه، ففعلها بعد الجماع لا يكون أسوأ حالاً من تركها رأساً.

والجواب: أن الترك أخف من الإفساد بدليل: أنه لو ترك صوم رمضان، فلم ينوه لم تلزمه كفارة، ولو تركه بوطء أو أكل، لزمته كفارة، وكان الفرق بينهما حصول الفساد في أحدهما دون الآخر، كذلك هاهنا. ولأنه إنما يفسد الحج بترك الأفعال؛ لأن بعضها يسقط بفواته، وهو الرمي، وبعضها لا يسقط، لكن وقته على التراخي، وهو الطواف، فلهذا لم يكن تركه مبطل، فأما لم يكن تركه مبطل، فأما هاهنا فعلته: أن الفساد صادف إحراماً كاملاً. واحتج بأن الطواف ركن من أركان الحج، وجمرة العقبة من توابعه، ثم اتفقوا أن بقاء الطواف لا يوجب فساد الحج إذا حصل الجماع قبله وبعد الرمي، فبقاء الرمي أحرى. والجواب: أن بقاء الطواف لم يوجب الفساد؛ لأنه التحلل من العبادة، وقد سبق الفساد بالرمي والحلاق، وليس كذلك الرمي؛ لأنه لم يسبقه تحلل، فلهذا إذا طرأ الفساد أفسد. واحتج بإن الفساد معنى يجب به القضاء، فلم يصح وجوده بعد الوقوف. [والجواب: أن وجوده بعد الوقوف] كوجوده قبله، فيتعلق به الفساد في الموضعين جميعاً. * ... * ... *

مسألة إذا وطئ بعد الرمي، وقبل طواف الإفاضة، مضى في بقية الحج في الإحرام الذي أفسده، ويحرم بعد ذلك من التنعيم؛ ليقضي الطواف والسعي بإحرام صحيح

159 - مسألة إذا وطئ بعد الرمي، وقبل طواف الإفاضة، مضى في بقية الحج في الإحرام الذي أفسده، ويحرم بعد ذلك من التنعيم؛ ليقضي الطواف والسعي بإحرام صحيح: وقد أطلق أحمد القول في رواية الجماعة في ما تقدم: أنه يحرم بعمرة، ولم يقل: يمضي في بقية إحرامه. وقوله: يحرم بعمرة؛ معناه: يحرم؛ ليفعل أفعال العمرة؛ الذي هو الطواف والسعي. وقد نقل عنه ما يدل على أنه مضى في ما بقي؛ لأنه قال في رواية الفضل بن زياد في من واقع قبل الزيارة: يعتمر من التنعيم بعد انقضاء أيام التشريق. فقد أمره بتأخير الإحرام بعد أيام التشريق، وليس هذا إلا لاشتغاله ببقية أفعال الحج؛ لأن القضاء إنما يكون تمام ما بقى عليه. وقال -أيضاً- في رواية محمد بن أبي حرب فيمن نسي طواف الزيارة حتى رجع إلى بلده: يدخل معتمراً، فيطوف بعمرة، ثم يطوف طواف الزيارة. وهو قول مالك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: يأتي بما

بقي عليه من غير إحرام. دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال في الذي يصيب أهله قبل أن ينفر: يعتمر، ويهدي. وقوله: يعتمر؛ معناه: يحرم بإحرام عمرة. ولأنه ركن من أركان الحج، فكان من شرطه الإتيان به في إحرام صحيح. دليله: الوقوف. ولا يلزم عليه الإحرام أنه ركن، ولا تفتقر صحته إلى إحرام يتقدمه؛ لأنه لا سبيل إلى ذلك؛ لأنه لو افتقر إلى إحرام قبله، لافتقر الثاني إلى ثالث إلى ما لا نهاية له. فإن قيل: الوقوف يؤتي به في إحرام تام، وهذا يأتي به بعد التحلل من إحرامه. قيل له: الإحرام باقٍ ما لم يطف، وإنما تحلل من بعض المحظورات. والدلالة على أنه يجب عليه دم بهذا الوطء، فلولا أن الإحرام باقٍ لم يلزمه بدليل: أنه لو وطئ بعد الطواف لم يلزمه. فإن قيل: إنما لزمه الدم؛ لأن حكم الإحرام باقٍ، كالحيض إذا انقطع يبقى حكمه.

قيل: لو كان كذلك، لوجب إذا وطئ قبل الطواف: أن يلزمه الدم؛ لأن حكم الإحرام باقٍ، وهو الرمي والبيتوتة، ولما لم يلزمه هناك ولزمه هاهنا، علمنا أن هاهنا إحرام باقٍ. ولأنه قد بقى عليه ركن من أركان الحج، وأركانه تفعل في الإحرام، كالوقوف. ويفارق هذا الحيض إذا انقطع؛ لأنه قد زال الحيض، ولهذا لو وطئ لم يلزمه الكفارة على القول القديم. وذهب المخالف إلى هذا السؤال، وقد أجبنا عنه، وذهب إلى أنه طواف، فلم يفتقر إلى إحرام. دليله: طواف الوداع. والجواب: أنه يلزم عليه طواف القدوم. وذهب إلى أنه يفعل بعد التحلل، أشبه الرمي. والجواب: أنه لم يبق عليه شيء من الإحرام، وهاهنا قد بقي عليه بدليل إيجاب الدم عليه. وذهب إلى أن هذا يُفضي إلى أن يفعل حجة بإحرامين. والجواب: أنه غير ممتنع، كما لم يمتنع الخروج منها بتحللين. وذهب إلى أن الإحرام التام يقف فساده على وطء تام، وهو الوطء في الفرج، فيجب أن يفتقب الفساد بالوطء التام إلى إحرام تام، وإذا رمى الجمرة فليس هناك إحرام تام، فلم يتعلق به الفساد.

والجواب: أنا لا نسلم هذا على الصحيح من الروايتين، بل نقول: إن الحج يفسد بالإنزال عن وطء دون الفرج. ولو سلمناه فغير ممتنع أن لا يتعلق الفساد إلا بوطءٍ تام، ولا يتعلق بوطء غير تام، كما قالوا في إيجاب البدنة: تجب بوطء تام، ولا تجب بما دون الفرج. وعلى أن المعنى الذي لأجله لم يفسد إلا بالوطء التام، وهو: قوة الوطء التام، وهذا يقتضي أن يُفسد الإحرام الناقص؛ لأن ما أفسد التام أولى أن يُفسد الناقص. وعلى أنه غير ممتنع أن يتعلق به الفساد في الإحرام الناقص، كما تعلق في الإحرام التام بدليل البدنة تجب في الإحرام الصحيح، وتجب بالوطء في الإحرام الفاسد. وعلى أنا نقول بموجب هذا، وأنه يفتقر إلى إحرام تام؛ لأن ما بقي من أفعال بالإحرام له تام، ولم يتحلل عنه، إنما التحلل لما فرغ منه. فإن قيل: ما ذهبتم إليه يفضي إلى أن تجب عليه زيادة على ما بقي عليه؛ لأنه لو كان قد سعى عقيب طواف القدوم؛ لسقط عنه السعي، وعلى قولكم إذا أحرم يلزمه طواف وسعي، وهذا زيادة على الواجب. قيل: إنما لزمه ذلك؛ لأنه قد لزمه أن يبتدئ إحراماً تاماً، والإحرام

مسألة يباح له بعد التحلل الأول كل شيء إلا النساء، فلا يجوز له الوطء في الفرج، ولا القبلة، ولا اللمس بشهوة، ولا عقد النكاح، ويباح له ما عدا ذلك من الطيب، وقتل الصيد، وغير ذلك

التام لا يتضمن أقل من طواف وسعي، وهو إحرام العمرة، فلو أسقطنا عنه السعي كان فيه تبغيض للإحرام في بعض أفعاله. * ... * ... * 160 - مسألة يباح له بعد التحلل الأول كل شيء إلا النساء، فلا يجوز له الوطء في الفرج، ولا القبلة، ولا اللمس بشهوة، ولا عقد النكاح، ويباح له ما عدا ذلك من الطيب، وقتل الصيد، وغير ذلك: وهو ظاهر كلام أصحابنا، فقال الخرقي: حل له كل شيء إلا النساء. وقال أبو بكر: يتطيب، ويصيد، ولا يقرب النساء حتى يطوف. وروى أبو طالب عن أحمد: أنه سأله عن الرجل يُقبِّل بعد رمي الجمرة قبل أن يزور البيت، فقال: ليس عليه شيء، قد حل له كل شيء إلا النساء، وقد قضى المناسك، وعطاء يرخص فيه. وظاهر هذا: أن اللمس لشهوة مباح، وإنما يحرم الوطء في الفرج، وقد حكينا اختلاف المذهب بماذا يحصل التحلل الأول: فرُوي عنه: برمي الجمرة. ورُوي عنه: بالرمي والحِلاق.

وقال أبو حنيفة: يباح كل شيء إلا النساء؛ في الفرج ودون الفرج والقبلة. وقال الشافعي: يحل له اللباس وترجيل الشعر والحلق وتقيلم الأظفار قولاً واحداً، فأما عقد النكاح واللمس والوطء في ما دون الفرح والاصطياد، فعلى قولين: أحدهما: يحل. والثاني: لا يحل. واختلف أصحابه في الطيب على طريقتين: منهم من قال: على قولين. ومنهم من قال: يحل قولاً واحداً. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يُضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذاك، أم لا؟!. وروى أبو بكر بإسناده عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل إحرامه، وطيبته بمنى قبل أن يزور البيت.

ولأن الاصطياد والطيب ليس من جنس ما يفسد الحج، ولا من توابعه، فلا تقف استباحته على التحلل الثاني، كاللبس. ولا تلزم عليه القُبلة؛ لأنها من توابع ما يفسد الحج، وهو الوطء. وكل حالة تحلل المحرم في اللبس، تحلل في الصيد والطيب. دليله: بعد الطواف. وأما القبلة واللمس لشهوة، فلا تحل؛ لما تقدم من حديث ابن عباس: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". وروى -أيضاً- أحمد في "المسند" بإسناده عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء". ولأنه استمتاه بالنساء، فوجب أن تقف استباحته على التحلل الثاني. أصله: الجماع في الفرج. ولنها حالة تمنع الحاج من الوطء في الفرج، فمنعته من القبلة واللمس، كقبل الرمي. واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]. والجواب: أن [هذا من] إطلاق المحرم [على] من حظر عليه جميع المظوات، وهذا لا نسلمه بعد التحلل [الأول].

مسألة جماع الناسي يفسد الإحرام

ولأن من أصلهم أنه بالتحلل الأول يخرج من الإحرام، فكيف يصح هذا الاستدلال؟ واحتج بما روي عن عمر: أنه خطب فقال: إذا ذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب، ولم ينكر ذلك أحد. والجواب: أنهم لم ينكروه؛ لأنهم لم يعرفوا خبر ابن عباس وعائشة. وقد روي عن ابن عمر: أنه ذكر هذا عن عمر، ثم ذكر حديث عائشة، وقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحق أن يُؤخذ بها من سنة عمر. واحتج بأن الطيب من توابع الوطء ودواعيه، فهو كالقبلة. والجواب: أنه لو كان كذلك، لحرم في الاعتكاف، كما تحرم دواعي الجماع. * ... * ... * 161 - مسألة جماع الناسي يفسد الإحرام: نص عليه في رواية أبي طالب وصالح وحنبل: فقال في رواية أبي طالب: ثلاثة في الحج العمد والنسيان والخطأ سواء: إذا جامع أهله، وإذا قتل الصيد، والشعر إذا حلقه. وقال في رواية صالح وحنبل: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوعان

عنه، يلزمه لو وطئ أهله ناسياً، وهو محرم، أن لا يكون عليه شيء، وإذا قتل صيداً ناسياً لا يكون عليه شيء. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وللشافعي قولان" قال في الجديد: لا يفسد، ولا شيء عليه. وقال في القديم مثل قولنا. دليلنا: أن الوطء سبب يجب به قضاء الحج، فاستوى فيه العمد والخطأ. دليله: فوات الحج. فإن قيل: الفوات ترك ركن مأمور به، فلهذا استوى حكم العامد والناسي، كترك الركوع والسجود والقيام والقعود في أداء الصلاة، وترك النية في الصلاة، وليس كذلك الجماع؛ لأنه فعل منهي عنه في العبادة، فيختلف حكم العامد والساهي، كالأكل في الصوم. قيل له: هذا باطل بالحلق، وقتل الصيد، والأكل والجماع في الصلاة، والمشي فيها، والحدث؛ فإنه منهي عنه، ويستوي عمده وخطؤه. وعلة الأصل تبطل بخطأ عرفة.

وقياس آخر، وهو: أنه وطء في موضع مخصوص في إحرام تام، فأفسده. دليله: وطء العامد. ولأنها عبادة يفسدها الوطء، فأفسدها سهواً، كالصلاة. ولأنه معنى يوجب الهدي، فاستوى عمده وسهوه، كترك الإحرام من الميقات. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه". فعم، ولم يخص. والجواب عنه: ما تقدم في مسألة المحرم إذا تطيب ناسياً. واحتج بأنها عبادة يفسدها الوطء عمداً، فلم يفسدها سهوه، كالصيام. والجواب: أنا لا نسلم الأصل؛ لأن الصوم يفسد بوطء الناسي، وقد تقدم الكلام عليه. مع أن هذا يبطل بالصلاة؛ فإن جماع الناسي فيها يفسدها؛ عمداً وسهواً. واحتج بأنها عبادة تجب بإفسادها كفارة، فوجب أن يكون في

محظوراتها ما يختلف حكم عمده وسهوه قياساً على الصوم؛ منه ما يختلف حكم عمده وسهوه، وهو الأكل. والجواب: أنا نقول بموجبه على إحدى الروايتين في الطيب واللباس يختلف حكم عمده وسهوه. وعلى الرواية الأخرى لا يختلف في باب الحج، ويختلف في باب الصوم، وكأن المعنى فيه: أن الصيام ليس عليه أمارة تدل [على] كونه صائماً، فلهذا جاز أن يُعذر في النسيان، والمحرم عليه أمارة تدل على كونه محرماً، وهو التجرد والتلبية وأعمال النسك، فلم يُعذر. فإن قيل: هذا يبطل بالطهارة، وليس عليها أمارة، ومع هذا يستوي عمدها وسهوها في الفساد. قيل له: إنما تعتبر الأمارة في حال التلبس بالعبادة [....]. وعلى أن الصوم اختلف فيه العمد والخطأ في ما يختص محظوراته، كالأكل، فأما الجماع فلا يختص الحج. وعلى أن هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأن عنده أن جميع محظورات الصيام يختلف حكم عمدها وسهوها، فلا يصح قوله: فجاز أن يكون في محظوراتها ما يختلف، وجميعها تختلف. واحتج بأن الوطء القصد منه الاستمتاع دون الإتلاف،

فاختلف عمده وسهوه. دليله: اللباس والطيب. والجواب: أن في ذلك روايتين: إحديهما -وهي الصحيحة-: أنه يستوي عمده وسهوه. فعلى هذا: لا فرق بينهما. والثانية: يفرق بينهما أن الوطء أغلظ بدليل أنه يرتفق به شخصان، والطيب واللباس يرتفق به شخص واحد، والوطء في ملك الغير أشد من الطيب واللباس في ملك الغير، والإباحة لا تجري في جنسه. ولأن الوطء في الصوم يوجب الكفارة، وغيره من محظورات الصوم لا يوجب الكفارة، فدل على تأكيده. فإن قاسوا على الاستمتاع في ما دون الفرج، فالمعنى فيه: أن عمده لا يفسده، فخطأه لا يفسد، وليس كذلك هذا؛ لأن عمده يؤثر في الحج، كذلك خطؤه، كقتل الصيد. وإن قالوا: لو ألزمناه القضاء لم يؤمن مثل ذلك في القضاء. فالجواب: أنه يبطل بالفوات، ومجاوزة الميقات، وبإيجاب الكفارة في قتل الصيد، وبالوطء في الصلاة ناسياً، وبالحدث في الطهارة ناسياً. * ... * ... *

مسألة إذا وطئ دون الفرج، فأنزل، أو قبل، أو لمس، فأنزل، فسد حجه في إحدى الروايتين

162 - مسألة إذا وطئ دون الفرج، فأنزل، أو قبل، أو لمس، فأنزل، فسد حجه في إحدى الروايتين: نص عليها في رواية المروذي وأبي طالب وابن إبراهيم: فقال: في رواية المروذي في المحرم يُقبل امرأته: عليه دم، فإن أنزل أفسد حجه. وقال في رواية أبي طالب في محرم أتى أهله في ما دون الفرج: فسد حجه؛ لأنه قد قضى حاجته. وقال -أيضاً- في رواية ابن إبراهيم في محرم وطئ دون الفرج، فأنزل: فسد حجه، فإن لم ينزل فعليه بدنة. وبهذا قال مالك. وفيه رواية أخرى: لا يفسد حجه. رواها الميموني وابن منصور: قال في رواية الميموني: إذا باشر حتى يُمني، فالحسن وعطاء يقولان: حجه فاسد. وأرجو أن يكون هذا أهون، ويكون جائزاً، وابن عباس جعل عليه بدنة. وقال في رواية ابن منصور: وذُكر له قول سفيان في المحرم يجامع

في غير الفرج، وينزل: يقولون: عليه بدنة، وقد تم حجه، والمرأة عليها ما على الرجل إذا كانت تشتهي، فأنزلت. فقال أحمد: جيد. ونقل عنه في موضع آخر: وذُكر له قول سفيان: إذا قبل فأمنى فبدنة، وإن أمذى فبقرة، وإن لم يُمن ولم يُمذ فشاة. قال أحمد: أرجو أن تجزئ شاة. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وجه الأول: قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. فقد نهى عن الرفث، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فهو عام في جميع الرفث، والوطء دون الفرج والقبلة من الرفث. ولأن كل عبادة أفسدها الوطء، أفسدها الإنزال عن مباشرة. دليله: الصوم. فإن قيل: الصوم أوسع من باب الفساد، ألا ترى أنه يفسد بالإنزال عن النظر، والأكل والشرب، والحج لا يفسده إلا الوطء فقط. قيل: هذا اختلاف في غير المباشرة، [أما في المباشرة]؛ فإنهما سواء، الدلالة عليه: المباشرة في الفرج. يبين صحة هذا: أنا قسمنا ضمان صيد الحرم في حق المحل على

المحرم خلافاً لداود، وقلنا: صيد ممنوع من إتلافه لحق الله تعالى، فضُمن بالجزاء، كالصيد الممنوع منه لحرمة الإحرام. فقال: حرمة الإحرام آكد بدلالة أنها تمنع الطيب واللباس والجماع، وحرمة الحرم لا تمنعه. فقلنا: هذا اختلاف في غير الصيد، فأما في الصيد فهما متساويان في المنع من تنفيره، ومثله كذلك. فإن قيل: إذا أفسدنا الصوم، فلم تسقط مزية الجماع؛ فإن الجماع ساوى غيره مع الكفارة العظمى. قيل له: لا تسقط مزية الجماع؛ لأن الجماع في الفرج يوجب الفساد والكفارة العظمى من غير إنزال، وفي مسألتنا لا يحصل ذلك إلا بإنزال. ولأن المقصود من الجماع الإنزال، وهو أبلغ من الإيلاج من غير إنزال، وقد وُجِدَ ذلك بالمباشرة دون الفرج، فيجب أن يفسد حجه. فإن قيل: هذا باطل به إذا كرَّر النظر، فأنزل قد وجد المقصود، ومع هذا فلا يفسد حجه. قيل له: لا يمتنع أن يوجد المقصود مع المباشرة، فتفسد العبادة، ويوجد مع النظر، فلا تفسد، كما قلتم في الصوم: لو نظر فأنزل، لم يفسد صومه، ولو قبِّل فأنزل، فسد، وكما قلنا نحن: إذا فكَّر فأنزل، لم يفسد صومه، ولو قبِّل فأنزل، فسد، كذلك هاهنا. ولأنها مباشرة أثرت في إيجاب الدم في إحرام لم يتحلل منه،

فأثرت في إفساد الحج. دليله: الوطء في الفرج. ولا تلزم عليه المباشرة بعد رمي الجمرة وقبل الطواف؛ لأنها حصلت في إحرام قد تحلل منه. فإن قيل: الوطء متبوع، فلهذا أفسد، وما دون الفرج تابع، فلا تبطل. قيل: لا يمتنع أن يكون تابعاً ويفسد، كما أفسد الصوم، وإن كان تابعاً. واحتج المخالف بأن هذا استمتاع لا يجب به الحد بحال، فلم يفسد، كالمباشرة إذا تجردت عن الإنزال. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يُوجب الحد ويُفسد، كما أفسدت الصوم، وإن لم توجب الحد. وكذلك وطء زوجته أو أمته لا يوجب الحد، ويفسد، وكذلك الفوات يفسد الحج، وإن لم يوجب الحد. واحتج بأن كل عبادة حرمت بالوطء وغيره، كان للوطء مزية على غيره، فلو أفسدنا الحج بغير الوطء، لم يكن له مزية؛ لأن الكفارة التي تجب به، وهي البدنة، تجب بقتل النعامة.

مسألة فإن قبل، أو لمس، أو وطئ دون الفرج، فلم ينزل وجبت عليه الفدية

والجواب: أنا نقول بموجبه، وأن للوطء مزية؛ لأن الوطء في الفرج يوجب القضاء والبدنة؛ أنزل أو لم ينزل، وفي ما دون الفرج إذا لم ينضم إليه إنزال لا يفسد حجه، ولا تجب البدنة، وإنما تجب شاة. * فصل: إذا قلنا: لا يفسد على الرواية الثانية، ففيه بدنة. وقال الشافعي: فيه شاة. دليلنا: أنها مباشرة تؤثر في فساد الصوم، فأوجبت الكفارة العظمى. دليله: الوطء في الفرج. واحتج المخالف بأنه استمتاع لا يوجب فساد الحج، فلا يوجب البدنة، كالطيب واللباس. والجواب: أنه يلزم عليه قتل النعامة، يوجب البدنة، ولا يفسده؛ لأن إلحاقه بالوطء أشبه من إلحاقه بالطيب بدليل أن الاعتكاف والصوم لا يمنع الطيب واللباس، ويمنع القبلة لشهوة. * ... * ... * 163 - مسألة فإن قبَّل، أو لمس، أو وطئ دون الفرج، فلم يُنزل وجبت عليه الفدية: وفي مقدارها روايتان:

إحداهما: شاة. نص عليه في رواية بكر بن محمد، عن أبيه، عنه في الرجل يقبض على فرج امرأته: فليهريق دماً، شاة تجزئه. وكذلك نقل صالح في الذي يقبِّل لشهوة: أكثر الناس يقول: فيه دم. وهو اختيار الخرقي. وفيها رواية أخرى: يلزمه بدنة. نص عليها في رواية إسحاق بن إبراهيم في محرم وطئ دون الفرج، فأنزل: فسد حجه، فإن لم ينزل فعليه بدنة. وقال الشافعي: عليه شاة. والدلالة على وجوب البدنة: أنه استمتاع بمباشرة، فأوجبت البدنة. دليله: الوطء. وإن شئت قلت: استمتاع بالنساء أشبه إذا استمتع بالفرج. واحتج المخالف بأن هذا استمتاع لم يُضامه إنزال، فلم يوجب الدم. دليله: إذا كان من فوق حائل، أو كان لزحمة. والجواب: أن ذلك ليس باستمتاع، ولهذا لا يوجب الدم أصلاً، وليس كذلك هذا؛ لأنه استمتاع بالنساء يوجب الدم، فأوجب البدنة. واحتج بأن القبلة من دواعي الجماع، فهي كالطيب.

مسألة فإذا كرر النظر، فأنزل، وجبت عليه بدنة، وإن أمذى فعليه شاة في أصح الروايات

والجواب: أن كفارة القبلة آكد؛ لأنه لا تخيير فيه، وفدية الطيب فيها تخيير. ولأن القبلة أغلظ حكماً، وأبلغ من الاستمتاع، وأدعى إلى الحدث، ولهذا تنقض الطهر، ويُمنع منها الصائم بخلاف الطيب. * ... * ... * 164 - مسألة فإذا كرر النظر، فأنزل، وجبت عليه بدنة، وإن أمذى فعليه شاة في أصح الروايات: نقلها حنبل، فقال: إذا أمنى من نظر، وكان لشهوة، فعليه بدنة، وإن أمذى فعليه شاة. وهو اختيار الخرقي. وفيه رواية أخرى: تجب شاة في المني. قال في رواية ابن إبراهيم: إذا كرَّر النظر، فأنزل، عليه دم. وفي رواية ثالثة: عليه شاة بمجرد النظر؛ أنزل أو لم ينزل. قال في رواية الأثرم في محرم جرد امرأته، ولم يكن منه غير التجريد: عليه شاة. وقال الشافعي: لا شيء عليه؛ أنزل، أو لم ينزل. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن مجاهد، عن ابن عباس

مسألة إذا كرر النظر، فأنزل، لم يفسد حجه، وعليه بدنة

في محرم نظر إلى امرأته حتى أمنى قال: عليه شاة. ورواه بلفظ آخر قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: فعل الله بهذه، وفعل! إنها تطيبت، وأتتني، وكلمتني، وحدثتني حتى سبقتني الشهوة، فقال ابن عباس: انحر بدنة، وتم حجك. ولا يُعرف له مخالف. ولأن النظر من دواعي الجماع، فجاز أن يؤثر في إيجاب الدم، كالقُبلة والطيب. ولأنه إنزال بسبب محظور أشبه لو أنزل عن قُبلة. واحتج المخالف بأنه إنزال عن غير مباشرة أشبه إذا أنزل عن احتلام. والجواب: أن ذلك إنزال بسبب مباح، وهذا بسبب محظور، فهو كالإنزال عن قبلة. * ... * ... * 165 - مسألة إذا كرر النظر، فأنزل، لم يفسد حجه، وعليه بدنة: نص عليه في رواية حنبل، وذكره الخرقي في "مختصره". وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا كرر النظر، فأنزل، عليه دم. وقال في رواية الأثرم في محرم جرد امرأته، ولم يكن منه غير التجريد: عليه شاة.

مسألة إذا وطئ امرأة في دبرها، أو عمل عمل قوم لوط، أو وطئ بهيمة، فسد حجه، وعليه البدنة

وظاهر هذا: أنه أوجب الشاة بمجرد النظر، وإن لم ينضم إليه إنزال، ويمكن أن يُحمل هذا على أنه لمسها في حال التجريد، فأوجب ذلك لأجل الملامسة. وقال الشافعي: لا فدية عليه. دليلنا: أنه إنزال بسبب محظور في الحج، فأوجب الفدية. دليله: لو قبل فأنزل. ولأنه أحد نوعي الاستمتاع، فجاز أن يؤثر في الفدية. دليله: المباشرة. واحتج المخالف بأنه إنزال من غير مباشرة، فلم يوجب بدنة، كالاحتلام والفكر. والجواب: أن ذلك الإنزال لا يأثم به، وهذا يأثم بسببه، فهو كالقُبلة. * ... * ... * 166 - مسألة إذا وطئ امرأةً في دبرها، أو عمل عمل قوم لوط، أو وطئ بهيمة، فسد حجه، وعليه البدنة: وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسد حجه بالإيلاج.

دليلنا: أنه وطء في الفرج، فأفسد. دليله: الوطء في القبل. ولأنه يجب الغسل بالإيلاج فيه، فأفسد الحج، كالقبل. ولأن هذا الوطء أغلظ من وطء في قُبُل المرأة، فإذا جاز أن يفسد الحج بالوطء في قُبُلها، فالوطء في الدبر أولى. ونبني المسألة على أصل، وهو: أن الحد يجب بالإيلاج فيه، وندل عليه بما نذكره في كتاب الحدود إن شاء الله. وإذا ثبت هذا الأصل قلنا: فرج يجب الحد بالإيلاج فيه، ففسد الحج بالإيلاج فيه. دليله: القبل. واحتج المخالف بأنه وطء في موضع لا يتعلق به وجوب المهر بحال، فوجب أن لا يتعلق به فساد الحج. دليله: الوطء في ما دون الفرج. والجواب: أن هذا غير مسلم في دبر المرأة؛ لأن لا يوجب المهر، وحُكمه حكم القبل إلا في خمسة أحكام: الإحصان، والإحلال، والفيئة في الإيلاء، والعنة، ويعتبر إذن البكر.

مسألة إذا وطئ في العمرة أفسدها، وعليه القضاء وشاة

وأما في دبر البهيمة واللواط؛ فإنه لا يوجب المهر بحال، وليس إذا لم يتعلق به الضمان لم يتعلق به الفساد، ألا ترى أن وطء جارية مملوكة لا يجب ضمانه، ويتعلق به فساد العبادات؟ وعلى أن هذا الوطء، وإن لم يكن مضموناً، فهو أغلظ مما يستباح بالعوض، ويُحكم على متلف بضمانه، ألا ترى أنه إذا قال: والله لا آكل لحماً، فأكل لحم ميتة أو خنزير، حنث بيمينه، كما يحنث إذا أكل لحم المذكى، وإن كان لا يستباح إلا عند الضرورة. واحتج بأن وطء لا يتعلق به الإحصان، فلا يتعلق به الفساد. أصله: ما ذكرنا. والجواب: أن الفساد آكد وأعم من الإحصان، ألا ترى أنه إذا وطئ جاريته، أو زنا، أو وطئ امرأة نكاحاً فاسداً، أو شبهة؛ فإنه يتعلق به الإفساد، ولا يتعلق به الإحصان. ثم المعنى في الأصل: أنه لا يوجب الغسل، وهذا فرج يجب الغسل بالإيلاج فيه، فهو كالقُبُل. * ... * ... * 167 - مسألة إذا وطئ في العمرة أفسدها، وعليه القضاء وشاة: نص عليه في رواية أبي طالب، فقال: تجزئة شاة.

وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: عليه بدنة. دليلنا: أنها عبادة يجب بإفسادها الكفارة العظمى، فلم تجب تلك الكفارة بإفساد جميع نوعها، كالصوم لا تجب الكفارة بإفساد القضاء والنذر وغيره. ولأن حرمة العمرة أنقص من حرمة الحج بدلالة نقصان أركانها، ونقصان حرمة الإحرام يمنع من كمال الكفارة. وأصله: الوطء بعد التحلل. فإن قيل: ليس هناك إحرام. قيل له: قد دللنا عليه في ما تقدم. ولأنه وطء صادف العمرة، فلم تجب لأجلها بدنة، كالناسي. فإن قيل: ذلك الوطء لا يفسد العمرة، فلهذا لم يوجب بدنة. قيل له: يفسدها عندنا. ولأنه إحرام تضمن طوافاً وسعياً، فإذا أفسده، وجب به شاة. دليله: إذا وطئ بعد التحلل الأول. فإن قيل: ذلك لم يصادف إحراماً؛ لأن التحلل قد سبق. قيل: التحلل حصل من بعض المحظورات، فأما من الوطء فلا، بدليل بقاء تحريمه، وبدليل بقاء ركنين من أركان الحج، وهو الطواف والسعي، ولا نجد عبادة نتحلل منها، وقد بقي من أركانها.

مسألة إذا وطئ القارن، فأفسد حجه وعمرته، لم يسقط عنه دم في القران بالإفساد، وكذلك المتمتع

واحتج المخالف بأن العمرة عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فوجب أن تكون الكفارة العظمى، كالحج والصوم. والجواب عن الحج: أن حرمة العمرة تنقص بدلالة نقصان أركانها، وأنها تجتمع معه في إحرامه، وتدخل أفعالها في أفعاله، وإذا نقصت عن الحج في هذه الأحكام، نقصت في باب الكفارة. وأما الصوم فهو دليلنا؛ لأن الكفارة العظمى لما وجبت بإفساده، اختص من بين نوعه بها، ولما وجبت الكفارة العظمى بالوطء في الحج، وجب أن تختص من بين نوع الإحرام به، ونقلبه فنقول: فلا تجب الكفارة العظمى بإفساد ما هو أنقص منه، كالصوم. * ... * ... * 168 - مسألة إذا وطئ القارن، فأفسد حجه وعمرته، لم يسقط عنه دم في القران بالإفساد، وكذلك المتمتع: نص عليه في التمتع الفاسد: أنه لا يسقط عنه الدم، فقال في رواية ابن منصور: وذُكر له قول سفيان في رجل أهل بعمرة في أشهر الحج، ثم جامع أهله قبل أن يطوف بالبيت، ثم أقام إلى الحج: يحج، وعليه دم لعمرته، وليس عليه دم للمتعة؛ لأنه أفسدها، فقال أحمد: عليه دم المتعة، ودم لما أفسد من العمرة. فقد نص على أن دم التمتع لا يسقط بالفساد، وفي القران آكد.

وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسقط دم القران والتمتع. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية المروذي: وقد سئل عن متمتع دخل مكة، فوطئ قبل أن يطوف بالبيت، فقال: لا تقل متمتع، لكن قل: معتمر، يرجع إلى الميقات الذي أهل منه، فيحرم بعمرة، وعليه دم، وإن كان الوقت ضيقاً أهل بالحج، وإذا فرغ منه أهل بالعمرة من الموضع الذي أهل بها. فلم يوجب عليه دم التمتع. دليلنا: أن كل ما وجب الإتيان به في القران الصحيح، وجب الإتيان به في القران الفاسد، كالطواف. وإن شئت قلت: كل ما وجب الإتيان به في التمتع الصحيح، وجب الإتيان به في الفاسد، كالطواف. واحتج المخالف بأنه لم يجمع بين الإحرامين على وجه القُربة، فلم يلزمه دم، كالمكي إذا جامع. والجواب: أن المكي لم يسقط الدم عنه عندنا؛ لأنه لم يجمع بين الإحرامين على وجه القُربة، ألا ترى أنه لو تمتع، ولم يطأ، فلا دم عليه؟ وإنما يسقط الدم عنه؛ لما ذكرنا في ما تقدم من نص الآية، ولأنه لم يترفه بإسقاط أحد السفرين.

* فصل: فإذا قلنا: إن تمتعه قد فسدت، وسقط عنه الدم على ظاهر رواية المروذي، فأهل بعمرة أخرى ينوي قضاءها، فهل يكون متمتعاً؟ فإن أنشأ سفراً تقصر في مثله الصلاة، ثم عاد، وأهل بها، ومضى فيها، وحج من عامه ذلك، كان متمتعاً. وإن لم ينشئ سفراً، لم يكن متمتعاً؛ سواء جاوز الميقات، أو لم يجاوزه. وهذا ظاهر ما نقله إسحاق بن إبراهيم: وقد سأله من يكون متمتعاً؟ قال: إذا أنشأ سفراً تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع. ونقل إسحاق عنه رواية أخرى تقتضي أنه إذا بلغ الميقات، واعتمر، وحج من عامه ذلك، كان متمتعاً؛ سواء أكان قدره سفراً تُقصر فيه الصلاة، أم لا، فقال إسحاق: سألته عن رجل تمتع من مكة، قال: لا تكون متعة حتى يخرج إلى ميقاته. وقال أبو حنيفة: إن رجع إلى أهله، ثم عاد، فأهل بها، وحج من عامه، فهو متمتع، وإن لم يرجع إلى أهله، لم يكن متمتعاً. وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاوز وقتاً من المواقيت، ثم اعتمر، وحج من عامه، كان متمتعاً؛ رجع إلى أهله، أم لم يرجع. دليلنا على أنه لا اعتبار بالميقات: أنه لما فسد العمرة حصل السفر

لغير المتمتع، ألا ترى أنه لو اعتمر بعد ذلك من التنعيم، وحج من عامه ذلك، لم يكن متمتعاً؟ فإذا ثبت ذلك قلنا: لما تعلق بذلك السفر حكم، وهو بطلان التمتع، لم يبطل ذلك الحكم بمجاوزته الميقات، كما قلنا في من دخل مكة بعمرة من بلده في أشهر الحج، ولم يفسدها: لما تعلق بذلك بذلك السفر حكم، وهو صحة التمتع؛ لأنه لو مضى في عمرته، وحج من عامه ذلك، كان متمتعاً، لم تبطل ذلك الحكم مجاوزة الميقات، كذلك هاهنا. فإن قيل: ترك السفر في مسألتنا تعلق به صحة التمتع، وفي المسألة التي رددتم إليها يتعلق به بطلان التمتع، فكيف يجوز قياس أحدهما على الآخر؟ قيل له: إذا اشترك الفرع والأصل في الحكم، جاز قياس أحدهما على الآخر، وقد بينا اشتراكهما في ذلك، وهو أن سفره يتعلق به حكم، فلم يبطل ذلك الحكم بمجاوزة الميقات قياساً على ما ذكرنا. واحتج المخالف بأنه حصل في موضع لأهله التمتع أشبه إذا سافر ما تُقصر فيه الصلاة. والجواب: أنا لا نسلم هذا؛ لأنه متى لم يكن بينه وبين مكة مسافة تُقصر فيها الصلاة، فأحرم بعمرة، لم يكن متمتعاً يجب عليه دم التمتع. على أن هذا يوجب أن يكون من دخل من بلده إلى مكة في أشهر

الحج، وفرغ منها، ثم جاوز بعض المواقيت: أن يبطل تمتعه، كما لو رجع إلى بلده، وفي اتفاقهم على أنه لا يبطل تمتعه دليل على أن مجاوزته إلى الميقات، لا تجري مجرى رجوعه إلى بلده. واحتج إذا جاوز الميقات كان حكمه حكم سائر الآفاق بدليل أنه لا يجوز له دخول مكة إلا بإحرام، كما لا يجوز لسائر أهل الآفاق، واتفقوا أنه يصح منهم التمتع، كذلك هاهنا. والجواب: أن أهل الآفاق إذا تعلق بسفرهم بحكم، وهو بطلان التمتع، أو صحته، فإن ذلك الحكم لا يبطل إلا بحصول الرجوع إلى بلده. وأما اعتبار أبي حنيفة بالرجوع إلى أهله، فقد تقدم الكلام معه في المتمتع إذا فرغ من عمرته، ثم سافر ما تُقصر فيه الصلاة، وهل يسقط عنه دم التمتع، أم لا؟ فعندنا: لا يسقط، وعندهم: يسقط بإلمامه بأهله، ومضى الكلام فيه. * فصل: ويلزم القارن دم واحد لأجل الفساد. نص عليه في رواية ابن منصور، وقد سأله عن القارن إذا أفسد حجه بإصابة أهله: ما عليه من الهدي؟ قال: عليه هدي واحد.

ونقل عنه في موضع آخر في قارن طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ثم جامع قبل أن يأتي منى: فإن كان نوى بطوافه أن يحل من حجه وعمرته، فقد حل إذا هو قصر أو حلق، وله أن يحل منهما إذا لم يسق، ولا بد أن يُهل بالحج من عامه، وليس عليه شيء إذا وطئ بعد الحلق. وهذا بناء على أصلنا أن له فسخ الحج إلى العمرة؛ سواء كان قارناً، أو مفرداً. وقال أبو حنيفة: إذا وطئ قبل طواف العمرة أفسدها، وعليه شاتان؛ إحديهما لإفساد العمرة، والثانية لإفساد الحج. وإن وطئ بعد طواف العمرة لم تفسد عمرته، وفسد حجه، وعليه دم واحد. وقد يتخرج مثل هذا على ما ذهبنا على الرواية التي [توجب أن] يأتي القارن بطوافين وسعيين. والدلالة على أنه يلزم دم واحد للفساد: أنه مستنك يجتزئ بحلاق واحد، فلم يلزمه بالوطء إلا كفارة واحدة، كالمفرد. واحتج المخالف بأنهما عبادتان، لو أفرد كل واحدة منهما بالوطء، لزمه كفارتان، فإذا جمعهما، ووطئ فيهما، لزمه كفارتان، كالصائم إذا كان محرماً بعمرة. والجواب: أن كفارة صوم رمضان وكفارة العمرة كفارتان مختلفتان،

مسألة لا يجوز تفريق الهدي -عن المتعة، والقران، وما كان معناه من الهدي الواجب بترك الإحرام من الميقات- على غير فقراء الحرم، وكذلك الإطعام في جزاء الصيد، ويجوز ذلك في فدية الأذى، وما كان في معناه من اللباس، والطيب، ودم الإحصار إذا وجد سبب ذلك في الحل

فلم تتداخلا، وليس كذلك كفارة الحج وكفارة العمرة؛ لأنهما من جنس واحد، فإذا اجتمعا جاز أن يتداخلا، كما يقول في حرمة الحرم وحرمة الإحرام. واحتج بأن وطأه صادف ما يسقط به الحج والعمرة، فوجب أن يلزمه دمان، كالمتمتع إذا وطئ في العمرة، ثم في الحج. والجواب: أن هناك إحرامان منفردان، وهاهنا الإحرامان مجتمعان، فتداخلت كفارتهما، كما إذا اجتمعت حرمة الحرم والإحرام، والكلام في هذه المسألة مستوفى في قتل الصيد. * ... * ... * 169 - مسألة لا يجوز تفريق الهدي -عن المتعة، والقران، وما كان معناه من الهدي الواجب بترك الإحرام من الميقات- على غير فقراء الحرم، وكذلك الإطعام في جزاء الصيد، ويجوز ذلك في فدية الأذى، وما كان في معناه من اللباس، والطيب، ودم الإحصار إذا وُجد سبب ذلك في الحل: وقد نص على ذلك في رواية الأثرم في محرم أصاب صيداً في غير مكة: فجزاء الصيد بمكة، وعليٌّ إنما ذبح عن حسين على بعض

المياه؛ لأنه كان في فدية الأذى. وقال -أيضاً- في رواية ابن منصور: كل شيء يصيب بمكة، فكفارته بمكة، وما كان معناه حديث علي، فعلى ما صنع علي. وقال -أيضاً- في رواية أبي الحارث: وما كان من دم واجب وجزاء الصيد، فلا يُذبح إلا بمكة، وما كان من كفارة، أو فدية حلق الرأس، أو لبس ثوباً، أو غيره من الفدية، فحيث حلق أو لبس افتدى. وقال -أيضاً- في رواية المروذي: إذا مات، ولم يصم، يُطعم عنه بمكة موضع وجب عليه. وقال في رواية الميموني: إن أعطى الطعام جعله في أهل مكة خاصة. وقال في رواية الميموني في القارن يحصره العدو: فإن كان معه هدي نحره مكانه، وحل، وليس عليه شيء أكثر من هذا. فقد نص على التفصيل الذي ذكرنا. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز تفريق لحم الهدي على غير فقراء الحرم، وكذلك الإطعام في الجزاء والفدية. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك إلا في دم الإحصار، والإطعام عن دم الإحصار خاصة.

دليلنا على أبي حنيفة ومالك: قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وظاهر الآية يقتضي أنه إذا وصل الهدي حياً إلى الكعبة أجزأه، إلا أن الديل دل على وجوب إيقاع فعل فيه، ولا يجوز أن يكون المراد بذلك النحر فحسب؛ لأنه ليس في النحر أكثر من تلويث الحرم بالدم، وتنجيسه، وذلك موضع شريف لا يُؤمر بتنجيسه مقصوداً، فثبت أنه أراد بذلك الأمر بالتفرقة، إلا أن التفرقة قد تتضمن النحر؛ لأنها لا تحصل إلا بعد، واقتضت الآية وجوب الأمرين معاً. وأيضاً روي عن ابن عباس: أنه قال: الهدي والإطعام بمكة، والصوم حيث شاء. ولا يُعرف له مخالف، وعندنا وعندهم أن قول الصحابي مقدم على القياس. والقياس: أن التفرقة إحدى مقصودي الهدي، فجاز أن يختص بالحرم، كالنحر. ولا يلزم عليه هدي المحصر؛ لأنه قد يختص الحرم، وهو إذا كان الحصر في الحرم، وكذلك فدية الأذى تختص بالحرم إذا كان الحلق في الحرم. فإن قيل: تفرقة اللحم غير مقصودة عندنا وعندكم؛ لأنه لو سُرق بعد الذبح لم يجب بدله، ولو سُرق قبل الذبح وجب بدله.

قيل له: نريد بقولنا: (مقصودة): أنها واجبة عليه مع القدرة عليها، ولا خلاف أنه واجب عليه مع القدرة عليه، كالذبح. ولأنه لو حال الحول على النصاب، ووجبت الزكاة فيه، ثم سُرق قبل المطالبة بها، سقطت الزكاة عند أبي حنيفة، ولم يدل ذلك على أن تفرقتها ليس بمقصودة. ولأن الضمان إنما سقط؛ لأن الشيء تلف بغير تفريط فيه، وهذا لا يدل على أنه غير مقصود، كما أن من نذر أضحية ونحوها، فسُرق لحمها، لم يضمن، وإن كانت التفرقة مقصودة. فإن قيل: سوق الهدي وتقليده مقصود، ولا يختص الحرم. قيل له: ذاك غير مقصود، وإنما تقلد لئلا تختلط، وتُساق؛ لتُنحر في محلها. فإن قيل: الذبح عبادة بدنية، وعبادات الأبدان يجوز أن تختص بمكان، وتفرقة اللحم من حقوق الأموال، وذاك لا يختص بمكان. قيل له: عبادات الأبدان منها ما يختص بمكان، ومنها ما لا يختص، فيجب أن يكون في عبادات الأموال كذلك؛ لأنها أحد نوعي القُرب. فإن قيل: الذبح لما اختص بزمان لم يختص تفريق اللحم به، كذلك ما اختص منه بمكان لا يختص تفريق اللحم به. قيل له: لا يمتنع الإخلال بالزمان دون المكان، كطواف الزيارة

يختص عند المخالف بزمان -وهو أيام التشريق- ومكان، والإخلال بالمكان يمنع الصحة، والإخلال بالزمان لا يمنع الصحة. وقياس آخر، وهو: أن كل ما تعلق بالإحرام، ولم يكن من شرطه الجمع بين الحل والحرم فيه، فإذا اختص بعضه بالحرم اختص جميعه به، كالطواف والرمي. ولا يدخل عليه الإحرام؛ لأن من شرطه الجمع بين الحل والحرم فيه. ولا تدخل عليه فدية الأذى؛ لأنه يختص بعضها بالحرم؛ لأنه يجوز ذبحه في موضع سببه، وتفرقة لحمه أيضاً. فإن قيل: التفرقة ليست بعض الهدي، بل الذبح نسك، والتفرقة نسك آخر، وأحدهما يختص الحرم، والآخر لا يختص، كالوقوف بعرفة، والوقوف بالمزدلفة، ولهذا نقول: لو ذبح الهدي، ثم سُرق اللحم، أجزأه. قيل له: الهدي نسك واحد وجب فعله بشرطين: أحدهما: الذبح. والآخر: التفرقة. بدليل أنه لو ذبح، ولم يفرق، وأتلف اللحم، لم يجزئه، ولم يقع ذلك الذبح موقعه. وليس إذا سُرق اللحم، فأجزأه، دل على أن التفرقة غير متعلقة

بالذبح، كما أن المال إذا تلف سقطت الزكاة عندهم، ولم يدل ذلك على أن الزكاة غير متعلقة به. وأيضاً فإن الحقوق التي تتعلق بالقرب على ضربين: ضرب في المال. وضرب على البدن. وما يتعلق على البدن فيه ما يختص بموضع دون موضع، كالطواف والسعي وذبح الهدي، فيجب أن يكون في المال ما يختص بموضع دون موضع. وإذا ثبت هذا ثبت اختصاص الهدي بالحرم؛ لأن أحداً لا يفرق بينهما. فإن قيل: نقول بموجبه، وهو: إذا قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم على مساكين الحرم إن شفى الله مريضي؛ فإنه يجب أن يتصدق بها. قيل له: ليس عن أبي حنيفة في ذلك رواية، ومحمد يقول: يجب، وأبو يوسف يقول: يجوز أن يفرقها على مساكين الحل، والقول عندهم قول أبي يوسف في ما لم يكن عن أبي حنيفة فيه رواية. وقد نص أحمد على اختصاص ذلك بفقراء الحرم في رواية ابن إبراهيم في رجل جعل دراهمم يتصدق بها هدياً إلى البيت: يبعث بها إلى مكة، يتصدق بها على فقرائها ومساكينها.

وكذلك نقل المروذي في من أهدى إلى البيت دراهم: يبعث بها إلى مكة، يتصدق بها على مساكينها. فإن قيل: الحق الذي يتعلق بالبدن منه ما يختص بزمان، وليس كذلك في حقوق الأموال. قيل له: فيها ما يختص بزمان، وهو زكاة الفطر؛ فإنه لا يجوز تقديمها على رمضان. فإن قيل: لما كان في ما يتعلق على البدن ما يختص بموضع دون موضع، كالطواف والسعي والذبح، لم يختلف الواجب منه والتطوع، فلو كان في المال ما يختص بموضع دون موضع، لوجب أن لا يختلف الواجب منه والتطوع، ولما وافقنا في هدي التطوع: أنه لا تختص فرقة لحمه بموضع، ويجوز في الحرم وغيره، كذلك الواجب. قيل له: هدي التطوع لما لم يختص أحد موجبيه بالحرم، وهو النحر، لهذا لم تختص تفرقته به، وفي مسألتنا لما اختص أحد موجبيه -وهو النحر- بالحرم، اختص بقيته. واحتج المخالف بقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]. ولم يخص مكاناً دون مكان.

والجواب: أن هذا عطف على قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وقد ثبت أن وصول الهدي إلى الحرم واجب، وإيقاع فعل فيه أيضاً، كذلك يجب أن يكون الإطعام في حكمه. فإن قيل: هذا عطف على قوله: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ}، فتقديره: أو كفارة طعام، ولا يكون عطفاً على قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}؛ لأن بلوغ الكعبة صفة، والعطف يكون على الموصوف دون الصفة. قيل له: بلوغه الكعبة صفة للموصوف الذي هو المثل، فالإطعام عطف عليه بصفاته. واحتج بقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍأَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وهذا عام. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم لكعب بن عُجرة: "تصدق على ستة مساكين بثلاثة آصع من طعام"، ولم يُفصل. والجواب: أن هذا وارد في فدية الأذى، وعندنا لا تختص الحرم. واحتج بأنها كفارة، فلا تختص مساكين الحرم قياساً على كفارة اليمين. ولأنه حق يتعلق بالمال يجب إخراجه إلى المساكين، فوجب أن

لا يختص به مساكين الحرم قياساً على النذور والكفارات. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه لا يختص بعضه بالحرم، فلم يختص جميعه، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يختص بعضه بالحرم، وهو الذبح، فوجب أن يختص تمامه به. دليله: الطواف والرمي. واحتج بأنه أحد ما يقع به التكفير، فلم يختص الحرم، كالصوم. والجواب: أن الصوم لا منفعة لمساكين الحرم فيه، فلم يختص الحرم، ولهم منفعة في الإطعام. فإن قيل: فالذبح لا منفعة لهم فيه، ويختص الحرم، وكذلك الطواف والسعي والرمي. قيل له: أما الذبح فلهم فيه منفعة، وهو وصول اللحم إليهم غضاً طرياً، فأما الصوم، فلا منفعة لهم فيه بوجه. وأما الطواف والسعي والرمي فلا تختص الحرم، وإنما تختص بقعة منه، والتفرقة تتعلق بجميع الحرم، ألا ترى أن أي موضع من الحرم فرق في أجزأه، إذا كان كذلك، لم يدخل الطواف والسعي على علة الأصل؛ لأنا قلنا: (لا منفعة لهم فيه، فلم يختص الحرم)، ونريد به: لا يختص جميع الحرم. فإن قيل: أليس قد سويت بين الصوم في كفارة اليمين والظهار وبين

الإطعام في أن جميع ذلك لا يختص الحرم، وإن كان الصوم لا منفعة لهم فيه، والإطعام لهم فيه منفعة؟ قيل له: لما بينا، وهو: أن تلك الكفارات لا يختص بعضها بالحرم، فلم يختص جميعها، وهذه يختص بعضها بالحرم، فاختص جميعها. واحتج بأنه يجوز أن يصرف إلى المجتازين في الحرم، وإن لم يكونوا مقيمين فيه. والجواب: أن الاعتبار بكون المساكين فيه؛ سواء كانوا من أهله، أو من غيره، كما أن الصيد محرم فيه؛ سواء كان من صيد الحرم، أو من غيره لكنه حصل فيه؛ فإن الحرمة تثبت له بكونه فيه. واحتج بأن كل موضع يجوز أن يجب الهدي فيه، يجوز أن يُفرق فيه الهدي، كالحرم. والجواب: أن الحرم موضع للذبح، فلهذا كان موضعاً لتفرقته فيه. واحتج بأنه هدي تجوز تفرقة لحمه في الحرم، فجاز في غير الحرم. أصله: دم الإحصار، وفدية الأذى. والجواب: أنه يجوز ذبح ذلك في غير الحرم، فلهذا جازت تفرقته. فإن قيل: لا نسلم لك هذا. قيل: نحن نبني ذلك على أصلنا. وإن شئت قلت: حال الحصر حال عذر، فجائز ترك الحرم معها،

كما ترك بقية المناسك. وإن شئت قلت: لما كان الحل موضع محله، كان موضع نحر. * فصل: والدلالة على أن فدية الأذى -وما في معناها من اللباس والطيب- لا يختص ذبح الهدي فيها بالحرم، ولا تفرقة الإطعام عن دم الفدية بالحرم: ما تقدم من قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍأَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وهذا عام. فإن قيل: فقد قال تعالى: {أَوْ نُسُكٍ}، والنسك لا يكون [إلا] في الحرم، كذلك الإطعام. قيل له: النُّسك لا يختص عندنا الحرم، وقد بينا أنه يجوز ذبحه في الحل. وليست تسميته نسكاً مما يوجب تخصيصه بالحرم، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الأضحى: "إن أول نُسكنا في يومنا هذا الصلاة، ثم الذبح". فسمي الصلاة وذبح الأضحية نسكاً، ولا يختصان الحرم؟ وما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلّم لكعب بن عُجرة: "تصدق على ستة

مساكين بثلاثة آصع من طعام"، ولم يُفصل. وأيضاً ما احتج به أحمد، ورواه الأثرم بإسناده عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر: أنه أخبره: أنه كان مع عبد الله بن جعفر، فخرج معه من المدينة، فمروا على حسين بن علي، وهو مريض، فأقام عليه عبد الله بن جفر حتى إذا خاف الفوات خرج، وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء ابنة عُميس، وهما بالمدينة، فقدما عليه، ثم إن حُسيناً أشار إلى رأسه، فأمر علي بن أبي طالب برأسه فحُلق، [ثم نسك] عنه بالسُّقيا، فنحر عنه بعيراً. فحصل هذا مذهب لعلي وللحسين ولعبد الله بن جعفر وأسماء، رضي الله عنهم، وهؤلاء أربعة من الصحابة، ولا يُعرف خلافهم. فإن قيل: فابن عباس يخالف، وهو قوله: الهدي والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء. قيل له: هذا يخالف ما روينا عنهم؛ لأنه يحمل قول ابن عباس على غير فدية الأذى. وكل موضع يجوز فيه إخراج دم الإحصار، والإطعام عن دم الإحصار، يجوز إخراج فدية الأذى. دليله: الحرم.

ولأن الحل محل الحلق بدليل المحصر من سنته أن يحلق في الحل، وكذلك لو أخر المحرم الحلاق حتى خرج من الحرم أُمر بالحلق فيه، ولم يكلف الرجوع إليه، وإذا كان محلاً له [كان محلاً] لكفارته. دليله: الحرم. واحتج المخالف بأن هذا الدم متعلق بالإحرام، فاختص الحرم، كسائر الدماء. والجواب: أنه يبطل بدم الإحصار. فإن قيل: فنقول: يتعلق بالإحرام؛ لا يجوز ذبحه في غير الحرم. قيل: لا نسلك لك هذا، بل بجوز ذبحه في غير الحرم. على أنا قد بينا الفرق بينه وبين سائر الدماء، وهو: أن الحل ليس بمحل لفعل تلك الأشياء التي توجب الدم، فلهذا لم يكن الحل محلاً لكفارته، وليس كذلك في الحلق؛ لأن الحل له محل، فكان محلاً لكفارته، كالحرم. وأجود ما يُقال في هذا: أن الحل قد أُجري مجرى الحرم في باب الحلاق بدليل أن المحصر عندنا وعند الشافعي [يحلق] كما لو كان في الحرم، فيجب أن يكون محلاً لفديته.

مسألة إذا ذبح الهدي، ثم سرق، لم يلزمه غيره، وسقط عنه الواجب

170 - مسألة إذا ذبح الهدي، ثم سُرق، لم يلزمه غيره، وسقط عنه الواجب: نص عليه في رواية ابن منصور: وذُكر له قول سفيان في رجل نحر، فلم يطعم منه حتى سُرق: لا أرى عليه بأساً، إذا نحره فقد فرغ. قال أحمد: جيد. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يسقط عنه الواجب حتى يذبح آخر، أو يدفعه إلى المساكين. دليلنا: أنه لما ذبحه تعلق حق المساكين بعينه؛ لأن عليه أن يتصدق به، وصار كأنه قال: لله علي أن أتصدق بهذا اللحم، أو هذا الثوب، فهلك بغير فعله: أنه لا يضمن. ولا يلزم عليه إذا تلف قبل الذبح أنه يضمن؛ لأنه ما تعين، ألا ترى أن له بيعه عندنا؟ وإنما تعلق حقهم به. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الحق تعلق بعينه، لا على سبيل البدل عن ما في ذمته، فسقط بتلفه، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الحق تعلق بعينه على سبيل البدل عن ما في ذمته، فإذا لم يوصله إلى مستحقه كان ما في ذمته باقياً عليه، كما لو اشترى ثوباً بدين له على رجل، فتلف الثوب قبل القبض: أن له أن يطالبه بما في ذمته.

قيل له: لا نسلم لك الفرع: أن الحق تعلق بعينه على سبيل البدل، بل نقول: تعين ما كان في ذمته، وتعلق الحق بعينه، وإذا تلف بغير فعله لم يضمن اعتباراً بما قدمنا. يبين صحة هذا: أنه لو وجب في ذمته صلاة، فصلاها، لا نقول: إن هذه بدل عن ما ثبت في ذمته، لكن نقول: هي الصلاة الواجبة، وكذلك إذا وجبت عنه كفارة يمين، فهو مخير بين العتق والإطعام والكسوة، فأيهما أخرج قيل: هذا هو الواجب. وأما الثوب المشترى إذا تلف قبل القبض [فقد] انفسخ العقد، وصار كأنه لم يكن، فيبقى الدين في ذمة البائع كما كان. ولأن الذبح قد سقط فرضه عنه، فإذا هلك اللحم تعذرت الصدقة، ولا معنى لإيجاب الذبح؛ لأنهما فرضان مختلفان؛ أحدهما على البدن، والآخر في المال، فإذا أدى فرض البدن لم تلزمه الإعادة بتعذر فرض المال. واحتج المخالف بأنه معبر عن ما في ذمته، فإذا لم يسلم سقط التعبير، وعاد الحق إلى الذمة، كما [لو] كان له في ذمة رجل دين اشترى به ثوباً، وتلف في يد البائع قبل التسليم. والجواب عنه: ما تقدم. وعلى أنه لا فرق بينهما؛ لأنه لما ذبح الهدي، فقد تصرف فيه بعد

مسألة إذا فسد الحج لزمه القضاء من أبعد الموضعين؛ إما الميقات الشرعي، أو الموضع الذي أحرم منه. وكذلك إذا أفسد العمرة لزمه القضاء من أبعد الموضعين

تعيينه بأمر الله تعالى، فصار كما لو باع ثوباً بدين عليه، فأمره صاحب الدين بقطعه، ثم تلف قبل قبضه، لم يعد الدين. واحتج بأنه لم يوصله إلى مستحقه، فوجب أن لا يسقط عنه فرضه، كما لو أكله، أو أتلفه. والجواب: أنه ليس من حيث لو أتلفه ضمن، يجب إذا تلف بنفسه أن يضمن، ألا ترى أنه لو قال: لله علي أن أتصدق بهذا اللحم، ثم أكله ضمن، ولو تلف بغير فعله لم يضمن؟ * ... * ... * 171 - مسألة إذا فسد الحج لزمه القضاء من أبعد الموضعين؛ إما الميقات الشرعي، أو الموضع الذي أحرم منه. وكذلك إذا أفسد العمرة لزمه القضاء من أبعد الموضعين: نص عليه في رواية أبي طالب في الرجل يواقع امرأته، وهما معتمران: فسدت عمرتهما، وعليهما قضاؤها من حيث أهلا بالعمرة، ولا يجزئهما إلا من حيث أهلا، الحُرُمات قِصاص. وقال -أيضاً- في رواية ابن منصور: إذا أفسدا حجهما بجماع يُهلان من حيث كانا أهلا من مواقيتيهما.

وقال -أيضاً- في رواية ابن مشيش: إذا أفسد الرجل حجه بوطء فعليه الحج من قابل من حين أوجب الإحرام. قيل له: فإن كان من أهل بغداد، وقد أوجب الإحرام على نفسه، ولم يكن له من قابل زاد ولا راحلة؟ [قال]: فعليه متى وجد. ونقل أبو داود عنه في من أحرم من بغداد، فحُبِس في السجن، ثم خُلي عنه: هل يحرم من هاهنا؟ يعني: من بغداد، قال: يحرم من المواقيت أحب إلي. فظاهر هذا: أنه لم يلزمه القضاء من أبعد الموضوعين؛ لأن التحلل من الحج لم يكن بإفساد. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء من الميقات، والعمرة من أدنى الحل. وقال مالك: يلزمه الميقات في الحج والعمرة جميعاً. دليلنا: أن كل مسافة لزمه قطعها بالإحرام في الأداء، لزمه قطعها بالإحرام في القضاء. دليله: المسافة من الميقات إلى مكة. وكل ما لزمه المضي فيه بإحرام، فإذا أفسده لزمه قضاؤه. دليله: حجة التطوع.

فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لزمه بالإفساد ما لو أراد الإحرام ابتداء لزمه، كذلك القضاء، وما زاد على ذلك لا يلزمه في الابتداء، فلم يلزمه في القضاء. قيل: لو كان هذا صحيحاً لوجب إذا أحرم من الميقات، ثم أفسد، وأقام بمكة: أن يجزئه الإحرام بالقضاء من مكة؛ لأنه لو أراد الإحرام ابتداء لم يلزمه الخروج إلى الميقات، وأجزأه الإحرام من مكة، ولما قالوا: يلزمه الإحرام من الميقات، دل على أن القضاء معتبر بالأداء، فيلزمه الإحرام من الموضع الذي أحرم. وقياس آخر، وهو: أن الشروع في الحج والعمرة سبب لوجوبه، فجاز أن يتعين به موضع الإيجاب. أصله: النذر؛ فإنه لو نذر حجة من دويرة أهله، لم يجز له أن يحرم بها من الميقات، ولزمه ذلك من دويرة أهله. وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا نذر أن يحج ماشياً، ولم ينوِ من أين يكون ذلك من حيث حلف. ورأيت بعضهم لا يسلم ذلك، ويقول: إذا أوجب حجة من دُويرة أهله، جاز أن يحرم بها في الميقات اعتباراً بالفرض. وإن لم يسلم هذا، فإنه يلزمه الحج ماشياً من دُويرة أهله، وإن لم يجب بأصل الشرع، وهذا مسلم بالإجماع. ولا يلزم على هذا إذا أحرم بعد مجاوزة الميقات: أنه لا يتعين

موضع الإحرام؛ لأن التعليل للجواز، فلا ينتقض بغير مسألة. فإن قيل: فرق بين النذر والدخول، وذلك أن الدخول يجب به أدنى ما يصح أن يُتقرب به من ذلك النوع، ولهذا لا يجب بالإحرام إلا عمرة، ولا يجب بالتكبيرة إلا ركعتين. قيل له: حكم الدخول فيها من دُويرة أهله يجري مجرى النذر المقيد بذلك؛ لأنه يلزمه المضي فيه على الوجه الذي دخل فيه، كما يلزمه ذلك بالنذر. واحتج المخالف بما روي عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع، وأحللنا بعمرة، فقدمت مكة وأنا حائض، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال لي: "انقضي رأسك، وامشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة"، فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، وقال: "هذه مكان عمرتك". ومعلوم أن عائشة أحرمت من ذي الحُليفة، وقد أمرها أن تقضي من أدنى الحل. والجواب: أن عائشة أدخلت الحج على عمرتها، فصارت قارنة، ولم ترفض العمرة، وإنما أمرها أن ترفض أفعال العمرة، وأن تأتي بأفعال الحج، والعمرة التي أتت بها بعد ذلك لم تكن قضاء.

وقد ذكرنا ذلك في ما سلف، وما دللنا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعُمرتك"، فأثبت حجاً وعمرة. وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لها: "الآن أحللت من حجك وعُمرتك". واحتج بأنه قضاء عبادة، فوجب أن يجوز الإحرام بها من كل موضع يجوز الإحرام لأدائها. أصله: الصلاة. والجواب: أن الصلاة لا تتعين بموضع في حال الأداء، كذلك في حال القضاء، والحج يتعين الإحرام به بموضع حال الأداء، جاز أن يتعين حال القضاء، كالنذر. واحتج بأنه موضع يصلح لابتداء إحرامه، فصلح لقضاء ما أفسد منه من غير دم. دليله: المكان الذي أحرم منه، وكما لو أحرم من الموضع الأبعد. والجواب: أنه يبطل به إذا أحرم من الميقات، وأفسد، ثم توطن بمكة؛ فإنه لا يجزئه الإحرام للقضاء من مكة، وإن كان يصلح لابتداء

مسألة ومن فاته الحج بعذر من مرض، أو عدو، أو ضل الطريق، أو أخطأ العدد، أو أبطأ سيره بغير عذر مثل التواني والتشاغل بما لا يعنيه، انقطع إحرام الحج، وتحول إحرام عمرة

إحرامه بحجة مطلقة، ولا يصلح لقضاء حجة أفسدها أوجبها من دويرة أهله. واحتج بأنه ينزع بتقديم إحرامه في الأداء، فلم يجب تقديمه في القضاء. أصله: إذا أحرم في شوال، ثم أفسده. والجواب: أن حال المكان آكد من حال الزمان، ألا ترى أن مجاوزة ميقات الزمان لا يوجب الدم، ومجاوزة ميقات المكان توجب الدم؟ فبان الفرق بينهما. * ... * ... * 172 - مسألة ومن فاته الحج بعذر من مرض، أو عدو، أو ضل الطريق، أو أخطأ العدد، أو أبطأ سيره بغير عذر مثل التواني والتشاغل بما لا يعنيه، انقطع إحرام الحج، وتحول إحرام عمرة: وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب، وقال: إذا فاته الحج تحلل بالعمرة. وذكره أبو بكر في كتاب "الخلاف".

وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه قال: ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر تحلل بعمرة. وهذا على أصلنا غير متمتع في فسخ الحج إلى عمرة، وعلى هذا بنى أبو بكر المسألة، وبهذا قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: إحرام الحج باقٍ، ويتحلل منه بعمل عمرة، وهو اختيار شيخنا أبي عبد الله. وقد أومأ إليه أحمد في رواية ابن القاسم في الذي يفوته الحج: يفرغ من عمله؛ يعني: عمل الحج. ويفيد هذا: أنه إذا فاته الحج، وأحرم بحجة أخرى، لم يرفضها، ومضى فيها، وإن أحرم بعمرة أخرى رفضها؛ لأن من كان محرماً بعمرة، فأضاف إليها حجة، لم يرفضها، ومضى فيها، وكان فارقاً، وإن أحرم بعمرة رفضها؛ لأن من كان محرماً بعمرة، فأضاف إليها عمرة أخرى، رفض الثانية، ولم ينعقد إحرامه بها. وعلى قولهم: إذا أحرم بحجة أخرى، لم يصح إحرامه بالثانية، ورفضها؛ لأن من كان محرماً بحجة، فأحرم بأخرى، لم يصح، ورفض الثانية. والدلالة على أن الإحرام الحج قد انقطع: ما روى أبو بكر النجاد قال: ثنا موسى بن إسحاق قال: ثنا عبد الله بن محمد قال: ثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء: أن نبي الله صلى الله عليه وسلّم قال: "من لم يُدرك

فعليه دم، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل". فوجه الدلالة: أنه قال: "ويجعلها عمرة"، وعندهم ليست عمرة. ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن عمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت. وروى أبو بكر النجاد بإسناده: أن أبا أيوب بن زيد خرج حاجاً حتى إذا كان بالنازية أضل رواحله، فطلبهن، فقدم وقد فاته الحج، فسأل عمر، فأمره أن يجعلها عمرة، ويحج من عام المقبل، وعليه ما استيسر من الهدي. وروي بإسناده في لفظ آخر عن سليمان بن يسار، عن هبار بن الأسود: أنه أهل بالحج، فقدم على عمر رضى الله عنه يوم النحر، وقد أخطأ العدد، فقال: أهل بعمرة، وطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وقصر أو احلق، وحج من قابل، وأهرق دماً. وقد روى بإسناده عن الأسود، عن عمر وزيد قالا في رجل يفوته الحج: يهل بالعمرة، وعليه أن يحج من قابل. وبإسناده عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: من لم يقف بعرفة إلا بعد طلوع الفجر فقد فاته الحج، وليجعلها عمرة، وليحج قابلاً،

وليهد إن وجد هدياً، وإلا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع. وبإسناده عن عطاء، عن ابن عباس في من فاته الحج قال: يهل بعمرة، وليس عليه الحج. فوجه الدلالة: أن بعضهم يقول: يجعلها عمرة، وبعضهم يقول: يهل بعمرة، وبعضهم يقول: يحل بعمرة، وعندهم أنه يهل بالحج، ويحل به. فإن قيل: فيحمل قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "يجعلها عمرة"، وقول الصحابة: يحل بعمرة؛ معناه: بأفعال عمرة. قيل له: هذا خلاف الحقيقة، فلو كان المراد ما قلت لقال: يحل بأفعال عمرة، ولقال: يجعلها أفعال عمرة. فإن قيل: فقد روي عن عمر في لفظ آخر رواه البخاري عن سليمان ابن يسار: أن أبا أيوب الأنصاري خرج حاجاً حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله، ثم إنه قدم على عمر يوم النحر، فذكر ذلك له، فقال: اصنع كما يصنع المعتمر، ثم قد حللت، فإذا أدركت قابل فاحجج، وأهد ما استيسر من الهدي. فلو كان بالفعل معتمراً لم يقل: اصنع كما يصنع المعتمر.

قيل له: قوله: (اصنع كما يصنع المعتمر) لا يمنع كونه معتمراً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم لعائشة لما حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، فلم يدل هذا على أنها لم تكن حاجة، كذلك هاهنا. وأيضاً فإن ما يفعله بعد فوات الحج هو عمل عمرة، فوجب أن يكون مؤدياً بإحرام العمرة. دليله: إذا أحرم بعمرة مبتدأة. فإن قيل: لو كان كذلك لوجب إذا بقي محرماً إلى قابل، وطاف وسعى في أشهر الحج: أن يكون متمتعاً، كما لو أحرم بعمرة مبتدأة. قيل له: إنما لم يكن متمتعاً؛ لأنه لم يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج وأفعالهما في سنة واحدة، ولهذا نقول: لو أحرم بالعمرة في رمضان، وطاف لها في شوال، وحج من سنته، لم يكن متمتعاً؛ لعدم المعنى الذي ذكرنا، فأولى أن لا يكون متمتعاً إذا وجد ذلك في سنتين. وأيضاً لو كان إحرام الحج باقياً بعد الفوات، لجاز بقاؤه عليه، وأداء أفعال الحج به في السنة القابلة، كما لو أحرم بعد مضي الوقت، ولما لم نقل هذا دل على أنه قد انقطع. فإن قيل: امتناع جواز أداء أفعال الحج به في السنة القابلة لا يمنع بقاء إحرام الحج، ألا ترى أنه لو لم يفته الحج، وأدرك عرفة، ومضى وقته، كان إحرام الحج باقياً إلى أن يطوف [طواف] الزيارة ومعلوم أنه

لا يمكنه أداء أفعال الحج في السنة القابلة. قيل له: إنما لم يجز هناك؛ لأنه إحرام قد أسقط فرض الحج، وهو الوقوف، ولهذا لم يسقط به فرضاً ثانياً، وهذا بخلافه. وأيضاً لو أحرم بعمرة لم يصح، فلو كان إحرام الحج باقياً لصح، كما لو أحرم بها قبل الفوات، ويصير قارناً. ولأن الإحرام إما أن يكون إحراماً يؤدي به عمرة، أو إحراماً يؤدي به حجة، فأما إحرام يؤدي به عمل عمرة فلا. فإن قيل: الطواف الذي يتحلل به عند الفوات هو الذي أوجبه إحرام الحج، وليس هو عمل عمرة. قيل له: لو كان كذلك، لجاز فعله قبل الوقوف بعرفة؛ لأن طواف الزيارة لا يثبت حكمه قبل الوقوف. ولأن بقاء طواف الزيارة لا يمنع الطيب واللبس والحلق، والذي يفوته الحج ممنوع من ذلك كله، فدل على أنه ليس هو الطواف الذي أوجبه إحرام الحج. واحتج المخالف على بقاء إحرام الحج بأن القارن إذا فاته الحج يمضي في عمرته، ويتحلل مع ذلك من الحج بالطواف والسعي، فلو كان إحرامه للحج قد انقطع بالفوات، وصار إحرام عمرة حقيقية، لما جاز

له المضي فيها؛ لأن من كان محرماً بعمرة، فأضاف إليها أخرى، لم ينعقد إحرامه بالثانية، [....] فلما اتفقنا على جواز المضي في الإحرامين، دل على أن إحرام الحج باقٍ، وأن ما يتحلل به من الحج عمل عمرة. والجواب: أنه إنما جاز المضي فيهما؛ لأن إحرامه في الابتداء صح على وجه يمكنه المضي فيه، فلهذا لم يُؤمر برفضها، وليس كذلك إذا أحرم بعمرتين، أو بعمرة وعمرة بعدها؛ لأنه لا يمكنه المضي فيهما، فلهذا لم ينعقد بالثانية، ونظير هذا من سبقه الحدث بعدما دخل في صلات، بنى عليها عندهم وعندنا على إحدى الروايتين، ولو قارن الحدث ابتداء الصلاة لم تنعقد، وكان الفرق بينهما أنه في إحدى الموضعين انعقد على وجه الصحة، وفي الآخر على وجه الفساد. وأجود من هذا: أنه إنما مُنع من إدخال عمرة على عمرة إذا كان يلزمه المضي في كل واحد منهما، وعمرة القران لا تلزمه أفعالها؛ لأنها داخلة في أفعال الحج. واحتج بأنه لو فاته الحج، وبقى على إحرامه إلى قابل، وطاف وسعى في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك: أنه لا يكون متمتعاً، فلو كان إحرامه تحول إلى إحرام عمرة، لوجب أن يكون متمتعاً، كمن أحرم بعمرة في غير أشهر الحج، وطاف وسعى لها في أشهر الحج، أن يكون متمتعاً.

والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلّم قد كان أمر أصحابه بالفسخ، ومعناه: أن يجعلوا إحرامهم بالحج عمرة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. فلو قلنا: إن إحرامه بالحج يتحول بالفوات إحرام عمرة، لكان فيه فسخ الحج، وقد بينا أن ذلك منسوخ. والجواب: أن فسخ الحج إلى العمرة باق لم يُنسخ، وقد دللنا على ذلك في ما تقدم بما فيه كفاية. وقوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قصد به بيان التمام في ما يرجع إلى الإحرام من الميقات، أو من دويرة أهله، وقد بينا ذلك في ما تقدم. ولأنه محمول على الأمر بالتمام على وجه لا يدخل عليه الفساد، والفسخ عندنا ليس بإفساد له. واحتج بأن إحرامه بفوات الحج، ولو صار إحرام عمرة، لوجب أن يلزمه الخروج إلى التنعيم قبل الطواف، ومتى لم يخرج إليه لزمه دم. وقد قال أحمد في رواية الأثرم في من قدم حاجاً فطاف وسعى، ثم مرض، فحيل بينه وبين الحج حتى مضت أيامه: يحل بعمرة. قيل له: يُجدد إهلالاً للعمرة، أم يجزئه الإهلال الأول؟ فقال: يجزئه الإهلال الأول.

والجواب: أنه إنما يجب الدم إذا أدخل النقص في إحرامه بترك ما يجب عليه بالإحرام من الوقت، وهو لم يجب عليه الإحرام إلا على هذه الصفة، فلم يدخل النقص في إحرامه بترك الوقت، فلهذا لم يلزمه دم. ولهذا نقول: يجوز فسخ الحج إلى العمرة، ولا يلزمه دم لترك الإحرام بها من التنعيم؛ للمعنى الذي ذكرنا. واحتج بأنه ليس في فوات الحج إلا تعذر المضي في الحج، وتعذر المضي فيه لا يوجب أن يصير إحرامه إحرام عمرة. الدليل عليه: المحصر. والجواب: أن المحصر لا يلزمه بعد التعذر عمل العمرة، فلهذا لم يصر محرماً بها، وهذا يلزمه، فوجب أن يكون مؤدياً بإحرام العمرة، كما لو أحرم بعمرة مبتدأة. واحتج بأنها لو انتقلت عمرة لأجزأته عن عمرة الإسلام، فلما لم تجزئه عنها وجب أن لا تكون عمرة. والجواب: أنه إنما تجزئه عن عمرة الإسلام؛ لأنها قد وجبت عليه بالشرع، فلم تسقط إحداهما الأخرى، كما لو نذر عمرة؛ فإنها لا تسقط عمرة الإسلام. ويبين صحة هذا: أن غير الفائت لا يلزمه أن يأتي بأفعال العمرة وعمرة الإسلام. * ... * ... *

مسألة ويلزمه مع العمرة القضاء والهدي في أصح الروايتين

173 - مسألة ويلزمه مع العمرة القضاء والهدي في أصح الروايتين: نقلها ابن القاسم والميموني. وهو قول مالك والشافعي. ونقل أبو طالب عنه: يلزمه الهدي، ولا يلزمه القضاء. وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء، ولا يلزمه الهدي. والدلالة على وجول القضاء: ما تقدم من حديث عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من لم يُدرك فعليه دم، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل". ولأننا روينا عن عمر وابن عمر: أن عليه القضاء والهدي. فإن قيل: فقد خالف ابن عباس، وقال: لا قضاء. قيل: [....]. ولأنه لم يكمل أفعال حجه بتفريط كان منه، فوجب أن يكون عليه القضاء، كما لو أفسد. ولا يلزم عليه فسخ الحج إلى العمرة؛ أنه لو كان محرماً بحجة تطوع، ثم فسخ الحج، كان عليه قضاء الحج؛ لأنه إنما يجوز له فسخ الحج إلى العمرة؛ ليستفيد به فضيلة التمتع، ولا يحصل هذا إلا بالحج.

وقد أومأ أحمد إلى هذ في رواية ابن منصور، فقال في القارن: له أن يحل إذا لم يسقِ الهدي، ولا بد له أن يهل بالحج من عامه. واحتج من قال: (لا قضاء) بحديث الأقرع بن حابس قال: قلت: يا رسول اللهّ مرة، أو أكثر؟ قال: "بل مرة، وما زاد تطوع". وظاهره: أن لا يجب عليه أكثر من مرة واحدة، وإذا أوجبنا عليه القضاء، فقد أوجبنا عليه أكثر من ذلك. والجواب: أن هذا محمول على من لم يحرم بالحج دفعة تانية. واحتج بأنه لم يوجد من جهته فعل يفسد الإحرام، فلم يلزمه القضاء، كالمحصر. والجواب: أن في ذلك -أيضاً- روايتين، نقل أبو طالب: عليه القضاء. فعلى هذا: لا فرق بينهما. ولأن المحصر لم يوجد من جهته تفريط، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لم يكمل أفعال حجه بتفريط كان منه، فهو كالمفسد. * فصل: والدلالة على أن عليه الهدي: ما تقدم من حديث عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من لم يدرك فعليه دم". وهذا أمر فاقتضى الوجوب.

ولأنه إجماع الصحابة؛ قد روينا ذلك عن عمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، كلهم يوجب عليه الهدي. فإن قيل: يحمل هذا على الاستحباب. قيل: ظاهر الأمر يقتضي الوجوب. على أنهم أُمروا بالهدي والقضاء أمراً واحداً، وقد ثبت وجوب القضاء، كذلك الهدي. والقياس: أن الفوات سبب يجب به قضاء الحج، فوجب أن يجب به الهدي. دليله: الإفساد. ولا يلزم عليه فسخ الحج إلى العمرة؛ لأنه يجب به هدي، وهو هدي التمتع. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه واقع المحظور في الإحرام، ولزمه دم جناية، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لم يواقع المحظور، وقد تحلل منه بالطواف، فلم يلزمه للتحلل دم، كالمفرد إذا لم يفته. قيل له: المحصر لم يواقع المحظور في الإحرام، ويلزمه دم للتحلل، وأما المفرد إذا لم يفته، فالمعنى فيه: أنه أكمل النسك، فلهذا لم يلزمه الدم، وهاهنا لم يكمله، فهو كالمحصور. وقياس آخر، وهو: أنه تحلل من نسكه قبل الفراغ منه، فكان عليه الهدي.

دليله: المحصر. ولا يلزم عليه فسخ الحج إلى العمرة؛ لأنا قد بينا أنه يجب به هدي، وهو هدي التمتع. فإن قيل: المحصر حجه لنا؛ لأنه لو كان فوات الحج يوجب دماً، لوجب أن يلزم المحصر دمان؛ أحدهما لإحلاله بغير طواف، والآخر للفوات؛ لأن المحصر فائت الحج، فلما اتفقوا أنه يجب عليه دم واحد للإحلال بغير طواف فقط، عُلم أن فوات الحج لا يوجب دماً. قيل له: إن تحلل بعد الطواف لزمه هديان؛ هدي تحلل به من إحرامه، وهدي لما يلحقه من الفوات. وإن كان قد تحلل منه قبل فواته، فلا يجب هدي الفوات؛ لأنه تحلل من إحرام قبل أن يلحقه الفوات. واحتج المخالف بأنه لم يواقع المحظور في إحرامه، وقد تحلل منه بالطواف، فلا يلزمه للتحلل دم. دليله: من لم يفته. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه يبطل بالمحصر؛ لم يواقع محظوراً، ولو يلزمه الدم. والمعنى في غير الفائت أنه أكمل أفعال نسكه، وهذا بخلافه. واحتج بأنه لو كان فوات الحج يوجب دماً، لوجب أن يلزم المحصر دمان؛ أحدهما لإحلاله بغير طواف، والآخر للفوات؛ لأن المحصر

فائت الحج، فلما وجب عليه دم واحد لإحلال بغير طواف، عُلم أن فوات الحج لا يوجب دماً. والجواب عنه: ما تقدم من أن المحصر إذا فاته الحج لزمه دمان؛ أحدهما للإحصار، والآخر للفوات. واحتج بأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فلا تجب بفواتها قياساً على الصوم. والجواب: أن كفارة الحج عند المخالف آكد من كفارة الصوم؛ لأنها تتكرر بتكرر الوطء، وتجب مع العذر، وهو النسيان، وكفارة الصوم لا تتكرر، ولا تجب إلا بضرب من المأثم. * فصل: ويلزمه إخراج الدم في السنة الثانية. نص عليه في رواية ابن القاسم في الذي يفوته الحج: يفرغ من عمله، فإن كان ساق هدياً نحره، وإذا كان قابلاً فعليه دم للفوات، ولا يجزئه الذي كان معه؛ لأنه قد وجب عليه أن ينحره حين ساقه، وعليه دم غيره ينحره من قابل. وكذلك نقل أبو طالب عنه، فقال: لا ينحر إلا من قابل. ونقل عنه أيضاً: إذا وطئ فأفسد، فإذا حج من قابل أهدى.

فقد أطلق القول: أنه يجب في السنة الثانية، ويجب أن يكون بعد التحلل من القضاء، كما قلنا في دم التمتع: يكون في يوم النحر بعد التحلل من الحج. واختلف أصحاب الشافعي؛ فمنهم من قال: فيه قولان، ومنهم من قال وجهان: أحدهما: يجب بالتحلل من الفوات، كما يجب على المحصر بالتحلل، وعلى المفسد بالإفساد. والثاني: يجب في السنة إذا أحرم في القضاء. وإليه ذهب المروزي في "الشرح"، وقال: وهو بمنزلة المتمتع إذا تحلل من العمرة، وأحرم بالحج. فالدلالة على أنه يكون في السنة الثانية: ما تقدم في حديث عمر: أنه قال للفائت: حُجَّ من قابل، وأهرق دماً. وكذلك عن ابن عمر، فأوجبا الدم في السنة الثانية؛ لأنه أمر بالتحلل في السنة الأولى؛ ليحصل له الاستمتاع باللبس والطيب والحلق في ما بين الإحرامين، فهو كالمتمتع، وقد ثبت: أن المتمتع يلزمه الدم إذا تحلل من الإحرام الثاني عندنا، وعندهم إذا أحرم بالثاني، كذلك هاهنا. ويفارق هذا ما قالوه من دم الحلاق والطيب واللباس أنه يخرجه من سنته؛ لأن هناك نسك واحد، فلهذا لزمه إخراجه في سنته، وهاهنا نسكان، فهو كالمتمتع.

مسألة تجب الفدية بقتل الصيد خطأ

174 - مسألة تجب الفدية بقتل الصيد خطأً: نص على هذا في رواية حنبل، وصالح، وأبي طالب، وعبد الله، والأثرم. وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وقال داود: لا جزاء بقتل الخطأ. ونقل صالح عن أحمد مثل هذا. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "الضبع صيد إذا أصابه المحرم ففيه الجزاء كبش مُسن، ويُؤكل". ولم يفرق بين العمد والخطأ. ولأنه قتل الصيد في حال إحرامه، فأشبه العمد. وكل حيوان لو قتله عمداً وجب به كفارة، فإذا قتله خطأ وجب به أيضاً. دليله: الآدمي. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} [المائدة: 95].

فدل أن من قتله خطأ لا جزاء. والجواب: أن الآية حجة لنا من وجه، وهو أنها تقتضي أن من نسي الإحرام، فقتل الصيد معتمداً يلزمه الجزاء، وعندهم لا يلزمه. وعلى أن تخصيص العمد بالذكر أفاد ما ذكره في أثناء الآية من الوعيد، وهو قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، وهذا الوعيد يختص العامد دون المخطئ، فلهذا خُص العمد بالذكر. واحتج بقوله صلى الله عليه وسلّم: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان". والجواب: أنه محمول على رفع المأثم بما ذكرنا. واحتج بما روى النجاد بإسناده عن أبي حذيفة، عن ابن عباس قال: ليس عليه في الخطأ شيء. والجواب: أنه يقابله ما روى النجاد بإسناده عن الحكم: أن عمر كتب: ليحكم عليه في الخطأ والعمد. وروى أحمد بن مسعود في رجل ألقى [جوالق] على ظبي، فأُمر بالجزاء. قال أحمد في رواية الأثرم: وهذا لا يكون عمداً. واحتج بأن الأصل براءة الذمم إلا أن يرد الشرع.

مسألة العائد لقتل الصيد عليه الجزاء ثانيا

والجواب: أنا قد روينا الشرع في ذلك. واحتج بأنه لو تطيب، أو لبس ناسياً، فلا جزاء عليه، كذلك الصيد. والجواب: أن في ذلك روايتين، والصحيح أنه يستوي العمد والخطأ. * ... * ... * 175 - مسألة العائد لقتل الصيد عليه الجزاء ثانياً: نص عليه في رواية ابن القاسم، وسندي، وإحدى الروايتين عن حنبل. وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وروى حنبل في موضع آخر: لا جزاء عليه، وينتقم الله منه. وهو قول داود. دليلنا: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فذكر جنس الصيد بالألف واللام احتراز من قتله فعليه مثله، فاقتضى الظاهر: أن من قتل صيداً لزمه مثله، ومن قتل صيدين أو أكثر، لزمه مثل ذلك. فإن قيل: الآية إنما تناولت جنس الصيود، وإنما أُريد بها صيداً

واحداً بدلالة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95]، فأتى بلفظ التوحيد، ولو كان المراد الجنس لكان يقول: مثلها، فيكني عنه بلفظ الجمع. قيل: الجمع على ضربين: جمع من طريق اللفظ، كقولك: الرجال والنساء، والكناية تعود إلى الجمع بلفظ الجمع، كقولك: الرجال رأيتهم. وجمع من طريق المعنى مثل من هي موضوعة للجمع عن طريق المعنى، فالكناية تعود إليها بلفظ التوحيد، كقول القائل: من دخل داري فله درهم. كذلك الصيد اسم للجنس من طريق المعنى؛ لأنا استدللنا على ذلك بالألف واللام؛ لأنه لما لم يرد العهد عُلم أن المراد به الجنس؛ لأن لفظه لفظ الجمع، فعادت الكناية إليه بلفظ التوحيد. ويدل عليه -أيضاً- ما تقدم من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "الضبع صيد، إذا أصابه المحرم ففيه الجزاء كبش". ولم يفرق فيه بين الدفعة الأولى والثانية. ولأنه حيوان مضمون بالكفارة، فوجب أن تتكرر الكفارة بتكرر قتله، كالآدمي. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} إلى قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95].

ومنها دليلان: أحدهما: أنه ذكر الجزاء في قتل الصيد، وعلقه بلفظ من بقوله: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95]. والجزاء إذا علق بلفظ من اقتضى استحقاق دفعه عند وجود شرطه، ولا يتكرر وجود الشرط، كقول القائل: من دخل داري فله درهم؛ فإنه يقتضي استحقاق الدرهم دفعة بدخول واحد، ولا يتكرر الاستحقاق بتكرر الدخول، كذلك هاهنا. وهذه دلالة من داود. والثاني من الآية: أنه قال في سياقها: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] فدل على أنه لا تجب عليه كفارة أخرى. والجواب عن الدلالة الأولى، فهو: أن الجزاء إذا عُلق بلفظ من فإنه على ضربين: أحدهما: أن يكون الفعل المعلق به الجزاء واقعاً في محل، فلا يقتضي تكرار الجزء بتكرره، كما ذكره من قوله: من دخل داري فله درهم. والثاني: أن يكون واقعاً في محال مختلفة، فيتكرر الاستحقاق بتكرره نحو قوله: من دخل دوري فله بدخول كل دار درهم؛ فإنه إذا

تكرر منه الدخول الاستحقاق؛ لاختلاف المحال، كذلك الجزاء متعلق بقتل الصيد، والقتل يقع في صيد وصيود مختلفة، فاقتضى ذلك تكرار الجزاء بتكرر القتل في كل صيد. والجواب عن الدلالة الثانية من الآية، فهو: أن ذكره -تعالى- للانتقام لا يدل على أنه لا حق هناك غيره، كما قال -تعالى- في آية المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، ولم يمنع هذا من إيجاب حق آخر يتعلق بالغرم. واحتج بما روى النجاد بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إذا أصاب المحرم، ثم عاد، قيل له: اذهب فينتقم الله منك. والجواب: أن عموم في الكتاب والسنة يقضي على قول الصحابي. واحتج بأن الأصل براءة الذمم، فمن ادعى إيجاب حق آخر فعليه الدليل. والجواب: أنا قد دللنا على ذلك في ما تقدم. واحتج بأنه لو تكرر منه الوطء واللباس والطيب والحلاق وتقليم الأظافر تداخلت الكفارة، كذلك يجب أن نقول مثله في جزاء الصيد؛ لأنه من محظورات الإحرام. والجواب: أن الصيد يجري مجرى ضمان الأموال بدليل أنه يختلف باختلاف المقتول بالصغر والكبر، وضمان الأموال يتكرر

مسألة إذا قتل صيدا له مثل من النعم ضمنه بمثله

بتكرُّر سببه، وليس كذلك الطيب واللباس والوطء؛ لأن جبرانها لا يجري مجرى ضمان الأموال، فهي أخف، فجاز أن تتداخل. * ... * ... * 176 - مسألة إذا قتل صيداً له مثل من النعم ضمنه بمثله: نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: إذا أصاب صيداً فهو على ما حكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكل ما سمي فيه شيء فهو على ذلك، وفي الضبع شاة. وقال في رواية ابن منصور: قد تقدم فيه حكم فهو على ذلك. وقال -أيضاً- في رواية أبي داود في الذي يصيب الصيد: يتبع ما جاء، قد حُكم وفُرغ منه. وهو قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: يضمنه بقيته، ثم يصرف تلك القيمة في النعم إذا شاء، ولا يجوز صرفها إلا في النعم التي تجوز في الهدايا. دليلنا: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. فأوجب مثل المقتول من النعم، وعندهم لا يجب ذلك. فإن قيل: المراد بالمثل هاهنا: مثل من طريق القيمة، لا من طريق الصورة.

يدل عليه قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، ونهى عن قتل جنس الصيد، فدخل تحته ما له نظير، وما لا نظير له، ولا خلاف أنه لو قتل ما لا نظير له وجبت عليه قيمته، فثبت أن القيمة مرادة بالمثل، فيصير كأنه قال: فجزاء قيمة ما قتل، ولو قال ذلك لوجب اعتبار القيمة في جنس الصيد، كذلك إذا كان تقديره ما ذكرنا. وقوله: {مِنَ النَّعَمِ} أفاد أن الهدي الذي تصرف القيمة فيه يجب أن يكون منه؛ لئلا يتوهم أن كل ما يقع عليه اسم الهدي يجرئ. قيل له: لا نسلم أن الآية تناولت جنس الصيود التي لا مثل لها؛ لأنه لما قيد المثل من النعم، علمنا أن ما لا مثل له لم يدخل تحت الظاهر، وإنما استفدنا حكم ذلك من غيرها. وهذا كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فقيل: يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، وهذا في النائي عن البيت، فأما أهل مكة، ومن كان منها على ما لا تقصر فيه الصلاة، فلم يدخل في هذا؛ لأن استطاعته [ليس في] الزاد والراحلة. وقولهم: (إن قوله: {مِنَ النَّعَمِ} يقتضي أن يكون الهدي منه) فغير صحيح؛ لأن حقيقة الكلام تقتضي أن تكون (من) للجنس، فيكون المثل من جنس النعم، فمن عدل بها عن ذلك، فقد عدل عن حقيقة اللفظ.

وعلى أن قوله: {مِنَ النَّعَمِ} يقتضي وجوب صرفة ذلك في النعم، وهم لا يوجبون ذلك. فإن قيل: إذا تنازعنا في المراد بالمثل، كان حمله على القيمة أولى من حمله على المثل من جهة الخلقة والصورة؛ لأن فيه حمل الآية على عمومها؛ لأنه يدخل تحتها ما له نظير، وما لا نظير له، وفي حمله على المثل من جهة الخلقة تخصيص الآية. قيل له: لسنا نسلم العموم حين يكون حمله عليه أولى من تخصيصه؛ لأنا قد بينا أنها تناولت مثلاً من طريق الصورة من النعم. فإن قيل: إذا حملنا المثل على القيمة كان موافقاً للأصول وإذا حملناه على المثل من جهة الخلقة كان مخالفاً لها؛ لأنا قد وجدنا قيمة الشيء مثلاً له في الأصول، ولم نجد مثله في الخلقة من غير جنسه مثلاً له. قيل له: إنما يكون أولى إذا كان اللفظ ينتظم جنس الصيود، وقد بينا: أن اللفظ خاص، فلا يجوز اطراح اللفظ [....] الأصول. على أنا نتكلم على ذلك في ما بعد. فإن قيل: فقد قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}، فلو كان المراد به المثل من جهة الخلقة لما احتيج إلى حكمين عدلين؛ لأن العدالة يحتاج إليها في ما يعلم بالخبر دون المشاهدة والمماثلة من جهة الخلقة،

[والمماثلة من جهة الخلقة] تعلم بالحس والمشاهدة، والقيمة تعلم من جهة الاجتهاد. قيل له: الحكم بالمثل من طريق الخلقة يحتاج إلى اثنين، لأنه ينظر إلى ما يشبه المقتول من النعم، وهذا يحتاج فيه إلى نظر واجتهاد أكثر من القيمة، وتُشترط فيه العدالة أيضاً؛ أنه مما يدق ويخفى، فهو مجبر بما يغلب على ظنه، فافتقر إلى العدالة. فإن قيل: فقد قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، والتخيير إذا حصل بين أشياء، فكل واحد منهما متعلق بما تعلق به الآخر، فكأنه قال: مثل هو هدي، أو مثل هو إطعام مساكين، أو مثل هو صيام. وهذا لا يكون إلا على قول من أوجب القيمة، فإلى أي الأصناف الثلاثة صرفها كانت هي المثل. قيل له: نحن -وإن قلنا: يضمن بنظيره- فإنه مخير بين النظير وبين قيمته طعاماً، وبين الصيام عن كل مد يوماً، فلم يصح. فإن قيل: فقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}. ظاهره يقتضي: أنه حكم باقٍ أبداً، وهذا لا يكون إلا في القيمة التي تختلف باختلاف الأزمان، فأما المثل من طريق الخلقة؛ فإنهما إذا حكما به كان ذلك باقياً، فلا يُحتاج إلى الحكمين فيه.

قيل له: الآية تقتضي أن يحكم به ذوا عدل، ونحن نقول بظاهره، وهو الحكم السابق من جهة الصحابة، يقتضي هذا تكرار الحكم. فإن قيل: فنحمل قوله: {مِنَ النَّعَمِ} على أنه صفة للمقتول، وهو أولى من حمله على أنه صفة للجزاء؛ لأن الآية قد قُرئت بقراءتين؛ فقرأ أهل الكوفة بالرفع، وقرأ غيرهم بالإضافة. فعلى قراءة الرفع إذا جعلناه صفة للمقتول لم يُفصل بين العامل والمعمول؛ لأن قوله: {فَجَزَاءٌ} مبتدأ، و {مِّثْلُ} صفته، و {مَا} بمعنى: الذي، و {قَتَلَ} صلة الذي، وهو العامل في قوله: {مِنَ النَّعَمِ} و {مِنَ النَّعَمِ} في موضع نصب، والعامل فيه {قَتَلَ}،ولا بد من راجع يرجع من الصلة إلى الموصول. ولو جعلنا قوله: {مِنَ النَّعَمِ} صفة للجزاء فصلنا بين العامل؛ الذي هو الجزاء، ومعموله؛ الذي هو من النعم؛ لأن من يجعل النعم صفة للجزاء يجعل العامل فيه قوله: {فَجَزَاءٌ}، والمعمول؛ الذي هو قوله: {مِنَ النَّعَمِ} فاصل؛ هو ما وصلتها، ومن لم يفصل بين العامل ومعموله كان أولى. فهذا على قراءة الرفع. وأما على قراءة الإضافة فقد يراد بالإضافة إلى الشيء نفس الشيء، كما قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ} [البقرة: 137]، ومعناه: آمنوا بما آمنتم به.

وقول الشاعر: مثلي لا يُحسن قولاً يَغفر أي: أنا لا أحسن. فعلى القراءتين جميعاً حمله على المقتول ممكن. قالوا: والنعم قد يتناول الوحش، قال أبو عبيدة: النعم يتناول الوحش، وقال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] بهائم وغير بهائم لم يكن بإضافة البهائم إلى الأنعام معنى، وإنما أباح من جملة الأنعام البهائم، ولم يبح السباع؛ لأنها لا تُسمى بهائم، وإنما تُسمى كواسب. قيل له: النعم لا تتناول الوحش، وما ذكروه عن أبي عبيدة غير معروف، وأما الآية فلا حجة فيها؛ لأنها تدل على أن كل نعم بهيمة، ولا تدل على أن كل بهيمة نعم. وعلى أن هذا لا يصح حمله على أنه صفة للمقتول؛ لأنه يؤدي إلى التكرار؛ لأنه يحصل تقديره: لا تقتلوا الصيد، ومن قتل الصيد، فجزاء مثل ما قتل من الصيد. وأيضاً ما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "الضبع صيد إذا أصابه المحرم، وفيه الجزاء كبش".

فإن قيل: يحتمل أن يكون معناه: إذا اختار الهدي، وكانت قيمته قيمة شاة. قيل: قوله: "فيه كبش" أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وعلى قولهم لا يجب، وإنما هو موقوف على اختياره. وأيضاً إجماع الصحابة روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وابن الزبير: أنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الأيل وبقر الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي اليربوع بجفرة، وفي الأرنب بعناق. فإن قيل: حكموا بذلك على طريق القيمة، ألا ترى أنه روي عنهم: أنهم حكموا في الحمامة بشاة، ولا مشابهة بين الشاة والحمامة في الخلقة؟ قيل لع: لا يمكن حمله على هذا لوجوه: أحدها: أنهم قضوا بذلك في أوقات مختلفة، وبلدان مختلفة، والقيمة تختلف باختلاف البلدان والأوقات والأسعار، ولا يجوز أن تتفق قضاياهم على شيء واحد. الثاني: أنهم قضوا في اليربوع بجفرة، وعندهم لا يجوز إخراج ذلك وصرف القيمة فيه؛ لأنه لا يجزئ في الهدايا. والثالث: أن البدنة أكثر قيمة من النعامة، والبقرة أكثر قيمة من

حمار الوحش، والكبش أكثر قيمة من الضبع، والعنز أكثر قيمة من الغزال، والعناق خير من الأرنب، والجفرة خير من اليربوع، والشاة خير من الحمامة، فدل على أنهم لم يقصدوا القيمة. وقولهم: (إنه لا مشابهة بي الحمامة والشاة) فغير صحيح؛ لأنها تشبهها من جهة أنها تعب وتهدر، كما تعب الشاة. والقياس: أن النعم حيوان مُخرج على وجه التكفير، فوجب أن يكون أصلاً لا على وجه القيمة، كالعتق في كفارة القتل والظهار والوطء في رمضان. ولأن قتل الصيد فعل حرام بالإحرام، فوجب أن يكون المخرج فيه أصلاً بنفسه، كالشاة الواجبة في الطيب واللباس. فإن قيل: لو قتل ما لا نظير له من النعم وجبت عليه قيمته، فإن بلغت هدياً كان بالخيار؛ إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام، ثم لا خلاف أنه لو اختار الهدي لم يكن أصلاً في نفسه؛ لأن الأصل ما يجب عليه بنفس القتل، والهدي في ما لا نظير له لا يجب بنفس القتل. قيل له: لا نسلم لك هذا؛ لأن ما لا مثل له لا يجوز صرف بدله في الهدي؛ لأنه لا مثل له. فإن قيل: فالعلة تبطل به إذا أفسد الحج؛ فإنه يلزمه بدنة، ويجزئه

أن يخرج بقرة، أو سبعاً من الغنم، وليس الغنم والبقر أصلاً في ذلك. قيل له: الرواية مختلفة في ذلك؛ فروي عنه: لا تجوز البقرة، ولا السبعة من الغنم مع وجود البدنة؛ إلا أنها غير معتبرة بقيمة البدنة، فلم تدخل على ما قلنا. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب قال: إذا كان عليه جزاء، أو نذر بدنة، فلم يجد بدنة جعل مكانها سبعاً من الغنم. فأجاز الانتقال إذا لم يجد. وروي عنه أنه مُخير بين هذه الثلاثة، وأيها أخرجه كان أصلاً بنفسه، فسقط النقض. وهذا ظاهر كلامه في رواية حنبل قال: العشر من الغنم تجزئ مكان الجزور، وإذا كان عليه بدنة، فنحر عشراً من الغنم، أو قاد ذلك عنه، إن شاء الله. وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: ومن وجبت عليه بدنة، فذبح سبعاً من الغنم أجزأه. ولم يعتبر أن لا يجد البدنة. فإن قيل: الرقبة الواجبة في كفارة القتل من جنس المقتول، فيجب أن يكون في مسألتنا، فلما لم يجب من الجنس، لم يجب مثله في الخلقة.

قيل له: كفارة الوطء والظهار ليس من جنس الوطء والظهار، ومع هذا فتجب، وكذلك مئة من الإبل ليست من جنس الحر، ومع هذا يُضمن بها. فإن قيل: الرقبة في كفارة القتل لا تختلف باختلاف المقتول، وجزاء الصيد يختلف، فوجبت القيمة، كالعبد المقتول. قيل له: دية الآدمي تختلف باختلاف المقتول بالذكورية والأنوثية والخنثى، ومع هذا لا تجب قيمته، وإن ما يجب فيه مقدر. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. وقدروا وجه الدلالة من الأوجه التي تقدم ذكرها. والجواب عنها: ما مر، فلا وجه لإعادته. واحتج بأن ضمان لزمه من جهة إتلاف الصيد، فأشبه ما لا نظير له من النعم، وإذا كان لآدمي. ولأنه لو كان لآدمي ضمن قيمته، كذلك إذا كان لله قياساً على ما لا نظير له من النعم. والجواب: أن قوله: (ضمان لزمه من جهة إتلاف الصيد) لا تأثير له لذكر الصيد في ذلك؛ لأن الصيد وغيره سواء.

ثم نقول: لا يخلو إما أن نقول بحكم العلة، فوجب أن يضمنه بقيتمه؛ فإنه ينتقض بالإطعام والصيام؛ فإنه يضمنه به، وليس بقيمة له. فإن قلت: فلم تضمنه بمثله، لم يصح في الأصل؛ لأنه لا مثل له، فلا يوصف بذلك. وعلى أن ما لا نظير لذاته، لا مثل له، فلهذا عدل إلى القيمة، كما نقول في ما لا مثل له من الأموال: تجب قيمته، وهذا مما له مثل، فهو كالذي له مثل من الأموال. وأما ضمانه في حق الآدمي فهو مخالف لضمانه في حق الله تعالى، ألا ترى أن العبد يضمن في حق الآدمي وفي حق الله -تعالى- بالكفارة، ويدخل الصوم في ضمان حق الله -تعالى- في قتل الصيد، ولا يدخل في حق الآدمي. واحتج بأنه لا يجب مثله من جنسه، فوجب أن لا يجب مثله في الخلقة من غير جنسه، كما لو أتلف الصيد على آدمي. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يجب مثله من جنسه، ولا قيمته، ويجب معنى آخر، كالحر يضمن بمئة الإبل، وإن لم تكن من جنسه،

ولا قيمته، وكذلك الجنين يضمن بغُرة، وإن لم تكن من جنسه، ولا بدل عنه، كذلك هاهنا. وأما ضمانه في حق الآدمي فقد تكلمنا عليه. واحتج بأنه تعتبر قيمته فيما دون النفس، كالعبد والشاة والصيد إذا كان لآدمي. والجواب: أنا لا نعرف الرواية في ما دون النفس، فلو قلنا: إن ذلك مضمون بالمثل بجزء شائع من مثله من الحيوان لم يمتنع، وإن سلمنا ذلك، وهو الأشبه بأصوله؛ لأنه قد قال: في شعرة مد، ولم يوجب ثلث دم، وكان المعنى في ذلك: أن الذي حصل في الجرح نقص فيه، والنقص في ما يُضمن بالمثل لا يُضمن بالمثل، كالطعام إذا تسوس في يد الغاصب، أو بُل بالماء، فنقص، فالواجب ما نقص، لا المثل، كذلك جزاء الصيد. ولأن إيجاب سهم من حيوان يشق، فإذا كان فيه مشقة عدل عنه إلى غيره، ألا ترى أن الإبل إذا نقص عن خمس وعشرين كان فيها من غير جنسها؛ لأن إيجاب سهم من حيوان يشق، كذلك هاهنا نعدل إلى ما نقص من ثمنه؛ لأن إيجاب جزء من المثل يشق. وأما الأصل -وهو إذا كان لآدمي- فقد أجبنا عنه. * ... * ... *

مسألة إذا قتل صيدا لم تحكم فيه الصحابة، جاز أن يكون الحاكمان القاتلين، أو أحدهما

177 - مسألة إذا قتل صيداً لم تحكم فيه الصحابة، جاز أن يكون الحاكمان القاتلين، أو أحدهما: وقد نص أحمد في رواية أبي النصر العجلي على جواز أن يكون الحاكم القاتل وآخر معه. وهو قول الشافعي. وقال مالك: لا يجوز أن يكون الحاكم القاتل. دليلنا: أنه حق لله -تعالى- تتعلق به حقوق الآدميين، فجاز أن يُرجع فيه إلى الواجب عليه. دليله: تقويم مال التجارة لإخراج الزكاة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95]. وهذا يقتضي غير القاتل، كما قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]، اقتضى غير من عليه الحق. والجواب: [....]. واحتج بأنه يدل عن متلف، فلم يرجع فيه إلى المتلف.

مسألة إذا قتل صغار الصيود التي لها مثل، ضمن الصغار بمثلها من النعم، وكذلك إن قتل صيدا أعور، أو مكسور اليدين، فداه بمثله

دليله: حقوق الآدميين. والجواب: أن هناك لا يتعلق به حق لله، وهذا يتعلق به حق لله، فهو كالزكاة. واحتج بأنه تلحقه تهمة في التقويم. والجواب: أنه يبطل بتقويم العروض في الزكاة، وفي دفع الزكاة إلى الفقراء. * ... * ... * 178 - مسألة إذا قتل صغار الصيود التي لها مثل، ضمن الصغار بمثلها من النعم، وكذلك إن قتل صيداً أعور، أو مكسور اليدين، فداه بمثله: وقال أحمد في رواية أبي طالب: أذهب إلى حديث عمر: في الضبع كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب جفرة، وفي اليربوع جدي. وقال أبو حنيفة: لا تُجزئ العناق والحمل في جزاء الصيد. وقال مالك: يضمن الصغير بالكبير من أمثاله، والأعور يفديه بصحيح. دليلنا: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. ومثل الصغير صغير، وكذلك مثل الأعور أعور.

فإن قيل: فقد قال في سياقها: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95]. والهدي ما يُجزئ في الأضحية، والصغار لا تجزئ فيها. قيل له: لعمري إنه لا يقع إلا على ما يُجزئ من النعم، ولكن هذا إنما يكون في الهدي المطلق، فأما المقيد؛ فإنه يُحمل على ما قيده، وإن كان ذلك لا يجزئ في الأضحية، كما لو قال: لله علي أن أهدي هذا الدرهم، أو هذا الثوب؛ فإنه يجزئه، ولو أطلق ذكر الهدي لم يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية. والهدي المذكور في الآية مقيد بالمثل، فاعتبر ذلك به. وأيضاً ما روي عن عمر: أنه قال: في الضبع شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة، وفي الظبي كبش. وأيضاً ما ضمن بالجناية واليد اختلف قدر ضمانه باختلاف حاله، كالأموال. ولأن ضمان الصيج جارٍ مجرى الأموال بدلالة تعلقه بضمان اليد، وتعلقه بالأنعام، ولو كان بمنزلة الكفارات لم يتعلق بذلك، وإذا كان جارياً مجرى ضمان الأموال اختلف باختلاف حال المضمون. واحتج المخالف بقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}، والهدي لا يكون إلا بكبش سليم.

والجواب عنه: ما تقدم، وإن كان هذا صفة الهدي المطلق. واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "في الضبع كبش". والجواب: أنه محمول على الكبير السليم بما تقدم. واحتج بأنه حيوان مُخرج باسم التكفير، فلم يختلف باختلاف حال المتلف. دليله: الكفارة بقتل الآدمي. والجواب: أن هذا الحكم لا يصح بإجماع؛ فإنه لا خلاف أن الجزاء يختلف باختلاف حال الصيد؛ لأنه لا يضمن الضبع بمثل ما يضمن به النعامة. وعلى أن كفارة الآدمي لما لم تُضمن ضمان اليد، لم تختلف باختلاف حال المتلف، وجزاء الصيد لما ضُمن باليد اختلف باختلاف حال المتلف. واحتج بأنه دم وجب لمحظور في الإحرام، فوجب أن يكون دماً كاملاً. دليله: فدية الآدمي. ولأنه دم لا يجوز نحره في غير الحرم، فلم يجز فيه الصغير، كدم التمتع والقران. ولأن ما لا يجوز في سائر الدماء من التمتع والقران والإحصار

مسألة إذا جرح صيدا ضمن ما نقص منه بالجرح

واللابس والمتطيب لا يجزئ في جزاء الصيد، كالعمياء والعرجاء والغزال والبقر الوحشي. والجواب: أن تلك الدماء لا تجب على طريق البدل، وليس كذلك هاهنا؛ لأن هذا الدم يجب على طريق البدل بدليل أنه يختلف باختلاف المقتول. * ... * ... * 179 - مسألة إذا جرح صيداً ضمن ما نقص منه بالجرح: وقد قال أحمد في رواية الميموني في محرم أخذ صيداً، ثم أرسله: فإن كان أخذه أعيبه، تصدق بشيء لمكان أذاه وإذعاره إياه. وقال أبو بكر في كتاب "التنبيه": ولو نتف ريش طائر، ولم ينهض لنتفه، كان عليه جزاؤه إن تلف، وإن لم يتلف، وصار ممتنعاً ممن أراده، ففيه حكومة. وقال مالك وداود: إن جرح الصيد غير مضمون. دليلنا: أن المحرم ممنوع من تنفير الصيد بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يُنفر صيدها". والجرح أعظم من التنفير، فإذا كان ممنوعاً منه، فنقول: أتلف

ما هو ممنوع منه لحرمة الإحرام، وكان عليه الجزاء. دليله: جملة الصيد. وكل عين كانت مضمونة، كانت الجناية عليها مضمونة، كالآدميين، وكل جملة كانت مضمونة، كانت أجزاؤها مضمونة، كالثياب والطعام والأموال. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95]. فأوجب الجزاء بالقتل، فدل على أنه لا يجب بغيره. والجواب: أنه إنما أوجب بالقتل جزاء المثل، ونحن لا نوجب ذلك الجزاء، وإنما نوجب ما نقص من قيمته. واحتج بأن جزاء الصيد يجري مجرى الكفارة، والكفارة لا تجب في الإنقاص بدليل كفارة الآدمي. والجواب: أن الجزاء يجري مجرى حقوق الآدميين، ونحن نبين ذلك في مسألة الجماعة إذا اشتركوا في قتل الصيد؟ واحتج بأن الأصل براءة الذمم، فمن ادعى إيجاب حق فيها فعليه الدليل. والجواب: أنا قد دللنا على ذلك. * ... * ... *

مسألة بيض النعامة يضمن بقيمته

180 - مسألة بيض النعامة يُضمن بقيمته: نص عليه في رواية حنبل. وقال مالك: يُضمن بعُشر قيمة البدنة. وحُكي عن داود: لا شيء فيه؟ دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن ابن عباس: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيض النعامة يصيبه المحرم بثمنه. وبإسناده عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيض النعام، قال: "قيمته". وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة. وروى أبو داود في "المراسيل" بإسناده عن معاوية بن قرة، عن رجل من الأنصار: أن رجلاً محرماً أوطأ راحلته أُدحي نعام، فانطلق الرجل إلى علي، وسأله عن ذلك، فقال له علي: عليك في كل بيضة ضراب ناقة، أو جنين ناقة، فانطلق الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلّم، فأخبره

بما قال علي، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلّم: "قد قال علي ما سمعت، ولكن هلم إلى الرُخصة، عليك في كل بيضة صيام يوم، أو إطعام مسكين". ولأن البيض صيد؛ لأنه يتطلب، كما يتطلب الصيد الذي لا مثل له. واحتج المخالف بأن الأصل براءة الذمة، وبأن الله -تعالى- أوجب الجزاء بقتل الصيد. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج أصحاب مالك على أن في البيض عُشر قيمة البدنة بأنه متولد من حيوان مضمون بالجزاء، فوجب أن يُرد إليه، ويُعتبر فيه، كالجنين. والجواب: أنه يبطل بجنين الصيد؛ فإنه متولد منه، ولا يُعتبر به، وإنما يُعتبر بنفسه. وكذلك لبن الظبية مُتولد منه، ولا يُعتبر بالحيوان، وإنما يُعتبر بنفسه. فأما جنين الآدمية فإنه اعتبر بأمه لأنه من جنس ما يُضمن بمُقدر، وهو الحر، والبيض مما لا مثل له، فضمن بقيمته.

مسألة في حمام الحل والحرم شاة

وأجود من هذا: أن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال بدليل أنه يجب في الصغير صغير، وفي الكبير كبير، فضمن بالقيمة كما تُضمن الأموال: ولهذا قلنا: في جنين الصيد ما نقص. * ... * ... * 181 - مسألة في حمام الحل والحرم شاة: نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي، فقال: في حمام الحرم شاة. وقال في رواية ابن منصور: حمام الحل والحرم سواء. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: في حمام الحرم في الحرم شاة، وفي حمام الحل حكومة، وفي حمام الحرم في الحل روايتان: إحداهما: حكومة. والثانية: شاة. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الطير إذا أصابه شاة. ولك يفرق بين أن يصيبه في الحرم أو الحل. ولأنها حمامة مضمونة بالجزاء، فوجب أن يكون جزاؤها شاة.

مسألة ويضمن ما دون الحمام بقيمته، كالعصافير، والقطا، والسمان، ونحو ذلك

دليله: حمامة الحرم. فإن قيل: الحرم ليس له مزية بدليل أنه محل للهدايا، ولا يجوز دخوله بغير إحرام، ومحل للنسك، فجاز أن يكون لحمامة مزية. قيل له: فيجب أن يكون لبقية صيده مزية، كالنعامة والغزال ونحو ذلك. واحتج المخالف بأنه حمام في غير الحرم أشبه الحمام المملوك. والجواب: أن المملوك يستوي في ضمانه الحل والحرم، فلا معنى لقولك: (في غير الحرم) في الأصل. ثم لا يجوز اعتبار ضمان ذلك لحق الآدمي بضمانه لحق الله تعالى بدليل النعامة؛ تضمن بقيمتها في حق الآدمي، وفي حق الله بالبدنة، وكذلك جميع الصيود. * ... * ... * 182 - مسألة ويضمن ما دون الحمام بقيمته، كالعصافير، والقطا، والسُّمان، ونحو ذلك: نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي، فقال: كل طير يَعُب مثل

الحمام؛ يشرب كما يشرب الحمام، ففيه شاة، ومان كان مثل العصفور ونحوه، ففيه القيمة، ويلزم المحرم، كما يلزم الحلال في الحرم. وحُكي عن داود: لا يجب في ذلك شيء، وإنما يضمن الحمام خاصة. دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما أُصيب من الطير دون الحمام ففيه الفدية. ولأنه صيد حرم قتله لحق الله تعالى، فضُمن بالجزاء. دليله: الحمامة، وسائر الطيور. وقد دل على تحريم قتله عموم قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. وهذا من جملة صيد البر، فوجب أن يكون محرماً. واحتج المخالف بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يحل مال امرئ مُسلم إلا عن طيب نفسه". وقوله: "ليس في المال حق سوى الزكاة". والجواب: أنه محمول على غير مسألتنا. واحتج بأن الأصل براءة ذمته. والجواب: أنا قد دللنا على شغلها بما تقدم.

مسألة وما حكم فيه صحابيان: أنه مثل للمقتول، استقر حكمهما فيه، فلا يعدل عن ذلك

183 - مسألة وما حكم فيه صحابيان: أنه مثل للمقتول، استقر حكمهما فيه، فلا يعدل عن ذلك: نص عليه في رواية أبي النصر العجلي، فقال: وما حكم فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلا يحتاج أن يُحكم عليه مرة أخرى. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: يُستأنف الحكم في ذلك، لا نكتفي بذلك. فأبو حنيفة بنى هذا على أصله، وأنه لا اعتبار بالمثل، وإنما الواجب القيمة. وإنما يختص الخلاف مع مالك في قوله: يُعتبر المثل، إلا أنه لا يكفي في ذلك ما حكمت به الصحابة. دليلنا: قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95]. وهذان عدلان، وقد حكما به. فإن قيل: ظاهره: أنه حكم باقٍ أبداً، وعندك: أنه قد انقطع بحكم الصحابة. قيل له: هذا لا يقتضي تكرار الحكم، كما لو قال: لا تضرب زيداً، ومن ضربه فعليه ديتان؛ لأنه لا تتكرر الديتان بضرب واحد. ولأنه صيد حكم بمثله صحابيان، فلم يجز العدول عن حكمهما.

مسألة تعتبر في إخراج الطعام قيمة النظير، لا قيمة الصيد، فإذا قتل صيدا له مثل، وأراد التقويم، وأن يشتري بالقيمة طعاما؛ فإنه يقوم مثل الصيد

دليله: الصيد الذي قضيا فيه في وقتهما؛ فإنه لا يعدل عنه إلى غيره. ولأن الصحابة أعرف بذلك وأهدى إليه؛ لأنهم شاهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا البيان والتأويل، وكانوا أعرف بالأغراض ومعاني الكلام، فكان ما قالوه أولى مما يقوله غيرهم. واحتج المخالف بأنه صيد وجب جزاؤه، فوجب الحكم فيه في وقت الجزاء. دليله: الصيد الذي لم يُحكم فيه بشيء. والجواب: أن ليس هناك حكم، فيُتبع، فلهذا وجب الحكم فيه، وهاهنا حكم سابق، فيجب اتباعه. دليله: ما قضت به في وقتها. * ... * ... * 184 - مسألة تعتبر في إخراج الطعام قيمة النظير، لا قيمة الصيد، فإذا قتل صيداً له مثل، وأراد التقويم، وأن يشتري بالقيمة طعاماً؛ فإنه يقوم مثل الصيد: نص على هذا في رواية ابن القاسم وسندي: إذا قتل الصيد، فلم

يكن عنده جزاء قوم المثل، ولم يقوم الصيد؛ لأن الصيد قد عُدل بمثله من النعم، ولا يقوم ثعلب، ولا حمار وحش، ويقومه في الموضع الذي أصابه فيه، وفي ما يقرب منه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك وداود: تُعتبر في ذلك قيمة الصيد. دليلنا: أنه يُخرج في جزاء الصيد، فيجب أن يُعتبر بالذي يليه في التلاوة، كالمثل والصيام، فالمثل يُعتبر بالصيد الذي يليه، وكذلك الإطعام يجب أن يُعتبر بالصيد، كالمثل. قيل له: المثل إنما اعتبر بالصيد؛ لأنه يليه في التلاوة. واحتج المخالف بأنه تقويم في ضمان الصيد، فوجب أن تعتبر قيمة الصيد. أصله: إذا كان لآدمي، وإذا لم يكن له نظير من النعم. والجواب: أن قوله: (تقويم في ضمان الصيد) لا تأثير له في حق الآدمي؛ لأن الصيد وغيره سواءء. وأما الصيد الذي مثل له، فإنما عُدل إلى قيمته؛ لأنه ليس هناك مثل يقوم به، فهو كما لو أتلف شيئاً لا مثل له وجبت قيمته، وهذا مما له مثل، ويمكن اعتبار مثله، فلهذا وجب اعتبار قيمة المثل، كما وجب الرجوع في ما له مثل من المتلفات إليه.

مسألة إذا جرح صيدا، وغاب عنه، ولم يعرف خبره، فعليه جزاؤه

وأما ضمانه في حق الآدمي فقد أجبنا عنه، وبينا أن ضمانه في حق الله -تعالى- يخالف ضمانه في حق الآدمي بدليل دخول الصوم في ضمان حق الله تعالى، وإيجاب الكفارة في قتل العبد، بخلاف ضمانه في حق الآدمي، كذلك هاهنا. واحتجَّ بأن المتلفات في الأصول إذا وجب فيها التقويم، اعتبرت قيمة المتلف بدلالة الثوب والعبد، وإذا كان الصيد لآدمي. والجواب: أن سائر المتلفات لا تُعتبر فيها قيمة المتلف؛ لأنه لا قيمة له، وإنما تُعتبر قيمة نظيره ومثله، يجب أن نقول في الصيد مثل ذلك. وإنما يختلفان في أن قيمة مثل غير الصيد من المتلفات لا تخالف قيمة المتلف؛ لأن مثله يكون من جنسه، وقيمة مثل الصيد ربما خالفت قيمته؛ لأن مثله يكون من غير جنسه. * ... * ... * 185 - مسألة إذا جرح صيداً، وغاب عنه، ولم يعرف خبره، فعليه جزاؤه: وقد قال أحمد في رواية أبي طالب في رجل اكترى بيتاً بمكة، فأغلق بابه، فجاء، ففتح، فإذا فيه طير ميت؛ لا يدري كيف مات؟ احتاج أن يذبح شاة. وبهذا قال مالك.

مسألة كفارة الجزاء على التخيير؛ فإن قتل صيدا له مثل، فهو مخير؛ إن شاء أخرج المثل، وإن شاء قوم المثل دراهم، واشترى بها طعاما، وتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يوما. وفي الصيد الذي لا مثل له يخير بين الإطعام والصيام في أصح الروايتين

وقال الشافعي: لا ضمان عليه. دليلنا: أن الجراحة سبب للموت، كالضربة سبب لموت الجنين، ثم لو ضرب بطنها، فألقت جنيناً، ضمنه، وإن لم يتحقق موته منها، وكذلك لو جرحه، فبقى أياماً، ثم مات، ضمن لوجود السبب، وإن جاز أن يكون موته من غير ذلك، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأن الأصل الحياة، فلا يضمنه بالشك. والجواب: إن هذا لا يمنع الضمان بدليل الجنين. ويبين [صحة] هذا: أنه لو جرحه، وغاب الصيد عنه، ثم وجده ميتاً، حكمنا بذكاته، وإن جاز أن يكون مات بغيرها. * ... * ... * 186 - مسألة كفارة الجزاء على التخيير؛ فإن قتل صيداً له مثل، فهو مُخير؛ إن شاء أخرج المثل، وإن شاء قوم المثل دراهم، واشترى بها طعاماً، وتصدق به، وإن شاء صام عن كل مُد يوماً. وفي الصيد الذي لا مثل له يُخير بين الإطعام والصيام في أصح الروايتين: رواها أبو القاسم ابن بنت [أحمد بن] منيع في محرم قتل صيداً: يُكفر بما في القرآن، وكل شيء في القرآن (أو) فإنما هو تخيير.

وكذلك نقل الميموني عنه في قوله: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} [المائدة: 95]: فهو في هذا مُخير. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي. وفيه رواية أخرى: أنه على الترتيب؛ إن لم يجد الهدي اشترى طعاماً، فإن كان معسراً -ولم يقدر على القيمة- صام. رواها عنه بكر بن محمد، عن أبيه، عنه، فقال في الفدية: وهو بالخيار، ومن قتل الصيد لا يكون بالخيار، عليه جزاء الصيد، لا يجزئه إلا العدل، ليس هو مُخير في الهدي والصوم والصدقة. وكذلك روى الأثرم عنه: وقد سُئل: هل يطعم في جزاء الصيد؟ فقال: لا، إنما جُعل الطعام ليعلم الصيام؛ لأن من قدر على الطعام قدر على الذبح. وبهذا قال زفر، وحكي عن الشافعي في القديم، وروي ذلك عن ابن عباس وابن سيرين. وجه الدلالة: قوله تعالى:: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ} [المائدة: 95]. وحقيقة (أو) للتخيير؛ قال تعالى:: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]. وقال: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍأَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. عُقل من ظاهره التخيير، كذلك هذا.

فإن قيل: قد يرد (أو)، ويراد به الترتيب، قال تعالى: {أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. قيل له: حقيقته التخيير، ولا يُحمل على الترتيب إلا بدلالة، ألا ترى أنه قد يرد -أيضاً- بمعنى الواو، وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. ومعناه: ويزيدون. وقال الشاعر: فلو أن البكاء يرد شيئاً بكيت على زياد أو عناق على البرين إذ مضيا جميعاً لشأنهما بحزن واحتراق معناه: زياد وعناق. إلا أنه يُحمل على معنى الواو إلا بدليل. ولأن هذه كفارة واردة بلفظ التخيير، فهي ككفارة اليمين وفدية الأذى.

فإن قيل: لا نسلم لكم: أنها ورادة بلفظ التخيير. قيل له: نعني به: أنه ذكر فيها (أو). ولأن هذه كفارة تتعلق بالإحرام فيها أجناس، فوجب أن يكون فيها التخيير. دليله: كفارة الأذى. ولأنه حق لزمه بإتلاف هو ممنوع منه لحرمة الإحرام، فوجب أن يكون على التخيير. دليله: كفارة الخلاف. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "في الضبع شاة"، ولم يُخير. والجواب: أن هذا الخبر قُصد به بيان المقدار، ولم يُقصد به التخيير، أو الترتيب. واحتج المخالف بأن هذه كفارة يتعلق وجوبها بالقتل، أشبه كفارة القتل. والجواب: أن كفارة القتل وردت مرتبة، وهذه وردت بلفظ التخيير، وهي بمنزلة كفارة اليمين وفدية الأذى. ولأن كفارة القتل مبنية على التغليظ، [وهذه مبنية على التخفيف] بدليل اختلافها بصغر المقتول وكبره، فكانت على التخيير.

مسألة الصوم عن كل مد بر يوما، وعن كل نصف صاع تمرا وشعيرا يوما

187 - مسألة الصوم عن كل مُد بُر يوماً، وعن كل نصف صاع تمراً وشعيراً يوماً: نص على هذا في رواية الأثرم في الفدية، فقال: إن أطعم بُراً فمُد لكل مسكين، وإن أطعم تمراً فنصف صاع لكل مسكين. وقد أطلق القول في رواية حنبل وابن منصور: يصوم عن كل نصف صاع يوماً، وهذا محمول على التمر والشعير. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع يوماً؛ عن البر والشعير والتمر. وقال مالك والشافعي: يصوم عن كل مُد يوماً؛ من التمر والبر والشعير. وقد تقدم الكلام في ذلك في فدية الأذى. دليلنا: أن من أصلنا: أن لكل مسكين مداً من بُر، أو نصف صاع تمر أو شعير يوماً. وقد دللنا على أن [هذا] الأصل فيما تقدم، ونذكره في باب الكفارات، إن شاء الله. وذهب المخالف إلى أنه يحتاج في هذا الموضع إلى تقدير الطعام لكل مسكين، فوجب تقديره بنصف صاع. دليله: فدية الأذى.

مسألة إذا اصطاد الحلال صيدا للمحرم لم يجز للمحرم أكله؛ سواء اصطاده بعلمه، أو بغير علمه

والجواب: أنه لا فرق بين فدية الأذى وبين مسألتنا في ذلك. * ... * ... * 188 - مسألة إذا اصطاد الحلال صيداً للمحرم لم يجز للمحرم أكله؛ سواء اصطاده بعلمه، أو بغير علمه: نص على هذا في رواية عبد الله، فقال: إذا أصيد الصيد من أجله لم يأكله المحرم، ولا بأس أن يأكل من الصيد إذا لم يُصد من أجله، إذا اصطاده الحلال. وكذلك نقل أبو طالب عنه، فقال: إذا اصطادوه له لم يأكله، مثل حديث عثمان. وكذلك نقل حنبل، وابن منصور، والمروذي. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أكله إذا لم تكن منه دلالة عليه، أو إشارة إليه. دليلنا: ما روى أحمد، وذكره عبد الله في "مسائله" بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "كلوا لحم الصيد، وأنتم حرم،

ما لم تصيدوه، أو يصد لكم". وروى -أيضاً- بإسناده في لفظ آخر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم، ما لم تصيدوه، أو يُصد لكم". فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد به: ما لم تشيروا إليه، أو تدلوا عليه، فيصاد لكم. قيل له: الإشارة والدلالة غير مذكورة في الخبر، فلا يجوز إثباتها إلا بدلالة. وعلى أن تحريم الدلالة والإشارة قد استفيدت بقوله: "ما لم تصيدوه"، وبالإشارة والدلالة يُضاف إليه الصيد. وروى أحمد بإسناده عن سعيد بن المسيب: أن عثمان بن عفان أتى بقطا مذبوح، وهو محرم، فأمر أصحابه أن يأكلوه، ولم يأكل هو، وقال: إنما صيد لي. وكان علي يكره ذلك على كل حال.

وروى بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال: ما صيد، وأنت محرم، فلا تأكله. وروى حنبل بإسناده عن أبي قتادة قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية، فأحرم أصحابي، ولم أحرم، فرأيت حماراً، فحملت عليه، فاصطدته، فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وذكرت أني لم أكن أحرمت، و [إني] إنما اصطدته، فأمر أصحابه فأكلوا، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له. والقياس: أنه صيد لأجله، فحرم عليه أكله. دليله: إذا أشار إليه، أو دل عليه من صاده. وقد قيل: إن الأمر بالاصطياد له ونية المأمور أن يصطاد له أقوى من الدلالة عليه؛ لأن الدلالة لا تنقل الملك بحال، والأمر ونية المأمور ينقلان الملك؛ لأن من أمر غيره بشراء سلعة، فاشتراها له، ملكها الآمر. وهذا لا يسلمه المخالف؛ لأن أبا بكر الرازي قال: إذا أمره [أن] يصيد له جاز له أكله إذا لم تكن منه إشارة، والمعتمد في المسألة على السُّنة.

واحتج المخالف بما روى مالك، عن أبي النضر، عن نافع مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة: أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى إذا كا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه، ثم سأل أصحابه أن يناولوه سوطه، فأبوا [عليه]، فسألهم رمحه، فأبوا، فأخذه، ثم شد على الحمار، فقتله، ثم أكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبى بعضهم، فلما أدركوا النبي صلى الله عليه وسلّم سألوه عن ذلك، فقال: "هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ " قالوا: لا، قال: "فكلوا". فأباح لهم أكله إن لم يكونوا أشاروا، ولم يُفرق بين أن يكون قد اصطيد لهم، أو لغيرهم. والجواب: أن أبا قتادة اصطاده لنفسه، وما اصطاده الحلال لنفسه لم يحرم على المحرم أكله إلا بالدلالة والمعرفة. واحتج بما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل عن الحلال يصطاد الصيد؛ أيأكله المحرم؟ قال: "نعم". ولم يفرق بين ما صيد له أو للحلال. والجواب: أنه محمول على أنه صاده الحلال لنفسه. واحتج بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلّم مر بالروحاء، فإذا هو بحمار وحش

مسألة إذا قتل المحرم صيدا، ثم أكل منه، لم يلزمه للأكل شيء

عقير فيه سهم قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: "دعوه حتى يجئ صاحبه"، فجاء رجل من بهز، فقال: يا رسول الله! هذه رميتي، فكلوه. فأمر أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق. وهم محرمون، ولم يفرق. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن الصيد مُذكى، ولم يوجد منه دلالة عليه، ولا إشارة إليه، فوجب أن يجوز أكله، كما لو قتله الحلال لنفسه. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه لم يوجد من المحرم فيه سبب، ولا من الصائد نية لكون الصيد له، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الصائد نوى أن يكون الصيد للمحرم. ولأن المعنى في الأصل: أنه لا تعلق للمحرم [به]، فلهذا لم يحرم عليه، وهذا صيد له به تعلق، فحرم عليه، كالإشارة والدلالة. * ... * ... * 189 - مسألة إذا قتل المحرم صيداً، ثم أكل منه، لم يلزمه للأكل شيء: نص عليه في رواية ابن منصور، فقال: إذا قتل المحرم الصيد، ثم أكله، فكفَّارة واحدة.

وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه حرام ما أكل. دليلنا: أنه ضمنهه بإتلافه، فلا يضمنه بأكله. أصله: إذا قتل الحلال صيداً في الحرم، ثم أكله، أو كسر بيضة من الصيد، ثم أكلها، أو قطع شجر الحرم، وانتفع به؛ فإنه لا يضمنه بالانتفاع، كذلك هاهنا. فإن قيل: هذا يبطل بمن ذبح شاة غيره، ثم أكلها. قيل له: لا يلزم؛ لأنه لم يضمنها، وإنما ضمن ما أتلف منها. فإن قيل: إنما لم يضمن صيد الحرم؛ لأنه غير محرم عليه أكله، وكذلك بيض الصيد. قيل له: لا نسلم هذا؛ لأن الحلال إذا قتل صيداً في الحرم حَرُم عليه أكله، كما يحرم على المحرم، وكذلك بيض الصيد إذا كسره يحرم عليه أكله، وكذلك شجر الحرم إذا قطعه، فلا فرق بينهما. وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: وقد سئل: هل يؤكل الصيد في الحرم؟ فقال: إذا ذُبح في الحل. فظاهر هذا أنه لا يؤكل إذا ذُبح في الحرم.

فإن قيل: ضمان صيد الحرم يجري مجرى ضمان الأموال، فإذا ضُمن من وجه آخر، ألا ترى أن الحلالين إذا قتلا صيداً في الحرم لزمهما جميعاً جزاء واحد، وما يضمن أحدُهما يسقط ضمانه عن الآخر، كما لو استهلكا مالاً لآدمي؟ فإذا كان كذلك، وقد ضمن جزاء الصيد، لم يلزمه ضمانه بأكلة أخرى. وليس كذلك ضمان الصيد الذي يقتله المحرم؛ لأنه يجوز أن يُضمن من وجهين، ألا ترى أن محرمين لو قتلا صيداً لزم كل واحد منهما جزاء كامل، وما يضمنه أحدهما لا يسقط ضمانه عن الآخر؟ فإذا كان كذلك، لم يمتنع في مسألتنا أن يضمنه مرتين؛ مرة بالقتل، ومرة بالأكل. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل نقول في ضمان الصيد في حق المحرم: يضمن من وجه واحد، وأن اثنين لو اشتركا لم يلزمهما إلا جزاء واحد، كصيد الحرم سواء، ويجري الضمان فيهما مجرى ضمان الأموال سواء. فإن قيل: ضمان البيض يتعلق على المحرم بإتلاف المعنى الذي يتولد منه الصيد في الثاني بدلالة: أن البيضة لو كانت مذرة لم يجب عليه جزاؤها بالكسر، يبطل ذلك المعنى، ويضمن، فإذا أكلها بعد

ذلك، فلم يتلف منها بالأكل ما يتعلق به الضمان. وكذلك شجر الحرم يتعلق ضمانه بإخراجه عن حد الثمر، ألا ترى أن الشجرة لو كانت يابسة لم يتعلق بقطعها شيء؟ وبالقطع تخرج عن حد الثمر، فإذا انتفع به بعد ذلك، فلم يتلف ما يتعلق به الضمان، وليس كذلك الصيد؛ لأن ضمانه غير مقصور على إتلاف حياته، وإنما يتعلق بإتلاف هذه الأجزاء الموجودة، ألا ترى أنه لو نتف ريشه، أو كسر قرنه، لضمنه، وإن لم يقتله؟ فدل على أن كل جزء منه مضمون؛ سواء كان في إتلافه إتلاف حياة، أو لم يكن. فإن كان كذلك، وجب إذا أتلف جزءاً منه بالأكل أن يضمن. قيل له: هذا يبطل بصيد الحرم؛ فإن جزاءه غير مقصور على إتلاف حياته، ومع هذا، فلا ضمان عليه بأكل لحمه. وكذلك شاة الغير إذا قتلها؛ فإن ضمانها غير مقصور على إتلاف حياتها، ومع هذا، فلا ضمان عليه بأكل اللحم، كذلك هاهنا. وقياس آخر، وهو: أنه أكل الميتة، فلا يجب عليه الضمان، كما لو أكل من لحم ميتة أخرى. فإن قيل: إنما يجب عليه ضمان ما أكل من ميتة أخرى؛ لأنها ليست بدلاً عن شيء وجب عليه إخراجه من ماله حتى يصير بأكلها كالعائد فيما ضمنه، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الصيد المقتول بدل

عن الجزاء الذي أخرجه عن ملكه، فإذا أكله صار كالعائد فيما أخرجه. قيل له: هذا يبطل بما تقدم من صيد الحرم؛ فإن له بدلاً، وإذا أكله لم يصر عائداً فيما أخرجه، وكذلك أكل البيضة، والانتفاع بالغصن، وأكل لحم شاة الغير إذا قلتها. واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِي} [المائدة: 95]؛ يعني: بما لزمه من إخراج الجزاء، فلو لم يجب عليه جزاء ما أكل، لم يكن ذائقاً وبال أمره؛ لأنه قد حصل له منه بإزاء ما أخرجه عن ملكه. والجواب: أن الوبال هو الثقل والشدة، ومن اصطاد صيداً، وقتله، وأوجبنا عليه الضمان، ثقل عليه ذلك، واشتد، فقد ذاق وبال أمره، ولا سيما إذا كان يعتقد أن الصيد من كسبه، وأنه يأكل كسبه، فإذا أوجبنا عليه ضمان الجملة، فقد وجد معنى الوبال. وعلى أن عندنا الجزاء أكثر من القيمة؛ لأن الحمامة تُضمن بالشاة، والنعامة بالبدنة، ومعلوم أن الحمامة لا تساوي شاة، ولا النعامة بدنة، فهو ذائق وبال أمره، وإن لم نوجب عليه الجزاء بالأكل. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ " قالوا: لا. قال: "فكلوا".

فمنع من الأكل لأجل الإشارة، ومعلوم أن الإشارة لا تمنع جواز الذكاة، فعُلم أنه إنما منع من أكله؛ لأن المشير يلزمه الجزاء، فيصير بأكله كالعائد في الجزاء، فدل على وجوب جزاء ما أكله. والجواب: أنه إنما منع ذلك لأجل الإشارة؛ لأن له تعلقاً بقتل الصيد، ولهذا نقول: لو صيد لأجله حرم عليه أكله؛ لأن له به تعلقاً. فأما أن يكون المنع لما ذكر من أنه يصير بأكله كالعائد، فلا. واحتج بأنه مُحرم عليه أكله، فوجب أن يضمن. دليله: لو أكل من جزاء الصيد. قالوا: ولا يلزم عليه صيد الحرم؛ لأنه غير مُحرم عليه أكله عندنا. والجواب: أنه لا يمتنع أن يضمن ما يأكله من الإحرام، ولا يضمن ما يأكله من لحم الصيد، بدليل صيد الحرم؛ لو أكل من جزائه ضمنه، ولو أكل من لحمه ضمنه، وكذلك بدل جزاء البيضة، والشجرة، وشاة الغير. واحتج بأن الأكل فعل حرمه الإحرام، فوجب أن يتعلق به الجزاء، كالقتل. والجواب: أن الأكل حرم عليه لكونه ميتة، لا لكونه محرماً، يدل عليه أنه مُحرم على غيره من المحرمين والمحلين لكونه ميتة عندنا. وعلى أنا لو سلمنا ذلك، وأن المنع قائم بعد إتلافه، لم يتعلق به

مسألة فإن أكل المحرم من لحم صيد صيد لأجله، وجب عليه الجزاء

الضمان، كما نقول في من أتلف شاة الغير: فإنه ممنوع من إتلاف جلدها عليه، ولو أتلفها لم يجب عليه الضمان؛ لكونه ميتة لا قيمة له، كذلك هاهنا. واحتج بأنه لو لم يضمنه، لكان راجعاً في الجزاء. والجواب: أنه يبطل بما ذكرنا من صيد الحرم، والبيض، شجر الحرم، وشاة الغير؛ فإنه لا يضمن بالتصرف، ولا يؤدي ذلك إلى الرجوع في الجزاء. * ... * ... * 190 - مسألة فإن أكل المحرم من لحم صيد صيد لأجله، وجب عليه الجزاء: وللشافعي قولان؛ أصحهما: لا جزاء عليه. دليلنا: أنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الإحرام، فتعلق به الجزاء. دليله: لو قتل الصيد. ويبين صحة هذا: أن هذا الصيد مباح أكله لغيره من المحرمين والمحلين، وإنما هو حرام في حق من صيد لأجله، فعُلم أن تحريمه لحرمة الإحرام. واحتج المخالف بأنه إتلاف لحم صيد، فلا يلزمه، كما لو أكل

مسألة إذا اضطر المحرم إلى ميتة وصيد أكل الميتة، ولم يأكل الصيد

لحم الصيد الذي قتله، وكما لو أحرقه بالنار. والجواب عن لحم الصيد الذي قتله: فإنما لم يضمنه؛ لأن المنع لأجل الإحرام، والمنع هاهنا لحرمة الإحرام. وأما إذا أحرقه بالنار، فلا نعرف الرواية فيه. وعلى أنا لو سلمنا ذلك، فلا يمتنع أن لا يضمنه إذا حرقه، ويضمنه إذا أكله، كالطيب إذا حرقه لم يضمنه، ولو تطيب به ضمنه. وعلى أنه إذا حرقه، فلم ينتفع به، وإذا أكله، فقد انتفع به. * ... * ... * 191 - مسألة إذا اضطُر المحرم إلى ميتة وصيد أكل الميتة، ولم يأكل الصيد: نص عليه في رواية أبي داود، وعبد الله، وحنبل، وحرب. وهو قول أبو حنيفة ومالك. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: يذبح الصيد، ويأكله، وعليه جزاؤه. دليلنا: أنه ثبت عندنا: أن الصيد الذي يذبحه المحرم ميتة لا تؤكل في [غير] حال الضرورة، وكما لا تؤكل ميتة أخرى، فإذا اضطر إليهما

وجب أن يختار أكل الميتة على قتل الصيد وأكله؛ لأن الحظر في قتل الصيد يحصل من وجوه: أحدهما: أخذه. والثاني: قتله. والثالث: أكله. وكل واحد من ذلك محظور في غير حال الضرورة، وليس في أكل الميتة حظر إلا من وجه واحد على وجوه، فيأكل الميتة، ويترك قتل الصيد. فإن قيل: هذا يبطل ببيض الصيد، وهو ممنوع من كسره وأكله، ثم يجوز له أكله، ويترك الميتة. قيل: لا نعرف هذا عن أصحابنا. فإن قيل: القتل يفعله بعوض، وهو الفدية، وتجوز استباحة ما حرم عليه بالفدية، كاللبس. قيل: لأنه مضطر إلى ذلك، وهذا غير مضطر لوجود الميتة. فإن قيل: فما تقولون إذا اضطر المحرم إلى أكل ميتة، وصيد ذبحه محرم؛ أيهما يأكل؟ قيل له: يأكل ذبيحة المحرم، ويترك الميتة؛ لأنه لا يحتاج إلى أن يفعل في الصيد غير الأكل، وهو أخف حكماً من الميتة؛ لأن من الناس من يقول: إنه مذكَّى.

مسألة إذا ذبح المحرم صيدا، فهو ميتة لا يحل أكله

واحتج المخالف بأن الصيد أيسر حالاً من الميتة؛ لأن من الناس من يقول: إنه مذكى، وإن أكله مباح، والميتة متفق على تحريمها، فيجب أن يعدل عنها إلى ما هو أيسر حالاً منها. والجواب: أنا قد بينا: أن الحظر متعلق بالصيد من وجوه، ويأكل الميتة من وجه آخر، فكيف يكون الصيج أيسر حالاً منها؟! * ... * ... * 192 - مسألة إذا ذبح المحرم صيداً، فهو ميتة لا يحل أكله: نص عليه في رواية حنبل، فقال: إذا ذبح المحرم [صيداً] لم يأكله حلال، ولا حرام، وهو بمنزلة الميتة. وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم. وقال أبو بكر في تعليق البرمكي عنه: إذا أبان المحرم صيداً، فاصطاده حلال، فعلى المحرم الجزاء، ولا يأكل الحلال ولا المحرم من الصيد؛ لأنه في حكم الميتة. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: هو مباح.

دليلنا: أنه ممنوع من ذبحه من جهة الدين لمعنى فيه، أشبه ذبيحة المجوسي والمرتد. وإن شئت قلت: إنه محرم عليه ذبحه لحق الله -تعالى- لمعنى فيه، أشبه ما ذكرنا. ولا يلزم عليه إذا ذبح شاة غيره بغير إذن صاحبها؛ أنها تؤكل على اختلاف أصحابنا؛ لأنه ممنوع من ذبحها لحق الآدمي، ألا ترى لو أنه لو أذن له صاحبها في ذبحها زال المنع؟ وليس كذلك هاهنا؛ لأن المنع لحق الله تعالى، ألا ترى أن المنع لا يرتفع بإباحة الآدمي؟ ولا يلزم عليه إذا ذبح شاة من قفاها؛ أنه تؤكل؛ لأنه غير ممنوع من ذبحها، وإنما مُنع من قطع ما لا يحتاج إلى قطعه في صحة الذكاة، فصار مثل أن يذبحها ويجرحها من ظهرها. على أنه إن قصد ذبحها من القفا لم يُبح أكلها، وإنما قال أصحابنا: إذا التوت عليه، فمرت السكين على القفا والمرى والودجين أكل. ولا يلزم عليه إذا ذبحها بسكين من ذهب؛ لأنه مُنع من ذبحه لمعنى في غيره وفي الآية، فصار مثل أن ذبح شاة غيره. ولا يلزم عليه إذا ساق هدياً إلى مكة، أو أوجب أضحية؛ أنه ممنوع من ذبحها، ومع هذا يجوز أكلها؛ لأنه غير مُحرم عليه ذبحها؛ لأن له أن يستبدل بها.

فإن قيل: لا تأثير لقولكم: (لمعنى فيه) في الأصل؛ لأن المجوسي إذا كان صغيراً لم يبلغ، فهو ممنوع من الذبح لكفر أبويه، وإذا ذبح لا يحل أكل ذبيحته. قيل له: بل المنع هناك لمعنى فيه؛ لأنا حكمنا بكونه مجوسياً بأبويه، فصار المنع فيه، وهو الحكم بالمجوسية. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس من أهل الذكاة لغير الصيد، فلم يكن من أهل الذكاة للصيد، والمحرم من أهل ذكاة غير الصيد، فكان من أهل ذكاته. قيل له: المجوسي ممنوع من ذبح الصيد وغيره، فلم يكن من أهل الذكاة أكل ما مُنع من ذكاته، والمحرم ممنوع من ذكاة الصيد، فساوى المجوسي فيه، وغير ممنوع من ذكاة غير الصيد، فخالف حكمُه حكمَه. وأيضاً لما لم يحل للذابح أكله، وجب أن لا يحل لغيره، كما لو ذبح شاة، ولم يفر الأوداج والحلقوم. ولا تلزم عليه الدلالة؛ لأنها يحرم الأكل في حق الدال، ولا يحرمه في حق غيره؛ لأن الدلالة ليست بذبح. فإن قيل: قد اختلف أصحابنا في ذلك؛ فمنهم من قال: يحل للمحرم أكله إذا تحلل.

قيل: فيكفي في الوصف تحريمه عليه في الحال. فإن قيل: ينتقض بهدي التطوع إذا عطب قبل محله؛ فإنه يذبحه، ولا يحل له، ولا لرفقته، ويحل لغيرهم. قيل له: إن كان الذابح فقيراً جاز له الأكل منه كغيره من الفقراء، وإنما يمنع إذا كان غنياً، كما يمنع غيره من الأغنياء. فإن قيل: لا يمتنع أن يحرم أكل الصيد على واحد لوجود معنى فيه، ولا يحرم على غيره، كما أن المحرم إذا دل رجلاً على الصيد حرم على الدال، ولم يحرم على غيره. قيل له: هذا الصيد حل للذابح ولغيره، وحرم على واحد، وهذا غير ممتنع، كما أن المذبوح يحرم على غير مالكه، ولا يحرم على سائر الناس لما حل للذابح. وأيضاً فإن جرح الصيد يُفيد الملك والإباحة، فإذا كان المحرم لا يستفيد بجرحه أحد الحكمين، كذلك الآخر. يبين صحة هذا: أن سبب الملك أوسع من سبب الإباحة؛ لأن ملك الصيج يثبت للمجوسي والمرتد، ولا تثبت لهما الإباحة، فإذا كان جرح المحرمم لا يفيد الملك، فلأن لا يفيد الإباحة أولى. واحتج المخالف بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. والجواب: أن الذكاة اسم شرعي يثبت بحيث دلت الشريعة على حكمها، ونحن لا نسلم أن فعل المحرم ذكاة.

واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فكُل". والجواب: أنا نخصه بحمله على غير موضع الخلاف. واحتج بقوله عليه السلام: "الذكاة في الحلق واللبة". والجواب: أن الخبر قُصد به بيان موضع الذكاة، وكذلك نقول، والخلاف في الذكاة، وقد بينا: أن هذا الفعل ليس بذكاة، وإن وقع في محلها. واحتج بأن المحرم من أهل ذكاة الشاة، فوجب أن يكون من أهل ذكاة الصيد. دليله: غير محرم. والجواب: أنه غير ممنوع من ذبح الشاة، وهو ممنوع من ذبح الصيد من جهة الدين لمعنى فيه، فهو كالمجوسي. ولأن غير المحرم تباح ذبيحته، فأبيحت لغيره، وليس كذلك

هاهنا؛ لأنها غير مباحة لذابحها، فلم تبح لغيره. دليله: ما ذكرنا. واحتج بأن المنع إذا كان لعارض يختص به بعض الحيوان لم يجعله ميتة، كالغاصب إذا ذبح الشاة المغصوبة. وقولهم: (يختص به بعض الحيوان) يحترز به من المرتد. والجواب: أن أبا بكر عبد العزيز من أصحابنا قال: لا تباح ذكاة الغاصب. على أن المعنى في ذلك: أن المنع لحق آدمي، وهذا لحق الله -تعالى- لمعنى فيه، أشبه ما ذكرنا. واحتج بأنه مسلم ذبح ما يُؤكل لحمه بآلة الذبح في محله، فوجب أن يحل أكله. أصله: ذبيحة المحل. والجواب عنه: ما تقدم من وجهين: أحدهما: أن المحل تباح الذبيحة في حقه. والثاني: أن المحل غير ممنوع من الذكاة، وهذا بخلافه. واحتج بأن المحرم إذا اضطر إلى أكل الصيد صحت ذكاته وذبيحته،

مسألة فإذا ذبح المحل صيدا في الحرم لم يحل أكله، كالمحرم إذا ذبح صيدا

كذلك إذا لم يضطر. والجواب: أنا لا نسلم أن هناك ذكاة. وقد قال أحمد في رواية حنبل وابن إبراهيم في محرم ذبح صيداً: هو ميتة؛ لأن الله -تعالى- قال: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، فسماه قتلاً، فكل ما اصطاده المحرم، أو ذبحه، فإنما هو قتل قتله. وهذا يقتضي أنه ميتة في جميع الأحوال. * ... * ... * 193 - مسألة فإذا ذبح المحل صيداً في الحرم لم يحل أكله، كالمحرم إذا ذبح صيداً: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: وقد سئل: يؤكل الصيد في الحرم؟ فقال: إذا ذُبح في الحل. ونقل -أيضاً- عنه: إذا رماه في الحل [فتحامل، فدخل الحرم، يكره أكله. وقال في رواية حنبل: وإن دخل الحرم]، فلا يصطاد، ولا أرى أن يُذبح إلا أن يُدخل مذبوحاً من خارج الحرم، فيأكله، ولا أرى أن

يذبح في الحرم شيئاً من صيد الحل، ولا الحرم. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فقال أبو الحسن الكرخي مثل قولنا. وقال غيره: هو مباح. دليلنا: أن حرمة الحرم تمنع من قتل الصيد، فمنعت من ذكاته. دليله: حرمة الإحرام. ولأنها حرمة توجب الجزاء على قاتل الصيد، أشبهت حرمة الإحرام. ولا يلزم عليه صيد المدينة؛ لأن أحمد قال في رواية حنبل: صيد المدينة حرام أكله، حرام صيده. وهذا يدل على أنه لا تصح ذكاته. وإن شئت قلت: حرمة تؤثر في زوال تملك الصيد، فأثرت في الذكاة، كالإحرام. ولا يلزم عليه صيد المدينة إن قلنا: تصح ذكاته فيها؛ لأن تلك الحرمة لا تؤثر في زوال ملك الصيد؛ لأن أحمد قد قال في رواية الأثرم: وقد سئل عن الرجل يدخل المدينة بصيد؛ أيرسله؟ فقال: أما هذا فما سمعنا، ولكن لا يصيد بها. فقد نص على أنه لا يلزمه رفع يده عن الصيد المملوك. وقد نص في رواية الجماعة -منهم صالح، وحرب، وغيرهما-:

إذا دخل المحرم، ومعه صيد، يرسله. واحتج المخالف بأن المنع من زكاته لمعنى في غير الذابح، وهو الحرم، فلم يحرم الذبح. دليله: الغاصب. ويفارق الإحرام؛ لأنه لمعنى فيه. والجواب: أنه قد يكون ممنوعاً منه لكون الصيد في الحرم والصائد في الحل، فيكون هاهنا المعنى في غيره، كما لو قالوا: ويكون الصيد والصائد في الحرم، فيكون المعنى فيه؛ أعني: في الصائد، وهو كونه في الحرم. فلم يصح هذا الفرق. ثم المعنى في ذكاة الغاصب ما ذكرنا، وهو: أن المنع هناك لمعنى في الآدمي، ولهذا لو أذن فيه أُبيح، وهذا المعنى لحق الله تعالى، فهو كحرمة الإحرام. واحتج بأنه ممنوع من ذبحه لمعنى في المكان، فلم يمنع من صحة الذكاة. دليله: صيد المدينة. والجواب: أنا قد بينا: أنه يحتمل أن نقول: لا يباح أكله. ويحتمل أن يباح، ويكون الفرق بينهما: أن تلك الحرمة لا توجب زوال يده عن الصيد، وهذا بخلافه. * ... * ... *

مسألة إذا دل المحرم حلالا أو محرما على صيد، فقتله، فعلى الدال الجزاء

194 - مسألة إذا دل المحرم حلالاً أو محرماً على صيد، فقتله، فعلى الدال الجزاء: نص عليه في رواية ابن منصور وأبي الحارث وابن إبراهيم في محرم دل حلالاً على صيدٍ فقتله: فعلى المحرم الجزاء. وقال في رواية أبي طالب: على الذي يشير جزاء، وعلى الذي يعين، وعلى الذي صاده. وقال -أيضاً- في رواية عبد الله في محرم أشار إلى صيد: فإن قتل الصيد، فعلى المشير كفارة فدية، وغن كانوا جماعة محرمين، فكفارة واحدة، فإن كان الذي قتله ليس بمحرم، فليس عليه شيء. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: لا شيء على الدال. دليلنا: ما رُوي في حديث أبي قتادة: أنه رأى حمار وحش، فركب فرسه، وأخذ رمحه، وحمل عليه، وقتله، وجاء به إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وكانوا محرمين، وهو حلال، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال لهم: "هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ " قالوا: لا. قال: "فكلوا". فوجه الدلالة: أنه سوى بين الإشارة والإعانة، ولا خلاف أن

الإعانة توجب الجزاء، كذلك الإشارة. فإن قيل: إنما سوى بينهما في تحريم أكل الصيد، ونحن نقول بذلك. قيل له: سوى بينهما في الأمرين. وأيضاً رُوي: أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب، فقال له: يا أمير المؤمنين! إني أشرت إلى ظبي، وأنا محرم، فقتله صاحبي، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ما ترى؟ قال: أرى عليه شاة. قال: فأنا أرى ذلك. وروى النجاد بإسناده عن عكرمة، عن علي وابن عباس في محرم أشار إلى بيض النعام: فجعل عليه الجزاء. وروى بإسناده عن مجاهد قال: أتى رجل ابن عباس، فقال: إني أشرت إلى ظبي وأنا محرم، قال: فضمنه. فهذا عن أربعة من الصحابة. فإن قيل: فقد رُوي عن ابن عمر: لا جزاء على الدال. قيل له: لا نعرف هذا، والمعروف عنه ما روى النجاد بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال: لا يدل المحرم على صيد، ولا يشير إليه. على أنه محمول على دلالة لم يتصل بها التلف. وأيضاً الدلالة سبب يؤثر في تحريم أكل الصيد يختصه، فجاز أن يُضمن به، كالقتل، وحفر البئر، ونصب السكين، ونصب الشرك.

ولا يلزم عليه إذا اصطاد الحلال صيداً للمحرم؛ لأنه يؤثر في تحريم أكل الصيد، ويوجب الضمان على المحرم. ولا يلزم عليه إذات مات الصيد حتف أنفه، أو لم يستوف شرائط الذكاة؛ لأن هذا السبب لا يختص بالصيد، ولأنه لو وُجد في غيره حرم. ولا يلزم عليه إذا صال عليه الصيد، فقتله؛ أنه لا ضمان عليه على اختلاف أصحابنا، وإن كان تحريم أكله؛ لأن هذا السبب يجوز أن يتعلق به الضمان؛ لأنه مباشرة. ولأنه سبب يتوصل إلى إتلاف الصيد، فجاز أن يتعلق به الجزاء، كالإمساك. ولأنه لولا دلالته لما توصل الحلال إلى قتل الصيد، فصارت الدلالة سبباً في إتلافه، والصيد يُضمن بالأسباب، فوجب أن يتعلق عليه، كما لو حفر بئراً فوقع فيه، أو نصب شركاً فتعقل به؛ أنه يضمن. ولهذا نقول: لو أن محرماً ما دفع إلى رجل قوساً، والرجل لا يقدر على أخذ الصيد إلا به، فأخذه: إن الدافع يضمن. ولا يلزم عليه إذا اصطاد الحلال للمحرم؛ لأنا قلنا: لولا دلالته

لما توصَّل إلى قتل الصيد، وهناك يتوصل إلى قتله بغير تلك الدلالة. فإن قيل: التحريم أعم من الضمان بدليل أنه إذا صيد لأجله حرم، ولا جزاء عليه، وكذلك إذا صال عليه الصيد، فقتله دفعاً، يحرم أكله، ولا جزاء، وكذلك إذا قتل شاة نفسه، حرمت عليه، ولا ضمان، وكذلك إذا قتل المحرم [صيداً] حرم على سائر الناس؛ لأجل قتل المحرم، ولا ضمان، كذلك هاهنا. قيل: تحريم الميتة على سائر الناس لا يختص الصيد، وتحريم الدلالة على المحرم يختص الصيد، فهو كالقتل. وأما سقوط الضمان عنه إذا صال عليه، ففيه خلاف بين أصحابنا؛ لأن ذلك القتل مباح، [فجاز أن يسقط الضمان، والدلالة هاهنا محرمة. وأما إذا صيد لأجله فقد قلنا: إنه إذا أكل منه وجب عليه الفدية، فلا نسلمه. ولو أسلم فلم يوجد من جهته سبب يختص بإتلاف الصيد، فلهذا لم يضمن. فإن قيل: المعنى في الأصل -وهو حفر البئر، ونصب السكين، والقتل -: أنه يضمن بها المال، وليس كذلك الدلالة؛ لأنه لا يُضمن بها المال.

قيل له: الدلالة تُضمن بها الأموال بدلالة المودع إذا دل على الوديعة. ولأن ضمان الصيد آكد من ضمان الأموال بدليل أنه لو حفر بئراً في ملكه، فوقع فيها صدي ضمنه، ولو وقعت فيها دابة لغيره لم يضمنها. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فدل على أن من لم يقتل لا جزاء عليه. والجواب: أنا نحمله على من قتل أو دل أو أشار. واحتج بأن ما ضُمن بالإتلاف لم يُضمن بالدلالة. دليله: الأموال والنفوس. والجواب: أنه يبطل بالمودع إذا أتلف الوديعة ضمنها، ولو دل عليها من سرقها أو أتلفها ضمنها. فإن قيل: الضمان هناك لم يتعلق بالدلالة، وإنما تغلظ بالتفريط في الحفظ؛ لأنه لو كان متعلقاً بالدلالة لكان لا يجب الضمان [إلا] بإتلاف المدلول عليه، كما لا يجب الجزاء على الدال إلا بإتلاف الصيد، وعندنا أنها لو تلفت بعد هذه الدلالة، وجب الضمان على المودع. قيل: السؤال باقٍ، وذلك أن الدلالة قد جُعلت سبباً في التفريط في الحفظ، كالإخراج من الحرز، فيجب أن تُجعل سبباً في ضمان الصيد، كالإتلاف.

وقد قيل: إن المحرم لزمه حفظ الصيد من أفعاله المؤدية إلى تلفه، فإذا دل عليه لم يحفظه الحفظ الذي لزمه، فهو كالمودع الذي لزمه الحفظ من أفعاله وأفعال سائر الناس. وجواب آخر، وهو: أن ضمان الصيد آكد من ضمان النفس والمال بدلالة أن محرماً لو أمسك صيداً، فقتله حلال أو محرم، ضمن الماسك، ولو أمسك رجلاً، فقتله آخر، لم يلزمه شيء. وكذلك لو حفر بئراً في داره، فوقع فيها صيد، أو نصب شركاً، فتعقل به صيد، ضمن، ولو وقع فيها إنسان أو دابة لم يضمن. وكذلك لو نفر صيداً حتى خرج من الحرم، وتلف، ضمنه، ولو أفزع عبداً، فأبق، لم يضمنه. وكذلك لو قتل عبد نفسه لم يضمن، ولو قتل صيد نفسه ضمن. فإذا كان ضمان الصيد آكد من ضمان النفس والمال، لم يمتنع أن يضمن الصيد بالدلالة، وإن لم يضمن بها النفس والمال. فإن قيل: من أصحابنا من قال: لا يضمن الصيد بوقوعه في البئر في داره، ولا بنصب الشرك في داره، كما لا يضمن الأموال. قيل له: ذكر أبو العباس بن القاص في "التلخيص": أنه يضمن، وقال: نص الشافعي عليه، فلا يُلتفت إلى قول من قال: لا ضمان.

ويبين صحة الفرق بين الآدمي والمال، وبين الصيد: أنه لو حبس حراً حتى مات، لم يضمنه، ولو حبس صيداً فمات، ضمنه. وكذلك لو غصب طائراً، فماتت فراخه، لم يضمنه، ولو اصطاد المحرم طائراً، فتلفت فراخه، ضمنها، وبعضهم يحكي في ذلك وجهين. فإن قيل: تأكُّد ضمان الصيد على ضمان الأموال والنفوس لا يوجب الفرق بينهما في الدلالة، ألا ترى أن ضمان الأموال آكد من ضمان الأحرار؛ لأن الأحرار مضمون بالجناية واليد جميعاً، ثم لا يوجب ذلك الفرق بينهما في الدلالة. قيل له: الحر لا تثبت عليه اليد، ولو ثبت لضمن به، وملك الغير تثبت عليه اليد، فلهذا فرقنا بينهما في ضمان اليد. فأما فيما اختلفنا فيه فإن الصيد ودابة الغير تثبت عليهما اليد، ثم لو وقع الصيد في بئر في داره ضمن، ولو وقعت دابة غيره لم يضمن. واحتج بأنها دلالة على ما لا يلزمه حفظه، فلا تتعلق بها ضمانة. دليله: سائر الأموال. قالوا: ولا تلزم عليه الوديعة؛ لأن المودع يلزمه حفظ الوديعة، وفي الصيد لا يلزمه حفظه، وإنما يلزمه أن يجني عليه، ولا يثبت يده عليه. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق. واحتج بأنها دلالة على محظور إحرامه، فلا تتعلق بها ضمانة.

دليله: إذا دل محرماً على طيب فاستعمله، أو مخيط فلبسه. والجواب: أن الكفارة في الطيب واللباس لا تجب إلا بالاستمتاع، والدال غير متمتع، والصيد يضمن بالإتلاف كالأسباب المؤدية إليه، والدلالة سبب يفضي إلى الإتلاف. ولأن الدال في مسألة الطيب والمخيط لا يتعلق به حكم يختص باستعماله، فلم تلزمه الكفارة، والدلالة في مسألة الصيد قد عاد إليه حكم يختص بالإتلاف، وهو تحريم الأكل، فلذلك تعلق به الضمان. واحتج بأن السبب والمباشرة إذا اجتمعا، ولم يكن السبب مُلجئاً، تعلق الضمان بالمباشرة دون السبب. دليله: إذا أميك رجل رجلاً، وقتله آخر، فإن الضمان يجب على القاتل دون الممسك، وإذا حفر رجل بئراً، فوقع فيه إنسان، فإن الضمان يجب على الحافر، فإن دفع رجل فيها رجلاً، وجب الضمان على الدافع دون الحافر. والجواب: أنه يبطل به إذا أمسك المحرم الصيد، وقتله محرم آخر، فإن المسك سبب غير مُلجئٍ، ويضمن. وكذلك إذا دل المودع على الوديعة، وسرقها اللص، وأتلفها، فالدلالة له سبب مُلجئ، وتتعلق به الضمانة.

مسألة فإن دل محل حلالا على صيد في الحرم، فعلى الدال، والقاتل الجزاء

وعلى أنا قد بينا: أن ضمان الصيد آكد من ضمان الأنفس من الوجه الذي ذكرنا. واحتج بأنها دلالة لا يضمن بها المال، ولا يضمن بها الصيد. دليله: الدلالة الظاهرة، وهو أن يسير إلى ما يراه، ويدله على ما يبصره. والجواب: أن تلك الدلالة لا تختص بإتلاف الصيد، وليس كذلك الخفية، [فلذلك] يضمن بها. * ... * ... * 195 - مسألة فإن دل مُحل حلالاً على صيد في الحرم، فعلى الدال، والقاتل الجزاء: نص على هذا في رواية الأثرم في حلال دل حراماً على صيد في الحرم: يكفر الحلال. فقيل له: يكون على الحلال؟ قال: هذا في الحرم. فقيل له: كفارتان؟ قال: لا، كفارة واحدة. وقال أبو حنيفة: إن كان المدلول ممن يجب عليه الجزاء، لم يجب الجزاء على الدال، ووجب على القاتل، وإن كان ممن لا يجب عليه الجزاء، كالصبي والكافر، وجب الجزاء على الدال.

رواه الحسن بن زياد عن أبي يوسف، ولم يحكِ خلافاً. دليلنا: أنه صيد يُضمن بالجزاء، قضُمن بالدلالة. دليله: الصيد في حق المحرم. ولا يلزم عليه صيد المدينة؛ لأنا لا نعرف الرواية في ذلك، ولا يمتنع أن نقول فيه ما نقول في صيد الحرم. وإن شئت قلت: حرمة توجب رفع يده عن الصيد، فأوجبت الضمان بالدلالة. دليله: حرمة الإحرام. ولا يلزم صيد المدينة؛ لأنه لا يوجب رفع يده عن الصيد من الوجه الذي ذكرنا. فإن قيل: ضمان صيد الحرم يجري مجرى ضمان الأموال، بدلالة أن رجلين لو قتلا صيداً في الحرم ضمن كل واحد منهما نصف قيمته، كما لو أتلف ثوباً وجب على كل واحد منهما نصف قيمته. ولأنه لا مدخل للصوم فيه، كما لا مدخل له في ضمان الأموال، ولا يُجزئ عنه الهدي إلا أن تكون قيمته مذبوحاً حين تصدق به مثل قيمة الصيد، فإن نقص عنه أدى الأفضل. فإذا ثبت أن ضمانه يجري مجرى ضمان الأموال، وقد ثبت أن

المال لا يُضمن بالدلالة، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن ضمانه مخالف لضمان الأموال، فجاز أن يُضمن بالدلالة، وإن لم تُضمن بها الأموال. ونقل -أيضاً- عنه: إذا رماه في الحل [فتحامل، فدخل الحرم، يكره أكله. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل نقول: ضمان صيد الحرم والإحرام يجريان مجرى واحداً، فإذا اشترك الاثنان في قتل صيد الحرم والإحرام، لزمهما جزاء واحد، ويجزئ عنه الهدي، كصيد الإحرام، وللصيام مدخل فيه، كصيد الإحرام، فلا فرق بينهما. وقد نص أحمد في رواية الأثرم في صيد الحرم: أن جزاءً واحداً على الدال والقاتل. وقد نص على أن للصيام مدخلاً فيه، ويأتي ذكره. وأيضاً فإنه يُضمن بما يضمن به المحرم الصيد بدلالة أنه لو حفر بئراً في داره من الحرم؛ ليقع فيها صيد، أو نصب شركاً، فوقع في البئر صيد، أو تعقل بالشرك صيد، ضمنه بالجزاء كما يضمن المحرم ذلك. ثم ثبت أن المحرم يضمن الصيد بالدلالة، كذلك الصيد في الحرم. فنقول: صيد يُضمن بحفر البئر ونصب الشرك في ملكه، فضُمن بالدلالة. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: إنما حكم الإشارة والدلالة وحكم حفر البئر ونصب الشرك في صيد الحرم؛ لأنه إذا دل حلال حلالاً على صيد في الحرم، فقتله، وجب على غير الدال الجزاء، وهو القاتل، وصيد الحرم إذا ضمن

من وجه لا يُضمن من وجه آخر؛ لأنه يجري مجرى ضمان الأموال. وأما حفر البئر ونصب الشرك فلم يجب على غيره ضمان، وقد فعل السبب، وهو مما يُضمن بالأسباب، فوجب أن يضمن. قالوا: ولهذا نقول: لو دل صبياً أو ذمياً على صيد الحرم، فقتله، وجب على الدال الجزاء؛ لأنه لم يجب على غيره ضمان. قيل له: قولك: (إن صيج الحرم إذا ضُمن من وجه لا يُضمن من وجه آخر)، وصيد المحرم إذا ضُمن من ضُمن من وجه آخر، فلا فرق بينهما عندنا؛ فإن كل واحد منهما يُضمن بما ضمن الآخر، فإن اشترك نفسان في صيد الحرم، أو محرمان في صيد في الحل، فعليهما جزاء واحد. وأيضاً كل صيد ضُمن بالدلالة إذا لم يتعلق على غيره ضمان، وهو دلالة الذمي، ضُمن بالدلالة، وإن تعلق على غيره ضمان. دليله: الصيد في حق المحرم. ولأنه دل على صيد في الحرم، فتعلق عليه الضمان. دليله: إذا دل صبياً أو ذمياً. ولأن دلالته صارت سبباً في إتلاف الصيد، فوجب أن يضمن، كما لو حفر بئراً، فوقع بها صيد، أو نصب شركاً، فتعقل فيه، وكالمحرم إذا دل حلالاً أو محرماً على صيد.

واحتج المخالف بأن ضمان صيد الحرم يجري مجرى ضمان الأموال بدلالة أن النهي عن إتلافه تعلق بمعنى في غيره، كالنهي عن إتلاف مال الغير. ولأن حلالاً لو أخرج صيداً من الحرم لم يبرأ من ضمانه إلا برده إليه، كما لا يبرأ الغاصب إلا برد المغصوب إلى صاحبه. ولو أرسله في الحل، ثم علم بوصوله إلى الحرم برئ، كما لو علم بوصول المغصوب إلى يد مالكه. وإذا قتل الحلالان صيداً في الحرم، لزم كل واحد منهما نصف قيمته، ولا مدخل للصوم فيه، كما لا مدخل للصوم في ضمان الآدميين، ولا يُجزئ عنه الهدي إلا أن تكون قيمته مذبوحاً حين تصدق به مثل قيمة الصيد. وقد ثبت أن الدلالة على مال الغير لا تضمن، كذلك على الصيد في الحرم. والجواب: أنا قد بينا: أن ضمانه يجري مجرى ضمان الصيد في حق المحرم بدليل: أنه يُضمن بالأسباب التي يُضمن بها في حق المحرم، وإن لم يضمن بالأموال من حفر البئر في ملكه، ونصب الشرك، وإن دل

مسألة صيد الحرم مضمون على الصبي والذمي

عليه من لا يتعلق به الضمان، كالصبي والذمي، وهذا كله يفارق به ضمان الأموال، ويشابه ضمان الصيد. وما ذكروه من أنه يُضمن بمعنى في غيره، فليس بصحيح؛ لأن ضمانه لحق الله تعالى، كما أن ضمان الصيد في حق المحرم لحق الله. ولأنه لا فرق بين أن يكون القاتل في الحل، والصيد في الحرم، وبين أن يكون القاتل والصيد جميعاً في الحرم في إيجاب الضمان، وإن علمنا أن الضمان هاهنا لمعنى فيه، وهو كونه في الحرم. وقولهم: إنه لو أخرج صيداً من الحرم لم يبرأ من ضمانه إلا برده إليه، أو يرسله فيعلم وصوله إليه، فهذا المعنى موجود في صيد المحرم؛ فإنه لا يبرأ إلا بإرساله، ولحاقه بالوحش، فيرده إلى الحالة التي كان عليها أولاً. وقولهم: إذا قتلا صيداً لزم كل واحد منهما نصف الجزاء، وكذلك نقول في صيد المحرم. وقولهم: لا مدخل للصوم فيه، فلا نسلم ذلك، بل الصوم له مدخل عندنا، ويُضمن بالهدي. * ... * ... * 196 - مسألة صيد الحرم مضمون على الصبي والذمي: وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليهما.

مسألة إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فعليهم جزاء واحد

دليلنا: ما تقدم من أن صيد الحرم يجري مجرى ضمان الأموال، وقد ثبت أنهما يضمنان ما يتلفان من الأموال، كذلك هاهنا. * ... * ... * 197 - مسألة إذا اشترك جماعة مُحرمون في قتل صيد فعليهم جزاء واحد: نص عليه في رواية ابن القاسم، وسندي، وبكر بن محمد. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: على كل واحد منهم جزاء. دليلنا: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. ومنها دليلان: أحدهما: أنه علق وجوب الجزاء بشرط، وهو قتل الصيد، والجماعة إذا قتلوا صيداً، فالقتل وجد من جماعتهم، ولم يوجد من كل واحد منهم، فلزم جماعتهم جزاء المثل، وهذا كما يقول القائل: من جاء بعبدي فله درهم، فجاء به جماعة، فإنهم يستحقوم الدرهم بينهم؛ لأن الشرط وُجد من جماعتهم، ولا يستحق كل واحد منهما درهماً؛ لأن

الشرط لم يوجد منه على الانفراد. فإن قيل: إذا قتل الجماعة، فكل واحد منهم قاتل، فالشرط موجود منه على الانفراد، ألا ترى أن جماعة قتلوا رجلاً عمداً، وجب على كل واحد منهم القصاص؟ فلولا أن كل واحد منهم قد قتله، لما جاز أم يُقتل به. قيل له: لا نقول: إن كل واحد من الجماعة قاتل على الانفراد؛ لأن القتل هو الفعل الذي يؤدي إلى خروج الروح، وهذا فعل الجماعة، وليس فعل كل واحد منهم. ويبين صحة هذا: أنه يلزم جماعتهم دية واحدة، ولو كان كل واحد منهم قاتلاً على الانفراد للزمته دية كاملة، وإنما أوجبنا القصاص على جماعتهم؛ لأنه مما لا يتبعض، فكمل البعض، كما يُكمل ما لا يتبعض من الطلاق وغيره، ألا ترى أن ما يتبعض -وهو الدية- لم يُكمل، بل لزمهم بالحصص، كذلك هاهنا؛ لما كان الجزاء مما يتبعض، يجب أن يتجزأ، ولا يُكمل. والدلالة الثانية: قوله: {وَمَن قَتَلَهُ}، ولفظه (من) تنتظم الواحد والجماعة، فاقتضى ظاهر الآية: أن الواحد إذا قتل صيداً لزمه جزاء مثله، وأن الجماعة إذا قتلت صيداً لزمهم جزاء مثله؛ لأن اللفظ يتناول الجميع على حد واحد.

فإن قيل: قوله: {وَمَن} يتناول كل واحد على الانفراد، ألا ترى أنه لو قال: من دخل هذه الدار فله درهم، فدخلها واحد استحق درهماً، ولو دخلها جماعة استحق كل واحد منهم درهماً؟ وكذلك قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَ‍ئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، فلو قتل واحد رجلاً لزمه تحرير رقبة، ولو قتل جماعة لزم كل واحد منهم تحرير رقبة، كذلك هاهنا. قيل له: إنما استحق كل واحد منهم درهماً بدخول الدار؛ لأن ذلك لا يقع فيه الاشتراك؛ لأن كل واحد منهم منفرد بفعله؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل، وهذا ينفرد به كل واحد منهم، وليس كذلك القتل؛ فإنه يقع مشتركاً، فهو مثل قوله: من جاء بعبدي فله درهم، فجاء به جماعة استحق جميعهم درهماً واحداً؛ لأن المجي مشترك. وأما كفارة القتل في حال الاشتراك، فلم نوجبها على كل واحد منهم بظاهر قوله {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَ‍ئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، بل أوجبناها بدليل آخر. ولو خُلينا والظاهر هناك، لقلنا فيها ما قلناه في جزاء الصيد. وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "في الضبع كبش"، ولم يُفرق بين أن يقتله واحد أو جماعة. فإن قيل: معناه: على قاتل الضبع، وكل واحد منهم قاتل.

قيل له: قد أجبنا عن هذا، وبينا أنه ليس كل واحد منهم قاتلاً على الانفراد، وإنما جمعهم قتله. ولأنه إجماع الصحابة؛ روى أبو بكر النجاد بإسناده عن سعيد بن المسيب: أن رجلين رأيا ظبياً فرمياه، وأصاباه، وقتلاه، فلقيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألاه، فقال عمر لعبد الرحمن: قُل فيها، قال: شاة، قال عمر: شاة. قال أحدهما لصاحبه: ما علم حتى سأل هذا، فدعاهما، فقال: إن الله عز وجل يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وروى بإسناده عن ابن عمر: أنه سئل عن القوم من المشاة قتلوا صيداً، قال: عليهم جزاء واحد. وبإسناده عن مجاهد عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعاً قال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم. فهذا قول أربعة من الصحابة، ولا يُعرف لهم مخالف. والقياس: أنه بدل متلف يحتمل التبعيض، فوجب أن يجب على الجماعة ما يجب على الواحد إذا انفرد بإتلافه. دليله: بدل النفس، والمال، وصيد الحرم.

ولا تلزم عليه الكفارة التي تجب بالقتل؛ لأنها ليست ببدل من النفس. ولا يلزم عليه القصاص؛ لأنه لا يتبعض؛ لأنه لا يمكن استيفاء بعض النفس. وإن شئت قلت: إتلاف لو انفرد به الواحد لزمه جزاء واحد، فإذا اشترك فيه الجماعة لزمهم جزاء واحد. دليله: صيد الحرم إذا قتله حلالان. فإن قيل: ضمان صيد الحرم تعلق عليهما لحرمة في غيرهما، فصار بمنزلة إتلافهما مالاً لآدمي، وهذا تعلق عليهما لحرمة فيهما. قيل له: إذا كانا في الحرم، فقتلاه، فالمعنى الموجب للجزاء لمعنى فيهما، وهو كونهما في الحرم. ولأن نفسين لو قتلا رجلاً وجب عليهما كفارتان، وإن كان ذلك لمعنى في غيرهما، وهو هتك حرمة المقتول، فلم يصح ما قاله. فإن قيل: وجوب الجزاء عليهما معلق بهتك حرمة واحدة، وهو حرمة المكان، فلزمها جزاء واحد، وليس كذلك المحرمان؛ لأن كل واحد منهما هتك حرمة على حدة، وهو حرمة الإحرام، فلزم كل واحد منهما جزاء كامل، كما لو انفرد كل واحد منهما بقتله.

قيل له: المحلان في الحرم يضمن كل واحد منهما الصيد؛ لكونه في الحرم غير كون الآخر، فكان كل واحد منهما منفرداً بحرمة الحرم كانفراده بحرمة الإحرام، فلا فرق بينهما. وعلى أن هذا ينتقض بالمحرم إذا كان في الحرم؛ فإنه ممنوع من قتل الصيد بحرمتين، ويجب جزاء واحد. وقد نص أحمد على هذا في رواية حنبل في محرم أصاب صيداً في الحرم: عليه كفارة واحدة. وقياس آخر، وهو: أن المقتول واحد، فوجب أن يجب بقتله جزاء واحد. دليله: إذا كان القاتل واحداً، أو كانوا جماعة مُحلين قتلوا صيداً في الحرم. فإن قيل: لا يمتنع أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل، وإن كان المقتول واحداً، كما يجب على كل واحد منهما بقتل الآدمي كفارة كاملة، وإن كان المقتول واحداً. قيل له: اختلفت الرواية عن أحمد في قتل الآدمي إذا اشترك فيه الجماعة: فروى عنه حنبل والميموني: عليهم كفارة واحدة، فعلى هذا: لا فرق بينها، وبين جزاء الصيد. وروى مهنا وابن القاسم وسندي: على كل واحد كفارة، وهو

أصح، فعلى هذا: فرق بينهما نذكره فيما بعد. ونقل محمد بن ماهان عن أحمد: على واحد دية كاملة، كالكفارة، فقال في ثلاثة اجتمعوا على قتل رجل، فعفا الولي عن بعض، وقتل بعضاً، وأخذ الدية من بعض: فهو جائز، ولكن يأخذ الدية كاملة؛ لأنه قد وجب عليهم قتلهم. ولأنها غرامة تتفاوت بتفاوت المتلف، فوجب أن يكون الاعتبار فيها بالمتلف، لا بعدد المتلفين. دليله: قيمة العبد والمتلفات. يبين صحة هذا؛ ان ضمان الجزاء يجري مجرى ضمان حقوق الآدميين، ويجب على طريق البدل: أنه يختلف باختلاف حال المضمون بالصغر والكبر، ولو كان كفارة لم يختلف باختلاف المتلف. ولأنه يجب في الأبعاض يضمن بالنذر والجناية والكفارة لا يجب بضمان اليد، وإذا ثبت أنه يجب على الجماعة جزاء واحد، فهو منا لو اشترك جماعة في إتلاف شيء لآدمي، لزمهم قيمة واحدة. فإن قيل: اختلافه باختلاف المتلف لا يمنع أن يكون كفارة، ألا ترى أن الواجب بحلق الشعر وقص الأظافر يختلف باختلاف ذلك؛ ففي ثلاث شعرات دم، وفيما دون ذلك إطعام، ومع هذا فهو كفارة؟ وكذلك

الصوم في جزاء الصيد يختلف؛ لأنه مقدر بالطعام، ومع هذا فهو كفارة، ألا ترى أنه إذا كانت قيمة الصيد ما يُشترى به مد طعام، فقتله واحد، وجب عليه صوم يوم كامل، وإذا قتله اثنان، وجب على كل واحد منهما صوم يوم كامل، كما تجب على كل واحد منهما في قتل الآدمي كفارة كاملة. ولأنه لو قتل صيداً لآدمي وجب عليه قيمته لصاحبه، وجزاؤه لله تعالى، كما لو قتل عبداً لإنسان، لزمته قيمته لصاحبه، والكفارة لله تعالى، فهذا يدل على أن الجزاء بمنزلة الكفارة؛ لأنه لو كان بمنزلة الأبدال، ألا ترى أنه لو أتلف قوتاً لإنسان لم يجب عليه إلا بدل واحد؟ ولأنه لو قتل صيداً يملكه، وجب عليه الجزاء، كما لو قتل عبد نفسه وجبت الكفارة، فلو كان الجزاء بمنزلة قيم المتلفات، لوجب أن لا يلزمه الجزاء بقتل صيده، كما لا يلزمه بقيمة عبده. ولأنه لو كان بمنزلة قيم المتلفات، لم يكن للصيام مدخل فيه، ولم يُسم كفارة، وقد سماه الله كفارة بقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]. قيل: أما قص الشعر وتقليم الأظافر فإنما يُسمى كفارة، وإن كان يختلف؛ لأنه يختلف باختلاف المتلف في جميع الأحوال، ألا ترى أن ما زاد على ثلاث شعرات وعلى الربع لا يختلف، بل تجب فيه شاة،

وإن تضاعف؛ لأن الجزاء هناك ليس في مقابلة الشعر، ولا الأظافر؛ لأن تلك الأشياء لا قيمة لها، والجزاء في مقابلة المقتول؛ لأن له قيمة. وأما اجتماع الجزاء والقيمة عليه في الصيد للملوك، ووجوب الجزاء عليه في الصيد الذي يملكه، فلا يُخرجه عن أن يكون بمنزلة إبدال المتلفات، ألا ترى أنه لو قتل الحلال صيداً لآدمي في الحرم ضمن قيمته لصاحبه، وجزاءه الله تعالى، وكذلك إذا قتل صيداً له لزمه الجزاء، ومع هذا فإن جزاء صيد الحرم بمنزلة جزاء إبدال المتلفات، فلا يجب على الجماعة بقتله إلا جزاء واحد. وعلى أنه إنما ضمنه إذا كان ملكاً له لتعلق حق الله -تعالى- به، وتعلق حق غيره، فوجب عليه بدل ملكه، ألا ترى أنه إذا أتلف ملكه المرهون، أو عبده الجاني، تلزمه قيمته لتعلق حق الغير به، وضمنه ببدلين إذا كان ملكاً لغيره؛ لأن مستحقه اثنان: أحدهما لحق الآدمي. والآخر لحق الله تعالى. وليس كذلك غيره من المتلفات؛ لأن مستحق البدل واحد، فلم يجب إلا بدل واحد. وأما دخول الصوم فيه فلأنه نوع تخفيف دخله لحق الله تعالى،

وحقوق الله تتعلق بعبادات الأبدان، ألا ترى أن صيد الحرم دخله تخفيف لحق الله تعالى، وهو التخيير بين القيمة وبين الإطعام كان عنده وبين الهدي، ولم يخرجه ذلك من أن يكون بمنزلة الأبدال في أن الجماعة إذا اشتركوا في قتله لزمهم جزاء واحد، كذلك هاهنا. وأما تسميته بالكفارة، فتبطل بجزاء صيد الحرم؛ يُسمى كفارة، ومع هذا فهو جارٍ مجرى حقوق الآدميين. ولأن الله -تعالى- قال في قَود المقتول: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45]، وبقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] إلى قوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}. واحتج بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ} [المائدة: 95]. و (من) يتناول كل واحد على الانفراد. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن جزاء الصيد كفارة فيها صوم، فأشبهت كفارة القتل. ولا يلزم عليه صيد الحرم؛ لأنه لا مدخل للصوم فيه. والجواب: أنا قد روينا عن أحمد: أنه تجب به كفارة واحدة على الجماعة. فعلى هذا: لا فرق بينهما. وإذا سلمنا ذلك، فالفرق بينهما: أن تلك الكفارة لا تجب على طريق البدل، ألا تراها لا تختلف باختلاف حال المقتول؟ فلذلك وجبت

على كل واحد من القاتلين بكمالها، وليس كذلك هذه الكفارة؛ لأنها تجب على طريق البدل، ألا تراها تختلف باختلاف حال الصيد؟ فلم تجب على كل واحد من المتلفين بكمالها، كإتلاف المال. وجواب آخر، وهو: أن كفارة القتل لا تتبعض، ألا ترى أنه إذا وجد [بعض] الرقبة لم يجب إخراجها، وانتقل إلى الصوم، وكان وجود البعض بمنزلة عدمه؟ وليس كذلك جزاء الصيد؛ فإنه يتبعض، ألا ترى أنه لو كان على ملكه بعض الجزاء لزمه إخراجه، ولم يجر مجرى عدمه، فهو يجري مجرى ضمان الأموال. واحتج بأن كل واحد منهم هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد، فوجب أن يلزمه جزاء كامل، كما لو انفرد كل واحد منهم بقتله. والجواب: أنا لا نسلم الوصف في الفرع؛ لأن كل واحد منهم لم يقتل الصيد، وإنما حصل القتل من جماعتهم، وقد بينا ذلك في الكلام على الآية. ثم لا يجوز اعتبار الانفراد بالاشتراك، ألا ترى أن جماعة لو انفرد كل واحد منهم بقتل صيد في الحرم، لزم كل واحد منهم جزاء كامل، ولو اشتركوا في قتل صيد لزمهم جزاء واحد، كذلك في مسألتنا. وكذلك لو انفرد نفسان بقتل نفسين لزم كل واحد منهم دية كاملة،

ولو اشترك نفسان في قتل نفس لزمهما دية واحدة، وكذلك سائر المتلفات. ثم المعنى في الأصل: أن المقتول اثنان، فلهذا وجب جزاءان، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المقتول واحد، فلم يجب بقتله إلا جزاء واحد، كما لو انفرد بقتله. واحتج بأن المثل والإطعام أحد أنواع الجزاء، فلزم كل واحد من الجماعة جزاء كامل، بالصيام، وذلك أنهم لو كفروا بالصيام لزم كل واحد صيام كامل. نص عليه. كذلك في الإطعام. والجواب: أن الصوم حق على البدن، وفيه معنى العقوبة، فهو كالحد، وقد ثبت أن جماعة لو قذفوا رجلاً وجب على كل واحد حد كامل، وليس كذلك الجزاء؛ لأنه حق في مال يجب على طريق البدل، أشبه قيم المتلفات. * فصل: فإن كان الجزاء بالصيام، فهل يلزم كل واحد صوم

كامل، أم بالحصص؟ المنصوص عنه: أنه يلزمه صوم كامل. وقال في رواية بكر بن محمد: كفارة واحدة، ولكن إذا كان الصوم صام صوماً تاماً، فإن كان بعضهم عنده الهدي، وبعضهم ليس عنده، فالذي عنده يكفر، والذي ليس عنده يصوم صوماً تاماً. وكذلك قال في رواية ابن القاسم وسندي: عليهم جزاء واحد، فإذا لم يقدروا على الجزاء، فالكفارة على كل واحد منهم صيام تام. وقال أصحاب الشافعي: الصوم بالحصص، كالإطعام. وهو اختيار شيخنا. وجه قول أحمد: أنه صيام في كفارة، فوجب تكميله في حق الجماعة. دليله: اليوم الواحد، وذلك أنهم لو بقى من جماعتهم مُد، فإنه يكمل كل واحد منهم صوم يوم كامل، كذلك الأيام. فإن قيل: إنما كان ذلك؛ لأن بعض يوم لا يكون صوماً شرعياً، ولا يتبعض، والأيام بخلاف ذلك. قيل: بعض يوم يكون صوماً شرعياً بدليل أنه لو أصبح في صوم

التطوع لا ينوي الصيام، ثم نوى قبل الزوال صح، وكان صوماً شرعياً من حين النية، لا من أول النهار؛ لأن أول النهار لم يوجد له نية. وأما علة الفرع، فلا يمتنع أن يتبعض ويجب تكميله، كالحد، وكاليمين، وهو إذا حلف: لا كلمت فلاناً يوماً. وطريقة أخرى، وهو: الصيام حق على البدن، وفيه معنى العقوبة، فهو كالحد، وقد ثبت أن جماعة لو اشتركوا في قذف رجل وجب على كل واحد حد كامل. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه قد وجد من كل واحد قذف كامل، وهاهنا لا يوجد من كل واحد قتل كامل. قيل: قاتل الآدمي لم يوجد من كل واحد قتل كامل، ويلزمه قصاص كامل، وكفارة كاملة. فإن قيل: الحدود لا تتبعض. قيل: كذلك الصوم عندنا لا يتبعض. على أنه في الشرع في حكم المتبعض بدليل أنه يجب في حق العبد نصف ما يجب في حق الحر. وطريقة أخرى، وهو: أن الشافعي قد قال: إذا وطئها في نهار رمضان وجبت كفارة واحدة -على الصحيح من مذهبه-، ويتحملها الزوج عنها إذا كان من أهل العتق، فإذا كان من أهل الصيام وجب على

كل واحد منهما صوم كامل. وهذه طريقة جيدة عليهم. واحتج المخالف بأن الصوم أحد أنواع الجزاء، فلزم الجماعة بالحصص. دليله: الإطعام والمثل. والجواب عنه: ما تقدم من أنه حق في المال، وهذا على البدل، فهو كصوم اليوم والحد. * فصل: فإن شاركه في القتل من لا يجب عليه الضمان، كالمحل في الحل، فهل يلزم المحرم جميع الجزاء، أم بالحصة فقط؟ أطلق أحمد القول أن على المحرم الجزاء، ولم يبين ذلك الجزاء؛ ما هو؟ فقال في رواية مهنا في محرم وحلال أصابا صيداً: ليس على الحلال شيء، ويُحكم على المحرم. وقال -أيضاً- في رواية ابن منصور وأبي الحارث في محرم دل حلالاً على صيد، فقتله: على المحرم الجزاء. فقد أطلق القول: فيحتمل أن يريد به جميع الجزاء، وهو الظاهر؛ لأنه ذكر

الجزاء بالألف واللام. ويحتمل أن يريد به بالحصة. وهو قول الشافعي. وجه الأول: أن الحلال لا ضمان عليه، فقد اجتمع فيه موجب ومسقط، فغُلب الإيجاب. الدلالة عليه: المتولد من بين ما يُؤكل لحمه، وما لا يُؤكل، وهو المتولد من بين حمار الوحش والأهلي، والسمع، يجب فيه الجزاء كاملاً، وكذلك إذا كان بعض الصيد في الحل، وبعضه في الحرم، والقاتل محلاً، وكذلك إذا كان القاتل في الحل، والصيد في الحرم، وجب الجزاء تغليباً للإيجاب، كذلك هاهنا. ووجه الثاني: أنه لم ينفرد بقتله، فلم يلزمه جميع الجزاء، كما لو شاركه من يجب عليه الضمان. والجواب: أنا نقلب العلة فنقول: فلم يجب بعض الجزاء. دليله: ما ذكرت. واحتج بأن ما أثرت المشاركة فيه لا فرق بين أن يكون لمن يلزمه الضمان، أو لا يلزمه. دليله: قتل الآدمي لو اشترك نفسان في قتله، فالدية عليهما

مسألة القارن إذا قتل صيدا لزمه جزاء واحد، وكذلك إذا تطيب، أو لبس، أو وطئ

بالحصص، ولو اشترك رجل وسبع، فعليه بالحصص، فكذلك هاهنا. والجواب: أن جزاء الصيد آكد من دية النفس بدليل ما تقدم، وهو أنه يجب بإمساك الصيد، ويجب إذا وقع في بئر في داره * ... * ... * 198 - مسألة القارن إذا قتل صيداً لزمه جزاء واحد، وكذلك إذا تطيب، أو لبس، أو وطئ: نص على هذا في رواية ابن القاسم وسندي في القارن إذا قتل صيداً: يلزمه جزاء واحد، وشبهه بحرمة الحرم والإحرام. وقال في رواية ابن منصور في القارن يصيب شيئاً من طيب، أو لباس، أو شعر: كفارة واحدة. ونقل عنه -أيضاً- في القارن إذا فسد حجه بأصابة أهله: فعليه هدي واحد. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه جزاءان.

وقد يتخرج لنا مثل ذلك على الرواية التي تقول: يلزمه طوافان وسعيان. دليلنا: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فأوجب على قاتل الصيد جزاء المثل، ولم يفصل بين أن يكون قارناً، أو مفرداً. فإن قيل: الجزاء اسم لما استحق الفعل؛ قل ذلك، أو كثر، فإذا استحق بفعل القارن قيمتان كانتا جزاء واحداً مثل ما قتل، كما إذا استحق بفعل المفرد قيمة واحدة كانت جزاء واحداً مثل ما قتل، ألا ترى أنه -سبحانه- سمى عقوبة قاطع الطريق جزاء واحداً بقوله: {إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية، وسمى عقوبة السارق جزاء واحداً بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]، وإن كانت عقوبة قاطع الطريق ضعفي عقوبة السارق؟ قيل له: قد قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ}، والمثل للشيء هو النظير، وهذا موجود في نظير واحد. وعلى أن اسم الجزاء لما كان يقع على القليل، وهو الواحد، يجب أن يُجزئ لوقوع الاسم عليه. وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "في الضبع شاة"، ولم يُفرق بين أن يقتله مفرداً، أو قارناً.

وأيضاً فإنهما حرمتان يجب بهتك كل واحد منهما جزاء، فإذا اجتمعا وجب لأجلهما جزاء. دليله: حرمة الحرم وحرمة الإحرام. فإن قيل: قد قال أصحابنا: إن القياس يقتضي أن يلزمه جزاءان. قيل له: فالمعنى الذي تركب له القياس هناك موجود هاهنا. فإن قيل: يحرم مع الإحرام بمنزلة سائر البقاع، ألا ترى أنه لا يُعتبر جزاء الصيد الذي يقتله المحرم في غير الحرم؛ لأنه يكون متخيراً بين الهدي والإطعام والصيام، ولا يُعتبر فيه ما يُعتبر في جزاء صيد الحرم، فإذا كان كذلك حصل هاتكاً لحرمة واحدة فقط، وهو حرمة الإحرام، فلهذا لزمه جزاء واحد. قيل له: هذا صفة جزاء [صيد] الحرم عندنا؛ أنه مخير بين الهدي والإطعام والصيام، ولكن دخلت إحدى الحرمتين في الأخرى، فيجب أن يكون في الإحرامين كذلك. فإن قيل: حرمة الإحرام آكد من حرمة الحرم بدلالة أنها تمنع من الجماع واللباس والطيب والصيد، وحرمة الحرم تمنع قتل الصيد وقطع الشجر فقط، فإذا ثبت أن حرمة الإحرام آكد لم يمتنع أن يجب لهتك حرمة الإحرام والحرم إلا جزاء واحد. قيل له: إنما تقدم إحدى الحرمتين بالقوة إذا تعارضتا وتنافتا،

فكانت إحداهما توجب والأخرى تنفي، فأما إذا كانتا سواء في إيجاب الجزاء، فإن احتماع الحرمة الضعيفة مع القوية أولى بالإيجاب من حال الانفراد. وجواب آخر، وهو: أن حرمة الحج آكد من العمرة؛ لأن العمرة مختلف فيها، والحج مجمع على وجوبه، وما أُجمع عليه فهو آكد مما اختلف فيه. وجواب آخر، وهو: أن ما كان مبنياً على التداخل، فإذا دخل الأقل منه في الأكثر تداخل المثلان، كالطهارات؛ لما دخلت الصغرى منها في الكبرى دخلت المثلان، كغسل الجناية والحيض، فلما دخلت الحرمة الصغرى في الكبرى وجب أن يتداخل المثلان. وجواب آخر، وهو: أن لحرمة الحرم قوة من وجه ليست لحرمة الإحرام، وهو ان حرمة الحرم ثابتة لا تزول، ولا تحول، وحرمة الإحرام توجد وتعدم، وتثبت بانعقاد الإحرام وبإحلاله منه، فإذا كان كذلك كانت الحرمة المؤبدة أقوى، ألا ترى أن تحريم أم المرأة [أقوى] من تحريم أخت المرأة؛ لأن تحريم أم المرأة مؤبد، وتحريم أختها غير مؤبد. ولأنه حرمة الحرم تُحرم قطع الشجر، وحرمة الإحرام

لا تحرِّم ذاك، فتقابلا. وقياس آخر، وهو: أنه نقص يجب به على المفرد فدية واحدة، فوجب أن يجب به على القارن فدية واحدة. دليله: ترك الإحرام من الميقات. فإن قيل: إذا حصل محرماً بعمرة لم يلزمه إحرام بالحج من الوقت، ألا ترى أنه لو أحرم بعمرة من غير الوقت، وفرغ منها، ثم حج كان ميقاته الحرم؟ فالدم إنما لزمه لترك إحرام العمرة في الوقت، فلهذا لم يلزمه إلا دم واحد، وفي مسألتنا أُدخل النقص على إحرامين. قيل له: قولك: (إن الدم لزمه لترك إحرام العمرة) لا نسلمه، بل لزمه [لترك] إحرامهما جميعاً. وما ذكروه منه إذا أحرم بعمرة لم يلزمه إحرام الحج من الوقت؛ لأنه قد صار في حكم المكي، والمكي يحرم من مكة. فإن قيل: ترك الإحرام ليس بإدخال نقص على النُّسكين؛ لأنه لم يطرأ عليهما، وهذا النقص دخل على الإحرامين، فطرأ عليهما، فلزمه ديتان. قيل له: النقص -وإن لم يطرأ عليهما- فهو عائد إليهما، ألا ترى

أن الفدية الواجبة فيه تجب لأجلهما معاً؟ ثم نقول: ترك الإحرام، هو ترك جزء من العبادة، وقتل الصيد والطيب إتيان ببعض محظوراتها، وترك الشيء من العبادة آكد في التغليظ من الإتيان ببعض المحظورات، ألا ترى أن ترك النية في الصوم ناسياً يمنع صحته، والأكل ناسياً يمنع صحته؟ وكذلك السلام في أثناء الصلاة ناسياً لا يمنع الصحة، وترك القراءة يمنع. وقياس آخر، وهو: أن المقتول واحد، فوجب بقتله جزاء واحد، كالمفرد إذا قتل صيداً واحداً. فإن قيل: هناك أدخل النقص على إحرام واحد، وهاهنا أدخله على إحرامين. قيل له: فالمحرم إذا قتل صيداً في الحرم أدخل النقص على حُرمتين، ومع هذا يجب جزاء واحد، وكذلك إذا أخل بالإحرام من الميقات، فقد أدخل النقص على الإحرامين، ومع هذا يلزمه دم واحد، كذلك هذا. وأيضاً فإنه متنسك يجزئ بحلاق واحد، فلم يلزمه بالوطء إلا كفارة واحدة. دليله: المفرد.

واحتج المخالف بأنه أدخل النقص على إحرام العمرة [وإحرام الحج] بقتل الصيد، فوجب أن يلزمه لكل واحد منهما جزاء كامل، كما لو أفرد بكل واحد منهما، وقتل فيه صيداً. قالوا: ولا يلزم على هذا المتمتع إذا أحرم بعمرة، ثم جرح صيداً، فلما فرغ من العمرة أحرم بالحج، ثم جرح جراحة أخرى، ثم مات من الجرحين؛ أنه قد أدخل النقص في إحرام العمرة والحج بقتل الصيد، ومع هذا يلزمه جزاء واحد؛ لأنا لا نعرف الرواية في ذلك. والجواب: أنه قد تُكلم على هذه العلة بجميع الأجوبة التي يُجاب بها عن جنس القياس، وهو: المناكرة، وعدم التأثير، والمناقضة، والقلب، وفساد الموضوع، والمعارضة: فأما المناكرة: فمنهم من قال: هذا إحرام واحد، وإن جمع بين الحج والعمرة، كما إذا باع عبداً وداراً صفقة واحدة، كان عقداً واحداً، وإن كان المبيع اثنين. وعندي أنه إحرامان؛ لأن الإحرام هو نية النُّسك بالقلب، ونية الحج غير نية العمرة، فلا يجوز أن يقال: هما إحرام واحد. وأما عدم التأثير: فهو أن المقتول إذا كان اثنين لم يكن للإحرامين تأثير؛ لأن صيدين في إحرام واحد يوجبان مثلين، ولا تأثير -أيضاً- لتخصيص قتل الصيد بذلك، وجميع كفارات الإحرام في ذلك بمنزلة جزاء الصيد.

وأما القلب: فهو أن تقول: وجب أن يكون الجزاء بعدد المقتول قياساً على الأصل الذي ذكرته. وأما فساد الموضوع: فهو أنه لا يجوز اعتبار حال الإفراد بحال القران، كما نقول في حرمة الحرم وحرمة الإحرام، وكما نقول في هدي الإحصار ومجاوزة الميقات. وأما المعارضة: فمن وجهين: أحدهما: أن المعنى في الأصل: أن المقتول اثنين، وليس كذلك هاهنا؛ فإن المقتول واحد. والثاني: أن كل واحد من الإحرامين منفرد، كذلك في مسألتنا؛ فإن الإحرامين مجتمعان، وفدية الفرق بينهما. واحتج بأنه لو وطئ [في] كل واحد منهما في حال الانفراد تعلق بكل وطءٍ كفارة، فإذا وطئ فيهما في حال الجمع تعلق به كفارتان. أصله: المحرم الصائم إذا وطئ. والجواب: أنه لا يمتنع أن يلزمه بالوطء في حال الانفراد كفارة، وفي حال الاجتماع تتداخل، كما قلنا في حرمة الحرم والإحرام ومجاوزة الميقات. وعلى أن كفارة صوم رمضان وكفارة العمرة كفارتان مختلفتان،

مسألة إذا ابتدأ المحرم سبعا فقتله، فلا جزاء عليه في رواية حنبل، فقال: يقتل المحرم الكلب العقور، والذئب، والسبع، وكل ما عد من السباع، ولا كفارة عليه، ويقتل القرد والنسر والعقاب إذا وثب، ولا كفارة. فإن قتل شيئا من هذه من غير أن تعدو عليه، فلا كفار

فلم تتداخلا، وليس كذلك كفارة الحج وكفارة العمرة؛ فإنهما من جنس واحد، فإذا اجتمعتا جاز أن تتداخلا، كما قلنا في حرمة الحرم وحرمة الإحرام، وكما قلنا في هدي الإحصار والكفارة في مجاوزة الميقات. ولأن الصيام والإحرام لا يتداخلان، فلم تتداخل كفارتهما، والحج والعمرة أفعالهما تتداخل عندنا، وعندعم تتداخل في بعض الأفعال، وهو الحلاق، وتتداخل في بعض كفاراتها، وهو مجاوزة ميقات غي محرم، فبان الفرق بينهما. * ... * ... * 199 - مسألة إذا ابتدأ المحرم سبعاً فقتله، فلا جزاء عليه في رواية حنبل، فقال: يقتل المحرم الكلب العقور، والذئب، والسبع، وكل ما عُد من السباع، ولا كفارة عليه، ويقتل القرد والنسر والعقاب إذا وثب، ولا كفارة. فإن قتل شيئاً من هذه من غير أن تعدو عليه، فلا كفارة عليه، ولا ينبغي له: وقال في رواية أبي الحارث: يقتل السبع؛ عدا أو لم يعد. وبهذا قال مالك والشافعي.

وقال أبو حنيفة: إذا ابتدأ المحرم سبعاً فقتله، فعليه الجزاء، وإن ابتدأ السبع، فلا شيء عليه. دليلنا: قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. وهذا يدل على أن الصيد المحرم هو ما يؤكل لحمه؛ لأنه علق تحريم أكله بالإحرام والدوام عليه، وما لا يحل أكله لا يتعلق تحريمه بالإحرام، والدوام على الإحرام؛ لأنه حرام بكل حال. فإن قيل: النهي تعلق بالاصطياد لا بعين المصيد؛ لأنه يقال: صاد يصيد صيداً واصطياداً، والاصطياد محظور عليه في حال الإحرام، فحظره لأجل الإحرام. قيل له: المراد: المصيد، لا بالفعل؛ الذي هو الاصطياد بدلالة قوله -تعالى- في أول الآية: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]. وأراد به: المصيد، لا الاصطياد؛ لأن الاصطياد فعل، والفعل لا يُقتل، وإنما يُقتل الحيوان. ولأنه أضاف الصيد إلى البر، ولا يجوز أن يضاف الفعل إلى البر؛ لأن البر ليس بمصيد، فدل على أن المراد به المصيد الذي هو المحرم. ويبين صحة هذا: قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. وأراد به: مصيده، ولم يرد الفعل.

وأيضاً ما رواه أحمد بإسناده، وذكره أبو بكر في كتابه عن أبي سعيد الخُدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن ما يقتل المحرم، قال: "الحية، والعقرب، والفُوسيقة، ويرمي الغراب، ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي". فوجه الدلالة: لأنه جاز قتل السبع العادي، وإذا ثبت جواز قتله، ثبت أنه لا جزاء فيه. فإن قيل: المراد بذلك: السبع إذا عدا وصال، وعندنا لا جزاء فيه إذا قُتل في تلك الحالة. قيل له: النبي صلى الله عليه وسلّم جعل العُدوى صفة في السبع، وهذا يقتضي أن تكون صفة لازمة له، وعُدواه ليس بصفة لازمة، فلو كان المراد ذلك لكان يقول: والسبع إذا عدا. وهذا كما يُقال: سيف قاطع؛ يعني بذلك صفة فيه؛ لأنه يخبر أن حاله حال ما يقطع. وكذلك قولهم: فرس جموح، وخبز مُشبع، وماء مروي، وشراب مُسكر، وما أشبه ذلك. ويبين صحة هذا: قوله: "والكلب العقور"، ولم يرد به: حال عقره.

وجواب آخر، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلّم خص السبع، وحمله على ما ذكروه يُسقط [فائدة] التخصيص؛ لأن سائر الصيود إذا صالت حل قتلها. فإن قيل: الفائدة في ذلك سقوط الجزاء في قتله، ووجوبه في قتل غيره. قيل له: إنما يجب أن يكون التخصيص فيما قصد بيانه بالخبر -وهو إباحة القتل- دون غيره. ودلالة ثانية من الخبر، وهو: أنه نص من كل جنس على أدناه ضرراً بإباحة قتله، فنبه ذلك على أعلاه، فنص على الحية وهي أدنى حشرات الأرض؛ لينبه على ما هو أكبر منها، ونص على الغراب؛ لينبه على ما هو أكبر منه من الجوارح، ونص على الكلب، وهو أدنى السباع؛ لينبه على ما هو أكبر منه. والقياس: أنه حيوان لا يُضمن بمثله، ولا بقيمته، فلا يجب الجزاء بقتله. دليله: حشرات الأرض، كالحية، والعقرب، ونحو ذلك. وعكسه: ما يُؤكل لحمه؛ تارة يُضمن بمثله فيما له مثل، أو بقيمته فيما لا مثل له. فإن قيل: إنما [لا] يُضمن بمثله؛ لأنه لا مثل له، ولا بقيمته؛ لأنه

لا قيمة له؛ لأنه لا يجوز بيعه حياً للأكل؛ لأنه غير مأكول، وبعد القتل لا قيمة له أيضاً؛ لأنه ميتة، إنما يضمنه؛ لأنه أدخل النقص في إحرامه بمواقعة الفعل المنهي عنه، فهو مثل كفارة المتطيب واللابس والحالق رأسه. قيل له: لا نسلم أنه منهي عن قتله، ولا أدخل النقص على إحرامه بقتله. ولأنه متولد مما لا يحل أكل شيء من جنسه بحال، فلم يجب الجزاء بقتله، كالذئب. ولا يلزم عليه السمع، وهو المتولد من الضبع والذئب، والمتولد من حمار الوحش وحمار أهلي؛ أنه لا يحل أكله، ويُضمن بالجزاء؛ لأنه متولد مما يباح أكل شيء من جنسه، وهو أحد أبويه. فإن قيل: هذا يبطل بالثعلب وبالسنور الأهلي؛ فإن أحمد قد قال في رواية ابن القاسم وسندي: في الثعلب الجزاء. مع قوله في رواية محمد: لا يؤكل. وقال في رواية ابن منصور: في السنور الأهلي وغير الأهلي حكومة. مع قوله: يؤكل. قيل له: أما قوله: في الثعلب الجزاء، فهو على الرواية التي تقول: يؤكل لحمه.

وأما قوله: في السنور حكومة، فعلى طريق الاستحباب. فإن قيل: المعنى في الذئب: أنه مبتدئ بالأذى، فلهذا لم يُضمن، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه غير مبتدئ بالأذى. قيل له: علة الأصل تبطل بابن آوى؛ لأنه يبتدئ بالأذى، فيأخذ الدجاج من البيوت في القرى، ويأكله، وتعم به البلوى، ويجب الجزاء عنده بقتله. وعلة الفرع غير مسلمة؛ لأن السبع -الذي هو الأسد- يبتدئ بالأذى، وتعم به البلوى في مواطنه ومكانه، والأذى به أكثر منه بالذئب؛ لأنه يدق البهائم الكبار، ويفترس الرجال. واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. والصيد اسم للممتنع المتوحش؛ سواء كان أكله مباحاً، أو محظوراً، ألا ترى أن العرب تقول: اصطاد فلان سبعاً، كما تقول: اصطاد ظبية. قال الشاعر: ليث تزبى زُبية فاصطيدا ويقال: سيد الصيد الأسد.

ويقال: فلان صاد الفوارس؛ لأجل ما هو ممتنع. ويبين صحة هذا: أن أكل السباع كان مباحاً قبل ورود الحظر من جهة الشرع، والعرب كانوا يصطادونها، وسموها صيداً، فورود النهي عن أكله لا يُزيل عنها الاسم الموضوع لها في أصل اللغة. والجواب: أنا لا نسلم أن اسم الصيد يقع على السبع، ولا يُقال: صاد سبعاً، وإنما يقال قتل سبعاً، وأخرج الأمير لقتل السبع. وما ذكروه من قول الشاعر فهو على طريق المجاز. ويبين صحة هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "الضبع صيد، وفيه كبش". فلو كان ما لا يُؤكل لحمه يُسمى صيداً لما كان لقوله: "الضبع صيد" معنى. ولو سلمنا أن ذلك يُسمى صيداً فالآية لم تتناوله لوجهين: أحدهما: ما ذكره في آخر الآية من قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. وقد بينا: أن المراد بذلك ما يؤكل لحمه. والثاني: أنها تقتضي صيداً له مثل بقوله: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95]، والمثل على ضربين:

مثل من طريق الصورة. ومثل من طريق القيمة. والسبع لا يجب فيه عندهم واحد من الممثلين، فلم تكن الآية متناولة له. واحتج -أيضاً- بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "خمس يقتلهم المحرم في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والحدأة، والكلب العقور". فخص هذه الأشياء بالذكر، وحصرها بعدد، وأباح قتلها في جميع الأحوال، والمحصور بعدد يدل على أن ما عداه بخلافه. والجواب: أن الخبر قد تضمن قتل الكلب، والسبع يسمى كلباً، يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"، فافترسه سبع. وقال حسان بن ثابت في شعره: سائل بني الأصفر إن جئتهم ما كان أنباء بني واسع من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع ويروى:

فما أكيل الكلب بالراجع وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا أن الخبر لم يتناول قتل السبع، لم يضر؛ لأنه قد نص على قتل الكلب العقور، وكان فيه تنبيه على قتل السبع؛ لأنه أشد وأقوى وأضر، فلما نص على قتل الأدنى نبه على قتل الأعلى، والتنبيه مقدم على الدليل. وعلى أنا قد روينا في حديث أبي سعيد زيادة، والأخذ بالزائد أولى. واحتج بأنه سبع ممتنع غير مبتدئ بالأذى في الحال، ولا هو مما تعم به ابلوى، فوجب أن يجب فيه الجزاء. دليله: الضبع. ولا يلزم عليه الذئب؛ لأنه تعم به البلوى. والجواب: أنا لا نسلم أنه غير مبتدئ بالأذى في الحال؛ لأنا قد بينا أنه قد يبتدئ بالأذى، وتعم به البلوى في مواطنه؛ لأنه يدق البهائم والآدميين. ثم المعنى في الضبع: أنه مختلف في إباحة لحمه، فلذلك وجب الجزاء بقتله، والسبع متولد مما لا يحل أكل شيء من جنسه، فأشبه الذئب. أو نقول: الضبع يُضمن بمثله أو بقيمته، والسبع متولد مما لا يُضمن بالمثل، ولا بالقيمة، فثبت أنه غير مضمون، كحشرات الأرض.

وإن قاسوا بهذه العبارة على ما لا يؤكل لحمه، فالمعنى فيه ما ذكرنا. وجواب آخر، وهو: أن المأكول اللحم تحريم أكله تعلق بالإحرام، فوجب الجزاء بإتلافه، وليس كذلك السبع؛ فإن تحريم أكله لم يتعلق بالإحرام؛ لأنه مُحرم عليه في الإحلال والإحرام، والحل والحرم، فلم يجب بقتله الجزاء، كما نقول في صيد البحر، وفي الذئب. وإن قاسوا بهذه العبارة على السمع، وعلى المتولد بين حمار وحشي وأهلى، فالمعنى فيه: أنه اجتمع فيه ما يوجب الجزاء وما يسقطه، فوجب تغليب الإيجاب، ألا ترى أنه إذا رمى من الحل إلى صيد في الحرم، أو من الحرم إلى صيد في الحل وجب جزاء تغليباً للوجوب، كذلك هاهنا، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه قد تمخض تحريمه، فلم يكن فيه ما يوجب الجزاء. وقال أبو بكر فيما علقه عنه أبو إسحاق في المتولد بين الأهلي والوحشي: فيه الزكاة، وفيه الجزاء تغليباً للإيجاب. فإن قيل: كل صيد حل قتله قبل الإحرام حرم بالإحرام، كسائر الصيود.

مسألة يجوز للمحرم أن يقرد بعيره

قيل له: ينتقض بالغراب والذئب. ثم الفرق بين سائر الصيود وبين مسألتنا ما تقدم. * ... * ... * 200 - مسألة يجوز للمحرم أن يُقرد بعيره: نص عليه في رواية حنبل وابن منصور. وقال مالك: لا يُقرد بعيره. دليلنا: إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر: فروى حنبل بإسناده عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير قال: رأيت عمر يُقرد بعيراً له في طين بالسُّقيا، وهو محرم. وروى بإسناده عن عيسى بن علي: أن علياً رخص للمحرم أن يُقرد بعيره. وبإسناده عن عكرمة، أن ابن عباس: لم ير بأساً أن يُقرد

المحرم بعيره. وفي لفظ آخر: عن عكرمة، عن ابن عباس قال له يوماً: قم إلى هذه الناقة فقردها، وأنا محرم، فقال: فذكرت له الإحرام، فتلكأت، فلما كان بعد ذلك قال: قم إلى هذه الناقة فانحرها، قال: فقمت إليهما فنحرتها، فقال: كم من قُراد قتلت لا أمَّ لك؟! وبإسناده عن ربيعة بن هُدير التيمي: أنه رأى ابن عمر يُقرد بعيره بالسُّقيا، وهو محرم. ولأن ذلك مضرة بلا متعة؛ لأنه يعلق في حل البهيمة، وربما وقع ذلك للإنسان، فلم يُمنع من قتله، كالحية والعقرب. واحتج المخالف بما روي عن ابن عمر: أنه نهى عن ذلك. والجواب: أنا قد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك، فتعارضا، وسلم ما رويناه عن عمر وعلي وابن عباس. واحتج أنه من دواب أبدان الحيوان يسير الضرر، أشبه دواب أبدان الإنسان من القمل والبراغيث. والجواب: أن مهنا نقل عن احمد في المحرم: بقتل البراغيث، ولا يقتل القمل. ونقل في موضع آخر: وقد سئل عن قتل القملة، فقال: كل شيء من جسده لا بأس بقتله إذا آذاه.

مسألة إذا صال على المحرم الصيد قتله، ولا جزاء عليه على قياس قول أحمد في النحل: إذا لاح عليه قتله، ولا ضمان عليه

وفي موضع آخر أجاز قتلها، وقتل البراغيث. فعلى هذا: لا فرق بينهم. وفي موضع قد منع من ذلك؛ لأنه بإلقائها عن بدنه يترفه بذلك، ويزيل الأذى عن شعره وبدنه، فلهذا افتدى، كما لو حلق رأسه. ولهذا نقول: لو ألقاها عن ثوبه لم يفتد رواية واحدة؛ لعدم هذا المعنى. وليس القراد من الحيوان؛ لأن هذا المعنى معدوم فيه، فلهذا فرقنا بينهما. * ... * ... * 201 - مسألة إذا صال على المحرم الصيد قتله، ولا جزاء عليه على قياس قول أحمد في النحل: إذا لاح عليه قتله، ولا ضمان عليه: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث: وقد سُئِل عن محرم عدا عليه ثعلب، فقال: اقتل كل شيء عدا عليك. فقد أجاز القتل، ولم يذكر الجزاء.

مسألة إذا قتل المحرم صيدا مملوكا لزمه الجزاء

وهو قول الشافعي. وقال أبو بكر في كتاب "التنبيه": عليه الجزاء، وهو قول أبي حنيفة. والحكاية عن أبي حنيفة غير صحيحة، ومذهبهم: أنه لا جزاء عليه مثل مذهبنا. والدلالة أنه جزاء عليه أنه قتله بدفع مباح، فلم يلزمه الضمان، كما لو صال عليه عنز فقتله، لا ضمان عليه. واحتج المخالف بأنه قتله لحاجة نفسه، وكان عليه الضمان، كما لو قتله لمأكله، وقد نص أحمد على ذلك في رواية عبد الله. والجواب: أن القتل هناك لمعنى في نفسه، فهو كما لو أكل طعام الغير، وهذا المعنى في غيره، وهو الصول، فلا ضمان عليه، كما لو قتل عبد الغير عند صوله، وهذه المسألة مستوفاة في كتاب الجنايات إن شاء الله. * ... * ... * 202 - مسألة إذا قتل المحرم صيداً مملوكاً لزمه الجزاء: نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي. وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وقال داود: لا جزاء عليه.

دليلنا: قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95]، وهذا عام في الصيد المملوك وغير المملوك. فإن قيل: الآية تناولت صيداً يختص النهي عن قتله بالإحرام. قيل له: فيجب أن نقول: إذا قتل صيد نفسه أن يلزمه الجزاء؛ لأنه لم يكن منهياً عن قتله قبل الإحرام، وعنده: لا جزاء. فإن قيل: إطلاق الصيد ينصرف إلى البري دون الأهلي. قيل له: إطلاق الصيد يعم الجميع؛ لأن حقيقة الاسم موجودة فيه. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم"، وهذا عام في المملوك وغيره. ولأنه صيد ممنوع من قتله بحرمة الإحرام، فوجب الجزاء بقتله، كالصيد الذي ليس بمملوك. ولأنها كفارة تجب بقتل الحيوان الذي ليس بمملوك، فجاز أن تجب بقتل الحيوان المملوك. دليله: كفارة الآدمي. واحتج المخالف بأن الأصل براءة الذمم، فلا يجب شغلها إلا بدلالة.

مسألة إذا ملك صيدا، ثم أحرم لم يزل ملكه عنه، فإن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في بيته لم يجب عليه إرساله

والجواب: أنا قد دللنا على ذلك. واحتج بأن هذا حيوان مملوك، فلم يجب الجزاء بقتله، كالأنعام. والجواب: أن الأنعام لو توحشت لم يجب الجزاء بقتلها، كذلك إذا كانت مستأنسة مملوكة، والصيد لو كان وحشياً غير مملوك وجب الجزاء بقتله، كذلك إذا كان مملوكاً. * ... * ... * 203 - مسألة إذا ملك صيداً، ثم أحرم لم يزل ملكه عنه، فإن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في بيته لم يجب عليه إرساله: نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي في رجل أحرم، وفي يده صيد: يرسله، وإن كان في منزله ليس عليه، قد كان عبد الله بن الحارث يحرم، وفي بيته النعام. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وللشافعي في زوال الملك عن الصيد قولان: أحدهما: قد زال عنه. والثاني: لم يَزُل. وهل يُؤمر بإرساله؟ على قولين: أحدهما: يُؤمر بذلك سواء كان في يده، أو بيته.

والثاني: لا يُؤمر بإرساله سواء كان في يده، أو بيته. فالدلالة على أن الملك لم يَزُل: أنه ملك من أملاكه، فوجب أن لا يزول بالإحرام. دليله: سائر أملاكه. فإن قيل: الإحرام لا يمنع ابتداء تملك سائر الأملاك، فلا يمنع -أيضاً- بقاء الملك عليها، ويمنع ابتداء تملك الصيد، فمنع -أيضاً- بقاء ملكه عليه. قيل له: ليس من حيث منع الابتداء يجب أن يمنع البقاء، ألا ترى أنه يمنع ابتداء تملك البُضع، ولا يمنع بقاء الملك عليه. ولأن الإحرام عبادة، فوجب أن لا تزيل ملكه عن الصيد، كسائر العبادات. فإن قيل: لما كان مأموراً بإرساله، ورفع يده، دل على زوال ملكه. قيل: ليس بمأمور برفع يده على الإطلاق، وإنما هو مأمور برفع يد المشاهدة؛ لأن إمساكه فعل من الصيد. فأما إذا كان في بيته، فليس بمأمور برفع يده. على أن المشتري مأمور برفع يده عن الشخص إلى الشفيع، وملكه ثابت، وكذلك الموهوب له. * فصل: والدلالة على أنه مأمور برفع يده المشاهدة: قوله تعالى: {وَحُرِّمَ

عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. والتحريم يتناول أفعالنا؛ لأن غير الصيد فعل الله تعالى، فلا يتناوله التحريم، فإذا كان كذلك صار في التقدير كأنه قال: وحرم على أفعالكم في الصيد، والمحرم فاعل فيه بإمساكه له، فوجب أن يكون محرماً. ولأن الإمساك فعل في الصيد، فوجب أن يكون المحرم منهياً عنه، كالذبح. ولأن البقاء على حال الإمساك بمنزلة فعل مبتدأ بدلالة: أنه لو حلف: لا يمسكه، فبقي على تلك الحال، حنث، فإذا كان كذلك، أشبه اللبس، ولا خلاف أنه لو أحرم، وهو لابس، وجب عليه نزعه، كذلك إذا أحرم، وفي يده صيد، وجب أن يلزمه إرساله. وليس كذلك إذا أحرم وعليه طيب؛ لأن بقاء الطيب عليه ليس بتطيب مبتدأ بدلالة: أنه لو حلف: لا يتطيب، وعليه طيب، فبقى عليه، لم يحنث. واحتج المخالف بأنه لو كان مأموراً بإرساله، لوجب إذا لم يرسله حتى حل من إحرامه أن يُؤمر بإرساله، كما لو اصطاده، وهو محرم، فلم يرسله حتى حل من إحرامه؛ أنه يجب عليه إرساله. والجواب: أنه ليس من حيث لم يجب عليه إرساله بعد الإحلال، يجب أن لا يجب في حال الإحرام، كالقميص يكون عليه والطيب.

* فصل: والدلالة على أنه لا يلزمه إرساله إذا كان في بيته: أن المحرم إنما نُهي عن فعله في الصيد، وهو لم يفعل بعد الإحرام فيه فعلاً، فوجب أن لا يلزمه شيء، ألا ترى أنه لو جرحه، وهو حلال، فمات من الجراحة بعد الإحرام، لم يلزمه شيء؛ لأنه م يفعل بعد الإحرام فيه فعلاً. وأما إذا كان ممسكاً، فهو فاعل في كل وقت، فهو كاصطياده ثانياً. فإن قيل: أليس [إذا] كان في قفصه، وجب عليه إرساله، وإن لم يكن فاعلاً فيه؟ وقد نص أحمد على هذا في رواية أبي داود في من أحرم، وفي يده صيد: يرسله، وإن كان في رحله يرسله، إلا أن يحرم بمكة، وفي بيته بالكوفة، فهذا لا يرسله. وقد أطلق القول -أيضاً- في رواية صالح في رجل أحرم، وعنده صيد في قفص: يُخلي سبيله إذا دخل الحرم. قيل له: ما هو في قفصه ورحله هو فاعل فيه بحبسه له مع قدرته على إرساله، ويسيره معه، ويبقى ملكه عليه، وليس كذلك ما في بيته؛ لأنه غير فاعل فيه شيئاً. ولأنه لا يمكنه إزالة ملكه عنه، فلو أحرم في بلده لزمه أن يرسل ما في بيته على هذا القياس.

فإن قيل: أليس لو اصطاد في حال إحرامه، وتركه في بيته، وجب عليه إرساله، وإن لم يكن فاعلاً في الصيد في تلك الحال؟ وكذلك يمنع من بيعه عندك، وغن لم يكن البيع فعلاً فيه. قيل له: أما إذا اصطاده في حال إحرامه، وتركه في بيته؛ فإنه يجب عليه إرساله من ابتداء الملك دون استدامته، كالنكاح في حال الإحرام، والعدة. وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي في محرم اصطاد صيداً، وحمله معه حتى خرج من إحرامه، ثم ذبحه: لم يجز ذلك، قد اصطاده في وقت يحرم عليه صيده. وأما بيع الصيد فإنما لم يجز؛ لأن يتضمن التسليم، وتسليمه فعل في الصيد، وهو ممنوع من ذلك. واحتج المخالف بأن ما في بيته فهو في يده، ولو كان في يده وجب عليه إرساله، كذلك إذا كان في بيته. والجواب: أنه لو كان كذلك، لوجب أن يُؤمر بإخراج الطيب من بيته وحله، كما لو كان ممسكاً للطيب مستمتعاً به، ولوجب أن يخرج القباء والقميص من رحله، كما يجب عليه نزعه لو كان عليه. فإن قيل: إنما يجب إزالة الطيب عن يده؛ لأنه يحصل مستمتعاً به، وهو منهي عن ذلك، فأما إذا كان في بيته؛ فإنه لا يحصل له هذا

مسألة إذا اصطاد صيدا، وهو حلال، ثم أحرم، فأرسله من يده حلال أو محرم بغير أمره، لم يضمن

المعنى، فلا يلزمه إخراجه. قيل له: وكذلك إذا كان الصيد في يده حصل ممسكاً له، وهو منهي عن إمساكه، وإذا كان في بيته لم يحصل هذا المعنى. واحتج بأنه صيد يجب عليه الجزاء بقتله، فلزمه إرساله من رحله. دليله: إذا اصطاده، وهو محرم، أو اصطاده في الحرم. والجواب عنه: أن ما اصطاده يريد أن يبتدئ تملكه، وليس إذا مُنع من ابتداء التملك مُنع من الاستدامة، كالنكاح في حال الإحرام والعدة. واحتج بأنه صيد يضمنه في حق الله -تعالى- بإتلافه، فوجب أن يضمنه بحبسه. أصله: إذا مات في يده. والجواب عنه: ما تقدم، وهو انه إذا مات في يده، فقد وُجِد منه فعل في الصيد، وهو إمساكه بيده، وهذا معدوم هاهنا. * ... * ... * 204 - مسألة إذا اصطاد صيداً، وهو حلال، ثم أحرم، فأرسله من يده حلال أو محرم بغير أمره، لم يضمن: وهذا قياس المذهب؛ لأنا نقول: لو قضى دين غيره بغير إذنه

احتسب له به، لأنه فعل ما كان يلزمه فعله. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يضمنه. دليلنا: أن المحرم مأمور بإرسال الصيد، فإذا أرسله غيره، فقد فعل ما كان على المحرم أن يفعله، فوجب أن لا يضمن، كما أن من أخذ الشيء المغصوب من يد الغاصب، ورده على المغصوب منه، لم يضمن للغاصب؛ لأنه فعل ما كان على الغاصب أن يفعله. فإن قيل: لا نسلم أن يلزمه إرساله حتى يلحق بالوحش، وإنما يلزمه أن يرفع يده عنه، ولا يمسكه، وله أن يتركه في منزله وفي قفصه. قيل له: أما على أصلنا فيلزمه ذلك، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح وأبي داود؛ لأنه قال: يرسله. وظاهر هذا يقتضي إرسالاً يلحق بالوحش. وأما على قولكم، فإذا لم نسلم دللنا على أنه يلزمه إرساله حتى يلحق بالوحش. والدلالة عليه: أنه صيد لزمه رفع يده عنه لحق الله تعالى، فلزمه إلحاقه بالوحش. دليله: ما اصطاده في حال الإحرام، أو اصطاده في الحرم. فإن قيل: لو كان له مال، فوجبت فيه الزكاة، فجاء غيره، وأخرج منه المقدار الواجب فيه بغير أمره، ضمنه، وإن كان قد فعل ما كان على

رب المال أن يفعله، وكذلك إذا قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم، فجاء غيره، وتصدق بها بغير أمره، ضمنه. قيل له: إنما ضمنه؛ لأن الوجوب لم يتعين في تلك العين؛ لأن له أن يخرج الزكاة من غيرها، وله أن يتصدق -أيضاً- في مسألة النذر بدراهم غيرها، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه قد تعين عليه وجوب إرسال ذلك الصيد، فإذا أرسله غيره، فقد فعل ما كان على المحرم أن يفعله. وأيضاً فإن الإرسال حق تعلق بهذه العين، وتعين فيها، فإذا فعل غيره لم يضمن، كمن ذبح أضحية غيره بغير أمره لم يضمن. واحتج المخالف بأنه لو أزال يده عنه في غير حال الإحرام ضمنه، فإذا أزالها في حال الإحرام يجب أن يضمنه قياساً على سائر أملاكه. والجواب: أن سائر أملاكه ليس عليه أن يُزيل يده عنها، فإذا أزالها غيرها عنها ضمنه، وليس كذلك الصيد؛ فإن عليه أن يزيل يده عنه، فإذا لم يفعل ذلك، وأزالها غيره، لم يضمن؛ لأنه فعل ما كان على المحرم أن يفعله، فهو كالغاصب. واحتج بأن المحرم إنما لزمه حق الله تعالى، ولزوم حق الله لم يسقط الضمان عن متناوله إذا لم يكن له ولاية على صاحبه بدلالة: أن من وجبت عليه زكاة في ماله، فلم يخرجها، وجاء غيره، فأخرجها بغير أمره، ضمن، وكذلك لو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم، فتصدق بها غيره بغير أمره.

مسألة في شجرة أصلها في الحرم، وأغصانها في الحل وقف طائر على هذه الأغصان، فقتله محل في الحل، فعليه الجزاء في إحدى الروايتين

ولا يلزم عليه الإمام إذا أخرجها؛ لأن له ولاية عليه. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق بين المسألتين. * ... * ... * 205 - مسألة في شجرة أصلها في الحرم، وأغصانها في الحل وقف طائر على هذه الأغصان، فقتله مُحل في الحل، فعليه الجزاء في إحدى الروايتين: نقلها صالح وابن منصور وهو اختيار أبي بكر وفي رواية أخرى نقلها ابن منصور لا جزاء. وهو قول الشافعي. وجه الرواية الأولى: أن الشافعي قد قال: إن هذا الغصن لو قطعه ضمنه: فنقول: كل غصن لو أتلفه ضمنه لحرمة الحرم، فإذا أتلف الصيد الواقف عليه ضمنه. دليله: لو كان الأصل والغصن جميعاً في الحرم. ولأن هذا الصيد لو كان في الحرم ضمنه، فإذا كان على ما أصله في الحرم ضمنه. دليله: الغصن. فإن قيل: إنما ضمن الغصن؛ لأن الاعتبار في الشجرة بأصلها،

وأصلها في الحرم، فتبعها الغصن، وليس كذلك الصيد؛ فإن الاعتبار فيه بعينه، وعينه في الحل. قيل: يبطل إذا كان الصيد في الحل، والرامي في الحرم؛ فإن عينه في الحل ويضمنه. وطريقة أخرى، وهو: أن ضمان الصيد إذا اجتمع فيه الموجب والمسقط غُلِّب الإيجاب. دليله: لو كان أحد أبويه أهلي، والآخر وحشي، وهو مما يؤكل؛ فإنه يجب الجزاء تغليباً للإيجاب، وكذلك إذا كان الرامي في الحرم والصيد في الحل، كذلك هاهنا، قد اجتمع فيه موجب، وهو وقوفه على غصن مضمون لحرمة الحرم، ومسقط، وهو وقوفه في الحل، فغلب الإيجاب. واحتج المخالف بأن الرامي والصيد جميعاً في الحل، فلا ضمان، كما لو كان الأصل والفرع جميعاً في الحل. والجواب: أن المعنى هناك: أنه لم يُوجد فيه معنى الإيجاب، وهاهنا وُجِد فيه. واحتج بأن الاعتبار بعين الصيد، وقد أجبنا عنه. فإن قيل: لا يجوز أن يكون الغصن يجري مجرى الحرم في ضمان الصيد، كما لم يجر مجراه في غيره من الأحكام، وقد ثبت أن شجرة

لو كانت في المسجد، وغصنها خارج المسجد، لم يُمنع الجنب من الكون عليها. وكذلك لو حلف: لا دخلت هذه الدار، فجلس على غصن أصله في الدار، وهو خارج منها، أو حلف: ليخرجن منها، فخرج، وجلس على الغصن، لم يحنث. قيل: لا يمتنع أن يكون حكمه حكم الأصل في الحنث والبر، وفي التحريم حق الجنب، ويكون حكمه حكم الأصل في الجزاء بدليل الغصن ليس في حكم الأصل في ما ذكرت، وهو في حكمه في الجزاء لو قطعه قاطع ضمنه، كذلك في الصيد، ويكون إلحاق ضمان بضمان أولى. ولأن اليمين يعتبر فيها الاسم، يعتبر فيها الاسم، واسم الدار لا يقع على ذلك الغصن، والمسجد إنما مُنع الجنب لحرمته، وذلك معدوم فيه. فأما الجزاء المغلب فيه الضمان عند اجتماع الموجب والمسقط، وهاهنا سبب الإيجاب، وهو كونه على ما هو في الحرم. فإن قيل: فالغصن متصل بالشجرة. قيل: الصيد في الحرم منفصل، وهما سواء في الضمان. * فصل: فإن كان في الحرم، فرمى صيداً في الحل، ففيه الجزاء قياساً على المسألة التي تقدمت، وانه قد ضمن في صيد على غصن في الحل. ونقل ابن منصور: لا ضمان عليه.

مسألة ضمان صيد الحرم مضمون على المحل والمحرم

وجه الرِّواية الأولى: أن الرامي في الحرم يضمن، كما لو كان الصيد في الحرم. ولأن ضمان الصيد يتعلق برامٍ ومرمىً، ثم ثبت أن الرامي لو كان في الحل، والصيد في الحرم، ضمنه، كذلك إذا كان الصيد في الحل، والرامي في الحرم؛ لأنه قد اجتمع منه موجب ومسقط، فغُلب الإيجاب. ووجه الرواية الثانية: أن الصيد في الحل، أشبه إذا كان الرامي في الحل أيضاً. والجواب: أنه لم يُوجد هناك سبب الإيجاب، وهاهنا قد وُجد. * ... * ... * 206 - مسألة ضمان صيد الحرم مضمون على المحل والمحرم: نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي: في حمام الحرم شاة. وفي رواية ابن منصور في قوم أحلة صادوا صيداً في الحرم: عليهم الجزاء. وفي رواية الأثرم في حلال دل حراماً على صيد في الحرم: يكفر الحلال؛ هو في الحرم. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي.

وقال داود: هو غير مضمون. دليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "في الضبع كبش، إذا أصابه المحرم"، ومن دخل الحرم يُسمى محرماً. قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة مُحرماً وكان قتله في الحرم. ولأنه صيد ممنوع من إتلافه لحق الله تعالى، فضُمن بالجزاء، كالصيد الممنوع منه لحرمة الإحرام. فإن قيل: حرمة الإحرام آكد بدلالة أنها تمنع الطيب واللباس والجماع، وحرمة الحرم لا تمنعه. قيل له: هذا اختلاف في غير الصيد، فأما في الصيد فهما متساويان، ألا ترى أنهما متساويان في المنع من تنفيره وجرحه وقتله؟ واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95]. فمنع المحرم من قتل الصيد، وأوجب عليه الجزاء، والحرم جميعه حرام، فدل على أنه لا يجب على غيرهم.

مسألة للصوم مدخل في ضمان صيد الحرم

والجواب: أن دليل الخطاب عام في مُحل، وفي الحل، وفي الحرم، فنحمله على مُحل في الحل بدليل ما ذكرنا. واحتج بأن الأصل براءة الذمة، فمن ادعى شغلها، فعليه الدليل. والجواب: أنا قد دللنا على وجوب ذلك. واحتج بأنها بلد من البلاد، فلم يُضمن صيدها، كسائر البلاد. والجواب: أن سائر البلاد لا يُمنع من إتلاف صيدها، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه يُمنع من إتلافه لحق الله تعالى، أشبه المحرم. * ... * ... * 207 - مسألة للصوم مدخل في ضمان صيد الحرم: قال في رواية ابن منصور في حلال أصاب صيداً في الحرم: يُحكم عليه، كما يُحكم على المحرم. وظاهر هذا: أنه مثله في الضمان. وقد نص على الصيام في ضمان شجر الحرم في رواية ابن القاسم. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا مدخل للصوم فيه. دليلنا: أنه صيد منع من إتلافه لحق الله تعالى، فجاز أن يدخل

الصيام في بدله. دليله: الصيد المضمون بحرمة الإحرام. ونقول: صيد مضمون بالجزاء، فجاز دخول الصوم في جزائه. دليله: ما ذكرنا. وهذا يلزم عليه صيد المدينة؛ فإنه لا مدخل للصوم فيه. ولكن نقول: صيد يُضمن بالإطعام، وكان للصوم مدخل في جزائه. دليله: ما ذكرنا. ولا يلزم عليه صيد المدينة؛ لأنه لا يضمن بالإطعام، وضمانه سلب القاتل. ولأن الصوم أحد أنواع الجزاء، فجاز دخوله في ضمان صيد الحرم. دليله: الطعام والهدي. وإن شئت قلت: فأجرى صيد المحرم جري صيد الحرم. دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف بأن ضمان صيد الحرم يجري مجرى ضمان الأموال؛ لأنه يجب لحرمة في غير القاتل، وهو الحرم، كما يجب ضمان الأموال لحرمة في غير المتلف، وهو صاحب المال، ثم ثبت أن الصوم لا مدخل له في ضمان الأموال، كذلك في ضمان صيد الحرم. والجواب: أن اعتباره بضمان صيد المحرم أولى من اعتباره

بحقوق الآدميين من وجوه: أحدها: أنه وجب ضمانه لحق الله -تعالى- دون الآدمي، وحقوق الله -تعالى- يدخلها الصيام، وحقوق الآدميين لا مدخل للصيام فيها. ولأن البدل في حقوق الآدميين يجب معيناً، أما المثل في ما له مثل أو القيمة فيما لا مثل له، والبدل في هذا الصيد يجب على وجه التخيير، ولا يتعين، كما أن البدل في صيد الإحرام يجب على التخيير. ولأنه متعلق بالصيد المملوك وغير المملوك، كما أن ضمانه للإحرام يتعلق بالمملوك وغير المملوك. ولو كان بمنزلة حقوق الآدميين لكان مضموناً في حق الصبي والذمي، وعندهم أنه لا يضمنه الصبي والذمي. واحتج بأنه صيد ضُمن لأجل المكان، فلم يكن للصيام مدخل في بدله. دليله: صيد المدينة. والجواب: أن هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأن عنده لا يُضمن صيد المدينة. وأما على أصلنا؛ فإنه لا يُضمن بالإطعام والهدي، وهذا يُضمن بالإطعام والهدي، وكان للصوم مدخل في جزائه. دليله: الصيد المضمون بحرمة الإحرام؛ لأن صيد الحرم يجب

مسألة ما أدخله الحلال الحرم من الصيد؛ فإنه يرسله

رفع يده عنه، وصيد المدينة لا يجب عليه رفع يده. واحتج بأنه ضمانه يجب لحرمة المكان، فلم يكن للصيام مدخل فيه. دليله: شجر الحرم. والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأن ابن القاسم روى عنه في الشجرة العظيمة على ما جاء الحديث. فقيل له: فإن لم يجد ذلك قومه، ثم صام؟ فقال: هكذا يلزم في القياس. قيل له: فإنهم يقولون: ليس في الشجرة إذا قطعت صيام. فقال: ولم؟ وما الفرق بين هذا وغيره؟ * ... * ... * 208 - مسألة ما أدخله الحلال الحرم من الصيد؛ فإنه يرسله: نص عليه في رواية الجماعة، منهم صالح في حلال أصاب صيداً في الحل، أو اشتراه، ثم أدخله الحرم: يرسله. وكذلك نقل حرب في محرم -أو غير محرم- أدخل طيراً مما هو صيد الحرم: يخلي سبيله. وكذلك نقل الأثرم وابن إبراهيم.

وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي: لا يلزمه إرساله، وله ذبحه والتصرف فيه. دليلنا: أن دخول الحرم يمنع الاصطياد، فوجب أن يمنع إتلاف الصيد بكل حال. دليله: الإحرام. وإن شئت قلت: معنى يوجب تحريم الاصطياد، فأوجب إرسال ما في يده مما اصطاده مثله. دليله: الإحرام. والعبارة الأولى أصح؛ لأن الثانية والثالثة تنتقض بالمدينة؛ فإن دخولها يمنع الاصطياد، ولا يوجب إرسال ما في يديه. نص عليه في رواية الأثرم: وقد سئل [عن الرجل] يدخل المدينة بصيد: أيرسله؟ فقال: ما سمعنا بهذا، ولكن لا يصيد بها شيئاً. فإن قيل: تأثير الإحرام في الحظر؛ لأن الإحرام يحظر الطيب والمخيط والحلق والاستمتاع، ولا يحرم الحرم إلا الصيد والشجر. قيل له: فقطع الشجرة تمنع منه حرمة الحرم، ولا تمنع منه حرمة الإحرام. ولأن حرمة الحرم مؤبدة، وحرمة الإحرام مؤقتة.

ولأنهما -وإن اختلفا في غير الصيد- فقد تساويا في الصيد في باب المنع من ابتداء صيد الحرم وقتله. فإن قيل: إنما مُنع المحرم من ذبح الصيد الذي في يده؛ لأنه لا ضرر عليه في ترك ذلك في زمان إحرامه؛ لأنه يقصر، ولا يطول، وليس كذلك أهل الحرم؛ فإن الضرر عليهم مؤبد، والمشقة من المنع منه دائمة، فلهذا جاز له ذبحه. قيل له: قد مُنع أهل الحرم من الاصطياد على التأبيد، وهو أمر يلتذه الناس، وتطلبه نفوسهم، كما تطلب أكل لحم الصيد، وعُوضوا عن ذلك الأمن بالسُّكنى في الحرم، كذلك لا يمتنع أن يُمنعوا من لحم الصيد، ويُعوضوا عنه الفضيلة بسُكنى الحرم. ولأن بين الحل والحرم متقارب، فإذا ذُبح الصيد أدنى الحل، أمكنهم أكله طرياً، كما لو ذبحوه في الحرم. وقياس آخر، وهو: أنه صيد في الحرم، فوجب الجزاء بقتله. أصله: ما دخل بنفسه. واحتج المخالف بقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا يحل [مال] امرئٍ عن مسلم إلا عن طيب نفس منه". وهذا ماله، فلا يجوز إرساله إلا بطيب نفسه. والجواب: أنه محمول على غير الصيد بما ذكرنا.

واحتج بما روى أبو الزبير، عن جابر بن عبدالله: [أنه] كان لا يرى بأساً أن يُؤخذ الصيد في الحل، ويُؤكل في الحرم. وروى عطاء: أن عائشة أُهدي لها ظبي في الحرم، فأرسلته، فبلغ هشام بن عروة، فقال: وما علم ابن أبي رباح؟ قد كان ابن الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم لا يرون بها بأساً. والجواب: أن أبا بكر النجاج روى بإسناده عن عطاء، عن ابن عمر وابن عباس وعائشة قالوا: من أدخل الحرم صيداً، فإذا ذبحه كان عليه الكفارة. وفي لفظ آخر عن ابن عمر: من أدخل الحرم صيداً، فهو آمن، وكفارته على من قتله. واحتج بأن أدخل مملوكاً في الحرم، فوجب أن لا يجب الجزاء بإتلافه لأجل الحرم. أصله: إذا قطع شجرة من الحل، فأدخلها إلى الحرم، وغرسها فيه، وعلقت، ثم أتلفها. والجواب: أن الشجرة إذا غرسها ملكها، وشجر الحرم المملوك لا يجب بقطعه شيء، كالذي ينبته الناس.

وأما الصيد فإن ملكه وملك غيره في التحريم سواء بدليل الإحرام، وذلك أن حرمة الإحرام يستوي فيها ملكه وملك غيره للصيد، كذا حرمة الحرم. ولأن جنس ما ينبته الناس لا يجب به جزاء، وإن لم يُملك، وهو الرمان والجوز واللوز، وجنس ما يُملك من الصيد إذا كان في الحرم تعلق به الجزاء، فدل على مفارقة أحد الأمرين للآخر. واحتج بأنه لما جاز له أن يملك الصيد في هذه الحال، جاز له إمساكه. دليله: المحل في الحل. والجواب: أنه لا يجوز له تملكه في هذه الحال عندنا، وقد نقل الأثرم عنه في الرجل يشتري القُمري من ملكه، فيحمله العراق، فقال: ما يعجبني. وهذا يقتضي منع التملك. وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: لا يخرج القمري من الحرم. وإنما منع؛ لأنه لا يخلو إما أن يصيده، أو يتملكه، وكلاهما ممنوع منه. ثم المعنى في المحل: أنه يجوز أن يبتدئ الاصطياد، فجاز له

مسألة شجر الحرم مضمون على المحل والمحرم

القتل، ومن في الحرم لا يجوز له الاصطياد، فلا يجوز له قتل الصيد. واحتج بأن هذا حرم يمنع الاصطياد، فلا يوجب إزالة ملكه عن الصيد، كالمدينة. والجواب: أن حرم مكة أعظم، ألا ترى أنه يمنع من دخولها بغير إحرام، ويضمن صيدها بالسلب؟ * ... * ... * 209 - مسألة شجر الحرم مضمون على المحل والمحرم: نص عليه في رواية عبد الله وأبي طالب وابن القاسم. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك وداود: هو غير مضمون. دليلنا: أنه مبني على أنه ممنوع من قطعه. والدلالة عليه: ما روى أبو بكر الأثرم بإسناده عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال بالحجون: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أُخرج منك لما خرجت، لم تحلي لأحد قبلي، ولا تحلين لأحد بعدي، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار، لا يُعضد

شجرها، ولا يُحتش حشيشها، ولا يُصطاد صيدها، ولا يلتقط لُقطتها إلا مُنشد". وإذا ثبت بهذا الخبر أنه ممنوع منه، فنقول: أتلف ما هو ممنوع منه لحرمة الحرم، فلزمه الضمان، كما لو قتل صيد الحرم. وقد دللنا على [أن] صيد الحرم مضمون والشجر مبني على ذلك. ولأنه إجماع الصحابة: روي عن ابن عباس أنه قال: في الدوحة بدنة، وفي الشجرة الجزلة شاة. وعن ابن الزبير أنه قال: في الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. دليله: أنه لا جزاء على غير القاتل. والجواب: أنه إنما أوجب على القاتل جزاء المثل. دليله: أنه لا يوجب على القاتل غير جزاء المثل. ونحن لا نوجب المثل في الشجر. واحتج بأنه لو وجب بقطع شجر الحرم الضمان، لوجب ذلك على

مسألة وما أنبته الآدميون من الشجر يجوز قطعه، ولا ضمان عليه، وما نبت بنفسه، فلا يجوز قطعه، وإن قطعه ضمنه؛ سواء كان من جنس ما ينبته الآدميون، أو لم يكن

المحرم بقطع شجر الحل، كالصيد. والجواب: أنه باطل بالمنع؛ لأن المحل في الحرم غير ممنوع من قطع الشجر، والمحل في الحرم ممنوع منه. واحتج بأنه أتلف شيئاً من الجامدات دون الحيوانات، فلم يضمنه. دليله: غير الشجر. والجواب: أن غير الشجر لم يُمنع من إتلافه، وهذا قد مُنع منه لحرمة الحرم، فهو كالصيد. واحتج بأن الأصل براءة الذمة، فلا يجب شغلها إلا بدليل. والجواب: أنا قد دللنا على ذلك. * ... * ... * 210 - مسألة وما أنبته الآدميون من الشجر يجوز قطعه، ولا ضمان عليه، وما نبت بنفسه، فلا يجوز قطعه، وإن قطعه ضمنه؛ سواء كان من جنس ما ينبته الآدميون، أو لم يكنْ: وقد قال أحمد في رواية المروذي وابن إبراهيم وأبي طالب: وقد سُئل عن الريحان والبقول في الحرم، فقال: ما زرعته أنت فلا بأس، وما نبت فلا. وظاهر هذا: أن جميع ما يزرعه له أخذه.

وقال أبو حنيفة: إن كان من جنس ما ينبته الناس جاز قطعه؛ سواء أنبته منبت، أو لم ينبته، مثل شجر الجوز، واللوز، وغيره، وإن كان مما لا ينبته الناس، فأنبت منبت لم يجب بقطعه جزاء، وإن نبت بنفسه وجب فيه الجزاء، كالقصب ونحوه. وقال الشافعي: يجب بإتلافه الجزاء سواء أنبته الناس، أو نبت بنفسه. فالدلالة على [أن] ما نبت بنفسه لا يجوز قطعه، ويجب به الجزاء، وإن كان من جنس ما ينبته الناس: ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يُعضد شجرها"، وهذا عام. ولأنه شجر نام غير مؤذٍ نبت أصله في الحرم، لم ينبته آدمي، فوجب أن يُمنع من إتلافه. دليله: ما لا ينبته الناس إذا نبت بنفسه. وقولنا: (شجر) احتراز من الإذخِر. وقولنا: (نامٍ) احتراز من اليابس. وقولنا: (غير مؤذٍ) احتراز من الشوك. (نبت أصله في الحرم) [احتراز] مما نبت أصله في الحل. (لم ينبته آدمي) احتراز مما أنبته الآدمي. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس من جنس المملوك، وهذا من جنسه.

قيل له: فما أنبته الآدمي مما ليس من جنس المملوك يُضمن بالجزاء عندك. ولأن ما أنبته الناس فهو مملوك؛ يجوز أخذه في الحرم، والانتفاع به، كالأنعام. وما لم ينبته الناس فهو مباح الأصل، كالصيد، ولا يجوز تناوله في الحرم. واحتج المخالف بأن هذا مما ينبته الناس، فلم يُمنع من أخذه. دليله: ما أنبته الآدمي من الزرع. والجواب: أن ذلك مملوك، فهو كالأنعام، وهذا مباح الأصل، فهو كالصيد. ولأنه لا يجوز اعتبار ما ينبت بنفسه بما ينبته الناس، ألا ترى أن الشجر الذي لا ينبته الناس لو أنبته منبت لم يجب بقطعه جزاء، ولو نبت بأصله وجب الجزاء. * فصل: والدلالة على أن ما أنبته الآدميون يجوز أخذه: أنه غرس أنبته آدمي، فكان له قطعه. دليله: الزرع والعوسج. ولأنه مملوك الأصل، فهو كالأنعام.

مسألة يضمن الشجرة الكبيرة بالبقرة، والصغيرة بالشاة

واحتج المخالف بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يُعضد شجرها". والجواب: أنه مُنع من قطع شجر الحرم، وشجر الحرم ما أُضيف إليه، وهو الذي لا يملكه أحد، فأما المملوك فهو شجر مالكه، فيُضاف إليه، لا إلى الحرم، فلا يتناول الخبر. واحتج بأنه شجر نامٍ غير مؤذٍ أصله في الحرم، أشبه ما نبت بنفسه. والجواب: أن ذلك غير مملوك، وهذا مملوك. ولأن ذلك نبت بنفسه، وهذا أنبته الآدمي، فهو كالرزع. واحتج بأن الصيد ممنوع منه في الحرم، ولا فرق بين ما يدخل بنفسه إلى الحرم، وبين أن يدخله آدمي، ثم يخليه في باب أنه يمنع من أخذه وصيده، كذلك في الشجر. والجواب: [....]. * ... * ... * 211 - مسألة يضمن الشجرة الكبيرة بالبقرة، والصغيرة بالشاة: نص على هذا في رواية أبي طالب وابن إبراهيم والمروذي، فقال: في الشجرة العظيمة إذا قُطعت بقرة. ذكره أبو بكر في "التنبيه".

مسألة لا يجوز أن يرعى حشيش الحرم

وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يضمنها بالقيمة. دليلنا: ما تقدم من حديث ابن عباس وابن الزبير. ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم، فضُمن بمُقدر، كالصيد المقتول في الحرم يُضمن الكبير بمقدر، والصغير بمثله وقد دللنا على ذلك فيما تقدم في جزاء الصيد؛ هل هو مضمون بالمثل، أم لا؟ والمخالف بنى هذا على ذلك الأصل. * ... * ... * 212 - مسألة لا يجوز أن يُرعى حشيش الحرم: وقد قال أحمد في رواية الفضل بن زياد، وقد سأله عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يُخْتلى خلاها"، فقال: لا يحتش من حشيش الحرم، ولا يعضد شجرة. فقيل له: يأخذ المقرعة من الشجر؟ فقال: ما كان يابساً. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يجوز. وهو اختيار أبي حفص العكبري، وحكى فيه قول أحمد في رواية

إبراهيم بن هانئ: لا بأس أن يحتش المحرم. ولم يفرق بين حشيش الحرم والحل. ذكره أبو إسحاق في خلاف مالك. دليلنا: أنه لما لم يجز أن يتلفه بنفسه، لم يجز له أن يُرسل عليه ما يتلفه، كالصيد. يبين صحة هذا: أنه لما جاز له إتلاف الإذخر بنفسه، جاز -أيضاً- أن يُرسل عليه ما يتلفه. فإن قيل: المعنى في الصيد: أنه يمكن الاحتراز من إتلافه، وإرسال ما يتلفه، وليس كذلك الرعي؛ فإنه لا يمكن الاحتراز منه، فعُفي عنه. قيل له: إدخالها إلى الحرم وإرسالها للرعي يمكن الاحتراز منه، فيجب أن يُضمن، وإنما لا يمكن الاحتراز منه إذا أدخل بهائمه لحاجته، فرعت، فهذا لا يجب به الجزاء؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. يبين صحة هذا: أنه لو أدخل كلباً إلى الحرم، فأخذ صيداً، لم يجب على مُدخله شيء، ولو أرسله على الصيد، وأغراه، ضمنه، كذلك الحشيش مثله. وأيضاً فإن الرعي يؤدي إلى إتلاف حشيش الحرم، فمُنع منه، كالقطع.

ولأن ما ضُمن [بالقطع، ضُمن] بإرسال البهيمة عليه للقطع. دليله: زرع الآدمي. واحتج المخالف بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "لا يُختلى خلاها إلا لعلف الدواب". والجواب: أن هذا لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلّم في حشيش الحرم، وإنما ذكره في المدينة، وذلك يجوز رعيه وقطعه؛ لأنه يجوز أن يُؤخذ من شجرها ما دعت الحاجة لرواحلهم من الوسائد والعوارض والمساند، وأخذ العلف للإبل؛ لأن المدينة لا يقاربها شجر، ولا زرع، فلو منعنا من احتطابها لأضررنا بأهل البلدان؛ فإنهم لا يجدون شيئاً غيرها، وليس كذلك مكة؛ لأنه يقاربها من القرى والبلدان ما يُحتطب ويُحتش منها ويُرعى، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج بأن الهدايا تدخل الحرم من لدن النبي صلى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا، ومعلوم أنها لا تخلو من أن ترعى منها، ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا عن أحد من أصحابه [الإنكار] عليهم في ذلك. والجواب: أن الهدايا لا تدخل الحرم للرعي، وإنما تدخل للذبح فيه، وما تتناوله في حال السوق إلى الذبح لا يمكن التحرز منه، فهو

مسألة صيد المدينة محرم اصطياده، وكذلك شجرها يحرم قطعه

معفو عنه، وفي مسألتنا يمكن التحرز منه. واحتج بأنه أُبيح لهم قطع العوسج والشوك؛ لأن في ترك ذلك ضرراً عليهم؛ لأنهم يتأذون به، وأبيح لهم الإذخر لحاجتهم إليه لبيوتهم وموتاهم، وجب أن تكون إباحة الرعي أولى لحاجتهم إليه. والجواب: أن جواز قطع العوسج والشوك لا يدل على جواز أخذ غيره، ألا ترى أنه يجوز قتل سباع الحرم، وما فيه أذية، ولم يدل على جواز قتل صيده؟ وأما الإذخر؛ فإنه يفارق الحشيش، ألا ترى أنه يجوز إتلافه بنفسه، والحشيش لا يجوز إتلافه بنفسه؟ على أنا قد بينا أن الحاجة لا تدعو إلى ذلك. * ... * ... * 213 - مسألة صيد المدينة مُحرم اصطياده، وكذلك شجرها يحرم قطعه: وقد نص على تحريم الصيد في رواية الأثرم وحنبل وأبي مسعود. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحرم صيدها، ولا قطع شجرها. دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن جابر بن عبد الله [قال]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله حرم بيت الله وآمنه، وإني حرمت المدينة

ما بين لابتيها؛ لا يقطع عضاهها، ولا يُصاد صيدها". وبإسناده عن أبي هريرة قال: حرم رسول الله ما بين لابتيها؛ لا يُنفر صيدها، ولا يُعضد شجرها؛ يعني: المدينة. وبإسناده عن عامر بن سعيد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، كما حرم إبراهيم مكة؛ لا يُقطع عضاها، ولا يُقتل صيدها، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون". وبإسناده عن علي [أنه] كان يقول: صدق الله ورسوله، فقال له الأشتر: أسر هذا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشيء خاص دون الناس إلا بشيء سمعته من صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا حتى أخرج الصحيفة، [فإذا فيها]: "إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة ما بين حريتها وحماها [كُله]؛ لا يُختلى خلاها، ولا يُنفر صيدها، ولا تُلتقط لُقطتها إلا لمن أشار بها، ولا يُقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يُحمل فيها سلاح لقتال".

فإن قيل: الامتناع من صيد المدينة وشجرها حكم تعم [به] البلوى، و [ذلك] لا يثبت من طريق الآحاد، وهذه أخبار آحاد. قيل: عندنا يجوز أن يثبت ذلك من طريق الآحاد. وعلى أنه لا يمتنع أن يكون قد بينه بياناً عاماً، ونُقل إلينا نقلاً خاصاً، كما أن حجته شهدها الخاص والعام، ونُقلت إلينا نقلاً خاصاً، وكذلك رجمه لماعز شهده جماعة الصحابة، ونُقل إلينا نقلاً خاصاً. فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم منع من ذلك غير أهل المدينة حتى لا يضيق عليهم معاشهم، ويُشاركوا في مباحاتهم [....] ورفقائهم. قيل له: النهي عن ذلك نهي عام. وعلى أن عندك أن ذلك مباح في حق أهل المدينة وغيرهم، ثم لو صح هذا التأويل في المدينة، لوجب أن يقول [....] في مكة؛ لأن اللفظ واحد. ولأن المدينة حرم لله تعالى أشبه مكة.

وقد دل على صحة هذه التسمية ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "المدينة حرم من بين كذا إلى كذا، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى مُحدثاً، لعنه الله". ولم توجد هذه التسمية لغير مكة والمدينة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. والجواب: أنه محمول على غير المدينة، كما كان محمولاً عندك على غير مكة. واحتج بأن أبا عمير أخا أنس كان له نُغير يلعب به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: "يا أبا عُمير! ما فعل النُّغير؟ ". فلم ينكر عليه صيده وإمساكه. وروي عن عائشة قالت: كان لآل النبي صلى الله عليه وسلّم وحش، فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلّم قد دخل، ربض كراهية أن يؤذيه. والجواب: أن هذا محمول على أنه لم يكن من صيد المدينة، وإنما أُدخل إليها، وذلك غير ممنوع من إتلافه. ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد: وقد سئل عن المدينة

يُدخل إليها الصيد، يُذبح؟ قال: نعم. قال: والطير الأهلي يكون بالمدينة لأناس أن يُذبح، ومكة لا يُذبح بها شيء من الطير، ولا الصيد؛ كان بها، أو أدخل. فقد نص على ذلك، وفرق بينها وبين مكة. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إن بعض الناس احتج بحديث أنس: "يا أبا عمير! ما فعل النُّغير؟ " فقال: ذاك لعله صعو كان عندهم. واحتج بأنها بقعة يجوز دخولها بغير إحرام، أو بقعة لا تصلح لأداء نسك، أو بقية لا يجوز ذبح الهدايا فيها، فلم يُمنع صيدها. دليله: سائر البقاع. والجواب: أن ما بعد الميقات وقبل الحرم لا يجوز دخوله بغير إحرام، وصيده مباح، فامتنع أن تكون العلة في إباحته الصيد ما ذكره، وكذلك عرفات؛ تصلح لأداء نسك، وهو الوقوف، وصيدها مباح. ثم لا يجوز اعتبار المدينة بسائر البقاع في جواز الصيد، كما لم يجز اعتيادها في كراهية الصيد. ولأن هذا يخالف الأخبار. واحتج بأنه لو كان صيدها محرم، لوجب أن يُحرم ما يُدخل إليها، كالمسجد الحرام. والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: من جهة السنة، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في صيد مكة:

مسألة يضمن صيد المدينة وشجرها بالجزاء في أصح الروايتين

"لا يُنفر صيدها"، وأقر أبا عمير على الصيد. والثاني: أنه يباح من شجر المدينة وعلفها قدر الحاجة. ولأن جزاء الصيد يختص الواجد للقاتل، ومكة بخلاف ذلك. * ... * ... * 214 - مسألة يُضمن صيد المدينة وشجرها بالجزاء في أصح الروايتين: نص عليه في رواية الأثرم: وقيل له: هؤلاء يقولون: صيدها حلال؛ لأنه لو كان حراماً كان يقول: فيه الجزاء، فقال: قد جعل النبي صلى الله عليه وسلّم سلبه لمن وجده. قيل له: السلب أكثر من الجزاء! قال من وجه قد رُوي هذا، وهو صحيح. وفيه رواية أخرى: لا جزاء فيه. نص عليه في رواية بكر بن محمد فقال: ما سمعنا: أن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم حكموا في صيد المدينة، وإنما حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحرم صيدها، وشجرها أن يعضد، وأن يُختلى خلاها، وأن يقطع بها الحشيش، فنصير إلى ما قال النبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يبلغنا أن أحداً

من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم حكم فيه بجزاء صيد، فالنبي صلى الله عليه وسلّم حرمها. وللشافعي قولان، كالروايتين. وقال مالك: لا جزاء. فالدلالة على وجوب الجزاء: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن سليمان بن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة التي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسلبه ثيابه، فجاء مواليه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حرم هذا الحرم، وقال: "من رأيتموه يصيد فيه فلكم سلبه"، ولا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن إن شئت أعطيتكم. وروى بإسناده أن سعداً خرج، فرأى عبيداً من عبيد المدينة قطعوا من شجر المدينة، فسلبهم متاعهم، فجاء مواليهم إلى سعد، فقالوا: إن غلمانك أخذوا متاع غلماننا، فمُر فليردوه علينا، فقال: ليس غلماني، ولكن أنا أخذته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى أن يُقطع من شجر المدينة، وقال: "من فعل ذلك فلمن وجده سلبه"، فهو شيء أطعمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن سلوني من مالي. فإن قيل: القصد بها الزجر عن الاصطياد، والمنع منه، دون الحقيقة،

كقوله: "من بنى مسجداً، ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة". وأراد بذلك الزيادة في الحث والترغيب دون التحقيق. قيل له: الظاهر من قوله: "فله سلبه" يقتضي الإيجاب، فمن حمله على الزجر احتاج إلى دليل، مع أنه قد تقدم منه بيان الزجر بقوله: "وإني مُحرم المدينة"، ولو كان المراد به الزجر لم يمنع سعد من تسليم السلب. وأيضاً فإن المدينة بقعة يحرم صيدها، فوجب أن يكون مضموناً بالجزاء. دليله: مكة. أو نقول: كل حرمة حرمت الاصطياد، أوجبت الجزاء. دليله: الإحرام والحرم. واحتج المخالف بأنها بقعة يجوز دخولها بغير إحرام، وبقعة لا تصلح لأداء النُّسك، ولا تصلح لذبح الهدايا، فلا يُضمن صيدها بالجزاء. دليله: سائر البقاع. والجواب عنه: ما تقدم أن سائر البقاع لا يحرم صيدها، وليس

مسألة وجزاء صيدها سلب القاتل، يكون للذي سلبه

كذلك هاهنا؛ لأنه يحرم صيدها، أشبه الحرم. * ... * ... * 215 - مسألة وجزاء صيدها سلب القاتل، يكون للذي سلبه: نص عليه في رواية الأثرم، فقال: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلّم سلبه لمن أخذه، من كم وجه قد رُوي. وللشافعي قولان على القول الذي يقول: إنه مضمون: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: يتصدق به على مساكين حرم المدينة. دليلنا: ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "من رأيتموه يَصيد فيه فلكم سلبه". وقوله: "من رأيتموه" ينتظم أهل المدينة وغيرهم. وقوله: "فلكم" إضافة بلام الملك، فاقتضى ذلك أن يكون ملكاً لمن أخذه. ولأن سعد بن أبي وقاص امتنع من رد السلب، وقال: طُعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولم ينكر واحد من الصحابة عليه ذلك، فدل على أن المسألة إجماع. ولأنه لما جاز لمن شاهده يصيد بها أخذ سلبه، جاز أن يملكه،

مسألة ولا يحرك صيد وج، ولا شجرها، وهي بالطائف

كالقاتل إذا انفرد بقتل الكافر؛ لما جاز له أخذ سلبه، جاز أن ينفرد بملكه دون أهل الوقعة. واحتج المخالف بأن هذا صيد مضمون بالجزاء، فوجب أن ينصرف جزاؤه إلى أهل حرمه. دليله: حرم مكة. والجواب: أن جزاء صيد المدينة لما فارق جزاء صيد مكة في الصفة، وهو أن صيد المدينة يُضمن بسلب القاتل، وصيد مكة يُضمن بمثله فيما له مثل، أو بالقيمة فيما لا مثل له، جاز أن يفارقه في المصرف، ألا ترى أن المأخوذ من الفئ والغنيمة لما خالف الزكاة في المقدار، خالفه في المصرف؟ * ... * ... * 216 - مسألة ولا يحرك صيد وج، ولا شجرها، وهي بالطائف: قال الشافعي: يُمنع من صيدها، وقتل الصيد بها، وهل يضمن؟ على قولين. دليلنا: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا يحل مال امرئ مُسلم إلا عن طيب نفس منه".

مسألة مكة أفضل من المدينة في إحدى الروايتين

ولأنه ليس بحرم لله تعالى، أو أنه أُبيح عضد شجرة، فأبيح صيده. دليله: سائر البقاع. وعكسه: مكة والمدينة. واحتج المخالف بما روى عروة بن الزبير، عن أبيه: أنه قال: لما أترى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجاً قال: "صيد وج وعضاهه حرم مُحرم". والجواب: أنه خبر ضعيف، ونحمله على الاستحباب للخروج من الخلاف. * ... * ... * 217 - مسألة مكة أفضل من المدينة في إحدى الروايتين: قال في رواية أبي طالب: وقد سئل عن الجوار بمكة، فقال: كيف لنا به؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب البقاع إلي". وبهذا قال الشافعي. وقال في رواية أبي داود: وقد سئل عن المقام بمكة؛ أحب إليك، أم المدينة؟ فقال: بالمدينة لمن قوي عليه؛ لأنها مُهاجر المسلمين.

وظاهر هذا: أنها أفضل من مكة؛ لأنه قدم المقام فيها على المقام بمكة. وهو قول مالك. وجه الأولى: ما روى أبو بكر بإسناده عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو في سوق الحزورة بمكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". وفي لفظ آخر رواه بإسناده عن عبد الله بن عدي بن الحمراء: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة، ويقول لمكة، "والله [إنك] لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى [الله عز وجل]، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت". وهذا نص؛ لأنه قال: "لخير أرض الله، وأحبها إليه". فإن قيل: يحمل هذا على أنها خير أرض الله بعد المدينة. قيل: لا يمكن هذا؛ لأنه قال ذلك متأسفاً عليها، ألا ترى أنه قال: "لولا أني أُخرجت منك ما خرجت". فلو كانت المدينة التي انتقل إليها خير منها لم يتأسف على تركها.

وأيضاً روى أبو حفص بإسناده عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه". وروى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "صلاة في المسجد الحرام تعدل منه ألف صلاة، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمس مئة صلاة". وهذا نص في أن مكة أفضل؛ لأنه أخبر فضل العمل فيها على غيرها من البلاد. وأيضاً فإنها تختص بأنه لا يجوز دخولها بغير إحرام؛ وانها محل للنسك والهدايا، والمدينة بخلاف ذلك. واحتج المخالف بما روى نافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "المدينة خير من مكة". والجواب: أنا نحمله على الوقت الذي كانت مكة دار حرب، أو نحمله على الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلّم فيها، وكان الشرع يُؤخذ منه.

واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "إني دعوت للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم لمكة، ومثله معه". وقوله: "ولا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعاً، أو شهيداً يوم القيامة". ولم يقل ذلك في غيرها. وقوله: "لا يخرج عنها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه"؛ قاله في الأعرابي الذي استقاله بيعته. وقوله: "أُمرت بقرية تأكل القرى تنفي الناس، كما ينفي الكير خبث الحديد". ولا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا فضلها على غيرها.

وقوله: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جُحرها". وقوله: "اللهم حبب إلينا المدينة كحُبنا مكة، أو أشد". ولا يجوز أن يسأل ربه أن يُحبب إليه الأدون زيادة على الأعلى. والجواب: أنا نحمل هذه الأخبار ونظائرها على فضلها على سائر البلاد سوى مكة. وكذلك الجواب عن قوله: "اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي، فأسكني أحب البقاع إليك"؛ معناه: بعد مكة بدليل ما ذكرنا من حديث أبي هريرة، وعبد الله بن عدي، وقوله لمكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب البلاد إلى الله تعالى". واحتج بأن عمر أنكر على عبد الله بن عباس قوله: إن مكة خير من المدينة، وقال: أين القائل: لمكة خير من المدينة؟ ولم يُحفظ عن أحد إنكار عليه ما أنكره على ابن عباس.

مسألة تستحب المجاورة بمكة

والجواب: أن إنكاره عليه لم يرفع خلاف عبد الله؛ لأنه لم يُنقل عنه أنه رجع، وأكثر ما فيه أنه سكت، ويجوز أن ذلك هيبة له. واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلّم مخلوق منها، وهو خير البشر، وتربته أفضل الترب. والجواب: أن التفاضل في الخلقة لا يدل على التفاضل في التربة بدليل أن أحد الأئمة الأربعة أفضل من غيره، ولم يدل على أن تربته أفضل من تربة غيره. واحتج بأن فرض الهجرة إليها يوجب كون المقام بها طاعة وقربة، ويدل على فضلها على سائر البقاع. والجواب: أن المسجد الأقصى قد ورد الشرع بشد الرحال إليه، ولم يدل ذلك على فضله على مكة والمدينة، كذلك هاهنا. * ... * ... * 218 - مسألة تُستحب المجاورة بمكة: نص عليه في رواية أبي طالب: وقد سُئل عن الجوار بمكة، قال: وكيف لنا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب البقاع إلي". وجابر جاور بمكة، وابن عمر كان يقيم بمكة، ومن كان بالمدينة

خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يُكره. دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلّم تأسف على المجاورة بقوله: "لولا أن قومي أخرجوني لم أخرج"، فلولا أن الفضيلة في ذلك ما تأسف عليه. رواه أبو بكر بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو في سوق الحزورة بمكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خَرجت". وظاهر هذا: أنه تأسف على ترك المقام بها، فلولا أن فيه فضل ما تأسف عليه. ولأن المقام بها أمنٌ، قال الله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. ولأ الطاعات فيها يتضاعف ثوابها. ولأنها محل لفعل النُّسك، فيجب أن تكون للمجاورة فيها فضيلة. واحتج المخالف بأن المقام بها يفضي إلى الملل لها. ولأنه لا يأمن مواقعة المحظور، فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهله. والجواب عن قوله: (إنه قد يملها): [أنه] يبطل بالمقام بمسجد

مسألة الهدي واجب على المحصر

النبي صلى الله عليه وسلّم، والنظر إلى قبره، والنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلّم حال حياته؛ والمداومة للنظر في وجوه الصالحين؛ فإن ذلك مستحب، وإن أدى إلى ما قالوه. وقولهم: لا يأمن مواقعة المحظور، فيتضاعف عليه الوزر؛ فإنه يقابله: أن الثواب يتضاعف. وعلى أنا نمنع المجاورة لمن علم من نفسه مواقعة المحظور. وأما قولهم: إنه يضيق، فلا يصح؛ لأن العادة أنه يعامل أهل الموضع، فينتفع بهم، وينتفعون به، وإذا كان كذلك، لم يُفض إلى ما قالوه. * ... * ... * 219 - مسألة الهدي واجب على المحصر: نص عليه في الجماعة؛ أبي طالب، وأبي الحارث، وابن منصور، وغير ذلك. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا هدي عليه. دليلنا قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، فذكر الحصر، وعقبه بالهدي، فاقتضى الظاهر تعلق الهدي بالحصر. فإن قيل: الظاهر مُطرح بالإجماع؛ لأنه يقتضي أن الهدي يجب

بمجرد الحصر، وأحد لا يوجب ذلك، وإذا كان كذلك، ففي الآية إضمار، وتقديرها: فإن أحصرتم، فتحللتم، فما استيسر من الهدي. فإذا كان تقديرها هذا، فالهدي المفعول بعد التحلل غير واجب بالإجماع. قيل له: الظاهر اقتضى وجوب الهدي على المحصر بكل حال، فإن أسقطنا ذلك في موضع بدليل. ولو سلمنا أن فيها إضماراً، فإنا نضمنر فيها: فإن أحصرتم، فأردتم التحلل، فعليكم ما استيسر من الهدي. فإن قيل: يحمل هذا على المريض. قيل: عند مالك: أن المرض لا يبيح التحلل، فلا يصح حمل الآية عليه. فإن قيل: الهدي محله الحرم، وعندكم أن هدي المحصر لا يختص الحرم، فالظاهر مُطرح عندكم. قيل له: الهدي المطلق يختص الحرم، وهذا الهدي ليس بمطلق، وإنما هو واجب لأجل العذر، فاختص بموضع العذر. وأيضاً روى جابر بن عبد الله قال: أحصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. فنقل حكماً -وهو النحر- وسبباً -وهو الحصر- فاقتضى الظاهر

تعلق الحكم بالسبب. فإن قيل: ذلك الهدي كان تطوعاً؛ لأن الصحابة ألفاً وأربع مئة، والنبي صلى الله عليه وسلّم ساق سبعين بدنة، وذلك لا يكفي جميعهم، فثبت أن الهدي لم يكن واجباً على جماعتهم. قيل له: النبي صلى الله عليه وسلّم نحر عن بعضهم، وبعضهم كان قد ساق هدياً، فنحره، ألا ترى أنه روي في بعض الأخبار أنه قال: فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. والنبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن ساق بقراً. على أن من لم يكن معه هدي فإنه كان قد صام بدلاً عن الهدي. والقياس: أنه خرج من نسكه قبل التمام، فلزمه الهدي، كما لو فاته الحج. فإن قيل: الفائت مفرط، فلهذا لزمه الهدي، وهذا غير مفرط. قيل له: فمن حصره المرض هو غير مفرط، ومع هذا يجب عليه، وكذلك المتمتع أو القارن ليس بمفرط، والدم واجب عليهما. فإن قيل: فهو أخف. قيل له: في وجوب القضاء روايتان" نقل أبو طالب عنه: فمن حصره العدو، فإن كان معه هدي نحره، وعليه الحج من قابل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم. وظاهر هذا وجوب القضاء، فعلى هذا لا فرق بينه وبين الفوات.

ونقل ابن القاسم وابن منصور: لا قضاء عليه. فعلى هذا ليس إذا سقط القضاء سقط الهدي؛ لأن الهدي إنما يجب جزاء لما ترك من النُّسك، فهو كما لو لبس أو تطيب في حجة حصر فيها؛ فإن الدم لا يسقط عنه؛ لأنه جبران لذلك، وإن كان القضاء يجب. واحتج المخالف بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "ليس عليه في المال سوى الزكاة". وقوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه". والجواب: أنه محمول على غير المحصر بمت ذكرنا. واحتج بأنه غير منسوب إلى التفريط، فلم يلزمه الدم. دليله: إذا أكمل الأفعال، فلم يُخل بشيء من الأفعال، لم يلزمه الدم، وإذا أحصر فتحلل، فقد أخل ببعض النُّسك، فلزمه لأجل ذلك الدم؟ واحتج بأنه لما خُفف عنه بالتحلل من إحرامه كان بأن يُخفف عنه في إيجاب الهدي أولى.

مسألة وينحصر المحصر هديه في موضع تحلله من حل، أو حرم، رواية واحدة. وهل يؤخر النحر والتحلل إلى يوم النحر، أم ينحر ويتحلل في وقت الحصر؟ على روايتين

والجواب: أن إيجاب الهدي عليه ليس على سبيل التغليظ، وإنما هو جبران لما ترك من النُّسك، كما يلزم القارن والمتمتع الدم، ولا يكون ذلك تغليظاً عليه، كذلك هاهنا. * ... * ... * 220 - مسألة وينحصر المحصر هديه في موضع تحلله من حل، أو حرم، رواية واحدة. وهل يؤخر النحر والتحلل إلى يوم النحر، أم ينحر ويتحلل في وقت الحصر؟ على روايتين: قال في رواية الميموني: إذا حصره العدو، فإذا كان معه هدي نحره مكانه، وحل، وليس عليه أكثر من هذا. وكذلك نقل أبو طالب عنه: إذا أحصر بعدو نحر الهدي، وحل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم. وكذلك نقل ابن منصور عنه: أما هدي المتعة؛ فإنه يذبح يوم النحر، وأما هدي الإحصار؛ فإنه يختلف، يكون من عدو، فيذبح مكانه، ويرجع. وظاهر هذا: أنه ينحر ويتحلل في الحال.

وهو قول الشافعي. ونقل ابن منصور عنه في محرم أحصر بحج، ومعه هدي قد ساقه: لا ينحر إلى يوم النحر، فقيل: قد يئس من الوصول إلى البيت، فقال: وإن يئس، كيف ينحر قبل يوم النحر؟ ولا يحل إلى يوم عرفة، فإن لم يكن معه هدي صام عشرة أيام. وكذلك نقل أبو الحارث عنه في من أحصر بعدو: أقام حتى يعلم أن الحج قد فاته، فإذا فاته الحج نحر الهدي -إن كان معه- في موضعه، ورجع إلى أهله، وعليه الحج من قابل، وإن كان إحصار مرض لم يحل من إحرامه حتى يطوف بالبيت. وكذلك نقل الأثرم عنه في من أحصر بحج، ومعه هدي قد ساقه: لا ينحره إلى يوم النحر. قيل له: قد يئس من الوصول إلى البيت، فقال: وإن يئس. وظاهر هذا: أنه لا ينحر، ولا يتحلل قبل يوم النحر. وهو قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يذبح هدي الإحصار إلا في الحرم، ويجوز ذبحه قبل يوم النحر. فالدلالة على جواز ذبحه في الحل: ما روى جابر بن عبد الله قال:

أحصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. والحديبية من الحل، ويؤكد هذا ما روى مجاهد قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند الشجرة، وذلك الموضع حل. فإن قيل: الحديبية بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وروي عن المسور بن مخرمة: أنه قال: كان خباء رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحل، ومصلاه في الحرم. وروى النجاد بإسناده عن عبد الله بن نيار، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلّم نحر في الحرم في الحديبية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أهل هو وأصحابه بذي الحُليفة، فلقيهم أهل مكة بالحديبية، فصدوهم، فلما مضى وقت الحج غلت الدماء في أجواف الهدي، فجعلت تطلب من المنحر، وجعل المشركون يردونها، وهي تضربهم بأخفافها، فقالوا: خل سبيل هديك، فليُنحر في منحره. [....] لو كان النبي صلى الله عليه وسلّم ذبح هديه في الحرم لما قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].

[....] الهدي فيها مثل منى ونحوها. [....] المحل في القرآن مطلق، فيجب أن يكون الهدي محبوساً على جميع محله. وما ذكروه من أن النبي صلى الله عليه وسلّم ذبح في الحرم، فيعارضه ما روينا أن مضرب النبي صلى الله عليه وسلّم كان تحت الشجرة، وهو موضع المسجد، وذلك الموضع في الحل معروف. وما رواه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتك في كتاب "المناسك": ثنا أبي قال: نا عبد الله بن رجاء قال: إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس وعبيد بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلّم نحر هديه يوم صُد بالتنعيم. قال أبو محمد: يعني: بالحل. [....] قوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ليس يقتضي كونه ممنوعاً من الحرم أبداً، وإنما يقتضي كونه ممنوعاً منه في وقته، وعندنا مُنع منه، ثم زال المنع.

[....] الصد عن الوقت لا يكون؛ لأنه يمكن أن يقيم إلى ذلك الوقت. على أنه محمول على الأمرين. والقياس: أن خارج الحرم موضع إحلاله، فوجب أن يكون موضع ذبح هديه، كالمحصر في الحرم. [....] الحرم محل للهدي في غير حال الإحصار، فكان محلاً لهديه في حال الإحصار، وليس كذلك الحل؛ فإنه ليس بمحل الهدي في غير حال الإحصار، فلم يكن محلاً له في حال الإحصار. [....] لا يمتنع أن يكون محلاً للهدي في غير حال الإحصار، ويكون محلاً في حال الإحصار؛ لأن حال الإحصار حال اضطرار، فجاز فيها ما لا يجوز في حال الاختيار، ألا ترى أنه في حال الاختيار لا يجوز أن يتحلل بالهدي، ويكون تحلله بالأعمال؟ واستباح بالإحصار التحلل بالهدي، واستباح تقديمه على الزمان الذي يتحلل [فيه] من إحرامه في حال الاختيار، فلم يمتنع أن يتعين محل الهدي بالإحصار. [....] لو كان الحل في هذا بمنزلة الحرم، لوجب أن يلزمه

ذبح الهدي في الحل، وأنه يجوز سوقه إلى الحرم، كما لو أحصر في الحرم؛ أنه يلزمه ذبحه فيه، ولا يجوز له أن يذبحه في الحل. [....] وإنما جاز سوقه إلى الحرم؛ لأن محل الهدي هو الحرم، فإذا تمكن منه لم يجز العدول عنه، وإذا لم يتمكن صار معذوراً، فجاز النحر في موضعه، فهو كما لو عطب الهدي في الحل، نحره موضعه لعدم القدرة على إيصاله إلى الحرم. ولأن الذبح أحد سببي التحلل في حق المحصر، فلم يختص الحرم، كالحلق. [....] القارن يجوز أن يحلق خارج الحرم، إلا أن يلزمه دم، ولا يجوز أن يذبح خارج الحرم. [....] القارن يلزمه الذبح في محل نسكه، وهو منى عند فراغه من الرمي، فلا فرق بينهما. ولأن التحلل رخصة، فلو كلفناه الذبح في الحرم كان فيه مشقة عظيمة، والغالب أن الإحصار إذا كان من عدو لم يتمكن من إنفاذ الهدي، ولا إنفاذ من ينوب عنه في ذبح الهدي، فلا يتوصل إلى الرُّخصة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا

تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. فالدلالة من الآية من وجوه: أحدها: أنه واجب على المحصر الهدي، وإطلاقه يقتضي إهداءه إلى الحرم، ألا ترى أنه لو قال: (لله علي هدي) لزمه أن يهدي شاة إلى الحرم، ويذبحها فيه. والثاني: قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، ومحل الهدي الحرم، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 33]. والثالث: أنه جعل بلوغ الهدي محله غاية لجواز الحلق، فعُلم أن موضع الذبح غير موضع الإحصار؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما كان لقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]-وهو قد يبلغ- معنى. [....] عن دليله الأول، وأن إطلاق الهدي يقتضي الحرم: فلا نسلم أن الهدي هاهنا مطلق؛ لأن قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] يقتضي أن يكون الإهداء عقيب الإحصار؛ لأن الفاء للتعقيب، وهذا يدل على أن ذبح الهدي في موضع الإحصار. وأما الدليل الثاني من قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وإن محله الحرم، فلا نسلم ذلك أيضاً، بل المحل هاهنا هو الذبح، وإيصاله إلى المستحق، فهو محله، كالموضع الذي يجب الذبح فيه.

والذي يبين صحة هذا: أن الحصر لو كان في الحرم تحلل بالهدي، ولم يكن عليه تبليغ الهدي محله، والمستحب المندوب من فجاج مكة، بل كان ما ذكرنا من الذبح، وتفرقة لحمه على مستحقه. ولأنه علق جواز الحلق ببلوغ الهدي محله، والحلق إنما يجوز بعد حصول الذبح، فعُلم أن المراد بالمحل المذبح الذي يجوز بعد حصول الذبح، فعُلم أن المراد بالمحل المذبح الذي يجوز بعد الحلق دون الموضع. وفي هذا جواب عن دليلهم الثالث من الآية. واحتج بأنه دم تعلق وجوبه بالإحرام، فوجب أن يكون موضع إراقته من الحرم. دليله: هدي القران والمتعة وجزاء الصيد. ولأنه دم واجب لاستباحة ما حظره الإحرام -وهو الحلق- على وجه العذر، أشبه فدية الأذى, ولأنه لا يخلو إما أن يكون دم جناية، أو نسك، وكل ذلك يخنص الحرم. والجواب: أنه إن كان القياس على الدماء الواجبة على المحصر، فلا نسلم ذلك، ويجوز ذبحها في موضعه من الحل، كما يجوز له أن يذبح هدي الإحصار فيه. وإن كان القياس على الدماء الواجبة في حق غير المحصر، فالمعنى

في غير المحصر: لما كان موضع محله الحرم، كان موضع نحره الحرم، والمحصر: لما كان موضع محله الحل، جاز أن يكون موضع نحره الحل. ولأن غير المحصر لا مشقة عليه في إيصاله الدم إلى الحرم، وهذا عليه فيه مشقة من الوجه الذي بينا. واحتج بأنه موضوع لإباحة الإحلال على غير وجه البدل، أشبه الطواف. وفيه احتراز عن موضع المتعة؛ لأنه بدل. والجواب: أنه يبطل بالحلاق. على أن الطواف لما اختص بموضع اختص بالحرم، والنحر لما لم يختص بموضع معين لم يختص بالحرم. واحتج بأنه لو كان الحل موضعاً لذبح هدي الإحصار فيه، لما اختلف أن يكون الإحصار في الحل والحرم، ألا ترى أن الحرم لما كان موضعاً له، لم يختلف أن يكون الإحصار في الحل أو الحرم؟ فلما اتفقوا على أنه لو أحصر في الحرم لم يجز ذبحه في الحل، كذلك إذا أحصر في الحل. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أن محل الهدي الحرم، فإذا كان الحصر في الحرم، فهو متمكن منه، [أما إذا كان الحصر في الحل، فهو

غير متمكن منه]، فكان معذوراً في تركه، كما إذا عطب الهدي في الحل. وينعكس هذا بالحلاق؛ فإنه لو أحصر في الحرم عن البيت، لم يلزمه الخروج إلى الحل ليحلق، ثم لو وقع الحصر في الحل جاز له الحلاق في موضعه. * فصل: والدلالة على أنه يجوز ذبحه قبل يوم النحر خلافاً لأبي يوسف ومحمد وإحدى الروايتين عن أحمد: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ولم يخص وقتاً دون وقت. فإن قيل: قد قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}؛ يعني: الوقت الذي يذبح فيه، [كما] يُقال: محل هذا المال كذا؛ يعني: الوقت الذي يحل فيه. قيل: له المراد بالمحل هاهنا: مكان الذبح، وهو موضع التحلل، فإذا بلغ الهدي ذلك، فقد بلغ محله. والذي يدل عليه قوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ثم قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}؛ يعني: في الحج والعمرة، ثم قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، ولا خلاف أن المراد بالمحل في العمرة المكان دون الوقت، كذا المحل في الحج؛ إذ هو محل واحد. فإن قيل: إذا احتمل الوقت والمكان حملناه عليهما جميعاً،

وجعلناهما شرطاً في إباحة الإحلال. قيل له: يجب حمله على ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً؛ من شأن الاستثناء أن يُرد إلى المحكم. وأيضاً الإحصار يباح به ما كان محظوراً عليه في الإحرام لأجل الصيد، فوجب أن يجوز تقديمه على يوم النحر قياساً على نسك الأذى. ولأن دم الإحصار ليس بنسك في نفسه، إنما يجب لأجل ما يحصل له من الإحلال به، ووجدنا الدماء الواجبة في الإحرام ما لم تكن نسكاً جاز تقديم إراقتها قبل يوم النحر، كجزاء الصيد، ودم اللابس، والمتطيب، فوجب أن يكون دم الإحصار بمثابته. ولا يلزم عليه دم المتعة والقران؛ لأنه نسك في نفسه، كالوقوف بعرفة والطواف. وأيضاً المحصر بمنزلة من فاته الحج؛ لأنه يجوز له الإحلال بالهدي، كما يجوز للذي فاته الحج أن يتحلل بعمل العمرة، فلما لم تكن العمرة التي تجب بالفوات مؤقتة، وجب أن لا يكون دم الإحصار مؤقتاً. فإن قيل: هذا دلالة لنا، وذلك أن العمرة التي يتحلل بها من فاته الحج من إحرامه لا يجوز تقديمها على يوم النحر، كذلك دم الإحصار يجب أن لا يجوز تقديمه على يوم النحر. قيل له: الإحصار سبب لجواز الإحلال، وإذا كان السبب موجوداً

جاز تقديم الذبح والإحلال من الإحرام، وليس كذلك العمرة التي تلزم بالفوات؛ لأن سببها لا يُوجد إلا بفوات الحج، والحج لا يفوت إلا بفوات الوقوف بعرفة، فإذا لم يوجد سبب العمرة لم يجز تقديمها. واحتج المخالف بأنه محرم بالحج، فوجب أن لا يجوز له الإحلال قبل يوم النحر قياساً على غير المحصر. والجواب: أن الذي لم يُحصر لا يجوز إحلاله قبل يوم النحر؛ لأنه أتى بأفعال الحج على الترتيب، وهذا لم يأتِ بشيء من أفعال الحج، وسبب الإحلال موجود، وهو الإحصار، فوجب أن يجوز إحلاله لوجود السبب. فإن قيل: يجوز أن يرتفع الإحصار، ويصل إلى البيت، ولا يجوز أن يحل حتى يتقين أنه لا يمكنه الوصول إليه، فحينئذٍ يحل. قيل له: هذا يوجب أن لا يجوز للمحرم بالعُمرة إذا أُحصر أن يحل بالهدي؛ لأن المتعة ليس مؤقتة، ويجوز أن يرتفع الإحصار، فيصل إلى البيت. فإن قيل: المحصر يذبح الهدي؛ ليحل من إحرامه، كالمتمتع والقارن، ولا خلاف أن دم التمتع والقران لا يجوز تقديمه على يوم النحر، كذلك دم الإحصار. قيل له: [هدي] المتعة ترتبت عليه أفعال الحج والعمرة، وكذلك

مسألة إذا أحصر في حج التطوع، فحل منه بالهدي، لم يلزمه القضاء في أصح الروايتين

هدي القران، فإذا أتى بأفعاله على الترتيب لم يجز تقديم الهدي قبل يوم النحر، وليس كذلك هدي الإحصار؛ لأنه لا ترتيب عليه في الأفعال، وإنما يحل به من الإحرام من غير أن يأتي بأفعال الحج على الترتيب، فهو في حكم من فاته الحج على ما بينا؛ أنه يحل من إحرام الحج من غير أن يأتي بأفعال الحج، ثم العمرة التي يتحلل بها من إحرامه غير مؤقتة، كذلك الدم الذي يتحلل به المحصر من إحرامه يجب أن لا يكون مؤقتاً. * ... * ... * 221 - مسألة إذا أُحصر في حج التطوع، فحل منه بالهدي، لم يلزمه القضاء في أصح الروايتين: نص عليه في رواية أبي طالب في ما أخرجه النجاد، فقال: فإن حُصر بعدو، ينحر الهدي، ويحل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم، فقيل له: فعليه القضاء؟ فقال: لم أسمع فيه قضاء، يحل ويرجع، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم. وقال في رواية ابن القاسم: لا يُعيد من أُحصر بعدو حجاً ولا عمرة، إلا أن يكون رجلاً لم يحج قط. وقال -أيضاً- في رواية الميموني: إذا حصره العدو نحر الهدي مكانه، وليس عليه شيء أكثر من هذا. وبهذا قال مالك والشافعي.

وفي رواية أخرى: عليه القضاء. قال في رواية أبي الحارث في ما ذكره النجاد: إذا أُحصر بعدو أقام حتى يعلم أن الحج قد فاته، ونحر الهدي إن كان معه في موضعه، ورجع إلى أهله، وعليه الحج [من] قابل. وقال -أيضاً- في موضع آخر في "مسائل أبي طالب" في المحصر: إن كان معه هدي نحره، وإلا فلا ينحر، وعليه الحج [من] قابل. وبهذا قال أبو حنيفة. وجه الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وتقدير الآية: فإن أحصرتم، فأردتم التحلل، فما استيسر من الهدي. فأوجب الهدي، ولم يوجب القضاء، فلو كان واجباً لبينه، وأمر به، كما أمر بالهدي. فإن قيل: المقصود من الآية بيان ما يتحلل به دون ما يجب إذا تحلل منه، فلهذا لم يذكر القضاء. قيل له: وجوب القضاء من أحكام التحلل، فلو كان واجباً لبينه؛ لأن المتحلل من إحرامه يحتاج إلى معرفة ما يجب عليه التحلل. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أحرم بالعُمرة في سنة ست، ومعه أصحابه، وكانوا ألفاً وأربع مئة، هكذا روى عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم

عام الحديبية في بضع عشرة مئة، فلما أُحصر رجع من قابل، ومعه منهم نفر. فلو كان القضاء واجباً لبين لهم النبي صلى الله عليه وسلّم. فإن قيل: بيانه يكون [تارة] بالفعل؛ وتارة يكون بالقول، وقد بينه بالفعل؛ لأنه قضى تلك العمرة، وسُميت عمرة القضاء. قيل له: فعل النبي صلى الله عليه وسلّم لا يدل على الوجوب على اختلاف الرواية عن أحمد، ولأنه قد يفعل الواجب والمستحب. وأما تسميتهم أنها قضاء، فلا يدل على الوجوب أيضاً؛ لأن المستحب يُقضى، ويكون القضاء مستحباً. وعلى أنا لا نعرف من سماها بهذا الاسم، فلم يكن فيه حجة. وعلى أنه إنما سُميت بهذا الاسم لقوله في الكتاب: هذا ما قاضى محمد رسول الله سهيل بن عمرو، وكان اشتقاقه من (المقاضاة) و (القضية) دون ما ذكروه. ولأن كل نفل جاز له التحلل منه مع صلاح الوقت له، لم يلزمه القضاء. دليله: لو دخل في الظهر، وهو يظن أن الشمس قد زالت، ثم بان أنها لم تزل، فإن له الخروج من الصلاة، وإذا خرج لم يلزمه القضاء.

ولا تلزم عليه حجة الفرض والنذر إذا أُحصر منها أنه يلزمه القضاء؛ لقولنا: نفل. ولا يلزم عليه الفائت والمفسد؛ لأنه لا يجوز له التحلل. وأيضاً فإن المحصر إنما يلزمه الهدي بدلاً عن الأفعال التي يتركها؛ ليقوم مقامها بدلالة أنه لا يجوز له التحلل إلا بعد الإتيان به، كما لا يجوز لغيره التحلل إلا بعد الإتيان بالأفعال، فثبت أن الهدي أُقيم مقام إكمال الأفعال، وقد ثبت أنه لو تحلل بعد إكماله لم يكن عليه القضاء، كذلك إذا أُحصر، فحل بالهدي. فإن قيل: لو كان الهدي قائماً مقام الأفعال لما لزمه القضاء في حجة الإسلام والنذر؛ لأنه قد وُجد ما يقوم مقام الأفعال التي يتركها، فعلم أن هدي المحصر لإباحة التحلل. قيل له: البدل إذا قام مقام المبدل في شيء لم يجب أن يقوم مقامه في جميع الأشياء، ألا ترى أن المسح على الخف يقوم مقام غسل الرجلين في استباحة الصلاة، ويخالفه في تقدير مُدته، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "من كسر أو عَرِج فقد حل، وعليه الحج من قابل". ولم يفرق بين أن يكون الحج الذي كُسر فيه فرضاً، أو نفلاً. والجواب: أن الخبر فيه إضمار بالإجماع؛ لأنه من كُسر أو عرج

لم يحل بذلك، فتقديرهم عندهم: من كُسر أو عرج تحلل، وعليه القضاء، وتقديره عندنا: من كُسر أو عرج، ففاته الحج، فعليه القضاء. ونحن نوجب القضاء عليه بذلك الفوات، وإن كان معذوراً فيه. واحتج بأن الله -تعالى- قال: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فأوجب إتمامهما بالدخول فيهما، وإذا ألزمناه صار كالواجب بالنذر وبأصل الشرع، ولا خلاف أن الواجب بالنذر وبأصل الشرع إذا أُحصر فيهما لزمه القضاء، كذلك هاهنا. والجواب: أن الظاهر مُطرح بالإجماع هاهنا؛ لأنه لا يلزمه الإتمام هاهنا، وله الخروج منها بالحصر، فلم يكن فيه حجة. وأما حجة الفرض والنذر فقد قاسوا عليها بعبارات منها: أنه لم يحصل منه فعل الحج الذي دخل فيه، فلزمه القضاء، كالفرض والنذر والفائت والمفسد. وكل من أفسد أو فاته الحج، لزمه القضاء، فإذا خرج منه بالإحصار، لزمه القضاء. دليله: النذر والفرض. ولأنه لما لزمه دم الإحصار، لزمه القضاء. دليله: ما ذكرناه. والجواب عن الفائت والمفسد: فإنما لزمه القضاء؛ لأن ذلك حل

بصنع من جهته؛ لأنه إما أن يكون الفوات بخطأ في الطريق أو في العدد من المفسد، فلا شك أن ذلك يُفعل من جهته، فهو متعد فيه، وليس كذلك المحصر؛ فإن المتمتع من جهة غيره، لا صنع له فيه، فأُبيح له التحلل من غير قضاء. وأما الواجب بالشرع وبالنذر؛ فإنه لا يقضيه، ولكنه يتحلل منه، فيصير كأنه لم يرحم، ويعود إلى ما كان قبل إحرامه من وجوب الحج في ذمته، فيفعله إذاً، فكذلك في التطوع إذا تحلل منه، يجب أن يسقط حكم إحرامه، ويعود إلى حالته قبل إحرامه. ولأن الفائت يلزمه أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال بعد زوال الإحصار، فلا يلزمه القضاء. واحتج بأن العذر الخاص في حق آحاد الناس يوجب القضاء، كذلك العام. والجواب: أنا لا نسلم هذا؛ فإن إسحاق بن إبراهيم نقل عن أحمد في رجل [أهل] بفرض الحج، [فمنعه] والده: يعجبني أن يفي به، فإن منعه سلطان يكون محصراً، عليه ما على المحصر.

مسألة إذا أحصر في حجة الفرض، فحل منها بالهدي، لزمه قضاء الحج، ولم تلزمه عمرة معها

وظاهر هذا: أن الحصر الخاص بمنزلة العام. على أن الحصر الخاص يختص ببعض الناس، ولا تلحق مشقة عامة في إيجاب القضاء. * ... * ... * 222 - مسألة إذا أُحصر في حجة الفرض، فحل منها بالهدي، لزمه قضاء الحج، ولم تلزمه عمرة معها: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وأبي طالب: عليه الحج من قابل، ولم يقل: عمرة. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء الحج وعمرة. دليلنا: أنه تحلل من حج، فإذا قضى حجه كفاه. دليله: لو تحلل منه قبل يوم النحر، وحج من سنته؛ فإنه لا يلزمه عمرة، ويكفيه الحج. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يفسد، فلهذا لم تجب عليه العمرة، كما لو لم يحل حتى حج من عامه ذلك، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المحصر فائت، ومن فاته الحج لزمه بالفوات عمل عمرة، وإذا تحلل

من الحجة الفائتة بغير عمل عمرة، لزمه قضاء العمرة إذا حج في السنة الثانية. قيل له: قولك (إن المحصر فائت) غير صحيح؛ لأن الفائت من فاته الوقوف بعرفة مع بقاء إحرامه، ألا ترى أنه لو لم يحرم بالحج، لم يجز أن يُقال: وجبت عليه عمرة؛ لأنه قد فاته الحج في هذه السنة. وعلى أن دم الإحصار يقوم مقام الطواف الذي يلزم بالفوات، ألا ترى أن المحصر يتحلل بالدم، كما يتحلل من فاته الحج بالطواف؟ وإذا قام الدم مقامه لم يلزمه عمرة. فإن قيل: الهدي لا يقوم مقام الطواف، وإنما جُعل لأجل الإحلال به فقط، ألا ترى أن الطواف الذي يتحلل به لا يجوز قبل يوم النحر، ودم الإحصار يجوز قبل يوم النحر؟ فلو كان قائماً مقام الطواف لما جاز إلا في الوقت الذي يجوز فيه الطواف. قيل له: الصوم في حق المتمع بدل عن الهدي، ويجوز في الوقت الذي لا يجوز فعل الهدي فيه؛ لأن الهدي يختص بيوم النحر، والصوم يجوز في ما قبله، وكذلك صلاة العصر المفعولة في وقت الظهر بحق الجمع بدل عن صلاة الوقت في حال الاختيار، وإن لم يكن هذا وقتاً لها في حال الاختيار. ولأن الطواف يتقدم عندنا على يوم النحر، وهو بعد نصف الليل، فيجب أن يجوز الهدي في ذلك الوقت.

ولأنا إذا فرضنا الكلام في العمرة، لم يلزمنا هذا؛ لأن طوافها لا يختص بوقت. فإن قيل: الذي يلزمه الفوات لا يخلو إما أن يكون عمرة، أو عمل عمرة، فإن كانت عمرة لم يجز أن يقوم الدم مقامها، وإن عمل عمرة فكذلك، ألا ترى أنه لو فاته الحج لزمه أن يتحلل منه بعمل عمرة، فإن أراد أن يرجع إلى بلده، ويقيم الدم مقامه لم يجز؟ فدل على أن الدم لا يقوم مقام العمرة. قيل له: قد بينا: أن المحصر ليس بفائت؛ لن الفائت من فاته الوقوف بعرفة مع بقاء إحرامه، وليس الخلاف في الحصر بعد الفوات، وإنما الخلاف في الحصر قبله، وفي هذه الحالة ما لزمته عمرة، ولا عمل عمرة. وعلى أنه لو كان الحصر بعد الفوات لم يضر، وكان له أن يخرج منه بعده. ولأن حرمة الإحرام قبل الفوات أعظم منه بعد فواته، فإذا كان له التحلل قبل الفوات بالدم، فأولى أن يكون له بعده. وذهب المخالف إلى أن هذا فائت، فلزمه أن يأتي بعمل العمرة، كالذي يفوته الحج، وقد أجبنا عنه. * ... * ... *

مسألة هدي الإحصار يجزئ عنه الصيام

223 - مسألة هدي الإحصار يُجزئ عنه الصيام: نص عليه في مواضع: فقال في رواية ابن منصور: المحصر إذا لم يجد الهدي يصوم عشرة أيام قبل أن يحل، فقيل له: يصوم ثلاثة، وسبعة إذا رجع؟ فقال: ليس هو بمنزلة القارن، والمحصر يصومهن كلهن قبل أن يحل. وكذلك نقل أبو الحارث عنه: إذا لم يكن مع المحصر هدي يصوم عشرة أيام قبل يوم النحر، وإذا كان يوم النحر حل، فإذا كان إحرامه بعمرة يصوم عشرة أيام، ثم يحل. وكذلك نقل الأثرم عنه: إذا لم يكن مع المحصر هدي صام عشرة أيام. وقال أبو حنيفة: لا يجزئ عنه الصوم، وكذلك سائر الجنايات في الإحرام إلا ما أُبيح في حال العذر من حلق الرأس من أذى، وما في معناه. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والثاني: مثل قول أبي حنيفة. دليلنا: أن هذا دم تعلق وجوبه بالإحرام، فجاز أن يقوم الصوم مقامه، كهدي القران والمتعة.

فإن قيل: نص الله -تعالى- على المحصر، فأوجب عليه الهدي، ونص على المتمتع، فأوجب عليه الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، فلا يجوز حمل المحصر على المتمتع؛ إذ المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض، ألا ترى السارق -وإن كثرت جنايته- لا تُقطع يده ورجله قياساً على المحارب؛ لأن كل واحد منهما منصوص على حكمه؟ وكذلك لا يجوز أن يقاس التيمم على الوضوء في مسح الرأس والرجلين. قيل له: الصوم في آية المحصر مسكوت عنه، وفي آية المتمتع منطوق به، فليس في قياس أحدهما على الآخر حمل المنصوص عليه. وأما امتناع حمل السارق على المحارب، والمتيمم على المتوضئ، فالإجماع منع من ذلك. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، فأمر بالهدي، وأمره على الوجوب، وفي جواز العدول عنه إلى الصوم إسقاط لوجوب الهدي. والجواب: أنه أوجب الهدي إذا استيسر، وخلافنا إذا عدم الهدي، وتعذر ولم يتيسر، وليس في الآية ما يدل على هذا عنده، فلم يصح الاحتجاج به، وأخذنا وجوبه من طريق القياس، كما أثبتوا جزاء الصيد في الحرم بالقياس على جزاء الصيد على المحرم، وكما أثبتوا كفارة

مسألة ومقدار الصوم عشرة أيام

المفطر بالأكل والشرب بالقياس على الوطء، والمسح على الجُرمُوقين بالقياس على الخفين. واحتج بأن إثبات الأبدال لا يجوز إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق، وليس في الصوم توقيف، ولا اتفاق، فلا يجوز إثباته بدلاً عن الهدي. والجواب: أنه يجوز إثبات الأبدال بالقياس، كما جاز إثباتها بخبر الواحد، وكل ما جاز إثباته بخبر الواحد جاز بالقياس. * ... * ... * 224 - مسألة ومقدار الصوم عشرة أيام: نص عليه في رواية الجماعة: الأثرم، وأبي الحارث، وابن منصور، وقد تقدم لفظ كلامه. وللشافعي ثلاثة أقوال: أحدها: مثل هذا. والثاني: أنه يقوم الهدي دراهم، ثم الدراهم طعاماً، فيكون عليه الإطعام إن أمكنه، وإن لم يمكنه صام عن كل مُد يوماً قياساً على جزاء الصيد. والثالث: هو مُخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين؛

مسألة ولا يجوز التحلل حتى يأتي بالبدل؛ الذي هو الصوم، كما لا يحل حتى يأتي بالمبدل؛ الذي هو الدم

لكل مسكين مُدَّان قياساً على فدية الأذى. دليلنا: أن هذا المحصر شبيه بالمتمتع؛ لأنه يحصل له الترفه بالإحلال، كما يحصل للمتمتع الترفه بين الإحرامين، م ثبت أن المتمتع إذا وجد الهدي تعين عليه إخراجه، فإن لم يجده صام عشرة أيام، كذلك المحصر يجب أن يكون مثله. ويفارق هذا في جزاء الصيد؛ لأنه يجب على وجه التعديل، واعتبار النظير. ويفارق فدية الأذى؛ لأنها وجبت لارتكاب محظور، لا على وجه التعديل. * ... * ... * 225 - مسألة ولا يجوز التحلل حتى يأتي بالبدل؛ الذي هو الصوم، كما لا يحل حتى يأتي بالمبدل؛ الذي هو الدم: نص عليه رواية ابن منصور، فقال: يصوم العشرة، ثم يحل، وفرق بينه وبين المتمتع والقارن. وكذلك في رواية أبي الحارث: يصوم العشرة قبل يوم النحر، فإذا كان يوم النحر حل.

مسألة إذا وقف بعرفة، وصد عن البيت، فله التحلل على ظاهر قول أحمد في المحصر: له التحلل، ولم يفرق

وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: يحل قبل الصيام. دليلنا: أن الصوم قائم مقام الهدي، ثم ثبت أنه لا يجوز له أن يتحلل قبل ذبح الهدي، كذلك في الصوم؛ الذي هو قائم مقامه، وكان المعنى فيه: أن الهدي أُقيم مقام الأفعال الباقية عليه من الحج، ثم ثبت أنه لو لم يكن محصراً لم يتحلل حتى يكمل الأفعال، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأنه صيام وجب بالإحرام، فجاز أن يتقدمه التحلل. دليله: صوم دم التمتع والقران وقتل الصيد وغير ذلك. والجواب: أن مبدلات تلك الدماء لا يقف التحلل عليها، كذلك أبدالها، وليس كذلك هذا الصوم؛ لأن مبدله يقف التحلل عليه، كذلك بدله؛ لأن الدبل قائم مقام المبدل. * ... * ... * 226 - مسألة إذا وقف بعرفة، وصُد عن البيت، فله التحلل على ظاهر قول أحمد في المحصر: له التحلل، ولم يُفرق: وقد صرح به رواية أبي طالب في المحصر عن مكة: فيه اختلاف، فإن حصر بُعذر ينحر الهدي، ويحل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم بالحديبية.

وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا وقف بعرفة لم يجز له التحلل. دليلنا: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ولم يفرق بين أن يكون الحصر عن جميع الأركان، أو عن بعضها. ولأنه مصدود عن البيت بغير حق، فجاز له التحلل. دليله: لو لم يُمكن من الوقوف بعرفة. وقيل: إحرام تام، فجاز التحلل منه بالإحصار. دليله: قبل الوقوف. ونريد بقولنا: (تام): أن محظوراته كلها باقية، والتلبية مسنونة، وبقاء التلبية يدل على بقاء الإحرام. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يحصل له أكثر الأركان، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه يحصل له أكثر أركان الحج. أو يمكنه فعل الأكثر، فلا يجوز أن يتحلل بالهدي؛ لأن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأصول. قيل له: إذا وقف بعرفة فقد أتى بالإحرام والوقوف، وبقى عليه ركنان آخران، وهما: الطواف [والسعي]، فلم يصح قوله: قد أتى بأكثر أركان الإحرام. ولأن معظمها وأكثرها لا يقوم مقام الكل يدل عليه أن محظوراته كلها باقية، والتلبية مسنونة، ولو كان المعظم بمنزلة الكل لوجب أن

تكون المحظورات قد حلت، والتلبية قد انقطعت. وأيضاً فإن الوقوف لا يتغير به حكم الإحرام إلا في الأمن من الفوات، والأمن من الفوات لا يدل على المنع من التحلل بالإحصار بدليل أن إحرام العمرة لا يفوت، ومع هذا فإنه يكون له التحلل منه بالإحصار، وقد نص على ذلك أحمد في رواية أبي الحارث. فإن قيل: لو لم نجعله محصراً في العمرة لبقى محرماً لا يحل له شيء، فنضيق عليه، فأبحنا له التحلل تسهيلاً عليه، وتخفيفاً عنه، وليس كذلك المحرم بالحج إذا وقف بعرفة؛ لأنه يمكنه أن يحلق، فيحل له كل شيء إلا النساء، فلا يضيق عليه. قيل: في ترك النساء مشقة؛ لأن الطباع داعية إلى ذلك محتاجة إليه، فلم يصح ما قاله. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وهذه تمنع جواز التحلل قبل الطواف. والجواب: أن هذا غير مُمكن من الإتمام، فلا يدخل تحت الظاهر. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من وقف بعرفة فقد تم حجه"، والإحلال بالهدي يمنع تمامه؛ لأنه يوجب فسخه، والظاهر يمنع منه.

والجواب: أن معنى قوله: "قد تم" قرب التمام، كما قال لعبد الله ابن مسعود، وقد علمه التشهد: "إذا قلت هذا - أو قضيت هذا- قضيت صلاتك"، وروي: "فقد تمت صلاتك"، ومعناه: قرب التمام؛ لأنه قد بقي عليه الخروج منها. وعلى أن التمام لا يمنع الفسخ، كمن يرتد، فينفسخ حجه. واحتج بأنه يمكنه الوقوف بعرفة، فلا يجوز له أن يتحلل بالهدي، كما لو لم يحصر، وكما لو مُنع من الصفا والمروة والمزدلفة. الجواب: أنه غير ممنوع من البيت، ولا من الوقوف، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه ممنوع من البيت بغير حق، أشبه إذا منع قبل الوقوف. واحتج بأنه موضع يؤدي فيه ركن من أركان الحج، فإذا قدر على الوصول إليه في الحج لم يجز له أن يتحلل بالهدي، كما لو أمكنه الوصول إلى البيت، ومُنع من الوقوف. والجواب: أنه يجوز له التحلل هاهنا، كما يجوز له إذا مُنع من الوقوف والبيت جميعاً، بل هذا أولى؛ لأنه إذا مُنع من الموقف فاته الحج فيلزمه القضاء على الصحيح من الروايتين. ولأنه مصدود عن إكمال فرض نسكه بغير حق، وكان له التحلل،

كما لو صُد عن جميع الأفعال. وقولنا: (مصدود عن [إكمال] فرض نسكه) يحترز منه إذا أُمكن من الوقوف والطواف، ومُنع من منى، فإن الباقي عليه من المبيت والرمي لا يتحلل له؛ لأنه قد مُكن من التحلل، وقد فعله، فلا يحل بعد أن تحلل من الحج. ويتوجه أن يُقال: لا يتحلل؛ لأنه ممكن من البيت، ومن كان ممكناً من البيت، فليس بمحصر. وقد أومأ إلى هذا في رواية ابن إبراهيم وابن منصور: فقال في رواية ابن إبراهيم في المكي: لا إحصار عليه، وقد وجب عليه الحج ساعة يلبي. فلم يجعل للإحصار في حقه حكماً؛ لأن المكي مُمكن من حج البيت. وقال -أيضاً- في رواية ابن منصور: وقد سُئل: على أهل مكة إحصار؟ قال: أهل مكة يهلون، ولا يحلون إلا بالوقوف بعرفة والرمي والطواف مثل الحاج. واحتج بأنه لو مات بعد الوقوف لم ينفسخ إحرامه، ولم يُقض عنه الحج، كذلك إذا أحصر؛ لأنه قد حصل له الوقوف بعرفة.

مسألة إذا مرض المحرم لم يجز له التحلل، ويقيم على إحرامه حتى يصل إلى البيت، فإذا فاته الحج يفعل ما يفعله الفائت من عمل العمرة والهدي والقضاء على الصحيح من الروايتين

قالوا: وقد قال أحمد في رواية أبي داود في من مات، وقد بقي عليه شيء من نسكه: يُقضي عنه، ويُوقف عنه بالمزدلفة. والجواب: أن الأمر كما ذكرت، وأنه يُبنى على فعله في الحج، وكان المعنى فيه: أن المقصود حصول الحجة للمحجوج، فإذا أمكن برجلين، فلا معنى للمنع منه. ولأنه لا يمنع أن تصح الحجة الواحدة من اثنين، ألا ترى أن الصبي الذي لا يمكنه الإحرام بالحج يحرم عنه وليه، ويأتي الصبي بأفعال الحج؟ فانعقد الإحرام من واحد، وبقية الحج من آخر، وهذا المعنى معدوم في مسألتنا؛ لأنه مصدود عن البيت، فهو كما لو كان مصدوداً عن جميع أفعال الحج، ولا فرق بينهما. * ... * ... * 227 - مسألة إذا مرض المحرم لم يجز له التحلل، ويقيم على إحرامه حتى يصل إلى البيت، فإذا فاته الحج يفعل ما يفعله الفائت من عمل العمرة والهدي والقضاء على الصحيح من الروايتين: نص عليه في رواية الجماعة؛ ابن منصور، وأبي الحارث، والأثرم: فقال: في رواية ابن منصور: إذا كان إحصار عدو نحر هديه،

ورجع، وإذا كان مرضاً، أو كسراً، فهو محرم أبداً حتى يصل إلى البيت، ويطوف بالبيت. وكذلك نقل أبو الحارث. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: الإحصار بالمرض، كالإحصار بالعدو سواء. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند": ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. وهشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلّم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقال: إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: "حُجي، واشترطي: أن مَحِلي حيث حَبَستني". وروى أحمد: نا يعقوب قال: نا أبي قال: فزعم ابن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي شاكية، فقال: "ألا تخرجين معنا في سفرنا هذا"، وهو يريد حجة الوداع، فقالت: يا رسول الله! إني شاكية، وأخشى أن تحبسني شكواي، قال:

"فأهلي بالحج، وقولي: اللهو مَحِلي حيث حبستني". وروى -أيضاً- أحمد عن الضحاك بن مخلد، عن حجاج الصواف قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أحرمي، وقولي: إن محلي حيث تحسبني، فإن حُبست، أو مرضت، فقد أحللت من ذلك، شرطك على ربك عز وجل". فوجه الدلالة: أنه أمرها أن تشترط، فلو كان المرض يُبيح الإحلال لما احتاجت إلى شرط الإحلال في الموضع الذي تُحبس فيه. فإن قيل: قوله: "اشرطي" معناه: قولي في نفسك، واعقدي، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة: 8]. وقوله: "اشترطي" من كلام الراوي؛ فإنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لها: "قولي" ظن أنه أراد القول حقيقة. قيل له: "اشترطي" ظاهره يقتضي الكلام؛ لأنه قد روى أحمد: "وقولي: اللهم محلي حيث حبستني"، وهذا نص في أنه أمرها بالشرط. وقولهم: (إن هذا من كلام الراوي) لا يصح؛ لأن الصحابي إذا

قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم، فالظاهر أنه من قوله؛ لأنه عزاه إليه. وعلى أن القصد بالقلب، لا يعتبره أحد، فلا يجوز اعتباره، وحمل الخبر عليه. فإن قيل: فائدة الشرط: أنه لا يلزم الدم حال الشرط، ويلزمه حال الإطلاق. قيل: يجب أن يكون الشرط في الحكم المذكور، وهو إباحة التحلل دون غيره. على أن هذا ليس بمذهب لهم؛ لأن عندهم أن الشرط لا يصح، وأن التحلل لا يكون إلا بالهدي، وقد جعله بعضهم في مسائل الخلاف، فلم يصح هذا السؤال. ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير: فروى النجاد بإسناده من طريق أحمد عن ابن عباس: لا حصر إلا حصر عدو. وروى أيضاً بإسناده من طريق أحمد عن ابن عمر: لا إحصار إلا من عدو. وروى بإسناده من طريق مالك: أن ابن حُزابة المخزومي صُرع

ببعض الطريق، وهو محرم بالحج، فسأل عن الماء الذي كان عليه، فوجد عليه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، فذكر لهم الذي عرض له، فكأنهم أمروه أن يتداوى بما لا بد له منه، ويفتدي، فإذا صح اعتمر وحل من إحرامه، ثم عليه الحج قابلاً، ويفتدي. والقياس: [أن] كل من لم يتخلص بتحلله من نسكه عن شيء من الأذى الذي هو فيه، لم يجز له التحلل. دليله: لو أخطأ الطريق. ولا يلزم عليه إذا أُحصر بعدو؛ لأنه يتخلص من الأذى، وهو الأمن من عدوه، والمريض لا يزول مرضه بتحلله. ولا يلزم عليه إذا أحاط به العدو من جميع الجهات؛ لأنه قد يتخلص بالتحلل، وهو أن يمكنه الهرب والرجوع إلى بلده، وإذا لم يتحلل لم يمكنه. فإن قيل: يستفيد بالتحلل استباحة الطيب واللباس وسقوط الفدية. قيل له: هذا المعنى لا يوجب جواز التحلل، ألا ترى أن من أصابه شدة حر أو برد، فاحتاج إلى ذلك، لم يستبح التحلل؛ ليتطيب، ويلبس، ويسقط عنه الفدية. وقياس آخر، وهو: أن كل ما لا يُبيح التحلل بعد الوقوف بعرفة لا يبيحه قبله.

أصله: الحيض والنفاس. ولا يلزم عليه المحصر بعدو؛ لأنه يُبيح التحلل بعد الوقوف عندنا. ولأنه مصدود عن البيت لمعنى في نفسه، فلا يجوز له التحلل. دليله: الحائض؛ فإنها مصدودة عن البيت، ولا تتحلل. وعكسه: المحصر بعدو؛ لأنه مصدود عنه لمعنى في غيره، وهو العدو. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. قال النسائي وأبو عبيدة وثعلب وأكثر أهل اللغة: يُقال: أحصره المرض، وحصره العدو. وقال تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5]، فأطلق في العدو لفظ (الحصر) دون (الإحصار)، فإذا ثبت أن الإحصار أخص بالمرض منه بالعدو، وجب حمل الآية عليه. والجواب: أنه لا يجوز أن يُقال: (إن الإحصار أخص بالمرض منه بالعدو) من وجهين: أحدهما: أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلّم عام الحديبية، وهو

مصدود بالعدو، فأبيح له التحلل بها، والسبب لا بد من أن يكون داخلاً في اللفظ الذي هو وارد فيه. والثاني: أن هذا اللفظ عبارة عن الحبس والمنع، وذلك يحصل بالعدو، كما يحصل بالمرض، وكان عاما ًفيهما جميعاً، ولم يكن أخص بأحدهما من الآخر. والذي يبين صحة هذا: قول ابن محمد العُتبي في "غريب القرآن": {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]، من الإحصار، وهو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض، أو كسر، أو عدو، يقال: أُحصر الرجل إحصاراً، فهو محصر. فإن حُبس في سجن أو دار قيل: حُصر، فهو محصور. وقد بين أن اللفظ عام في المرض والعدو جميعاً. وإذا ثبت أنه عام فيهما فقد اقترنت به قرينة دلت على أن المراد به: العدو دون المرض، والقرينة في ذلك من سياق الآية من أربعة أوجه: أحدها: أنه قال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِي}، فلو كان المراد بأول الكلام المرض لم يستأنف ذكره. والثاني: قوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، فلو كان المراد بأول الآية المرض لم يرتب حلقه على بلوغ الهدي محله؛ لأن

لكم نصاً أن يحلق قبل النحر. والثالث: قوله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ}، والأمن إنما يكون من العدو دون المرض. والرابع: قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}، وهذا خطاب لجماعتهم، وإنما يكون هذا بالعدو، فأما المرض فيبعد أن يعم الجماعة. فإن قيل: قد يكون الأمن من المرض هو أن يأمن زيادته. قيل له: لم نسمع من أهل اللغة: أمن من المرض، وإنما يُقال: صح، وبرأ، واستقل، واندمل، وتماثل، وأفاق، ونقه. فإن قيل: قد ثبت أن لفظ الإحصار يصلح للمريض والعدو، هو عام، وقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وقوله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} راجع إلى بعض ما تناوله العموم، وهو العدو، وهذا لا يوجب تخصيص العموم، ولذلك نظائر في مواضع. قيل له: لا نسلم أن لفظ الإحصار هاهنا يعم المرض والعدو، حتى يقال: إنه خصص بعد ذلك بالحكم لما بينا، وهو قوله" {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] يختص العدو؛ لأن المرض لا يعم في العادة. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "من كسر أو عرج فقد حل"؛ يعني: جاز له الإحلال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "إذا أقبل الليل من

هاهنا، وإذا أدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم"؛ يعني: جاز له أن يفطر؛ لأنه لو كان مفطراً بدخول الليل لما كان لنهيه عن الوصال معنى، وكان يُقال: حلت المرأة للأزواج إذا انقضت عدتها؛ يعني: جاز لها أن تتزوج. والجواب: أن ظاهر الخبر يقضي أن يحل بنفس الكسر والعرج، وهذا مُطرح بالإجماع، ولا بد فيه من إضمار، فإذا جاز لهم أن يضمروا فيه: أنه يجوز له التحلل، جاز أن يضمروا فيه: من كسر أو عرج، وشرط التحلل، فقد حل. ويكون هذا أولى؛ لأنه يحل من غير هدي، وظاهر الخبر يقضي تحللاً من غير هدي. أو يضمر فيه: من كسر أو عرج، وفاته الحج، جاز له أن يتحلل بعمل عمرة، فنتساوى في ذلك. واحتج بأن كل من تعذر عليه الوصول إلى البيت، أو الوقوف بعرفة، وقدر على توجيه الهدي، جاز له أن يحل بالهدي. دليله: المحصر بالعدو. ولا يلزم عليه إذا ضل عن الطريق؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون قادراً على توجيه الهدي، أو لا يكون قادراً عليه:

فإذا كان قادراً عليه، فهو ممنوع من الوصول إلى البيت؛ لأنه إذا لم يكن هناك عدو، ولا مرض، وقدر على توجيه الهدي، أمكنه أن يتوجبه بنفسه. وإن لم يكن قادراً على توجيهه لم يلزمنا؛ لأنا قيدنا علتنا به. والجواب: أنا لا نسلم أنه قد تعذر عليه الوصول، [ويبطل بالوصول] بعد الوقوف بعرفة، وبالحائض والنفساء؛ فإنهما قد تعذر عليهما الوصول إلى البيت، ويقدران على توجيه الهدي، ومع هذا، فلا يجوز لهما التحلل. ويبطل -أيضاً- بمن ضل الطريق، وقدر على توجيه الهدي؛ فإنه قد تعذر عليه الوصول إلى البيت، ولا يجوز له التحلل. وقولهم: (إنه إذا كان قادراً على توجيه الهدي، فهو غير ممنوع من الوصول) غير صحيح؛ لأنه قد يكون الرسول يهتدي الطريق، والمحرم لا يهتدي هو، فلا يمكنه أن يتوجه بنفسه. ثم المعنى في الأصل: أن يتخلص بتحلله من الأذى الذي هو فيه؛ لأنه ينصرف فيأمن، وليس كذلك المريض؛ لأنه لا يزول المرض بتحلله، فلا معنى للإحلال. فإن قيل: لو كان المعنى في إباحة الإحلال ما ذكرت دون وقوع الحبس عن النفاذ، لوجب أن لو كان أمامه عدو يمنع النفاذ، ومن خلفه أيضاً؛ أن لا يجوز الإحلال لأنه خائف في الرجوع، كما أنه خائف في

التقدم: فلما قلتم: يجوز الإحلال مع منعه من المضي والرجوع، ثبت أن المعنى المبيح للإحلال: كونه محبوساً عن المضي. قيل له: لا نعرف الرواية عن أصحابنا في هذا، ولا يمتنع أن نقول: إذا كان هكذا لا يجوز له أن يتحلل. وإن سلمنا هذا؛ فإنه يتحلل، وينقل [....] من جهة مكة إلى جهة بلده، فيقابل تلك الجهة، وينصرف. فعلى هذا: قد يخلص من الأذى الذي كان إمامه. فإن قيل: لو أحصر في بلده جاز له الإحلال، وإن لم يكن هناك رجوع إلى الموضع، فدل على أن الحكم لم يتعلق بالرجوع، وإنما تعلق بحدوث الحبس المانع من التقدم. قيل له: الغرض من الرجوع إلى أهله وبلده الاستيطان، والتصرف باختياره، وهذا المعنى يستفيده بالحصر في البلد، فلهذا جاز له التحلل، وليس المراد بالتحلل في الطريق إلا الرجوع لهذه الأشياء. فإن قيل: فالذي يدل على أن المعنى المجوز للإحلال وقوع الحبس عن التقدم: أنه لو أحرم، وعليه دين، فحُبس، جاز له أن يحل، ولا خوف هاهنا، فعُلم أن المبيح للإحلال ما ذكرنا. قيل له: لا نسلم هذا؛ لأنه إذا كان موسراً، وقد أحرم، لزمه قضاء دينه، والنفوذ في نسكه، وإن كان معسراً، وجب إنظاره، فلا معنى

لتحلله، اللهم إلا أن يكون عبداً أحرم بغير إذن سيده، فله تحليله على إحدى الروايتين؛ لأنه تصرف في ملك غيره. واحتج بأن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بعدو أو مرض، ألا ترى أن الخائف له أن يصلي قائماً، أو قاعداً إذا تعذر عليه فعلها قائماً، كما يحوز ذلك للمريض، وكذلك ترك استقبال القبلة، وكذلك جواز التيمم إذا منعه الوصول إلى الماء خوف العدو، أو مرض يخاف ضرره، وجب أن لا يختلف المرض وخوف العدو في إباحة الإحلال من الإحرام، وسقوط فرضه. والجواب: أن المعنى في تلك الأشياء: أنه يخرج من المشقة المخوفة بصلاته جالساً، وبترك القبلة جالساً، وبترك القبلة، وبالتيمم، كما يخرج منها من خوف العدو، فاستويا، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ لأنه لا يخرج من المشقة بتحلله من المرض، ويخرج من ذلك في العدو، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج بأن المرأة إذا منعها زوجها من المضي في حجة التطوع بعد الإحرام بها، جاز لها الإحلال، وكذلك العبد إذا منعه مولاه من المضي فيه، كذلك المريض للعلة التي ذكرنا، وهو أنه ممنوع من الوصول إلى البيت. والجواب: أن أصحابنا اختلفوا في الزوج، وفي السيد؛ هل لهما حصر العبد والزوجة عن حجة التطوع؟ فقال أبو بكر: ليس لهما ذلك.

مسألة إذا شرط المحرم: أنه إذا مرض، أو أخطأ العدد: أن محلي حيث حبستني، جاز له التحلل عند وجود الشرط، وكذلك إن شرط: إن حصرني عدو، تحلل، ولا دم عليه. فيستفيد بالشرط عند المرض والخطأ التحلل وإسقاط الدم، وعند العدو إسقاط الدم

فعلى هذا: لا يصح السؤال. وقال شيخنا أبو عبد الله: لهما ذلك. فعلى هذا: الفسخ هناك لحق السيد؛ لما عليه من الضرر من تعطيل خدمته، وتفويت كسبه ومنافعه، وبالحصر والتحلل يزول هذا المعنى، فلهذا كان له ذلك، وهذا المعنى معدوم في المرض. * ... * ... * 228 - مسألة إذا شرط المحرم: أنه إذا مرض، أو أخطأ العدد: أن محلي حيث حبستني، جاز له التحلل عند وجود الشرط، وكذلك إن شرط: إن حصرني عدو، تحلل، ولا دم عليه. فيستفيد بالشرط عند المرض والخطأ التحلل وإسقاط الدم، وعند العدو إسقاط الدم: وقد نص على هذا في رواية مهنا والمروذي والميموني. وهو قول الشافعي. وقال لي أبو بكر الشامي: مذهب الشافعي: إن حُصر بعدو جاز له التحلل، وعليه دم؛ سواء شرط التحلل في إحرامه، أو لم يشرط. وإن حصره المرض لم يجز له التحلل، وإن شرط التحلل، فهل يجوز له التحلل؟ على قولين.

فإن قلنا: يجوز له التحلل، فهل يسقط عنه الدم؟ على وجهين. وقال أبو حنيفة ومالك: اشتراطه كلا اشتراط، ولا يحل إلا بالهدي في قول أبي حنيفة، وفي قول مالك لا يستفيد التحلل أصلاً في المرض وخطأ العدد. دليلنا: ما تقدم من حديث ضُباعة، وأنه أمرها بالشرط، ففيه دلالة على جواز التحلل به من المرض، ودلالة على إسقاط الدم؛ لأن على قول أبي حنيفة لها أن تحل بغير شرط، فلا فائدة له على أصله إلا سقوط الهدي عنها. فإن قيل: من الناس من يقول: إن محله لا يكون حيث حُبس، ويبقى حراماً حتى يطوف، فأفادنا هذا الخبر بطلان هذا المذهب، وأن كل من أُحصر فحكمه أن يحل من حيث حُبس. قيل له: من يذهب إلى ذلم لا يفرق بين أن يشترط في إحرامه، وبين أن لا يشترط، فيجب أن يكون للأمر بالاشتراط فائدة، ولا فائدة له غير ما قلنا. وأيضاً للشرط تأثير في إسقاط العبادات ولزومها في الشرع، بدلالة أن من قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أصوم، فإذا أطلق ذلك لزمه الصوم سواء شفى الله مريضه، وهو صحيح، أو سقيم. وإن قال: إن شفى الله مريضي، فعلي صوم يوم إن كنت صحيحاً؛

فإنه إن كان مريضاً حال شفائه، لم يلزمه الصوم. فأثر الشرط في إسقاط الصوم عنه، كذلك -أيضاً- جاز أن يكون له تأثير في الحج في إباحة التحلل. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وهذا عام سواء شرط، أو لم يشرط. والجواب: أنه محمول عليه إذا لم يشرط؛ لما ذكرنا من حديث ضُباعة. فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يجوز أن يعترض على الآية. قيل له: هذا تخصيص، وتخصيص الآية بخبر الواحد يجوز. فإن قيل: لم يثبت تخصيصها بالاتفاق، ولا يجوز تخصيصها بخبر الواحد. قيل له: يجوز عندنا. واحتج بأنه لو أطلق الإحرام، ولم يشترط شيئاً، لم يحل إلا بالهدي، فإذا شرط لم ينتف موجب الإطلاق بالشرط، ألا ترى أنه لما كان موجب الإطلاق يوجب الطواف عند الفوات، لم ينتف ذلك الواجب بالشرط في إحرامه؛ أنه إن فاته الحج حل بغير طواف، ولم يكن لهذا الشرط حكم، كذلك لو شرط أنه إن فسد الحج، لم يقضه، لم يصح هذا الشرط، وكذلك هذا.

والجواب: أنه إذا شرط حين إحرامه أن يحل إن عرض له عارض؛ من مرض، أو ضياع نفقة، أو ضل الطريق، أو أخطأ العدد، أو فاته الحج، فله التحلل. وقد قال أحمد في رواية مهنا: إذا قال عند الإحرام: محلى حيث حبستني، فأصابه شيء، أو أُحصر، أو مرض، أو ذهبت نفقته، [....] فأحل: لا شيء عليه. فهذا غير مسلم، بلى إذا شرط: إن أفسد لم يقضه، لم يصح الشرط. وكذلك إن شرط: أن لي أن أحل متى شئت، لم يصح؛ لأنه لا عذر له في ذلك. وليس كذلك ما ذكرنا؛ لأن له عذراً فيه، فجاز أن يستفيد به التحلل بالشرط، ألا ترى أن الحصر والمرض لما كان عذراً استفاد به التحلل؟ كذلك هاهنا. واحتج من قال: لا يجوز له التحلل بالشرط بعموم قوله: {وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. والجواب: أن هذا محمول على غير حالة الشرط بما ذكرنا.

مسألة لا تحج المرأة إلا مع ذي محرم

واحتج بأن كل معنى لم يجز التحلل معه متى لم يشرط، لم يجز، وإن شرط. أصله: ضلال الطريق، وعكسه: العدو. والجواب: أنا لا نسلم ذلك، وقد ذكرنا في ما قبل. واحتج بأن كل عبادة لم يصح الخروج منها بالمرض عند عدم الشرط، لم يجز عند وجوده، كالصلاة. وعكسه: الصوم. والجواب: أنه إنما لم يخرج منها بالمرض عند الشرط وعدمه؛ لأنه يمكنه الإتيان بها على حسب حاله، ويجزئه، فلا يستفيد بالخروج منها فائدة، وهو [....] فصح الخروج منه. * ... * ... * 229 - مسألة لا تحج المرأة إلا مع ذي محرم: نص عليه في رواية الجماعة؛ الأثرم، والمروذي، وابن منصور، وحرب، وابن القاسم، وبكر بن محمد، وأبي داود، والميموني:

فقال في رواية الأثرم: [المحرم] من السبيل، فإن كان لها محرم حج بها، وإن كره الزوج، إذا كانت الحجة فريضة. ونقل ابن منصور عنه في امرأة موسرة ليس لها محرم، فقال: المحرم من السبيل. ونقل حرب عنه في امرأة لها مال، وليس لها محرم؛ هل تحج؟ قال: لا، إلا مع محرم، قال تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وهذه لا تستطيع. وقال في رواية أبي داود في امرأة موسرة، لم يكن لها محرم؛ هل وجب عليها الحج؟ فقال: لا. وقال في رواية المروذي في امرأة لها خمسون سنة، وليس لها محرم: لا تخرج إلا مع محرم. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: إذا كان معها نساء ثقات، فلها أن تحج بغير محرم. ومن أصحاب الشافعي من قال: لا اعتبار بالمحرم، ولا بنساء ثقات، ولها أن تخرج وحدها إذا كان الطريق آمناً. وهذا خلاف نص الشافعي. دليلنا: ما روى أبو بكر في كتاب "الشافي" بإسناده عن عبد الله بن عباس قال: إن رجلاً قدم المدينة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: ["أين نزلت؟ "،

فقال: على فلانة]، فقال: "أغلقت عليك بابها؟ أغلقت عليك بابها؟ لا تحجن امرأة إلا مع ذي محرم". فإن قيل: يحمل ذلك على حجة التطوع، وإذا لم يحصل الأمن إلا به. قيل له: هذا التخصيص بغير دلالة. على أن ظاهره يقتضي السفر الذي يجوز لها الخروج منه بوجود المحرم؛ أذن الزوج، أو لم يأذن، وهذا لا يكون إلا في سفر الفرض. وروى -أيضاً- بإسناده عن ابن عباس قال: جاء رجل [إلى] النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن امرأتي خرجت إلى الحج، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: "انطلق، فاحجج مع امرأتك". فوجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمره أن يترك الفرض لأجله، فلولا أنه شرط لم يأمره بذلك. وروى -أيضاً- بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا يحل لامرأة مُسلمة تُسافر سفراً إلا ومعها ذو محرم". وروى أبو بكر النجاد بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

"لا تسافر المرأة بريداً إلا مع ذي محرم". وروى -أيضاً- بإسناده عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم". وروى بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذُو حرمة منها". وروى بإسناده عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "لا تُسافر امرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم". وبإسناده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا تسافر المرأة سفراً؛ ثلاثة أيام فصاعداً، إلا مع زوجها، أو ابنها، أو أخيها، أو ذي محرم". فإن قيل: ألفاظ هذا الحديث مختلفة: فروي: سفراً. وروي: بريداً.

وروي: يوماً. وروي: ليلة. وروي: ثلاثة أيام. وروي: فوق ثلاث. وهذا يدل على اضطرابه، فوجب اطراحه. قيل له: هذا لا يوجب اطراحه؛ لأنا نقول بجمعها، وليس فيها ما يعارض الآخر؛ لأن السفر الطويل والقصير سواء عندنا في اعتبار المحرم. والقياس أنها أنشأت سفراً في دار الإسلام، فوجب أن لا يجوز بغير محرم. دليله: حجة التطوع، والتجارة. وفيه احتراز من الهجرة؛ لأنها ليست في دار الإسلام. وفيه احتراز من البكر إذا زنت؛ أنها تبقى بغير محرم، وإذا توجه عليها حق، وهي عايبة؛ فإن الحاكم يحضرها، وإن لم يكن لها محرم؛ لقولنا: أنشأت، وهذا إنما يكون مع الاختيار، وتلك خروجها بغير اختيار، فلا يلزم على العلة. وإن شئت قلت: كل سفر منعت منه العدة، ومنع منه عدم المحرم. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: روى الكرابيسي عن الشافعي: أن لها الخروج مع

المسلم إذا كان الطريق آمناً من غير محرم لحجة التطوع. قيل له: ليس بمعول عليه في المذهب، والمشهور عنه: أنه لا يجوز لها ذلك. فإن قيل: لا يجوز اعتبار الفرض بالتطوع، ألا ترى أنه يجوز للزوج أن يمنع زوجته من التطوع في الصلاة والصيام والحج وليس له منعها من الفرض؟ كذلك هاهنا. قيل له: العدة قد منعت من سفر الحج الفرض، كما منعت من سفر التطوع ومن التجارة، وإن اختلفا من الوجه الذي ذكرت، كذلك لا يمتنع أن يختلفا هاهنا. على أنا لا نسلم وجوب الحج على إحدى الروايتين مع فقد المحرم، فالسفر إليه غير واجب. وقياس آخر، وهو: أنه لما لم يجز لها أن تخرج بحجة التطوع والتجارة، لم يجز لها أن تخرج بحجة الإسلام. دليله: المعتدة. فإن قيل: العدة فرض مضيق، والحج موسع، فقُدم أداء العدة على أداء الحج، وليس كذلك إذا وُجد الأمن، وعُدم المحرم؛ فإن ذلك لا يؤثر. قيل له: الحج عندنا فرض مضيق، كالعدة؛ لأنه على الفور. وعلى أنا إذا قسنا على المعتدة من الطلاق لم تصح هذه المعارضة؛

لأن عندنا أنه لا يتعين قضاؤها في بيت زوجها، بل يجوز أن تعتد حيث شاءت، فليست هاهنا فرضاً مضيقاً. وعلى أن ترك الخلوة بالأجانب فرض مضيق، فوجب أن تقدم على الحج الموسع على [....] قولهم. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فعلق وجوب الحج بوجود الاستطاعة. وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الاستطاعة، فقال: "هي الزاد والراحلة". وهذا خارج مخرج البيان، ومن حكم البيان أن يكون شاملاً لجميع ما أريد بيانه، والنبي صلى الله عليه وسلّم قصد إلى بيان حكم جميع المخاطبين بالحج، فلو قلنا: إن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة، لكان النبي صلى الله عليه وسلّم قد ترك لحكم بعض المخاطبين به، وهذا لا يجوز. والجواب: أن وجوب الحج عليها متعلق بوجود الزاد والراحلة، والمحرم شرط لحال السفر وجواز الخروج، كما نقول: لو وجدت زاداً وراحلة وجب عليها الحج، فإن كانت معتدة لم يجز لها أن تخرج، فجعلنا خلوها من العدة شرطاً في جواز الخروج، لا في الوجوب، كذلك المحرم.

وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية أبي جعفر محمد بن أبي حرب الجرجرائي: وقد سُئل عن المرأة لا يكون لها ولي؛ هل تعطي من يحج عنها، فقال: قد أيست؟ قيل: نعم، قال: تعطي من يحج عنها في حياتها. وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم في امرأة ليس لها محرم؛ هل تدفع إلى رجل؛ ليحج عنها؟ فقال: إذا كانت قد يئست من المحرم، فأرى أن تجهز رجلاً يحج عنها. وظاهر هذا: أنه أوجب الحج عليها، وإن لم يكن لها محرم؛ لأنه أمرها بإخراج حجة عن نفسها. وقال في رواية أبي داود: وقد سُئل عن امرأة موسرة، لم يكن لها محرم؛ هل وجب عليها الحج؟ قال: لا. وظاهر هذا: أن المحرم شرط في أصل الوجوب. فعلى هذا يحمل بيان النبي صلى الله عليه وسلّم للسبيل بالزاد والراحلة في حق الرجال دون النساء بدليل ما ذكرنا من الأخبار. أو يحمل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلّم بين الشرط الذي يعم جميع الناس، ولم يبين الشرط الذي يخص، ألا ترى أنه لم يبين عدم العدة، ولا وجود نساء ثقات. أو يحمل على أنه بين الشرط الذي يحتاج إليه في سفر الحج،

والمحرم يُعتبر في كل سفر، فلا اختصاص له بسفر الحج. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". والجواب: أنه قال: "وبيوتهن خير لهن"، فلو جاز لها الخروج بغير محرم، لكان الخروج خير لها من كونها في بيتها؛ لأنها تخرج لأداء الفرض. على أنا نمنعها على صفة، وبنيحها على صفة أخرى، ولا يكون هذا منعاً من المسجد [....]، ويباح ظاهراً. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه قال لعدي بن حاتم، وهو يرغبه في الإسلام: "يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة بغير جوار حتى تَحج البيت". وروى: "حتى تطوف بالكعبة". وهذا يدل على جواز خروجها بغير محرم؛ لأنه لم يشترط المحرم. والجواب: أنه أخبر: أنها تخرج، وليس فيه دلالة على أن لها أن تخرج، وإنما قصد إلى الأخبار عن ما يؤول إليه حال الناس من الأمن

وزوال الخوف وطيب الزمان، حتى لو خرجت المرأة وحدها لم تخف إلا الله، ولا دلالة في ذلك على جواز خروجها بغير محرم. يبين صحة هذا: ما روي في خبر آخر: أنه قال: "يُوشك أن تخرج الظعينة من القادسية إلى اليمن لا تخاف إلا الله". ولا خلاف أنها لا تخرج لغير الحج بغير محرم. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلّم قصد إلى مدح الزمان الذي يأتي في المستقبل، فلو كان هذا فعلاً مذموماً، لما مدح الزمان الذي يقع فيه، كما لا يمدح الزمان الذي يُشرب فيه الخمر، ويكثر فيه الزنا. قيل له: أليس أخبر: أنها تخرج من القادسية إلى اليمن؟ ولا خلاف أن خروجها إلى اليمن بغير محرم فعل مذموم. وعلى أنه قد روي في الخبر: "لا تخاف إلا الله"، فذكر خوفاً يختص الخروج، وذلك الخوف؛ لأنها خالفت الواجب، وحجت بغير محرم. يبين هذا: أن الإنسان يجوز أن يخاف الله في كل أحواله، وهاهنا ذكر خوفاً يخص الخروج، وما ذلك إلا ما ذكرنا. واحتج بأنه سفر واجب، فوجب أن لا يكون من شرطه المحرم. دليله: الهجرة، وخروجها للنفي، وحضورها مجلس الحاكم.

وقد نص أحمد على أن المحرم ليس بشرط في ذلك، فقال في روية الأثرم: المرأة تنفى بغير محرم. وكذلك نقل المروذي عنه تُنفى المرأة بغير محرم. ونقل ابن القاسم عنه: لا تحج امرأة إلا مع ذي محرم، فقيل له: فإن وجب عليها حق، وليس ثم حاكم؛ أليس يُخرج بها إلى الحاكم؟ فقال: ليس يشبه هذا أمر الحج. والجواب: أن الهجرة آكد من السفر للحج بدلالة أن لها أن تهاجر، وهي معتدة، وليس لها أن تخرج إلى الحج، وهي معتدة، وبدلالة أنه لا يُعتبر في حقها زاد أو راحلة، وتعتبر في الحج. ولأن المهاجرة تخاف على نفسها من المقام بين المشركين، فجُوِّز لها الخروج، وهذه تخاف على نفسها من الخروج؛ لأنها تصير معرضة للأجانب، وليس معها من يدفع عنها. يبين صحة هذا: أن المعتدة إذا خافت من المقام في منزل زوجها، جاز لها الانتقال، ثم لا يجوز لها أن تنتقل مع عدم الخوف، كذلك هاهنا. وأما خروجها للنفي ففيه روايتان: نقل المروذي عنه: أنها تُنفي إلى موضع لا تقتصر فيه الصلاة. فعلى هذا: ليس هناك سفر كامل.

ونقل ابن منصور وأبو طالب والأثرم: تُنفى مسافة تقصر فيها الصلاة. فعلى هذا: ذلك السفر عقوبة، فجاز أن لا يُعتبر المحرم فيه تغليظاً عليها. وأما حضورها مجلس الحاكم في بلد آخر، فظاهر كلام أحمد: أنه لا يُعتبر فيه المحرم. قال في رواية ابن القاسم: لا تحج إلا مع ذي محرم، فقيل له: أليس إذا وجب عليها حق من الحقوق يُخرج بها إلى الحاكم في ذلك؟ قال: ليس يشبه هذا أمر الحج؛ هذا حق لازم يقام عليها مثل الحدود. وظاهر هذا: أنه لم يعتبر المحرم في ذلك، وكان الفرق بينهما أن حضوره حق لآدمي، فهو أغلظ، وهذا حق لله تعالى، فهو أضعف. واحتج بأن كل عبادة لم يُشترط المحرم في وجوبها لم يُشترط في أدائها، كالصوم والصلاة. والجواب: أنا قد حكينا روايتين: إحديهما: أنها شرط في الوجوب. فعلى هذا: لا نسلم الوصف.

وإن قلنا: ليس بشرط، فلا يمتنع أن يكون من شرائط السفر ولزوم الأداء، كامرأة ثقة هي شرط في أدائها، وليس بشرط في وجوبها. وقد نص على ذلك الشافعي، فقال: إذا وجدت المرأة الزاد والراحلة، وكانت مع نساء ثقات في طريق آمن، عليها الحج، وإن لم يكن معها محرم. ثم نقول بموجبه، وأنه ليس بشرط في أدائها، وإنما شرط في قطع السفر بدلالة المكية بغير محرم. ثم نقلب العلة فنقول: فاستوى نفلها وفرضها. دليله: ما ذكره؛ لأن سائر العبادات لا تعلق للمحرم بأدائها، فلم يشترط فيها، وهذه للمحرم تعلق بأدائها، ألا ترى أنها تخاف على نفسها متى انفردت بالسفر، فلذلك شرط فيها. ولهذا المعنى اعتبر أحمد المحرم في حق من تخاف أن ينالها الرجال، فقد [قال] في رواية أحمد بن إبراهيم الكوفي: وقد سُئل عن الجارية: متى لا يحل لها أن تسافر إلا مع ذي محرم؟ فقال: إذا كان لها سبع سنين، أو قال: تسعة. واحتج بأنه لا يخلو إما أن يكون الاعتبار بالمحرم؛ لأنه لو كان

موجوداً، ولا أمن هناك لم يجب عليها. والجواب: أن الاعتبار بالأمن؛ إلا أن المرأة لا تأمن إلا باستقامة الطريق ووجود محرم تأمن فيه العيبة من الأجانب، وليس يمنع أن تختلف صفة الأمن باختلاف الناس، ألا ترى أن الطريق الآمن يجب سلوكه للحج لعامة الناس، وإن كان منهم من يخاف لشيء يخصه لم يجب عليه؟ واحتج بأنه لو كان المحرم شرطاً في حج المرأة لاستوت فيه العجوز والشابة، كسائر الشرائط. وقد نقل المروذي عنه: أنه قد سئل عن امرأة كبيرة، ليس لها محرم، وقد وجدت قوماً صالحين، فقال: إن تولت هي النزول، ولم يأخذ رجل بيدها، فأرجو. والجواب: أن ذلك شرط في حق العجوز والشابة، وقد رواه المروذي عنه في موضع آخر في امرأة لها خمسون سنة، وليس لها محرم: لا تخرج إلا مع محرم، أرجو أن تُرزق، لعلها تتزوج. ونقل الميموني عنه: أنه حُكي له قول مالك: العجوز تخرج مع عجائز مثلها، فقال: من فرق بين العجوز والشابة؟ وكذلك نقل حرب عنه في امرأة قد كبرت، وليس لها محرم:

لا تحج إلا مع محرم. واحتج بأنه لو كان المحرم شرطاً في ابتداء سفرها كان شرطاً في استدامته، وقد قال أحمد في رواية الأثرم وأبي الحارث وابن إبراهيم: إذا مات محرمها في الطريق مضت لحجها. والجواب: أن هذا يبطل بحجة النفل، وسفر التجارة؛ فإن المحرم معتبر في ابتدائه دون استدامته كذلك هاهنا. * فصل: وقصير السفر وطويله سواء في اعتبار المحرم. نص عليه في رواية بكر بن محمد، عن أبيه، عن أحمد: وقد سئل عن حديث ابن عباس في من وقع بأهله، وهو محرم، يحجان من قابل، فإذا بلغا الموضع الذي واقعها فيه تفرقا. قيل: أليس قد صارت بغير محرم؟ فقال: نعم، لا يعجبني هذا إلا أن يكون معها محرم غير الزوج إذا فارقها. قال: والسفر عندي، ولو كان ساعة، ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "لا تُسافر سفراً". ذكرها أبو بكر الخلال في كتاب "العلل". وروى الميموني عنه: وقد سئل: تحج المرأة من مكة إلى منى

بغير محرم؟ فقال: لا يعجبني. قيل له: لم؟ قال: لأن مذهبنا أن لا تسافر امرأة سفراً إلا مع ذي محرم. وكذلك نقل ابن منصور عنه قال: لا تسافر سفراً. وقال أبو حنيفة: المحرم شرط في السفر الطويل، وهو الذي تُقصر فيه الصلاة، وهو مسيرة ثلاثة أيام عنده. دليلنا: ما تقدم من حديث ابن عباس: "لا تحجن امرأة إلا مع ذي محرم". وهذا عام في القصير والطويل. وحديث أبي هريرة: "لا يحل لامرأة تسافر سفراً إلا مع ذي محرم". وفي لفظ آخر: "لا تسافر بريداً إلا مع ذي محرم". والبريد أربع فراسخ. وفي لفظ آخر: "لا تُسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم". وهذه الأخبار نص في النهي عن السفر القصير كالطويل. ولأنه سفر يبيح صلاة النفل على الراحلة، ويبيح التيمم عند عدم

الماء، فلم يجز بغير محرم. دليله: إذا كان قدره ثلاثة أيام. الماء، فلم يجز بغير محرم. دليله: إذا كان قدره ثلاثة أيام. ولا يلزم عليه سفر الهجرة، والمنفية للزنا، ومن لزمها حضور مجلس الحاكم؛ لأنه لا يستوي في ذلك الأصل والفرع في إسقاط اعتبار المحرم. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه سفر صحيح، وليس كذلك هاهنا؛ فإنه بخلافه؟ قيل له: لا نسلم هذا؛ لأن أحكام السفر عندنا تتعلق بستة عشر فرسخاً. وعلى أن حكم السفر فيه، وهو الصلاة على الراحلة والتيمم، وكان إلحاقه بهذين الحكمين أولى من غيره؛ لما فيه من الاحتياط. وعلى أن تلك الأحكام لا تلحق بها المشقة في القصير، ويُخاف عليها أن ينالها الرجال في القصير. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "لا تُسافر المرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم". فاعتبر الثلاث، فدل على أن ما دونه لا يُعتبر فيه المحرم. والجواب: أن نطقه يقتضي: أنها لا تسافر فوق ثلاث بغير محرم،

مسألة إشعار البدن من الإبل والبقر وتقليدها مسنون

ودليله يقتضي جواز ذلك بغير محرم في ما دونه. وقد روينا في لفظ آخر: "لا تُسافر يوماً ولا ليلة إلا مع ذي محرم". وهذا لفظ خاص، فهو يقتضي على الدليل. واحتج بأنها مسافة لا تستباح فيها رخصة السفر، فلم يُشترط المحرم فيها. دليله: أطراف البلد. والجواب: أنه لم يوجد هناك سفر، فلم يعتبر المحرم، وهاهنا قد وُجد بدليل أنه يستبيح به الصلاة النافلة على الراحلة، وجواز التيمم عند عدم الماء عندهم، ولا يستبيح ذلك في البلد المتباعد الأطراف. * ... * ... * 230 - مسألة إشعار البُدن من الإبل والبقر وتقليدها مسنون: نص عليه في رواية حنبل والمروذي وابن إبراهيم. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يُكره الإشعار، وهو مُثلة. دليلنا: ما روى أحمد في "المسند" أنا هشيم، أنا أصحابنا؛ منهم

شعبة، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أشعر بدنته من الجانب الأيمن، ثم سلت الدم عنها، وقلدها نعلين. ورواه حنبل بلفظ آخر عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أتى ذا الحُليفة أشعر الهدي، ثم شق السنام، وأماط عنه الدم، وقلده، وأحرم بالحج. ورواه حنبل بإسناده عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج في عام الحُديبية في بضع عشرة مئة، فلما كان بذي الحُليفة قلد الهدي، وأشعره، وأحرم منها بالعمرة. وروى حنبل بإسناده عن القاسم، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أشعر بذي الحُليفة. فإن قيل: روي عن عائشة: أنها قالت: إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا، وإنما أشعر النبي صلى الله عليه وسلّم ليُعلم أنها هدي إذا ضلَّت. فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلّم أشعر هديه؛ ليكون ذلك علامة لها، ومخالفنا يقول: إنه فعله على أنه نسك. قيل له: هذا دليلنا؛ لأنها أخبرت: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أشعر؛ ليكون

علامة، ونحن نستحب الإشعار لما فيه من العلامة، ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلّم فعل لهذا المعنى، ونقول: إن شاء فعل، وإن شاء ترك؛ لأنه ليس بواجب، فكان قول عائشة حجة لنا. فإن قيل: هذا منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلّم عن المثلة، وهذا من المثلة. قيل له: لا يجوز حمله على النسخ مع إمكان الاستعمال، والنسخ يحتاج إلى النقل والتوقيف، ونحن نبين وجه نهي النبي صلى الله عليه وسلّم عن المثلة في ما بعد. وجواب آخر، وهو: أنه لو كان منسوخاً لما أشعرت الصحابة، ولا أمرت بذلك، وقد روى حنبل بإسناده عن ابن عمر قال: ما لم تُشعر، ولم تقلد، فليس بهدي. وفي لفظ آخر عنه قال: البدن ما قُلِّد وأُشعر ووُقِف بعرفة، وإلا فإنما هي ضحايا. وبإسناده عن نافع قال: أدركت الناس والبقر تُشعَر في أسنمتها، فما لم يكن لها سنام أُشعرت في موضع السنام. وهذا إشارة إلى الصحابة وغيرهم. فإن قيل: يحتمل أن يكون أشعروا في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يشعر.

قيل له: ما روينا عن ابن عمر يقتضي أن يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأنه ابتداء قول من جهته، وبيان عن مسنون ذلك، وهذا لا يكون منه في وقت النبي صلى الله عليه وسلّم، ونافع لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلّم، فهو يخبر عما شاهد، وإنما كان هذا بعد النبي صلى الله عليه وسلّم. فإن قيل: ففيهم من لم يُشعر. قيل له: من لم يُشعر منهم نحمل أمره على أن تركه رخصة ليس بواجب. فإن قيل: فقد روي عن إبراهيم النخعي: أنه كان يكره الإشعار. ومن أصلنا: أن التابعي إذا أدرك زمن الصحابة، وسوغوا الاجتهاد في الحوادث، كان خلافه عليهم خلافاً، وكان إبراهيم يفتي في زمن الصحابة، وقد تقدم على كثير منهم. وعن الأعمش أنه قيل له: لم أقللت مجالسة أنس بن مالك. فقال: كنت أترك إبراهيم، وأجالس أنساً. قيل له: لا نوافقك على هذا الأصل، ولا يكون خلافه عليهم خلافاً؛ [لما] لهم من المزية من مشاهدة التنزيل وحضور التأويل. ويبين صحة هذا: أن قول الصحابي حجة عندنا وعند أبي حنيفة، وقو الشافعي ليس بحجة. وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث: لا يُصلي بين التراويح. واحتج بما روي عن عُبادة وأبي الدرداء، فقيل له: فعن سعيد والحسن:

أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح؟ فقال: أقول لك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وتقول التابعين! وقال أبو عبد الله القواريري: سمعت أحمد يذاكر رجلاً، فقال: الرجل: قال عطاء. فأخذ نعله، وقام، وقال: أقول لك: قال ابن عمر، وتقول: قال عطاء! من عطاء؟ ومن أبوه؟ فإن قيل: يحتمل أن يكون بالبدنة داء، فودجها. قيل له: التوديج ليس بإشعار. ولأنه لو كان ذلك للتوديج لما تلاوه بنفسه، بل كان يأمر غيره به، وإنما الإشعار يتولاه بنفسه؛ لأنه سنة. وأيضاً في الإشعار فوائد منها: أنه إذا [....] فاختلطت بغيرها، أو ضلت، استدل بذلك عليها. ومنه أنه إذا قصد سارق، فرأى ذلك منها، تحرج عن أخذها. ومنها أنها ربما تعطب، فتُنحر، وتُترك في موضعها، فإذا رأى المساكين عليها علامة الهدي أخذوها. فاستحب ذلك، كما يُستحب التقليد عندهم لهذه المعاني، بل الإشعار أقوى؛ لأنه علامة لازمة لا تزول، والتقليد يزول بأن سقط عنها.

فإن قيل: التقليد يُغني عن ذلك. قيل له: لا يغني؛ لأنه ليس بلازم. ولأنه إيلام سليم لامتياز حق الله -تعالى- عن حق الآدمي، أشبه الكي في أفخاذ إبل الصدقة والجزية. ولأنه إيلام سليم لغرض صحيح، فجاز فعله، كالفصد والحجامة. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه نهى عن المثلة. بدلالة: أنه أشعر في غير حال الإحرام كان مثلة. والجواب: أن هذا محمول على المثلة لغير غرض بدليل ما ذكرنا، وخبرنا أولى؛ لأنه خاص في موضع الخلاف. واحتج بأنه هدي ساقه إلى الحرم، فلم يكن من سنته الإشعار. دليله: الغنم. والجواب: أن المخالف فرق بينهما، فاستحب التقليد في البدن، ولم يستحبه في الغنم، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. ولأن إبل الصدقة والجزية تُكوى في أفخاذها للعلامة، ولا تُكوى الغنم. ولأن الإشعار لا يفيد في الغنم؛ لأن الدم يخفي في صوفه، فلا يتبين.

ولأن التقليد فيه كفاية في الغنم؛ لأنها لا تقوى على قطعه، وليس كذلك البدن؛ فإنها تقطعه، فجمع بين التقليد وبين الإشعار. واحتج بأن فيه إيلام الحيوان، وهو منهي عنه في غير حال الإحرام، فوجب أن يكون منهياً عنه في حال الإحرام، كما لو قطع عضواً منه. والجواب: أن القطع مخوف على الحيوان منه. ولأن القطع لا يحتاج إليه. ولأن الإشعار يغني إليه. ولأنه لا يمتنع أن لا يُقطع، ويُشعر، كما قالوا في إبل الصدقة وإبل الجزية: تُوسم في أفخاذها، ولا تقطع. واحتج بأن الإحرام يزيد تغليظاً وتأكيداً في حظر الأشياء قد كانت مباحة من قبل الإحرام، فوجب أن يكون الإحرام مؤكداً لحظره، ولا يوجب إباحته. والجواب: أن الإشعار غير مُحرم قبل الإحرام إذا احتيج إليه لإبل الجزية، ونعم الصدقة، وهاهنا حاجة. ولأن الإيلام لغرض غير محرم، كالحجامة والفصاد ونحوها. * ... * ... *

مسألة وصفة الإشعار: أن يشق صفحة سنامها الأيمن في أصح الروايات

231 - مسألة وصفة الإشعار: أن يشق صفحة سنامها الأيمن في أصح الروايات: نص عليه في رواية ابن منصور، فقال: تشعر البدن صفحة سنامها الأيمن، وذكر حديث ابن عباس. وهو قول الشافعي. والثانية: أن يشق صفحة سنامها الأيسر حتى يظهر الدم. نص عليه في رواية حنبل، فقال: لا ينبغي للرجل أن يسوق بدنة حتى يشعرها من شقها الأيسر، ويجللها بثوب أبيض، ويجعل في عنقها نعلاً أو علاقة سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه. وبه قال أبو يوسف ومحمد. ونقل المروذي عنه: وقد سُئل: من أين تشعر البدنة؟ فقال: مثل فعل ابن عمر، أي من الشقين فعل فهو جائز. وكذلك نقل أبو إسحاق بن إبراهيم عنه: أنه قال: من أين أشعرت البدنة فهو جائز بحديث ابن عمر. وظاهر هذا: أنه مُخير في صفحتها اليمنى واليسرى، وليس أحدهما بأولى من الآخر. وجه الأولى: ما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أشعر

مسألة التقليد مسنون في الغنم

بدنته من الجانب الأيمن. ولأن التيامن مستحب في كثير من الأشياء. ووجه الثانية: ما روى أبو بكر النجاد بإسناده عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا أهدى هدياً من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة؛ فقلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، [وهو] موجه إلى القبلة، يقلده نعلين، ويشعره من الشق الأيسر، ثم يُساق معه حتى يُوقف به مع الناس بعرفة. والجواب: أن ما روينا عن النبي أولى من فعل ابن عمر. واحتج بأن هذه ملاقاة النجاسة، فكان اليسار به أولى. والجواب: أنه يبطل بالذبح؛ فإنه يستحب باليد اليسار، وهو ملاقاة نجاسة. * ... * ... * 232 - مسألة التقليد مسنون في الغنم: نص عليه في رواية حنبل، وابن منصور، وابن إبراهيم:

فقال في رواية حنبل: تُقلد الغنم. فقيل له: فتُشعر؟ فقال: ما سمعنا أن الغنم تشعر، ولكن الإبل والبقر. وقال في رواية ابن منصور: وقد سئل: تقلد الشاة؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلّم أهدي غنماً فقلدها. وقال في رواية ابن إبراهيم: وقد سئل عن الغنم إذا قُلدت، يذهب بها إلى عرفة؟ فقال: إن شاء ذهب بها، وإن شاء لم يذهب. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: التقليد ليس بمسنون. دليلنا: ما روى حنبل بإسناده عن عائشة قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغنم بيدي هاتين، ثم لا نحتنب شيئاً مما يجتنبه المحرم. فإن قيل: ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرها بذلك. قيل له: هذا لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلّم.

وروى أبو داود بإسناده عن الأسود، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهدى غنماً، مُقلدة. فإن قيل: يحتمل أن تكون قُلدت للحفظ، وهذه عادة جارية في الغنم. قيل له: لا يصح؛ لأنه نقل تقليد معلق بالهدي، فلو كان القصد به الحفظ، لم يختص به الهدي. وعلى أن نستحب ذلك لما فيه من زيادة الحظ للهدايا. فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا في أول الأمر، ثم نُسخ، وقد روي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أهدي غنماً مُقلدة مرة. وروي عن الزهري وعطاء: أن ذلك كان في صدر الإسلام. قيل له: النسخ يحتاج إلى توقيف، وليس هاهنا ما يدل عليه. وعلى أن حنبل روى بإسناده عن عطاء قال: كانت الغنم تدم مكة مقلدة. وفي لفظ آخر: رأيت الغنم تُقلد، وإنها لتعرفه. وروى عن عبيد الله بن أبي زيد قال: رأيت الغنم تقدم مكة مقلدة. وروي عن هشام، عن أبي جعفر قال: رأيت الكباش تقلد.

وهذا الانتشار عنهم يمنع النسخ. فإن قيل: هذا يدل على جواز فعله، وأن فاعله لا يُنكر عليه، ونحن نقول هذا، وخلافنا هل هو مسنون، أم لا؟ وليس في ذلك ما يدل عليه. قيل له: لا يجوز أن يجتمعون على مثل هذا إلا ويكون قربة؛ لأنه في معنى التلاعب، ولو شد الخيط على رجلها كام مباحاً، ولم يفعلوا ذلك حيث لم يكن فيه قربة. ولأنه نوع هدي من النعم، فوجب أن يُستحب تقليده. أصله: الإبل والبقر. يبين صحة هذا: أن الإبل والبقر إنما قُلدت؛ لئلا تنفر، فتختلط بغيرها، فتتميز بذلك، وهذا في الغنم أولى؛ لأنها أكثر نفوراً من الإبل؛ لأن الإبل تقاد بأزمتها، والغنم مخلاة. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2]، فعطف القلائد على الهدي، وقد ثبت أن البدن مراده بقوله: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}، فيجب أن يكون الهدي غير القلائد؛ لأن الشيء يعطف على غيره، ولا يعطف على نفسه، فلو كان من سنة الغنم التقليد، لكان قد عطف القلائد على نفسه، وإذا ثبت أنها غير القلائد، وقد جعل الله -تعالى- من صفتها أن تكون مقلدة، ولم يجعل ذلك من صفة الهدي، عُلم أنها لا تُقلد. والجواب: أن الله -تعالى- ذكر الهدي وأراد به الإبل والغنم إذا

كانت مقلدة، ولا يمتنع أن يكون المراد بالثاني الأول، ويعطف عليه لاختلاف اللفظ، كما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. وقال الشاعر: فألفى قولها كذباً ومينا والمين هو الكذب. وعلى أن [....]. قال: القلائد في رقاب البهائم [....]. واحتج بأن الناس كانوا يهدون الغنم في زمان النبي صلى الله عليه وسلّمكما كانوا يهدون الإبل، فلو كان تقليد الغنم ثابتاً، لورد النقل به، ورووه كتقليد البدن، فلما لم يرد النقل به متواتراً عُلم أنه غير ثابت. والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يهدي الإبل أكثر من هدي الغنم، فلهذا كان النقل في الإبل أظهر وأشهر. * ... * ... *

مسألة ليس من شرط الهدي أن يوقف بعرفة، ولا الجمع بين الحل والحرم، فإذا اشتراه في الحرم، ونحره في الحرم، ولم يعرف به، أجزأه

233 - مسألة ليس من شرط الهدي أن يُوقف بعرفة، ولا الجمع بين الحل والحرم، فإذا اشتراه في الحرم، ونحره في الحرم، ولم يُعرف به، أجزأه: نص عليه في رواية أبي طالب في الغنم والبدن: إن لم يذهب بها؛ يعني: إلى عرفة، وليس عليه شيء، قول عائشة للأسود: إن شئت وقفت، وإن شئت لم تقف. وكذلك نقل إسحاق بن إبراهيم. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: إذا كان محرماً بالحج؛ فإنها تساق من الحل إلى الحرم، وتوقف بعرفة، فإن لم يقفها بعرفة إلا أنه جمع بين الحل والحرم، أجزأه. فالاعتبار عنده بالجمع بين الحل والحرم. دليلنا: أن الهدي مشتق من الهدية، والهدية ما أُهدي، فإذا أهداه من ملكه إلى منحره، فقد أهدى. ويبين هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة" إلى قوله: "كالمهدي بيضة"، فدل على أن هذا اسم لغوي وشرعي.

ولأن النحر قد وُجد في الحرم بسبب الإحرام، فأجزأه، كما لو ساقه من الحل إلى الحرم، ونحره فيه. واحتج المخالف بما روى عطاء قال: عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالبدن الذي كان أهداها. والجواب: أن هذا محمول على طريق الاستحباب، ونحن نستحب ذلك لتراها الناس. واحتج بما روى نافع، عن ابن عمر: أنه كان يقول: الهدي ما قُلد، وأشعر، ووقف بعرفة. وفي لفظ آخر عنه: من اشترى يوم النحر ناقة، أو بدنة، لم يقفها بعرفة، فإنما هي ضحية. وروى إبراهيم، عن الأسود: أنه أرسل إلى عائشة يسألها: أنعرف بالبدنة؟ قالت: نعم. وعن ابن الحنيفة قال: عرفوا بها. والجواب: أن أبا بكر النجاد روى أيضاً بإسناده عن الأسود قال: أرسلنا إلى عائشة غلاماً لنا يُقال له: معبد، فقال: معنا هدي، فقالت: ما استطعتم أن تعرفوا فعرفوا، وما لم تستطيعوا فدعوه. وروى عن ابن الزبير: أنه اشترى عشرة من البدن، فأصابتها صاعقة

مسألة أي موضع نحر من الحرم أجزأه

بعرفات، فاحترقن، فاشترى مكانها بمنى حتى نحرهن. وهذا يعارض ما رووه. واحتج بأنه لم يجمع فيه بين الحل والحرم، فلم يجز، كما لو نحره في الحل. والجواب: أن الحل ليس بمحل تحلله، فلهذا لم يكن محلاً لنحره، وهذا بخلافه. واحتج بأن الإحرام شرطه الجمع بين الحل والحرم، كذلك الهدي. والجواب: أنا نقول: لم كان كذلك؟ على أنه لما كان إلحاقه بالإحرام أولى من إلحاقه بالطواف والسعي والرمي، وجميع ذلك ليس من شرطه الجمع بين الحل والحرم؟! * ... * ... * 234 - مسألة أي موضع نحر من الحرم أجزأه: نص عليه في رواية ابن القاسم: وذُكر له قول مالك: إذا لم يقف بها نُحرت بمكة، فقال: مكة ومنى، وأخذ ابن عباس يقول: نُزهت مكة عن الدماء. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يُنحر في الحج إلا بمنى، ولا في عمرة إلا بمكة. دليلنا: حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "فجاج مكة كلها

طريق ومنحَر". وقوله: "فجاج مكة"، لم يرد نفس بنيان مكة، وإنما أراد به الحرم، والفج الطريق، فقد أخبر أن فجاجها منحر، فدخل فيه جملة الحرم. ولأنه نحر في الحرم، فأجزأه، كما لو نحر بمكة، أو بمنى. فإن قيل: مكة بقعة شريفة، ولهذا تختص بالنُّسك، فجاز أن تختص بالنحر. قيل: ليس في النحر تشريف لها، بل تنجيس. واحتج المخالف بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 33]. وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وظاهر هذا: أنه لا يجوز نحره في غيره. والجواب: أن هذا لا يمنع جواز الذبح في غير مكة، كما لم يمنع عنده جواز ذلك بمنى. واحتج بما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "عرفة كلها موقف، ومُزدلفة كلها موقف، ومنى وفجاج مكة كلها طريق ومنحر". فخض مكة ومنى بالنحر، فدل على أنه لا يجوز النحر في غيرهما. والجواب: أن تخصيصها بالذكر لا يمنع غيرهما، كما خص الأشياء

مسألة يجوز أن يشترك السبعة في البدنة والبقرة سواء كان هديهم تطوعا، أو واجبا، سواء اتفقت جهات قربهم، أو اختلفت، وكذلك إن كان بعضهم متطوعا، وبعضهم عن واجب، وكان بعضهم يريد اللحم، وبعضهم متقربا

الستة بتحريم الربا، ولم يدل على أن غيرها ليس في حكمها. على أنه قد جعلناه حجة لنا. واجتج بأن مكة مخصوصة بالبيت وبالطواف، ومنى خصت بالرمي والمبيت بها لبقاء االنسك، وليس هذه المزية لغيرهما من الحرم، فجاز أن يختصا بالذبح. والجواب: أن تخصيصها بهذه الأفعال فضيلة، وليس في تخصيصها بالذبح فضيلة لما ذكرنا، وهو أنه تلويث مكان شريف بالنجاسة، ولهذا روى عطاء، عن ابن عباس قال: المنحر بمكة، ولكنها نُزهت عن الدماء. فإن قيل: فلم استحببتم النحر بها. قيل: ليكون اللحم غضاً طرياً لأهلها، وإذا ذبح خارجاً منها في بعض الحرم ربما فات ذلك. * ... * ... * 235 - مسألة يجوز أن يشترك السبعة في البدنة والبقرة سواء كان هديهم تطوعاً، أو واجباً، سواء اتفقت جهات قربهم، أو اختلفت، وكذلك إن كان بعضهم متطوعاً، وبعضهم عن واجب، وكان بعضهم يريد اللحم، وبعضهم متقرباً: نص على هذا في رواية حنبل: لا بأس أن يشرك القوم في البقرة

عن سبعة أهل البيت وغيرهم، وذكر حديث جابر: كنا نذبح البقرة عن سبعة. وقال في رواية مهنا في سبعة اشتركوا، فقال أحدهم: أريد حصتي لحماً، لا أريد أضحية، وقال الستة: هي عنا جميعاً، فنحروها على هذه الحال: تجزئهم، وإن كانوا سبعة، فقال ستة: نريد حصتنا لحماً، وقال الواحد: بل هي أضحية، فنحروها على هذه الحال: تجزئ الواحد، ولا تكون أضحية وفرضاً للستة. وقال في رواية حرب في ثلاثة اشتروا بقرة، فذبحوها على أنهم إن جاءهم شركاء شاركوهم بعد الذبح، فجاءهم قوم، فشاركوهم في ذلك اللحم: أجزأ عنهم. وقال في رواية ابن القاسم في جماعة اشتروا بدنة؛ لينحروها عنهم، وهم يظنون أنهم سبعة، فإذا هم ثمانية: يشترون شاة أخرى، فتكون البدنة والشاة عندهم، ويجوز إن شاء الله. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن كانوا مُتقربين صح الاشتراك، وإن كان

بعضهم متقرب، وبعضهم يريد اللحم، لم يصح. وقال مالك: إن كانوا متطوعين صح الاشتراك، وإن كان عليهم هدي واجب لم يصح. فالدلالة على مالك بما روى عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده عن أبي هريرة قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن من اعتمر من نسائه في حجة الوداع البقرة بينهن. فإن قيل: نحن نقول بموجبه؛ لأنهن كن أهل بيت واحد، وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلّم. قيل: لو لم يجز في حق أهل أبيات، لم يجز في حق أهل بيت، كالشاة. وروى بإسناده عن جابر قال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج، فكنا ننحر البدنة عن سبعة. وفي لفظ آخر: كنا نذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها. فإن قيل: لو لم يجز لانتقلوا إلى الصيام. ولأن كل بدنة جاز أن يخرجها الواحد، جاز أن يخرجها الجماعة عن تلك الجهة.

دليله: إذا كانوا متطوعين. وكل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانوا متطوعين، جاز أن يشتركوا فيه إذا كانوا مفترضين، كالسبع من الغنم. وإن شئت قلت: ما جاز أن يشترك فيه أهل بيت واحد، جاز أن يشترك فيه أهل أبيات. دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف بما روي عن ابن عباس: أنه قال: ما كنت أرى دماً يقضي عن أكثر من واحد. وعن ابن عمر: أنه قال: لا اشترك في شيء من النسك. والجواب: أنه يعارضه ما روى مسلم عن رجل، عن علي بن أبي طالب قال: البقرة تُجزئ عن سبعة يضحون بها. وهذا يعارض قولهم. على أن هذا محمول على منع الاشتراك في الشاة، فنجمع بين أقاويلهم. واحتج بأن الاشتراك في الدم يوجب أن يكون لكل واحد قسط من اللحم، وذلك يوجب القسمة، وهي بيع.

والجواب: أن القسمة عندنا إفراز الحقوق، وتعديل الأنصبة، وليستع ببيع. واحتج بأنه حيوان يجزئ في الهدي، فلا يصح الاشتراك فيه، كالشاة. والجواب: أن الشاة لما لم يصح الاشتراك في التطوع فيها، لهذا لم يصح في الواجب، كالسبعة من الغنم. واحتج بأنه حصل مخرجاً لبعض بدنة، فلم يجزئه، كما لو اشترى لحماً. والجواب: أن القربة تحصل بإراقة الدم، وبشراء اللحم لا يوجد هذا المعنى. يبين صحة هذا: أنه في التطوع لو اشترى لحماً لم تحصل له القربة، ولو أخرج جزءاً من بدنة على وجه الشركة حصلت له القربة، كذلك هاهنا. واحتج بأنه اشتراك في دم واجب، أشبه اشتراك العشرة في البدنة. والجواب: أن تلك الشركة لا تصح في التطوع، فلهذا لم تصح في الواجب. واحتج بأنه إزالة ملك عن حيوان على وجه الحتم والوجوب، فلم يصح الاشتراك فيه. دليله: كفارة العتق في القتل والظهار.

ولأنه حيوان وجب عن جناية لحق عبادة، فلم يجزئ الواحد منه عن سبعة. دليله: الواطئ في رمضان. والجواب: أن الفرض هناك لا يسقط بأقل من رقبة، فلهذا لم يصح الاشتراك فيها، فمثال الرقبة هناك الشاة هاهنا؛ فإنه يصح الاشتراك. * فصل: الدلالة على أبي حنيفة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة". فعم، ولم يخص؛ لأن كل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانوا متقربين، جاز أن يشتركوا فيه إذا كان بعضهم متقرباً، وبعضهم غير متقرب، كالسبعة من الغنم. ولأن نية كل واحد من الشركاء غير معتبرة في حق شريكه بدليل: أنه يجوز أن ينوي أحدهم عن تمتع، والآخر عن قران، ونية القران في التمتع كلا نية. فإذا كانت النية غير معتبرة في حقه، فلا فرق أن يكون الشريك متقرباً، أو غير متقرب.

واحتج المخالف بأن الدم لا يتبعض، فلا يصح أن يقع بعضه قربة، وبعضه غير قربة، كما لو كان أحدهم ذمياً. والجواب: أن الدم يتبعض عندنا، ألا ترى أنه يجوز أن يجتمع في الدم الواحد في قُرب مختلفة، فيكون بعضه عن قران، وبعضه عن تمتع، وبعضه عن جزاء صيد، وبعضه عن فدية حلق، أو لبس مخيط، أو طيب، أو ترك نسك. وإذا اختص كل سبع بقربة مخالفة للقربة الأخرى دل على أنها تتبعض. وأما المشاركة للذمي، فلا نسلمه، ويجوز على قياس قول أحمد، وإنما اختلفت الرواية عنه في ذبح الذمي ضحايا المسلمين على روايتين، فأما في المشاركة لهم، فما نعرف الرواية عنه، وقياس قوله جوازه. واحتج بأنه دم لم يقع بعضه عن القربة، فلم يقع باقيه عنها، كالمجوسي والمسلم إذا اشتركنا في الذبح. والجواب: أن ذلك الاشتراك لما أثر في سبع من الغنم، لهذا أثر في البدنة، وكان المعنى فيه: أنه يصير المذبوح ميتة، وليس كذلك في ما اختلفنا فيه؛ لأنه يصح في السبع، فصح من البدنة. * ... * ... *

مسألة لا يأكل من شيء من الهدايا إلا هدي التمتع والقران والتطوع إذا بلغ محله في أصح الروايتين

236 - مسألة لا يأكل من شيء من الهدايا إلا هدي التمتع والقران والتطوع إذا بلغ محله في أصح الروايتين: رواها أبو طالب عنه، فقال: لا يأكل من جزاء الصيد، ولا كفارة، ولا نذر، ويأكل من الهدي عن العمرة والقران والتطوع. وبهذا قال أبو حنيفة. ونقل ابن إبراهيم وابن منصور: لا يُؤكل من النذر، ولا من جزاء الصيد، ويُؤكل ما سوى ذلك. وظاهر هذا: أن ما عدا هذين الدمين يجوز الأكل منهما. وقال مالك: يأكل من الهدي كله إلا من جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونذر المساكين. وقال الشافعي: لا يأكل إلا من التطوع. فالدلالة على مالك: أنه دم تعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل، فلم يجز الأكل منه. دليله: جزاء الصيد، وفدية الأذى. ولا يلزم عليه التمتع والقران والتطوع؛ لأنه لم يتعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل؛ لأنه دم نسك عندنا على ما نبينه في ما بعد. ولا يلزم عليه إذا صال عليه الصيد، فقتله، أو كان به أذى من رأسه؛ لأن هناك، وإن لم يكن الفعل محرماً في الحال، ففي الأصل الإحرام

يحظره، فلهذا لم يُبح أكله. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَالْفَقِيرَ} [الحج: 28]. وقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]. والجواب: أن المراد بذلك: هدي القران والمتعة. ثم رتب قضاء التفث عليه بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، والهدي الذي يترتب عليه قضاء التفث هو هدي التمتع والقران، ونحن نقول: يجوز الأكل من ذلك. واحتج بأنه هدي لم يسلم للمساكين، ولا مدخل فيه للإطعام، فهو كالتطوع وهدي القران والتمتع. والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه لا يتعلق بمعنى يحظره الإحرام، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه يتعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل، أشبه ما ذكرنا. * فصل: والدلالة على الشافعي، وأنه يجوز الأكل من هدي التمتع والقران: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَالْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 28 - 29]، والهدي الذي يترتب عليه قضاء

التفث هو هدي القران والمتعة؛ لأن له أن يذبح سائر الهدايا أي وقت شاء. فإن قيل: يجوز أن يكون المراد به التطوع إذا ساقه؛ فإنه يترتب عليه الحلق، ويقدمه على الحلاق. قيل له: إلا أنه لو حلق قبل الذبح جاز، فالترتيب هناك غير واجب. فإن قيل: المراد به التطوع بدليل قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم} [الحج: 36]. قيل له: هي لنا بمعنى: استحقاقنا للثواب بها، وإن كانت علينا. فإن قيل: قوله: {فَكُلُوا} [الحج: 28] أمر، وأقل أحواله الندب، وليس بمندوب أن يأكل من الواجب. قيل له: هو مندوب إلى الأكل من دم التمتع. وأيضاً ما احتج به أحمد، ورواه أبو حفص في كتاب "المناسك" بإسناده عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلّم حج ثلاث حجج؛ حجتين قبل أن يُهاجر، معها عمرة، وساق ثلاثاً وستين بدنة، وجاء علي بتمامها من اليمن، فيها جمل لأبي جهل في أنفه بُرة من فضة، فنحرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمر من كل بدنة ببضعة، فطُبخت، وشرب من مرقها.

وبإسناده عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا أنه الحج، فلما دنونا من مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من لم يكن معه هدي، إذا طاف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة، أن يحل. قالت عائشة: فدُخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أزواجه. قال أحمد في رواية المروذي: يأكل من هدي متعته، قد أكل أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم من الهدي؛ من البقر؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم تمتعوا. وقال في رواية بكر بن محمد، عن أبيه: يأكل من هدي المتعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم ساق الهدي في حجة الوداع، وجمع بين الحج، وإن كان متمتعاً، وأكل من هديه في حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. فقد نص على أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأزواجه كانوا متمتعين، وفيه بيان أن جعفر بن محمد بن محمد ثابت الحديث [....]. وأيضاً ما روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في "سننه" قال: ذكر أبي قال: نا محمد بن علي بن الحسين بن سفيان قال: سمعت أبي يقول: أنا أبو حمزة، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،

عن علي بن أبي طالب قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهدي المتعة أن أتصدق بجلودها ولحومها سوى ما يأكل. وهذا نص. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلّم كان منفرداً، فالهدي الذي ساقه كان تطوعاً. قيل له: النبي صلى الله عليه وسلّم كان متمتعاً، وقد دللنا على ذلك في ما تقدم. وعلى أن قوله: (أمر بهدي) لا يقضي الهدي الذي كان معه خاصة، بل يقضي كل هدي؛ أن يُفعل به مثل ذلك. وأيضاً هدي التمتع والقران لم يجب بإيجابه، ولا بمعنى يحظره في الأصل، أشبه هدي التطوع. ولا تلزم عليه فدية الأذى؛ لأنه تعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل، وهو الحلق، وإن كان مباحاً في هذه الحال. ولا يلزم عليه النذر؛ لأنه وجب بإيجابه. وكل تصرف جاز في الأضحية، جاز في هدي التمتع، كالتصدق به. واحتج المخالف بأنه دم تعلق وجوبه بالإحرام، فصار كجزاء الصيد وغيره. والجواب: أن ذلك يتعلق بمعنى يحظره الإحرام في الأصل. واحتج بأنه دم واجب، فلم يجز الأكل منه.

دليله: النذر. والجواب: أن النذر إن كان على وجه الأضحية؛ فإنه يجوز الأكل منه، ذكره أبو بكر في كتاب "التفسير". ولأن النذور محمولة على أصولها في الشرع، والأضحية الشرعية يؤكل منها. وإن كان نذر مطلقاً لم يُؤكل؛ لأن النذر آكد في اللزوم، ألا ترى أنه لا ينوب الصيام عن الإطعام عنه؟ والأجود من هذا: أن دم القران والضحايا المنذورة القصد منها إراقة الجم، ولهذا يختص بزمان، وتفرقة اللحم تبع، وقد حصل المقصود، وهاهنا القصد تفرقة اللحم، ويُتوصل بالذبح إليه. واحتج بأن دم القران يجب لجبران النقص الداخل في الإحرام، أشبه دم اللابس والمتطيب والحالق. والجواب: أن القران لا يوجب نقصاً في الإحرام عندنا؛ لأنه لو أوجب نقصاً لما جاز الجمع بينهما من غير ضرورة به إليه، ألا ترى أنه ليس للمحرم أن يحلق من غير عذر؛ لأن الحلق يوجب نقصاً فيه، فلما اتفقنا على جواز القران لغير عُذر علمنا أنه لا يوجب نقصاً في الإحرام، وإذا لم يوجب نقصاً فيه الدم الواجب بالقران دم نسك. فإن قيل: قد قال أحمد في رواية الأثرم في من أخذ حجة عن

مسألة إذا أوجبت بدنة، جاز بيعها، وعليه بدنة مكانها، فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن، أو شعر، أو ولدت، كان عليه مثلها زائدة، ومثل ولدها، ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد، لم يكن عليه شيء في الزيادة

ميت، فتمتع، أو قرن: فالدم عليه دون الميت. وهذا يدل على أنه دم جبران. قيل له: أحمد لم يوجب الدم على الحاج؛ لأنه دم جبران، لكن لأجل أنه خالف ما أُمر به. فإن قيل: فكان يجب أن يغرم النفقة -أيضاً- لمخالفة الأمر. قيل له: إنما [لم] يغرم النفقة؛ لأنه قد حصل له ما أمره به وزيادة، فلهذا لم يغرم النفقة. * ... * ... * 237 - مسألة إذا أوجبت بدنة، جاز بيعها، وعليه بدنة مكانها، فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن، أو شعر، أو ولدت، كان عليه مثلها زائدة، ومثل ولدها، ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد، لم يكن عليه شيء في الزيادة: ذكره الخرقي في "مختصره" فقال: ويجوز أن يُبدل إذا أوجبها بخير منها. وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتري الأضحية، فيسميها للأضحى؛ يبدلها بما هو خير منها؟ يبيعها؟ قال: نعم. وقد أطلق القول في رواية صالح وابن منصور وعبد الله: يجوز أن

يُبدِّل الأضحية بما هو خير منها. ورأيت في "مسائل الفضل بن زياد": إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحى بها. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: قد زال ملكه، فلا يجوز بيعه. دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلّم ساق الهدي لينحرها عن التمتع، فلما أُحصر صرفها إلى الإحصار، ثم أبدلها في العام القابل، فلو كانت قد خرجت عن ملكه بالإيجاب لما تصرف فيها بعد ما أوجبها لغيره. فإن قيل: من أين لكم: أنه قد أوجبها؟ قيل له: لو لم يكن أوجبها لما كانت الثانية بدلاً. ولأنه جعله هدياً، فجاز بيعه، كما لو ساقه متطوعاً، وكما لو أهدى داراً، أو ثوباً. فإن قيل: هناك لم يزل ملكه عنه إذا كان تطوعاً، وهاهنا قد زال. قيل: لا نسلم لك هذا. فإن قيل: الدار والثوب إذا جعلهما هدياً يجب بيعها، وهاهنا لا يجب. قيل له: ليس إذا لم يجب لم يجز، كما لو عطب، وكالمال الذي

وجبت فيه الزكاة. ولأنه حق لله -تعالى- تعلق بالرقة، فإذا لم يتم، لم يوجب زوال ملكه. دليله: أنه لو نذر أن يتصدق بهذه الدراهم. ولا يلزم عليه إذا استولد أُمَّه، أو نذر أن يعتق عبداً؛ أنه لا يجوز بيعه؛ لأن الحق هناك لآدمي، فهو كالرهن. ولأن النذور محمولة على أصولها في الفروض، وفي الفروض أن الحق إذا تعلق بعين المال، جاز إخراج بدله بدلالة الزكاة، كذلك هاهنا. ولأنها لو عطبت في الطريق، جاز بيعها، فلو كان ملكه زال عنها بالإيجاب، لما عادت إليه بالهلاك. فإن قيل: لا يمنع أن يزول ملكه، ويعود إليه بالهلاك، كما لا يمتنع أن يتعلق بها الحق، ثم يسقط بالهلاك. قيل له: قد وجدنا حقاً تعلق بالعين، ويبطل الحق المتعلق بها، ولم نجد شيئاً يخرج عن ملكه، ثم يعود إليه بالهلاك، وكان يجب أن نقول: يسقط بهلاكه على ملك الفقراء؛ لأنه على ملكهم. واحتج المخالف بما روى سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، [عن] عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله! إني أهديت نجيباً، وأُعطيت به

ثلاث مئة دينار، فأبيعه، وأشتري مكانه بُدناً؟ قال: "لا، انحره". ومعلوم أن النجيب يُقصد به الركوب، ولحم البدن أنفع للمساكين منه، ومع هذا أمره -عليه السلام- بنحره. والجواب: أنا نكره له فسخ المتعين، وإقامة غيره مقامه، فمنعه -عليه السلام- من ذلك لأجل الكراهية. ولأنه سأله عن بيعها من غير أن يقيم غيرها مقامها، وذلك لا يجوز عندنا. واحتج بأنها عين نذر إخراجها في حق الله تعالى، فإذا لزم النذر، لم يجز البيع، كما لو قال: لله علي أن أعتق هذا العبد. ولأنه حق إذا تعلق بالعين سرى إلى الولد، فوجب أن يمنع جواز البيع، كإحبال الأمة. والجواب: أن الاستيلاد لا يوجب خروج الأمة عن ملكه، فيجب أن لا يزول ملكه هاهنا. على أن الاستيلاد، والنذر لعتق عبد بعينه، إنما منع من التملك لما يتعلق به حق العتاق، وهو حق لآدمي، فهو كالراهن، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه حق لله -تعالى- تعلق بالرقبة، فإذا لم يتم، لم يمنع

مسألة إذا نذر هديا، لزمه شاة، فإن أخرج جزورا أو بقرة كان أفضل، ولا يجزئ فيه إلا ما يجزئ في الأضحية

البيع، كما لو نذر أن يتصدق بمال بعينه، وكالزكاة إذا تعلقت بالمال، جاز الإخراج من غيره. وإن قاسوا عليها إذا أعتق العبد، ثم أراد بيعه، لم يجز؛ لأن الإتلاف قد حصل هناك بالعتق، فهو كالذبح. وإن شئت قلت: المعنى هناك: أنه نحر الفدية، وهاهنا لم ينحرها. واحتج بأنه لو أتلفها عقيب العقد ضمنه، فدل على زوال ملكه؛ لأنه يسري إلى ولدها. والجواب: أن الراهن إذا أتلف الرهن ضمنه، وإن كان ملكه باقياً، والمكاتبة يتبعها ولدها، وإن كان ملك السيد باقياً عليها. * ... * ... * 238 - مسألة إذا نذر هدياً، لزمه شاة، فإن أخرج جزوراً أو بقرة كان أفضل، ولا يُجزئ فيه إلا ما يُجزئ في الأضحية: وهو قول أبي حنيفة، والشافعي في الجديد. وقال في القديم، و"الإملاء": يجب ماله قيمة من بيضة، أو لقمة، أو كف من طعام. وهل يختص بمساكين الحرم؟ فيه وجهان. دليلنا: أن النذور محمولة على أصولها بالفروض، وقد ذكر الله -تعالى- الهدي في مواضع، والمراد بجميعها الحيوان، كذلك النذور.

مسألة إذا قال: لله علي أن أهدي بدنة، فإن نوى بها شيئا، فهو ما نوى، وإن لم تكن له نية، فهو مخير بين الجزور وبين البقرة في إحدى الروايتين

وقد روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل عن الهدي، فقال: "أدناه شاة". ولأنه حق وجب بلفظ الهدي المطلق، فلا يجزئ فيه أقل من شاة، كهدي المتعة والإحصار. واحتج المخالف بقوله صلى الله عليه وسلّم: "المبكر [إلى] الجمعة، كالمهدي بدنة" إلى أن قال: "ثم كالمهدي بيضة". والجواب: أن هذا هدي مقيَّد، ومثله يجزئ في النذر؛ لأنه لو قال: لله علي أن أهدي بيضة، أجزأه إذا أطلق. * ... * ... * 239 - مسألة إذا قال: لله عليَّ أن أهدي بدنة، فإن نوى بها شيئاً، فهو ما نوى، وإن لم تكن له نية، فهو مُخير بين الجزور وبين البقرة في إحدى الروايتين: قال في رواية حنبل: العشر من الغنم تجزئ مكان الجزور؛ إذا

كان عليه بدنة، فنحر عشرة من الغنم، أو في ذلك عنه، إن شاء الله. وبهذا قال أبو حنيفة. وفيه رواية أخرى: عليه جزور، فإن لم يقدر أخرج بقرة. وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب، فقال: إذا كان عليه جزاء أو نذر بدنة، فلم يجد بدنة، جعل مكانها سبعة من الغنم. فأجاز العدول عن الجزور إذا لم يجد. وهو قول الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو مُخير. وجه الأولى: ما روى ابن الزبير، عن جابر قال: اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في الحج والعمرة؛ كل سبعة في بدنة، فقال رجل: أرأيت البقرة أيُشترك فيها كما يُشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن. فإذا ثبت أن البقرة من البدن، وجب أن يكون مُخيراً بينها وبين الجزور. وروى الأثرم بإسناده عن جابر قال: كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم تذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها. ولأنها تجزئ في الهدي والأضحية عن سبعة، كما تجزئ

الجزور، وكما جاز أن يهدي الجزور كذلك البقرة. واحتج المخالف بأن اسم البدنة يختص الجزور، ألا ترى أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أنه جعل البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. ففصل بين البدنة وبين البقرة في الاسم. وروي -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة". ففصل بين البدنة وبين البقرة. فإذا ثبت أنه يختص الجزور، والبقرة تقوم مقامه، لم يجز العدول عن الأصل إلا في حالة عدمه. والجواب: أنا قد بينا: أن النبي صلى الله عليه وسلّم سماها بدنة بقوله: ما هي إلا من البُدن. وعلى أنا نسلم أن اسم البدن يتناول الإبل حقيقة في اللغة، وإنما الكلام بيننا وبينكم في الحكم، وهو أن الموضع الذي تدخل فيه البدنة؛ هل تقوم البقرة مقامها، أم لا؟ وقد دللنا على أنها تقوم مقامها. * ... * ... *

مسألة إذا أوجبت هديا، أو أضحية معينة، ثم أصابها عور، أجزأت عنه

240 - مسألة إذا أوجبت هدياً، أو أضحية معينة، ثم أصابها عور، أجزأت عنه: نص عليه في رواية صالح في من اشترى أضحية، فاعورت، أو عجفت: يذبحها، ويجزئه. وكذلك نقل إبراهيم بن الحارث في من اشترى أضحية سوية؛ ليضحي لها، فأصابها عيب عنده، فسهل في ذلك. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجزئ إلا أن يكون حدوثه حال الذبح مثل أن تضطرب، فتنكسر رجلها، أو تصيب السكين عينها، فتعور، فتجزئه. دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري قال: قلت يا رسول الله! إني أوجبت على نفسي أضحية، وإنه أصابها عوار، فقال: "ضح بها". فإن قيل: يحتمل أن يكون أراد به: ضح بها، ويكون تطوعاً؛ لا أنها أضحية شرعية. قيل له: ظاهر قوله: "ضح بها" يقتضي أن تكون أضحية شرعية؛ لأنه عن هذا سُئل. ولأنه نقص حدث بعد الوجوب، فلم يؤثر في جهة القربة، كما لو حصل النقص حال الذبح بأن انفلتت السكين، فأصابها عوار، أو غيره. فإن قيل: القياس أن لا يجوز إلا أنهم استحسنوا ذلك.

قيل له: المعنى الذي لأجله تركت القياس هناك موجود هاهنا. فإن قيل: في حال معالجة الذبح لا تخلو من عيب يصيبها؛ لأنها تضطرب، فلهذا لم نعتبر استشرافها في تلك الحال، وهذا المعنى معدوم قبل تلك الحال. قيل له: ليس الأمر على هذا، بل الغالب من المذبوح: أنه يسلم من عوار يلحقه في معالجة الذبح. ولأنه يمكنه الاحتراز من ذلك بأن يشد قوائمها ويربطها. وعلى أن هذا يبطل بموتها حال الذبح بالخنق والقطع؛ فإنه لا يمكن التحرز منه، ومع هذا فلا يعفى عنه. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "استشرفوا العين والأذن". وروي أنه نهى عن العوراء البيت عورها، والعرجاء البين ظلعها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تُنقي. فنهى عن العور، ولم يخص حالاً دون حال. والجواب: أن هذا محمول عليه إذا كان موجوداً قبل الإيجاب. واحتج بأن القربة تُستوفى بالذبح؛ لأنها لو هلكت قبل بالذبح وجبت أخرى مكانها، ولو هلكت بعد الذبح لم يجب شيء، فلو كان

الاعتبار بحال الإيجاب لوجب إذا عطبت أو سُرقت قبل الذبح أن لا يجب عليه شيء. وإذا صح أن الاعتبار بالذبح وجب أن تُراعى صحة أعضائها في حال الذبح، فإذا كان في أعضائها نقص في تلك الحال لم تجزئه، وإن كانت سليمة الأعضاء أجزأت. قالوا: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا هلك قبل أن يبلغ الحرم، فإن كان تطوعاً فليس عليه بدل، وإن كان هدي متعة والصيد والكفارات فعليه البدل. ونقل عنه في موضع آخر في البدنة تهلك قبل أن تبلغ الحرم: فإذا كانت نذراً أو جزءاً صيد أبدلهما، ويأكل، وإن شاء باع، وإن كان تطوعاً لم يأكل. والجواب: أن هذا باطل بحال الذبح؛ فإنها لو هلكت في تلك الحال وجب أخرى مكانها، ولو عابت لم يمنع الإجزاء. ثم نقول: إذا عين أضحية بالنذر، فعطبت قبل الذبح، لم تلزمه أخرى مكانها. نص عليه في رواية حنبل، فقال في الهدي إذا عطب في الحرم: فقد أجزأ عنه إلا ما كان من التمتع، فأما ما كان من نذره، أو تطوع؛ فإنه يُجزئ عنه. وكذلك نقل علي بن سعيد في رجل اشترى أضحية، فهلكت:

ليس عليه بدلها، فإن اشترى أخرى، ثم وجد الأولى يذبحهما جميعاً على الحديث. فإن قيل: فما معنى قول الخرقي: ولو أوجبها ناقصة وجب عليه ذبحها، ولم تجزه. قيل له: معناه: لم تجزه عن الشرعية، ولم يرد أن عليه بدلها. واحتج بأن حدوث العور قبل حال الذبح يمنع الإجزاء، كما لو كان قبل الإيجاب. والجواب: أن المعنى هناك: أن العيب كان قبل الإيجاب، وهاهنا حدث بعده، فهو كما لو حدث في حال الذبح. واحتج بأن الأضحية على ضربين: واجبة، ومسنونة. وقد ثبت بأنه لو أفرد شاة، ونوى أن يضحي بها تطوعاً، ثم حدث بها نقص قبل الذبح، فإذا حدث النقص قبل حال القربة منع الإجزاء، والتقرب في الأضحية الواجبة حال الإيجاب، وإذا حدث النقص بعده لم يؤثر. واحتج بأنه لو ثبت في ذمته هدي، فعينه في حيوان، فعاب،

مسألة فإن فقأ رجل عين الهدي تصدق بالأرش

فإنه لا يجزئه، كذلك ما كان معيناً حال الإيجاب. وقد قال في رواية أبي داود: من ساق الهدي من جزاء، أو قران، أو واجب، فعطب، أو مات، فعليه البدل. والجواب: أن الواجب هناك حصل ابتداء في معين، وهاهنا حصل ابتداء في غير معين، وفرق بينهما بدليل: أنه لو قال: لله علي أن أعتق هذا العبد، فعاب عبده، أعتقه، وأجزأه، ولو وجب في ذمته عتق رقبة عن كفارة، فعين رقبة ليعتقها، فعابت لم تجزه، كذلك هاهنا. * ... * ... * 241 - مسألة فإن فقأ رجل عين الهدي تصدق بالأرش: وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يأخذ النقصان ويبيعه؛ ليشتري بالثمن وبالأرش هدياً صحيحاً. دليلنا: أن المسألة مبنية على أن حدوث العور بعد الإيجاب لا يخرجه من كونه هدياً. وذهب المخالف إلى أنه قد خرج بالعور من أن يكون هدياً، وقد تعلق به الإيجاب، ولا يمكن ذبحه، وجب أن يبدل بثمنه وأرشه هدياً مكانه.

مسألة إذا قال: (لله علي أن أتصدق بفدية) ولم ينو شيئا، ولم ينحرها إلا في الحرم

242 - مسألة إذا قال: (لله علي أن أتصدق بفدية) ولم ينوِ شيئاً، ولم ينحرها إلا في الحرم: وقال أبو حنيفة: ينحرها حيث شاء. وى خلف أنه لو قل: لله علي أن أتصدق بجزور؛ أن له نحره حيث شاء، و [لو] قال: أهدي بدنة، أو جزوراً؛ أنه يختص نحره بالحرم. فالدلالة على المسألة الأولى: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] إلى قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ} [الحج: 33]، وذلك عام في البدن كلها سواء كانت هدياً، أو غيرها. فإن قيل: البدن المذكور في هذه الآية هي بدن القران والمتعة بدليل قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]، وليس له أن يأكل من النذر. ثم قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، والبدن التي ترتب عليها هذه الأفعال هي التي للقران والمتعة. قيل له: قوله {وَالْبُدْنَ} عام، وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} تخصيص بعض ما شمله الاسم، وذلك لا يوجب تخصيص أوله. واحتج المخالف بأن البدنة اسم للبقرة، أو الجزور، وسُميت بذلك لأجل البدانة، وهي الجُثة، وليس في ذكرها ما يوجب إراقة دمها

مسألة فإن غصب شاة، فذبحها لمتعته، أو قرانه، ثم أجازه مالكها، أو ضمنها، لم يجز

في الحرم، وفي مكان دون مكان، فهو كقوله: على جزور أو بقرة. وليس كذلك قوله: علي هدي؛ لأن نفس اللفظ يقتضي إهداء إلى موضع، فلهذا اقتضى الحرم؛ لأن الموضع الذي يُهدى إليه هو الحرم، كأنه قال: لله علي أن أهدي إلى الحرم. والجواب: أن نفس اللفظ في قوله: (علي جزور أو بقرة) لا يقتضي اختصاص الموضع، وليس كذلك في قوله: بدنة؛ لأن نفس اللفظ يقتضي اختصاصاً بموضع بدليل ما ذكرنا من قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} [الحج: 36] إلى قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِالْعَتِيقِ} [الحج: 33]. * ... * ... * 243 - مسألة فإن غصب شاة، فذبحها لمتعته، أو قرانه، ثم أجازه مالكها، أو ضمنها، لم يجز: وقال أبو حنيفة: تجزئ. دليلنا: أن ذلك الذبح لم تتعلق به قربة في الابتداء، فلا يصير قربة في الثاني، كما لو ذبح شاة لا ينوي بها هدياً، ولا أضحية، ثم نوى بها في الثاني؛ أنها لا تجزئه عما نوى. وكذلك لو أعتق عبداً لا ينوي به كفارة، ثم نوى عن الكفارة؛ أنها لا تجزئه.

مسألة إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فعليه حجة الإسلام، ولا يعتد بما كان فعله

واحتج المخالف بأنه لما غصبها تعلق عليه الضمان، فإذا ضمن قيمتها بعد الذبح يملكها من وقت الغصب، فصارت كأنها ملك له من ذلك الوقت، فتجزئ عنه، ألا ترى أنه لو غضب عبداً، فباعه، ثم ضمن قيمته؛ أنه يجوز لهذه العل؟ ولو التقط لُقطة، فعرفها حولاً، ثم تصدق بها، فجاء صاحبها، واختار تضمين الملتقط؛ أنه يجزئ عنه، ويصير كأنه تصدق بملك نفسه، كذلك هاهنا. والجواب: أنا لا نقول: إنه يملكها من وقت الغصب بالضمان، ولهذا نقول: إنه إذا ضمن قيمة العبد الآبق لم يملكه الغاصب، ولو باعه لم يصح بيعه. وأما اللقطة إذا تصدق بها، فإنما صحت صدقته؛ لأنه مأذون له فيها حين التصدق؛ لأنه مخير بين التملك والصدقة، والقربة حاصلة حين الفعل، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه غير مأذون له حين الذبح، فالقربة غير حاصلة. * ... * ... * 244 - مسألة إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فعليه حجة الإسلام، ولا يُعتد بما كان فعله: نص عليه في رواية ابن منصور.

وهو قول أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا حج عليه. دليلنا: أن هذه الحجة سُميت في الشريعة حجة الإسلام، وعُلقت به، وقد تجدد له إسلام، فتجب له حجة. ولأنها توبة من كفر، فوجب أن يلزم بعدها حجة بوجود شرائطها. دليله: الكافر الأصلي. ولأنها عبادة يجوز أن تلزم في الإسلام الأول، فجاز أن تلزم في الإسلام الثاني بعد أدائها في الأول، كالصوم والصلاة والزكاة. فإن قيل: تلك العبادات تتكرر في الإسلام الواحد، وهذه لا تتكرر. قيل: الشهادة لا تتكرر في إسلام واحد، وتجب في الإسلام الثاني. ولأنها عبادة لا تفعل في العمر مع استمرار الإسلام إلا مرة، فوجب إعادتها بعد الرِّدَّة، كالإيمان. فإن قيل: لا يُعلم إيمانه إلا بالشهادتين، وليس كذلك الحج؛ لأنه لا يُعلم إيمانه به. قيل له: الإسلام الأول لا يُعلم به إيمانه، ومع هذا يجب عليه الحج، كذلك في الإسلام الثاني. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]. والجواب: أن هذا في الرِّبا؛ من أسلم فله ما قبض منه، ويسقط

ما لم يقبض، روي ذلك عن السدي وغيره، وأول الآية شاهد على ذلك. واحتج بما روي عن الأقرع بن حابس قال: الحج مرة، أو أكثر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "بل مرة". والجواب: أن الذي نقول: إن الحج المعتد به مرة، وما تقدم الردة لا يُعتد به عندنا، كالحجة التي جامع فيها. واحتج بأنه أسقط فرض حجة الإسلام، فلم تلزمه إعادتها. دليله: ما تقدم. والجواب: أنا لا نسلم: أن الفرض سقط، بل هو من أعاد عندنا؛ لأن الردة تؤثر بعد الفراغ من العبادات، كما تؤثر إذا تخللتها. ثم المعنى في الأصل: أنه لا يلزمه تجديد الإسلام، فلم تلزمه إعادة الحج، ولما كان المرتد مأموراً بفعل الإسلام لزمه الحج بعده بوجود الزاد والراحلة، كما يلزم في الإسلام الأول. واحتج بأن المسألة مبنية على أن الردة تُحبط العمل عندنا، وعندكم لم تُحبط ما مضى من عمله، فلا وجه لإيجاب حجة ثانية.

والجواب: أن ما مضى من توحيده لم يبطل، ومع هذا فيلزمه توحيد ثانٍ، كذلك في الحج.

كتاب البيوع

كتاب البيوع 245 - مسألة بيع ما لم يره المشتري ولا البائع من غير صفة غير جائز في أصح الروايتين: نص عليه في مواضع: فقال في رواية الأثرم في الرجل يبتاع هذه الجرب، ثم يبيعها لم ير ما فيها، فقال: ينبغي للذي يبيع أن يصف له، وينبغي للمشتري إذا باع أن يصف أيضًا، فإن جاء خلاف رجع واحد على واحد، فأما إذا جاءت على الصفة، فليس له أن يرد. وقد نقل الأثرم هذه المسالة في ثلاثة مواضع من الكتاب بهذا المعنى. وكذلك نقل الميموني عنه: أنه قال: البيع بيعان: بيع صفة.

وبيع شيء حاضر، فلا يبيعه حتى يراه، ويعرفه. وذلك نقل أبو طالب عنه: إذا لم يعرف صفته، ولا ذرعه، وباعه، فهو بيع مجهول فاسد، يرده له. قيل له: هو بالخيار عند النظر؟ قال: لا أقول له الخيار، ولكن إذا وصفه، فإن كان مثل صفته، جاز عليه البيع، وإن لم يكن مثل صفته رده. وكذلك نقل حرب في بيع الثوب المطوي: أكرهه إلا أن ينشر، أو يصفه، فيجده على صفته. ونقل -أيضًا- في كتاب (الورع) للمروذي في بيع الدينقي والقوهي والجرب التي فيها المتاع تباع، ولا تصف كم ذرعه، ولا يذكر وصفه: لا يجوز بيعه، كيف يبيع من غير أن يسمي ويصف؟! وبهذا قال مالك والشافعي. وفيه رواية أخرى: جواز العقد، وللمشتري الخيار إذا رآه. نص عليه في رواية حنبل في ما رواه أبو حفص العكبري في كتابه، فقال: إذا اشتراه في جرابه؛ يعني: الثياب التي في الجرب، فلم يقلب، ولم ينظر، فله خيار الرؤية إذا نشرهن إذا كان معيبا رده بعيبه، ولا يجوز بيعه حتى يقلبه، وينظر إليه، وكذلك الثوب المدرج؛ له الخيار إذا اشتراه؛ لأنه لا يعلم ما في جوفه من العوار والحدث.

فظاهر هذا جواز العقد، وإثبات الخيار عند وجود عيب، فإن لم يكن معيبًا، فلا خيار له. وقال أبو حنيفة: ما لم يره البائع، ولا المشتري، ولا وصفاه جائز، وللمشتري الخيار سواء كان المبيع معيبًا، أو لم يكن. وأما البائع، فهل يكون له الخيار؟ على روايتين، والصحيح عنه: أنه لا خيار له. فالدلالة على أن البيع باطل من أصله: ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الغرر. والغرر ما تردد بين سلامة المال وهلاكه، والغرر هاهنا موجود؛ لأنه لا يدري؛ هل هو باقٍ، أم لا؟ وإن كان باقيًا، فلا يدري؛ هل يسلم له، أم لا؟ فيجب أن يكون منهيًا عنه. ولأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد، فوجب أن يكون باطلًا. أصله: إذا قال: بعتك ثوبًا. ولا يلزم عليه إذا وصفه؛ لأنه معلوم الصفة. وكذلك لا يلزم عليه بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره، وبيع الصبرة التي لم يشاهدها باطنها؛ لأن ذلك غير مجهول الصفة؛ لأنه قد شاهد ظاهره، وذلك الظاهر داخل في جملة المبيع.

وكذلك لا يلزم عليه تراب المعدن الذي فيه تبر، وتراب الصاغة الذي فيه ذهب وفضة؛ لأنه قد شاهد التراب، وذلك داخل في جملة المبيع. ولا يلزم عليه الجهالة بمواضع العيب؛ لأنا قلنا: بيع، وهذا إشارة إلى جميعه، والجهالة هناك ببعضه، فلا يلزم نقضًا. فإن قيل: المبيع في الأصل مجهول في عينه، فأما أن يكون مجهول الصفة فلا. قيل له: ما جهلت عينه، فقد جهلت الصفات وزيادة، وقد تجهل الصفات، ولا تجهل العين. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن تلك الجهالة تمنع التسليم؛ لأن كل عبد يحضره البائع يلتمس المشتري غيره. وفي مسألتنا إذا قال: بعتك الثوب الذي في كمي، لم يتعذر التسليم؛ لأن القاضي يأمره بإخراج ما في كمه، فإن رضيه المشتري، أخذه، وإن لم يرضه رده. قيل له: الجهالة في الأصل، لا التسليم؛ لأنه يعطيه ما يقع اسم الثوب، كالوصية والإقرار، وكما لو أسلم في ثوب جيد، أعطاه ما يقع عليه الاسم، أو يعطيه ثوبًا وسطًا، كما لو تزوج على ثوب. وقياس آخر، وهو: أن الرؤية أو الصفة في بيوع الأعيان جهة يتوصل بها إلى معرفة المبيع لعدمها تأثير في العقد، وهو إبطال العقد

عندنا، وإثبات الخيار عند مخالفينا، فوجب أن يكون وجودها شرطًا فيه، كالصفة في السلم. فإن قيل: هذا باطل بالعلم بأن المبيع معيب؛ لأنه معنى يتوصل به إلى معرفة مقدار المعقود عليه، ومع هذا لا يبطل العقد. قيل له: لا يبطل؛ لأن العلم بالعيب إنما يحصل بالرؤية، أو الصفة، ونحن عللنا للرؤية في الجملة، فلا تلزم عليه الأحوال. ولأنا قلنا: (جهة يتوصل بها إلى معرفة المبيع)، وهذا إشارة إلى جميعه، ومواضع العيب بعض المبيع. فإن قيل: لو كانت الرؤية أو الصفة في الأعيان بمنزلة الوصف في السلم، لوجب أن لا يجوز تقديمها على العقد، كما لا يجوز تقديم الوصف في السلم على العقد. قيل له: إذا جاز تقديم الرؤية [على] العقد، جاز أن يتقدم الوصف، ولا فرق بنيهما، وذلك أنه لو قال: أريد أن أسلفك في كر حنطة، ووصفه بالصفات، فلما كان بعد ذلك قال: قد أسلفتك في كر حنطة على الصفات التي تقدم ذكرها، وعجل له الثمن، جاز. فإن قيل: المعنى في صفات السلم: أن جهالتها تمنع التسليم، وهذه الجهالة لا تمنع التسليم، وفرق بينهما، ألا ترى أنه لو باع صبرة مجهولة القدر جاز البيع؛ لأن جهالتها لا تمنع التسليم، ولو باع صبرة غير معينة

لم يجز العقد؛ لأن الجهالة تؤثر في التسليم. قيل له: إذا قال: بعتك أحد هذين العبدين، لا على شرط الخيار، فهذا لا يمنع التسليم، ولا يصح العقد، فكذلك إذا قال: بعتك ثوبًا، لا يمنع تسليم ما يقع عليه الاسم، ولا يصح؛ لأنه يمكنه أن يعين أحد العبدين، ويدفع ما يقع عليه اسم ثوب. وقياس آخر، وهو: أنه مبيع لم تسبق من المشتري رؤية له، ولا صفة، فلم يصح بيعه. دليله: اللبن في الضرع، والحمل في البطن، والنوى في التمر. ولا يلزم عليه تراب المعدن، وتراب الصاغة؛ لأن المبيع هناك التراب وما فيه، فهو مرئي للمشتري، فهو يجري مجرى بيع الجوز واللوز، هو مرئي للمشتري، وإن لم يشاهد باطنه؛ لأنه قد شاهد ظاهره. فإن قيل: المعنى في اللبن، وفي الحمل: أنه باع ما تضمنته خلقة الحيوان غير شائع في جميعه، فصار كبيع يده ورجله. وأما النوى في التمر، فإن تسليمها لا يمكن إلا بضرر لم يستحق بالعقد، وهو بكسر التمر. قيل له: بقاء الشيء على خلقة الأصل إذا لم يزل عنها، ولم يتغير عن صورتها، لا يوجب فساد البيع، ألا ترى أنه إذا باع تمرة على رؤوس النخل، جاز، وإن باع سعفها، أو أغصان التوت النابتة على أصولها، جاز البيع، كما يجوز بعد قطعها وتغيرها عن أصل خلقتها.

وأما حصول الضرر بانتزاع النوى من التمر، فلا يوجب فساد البيع؛ لأن النقص الذي يدخل بذلك قد رضي به، فهو كما يبيع أحد مصراعي الباب، وأحد زوجي الخف؛ فإنه يصح، وإن كان يدخل بذلك النقص في ما لا يبيعه. وقياس آخر، وهو: أن من يجيز هذا البيع أثبت فيه خيار الرؤية، وذلك خيار مجهول لم يوجبه نقص، ولا يتعلق بكل بيع، فأبل العقد المتضمن له، كما لو قال رجل لرجل: بعتك هذا الثوب على أن لي الخيار متى شئت. ولا يلزم عليه خيار الرد بالعيب؛ لأنه يوجبه نقص. ولا يلزم عليه خيار المجلس؛ لأنه يثبت في كل بيع. فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم؟ وقد قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل اشترى شيئًا، وهو فيه بالخيار، ولم يسم إلى متى: فله الخيار أبدًا، أو يأخذه. قيل له: المذهب الصحيح: أن هذا خيار باطل، وقد نقله ابن منصور عنه في موضع آخر في الرجل يبيع بشرط، ولا يسمي أجلًا: أي شيء يكون إذا سمي، فهو أحسن. فإن قيل: المعنى هناك: أن الخيار ثبت شرطًا، وهاهنا ثبت حكمًا، فلا تؤثر الجهالة فيه بدلالة الخيار الرد بالعيب، وخيار المجلس. قالوا: ويبين صحة هذا: أن الخيار، كالأجل.

ولأن كل واحد منهما ملحق بالعقد، ثم لو شرطا أجلًا مجهولًا بطل العقد، ولو تأجل الثمن حكمًا لم تؤثر جهالته بالعقد، مثل أن يفلس المشتري، أو يأبق العبد، فيتأخر تسليم الثمن حتى يتمكن البائع من التسليم. قيل له: قولك: (إنه ثبت شرطًا، فلهذا نافته الجهالة) يبطل على أصلكم بالبراءة من العيوب؛ فإنه يصح عندهم، وثبت شرطًا، والجهالة لا تنافيه. وأما خيار المجلس فالعادة أنه زمان يسير، فعفي عنه، كما عفي عن تأخير القبض في الصرف والسلم مدة المجلس، وكما جاز تأخير القبول في مدة المجلس ثبت للحاجة، وهو اختيار المبيع؛ هل له فيه حظ؟ وخيار الرؤية لا حاجة به إليه؛ لأنه يمكنه أن يشاهده. واحتج المخالف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: (من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه). فلو لم يجز البيع لما أثبت الخيار. والجواب: أن أبا الحسن الدارقطني رواه عن عمر بن إبراهيم بن خالد الكردي، عن وهب السكري، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. ورواه من طريق آخر عن عمر قال: أخبرني القاسم بن الحاكم، عن أبي حنيفة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

ثم قال: عمر بن إبراهيم يضع الأحاديث، وهذا باطل لا يصح، لم يروه غيره، وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفًا. ولو صح حملنا قوله: (لم يره)، ولكنه وصفه، (فهو بالخيار إذا رآه) على خلاف صفاته، كما هو بالخيار فيما شاهده إذا وجده معيبًا في فسخ العقد، وفي إمضائه. فإن قيل: هذا الخيار متعلق بفقد الصفة، لا بالرؤية، والخبر يقتضي تعلقه بالرؤية. قيل له: لما كان فقد الصفة يعلم بالرؤية، جاز أن يعلقه بها. وقد قيل في جوابه: من ابتاع شيئًا لم يره حال العقد، وكان قد رآه قبل العقد، فهو بالخيار إذا تغير. واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه، واشترى منه شيئًا، فهو بالخيار إذا رأى السوق). ولا خلاف أنه إذا كان قد رآه، فلا خيار له، فعلم أن المراد به: إذا كان قد اشترى شيئًا في وعاء، ثم حمله إلى السوق، ونظر إليه؛ إنه بالخيار. والجواب: أن إثبات الخيار هاهنا عند أصحابنا رجع إلى ظهور

الغبن في المبيع دون الجهالة. يبين صحة هذا: قوله: (فهو بالخيار إذا رأى السوق)؛ لأن بها يعتبر الغبن من غيره. واحتج بما روى زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. ومعناه عندنا: أن يشتري المتاع في الوعاء، فلا يبيعه هناك قبل أن يراه؛ لئلا يلزم نفسه مبيعًا مجهول الصفة. والجواب: أن معناه عندنا: أن يشتري مكيلًا، أو موزونًا، فلا يبيعه هناك قبل نقله؛ لأن بيعه قبل قبضه لا يصح. واحتج بما روي: أن عثمان بن عفان باع مالًا بالكوفة من طلحة ابن عبيد الله، فقال طلحة: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره، وقال عثمان: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره، فحكما بينهما جبير بن مطعم، فقضى جبير بالخيار لطلحة. وروى معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: وددنا لو أن عثمان وعبد الرحمن تبايعا، ثم ننظر أيهما أعظم جدا في التجارة، فابتاع عبد الرحمن من عثمان فرسًا بأرض له أخرى

بأربعين ألف درهم، أو نحو ذلك، إن أدركتها الصفقة وهي سالمة، ثم مشى قليلًا، ثم رجع إليه، وقال: أزيدك ستة آلاف درهم إن وجدها رسولي سالمة، قال: نعم، فوجدها رسول عبد الرحمن وقد ماتت. فدل هذا على معنيين: أحدهما: جواز شراء ما لم يره. والثاني: جواز الزيادة في الثمن بعد انبرام العقد. وروى يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: كنا إذا تبايعنا كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان، قال: فتبايعت أنا وعثمان مالًا بالوادي بمالٍ له كثير، قال: فلما بعته طفقت أنكص على عقبي خشية أن يرادني عثمان المبيع قبل أن أفارقه. وروى شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله ابن عمر: أنه ركب مع عبد الله ابن بحينة إلى أرض له برئمٍ، فابتاعها

منه عبد الله بن عمر على أن ينظر إليها، قال: ورئم بالمدينة قريب من ثلاثين ميلًا. فاتفق هؤلاء الصحابة على جواز بيع ما لم يره المشتري، ولا يعرف لهم مخالف. والجواب: أنه لا حجة في ذلك، وأما حديث عبد الرحمن مع عثمان فيحتمل أن يكون عثمان وصفه له، فقال عبد الرحمن: لي الخيار إذا وجدته على خلاف صفته، وكذلك بيع ابن عمر لعثمان ماله بالوادي يحتمل أن يكون وصفه له، وكذلك ابتياع ابن عمر من عبد الله ابن بحينة. ولأنه يحتمل أن يكون عثمان لم يره حين العقد، وكان قد رآه قبل ذلك، فظن أنه على تلك الصفة، وكذلك طلحة، فأثبت الخيار لطلحة لمخالفة الصفة. يدل على هذا: أنه أثبت الخيار لطلحة، وعندهم إذا لم توجد الرؤية من البائع، ثبت الخيار له. واحتج بأنه عقد من العقود، فوجب أن لا يكون من شرط صحته رؤية المعقود عليه. دليله: النكاح. والجواب: أنا نقول بموجبه، وأنه ليس من شرطه رؤية المعقود عليه.

فإن قالوا: فنقول: فلم يكن من شرطه صفه المعقود عليه، كالنكاح. فالجواب: أن النكاح لا أثر لعدم الرؤية والصفة فيه، ألا ترى أن بعدمهما لا يثبت الخيار، ولا يتعلق به حكم، والرؤية والصفة في البيع لعدمها تأثير، وبوجودها يصير المبيع معلومًا، وكان وجودا شرطًا، كالصفة في السلم. ولأن القصد في البيع طلب الفضل والربح، ولوجود الرؤية والصفة تأثير في هذا المعنى، فاشترطت، وليس كذلك النكاح؛ فإنه لا يقصد به ذلك، وإنما القصد منه الألفة والوصلة. فإن قيل: قد تقصد به ألفة على صفة دون صفة، ألا ترى إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أوقع الله في قلب أحدكم خطبة امرأةٍ، فلينظر إليها)؛ كي يؤدم بينهما. ولأنه لو وجدها برصاء أو رتقاء ملك الفسخ، كالبيع. قيل له: الخير حجة لنا؛ لأنه لما كان القصد الألفة أمر بالنظر إليها؛ ليحصل له المقصود، وكذلك يجب أن يكون في البيع. وأما البرص والرتق فإنما ثبت به الفسخ؛ لأنه يفوت معه المقصود

الأعظم، ألا ترى أن ما لا يفوت معه ذلك في سائر العيوب لا يثبت به الفسخ، وفي البيع جميع العيوب يفوت معها المقصود. واحتج بأن العين معلومة، وإنما جهلت صفاتها، وجهالة الصفة ليست بأكثر من عدم الصفة، لا تمنع جواز البيع فجهالتها أحرى. والذي يدل على أن عدم الصفة لا يمنع جواز البيع اتفاقهم على أنه لو اشترى عبدًا على أنه صحيح العينين، فوجده أعمى، جاز البيع، وثبت له الخيار. والجواب: أنا لا نسلم أن العين معلومة؛ لأنه إذا قال: بعتك عبدًا، فإنما يعرف الجنس، ولا تعرف العين، ألا ترى أنه لو رآه بعد ما اشتراه، لم يعلم أن هذا هو المشترى وعلى أنه لا فرق عندك بين أن تكون العين معلومة، أو مجهولة؛ لأنه لو قال: (بعتك ما في هذا البيت، أو ما في كمي هذا)، جاز، وإن لم تكن العين معلومة؛ لأنه لم يكن جنسًا يتعين به، وقد نص أبو يوسف على هذا، وليس عن أبي حنيفة فيه رواية. وعلى أن هذا باطل به إذا قال: (بعتك أحد هذين العبدين على أن تختار من شئت منهما)؛ فإن العين معلومة؛ بمعنى: أنه قد تميز المبيع بكونه عبداً من غيره، ومع هذا فالعقد باطل بجهالة صفته. ولأن جهالة الصفة أكثر من عدم الصفة المشروطة بدليل أن فقد الصفة في العين لا يبطل، وعدم الصفة في السلم يبطل، وكذلك فقد

التعيين لا يبطل، ويبطل إذا باع ثوبًا من الثوبين، ولم يشترط الخيار. وأما إذا اشترى عبدًا على أنه صحيح، فبان أعمى، إنما [لا] يبطل؛ لأنه يجرى مجرى ظهور العيب، وذلك لا يبطل. واحتج أن بيع الباقلاء في قشره والجوز واللوز والبيض جائز، وليس المعقود عليه والمقصود بالشراء قشورها، وإنما المقصود منها ما فيها من اللب، ثم لم يمنع عدم رؤية المقصود منها جواز العقد عليها، كذلك هاهنا. وكذلك يجوز بيع الصبرة، وإن كان لا يشاهد باطنها، وكذلك الجهل بمواضع العيب لا يمنع الصحة، كذلك هاهنا. وربما قالوا: جهالة لا تؤثر في تسليم المبيع، فأشبه ما ذكرنا. ولا تلزم عليه جهالة رأس المال؛ لأنها تؤثر في التسليم؛ لأنه يجد بعضه زيوفًا، فيرده، فلا يدري كم الباقي من المسلم فيه. ولا يلزم عليه إذا باع درة في صدفة؛ لأنه ليس المانع من البيع هناك الجهالة، وإنما المانع أنه باعه ما يتضمنه الحيوان خلقة. والنوى مما يباع في مضمون الخلقة مما يفسد بتسليمه، ولهذا لو ظهر بعض النواة لم يجز البيع، وإن زالت الجهالة بظهور بعضها. والجواب: أنه يبطل به إذا قال: (بعتك أحد هذين العبدين على أنك بالخيار)، فإنها جهالة لا تمنع من التسليم؛ لأنه يمكنه أن يختار أحدهما،

ومع هذا فإنه لا يصح. وكذلك إذا قال: (بعتك ثوبًا)، فإنه لا يمتنع؛ لأنه يمكنه تسليم ما يقع عليه الاسم؛ لأن النظر إلى موضع العيب يشق، فعفي عنه، ألا ترى أنه لا أثر لعدمه في العقد؟ لأنه لو رأى تلك المواضع سليمة لم يثبت له الخيار. والنظر إلى المواضع الظاهرة لا يشق، فكان شرطًا، ألا ترى أن لعدمه تأثيرًا في العقد بالإجماع، وهذا كما أن ضبط صفات المسلم فيه الباطنة ليس بشرط، وضبط الظاهرة المقصودة شرط. ولأن السلامة من العيب معلومة بالشرع؛ لأنها موجب البيع ومقتضاه، فلا يفتقر العقد إلى مشاهدتها، والوقوف عليها. وليس كذلك الصفات؛ لأنها مجهولة، وليست من موجب البيع؛ لأنه لا يقتضي وجودها، ولا عدمها، فدل على الفرق بينهما. وأما الجوز واللوز والصبرة فإنما جاز البيع في ذلك؛ لأن الرؤية حصلت فيها على حسب العادة، وقد يستدل برؤية ذلك على ما لم ير، فأما هاهنا فلم تحصل رؤية البيع بوجه، ولا صفة، فلم يصح. ولأن عدم رؤية باطن الصبرة وما في الجوز واللوز لا أثر له في البيع بوجه، ألا ترى أنه لو وجد ذلك سليمًا لزم العقد، ولم يكن لعدم الرؤية تأثير؟ ولعدم رؤيته هذا المبيع وصفته تأثير؛ لأنه لو وجده

معيبًا ثبت له الخيار في فسخ البيع، فكان وجودها شرطًا فيه. ولأن مشاهدة باطن الجوز واللوز يشق؛ لأنه يؤدي إلى فساده إذا قشر، إذا لم يكن معيبًا. واحتج بأنه أحد البدلين في البيع، فلم تكن رؤيته شرطًا في صحة العقد، كالثمن إذا لم يكن معيبًا. والجواب: أنَّا نقول بموجبه؛ أن الرؤية ليست شرطًا في الفرع، كالأصل، والصفة شرط في الفرع، كما هي شرط في الأصل، وقد وافقنا المخالف على اعتبار الصفة في الثمن، فيجب أن تكون معتبرة في المثمن، فقد صار الأصل حجة لنا من هذا الوجه. واحتج بأن الرؤية معنى لا يتأتى إلا في معين، فلم تكن شرطًا في بيوع الأعيان، كالذوق واللمس والشم. والجواب: بأنه ينتقض بالتعيين، وهو قوله: الثوب الذي في كمي. والمعنى في الأصل: أن عدمه لا يؤثر، وعدم الرؤية يؤثر في العقد. * فصل: إن قلنا: إن البيع صحيح، فهل يثبت له خيار الرؤية؟

قد نقل حنبل روايتين: إحديهما: لا يثبت له خيار الرؤية؛ لأنه قال: إذا اشترى الثياب في الجراب، فله خيار الرؤية إذا نشره، إن كان معيبًا رده بعيبه. وظاهر هذا: أنه إذا لم يكن به عيب لم يرده. ونقل في موضع آخر: وذكر له قول سفيان في رجل استأجر رجلًا في كل شهرٍ بكذا: هو مكروه، هو بمنزلة قولك: اشتري منك هذا الجراب، كل ثوب بكذا وكذا. قال أبو عبد الله: هذا يخالف الجراب؛ لأن الثياب له فيها خيار الرؤية، وهو مغيب عنه، وهذا يستأجره كل شهر بشيء مسمى، هذا جائز. وظاهر هذا: إثبات الخيار. وهو قول أبي حنيفة والشافعي على القول الذي يجيز بيعه بالصفة. وجه الرواية الأولى: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البيعان كل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا). وهذا عام. ولأنه خيار لم يوجبه نقص، ولا يثبت في كل مبيع، فلم يثبت على وجه مجهول. دليله: لو ابتاعه بشرط خيار مجهول.

وفيه احتراز من خيار المجلس والرد بالعيب. ولأنه [لو] وجد المبيع سليمًا فلم يملك الخيار، كما إذا كان قد سبق منه رؤية، كالمسلم إذا وجده على صفات. ولا يلزم ليه إذا كان المبيع بشرط الخيار؛ لأنه يستوي فيه الأصل والفرع. ووجه الثانية: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه). والجواب: أنا قد بينا: أن هذا محمول عليه إذا لم يره، ولكنه وصفه، ولم يجده على الصفة، فله الخيار. واحتج بأن في إسقاط الخيار إسقاط معنى المسألة؛ لأن هذا المبيع مسمى ببيع خيار الرؤية. والجواب: أنه ليس كذلك؛ لأن هذا المبيع موصوف ببيوع الأعيان الغائبة من غير رؤية، ولا صفة.

مسألة بيع الأعيان الغائبة بالصفة جائز، وكذلك الحاضرة التي تشق رؤيتها، كالأعدال تباع على [البرنامج] وشبهه

246 - مسألة بيع الأعيان الغائبة بالصفة جائز، وكذلك الحاضرة التي تشق رؤيتها، كالأعدال تباع على [البرنامج] وشبهه: وقد نص على ذلك في رواية الأثرم وأبي طالب. وبه قال مالك. وللشافعي قولان: قال في القديم: مثل هذا. وقال في الجديد: لا يجوز بيعها إلا على الرؤية. دليلنا: أن الصفة تقوم مقام الرؤية عند تعذرها، كالسلم. فإن قيل: لا فرق عندك بين أن تكون الأعيان غائبة، فيصفها. قيل له: إذا ثبت جواز بيع الغائبة بالصفة ثبت جواز الحاضرة؛ لأن أحدًا ما فرق. وإن شئت قلت: أحد نوعي المبيعات، فجاز أن تباع على الصفة، كالذي يباع على الذمة.

يبين صحة هذا: أنه إذا جاز السلم في الموصوف، وهو غير معين، فجواز البيع في العين الموصوفة أولى؛ لأن الصفة تمكن في العين المشاهدة ما لا تمكن في المعدوم. فإن قيل: السلم حجة لنا، وذلك أن ما اختلفنا فيه هو بيع عين بصفة، فكان باطلًا، كالسلم في الأعيان. قيل له: إذا أسلم في عين، ولم يشرط أجلًا، جاز، وكان بيعًا عبر عنه بالسلم، وإن أسلم فيها مؤجلًا بطل العقد؛ لدخول التأجيل في العين، لا لأنه عقد على عين موصوفة. فإن قيل: السلم لما لم يمكن مشاهدته جاز أن تقوم الصفة مقام المشاهدة، وفي بيوع الأعيان يمكن مشاهدتها، فلهذا لم تقم الصفة مقامها. قيل له: إذا كانت غائبة قد لا يمكن مشاهدتها. وعلى أن الثمن يمكن مشاهدته، ومع هذا فيجوز بالصفة. وقياس آخر، وهو: أن الصفة في بيوع الأعيان جهة نتوصل بها إلى معرفة المبيع، فصح العقد معها. يبين صحة هذا: أن الصفة يعلم بها الموصوف، والرؤية لا يعلم بها، ألا ترى أن من باع فصًا، فرآه المشتري، وهو لا يعلم؛ أجوهر هو، أو زجاج؟ جاز العقد، وإن كانت الجهالة باقية مع الرؤية.

وكذلك إذا ابتاع الدرياق ممن رآه من ليس [بطبيب] لا يعرفه، صح العقد مع بقاء الجهالة. فإن قيل: لا نسلم أن الصفة جهة يتوصل بها إلى معرفة المبيع. قيل له: الدليل على صحة ذلك: السلم. ويبين صحة هذا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه يراها). فلولا أنها تقوم مقام الرؤية لم ينه عن ذلك. ولأنا قد بينا: أن العلم يحصل بها ما لا يحصل بالرؤية بدليل بيع الفص والدرياق. وقياس آخر، وهو: أنه أحد البدلين في البيع، فلم تكن رؤيته شرطًا في صحة العقد، كالثمن إذا كان غير معين. وإن شئت قلت: أحد البدلين في البيع، فقامت الصفة فيه مقام الرؤية. دليله: الثمن. فإن قيل: المعنى في الثمن: أنه في الذمة، فهو كالمبيع

إذا كان في الذمة. قيل له: لو كانت الرؤية شرطًا لم يصح العقد على ما في الذمة؛ لعدم الرؤية فيه. واحتج المخالف بما روى أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر. والغرر ما تردد بين جائز من سلامة المال وهلاكه. وفي هذا البيع غرر من وجهين: أحدهما: أن العبد الغائب لا يدري؛ هل هو باقٍ، أم لا؟ وإن كان باقيًا، فلا يدري؛ هل يسلم له، أم لا؟ والجواب: أن الغرر ما كان الغالب منه عدم السلامة بدلالة: أن الخارج في المفازة بغير صحبة، يقال: غرر بماله، ولا يقال للخارج في صحبة: غرر، وإن جاز أن يسلم، وجاز أن يهلك؛ لأن الغالب منه السلامة. ولو كان الغرر عما تردد بين الجواز والهلاك، كانت الساعات كلها غررًا؛ لجواز أن يهلك قبل القبض، ولكان ما عاينه وابتاعه- وليس بحاضر- غررًا، فعلم أن معنى الخبر: ما الغالب منه عدم السلامة، كبيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والطائر في الهواء، والسمك في الماء، ونحو ذلك. واحتج بما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن

عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك). قالوا: ومن باع عبدًا بالبصرة، فقد باع ما ليس عنده. والجواب: أن البيع في مسألتنا يجوز في ما ليس عنده باتفاق إذا كان قد رآه، ويبطل عندهم في ما هو عنده، إذا لم يكن قد رآه، فعلم أن الفساد عندهم لمعنى آخر، وهو الجهالة، أو عدم الرؤية، فأما أن يكون لما ذكر في الخبر فلا، فلم يبق إلا أن يحمل الخبر على بيع ما ليس في ملكه؛ لأن العقد لا ينفذ فيه للمعنى المذكور في الخبر دون غيره. يبين ذلك: أن الخبر خرج على هذا السبب، وهو أن حكيم بن جزام قال: كنت أدخل السوق، فأستجيد السلع، وأخرج، فأبيعها، ثم أرجع، فأبتاعها، ثم أسلمها. فبان هذا السبب شاهدًا لما ذكرناه من التأويل. واحتج بأنه بيع لم يره ولا شيئًا منه، أشبه إذا لم يره، ولا وصفه. والجواب: أالمبيع هناك مجهول الصفة عند العاقد، فلهذا بطل، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه معلوم الصفة فصح، كما لو شاهده. ولأن عدم الرؤية والصفة لو وجدا في الثمن أبطل العقد، كذلك إذا واجد في المثمن، وليس كذلك الصفة؛ لأنها لو وجدت في الثمن

صح معها العقد، كذلك إذا وجدت في المثمن. واحتج بأن بيوع الأعيان أحد نوعي المبيع، فوقع على وجه واحد، كالنوع الثاني، وهو بيع ما في الذمة. والجواب: أنه يبطل بالثمن في بيوع الأعيان؛ فإنه أحد النوعين، ويقع على وجهين؛ معينًا، وموصوفًا. ولأنا نعكس العلة فنقول: فكانت الصفة طريقًا في تصحيحه. دليله: ما ذكرت. ولأن ما في الذمة لو وقع على وجهين، خرج العقد عن موضوعه؛ لأنه يصير من بيوع الأعيان، ويخرج عن بيوع الذمة، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الصفة لا تخرجه من موضوعه. ولأنه بيع عين مع الصفة، كما هو بيع عين مع المشاهدة. واحتج بأنها عين لم ير شيئًا منها، فلم يصح العقد عليها، كاللبن في الضرع، والنوى في التمر، والحمل. والجواب: أنه يلزم عليه عقد النكاح، وعقد السلم ينكسر به؛ فإنه يصح مع عدم الرؤية. والمعنى في الأصل: أنه مجهول الصفة، وهاهنا معلوم، كمال لو رآه. * فصل: فإن وجد المبيع على الصفة المذكورة لم يكن له الخيار. نص عليه في رواية الأثرم، وأبي طالب، وجعفر بن محمد النسائي

-واللفظ لجعفر- في رجل يبيع المتاع، فيفتح جرابًا، فيريه، ثم يقول: الباقي على صفة هذا، فقال: إذا جاء به على صفته ليس له أن يرده. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، والشافعي على القول القديم: يملك الخيار. دليلنا: حديث ابن عمر وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا). فدل على أنهما إذا تفرقا، فلا خيار بينهما، فهذا عام في كل بيع. ولأنه وجد المبيع على صفته المذكورة، فلم يكن له الخيار. دليله: السلم. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: (من ابتاع شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه). والجواب: أنه محمول عليه إذا لم يجده على صفاته المذكورة بدليل ما ذكرناه. * فصل: ويحتاج فيه إلى استيفاء كل وصف يختلف الثمن لأجله. وقد أومأ إليه أحمد في رواية الأثرم، فقال في الجرب يؤتى بها من

مسألة شراء الأعمى جائز

الري، أو من أصبهان، فتباع من غير أن تفتح، فقال: ينبغي أن يصفوها على معنى السلم، فإذا وجدت على صفتها جاز البيع. فقد شبه ذلك بالسلم، والسلم تعتبر فيه الصفات التي يختلف الثمن لأجلها. ونقل جعفر بن محمد النسائي في الرجل يبتاع المتاع، فيفتح جرابًا، فيريه، ثم يقول الباقي على صفة هذا، قال: إذا جاء به على صفته، فليس له رده. وهذا محمول على أن هذه الثياب لها عرف في بلدها. وقال بعض الشافعية: إذا ذكر معظم صفاته جاز اتكالًا على خيار الرؤية في الثاني. دليلنا: أنه مبيع اعتبرت صفاته، فاعتبر فيه كل صفة يختلف الثمن لأجلها. دليله: السلم. وما ذكروه من خيار الرؤية فقد بينا: أنه غير ثابت فيه، كما لا يثبت في عقد السلم. ... 247 - مسألة شراء الأعمى جائز: وكذلك بيعه في قياس المذهب، وأن الرؤية ليست شرطًا في عقد

مسألة خيار المجلس ثابت في عقد البيع إلى أن يفترقا

البيع، وإنما الاعتبار بالصفة، وهذا يمكن في حق الأعمى. وهو قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يجوز. دليلنا: أن جماعة من الصحابة كانوا عميانًا مثل: العباس، وابن عباس، وابن عمر، وابن أم مكتوم، وكانوا يبيعون ويشترون، ولم ينكر عليهم أحد، ولا قال: إن بياعاتهم وأشريتهم باطلة مفسوخة. وكل من جاز أن يلي عقد السلم جاز أن يلي شراء العين. دليله: التعيين. ولأن كل عقد جاز أن يليه البصير جاز أن يليه الأعمى، كالسلم. وبنى المخالف على أصله، وأن الرؤية شرط في صحة الشراء، والأعمى لا يرى، وقد دللنا على أن الرؤية ليست شرطًا في صحة الشراء. ... 248 - مسألة خيار المجلس ثابت في عقد البيع إلى أن يفترقا: نص عليه في مواضع؛ في رواية الأثرم، والمروذي، وإبراهيم بن

الحارث، والحسن بن الحسين، وعبد الله. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: خيار المجلس ليس بثابت، ويلزم البيع بالإيجاب والقبول. دليلنا: ما روى أحمد بإسناده عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل بيعين فأحدهما على صاحبه بالخيار حتى يتفرقا، أو يكون خيار). وفي لفظ آخر قال: (إذا تبايع المتبايعان [بالبيع]، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان [بيعهما] عن خيار فقد وجب). وكان عبد الله إذا أراد أن لا يقيل الرجل مشى هنيًة. وفي لفظ آخر قال: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا، أو يقول لصاحبه: اختر). وروى أيضًا بإسناده عن سمرة بن جندبٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). وروى -أيضًا- بإسناده عن حكيم بن حزام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو حتى يتفرقا). وروى بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) قال: (أو أن يكون بيعهما خيار). وروى -أيضًا- بإسناده عن أبي الوضيء قال: كنا في سفر ومعنا أبو برزة الأسلمي، قال: فباع رجل من أهل العسكر فرسًا، قال: ثم ندم، فأراد أن يرد البيع، فأبى البائع أن يقيله، فاختصما إلى أبي برزة، قال: فقصا عليه القصة، فقال أبو برزة: إن شئتما قضيت بينكما بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). وروى بإسناده عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله). ذكر عبد الله هذه الأخبار في (مسائله). ووجه الدلالة منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت الخيار للمتبايعين إلى أن

يتفرقا، والتبايع اسم مشتق من فعل، فلا يطلق اسم الفاعل إلا بعد وجود الفعل منه، كالقاتل والشارب، فصار حقيقة الاسم أن بعد وجود البيع منهما، لهما الخيار ما لم يتفرقا. فإن قيل: الخبر خبر واحد، وقد اختلف على نافع فيه، ونحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل جميع هذه الألفاظ، وإنما تكلم بواحد منها، فوجب التوقف حتى نعرف لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، فنعمل بمقتضاه. قيل له: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في مجالس مختلفة، وقضايا مختلفة، فسمع قوم في مجلس بلفظ، وسمع آخرون بلفظ آخر في مجلس آخر، وليس يجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إعادة اللفظ إذا كان الثاني يعطي معناه؛ لأن الاعتبار بالمعنى. فإن قيل: هذا محمول على المشتري إذا ساوم، فقال: بعني هذا العبد، فقال البائع: بعتك، فكل واحد منهما بالخيار؛ إن شاء البائع رجع عن الإيجاب، وإن شاء أقام عليه، والمشتري بالخيار؛ إن شاء قبل، وإن شاء لم يقبل، فإذا افترقا عن مجلسهما بطل خيار كل واحد منهما. قالوا: وهذا هو الصحيح؛ لأن حقيقة المتبايعين: المتشاغلان بالبيع، كالمتقاتلين، فإذا تم البيع، فقد تقضى بيعهما، فالاسم فيهما مجاز؛ لأنهما كانا متبايعين. قيل له: هذا تأويل ترده اللغة والشرع؛ لأن في اللغة: من لم يوجد

منه الفعل لا يسمى فاعلًا، كالآكل والضارب، والقائم، والقاعد، ونحوه. و [في] الشرع: لو قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، فقال له المشتري: بعني، فقال: بعتك، لم يعتق. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخيار إلى التفرق، وهذا لا يكون من المتساومين. وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا لهم: أنا نحمل الخبر على ضرب من المجاز، فما ذكروه مجاز أيضًا؛ لأنهم يحملون الخبر على بائع تقدم منه الإيجاب، ومبتاع لم يوجد منه القبول، وبائع ليس في مقابلته مبتاع، فما ذكرنا فيه مجاز من وجه، وما ذكروه فيه مجاز من وجوه، وحمل الخبر على ما ذكرنا أولى من وجوه. أحدها: أن الحالة التي تحملون الخبر عليها [ما] فيها ثابت بالإجماع، فلا يفيد حمل الخبر عليه. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لهما الخيار على جهة واحدة، فاقتضى تساويهما فيه، وإن يثبت لأحدهما فيه مثل ما ثبت للآخر، وعلى ما ذكروه ثبت للبائع خيار الفسخ، وللمبتاع خيار الإمضاء والقبول، وهما مختلفان. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت لهما الخير بالتبايع، وعلى قولهم يقطع الخيار بالتبايع.

ولأن الراوي للخبر فسره بما ذكرنا؛ ففي حديث ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلًا. وعن أبي برزة: أن رجلين تخاصما إلى - صلى الله عليه وسلم -، وكانا قد تبايعا فرسًا، وأقاما يومًا وليلة، فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وما أراكما تفرقتما، فجعل له الفسخ. والراوي أعرف بمعنى الحديث، فالمصير إلى قوله أولى. فإن قيل: يحمل قوله: (ما لم يتفرقا) على الافتراق بالأقوال. ومعناه: إذا قال: بعتك، فله أن يرجع فيه ما لم يقل المشتري: قد قبلت، وكذلك المشتري بالخيار قبل أن يقول: اشتريت؛ بين أن يقيله، وبين أن لا يقيله، فإذا قال: قبلت، فقد فارقه بالقول، فبطل خيار البائع في الرجوع، وخيار المشتري في الرد. والتفرق يحصل بالأقوال، قال تعالى: {ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ} [البينة: 4]، وأرد به: التفرق بالقول. ويقال: اجتمع القوم على كذا، وهم حضور في المجلس. قال: ويدل على أنه لم يرد التفرق بالأبدان ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله).

معنى؛ لأن الاستقالة لا تكون إلا في البيع الذي لا خيار فيه لواحد منهما، فأما إذا كان فيه خيار، فلكل واحد منهما أن يفسخه، ولا يحتاج إلى أن يستقيل صاحبه. قيل له: لا يصح حمله على التفرق بالأقوال من وجوه: أحدها: أن حقيقة التفرق بالبدن دون القول؛ لأن التفرق هو تباعد الأجسام، والاجتماع تقاربها. والثاني: أن بوجود الإيجاب والقبول فهي حالة اجتماع؛ لأنهما قبل ذلك يختلفان في الثمن والمثمن، ثم يجتمعان عليه، وينعقد البيع، فلا يصح أن يحمل هذا [....] على التفرق. والثالث: في حديث ابن عمر في ما رواه أبو بكر في كتاب (الشافعي): (وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع). ولا يكون التفرق بعد التبايع إلا بالبدن. وروى أبو بكر النيسابوري بإسناده عن ابن عمرو: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحدٍ منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما). وهذا نص في فرقة الأبدان.

وفي حديث عمرو بن شعيب: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله). وهذا لا يحتمل المفارقة بالقول؛ لأنه تجوز له المفارقة بالقول. ولأن ابن عمر حمل الافتراق على الأبدان، وكذلك أبو برزة من الوجه الذي ذكرنا. فأما قوله تعالى: {ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ} [البينة: 4]، فلا يمتنع أن يكون المراد به الأبدان؛ لأنهم لما اختلفت اعتقاداتهم افترقوا بأبدانهم، واجتمع كل فريق منهم، وفارقوا مخالفيهم، ولو كان المراد به الافتراق بالأقوال فهو مجاز. وكذلك قوله: افترق الناس على كذا، ويراد به الأقوال على طريق المجاز، والحقيقة ما ذكرنا من أن التفرق هو تباعد الأجسام، والاجتماع تقاربها. وأما قوله: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)، فقد جعلناه حجة لنا من جهة أنه لو كان المراد به الأقوال لم يمنعه من التفرق خشية الإقالة؛ لأنه يجوز له ذلك بالأقوال، فعلم أن المراد به الأبدان. وقولهم: (إن الإقالة لا تكون إلا في البيع الذي لا خيار فيه لواحد منهما، فأما الذي فيه الخيار، فلا يحتاج فيه إلى إقالة) فغير صحيح؛ لأن

فسخ العقد بالخيار استقالة في المبيع لا بالخيار. على أن المراد بهذا: أنه لا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يفاسخه بما يثبت له من خيار المجلس، فعبر عن الفسخ بالاستقالة؛ لأن الإقالة فسخ. الدليل على ذلك شيئان: أحدهما: أنه ذكر في الخبر أمرًا يقتضي أن تنقطع الإقالة بالتفرق، والإقالة لا تفوت بالتفرق. والثاني: أنه نهى عن المفارقة خوف الاستقالة، وحرم ذلك، والتفرق خوف الاستقالة غير محرم؛ لأن الإقالة غير واجبة، وإنما المنهي عنه هو المفارقة عن المجلس خوف الفسخ لحق الخيار؛ لأنه منهي عن أن يفارق صاحبه بغير إذنه ورضائه؛ ليلزم العقد بذلك، فثبت أن المراد به ما ذكرنا. ووجه آخر من الاحتجاج بالخبر، وهو: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار). والمراد به: البيع الذي قطع الخيار فيه؛ لأن الاستثناء ضد المستثنى منه، والمستثنى منه هو إثبات الخيار، وكان الاستثناء ضده، وهو قطع الخيار، وإذا ثبت أن المراد بذلك قطع الخيار، ثبت أن الخيار ثابت لهما بعد التبايع إلى أن يقطعاه.

فإن قيل: المتبايع اسم الفاعل، وقوله: (إلا بيع الخيار) مصدر، ولم يتقدم ذكر مصدر حتى يخرج بعضه بالاستثناء، فكان هذا الاستثناء منقطعًا؛ بمعنى: لكن، فلا يلزم أن يكون إثباتًا من نفي، أو نفيًا من إثبات؛ لأن هذا يكون في الاستثناء الصحيح، فأما المنقطع فالذي يلزم فيه: أن يخالف الأول ضربًا من الخلاف، فتقدير الخلاف: كل متبايعين؛ أي: كل متشاغلين بالبيع، فلا بيع بينهما حتى يفترقا، لكن بيع الخيار -وإن افترقا- لم يتم البيع بينهما. فنكون قد أثبتنا الخلاف من وجه، وحملنا قوله: (إلا بيع الخيار) على البيع المشروط فيه الخيار، وهذا هو المفهوم من الخيار في الشرع. قيل له: أما قولك: (إن المتبايع اسم الفاعل) فصحيح، إلا أنه يتضمن وجود الفعل منهما حتى يتصفا به، وإنما يحصل ذلك بالإيجاب والقبول. وقولك: (إلا) مصدر، فلا يضر؛ لأن موضوعها في اللغة الاستثناء، فالظاهر يقتضي أن له الخيار إلا أن يشترطا قطعه؛ لأنه استثناء من إثبات، فكان نفيًا.

وقولهم: (نحمله على الاستثناء المنقطع) لا يمكن؛ لأن (إلا) موضوعة للاستثناء الحقيقي. على أنه لو حمل على المنقطع لم يضر؛ لأنه لابد من حصول الخلاف بين [المستثنى و] المستثنى منه. وقولهم: إنه قد يحصل ضرب من الخلاف، فإنما يحصل ذلك على ما قالوه من المتساومين، وقد بينا فساد ذلك، وأنه لا يمكن حمله على المتساومين. وأما حمله على خيار الشرط فلا يصح؛ لما بينا، وهو: أن الاستثناء ضد المستثنى منه، والمستثنى منه إثبات الخيار، فكان الاستثناء ضده، وهو قطع الخيار، وعلى ما ذكروه يكون استثناء إثبات الخيار من إثباته، وهذا لا يصح. فإن قيل: قوله: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) غاية، ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها بخلاف ما قبلها، فصار كالمنطوق. ولأنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فيتم البيع بينهما إلا بيع الخيار؛ فإنهما- وإن تفرقا- لم يتم البيع بينهما. قيل له: حكم الغاية إنما يستفاد من الدليل، لا باللفظ، والاستثناء يعود إلى اللفظ دون ما يستفاد منه. وهذه الطريقة إنما تصح على الرواية التي تحمل قوله: (إلا بيع

الخيار) على قطع الخيار، فأما على الرواية الأخرى التي تحمل (إلا) بمعنى الواو، وأن قوله: (إلا بيع الخيار)؛ معناه: وبيع الخيار، فلا تصح هذه الطريقة، ويكون الاحتجاج بالطريقة الأولى من الخبر. والقياس: أنه عقد يقصد به تمليك المال، فلا يلزم بالإيجاب والقبول. دليله: الهبة. فإن قيل: الهبة عقد تبرع، وهي أضعف في إيجاب الملك من البيع بدليل: وقوف الملك فيهما على القبض. قيل له: فالصرف والسلم أضعف من البيع بدليل: أن لزومهما يقف على القبض، ومع هذا لا خيار فيهما عندك. ولأن قبول المشتري هو قول أحد المتبايعين، فوجب أن يتعقبه الخيار. أصله: إيجاب البائع؛ لأنه إذا قال: بعتك كذا؛ فإنه بالخيار؛ إن شاء قال: رجعت فيه وفسخته، وإن شاء أقام. وإن شئت قلت: أحد طرفي البيع، فوجب أن يتعقبه الخيار. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه لم يوجد العقد، وليس كذلك هاهنا؛ لأن العقد قد وجد، فجاز أن يلزم.

قيل له: فالهبة إذا وجد فيها الإيجاب والقبول، فقد وجد العقد، ولا يلزم. ولأنه إن لزم فهو في حكم ما لم يلزم بدليل: أنها حالة، كقبض رأس مال السلم، وعوض الصرف. ولأن عقيب العقد زمان يصح قبض رأس مال السلم فيه، أو قبض عوضي الصرف، فوجب أن يثبت فيه الخيار. دليله: عقيب الإيجاب. فإن قيل: عقيب الإيجاب لسي بزمان لقبض رأس مال السلم والصرف؛ لأن العقد لم يوجد، فيقبض عوضه. قيل: لم نقل: (زمان يجب قبض رأس المال فيه) حتى تحصل الممانعة، وإنما قلنا: (يصح) وهذا مسلم. وعلى أنه إن لو يوجد كمالة فقد وجد طرفه، فجاز أن يجعل في هذا الحكم بمنزلة وجوده، ألا ترى أن من باع شيئًا بشرط رهن أو ضمين صح، ولم يجز أن يقال: (إن الرهن والضمين لا يصح في هذه الحالة؛ لأنها وثائق، فيجب أن يتوثق بها بعد ثبوت الحق)، كذلك هاهنا. ولأن البيع نوع معاوضة محضة، فوجب أن يلحقها الفسخ مع

الإطلاق والسلامة من وجهين، كالصرف يلحقه الفسخ من وجهين: أحدهما: تلف المبيع قبل قبضه. والثاني: التفرق قبل [القبض]. كذلك غيره من بيوع الأعيان وجب أن يلحقه الفسخ من وجهين: أحدهما: تلف المبيع قبل القبض. والثاني: ما نقوله من الفسخ بحق خيار المجلس فإن قيل: نقول بموجبه في خيار الرؤية؛ فإن الفسخ يثبت به في الأعيان الغائبة وبتلف المبيع. قيل له: نصبنا التعليل لنفي اللزوم في جميع هذا النوع مع الإطلاق والسلامة، وأنت تقول بموجبه في بعض النوع. فإن قيل: نقلبه، فنقول: وجب أن لا يتعلق لزومه بالافتراق. دليله: الصرف. قيل له: الصرف يتعلق لزومه بالافتراق على إحدى الروايتين. وعلى أنا نقول بموجب القلب، وهو أنه لا يتعلق لزومه بالافتراق وحده حتى ينضم إليه اختيار العاقد؛ لأنه لو هرب أحدهما من صاحبه، أو فسخ في المجلس، ثم تفرقا، لم يلزم. وأيضًا فإن الخيار على ضربين: خيار يتعلق بزمان ومدة.

وخيار يتعلق بفقد الصفات. ثم الخيار المتعلق بالصفات على ضربين: منه ما يستفاد بالشرع. [ومنه ما يستفاد بالشرط]، وهو إذا اشترى جارية على أنها جعدة، فخرجت سبطة، أو على أنها بكر، فخرجت ثيبًا، فله الخيار، وإنما يستفاد ذلك بالشرط؛ لأن بالإطلاق لا يستفيده. كذلك الخيار المتعلق بالمدة، وجب أن يكون منه ما يستفاد بالشرط، وهو خيار الثلاث، ومنه ما يستفاد بالشرع، وليس كذلك إلا خيار المجلس. وتحرير هذا المعنى: أنه أحد نوعي الخيار، فوجب أن ينقسم شرعًا وشرطًا، كالخيار المتعلق بفقد الصفات، ولا يكنهم القول بموجب ذلك في إثبات خيار الرؤية في الأعيان الغائبة؛ لأن ذلك لم يتعلق بمدة وزمان، وإنما يتعلق بالرؤية أو باختيار الفسخ قبلها من غير اعتبار مضي مدة، وخيار المجلس متعلق بمدة، وهو وقف مقامهما في مجلس التبايع. واحتج المخالف بقوله تعالى: {لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].

وظاهره يقتضي إباحة الأكل، وإن كانا في مجلسهما ذلك، وعندكم ليس له أن يأكله ما لم يتفرقا. والجواب: أن الآية قصد بها الفرق بين الأكل بالتجارة والأكل بالباطل في الجملة. وعلى أنا نحمل ذلك على ما بعد القبض. واحتج بقوله تعالى: {وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، فأمر بالإشهاد على البيع توثيقًا، فلو كان الاستحقاق لا يتعلق به حتى يفترقا لأمر بالإشهاد على البيع عند التفرق في الحال الذي يصح أن تؤخذ الوثيقة. والجواب: أن الآية قصد بها حصول الوثيقة في الجملة خوفًا أن يتجاحد التبايع بعد التفرق، وقد يختلفان في الثمن والمثمن، فتكون الشهادة وثيقة بذلك، وثبوت الخيار لا ينفي حصول الوثيقة، كثبوت خيار الثلاث. واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان؛ صاع البائع، وصاع المشتري. وهذا يقتضي أنه إذا جرى الصاعان جاز بيع المشترى، وإن لم يتفرقا. والجواب: أنه محمول على ما بعد القبض. وهكذا الجواب عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجزي ولد والده إلا أن

يجده مملوكاً فيشتريه، فيعتقه)؛ أي: يعتق عليه. وظاهره يقتضي بعتق بنفس الشراء، وإن لم يوجد الافتراق، وهو محمول على ما بعد التفرق. واحتجَّ بما روي عن عمر- كرم الله وجهه- أنه قال: إن الناس قائلون غدًا: ماذا قال عمر؟ ألا إن البيع صفقة، أو خيار. فجعل البيع ضربين: بيع خيار. وبيع صفقة. وعندكم البيع كله ضرب واحد، وهو بيع خيار. والجواب: أن أحمد روى عن منصور بن سلمة الخزاعي، عن موسى بن أعين، عن مطرِّف بن طريف، عن عامر، عن عمر قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). ذكره عبد الله في «مسائله». وهذا يدل على أن قول عمر مثل قولنا. وعلى أنه قوله: (صفقة، أو خيار)؛ معناه: صفقة وخيار؛ لأن العرب تعطف بـ (أو) كما تعطف بالواو:

قال تعالى: {إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، ومعناه: ويزيدون. وقال: {ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]. وقال: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6]. وعلى أنا قد روينا ذلك عن عثمان وابن عمر وأبي برزة؛ اعتبار الخيار بالمجلس. واحتج بأنه عقد من العقود فوجب أن لا يثبت فيه خيار المجلس. دليله: النكاح، والخلع، والعتق على مال، والكتابة. والجواب: أن المعنى في تلك العقود: أنه لا يثبت فيها خيار الشرط مع جواز التفرق فيها قبل التقابض، وإمكان رد المعقود عليه على صفته، ويثبت ذلك في البيع، فإذا افترقا في خيار الشرط من هذا الوجه، جاز أن يفترقا في خيار المجلس. ولا يلزم على علة الأصل الصرف والسلم؛ لأنه لا يثبت فيهما خيار الشرط، ويثبت خيار المجلس على إحدى الروايتين؛ لأن هناك لا يجوز التفرق فيهما قبل التقابض، وهاهنا يجوز. وكذلك لا يلزم عقد الإجارة؛ أنه لا يثبت فيها خيار الشرط على أحد الوجهين، ويثبت خيار المجلس؛ لأنه لا يمكن رد المعقود عليه

على صفته، وإنما يرد بعضه؛ لأن بمضي الزمان تتلف المنافع المعقود عليها، وزمان المجلس يسير يجري فيه العفو والمسامحة. وجواب آخر، وهو: أن القصد من النكاح أعيان المتناكحين دون المال، ألا تراه يصح مع عدم ذكر المال، ولا يصح مع عدم ذكر المال، ويصح مع عدم ذكر أعيان المتبايعين، فإذا كان كذلك، فالخيار إنما يثبت في ما يقصد منه المال دون ما لا يقصد ذلك منه. فإن قيل: فيجب أن لا يثبت الخيار في عقد النكاح بالعيب. قيل له: لم يثبت لعدم المال، لكن ثبت لفوات المقصود، وهو الاستمتاع. وأما الكتابة فلا فائدة في إثبات الخيار فيها؛ لأن السيد لا حظ له فيها، والعبد له الخيار على التأبيد؛ لأنه يعجز نفسه متى شاء، وفي ثبوت الخيار في البيع فائدة؛ لينظر المبتاع ما ابتاعه، ويتأمله، ويستدرك حقه فيه. وأما الخلع فيفارق البيع؛ لأنه لا يدخله خيار الشرط، ولا خيار الرؤية عندك، ولا خيار فقد التعيين، ولا خيار الإقالة، والبيع بخلاف ذلك. واحتج بأنه بيع لم يشترط فيه خيار، وقد حصل برضا المالك، فوجب أن يجوز تصرف المشتري فيه بعد القبض. دليله: بعد الافتراق.

والجواب: أنه يبطل بيوع الأعيان الغائبة؛ فإنه يشرط فيها خيار، وقد حصلت برضا المالك، وفيها الخيار عندهم. وعلى أنه لا يجوز اعتبار ما قبل التفرق بما بعده، كما لا يجوز ذلك في قبض رأس المال في السلم، وقبض العوضين في الصرف. واحتج بأنه نوع خيار لا يثبت بعد المجلس، فلا يثبت في حال مجلس في فسخ البيع. دليله: خيار المعاينة في ما اشتراه من المصر، وعكسه: خيار الرد بالعيب، وخيار الشرط؛ لما ثبت بعد المجلس ثبت في المجلس. والجواب: أنا لا نسلم هذا الأصل؛ لأن عندنا أن خيار المعاينة في ما يخرج عن العادة ثابت في المجلس وبعد المجلس. على أنا قد بينا: أنه لا يجوز اعتبار المجلس بما بعده. واحتج بأنه عقد صحيح فيه بالإيجاب والقبول، فلا يقف تمامه على الافتراق، كالهبة. والجواب: أنا قد جعلنا الهبة حجة لنا، وأنها لا تلزم بمجرد العقد، ثم الهبة لا فائدة في إثبات الخيار فيها؛ لأن الواهب لا حظ له فيها، والموهوب له خيار على التأبيد. واحتج بأن زمان المجلس مجهول، والخيار المجهول لا يثبت في البيع، كما لو شرطا خيارًا مجهولًا. والجواب: أنا قد حكينا كلام أحمد في رواية ابن منصور جواز

ذلك، وحكينا خلافه، وهو الصحيح، وكان المعنى فيه: أنه زمان يسير، فعفي عن الجهالة فيه. وعلى أن هذا يبطل بخيار الرؤية. ولأن ذلك الخيار ثبت شرطًا، فجاز أن تنافيه الجهالة، وهذا الخيار ثبت، فجاز أن يثبت مع الجهالة، كما قالوا في خيار الرؤية، وكما قلنا في خيار الرد بالعيب؛ لأن مدته غير معلومة. ويبين صحة هذا، وأنه فرق بين المدة التي تثبت بالشرط، والتي تثبت بالإطلاق في باب الجهالة: أن مدة قبض المسلم فيه لما استفيدت بالشرط، لم يصح أن تكون مجهولة، ومدة قبض الأعيان المبيعة لما لم تكن متعلقة بالشرط، صح أن تكون مجهولة. واحتج بأنه لو خير أحدهما صاحبه في المجلس، فاختار، لزم البيع، أو تعاقدا على أن لا خيار لهما، لزم البيع، ودخولهما في البيع رضًا بالبيع يوجب أن يكون لازمًا. والجواب: أن الرواية مختلفة عن أحمد في ذلك: فروى الأثرم وإبراهيم بن الحارث: لا ينقطع خيارهما، وإن شرطا قطعه حال العقد، أو في المجلس، كما لو شرطا قطع الشفعة، أو باعه بشرط البراءة.

ونقل الميموني وحرب: ينقطع الخيار، وهو ظاهر الحديث. فعلى هذا: إن الرضا بالبيع بعد ثبوت الخيار مخالف له قبل ثبوته، ألا ترى أن رضا الشفيع بالشراء لا يسقط حقه من الشفعة، ورضاه بعده يسقط حقه منها؟ وعلى أن ذلك الرضا لا يسقط الخيار ما ثبت لفظ، ألا ترى أنهما لو أقاما بعد العقد مدة طويلة، ولم يتلفظا بشيء، لم ينقطع خيارهما؟ وهذا المعنى معدوم حال العقد؛ لأنه إنما يوجد الرضا من طريق الاستدلال، لا من طريق اللفظ. واحتج بأن التفرق بالبدن لو كان شرطًا في لزوم البيع، لكان الوالد إذا باع من ولده الصغير مال نفسه، أو باع من نفسه مال ولده؛ أن لا يلزم أبدًا؛ لأن التفرق لا يحصل. والجواب: أنه يحتمل أن نقول: يلزم باختيار اللزوم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما لم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه). والتفرق هاهنا متعذر، واختيار اللزوم ممكن، فإذا اختار اللزوم لزم. ويحتمل أن نقول: يلزم بمفارقة مجلس العقد؛ لتعذر اعتبار التفرق بالبدن، وإذا أمكن اعتبار التفرق بالبدن وجب اعتباره بالسنة. ***

مسألة لا ينقطع خيار المجلس بالتخاير، وسواء تخايرا في نفس العقد؛ فتعاقدا على أن لا خيار بينهما، أو تخايرا بعد العقد في المجلس في أصح الروايتين

249 - مسألة لا ينقطع خيار المجلس بالتخاير، وسواء تخايرا في نفس العقد؛ فتعاقدا على أن لا خيار بينهما، أو تخايرا بعد العقد في المجلس في أصح الروايتين: نقلها الجماعة؛ منهم الأثرم، وإسحاق بن إبراهيم، والمروذي، وغيرهم: إذا تخايرا في المجلس قبل التفرق لم ينقطع الخيار. وهذا منه تنبيه على أنه إذا كان في حال العقد أولى أن لا ينقطع الخيار؛ لأن ما بعد العقد قد ثبت ملك كل واحد منهما على الخيار، وحال العقد ما ثبت. ونقل الميموني عنه: إذا تخايرا حال العقد انقطع الخيار قال أبو بكر: وتابعه حرب. وهذا أيضًا تنبيه على ما بعد العقد؛ لأن حالة العقد أضعف، وقد قطع الخيار بينهما. وقال أصحاب الشافعي: إن تخايرا بعد العقد في حالة المجلس انقطع الخيار، وإن تخايرا في حالة العقد، فعلى قولين؛ أصحهما: أنه لا ينقطع الخيار. فالدلالة على أن الخيار لا ينقطع في الحالين: ما احتج به أحمد من حديث سمرة وحكيم بن حزام وأبي برزة الأسلمي: (البيعان بالخيار

ما لم يتفرقا) و (حتى يتفرقا). وهذا عام فيه إذا وجد منهما تخاير، أو لم يوجد، فهو على العموم. ولأنهما لم يتفرقا في مجلس العقد، أشبه إذا لم يتخايرا. ولأنه خيار ثبت بالعقد، فلم يصح قطعه حال العقد. دليله: خيار الشفيع، وخيار الرد بالعيب. ولأن حالة المجلس تجري [مجرى] حالة العقد بدليل: أنها حالة لقبض رأس مال السلم، وثمن الصرف، لم يثبت أنه لا يصح التخاير حالة العقد على القول الصحيح، كذلك في حالة المجلس. فإن قيل: حالة العقد أسقط الخيار قبل وجوبه، وبعد العقد أسقطه بعد وجوبه. قيل: قد بينا أن حالة المجلس قد أجريت مجرى حالة العقد. فإن قيل: حالة العقد لا يسقط فيها خيار الشفعة وخيار الرد بالعيب، وحالة المجلس يسقط فيهما ذلك، كذلك هاهنا. قيل: خيار الشفعة والعيب لا يبطل بالتفرق، وهذا يبطل بالتفرق، فلا يبطل بالتخاير، كخيار الإيجاب. ولأنه خيار يبطل بالتفرق، فلا يبطل بالتخاير.

دليله: خيار الإيجاب في البيع، وفي الإقالة، وذلك أنه إذا قال: بعتك، فقبل أن يوجد القبول من المشتري البائع بالخيار في الرجوع في هذا الإيجاب، ولو أسقطه في المجلس لم يسقط، وكذلك الإقالة. واحتج المخالف بما روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل بيعين فأحدهما على صاحبه بالخيار حتى يتفرقا، أو يكون خيار). وفي لفظ آخر: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا، أو يقول لصاحبه: اختر). وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار). والجواب عن قوله: (إلا بيع الخيار) أو (أن تكون صفقة خيار) فيحتمل [أن تكون] (إلا) بمعنى الواو، [و] تقديره: المتبايعين بالخيار مالم يتفرقا، وبيع الخيار -أيضًا- ما لم يتفرقا. ويكون القصد بذلك إزالة الإشكال؛ لئلا يظن ظان أن شرط ذلك يقطع الخيار. وهذا شائع في اللغة: قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ

إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 150]؛ معناه: والذين ظلموا. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكلب إلا المعلم؛ معناه: والمعلم. كذلك هاهنا. وأما قوله: (حتى يتفرقا، أو يقول لصاحبه: اختر)؛ معناه: وإن كان خيار، وإن قال لصاحبه: اختر، كما قال تعالى: {ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى} [النساء: 102]، ومعناه: وإن كنتم مرضى. وكما قال تعالى: {لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286]؛ معناه: وإن أخطأنا. وجواب آخر، وهو: يحتمل أن يكون قوله: (إلا بيع الخيار) من كلام الراوي، وكذلك قوله: (حتى يتفرقا، أو يكون خيار) أو (يقول لصاحبه: اختر)، كما روي عن قتادة، عن الحسن، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام). إن وجد داًء في الثلاث رد غير بينة، وإن وجد [داًء] بعد الثلاث كلف البينة: أنه اشتراه وبه داء. والكلام الآخر من عند قوله: (إن وجد داء) من كلام قتادة

واحتج المخالف بأن الخيار غرر، فإذا جاز العقد مع الغرر، كان مع فقده أجوز، ومن الفساد أبعد. والجواب: أنه يبطل بعقد الكتابة؛ يجوز مع الأجل، وهو غرر، ولا يجوز مع فقده. واحتج بأن الخيار من مصلحة العقد، كالرهن والضمان، ثم ثبت أنه لو عري عن الرهن والضمين صح، كذلك إذا عري عن الخيار. والجواب: أن الرهن والضمين يثبت بالشرط، وخيار المجلس من موجب العقد ومقتضاه، فإذا شرط قطعه لم يصح. واحتج بأنه أسقط الخيار بعد وجوبه؛ يعني بذلك: إذا كان بعد العقد، فصح. دليله: خيار الشفعة، والرد بالعيب، وخيار المخيرة، وخيار القبول. والجواب: أنا قد جعلنا ذلك حجة لنا، وهو أنه إذا شرط قطع ذلك حال العقد لم يسقط، يجب إذا شرط قطع خيار المجلس حال العقد أم لا يسقط، وعندهم يسقط على أحد القولين. وعلى أن خيار الشفعة والرد بالعيب لا يبطل بالتفرق، وهذا يبطل بالتفرق، فهو كخيار الإيجاب. وعلى أن تلك الخيارات لا يقف إبطالها على التفرق بالأبدان، بل تبطل إذا أخذ في حديث آخر، فإذا قطع خياره، فقد أخذا في حديث آخر، وهذا الخيار يقف على التفرق بالأبدان، فهو آكد.

مسألة ينتقل الملك في بيع الخيار بنفس العقد سواء في ذلك خيار المجلس، أو خيار الشرط

250 - مسألة ينتقل الملك في بيع الخيار بنفس العقد سواء في ذلك خيار المجلس، أو خيار الشرط: ذكره الخرقي في كتاب (الزكاة) فقال: والماشية إذا بيعت بالخيار، فلم ينقص الخيار حتى ردت، استقبل البائع بها حولًا؛ سواء كان الخيار للبائع، أو للمشتري؛ لأنه تجديد ملك. وقد أومأ إليه أحمد في رواية حبيش بن سندي في رجل اشترى عبدًا، فوهب للعبد مال قبل أن يفترقا، واختار البائع العبد: فهو للمشتري بضمانه. وهذا يدل على أنه كان على ملك المشتري؛ لأنه جعل الغلة له. وقال أبو حنيفة: إن كان الخيار للبائع لم يزل ملكه عن المبيع، وإن كان الخيار للمشتري خرج من ملك البائع، ولم يدخل في ملك المشتري. وقال مالك: لا ينتقل الملك إلا بانقطاعه سواء كان الخيار للبائع، أو للمشتري. واختلف قول الشافعي على ثلاثة أقاويل: أحدهما: مثل قولنا، وهو الصحيح. والثاني: مثل قول مالك. والثالث: هو مراعى؛ فإن لم يفسخا تبينا أنه كان ملك بالبيع، وإن فسخا تبينا أنه لم يكن ملك.

وتبين فائدة الخلاف في من اشترى زوجته على أنه بالخيار ثلاثة أيام؛ عندنا ينفسخ، وعند أبي حنيفة ومن وافقه لا ينفسخ؛ لأنه لم يملكها عنده، وعندنا قد ملكها. وكذلك إذا اشترى أباه أو ابنه على أنه بالخيار عتق عليه عندنا، وعنده لا يعتق. فالدلالة على انتقال الملك في الجملة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع عبدًا- وله مال- فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع). فظاهر هذا: أنه بالشرط يكون للمبتاع؛ سواء كان هناك خيار، أو لم يكن، فهو على العموم. ولأنه بيع منعقد، أو بيع صحيح، فوجب أن ينقل الملك. دليله: إذا شرط فيه خيار الثلاث. ولا يلزم عليه إذا قال: [إن] بعتك عبدي فهو حر، فباعه؛ أنه يعتق، لا لبقاء الملك، لكن لما نذكره فيما بعد. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن تصرف المشتري يجوز فيه بوجود القبض، فدل على أن زوال الملك في مسألتنا لما لم ينفذ تصرفه مع وجود القبض المأذون فيه، فدل على أنه لم يملكه.

قيل له: التصرف قد يمنع منه [مع] تمام الملك؛ لتعلق حق الغير، كالرهن يمنع الراهن من التصرف فيه مع تمام ملكه عليه؛ لتعلق حق المرتهن به، وفي مسألتنا حق البائع في الفسخ متعلق به، وفي تصرف المشتري إسقاط هذا الحق؟ فإن قيل: يبطل هذا به إذا كان بالعوض عيب؛ فإن حق الفسخ ثابت للبائع، وتصرف المشتري يجوز. قيل له: تصرفه لا يسقط حقه من الخيار؛ لأنه يفسخ البيع، ويرجع بقيمة ما خرج من ملكه، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن حقه من الخيار يسقط بتصرف المشتري، فمنع منه. وعلى أنا لا نسلم هذا على الإطلاق؛ لأن تصرف المشتري بالعتق ينفذ رواية واحدة. وليس لهم أن يقولوا: إن المعنى في الأصل: أنه بيع لا خيار فيه؛ لأنا لا نسلم هذا؛ لأن فيه خيار المجلس. وقياس آخر، وهو: أن انقطاع الخيار معنى يستقر به العقد، فلم يقف انتقال الملك عليه، كالقبض. ولأنه خيار ثابت في بيع، فلا يمنع انتقال الملك. دليله: خيار العيب.

فإن قيل: خيار العيب لا يمنع التصرف، وكذلك القبض، وهذا بخلافه. قيل له: قد أجبنا عن هذا. ولأنها معاوضة تقتضي تمليكًا، فانتقل الملك فيها بالعقد. دليله: النكاح. واحتج المخالف بأن البائع لما استثنى الخيار لنفسه علمنا أنه لم يرض بخروج الشيء عن ملكه، وعدم الرضا يمنع انتقال الملك في البيع، ألا ترى أنه لو باع مكرهًا، أو هزل بالبيع، لم يخرج البيع عن ملكه. والجواب: أنا علمنا أنه لم يرض بلزوم العقد، ولم نعلم أنه لم يرض بزوال الملك وانتقاله، فلا نسلم الوصف. وأما المكره فهو غير راضٍ بنفس العقد، ولا سببه، وهاهنا قد رضي بالعقد، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج بأنه لو كان عبدًا نفذ عتق البائع فيه، ولو كان شقصًا في دار لم تجب للشفيع الشفعة، فدل على أن خياره يبقي الشيء على ملكه؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما نفذ عتقه، ولوجبت الشفعة في الشقص. والجواب: أنه لا ينفذ عتق البائع. نص عليه في رواية ابن القاسم.

فإن قيل: إن لم تسلم العتق المباشر، فإنا نلزم العتق بالصفة، وقد نص على وقوع ذلك في رواية الأثرم في رجلين؛ قال أحدهما: إن بعت منك غلامي فهو حر، وقال الآخر: إن اشتريته فهو حر، فباعه منه، عتق من مال البائع، قيل له: كيف؟ وإنما وجب العتق بعد البيع! فقال: لو وصى لرجل بمئة درهم، ومات، يعطاها، وإن كان وجبت بعد الموت، ولا ملك له، وهذا مثله. فقد صرح: أن العتق يقع بعد زوال ملكه، وشبهه بالوصية. قيل له: العتق المعلق بالصفة وجد أحد طرفيه في ملك، وهو حين عقد الصفة، والطرف الآخر في غير ملك، فقويت حاله، فنفذ، وفي مسألتنا جميعه يحصل في غير ملك، وفرق بينهما، ألا ترى أنه لو أعتق شقصًا له في عبد سرى إلى حصة شريكه؛ لأن هذا العتق تضمن الملك- وهو حصته- وغير الملك- وهو حصة شريكة- ولو أعتق عبدًا لا لشريك له لم ينفذ عتقه؛ للمعنى الذي بينا. ويبين صحة هذا على أصلنا: لو قال: إن ابتعت هذا العبد فهو حر، فابتاعه، عتق؛ لأن أحد طرفي اليمين في ملكه، والطرف الآخر في غير ملك. وكذلك عندنا، وعندهم: لو قال لأمته: حملك حر، وكان في بطنها علقة، عتق، وإن كان حين عقد اليمين لم يكن في ملكه، وإنما

صار في ملكه بعد أن حلته الروح. وأما الشفعة فلعمري إنها لا تثبت. نص عليه في رواية حنبل: وقد ذكر له قول مالك: إن الشفيع لا يأخذ الشفعة حتى يلزم البيع، فقال: وأنا أرى ذلك. وكان المعنى فيه: أن أخذ الشفعة يسقط حق البائع من الخيار، فلم تجز المطالبة بالشفعة؛ لتعلق حق البائع به، لا لأن الملك لم ينتقل إلى المشتري. واحتج بأنه إيجاب غير لازم، فلم ينقل الملك قياسًا على الإيجاب إذا لم ينضم إليه القبول. والجواب: أنه يبطل بمن باع ثوبًا بعبد، ووجد به عيبًا، فله رده، وفسخ البيع، كذلك إذا شرط أن العبد صانع، ولم يكن صانعًا، فله الخيار، فالإيجاب غير لازم في هذين، والملك ينتقل. ثم المعنى في الأصل: إن الإيجاب لم [يضامه] قبول، وهاهنا قد [ضامه] قبول صحيح، فنقل الملك. واحتج بأنه لو زال ملكه لم يكن له فسخه بغير رضا المشتري، وأنه [لا] يجوز تصرف المشتري.

والجواب: أن ثبوت الفسخ لا يمنع نقل الملك، كما لو ظهر هناك عيب بأحد العوضين بفقد الصفات. وأما منع المشتري من التصرف فلأجل تعلق حق الغير، وهو البائع. * فصل: والدلالة على أن الخيار إذا كان للمشتري خرج المبيع عن ملك البائع، ودخل في ملك المشتري: ما تقدم، ونخص ذلك بأنه بيع أزال ملك البائع، فوجب أن يدخل في ملك المشتري. دليله: إذا لم يكن هناك شرط. ولأنه مملوك، فلابد له من مالك، ولما لم يملكه البائع، وجب أن يملكه المشتري. فإن قيل: إذا اشترى الإمام عبدًا لخدمة الكعبة، فإن البائع يزول ملكه عنه، ولا يملكه أحد. وكذلك إذا أوصى لعبده الغائب، ثم مات الموصي، خرج العبد من ملكه، ولم يدخل في ملك الموصى له حتى يقبله. قيل له: أما العبد المشترى لخدمة الكعبة، فإن ملكه لله تعالى، وكذلك ارتفاع الوقف على المساجد والجوامع الملك فيها الله تعالى؛ لأن الملك في الشريعة ضربان:

أحدهما: لله تعالى. والآخر: للآدميين. كما أن الحقوق على ضربين: أحدهما: لله- تعالى- أن يكون موكولًا إلى نظر الإمام وولايته دون غيره. وملك البيع ليس لله تعالى؛ لأنه ليس النظر فيه موكولًا للإمام، فدل على أنه للآدمي، ولا يملكه البائع، ولا غير المشتري من الأجانب، فوجب أن يكون للمشتري. فإن قيل: فجميع الأشياء ملك لله تعالى، فلا معنى لتخصيصكم العبد لخدمة الكعبة، والوقف على المسجد. قبل له: قد بينا: أن العلامة في ما كان حقًا لله تعالى: أن الإمام يتولى النظر فيه. وأما العبد الموصى به لغائب فإن الملك فيه مراعى. فإن قيل: تبينا أنه ملكه بالموت، وإن لم يقبل تبينا أنه على ملك الورثة، فلم يخل من مالك. ولأنها معاوضة تقضي تمليكًا من الطريفين، فإذا زال بها الملك عن

أحد المتعاوضين، وجب أن [لا] يزول عن الآخر. دليله: ملك الصداق في النكاح. ولأن الخيار حق للمشتري، ودخول الشيء في ملكه حق له أيضًا، ولم نجد في الأصول حقًا لإنسان يمنع ثبوت حق آخر له. واحتج المخالف بأن المشتري إذا كان له الخيار لم يخرج الثمن عن ملكه، فلو قلنا: إن المبيع ينتقل إليه، أدى إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك واحد، وهذا لا يجوز. والجواب: أنه لا يؤدي إلى اجتماعهما؛ لأنه عندنا يزول ملك المشتري عن الثمن، ويملكه البائع، ويزول ملكه عن المبيع، ويملكه المشتري، وقد بينا هذا في المسألة التي قبلها. وعلى أن هذا يبطل على قولهم بمن غصب مدبرًا، فأبق منه، فغرم قيمته للمغصوب منه، [فالمغصوب منه] ملك القيمة، والمدبر باق على ملكه. وكذلك من ملك عصير العنب، فصار في يده خمرًا، فالخمر ملكه، فإذا اشترى بها عبدًا، وقبضه، فإن العبد ملكه والخمر، فاجتمع في ملكه البدل والمبدل. وكذلك إذا اشترى ثوبًا بعبد مدبر، وقبض الثوب، كانا جميعًا في ملكه.

مسألة فإن أعتق البائع العبد في مدة الخيار، وتمم المشتري العقد، أو فسخه، لم ينفذ عتقه

فإن قيل: نحترز من هذا فنقول: يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في ما يصح نقل الملك فيه. ولا يصح نقل الملك فيه. ولا يصح نقل الملك في الخمر والمدبر. قيل له: لو كان لا يجوز اجتماع البدل والمبدل في ملك واحد لوجب أن لا يصح تقويم الآبق؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل منه في ملك. واحتج بأن قبول المشتري غير لازم مع سلامة المبيع، فلم يدخل في ملكه، كما لو اشترى عبدًا من عبدين على أنه بالخيار. والجواب: أن المبيع هنا مجهول، فلم يوجب دخول الملك في ملك المشتري، وهاهنا المبيع صحيح، فإذا زال به الملك عن البائع، دخل في ملك المشتري. دليله: لو لم يكن هناك خيار. ... 251 - مسألة فإن أعتق البائع العبد في مدة الخيار، وتمم المشتري العقد، أو فسخه، لم ينفذ عتقه: نص عليه في رواية ابن القاسم، فقال: إذا أعتقه البائع لم يجز؛

لأن ملكه قد زال، وإنما له فيه حق الخيار. نقلت هذه الرواية من كتاب أبي بكر الخلال من البيوع. وهو اختيار أبي بكر في كتاب (التنبيه) وشيخنا أبي عبدالله. فإن وطئ البائع الأمة قبل الفسخ، فنقل أبو بكر في كتاب (الخلاف) عن أحمد في رواية مهنا: إذا وطئ البائع قبل الافتراق، فعليه الحد إن كان عالمًا، وإن وطئها المشتري، فلا حد عليه؛ لأن الملك له. قال الشافعي: ينفذ عتقه سواء تمم المشتري العقد، أو فسخه. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق فيما لا يملك)، وهذا غير مالك، فيجب أن لا ينفذ عتقه. ولأن ملكه قد زال بالبيع، فلم ينفذ عتقه ابتداًء. دليله: لو أعتقه بعد انقضاء هذا الخيار. ولا يلزم عليه إذا قال: إن بعت هذا العبد فهو حر، فباعه، عتق عليه؛ لقولنا: (فلا ينفذ عتقه ابتداء)، وهناك لم ينفذ ابتداء، وإنما نفذ بالصفة المتقدمة. ولأن أكثر ما فيه أنه يملك فسخ العقد، والرجوع فيه، وهذا لا يدل على نفوذ العتق بدليل: أنه لو وهب لابنه عبدًا، وأقبضه، ثم أعتقه بعد ذلك قبل الرجوع في الهبة، لم ينفذ عتقه، وإن كان له فسخ

الهبة، والرجوع فيها. وكذلك لو باع عبدًا بثوب، ووجد بالثوب عيبًا، فأعتق العبد، لم ينفذ عتقه، وإن كان له فسخ العقد بالعيب الذي وجده في الثوب، كذلك هاهنا. وكذلك لو أصدقها عبدًا، فأبق العبد قبل الدخول، لم ينفذ عتقه، وإن كان له الرجوع بالطلاق قبل الدخول، كذلك هاهنا. وكذلك إذا أفلس المشتري بثمن السلعة، وثبت للبائع حق الفسخ، فأعتق البائع قبل الفسخ لم ينفذ، كذلك هاهنا. وكذلك إذا أفلس المشتري بثمن السلعة، وثبت للبائع حق الفسخ، فأعتق البائع قبل الفسخ لم ينفذ، كذلك هاهنا. وقد ذكر لي أبو بكر الشامي: أن لهم في هذه المسائل الثلاث وجهان، إلا أن الصحيح: أنه مسلم، وأن تصرفه لا ينفذ. وفرق بينهما بأن الملك مستقر في هذه المواضيع، ألا ترى أن الموهوب له والمشتري غير ممنوع من التصرف؟ وليس كذلك البيع بشرط الخيار؛ لأن ملك المشتري غير مستقر، ألا تراه يمنع من التصرف بالبيع والهبة؟ فلهذا نفذ عتق البائع. قيل له: منع المشتري من التصرف بالبيع والهبة، لا يدل على ضعف ملكه، وإنما منع لئلا يسقط حق البائع من الفسخ. يدل على هذا: الراهن ملكه تام مستقر على الرهن، وإن كان

ممنوعًا من التصرف فيه؛ لأجل حق المرتهن في الوثيقة، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأن له فسخ العقد، والرجوع في العبد، فإذا أعتقه دل ذلك على فسخه، فيجب أن ينفذ ذلك. والجواب: أن له فسخ الهبة على ابنه، وفسخ المبيع إذا وجد بالثوب عيبًا، ومع هذا لا ينفذ عتقه، كذلك هاهنا. واحتج بأنه لو قال لعبه: إن بعتك فأنت حر، ثم باعه، نفذ عتقه على البائع. نص عليه في رواية الأثرم ومهنا. كذلك إذا وجهه بالعتق يجب أن ينفذ. والجواب: أنه ليس إذا وقع عتقه بالصفة، يجب أن يقع عتقه المباشر بدليل: أن المجنون يقع عتقه في حال جنونه بالصفة المتقدمة في حال إفاقته، ولا يقع طلاقه المباشر في حال جنونه، وكذلك عندهم إذا حلف على زوجته أو على عبده بالطلاق والعتاق أن لا يفعل شيئًا، ثم أزال ملكه عنه، وفعل المحلوف عليه، صح وجود الصفة في حال البينونة، وإن لم تنعقد منه صفة في تلك الحال، كذلك هاهنا. وعلى أنا أجبنا عنه فيما تقدم. فإن قيل: فما تقولون في تصرف البائع بالبيع؟ هل ينفذ، ويكون فسخًا للبيع، أم لا؟ قيل: لا ينفذ، ولا يكون فسخًا.

نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل باع ثوبًا من رجل، ثم باعه من آخر قبل الافتراق، ولما يسلمه إلى المشتري الأول، واستهلكه البائع: فإنه يؤخذ له بالخلاص من حيث باع، فإن لم يقدر أن يخلصه، فعليه قيمته يوم استهلكه، فإن كان مما يكال أو يوزن فعليه المثل. وهذا يدل من كلام أحمد على أن بيعه لا ينفذ، و [لا] يكون فسخًا للخيار. وكذلك يتخرج على هذا جميع تصرفاته بالعتق والوطء لا تنفذ، ولا تكون دلالة على الفسخ، ولا يثبت الفسخ من جهته إلا بلفظ الفسخ؛ لأن ملكه قد زال، وتصرفاته باطلة، فلم تكن دلالة على الفسخ. وليس كذلك المشتري؛ لأن المبيع على ملكه، وتصرفه ينفذ، فلهذا كان دلالة على الرضا. وقد قال أحمد في رواية محمد بن ماهان: إذا ابتاع دارًا أو ثوبًا، وشرط الخيار لنفسه ثلاثًا، فعرضه على البيع قبل الثلاث، لزمه. وأومأ إليه- أيضًا- في رواية العباس بن محمد: إذا سكن الدار، ولبس الثوب، لزمه. وذكر أبو بكر في كتاب (التنبيه) فقال: إذا باع البائع في مدة خيار

مسألة فإن أعتق المشتري في مدة الخيار نفذ عتقه

المجلس، فالبيع باطل، ولو باع المشتري كان موقوفًا على افتراق الأبدان، فإن تفرقا لزم، وإن تفاسخا بطل، وإذا وطئ، فلا حد عليه، ويكون فسخًا. وقد نص أحمد على هذا في رواية أبي طالب في رجل اشترى ثوبًا بشرطٍ، فباعه قبل انقضاء الشرط: يرده على صاحبه الأول إن طلبه، فإن لم يقدر عليه رد قيمته، ولو سرق، أو احترق، فليس عليه شيء؛ لأن البيع جناية، والحارق والسارق جنى عليه. قال: وأنا أقول: إذا اشترى جارية بشرط، ثم أعتقها قبل الشرط، جاز، وليس عليه قيمة، أرأيت لو مات؟ فقد نص على أنه يغرم القيمة؛ لتعذر التسليم بالبيع، ولا يلزم بتعذر ذلك بالعتق. ... 252 - مسألة فإن أعتق المشتري في مدة الخيار نفذ عتقه: نص عليه أحمد في رواية المروذي، وابن القاسم، وابن الحارث، والميموني، وصالح.

وقال الشافعي: إذا تمم البائع العقد نفذ عتقه، وإن لم يتممه لم ينفذ. دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا عتق في ما لا يملك ابن آدم). دليله: أنه ينفذ عتقه في ما يملك، وهو مالك في هذه الحال. [و] لأن هذا عتق من مالك جائز التصرف، فنفذ. دليله: لو تمم البائع البيع. ولا يلزم عليه عتق المكاتب عبده؛ لوجهين: أحدهما: أن المكاتب ليس بجائز التصرف على الإطلاق؛ لأنه لا يملك التبرعات. والثاني: أنه يستوي فيه الأصل والفرع. يبين صحة هذا: أنه لو أهل شوال في مدة الخيار، ثم فسخ، كانت فطرة العبد على المشتري، فدل على ثبوت ملكه عليه. ولأن أكثر ما في: أن البائع يملك استرجاعه، وهذا لا يمنع نفوذ العتق بدليل: أنه لو باعه بثوب، فقبضه المشتري، وأصاب البائع بالثوب عيبًا، كان له الرد واسترجاع العبد، ومع هذا ينفذ عتق المشتري فيه. وهكذا لو وهب لولده عبدًا ملك الولد عتقه، وإن كان الوالد

يملك أن يسترده، وكذلك هاهنا. ولأن المبيع- لو تم ولم يفسخ بعد العتق- للمشتري، وإن كان قد صادف حالًا يملك البائع فيها الفسخ، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأن ملكه غير تام عليه بدليل: أن البائع يملك استرجاعه من يد المشتري، وإزالة ملكه عنه، وإذا لم يكن تامًا، لم ينفذ عتقه فيه، كالمكاتب. والجواب: أن ثبوت حق الرجوع لا يمنع نفوذ العتق بدليل العبد الموهوب من أبيه، والعبد المشترى بثوب إذا ظهر بالثوب عيب. وأما المكاتب فالمعنى فيه: أنه ليس بكامل التصرف على الإطلاق، ألا ترى أنه [لا] يملك التبرعات، والحر بخلافه. واحتج بأن عتق المشتري إمضاء، ورد البائع فسخ، والفسخ مقدم على الإمضاء، كما لو فسخ البائع وأمضى المشتري في مدة الخيار. والجواب: أنه ليس إذا لم يثبت الإمضاء من المشتري لم يثبت العتق بدليل: أن العبد المشترك لا ينفذ بيع جميعه من الشريك، وينفذ

عتق جميعه؛ لأن للعتق تغليبًا وسرايًة. واحتج بأن البائع له خيار الفسخ واسترجاع الملك، وفي تنفيذ عتق المشتري بإسقاط المقصود بالفسخ، فلم ينفذ، ألا ترى أن المشتري لو وقف الشقص لم يلزم وقفه؟ لأن لزومه إسقاط حق الشفيع. وكذلك لو أعتقت تحت عبد كان لها الخيار، فلو طلقها زوجها لم يقع الطلاق؛ لأن إيقاعه إسقاط خيارها. وكذلك لو أعتق شركًا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه، فلو أن شريكة أعتق نصيب نفسه لم ينفذ عتقه فيه؛ لأن فيه إسقاط حق المعتق. والجواب: أن نفوذ العتق من الابن يسقط حق الأب في الرجوع، وكذلك نفوذ العتق من المشتري يسقط حق البائع من الرد إذا ظهر بالثمن عيب، ومع هذا ينفذ. وأما ما ذكروه من المشتري إذا أوقف الشقص؛ فإنه يصح وقفه عن أصحابنا، ويسقط حق الشفيع، كما ينفذ العتق هاهنا؛ لأن الوقف كالعتق بدليل: أنه لا يلحقه الفسخ. وأما الأمة إذا أعتقت تحت عبدٍ، وطلقها الزوج، وقع الطلاق؛ لأنه مطلق للفسخ.

مسألة إذا وطئ البائع الأمة قبل القبض رجع المشتري عليه بالمهر

وأما عتق الشريك نصيبه بعد عتق شريكه فإنما لم ينفذ؛ لأن ملكه زال يعتق الأول بالسراية، فلم يبق هناك ملك ينفذ عتقه فيه، وليس كذلك هاهنا؛ فإن ملك المشتري باقٍ على العبد، فلهذا نفذ. واحتج بأن المشتري لو باع أو وهب أو عتق أو وقف وُقِفَ جميع ذلك على إمضاء البائع، كذلك العتق. والجواب: أنه يمنع أن لا ينفذ بيعه وهبته، وينفذ عتقه؛ لما فيه من التغليب والسراية، كما قلنا في العبد المشرك: ينفذ عتقه في حصة شريكه، ولا ينفذ بيعه وهبته. 235 - مسألة إذا وطئ البائع الأمة قبل القبض رجع المشتري عليه بالمهر: قال في رواية مهنا في من اشترى جارية، ووزن ثمنها، فوطئها البائع: فعليه الحد، فإن كان جاهلًا فعليه المهر للمشتري. وقال أبو حنيفة: لا مهر عليه. دليلنا: أنه لو وطئها بعد القبض لزمه المهر، فإذا وطئها قبله لزمه، كالأجنبي.

مسألة فإن باع البائع، أو وهب وأقبض، أو أوقف في مدة الخيار، لم ينفذ شيء من ذلك، ولم يكن فسخا للبيع

واحتج المخالف بأنه لو وجب العقد لتعلق وجوبه بالعقد؛ لأنه لو لم يجر بينهما عقد لما وجب بالوطء شيء، ولو تعلق وجوبه بالعقد لصار مبيعًا في الذمة، والمبيع في الذمة لا يثبت إلا على وجه السلم، وهذا ليس بسلم. ولا يلزم عليه وطء الأجنبي؛ لأن وجوب العقد عليه لا يتعلق بالعقد؛ لأنه لو لم يكن هناك عقد، فوطئها، وجب عليه، فلا يصير مبيعًا في الذمة. والجواب: أنه يبطل بالوطء بعد القبض؛ فإنه يلزمه، وإن لم يكن هناك معنى أوجبه إلا العقد؛ لأنه لو لم يكن هناك عقد لم يلزمه المهر. وعلى أنا لا نقول: العقد أوجب المهر، وإنما زوال ملكه أوجب المهر. ... 254 - مسألة فإن باع البائع، أو وهب وأقبض، أو أوقف في مدة الخيار، لم ينفذ شيء من ذلك، ولم يكن فسخًا للبيع: نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل باع ثوبًا من رجل، ثم باعه البائع من آخر قبل الافتراق، ولما يسلمه إلى المشتري الأول، واستهلكه البائع: هل يضمن المشتري الأول القيمة؟ وهل يؤخذ بالخلاص من حيث باع؟ فقال: يؤخذ بالخلاص، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه

قيمته يوم استهلكه، فإن كان مما يكال أو يوزن فعليه المثل. فقد نص على أن تصرفه بالبيع باطل، ولم يجعله بذلك فاسخًا للبيع خلافًا لأصحاب الشافعي في قولهم: ينفذ ذلك منه، ويكون فسخًا للبيع. وكذلك القول عندهم في العتق والوطء يكون فسخًا للبيع، وينفذ العتق. دليلنا: أنا قد دللنا في المسألة التي قبلها أن عتقه لا ينفذ، فأولى أن لا ينفذ بيعه وهبته ووقفه؛ لأن للعتق من النفوذ ما ليس لغيره. ولأن ما ذكرناه هناك من الدليل على إبطال العتق فهو دليل هاهنا، وهو أن ملكه قد زال بالبيع، فلم ينفذ بيعه وهبته ووقفه بحق الملك. دليله: بعد انقضاء مدة الخيار. ولأن أكثر ما فيه: أنه قد ثبت له حق الفسخ، وهذا لا يدل على جواز تصرفه كالواهب يملك الرجوع، ولا يصح تصرفه. وكذلك إذا باع عبدًا بثوب، وظهر على عيب في الثوب، لم يصح تصرفه في العبد. وإذا لم يصح تصرفه لم يكن ذلك فسخًا، كما لم يكن في العين الموهوبة، وفي المبيع إذا ظهر ببدله عيب، والمفلس، كذلك هاهنا.

فإن قيل: المعنى في تلك المسائل: أن الملك تام بدليل: أنه لا يمنع من التصرف، فلهذا لم يصح فسخ الملك فيه إلا بالصريح، والملك هاهنا ضعيف، فجاز فسخه بالكناية. قيل: قد أجبنا عنه في ما تقدم. واحتج المخالف بأنه لو أراد إتمام البيع والإمضاء لما تصرف هذا التصرف، فهو كما لو فسخ بالقول. والجواب: أن الواهب لو أراد إتمام الهبة لم يتصرف هذا التصرف، وكذلك إذا باع عبدًا بثوب، وظهر على عيب في الثوب، لو أراد إتمام العقد لم يتصرف في العبد، وقد ثبت أن ذلك لا يفسخ الهبة والمبيع، فدل على أن وجوده كعدمه، وكذلك هاهنا. واحتج بأن الفسخ تدارك الملك واسترجاعه، والملك يقع بالقول والفعل معًا؛ لأن يملك بالشراء، ويملك بالاصطياد والاحتطاب، كذلك تداركه له يكون بالفعل وبالقول. والجواب: أن فسخ الهبة والمبيع إذا ظهر بالثمن عيب هو تدارك للملك، ولم يقم الفعل فيه مقام القول.

مسألة إذا وطئ البائع في مدة الخيار قبل الفسخ مع علمه بالتحريم؛ فهل يجب عليه الحد؟

255 - مسألة إذا وطئ البائع في مدة الخيار قبل الفسخ مع علمه بالتحريم؛ فهل يجب عليه الحد؟ فنقل أبو بكر في كتاب (الخلاف) عن أحمد في رواية مهنا: إذا وطئ البائع قبل الافتراق، فعليه الحد إن كان عالما، وإن وطئها المشتري، فلا حد؛ لأن الملك له خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولها: لا حد، ويكون ذلك فسخًا للبيع. دليلنا: أنه بيع صحيح، أو بيع منعقد، إذا تعقبه وطء البائع أو وجب الحد. دليله: إذا لم يكن في البيع خيار، أو تبايعا على أن لا خيار بينهما. ولأن أكثر ما فيه: أن له حق الفسخ، وهذا لا يسقط الحد، كما لو باع جارية بثوب، ووجد بالثوب عيبًا، ملك فسخ البيع، فلو وطئها قبل الفسخ وجب الحد، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأن له فيها ملكًا، أو شبهة ملك. ولأن هذا مختلف في كونه ملكًا له؛ لأن من الناس من قال: ما زال ملكه، فصار شبهًة، وجرى مجرى الوطء في النكاح بلا ولي، وبلا شهود. والجواب: أن شرب النبيذ شبهة؛ لأنه مختلف في إباحته، وفي

إيجاب الحد فيه، ومع هذا يجب الحد عند الشافعي. وإذا قتل الجماعة قتلوا به، وإن كان مختلفًا فيه. كذلك إذا وطئ امرأة وجدها على فراشه يظنها زوجته، فبان أنها أجنبية، فعليه الحد عند أبي حنيفة، وإن كان هذا مختلفًا فيه. وأما النكاح بلا ولي، وبلا شهود، ففيه تفصيل: فإن كان جاهلًا بتحريم ذلك؛ بأن يكون أسلم قريبًا، فتخفى عليه الأحكام، لم يجب الحد. وإن كان يعرف حكم ذلك، لكنه كان حنفيًا يعتقد إباحة الوطء في هذا النكاح، فلا حد عليه أيضًا؛ لأنه وطئ وطئًا يعتقد الإباحة. وإن كان يعتقد تحريم ذلك؛ بأن يكون حنبليًا، أو شافعيًا؛ فهل عليه الحد، أم لا؟ على روايتين: إحديهما: عليه الحد كمسألتنا. فعلى هذا: لا فرق بينهما. والثانية: لا حد عليه؛ لأنه مختلف في إباحته؛ فمن الفقهاء من أباحه.

مسألة إذا كان المبيع عبدا، فمات في مدة الخيار، لم يبطل الخيار في أصح الروايتين

وأما في مسألتنا فمجمع على تحريمه، ومن أسقط الحد فيه لأجل الشبهة، لا لأنه مباح. ... 256 - مسألة إذا كان المبيع عبدًا، فمات في مدة الخيار، لم يبطل الخيار في أصح الروايتين: وبه قال الشافعي. وفيه رواية أخرى: يبطل. وفائدة الخلاف: أنهما إذا لم يجز البيع، وفسخاه بعد التلف، بماذا يرجع البائع على المشتري إذا كان تلف المبيع في يده؟ على روايتين: إحديهما: يرجع عليه بالقيمة. والثانية: يرجع بالثمن المسمى. فإن قلنا: يرجع بالقيمة، فالخيار بحاله؛ لأنه قد ملك الفسخ، وتعذر الرجوع في العين، فوجب الرجوع في القيمة. وإن قلنا: يرجع البائع على المشتري بالثمن، فالخيار قد بطل؛ لأنه غير مالك للفسخ، فرجع بالمسمى لبقاء العقد. وقد نقل ابن القاسم وصالح عنه: إذا أعتق المشتري العبد نفذ عتقه، ورجع البائع عليه بالقيمة.

وهذا يدل على أنه كان له الفسخ. ونقل أبو الحارث والميموني: إذا أعتق نفذ عتقه، ورجع عليه بالثمن. وهذا يدل على أنه لا يملك الفسخ. وهذا اختيار الخرقي وأبي بكر. ووجه الدلالة: أن الخيار مدة ملحقة بالعقد، فلم تبطل بتلف المبيع بعد القبض دليله: الأجل. فإن قيل: الأجل يحل بالثمن، والثمن محله الذمة، والذمة لم تتلف بتلف المبيع، فمثاله أن يموت من عليه الحق المؤجل، فيبطل الأجل، ويحل الحق. قيل: لا يبطل الأجل بموت من عليه الحق على المذهب الصحيح، ولا يبطل- أيضًا- بإفلاس المشتري رواية واحدة، وإن كانت الذمة قد خربت وتلفت بدليل أن المبتاع أحق بالرجوع في عين المبيع. واحتج المخالف بأنه خيار فسخ، فبطل بتلف المبيع. دليله: خيار الرد بالعيب، و [في] الهبة، وخيار الإقالة. وذلك أنه لو كان المبيع عبدًا، فمات، ثم ظهر على عيب بعد موته، لم يملك الرد، وكذلك لو تلف البيع لم تصح الإقالة، وكذلك

إذا تلفت العين الموهوبة. ولا يلزم عليه إذا باع ثوبًا بثوب، وتقابضا، وتلف عند أحدهما، وظهر على عيب في الآخر؛ أنه يفسخ- ذكره في رواية حنبل- لأنا قلنا: فبطل بتلف المبيع، وهناك بعضه تلف. ولا يلزم عليه [أنهما] إذا اختلفا في الثمن بعد تلف السلعة تحالفا وفسخا؛ لأن الفسخ حصل باليمين، لا بالخيار. والجواب: أن خيار الرد بالعيب إنما بطل؛ لأنه يستدرك النقص بأخذ الأرش، فلهذا لم يملك الفسخ. وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يستدرك المقصود إلا بالفسخ؛ لأنه إنما شرط لينظر: هل له الحظ في المبيع؟ وهل غبن فيه، أم لا؟ وهذا لا يحصل له إلا بالفسخ. ولهذا قلنا: لو اختلف المتبايعان في الثمن- والسلعة تالفة- تحالفا؛ لأنه لا يحصل له غرضه من كمال الثمن إلا بالتحالف والفسخ، وكذلك هاهنا. وأما الإقالة فإنما لم تصح بعد التلف؛ لأنها في حكم العقد المبتدأ، ألا ترى أنه يعتبر فيها رضا كل واحد من المتعاقدين، والفسخ لا يعتبر فيه ذلك. ومن نصر الرواية الثانية، وأن الخيار يبطل بهلاك المبيع على

ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر، يحتج بالعلة التي تقدم ذكرها. ونجيب عن قولهم: إنه يستدرك المقصود في العيب بأخذ الأرض، وهاهنا لا يستدرك إلا بالفسخ؛ فإنه يبطل بخيار الرجوع في الهبة؛ لأنه لا يسقط بهلاك العين، وإن لم يستدرك المقصود. وعلى أنه إذا فسخ رجع إلى قيمة الهالك، ويجوز أن تكون قيمته أقل من المسمى، فلا يكون له في الفسخ بالعيب حظ. وإن قاسوا عليه إذا باع ثوبًا بثوب، وتلف أحدهما، وظهر بالآخر عيب؛ أنه يثبت الفسخ؛ لأن هناك عينًا يقع عليها الفسخ، وليس كذلك هاهنا؛ فإنه ليس هناك عين، فهو كما لو باع ثوبًا في الذمة، وتلف، ثم ظهر على عيب. ونجيب عن قولهم: الإقالة تجري مجرى العقد؛ لافتقارها إلى رضاهما، وهذا بخلافه؛ لأن علة الفرع تبطل بالرد بالعيب، وبالخيار في الهبة؛ فإنه لا يعتبر تراضيهما، ومع هذا يسقط بالإتلاف. وإن قالوا: معنى يوجب فسخ المبيع مع بقاء السلعة، فأوجب مع تلفها، كما لو اختلفا في قدر الثمن بعد تلفها، وتحالفا، وفسخا. والجواب: أن في ذلك روايتين أيضًا. وعلى أنه إنما ثبت التحالف هناك لأجل الاختلاف في الثمن والمثمن، وتعذر إنفاذ الحكم لأحدهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا المعنى موجود بعد التلف، كما هو مع بقائها.

مسألة إذا ابتاع ثوبا من أحد هذين الثوبين، أو من أحد ثلاثة، أو من أحد أربعة، فالعقد فاسد

257 - مسألة إذا ابتاع ثوبًا من أحد هذين الثوبين، أو من أحد ثلاثةٍ، أو من أحد أربعةٍ، فالعقد فاسد: وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن ابتاع ثوبًا من ثوبين- أو من ثلاثة- على أنه بالخيار، صح العقد، وإن ابتاعه مطلقًا- أو ابتاع ثوبًا من أربعة- على أنه بالخيار، فالعقد فاسد. وقال مالك: إذا باعه عبدًا من جملة أعبدٍ، أو ثوبًا من جملة ثياب، أو شاة من غنم، وكلها صنف متقارب الصفة غير متفاوت، جاز إذا كان الخيار للمشتري. ولم يخص ذلك بثوب من ثلاثة، أو عبد من ثلاثة. دليلنا: أنه مبيع مجهول حال العقد، فلم يصح العقد. دليله: إذا ابتاع ثوبًا من أربعة، أو ثوبًا من ثوبين، ولما يشترط الخيال. ولا يمكن منازعة الوصف؛ أنه مجهول؛ لأنه يحتاج إلى تعيين حتى يصير معلومًا، ولهذا لم يصح إذا لم يشترط الخيار، وإذا كان ثوبًا من أربعة؛ لأن الشيء إنما يصير معلومًا من أحد وجهين:

إما بالمشاهدة. أو بالصفة. وهذا معدوم هاهنا. ولا يلزم عليه إذا ابتاع قفيزًا من صبرة؛ أنه يصح من غير شرط الخيار، فعلم أنه معلوم. فإن قيل: المعنى فيه إن لم يشترط الخيار: أن المبيع مجهول في الحال، ولا يصير معلومًا في الثاني؛ لأنه ليس له الخيار حتى يختار أيهما شاء، فيحصل المبيع معلومًا. وليس كذاك إذا شرط الخيار؛ فإنه وإن كان مجهولًا في الحال؛ فإنه يصير معلومًا في الثاني عند بطلان الخيار. قيل له: هذا المعنى موجود في ثوب من أربعة على أنه بالخيار في أن يأخذ أي الأثواب شاء، ومع هذا يبطل البيع. فإن قيل: لا يمتنع أن يختص هذا المبيع بثلاث ... بل يجوز الزيادة عليها. على أن هذا الخيار عند المخالف بعد ثلاثة أيام؛ لأنه إذا مضى ثلاثة أيام أجبر على أن يختار، وخيار الشرط عنده يبطل بمضي الثلاثة، فلم يكن أحدهما بمنزلة الآخر.

فإن قيل: قد ثبت التخيير في الأصول بين ثلاثة أشياء مثل كفارة اليمين، وجزاء الصيد، وفدية الأذى، ولم يثبت بين أربعة أشياء، فلا يمتنع أن يثبت الخيار بين ثوب من ثلاثة، وإن لم يثبت في ثوب من أربعة. قيل له: قد ثبت عندنا بين أربعة أشياء، وهو: أن الإمام مخير في الأسارى بين أربعة أشياء: القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء. على أن هذا يبطل بمن اشترى ثوبًا من ثلاثة على أنه بالخيار؛ فإنه مخير بين أربعة خيارات؛ لأن له أن يختار كل واحد من الأثواب، وذلك ثلاث خيارات، أو يفسخ البيع، ويختار الثمن، وذلك خيار رابع. وقياس آخر، وهو: أن كل بيع لا يصح من غير شرط الخيار، لم يصح مع شرط الخيار. أصله: سائر البيوع الفاسدة. فإن قيل: إذا كان في العقود ما يصح بتاتًا، ولا يصح مع الخيار، وهو الصرف والسلم، جاز أن يكون فيها ما يصح مع الشرط، ولا يصح مع عدمه. قيل له: لم كان ذلك؟ وقد علمنا: أن الخيار عذر في عقد البيع، فلا يجوز أن يقال: لما صح العقد مع عدم العذر، يجب أن يصح مع وجوده.

فإن قيل: إذا شرط الخيار زالت الجهالة بفعل المتعاقدين، وإذا لم يشرط ثبتت الجهالة، فلم يصح. قيل له: إذا ابتاع ثوبًا من أربعة بشرط الخيار زالت الجهالة، ومع هذا لا يصح، مع أنا قد بينا أن الجهالة موجودة. فإن قيل: المعنى في سائر العقود الفاسدة: أن الحاجة لا تدعو إليها، وليس كذلك هذا العقد؛ لأن الحاجة تدعو إليه، ألا ترى أن ذوات الخدور وأكابر الناس لا يحضرون الأسواق، وقد لا يرضون باختيار الوكلاء؟ فجوز لهم هذا العقد؛ ليتوصلوا به إلى اختيار ما يروه، وسومح فيه بالجهالة. قيل له: فهذا المعنى موجود في ثوب من أربعة. وعلى أن هذا يوجب أن يقول: إذا كان الموكل ممن يحضر الأسواق، لا يجوز ذلك في حقه. وإلا يمكن أن يتوصلوا إلى اختيار ما يريدونه: إما أن يكون مقبوضًا على وجه السوم، أو يعقد الوكيل على كل ثوب عقدًا منفردًا بشرط الخيار.

واحتج المخالف بأن ما يحصل له في هذا العقد، وإن كان مجهولًا في الحال؛ فإنه يصير معلومًا في الثاني عند بطلان الخيار، أشبه العقد على ثوب بعينه على شرط الخيار؛ أنه لا يعلم في حال العقد ما كان يحصل في الثاني، يصير معلومًا عند بطلان الخيار، جاز البيع، كذلك هاهنا. والجواب: أن المبيع هناك معلوم، وإنما شرط الخيار للفسخ، فلهذا صح، وليس كذلك هاهنا؛ لأن العقود عليه مجهول، فلم يصح، كما لو اشترى ثوبًا من ثوبين بغير خيار، أو ثوبًا من أربعة بالخيار. وجواب آخر: أن الخيار لو كان بمنزلة التعيين حال العقد، لوجب أن يجوز ذلك في ثوب من أربعة وأكثر بشرط الخيار، كما جاز ذلك في التعيين حال العقد، ولما لم يقل هذا، دل على أنه لا يجري مجراه، ولا يصير المبيع معلومًا. فإن قيل: التعيين إذا حصل في زمان الخيار كان بمنزلة الموجود حال العقد، ألا ترى أنه إذا باع مئة دينار بغير عينها بألف درهم، ثم عينا، وتقابضا في المجلس، صح العقد، وكان بمنزلة ما لو عينا في حال العقد. قيل له: يجوز إطلاق العقد في الدراهم والدنانير، فدل على أنه واقع على معلوم، وليس كذلك الثوب؛ لأنه لا يجوز إطلاق البيع فيه، فلم يكن معلومًا.

واحتج بأن كل عينين جاز بيع كل واحدة منهما بعينها، جاز بيع إحداهما بغير عينها. أصله: قفيز من صبرةٍ، ومن اختلط عبده بعبد غيره، فباع من مالك لآخر. والجواب: أنه ليس إذا جاز بيع كل واحد معينًا، جاز بيع أحدهما بغير عينها، كما لو باع ثوبًا من ثوبين، ولم يشترط الخيار، أو باع ثوبًا من أربعة وشرط الخيار؛ فإنه يجوز معينًا، ولا يجوز غير معين. وعلى أن أجزاء الصبرة متساوية، فإذا عقد على قفيزٍ منها، فهو معلوم، ولهذا لا يفتقر إلى شرط الخيار، ولا يختص بعدد من القفزان، وهذا معدوم هاهنا. وأما إذا اختلط عبده بعبد غيره، فيحتمل أن لا يصح العقد حتى يقع التمييز. وبماذا يقع؟ يحتمل أن يقرع بينهم، فيتعين بالقرعة، ثم يبيعه؛ لأنه قد اختلط المستحق بغيره. ويحتمل أن يقف على المراضاة. ولو سلمناه، فلا يشبه هذا؛ لأنه لا يجوز البيع بغير خيار، ولا يجوز

بيع عبدين من خمسة. ولأن الجهالة هناك بغير فعله، فعفي عنها. وجواب آخر، وهو: أجود ما يقال فيه: أنهما يبيعان العبدين، ويقتسمان الثمن على قيمة العبدين، كما لو قلنا فيه إذا اختلط زيت أحدهما بزيت الآخر، وأحدهما أجود من الآخر: أنهما يبيعان الزيت، ويقتسمان الثمن على القيمة. واحتج بأنها جملة يجوز بيعها، فجاز بيع بعضها غير معين، كما لو باع بعضها مشاعًا. والجواب: أن أربعة أثواب يجوز بيها، ولا يجوز بيع بعضها غير معين. وعلى أنه إذا باع بعضها مشاعًا فهو متعين، ولهذا لا يختص بعدد من العبيد، ولا يفتقر إلى شرط الخيار. واحتج بأن هذه جهالة لا تمنع صحة الإجازة، فلا تمنع صحة البيع. وبيان هذا: لو استأجر أرضًا؛ ليزرعها حنطة أو شعيرًا، جاز، أو استأجر دابة؛ ليركبها إلى النهروان، أو إلى عكبراء. والجواب: أنه إنما يجوز التخيير في ما يتقارب ضرره؛ لأن إطلاق العقد يقتضيه، ولا يجوز فيما يختلف.

ولأنه لو كان الخيار هناك بين أربعة أشياء؛ الحنطة والشعير والذرة والأرز، صح. ولأنه يبطل باستئجار الظئر بطعامه وكسوته؛ لا تمنع هذه الجهالة الإجارة، وتمنع البيع. * فصل: وفي ما ذكرنا دلالة على مالك. واحتج بأن الثياب إذا كانت صفاتها متقاربة غير متفاوتة، وكانت جنسًا واحدًا، فالغرر يسير يعفى عن مثله. ولأن البائع قد علم أن المشتري إنما يختار أعلاها وأجود ما فيها، فقد دخلا على أمر معلوم بالعادة. والجواب عن قوله: (إن البائع قد علم أنه يختار أعلاها) فيبطل إذا كانت أجناسًا، فباعه واحدًا منها؛ فإنه يعلم أن المشتري يختار أعلاها، ومع هذا لا يصح العقد. وقولهم: (إن الغرر يسير) يلزم عليه إذا شاهد أكثر المبيع، أو وصفه بأكثر صفاته، فإن الغرر يقل، ولا يجوز.

مسألة إذا اشترى شيئا على أنه بالخيار إلى الليل، أو إلى الظهر، أو إلى الغد، فله الخيار إلى أن يطلع الفجر، وإلى أن تزول الشمس، وإلى أن تغرب الشمس في أصح الروايتين

258 - مسألة إذا اشترى شيئًا على أنه بالخيار إلى الليل، أو إلى الظهر، أو إلى الغد، فله الخيار إلى أن يطلع الفجر، وإلى أن تزول الشمس، وإلى أن تغرب الشمس في أصح الروايتين: نص عليها في رواية محمد بن موسى [....] في رجل حلف على شيء أن لا يفعله إلى يوم الفطر، فلما كان يوم الفطر بالغداة فعله: لم يحنث. فلم يجعل يوم العيد داخلًا في يمينه. وهو قول الشافعي. وفيه رواية أخرى: له الخيار إلى الليل كله، وإلى الظهر كله، والغد كله. نص عليه في رواية أحمد بن صدقة في رجل حلف على شيء أن لا يفعله إلى يوم الفطر، فلما كان يوم الفطر فعله: يحنث. فجعل يوم العيد داخلًا في يمينه. وهو قول أبي حنيفة. وجه الأولى: أن أهل اللغة أجمعوا على أن (من) لابتداء الغاية،

فقال: إذا قالوا: سرت من الكوفة إلى البصرة، فإن معناه: ابتدأت بالمسير من الكوفة، فانتهيت به إلى البصرة. وإذا كان كذلك، كان ظاهر اللفظ يقتضي أن يكون الخيار ينقطع عند انقضاء النهار، ولا يدخل الليل فيه. فإن قيل: المفهوم من قولهم: (سرت من الكوفة إلى البصرة): أنه دخل البصرة. قيل له: لا يفهم ذلك باللفظ، وإنما يفهم بدليل. وأيضًا فإن ما جعل حدًا ب (إلى) لم يدخل في المحدود بظاهر اللفظ. دليله: الإقرار والطلاق والتأجيل والثمن والبيع. وبيان هذا: لو قال: لفلانٍ عليَّ من درهم إلى عشرة؛ أنه يلزمه تسعة ولا يدخل العاشر في الإقرار. وكذلك إذا قال: أنت طالق من واحد إلى ثلاث؛ أنها تطلق طلقتين، والثالثة لا تقع عليها. وكذلك إذا قال: بعتك بكذا درهمًا إلى شهر رمضان، لم يدخل رمضان في الأجل. وإذا قال: من هذا الحائط إلى هذا الحائط لفلان، لم يدخل الحائطان في الإقرار. وإذا قال: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط، لم يدخل الحائط.

وإذا قال: لا كلمت فلانًا إلى شهر رمضان، لم يدخل رمضان في اليمين. ولا يلزم على هذا قوله تعالى: {وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6]؛ أن المرافق داخلة في المحدود، وإن كانت بحرف (إلى)؛ لقولنا: لم يدخل في المحدود بظاهر اللفظ، وهناك دخلت بدليل، لا بظاهر اللفظ. فإن قيل: فنحن- أيضًا- لم نقل: إنه يدخل بظاهر اللفظ، وإنما دخل بدلالة شرعية. قيل له: يجب أن تبين تلك الدلالة. وإن شئت قلت: مدة مضروبة في عقد بيع، أشبه الأجل، أو مدة ملحقة بالعقد، فكانت (إلى) غاية، كالأجل. فإن قيل: اليمين مستحق، وإنما تتأخر المطالبة بالتأجيل، ودخول الغاية في الجملة محتمل، فلم يجز تأخير المطالبة المستحقة بالعقد بالشك، وليس كذلك لزوم العقد وانبرامه؛ لأنه إنما يحصل بمضي مدة الخيار. والغاية فيها احتمال: فتارة تدخل، كقوله تعالى: {وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6]. وتارة لا تدخل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

فلم يجز لنا إلزام صاحب الخيار العقد بالشك، وكذلك الطلقة الثالثة، والدرهم العاشر، والحد في الإقرار، إنما لم يدخل ذلك في الجملة؛ لأن الغاية قد تدخل في الجملة تارة، ولا تدخل أخرى، فلم يجز إلزامه درهمًا بالشك، ولا إيقاع طلقة بالشك، ولا إلزام الحد بالشك، كما قلنا في مسألتنا: لا يلزمه العقد بالشك. وكذلك شهر رمضان لم يدخل في اليمين؛ لأن الغاية محتملة، فلا نثبت عقد اليمين في شهر رمضان بالشك. قيل له: زمان الغاية ليس بمشكوك فيه؛ لأن الظاهر من الغاية: أنها لا تدخل في الحكم. وقوله: {وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ}؛ فإنها تدخل المرافق في الغسل لدليلٍ آخر. وإذا كان كذلك، لم يكن فيه إزالة اليقين بالشك، بل هو إزالة اليقين باليقين؛ لأن ظاهر اللفظ وحقيقة الكلام بمنزلة اليقين، ويجب ترك الأصل وشغل الذمم بذلك. وقولهم: (ليس في الأجل إزالة اليقين بالشك) غير صحيح؛ لأن الملك يوجب المطالبة، فإذا أدخله زالت المطالبة في المدة التي تيقنا فيها التأجيل، وفي موضع الغاية وجبت المطالبة لبقاء سببها، وهو الملك، كذلك العقد، فوجب انتقال الملك إلا في مدة الخيار على أصله، وفي الموضع الذي يشك في الخيار يجب أن يثبت الملك، ولا يثبت الخيار؛

لقيام سبب الملك فيه، وهو العقد، فيكون قيام العقد مع الشك في الخيار بمنزلة قيام الملك مع الشك في التأجيل. فإن قيل: إذا قال: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط، لم يدخل الحائطان؛ لأن الحدود لا تدخل في المحدود بالعرف، ألا ترى أنهم يقولون: إلى دار فلان، وإلى المسجد، وإلى الطريق. قيل له: وكذلك الغاية لا تدخل في المحدود شرعًا من الوجه الذي ذكرنا. واحتج المخالف بما تقدم، وهو: أن الغاية فيها احتمال قد تدخل في الكلام تارة، كالمرافق والكعبين، ولا تدخل أخرى، كالليل مع النهار في الصيام، والعقد لا يتعلق به استحقاق، وإنما ينبرم بمضي مدة الخيار، فلم يجز إلزام صاحب الخيار العقد بالشك. ويفارق الأجل إلى رمضان؛ لأن الثمن مستحق، وإنما تتأخر المطالبة بالتأجيل، وإذا احتمل أن تدخل الغاية واحتمل أن لا تدخل، لم يجز تأخير المطالبة بالثمن بالشك. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أن الغاية غير محتملة، بل الظاهر منها: أنها لا تدخل في الحكم. ثم يبطل بالأجل؛ فإن فيه إثبات المطالبة بالشك؛ لأنه لا تدخل

الغاية في الأجل، وفي ذلك إثبات المطالبة بالشك. ويبطل به إذا قال: إن لم أفعل كذا إلى شهر رمضان فعبده [حر]، فلم يفعل حتى أهل رمضان، عتق العبد، فقد أزال ملكه عن العبد بغاية مشكوك فيها. فإن قيل: اليمين لا يجوز إثباتها في شهر رمضان بالشك، فإذا لم تثبت اليمين، فوقوع العتق فرع على مضي المدة التي انعقدت اليمين عليها، فاعتبر اليقين في الأصل، وتبعه ما يترتب عليه من وقوع العتق. قيل: [....]. واحتج بأن الجملة متى كانت منتظمة للغاية وما عداها، فإن دخول الغاية ينفي ما عداها، كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] يتناول العضو إلى المنكب، ألا ترى أن عمار تيمم إلى الآباط بظاهر الآية؟ وكذا قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. كذلك قوله: (على أنه بالخيار إلى وقت الظهر)؛ أن ذلك لإسقاط ما عدا الغاية؛ لأن قوله: (على أنك بالخيار) يقتضي خيارًا مؤبدًا، ولذلك يفسد البيع إذا أطلق، فإذا قال: (إلى وقت الظهر)، فإنما ذكر

مسألة يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث

الغاية لإسقاط ما عداها. ومتى دخلت على جملة لا تنتظم الغاية وما عداها، فإنما تدخل للتحديد، كقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وأراد به النهار. فلما لم تنتظم هذه الجملة الليل كان قوله: {إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] للتحديد، فلم يدخل في الجملة، كما لا يدخل حد الدار في الدار. والجواب: أنها لإسقاط ما عداها وإسقاطها- أيضًا- بدليل: الإقرار والطلاق والتأجيل واليمين، وقد بينا ذلك. وما استشهدوا به من قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فلم نقل: إن تلك الغاية دخلت في الجملة بمقتضى اللفظ، وإنما دخلت بدليل آخر، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدلك الماء على مرافقه، وقال: (ويل للأعقاب من النار). ... 259 - مسألة يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث: نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد في الرجل يبيع، ويجعل

للمشتري الخيار شهرًا: فجائز. قال أبو بكر في كتاب (التنبيه): يجوز شهرًا، وسنة. وبهذا قال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، وداود. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز شرطه أكثر من ثلاث. وقال مالك: يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث إذا احتيج إلى ذلك في اختيار المبيع، فإن لم يحتج إليه لم يجز. دليلنا على جواز الزيادة عليه في الجملة: عموم قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقول - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمنون عند شروطهم). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لكل مؤمن شرطه). وأيضًا فإن الخيار مدة ملحقة بالعقد، فجاز أن يزيد على الثلاث. دليله: الأجل في الثمن. فإن قيل: الأجل في الثمن لا ينافي موجب العقد؛ لأن لكل واحد منهما التصرف في العوض، وليس كذلك الخيار؛ لأنه ينافي موجب العقد، وهو التصرف؛ لأن المشتري ممنوع منه حال الخيار، فجاز أن يمنع من كثيره، ولا يمنع من كثير الأجل.

قيل له: حبس المبيع في يد البائع ينافي المقصود، ومع هذا لا يتقدر بالثلاث عندك، وكذلك خيار المجلس ينافي، ولا يتقدر، وكذلك المدة في السلم تنافي المقصود، وتجوز أكثر من ثلاث. وعلى أن ما تدعو الحاجة إليه يصح شرطه- وإن نافى- كالثلاث، وما زاد عليه قد تدعو الحاجة إليه؛ فإنه ليس كل البيع يختبر في ثلاث. وقياس آخر، وهو: أنه خيار معلوم في عقد بيع، فصح. دليله: الثلاث. فإن قيل: الثلاث في حكم القلة، فجاز أن يعفى عنها، وليس كذلك ما زاد عليها؛ لأنه في حكم الكثرة، فجاز أن يمنع منها؛ لما فيها من كثرة الغرر. قيل له: فالزيادة على الثلاث في الأجل في حكم الكثرة، ومع هذا تجوز، وكذلك السنة في حق العنين، والأربعة أشهر في حق الموتى، ومع هذا يجوز، وكذلك شرط الأجل في المسلم فيه زيادة على الثلاث يجوز، وإن كان في حكم الكثرة. فإن قيل: لا يمتنع أن يجوز ذلك في الثلاث، ويتقدر به، وإن لم يجز في ما زاد عليه بدليل: مدة المسح في حق المسافر، وخيار التصرية، وجعلت مدة لانتظار العذاب بقوله تعالى: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. قيل له: وقد يتعلق الحكم بزيادة على ذلك من الوجه الذي ذكرنا

من مدة العنة، والإيلاء، وأكثر الحيض، وأكثر النفاس، والأجل في الثمن، والسلم. وقياس آخر، وهو: أنه خيار للفسخ، فجاز أن يزيد على الثلاث. دليله: خيار المجلس، وخيار الرد بالعيب. فإن قيل: خيار المجلس ثبت شرعًا، فجاز أن يزيد على الثلاث. قيل له: خيار التصرية ثبت شرعًا، ولا يزيد على ثلاث، والأجل في الثمن [يثبت] شرطًا، ويزيد على الثلاث، فلم يصح الحكم في الأصل والفرع. فإن قيل: خيار المجلس لا يطول بينهما في العادة، فلا يكثر الغرر فيه. قيل له: وكذلك خيار الشرط لا يشترط في العادة زيادة على الثلاث، فإذا شرط فهو نادر، فيجب أن يجوز، كما تجوز الزيادة على العادة في المجلس. فإن قيل: خيار العيب لا يمنع المقصود بالعقد؛ لأنه لا يمنع جواز التصرف في المبيع، وهذا بخلافه. قيل: قد أجبنا عن هذا في ما تقدم. فإن قيل: خيار الرد بالعيب يقف على العلم به؛ لأنه متى علم به، فلم يطالب بالفسخ سقط حقه.

قيل له: إلا أنه لو علم بالعيب بعد سنة كان له الخيار، ولم يتقدر خيار الفسخ بالعيب بالثلاث. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن الغرر. وبيع الخيار غرر؛ لأنه متردد بين الصحة والبطلان. والجواب عن هذا: ما تقدم في مسألة بيع الأعيان الغائبة بالصفة، وبينا أن الغرر ما كان الغالب منه عدم السلامة، كبيع الآبق، والجمل الشارد، والسمك في الماء، والطير في الهواء، وهذا معدوم هاهنا. واحتج بما روي أن حبان بن منقذ كانت بلسانه لوثة، وكانت قد أصابته آمة في رأسه، فكسرت لسانه، ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة، ولا يزال يغبن، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال: (إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليالٍ، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فردها على صاحبها). وعاش ثلاثين ومئة سنة إلى زمان عثمان، فكان يبتاع، ويغبن، ويرد السلع على أصحابها، ويقول: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلني بالخيار ثلاثًا،

فكان يمر الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول للتاجر: ويحك إنه صدق! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان جعله بالخيار ثلاثًا. قالوا: فوجه الدلالة من الخبر من وجهين: أحدهما: أن حبان بن منقذ كان أحوج الناس إلى ثبوت الخيار له، فلما لم يجعل له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيارًا أكثر من ثلاث، دل على أن ذلك لا يجوز. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حد الخيار بالثلاث، والحد إما أن يفيد المنع من الزيادة، أو المنع من النقصان؛ لأنه لابد أن يتعلق به فائدة، فلما لم يفد حده المنع من النقصان، أفاد المنع من الزيادة. والجواب: أن الخبر مطرح الظاهر بدليل: أنه جعل له الخيار في الفسخ من غير شرط، وليس هذا لغيره، وكان الشرط فيه: أنه نهاه عن البيع، فلم ينته، ولم يكل الخيار إلى اختياره؛ لأنه لم يكن من أهله، فقدره في حقه حفظًا لماله، وخصه بالثلاث؛ لأن العادة أنه يختبر في مثله، فعلق الحكم على الغالب، وإن جازت الزيادة عليه، كخيار المصراة؛ علقه الثلاث لأن الغالب: أنها تختبر في ذلك، وإن جازت الزيادة عليه؛ لأنه لو لم تظهر التصرية إلا بعد الثلاث ملك الفسخ. وكذلك علق الاستجمار بالثلاث، وإن جازت الزيادة عليه إذ لم يحصل الإنقاء بذلك، وجاز النقصان- أيضًا- إذا كان الحجر كبيرًا.

وفي هذا جواب عن قولهم: إن التقدير إذا لم يفد النقصان منع الزيادة. واحتج بأن الخيار معنى يمنع المقصود بالعقد، فإذا شرطه مع استغناء العقد عنه، يجب أن لا يصح. أصله: إذا قال: بعتك على أن لي الخيار متى شئت. وبيانه: أن القصد من البياعات الأرباح، وثبوت الخيار يمنع من ذلك؛ لأنه لا يمكن التصرف فيه. ولا تدخل عليه مدة الثلاث؛ لأن الحاجة تدعو إليه. والجواب: أنه لا يمنع المقصود من الوجه الذي ذكرنا، وهو: أنه قد لا يختبر المبيع في الثلاث، ويحتاج إلى زيادة [على] ذلك، والقصد من الخيار الاختبار، فلا نسلم أنه يمنع المقصود. ثم يبطل هذا بخيار المجلس، وحبس المبيع، والأجل في السلم؛ فإن ذلك يمنع المقصود، ومع هذا تجوز الزيادة على الثلاث. ثم المعنى في الأصل: أنها مدة مجهولة، وهذا خيار معلوم، أشبه الثلاث.

واحتج بأنها مدة قدرها الشرع بالثلاث، أشبه مدة المسح، [....] والصوم في كفارة اليمين، وخيار التصرية. والجواب: أنا لا نسلم أن الشرع قدرها بالثلاث، والذين يذهبون إليه من حديث حبان فقد تكلمنا عليه. ثم يفسد بالأحجار؛ قدرها الشرع بالثلاث، ومع هذا فتجوز الزيادة عليه. ويبطل- أيضًا- بخيار المصراة، مقدرة بالثلاث، وتزيد عليه. ولأن ما قدر الشرع لا يجوز الزيادة عليه، وإن زاد على الثلاث، كمدة العنة والإيلاء والحمل ونحوه، فلا معنى لقولهم: قدره بالثلاث. ثم الكفارة من جنسها ما يزيد على الثلاث. وأما مدة المسح فلأنها ضربت لأجل المشقة، ولا تلحق المشقة في ما زاد على الثلاث. وأما خيار التصرية فعندهم يجوز أن يزيد على الثلاث. واحتج بأنه خيار يزيد على الثلاث يمنع استقرار العقد، فلم يصح. أصل ذلك: إذا قال: لي الخيار متى شئت. والجواب: أنه يلزم عليه خيار الرد بالعيب، وخيار المجلس،

والمدة في عقد السلم، وحبس المبيع في يد البائع على قبض الثمن، جميع ذلك يمنع الاستقرار، ويجوز أن يزيد على الثلاث. ثم المعنى في الأصل: أنه خيار مجهول، فلهذا لم يصح، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه خيار معلوم في عقد بيع، فصح: أصل ذلك: الثلاث. *فصل: والدلالة على مالك في اعتبار ما يختبر المبيع فيه: ما تقدم من عموم الآية والأخبار. ولأنه خيار معلوم أشبه ما يختبر بمثله. ولأنه لو ابتاع شيئًا يختبر مثله في ساعة بشرط الخيار ثلاثًا صح، فلو كان ذلك موقوفًا على قدر ما يختبر في مثله لم يجز شرط الثلاث؛ لأنه لا حاجة به إليه، فلم يصح. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يصح شرط الثلاث في بيع يستغني عنه.

مسألة إذا اشترى سلعة، وشرط: أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، فالبيع جائز

260 - مسألة إذا اشترى سلعة، وشرط: أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، فالبيع جائز: نص عليه في رواية عبد الله في الرجل يشتري من الرجل الشيء، ويشترط عليه: إن لم يعطه الثمن في يوم كذا، أو ساعة كذا، فلا بيع لك: فهو جائز، ويرجع عليه في بيعه. وكذلك نقل ابن منصور عنه في رجل باع شيئًا، وقال: إن لم تحمله غدًا، فلا بيع بيني وبينك: فهو على شرطه. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: البيع باطل. دليلنا: أن هذا بمنزلة شرط الخيار؛ لأنه علق الإجازة والفسخ بفعله، وهو أن ينقد الثمن في الثلاث، فيصح البيع، أو يترك نقده حتى تمضي الثلاث، فيفسخ البيع، فإذا كانت إجازته وفسخه متعلقين على فعله أشبه البيع بشرط الخيار، وقد ثبت جوازه بالسنةِ، كذلك هذا. ولأنه نوع عقد فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض عن زمان، كالصرف والسلم. ولا يمكن القول بموجبه في بيع الطعام بالطعام؛ لأن التعليل لبيع الأعيان التي لا ربا فيها، ولأن بيع الطعام بالطعام يمكن أن يكون أصلًا لعلتنا أيضًا.

واحتج المخالف بأن هذا يؤدي إلى تعليق البيع على الخطر؛ لأن تقديره: إذا نقد الثمن إلى ثلاثة فسأبايع، وإن لم ينقد لم يكن بينهما بيع، والبيع لا يتعلق على الخطر، ألا ترى أنه لو علقه بدخول الدار، وبقدوم زيد، لم يجز. وليس كذلك شرط الخيار؛ لأن البيع غير معلق فيه على الخطر؛ لأن البيع واقع صحيح، والخيار مشروط للفسخ. والذي يدل على أن هذا مفارق لشرط الخيار: أن هاهنا ينفسخ البيع بمضي الثلاث إذا ترك نقد الثمن في الثلاث، وشرط الخيار يتم البيع بمضي الثلاث. والجواب: أن العقد واقع في الوضعين، وليس واحد منهما معلقًا على الخطر، بل إجازته وفسخه يتعلقان على قوله؛ أما الجواز في مسألتنا فمعلق على نقد الثمن في الثلاث، وفسخه معلق على ترك الفسخ في الثلاث، وفسخه يتعلق على رده البيع في الثلاث، وجميعه فعله، فلا فرق بين الموضعين. ولو جاز أن يقال: إن العقد في مسألتنا معلق على الخطر، لجاز أن يقال ذلك في شرط الخيار. واحتج بأن قوله: (إن لم ينقدني، فلا بيع) تعيق الفسخ بالصفات، وذلك لا يصح، كما لو قال: بعتك بشرط الخيار، فإن قدم زيد، فلا خيار.

مسألة إذا اشترى جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فلمسته الجارية في مدة الثلاث لشهوة، وأقر المشتري أنها فعلت ذلك، لم يبطل خياره

والجواب: أن هذا موجود في شرط الخيار، وأنه علق الفسخ بصفة، وهو: انقضاء مدة الخيار، ومع هذا فالعقد صحيح. واحتج بأن العقد الذي يجوز تعلقه بخطر، وهو الوكالة، لا يقف فسخه على خطر، فالعقد الذي لا يتعلق على خطر أولى أن لا يقف فسخه على خطر. والجواب: أنه يبطل بشرط الخيار. وعلى أن عقد الوكالة لما سوغ تعليقه بالخطر لم يسامح بدخول الخطر في فسخه، والبيع لما ضيق حكم عقده حتى لا يجوز تعليقه بالخطر سومح في فسخه. يبين صحة هذا: أن النكاح لما لم يتعلق ابتداؤه بخطر، جاز أن يتعلق رفعه بخطر، وهو الطلاق. ... 261 - مسألة إذا اشترى جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فلمسته الجارية في مدة الثلاث لشهوة، وأقر المشتري أنها فعلت ذلك، لم يبطل خياره: أومأ إليه أحمد في رواية أبي الصقر عن رجل اشترى جارية، له فيها الخيار يومًا، أو يومين، فانطلق بها إلى بيته، فغسلت رأس المشتري،

وغمزت رجليه، [أو طحنت له]، أو خبزت: لم يكن مستوجبًا حتى يبلغ منها ما لا يحل لغيره، فيبطل خياره، فإن مشطها، أو خضبها، أو حفها، بطل خياره؛ لأنه وضع يده عليها. فقد نص على أن مسها إياه بتغميز رأسه ورجليه لا يبطل خياره، وأبطل ذلك بمسه إياها. وقال أبو حنيفة: يبطل خياره. دليلنا: أن الخيار حق للمشتري، فلا سبيل لها إلى إبطاله، ألا ترى أنها لو رضيت بالقول لم يبطل خياره، كذلك إذا لمسته. ولأن لمسها معنى لو وجد من جهتها إلى البائع، لم يكن فسخًا للبيع، فإذا وجد منها إلى المشتري، لم يكن له إمضاء. دليله: الخدمة من جهتها. واحتج المخالف بأن الفعل الذي يتعلق به بطلان الخيار لا يختلف وجوده من جهته، أو من جهتها، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تشج نفسها، أو يشجها هو في أن خياره يبطل في الحالتين جميعًا، كذلك اللمس بشهوة. والجواب: أن لنا في ذلك روايتين: إحداهما: أن جنايته عليها وجنايتها على نفسها لا تمنع الرد. فعلى هذا: لا يصح القياس. والثانية: تمنع.

وفيها ضعف, فعلى هذا: إذا شجت نفسها، فقد فات خدمتها، فلزمه ذلك الجزء، [فلما] لزمه ذلك لزمه الباقي. وليس كذلك اللمس؛ لأنه لا يوجب فوات جزء منها، ولا حدوث عيب بها، فلهذا فرقنا بينهما. واحتج بأن بطلان الخيار حكم يتعلق باللمس والنظرة، فوجب أن لا يختلف وقوعها من جهتها، أو من جهته في تعلقه بها، كالتحريم لما كان حكمًا يتعلق بها، لم يختلف وقوعه من جهتها أو من جهته، ألا ترى أنها لو قبلته لشهوة حرمت على أبيه وابنه، كما لو قبلها، أو لمسها، كذلك هاهنا. والجواب: أنه إنما كان وجود ذلك من جهة المشتري مبطلًا لخياره؛ لأنه دليل على الرضا منه، وهو مالك للرضا بالعقد، وليس كذلك وجوده من جهتها؛ لأنه ليس فيه دلالة على وجود الرضا بالعقد، وليست مالكة للرضا بالعقد. ويفارق هذا تحريم المصاهرة؛ لأنها لو لمست البائع ثبت تحريم المصاهرة، ولم يكن ذلك فسخًا للعقد، كذلك لا يمتنع أن يثبت التحريم هاهنا، ولا يكون ذلك مبطلًا لخيار المشتري.

مسألة إذا شرط الخيار، وسكتا عن ضرب مدته، بطل البيع في أصح الروايتين

262 - مسألة إذا شرط الخيار، وسكتا عن ضرب مدته، بطل البيع في أصح الروايتين: قال في رواية ابن منصور في الرجل يبيع البيع بشرط، ولا يسمي أجلًا: فلا يعجبني حتى يسمي يومًا أو يومين. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي. وفيه رواية أخرى: يصح، ويكون لهما الخيار أبدًا. نقله ابن منصور في موضع آخر في من اشترى شيئًا بالخيار، ولم يسم إلى متى: فله الخيار أبدًا، أو يأخذه. قال مالك: البيع صحيح، ويضرب للسلعة من المدة ما تختبر في مثلها في العادة. دليلنا: أنها مدة مضروبة في عقد بيع، فإذا كانت مجهولة، وجب أن تقع باطلة. دليله: الأجل في الثمن، والأجل في عقد السلم. واحتج المخالف بأن قدر ما يحتاج إليه مقرر في العرف فإذا سكتا عنه، فقد دخلا في العرف فيه، فصح. والجواب: أن الخيار لا تقف مدته على العرف بدليل: أنه لو كان مثله يختبر في ساعة، فشرط الخيار ثلاثًا، صح.

مسألة إذا شرطا أجلا مجهولا، أو خيارا مجهولا، فالعقد باطل، وإن اتفقا على إسقاطه قبل مضي جزء من المدة المجهولة

وإذا كان كذلك فمتى شرطا خيارًا مطلقًا، فليس هناك عرف مستقر يرجع إليه؛ لأنه قد يقدر مدة، فيطالبه صاحبه بزيادة عليها، أو نقصان منها. فإن قيل: أليس خيار المجلس وخيار الرد بالعيب مدته مجهولة، ويصح؟ كذلك خيار الشرط. قيل له: هناك ثبت شرعًا، وهذا ثبت شرطًا، وفرق بينهما، ألا ترى أن مدة قبض المسلم فيه لما استفيدت بالشرط، لم يصح أن تكون مجهولة؟ ومدة قبض الأعيان المبيعة لما لم تكن متعلقة بالشرط، صح أن تكون مجهولة، كذلك هاهنا. ... 263 - مسألة إذا شرطا أجلًا مجهولًا، أو خيارًا مجهولًا، فالعقد باطل، وإن اتفقا على إسقاطه قبل مضي جزء من المدة المجهولة: نص على ذلك في الشرط الفاسد، فقال في رواية أحمد بن الحسين في من اشترى ثوبًا إن جاز عنه، وإلا رده: لم يجز، وإن باعه بربح، لم يعجبني أن يطيب له الربح.

ونص- أيضًا- في المزارعة: إذا شرط فيها شرطًا فاسدًا، بطلت من أصلها. ورواية أخرى: الشرط باطل، والعقد صحيح لا يعتر اتفاقهما على إسقاطه. قال في رواية عبيدالله بن محمد الفقيه: إذا ابتاع جارية، واشترط عليه أن لا يبيع، ولا يطأ: البيع جائز، والشرط باطل. وقال- أيضًا- في رواية ابن منصور: إذا استأجر بيتًا إذا شاء أخرجه، وإذا شاء خرج، فقد وجب بينهما إلى أجله. وقال أبو حنيفة: إن اتفقا على إسقاطه قبل مضي جزء من المدة المجهولة صح العقد. وكذلك عندهم إذا شرط خيار أربعة أيام، ثم أسقط قبل اليوم الرابع. وقال الشافعي: العقد باطل، ولا تلحقه الصحة، كالرواية الأولى. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيعٍ وشرطٍ. والنهي يدل على فساد المنهي عنه في عموم الأحوال، وعندهم هو فاسد إذا أسقطاه صح. والقياس أنه عقد فاسد، وجب أن لا تلحقه الصحة بإسقاط ما أفسده. دليله: إذا باع درهمًا بدرهمين، ثم اتفقا على إسقاط أحدهما.

ولا يلزم عليه إذا تزوج الحربي خمسًا، ثم أسلم، فاختار أربعًا؛ أن عقده صحيح؛ لأنا لا نحكم بفساده في الأصل، بل نقول: إنه واقع صحيحًا في الجميع، ويعين أربعًا بينهن بالاختيار. والدلالة على صحته في الجميع: أنه لو طلق الخمسة قبل أن يختار ثلاثًا، لم يكن له أن يعقد على واحدة منهم إلا بعد زوج، ولو أخر الاختيار لزمه نفقة جميعهن. ولا يلزم عليه إذا حكم به حاكم؛ أنه يصح؛ لقولنا: فلم تلحقه الصحة بإسقاط ما يفسده، وهناك لحقته بحكم الحاكم. فإن قيل: الدرهم الذي تعلق به فساد العقد ليس بمعين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فلم يصح إسقاطه. قيل له: الفساد تعلق بالزيادة على ما في مقابلة الدرهم؛ لأن التماثل في الوزن مستحق في الذهب والفضة، فإذا سقطت الزيادة فقد أسقط ما تعلق به الفساد؛ لأن الفساد تعلق بزيادة غير معينة في الظاهر والباطن، فإذا سقطت فقد زال ما أوجب الفساد، ألا ترى أن في الابتداء لو بيع درهم بأحد الدرهمين صح البيع، ولم يكن ربا. فإن قيل: الفساد هناك داخل في نفس العقد، وفي مسألتنا في شرط

ملحق به، فإذا أسقط الشرط بقي العقد عاريًا عن المعنى الموج لفساده، فصح. قيل له: الفساد في البدل وفي الأجل سواء بدلالة تأثيرهما في العقد الفساد. وقياس آخر، وهو: أن كل ما لو لم يتفق المتبايعان على إسقاطه لم يصح، كذلك وإن اتفقا على إسقاطه. دليله: إذا مضى جزء من المدة. فإن قيل: إذا مضى جزء من المدة لم يمكن إسقاط الماضي من المدة، فتمكن ذلك الفساد في العقد، فبقي بحاله، وقبل مضي جزء من المدة لم يتمكن الفساد، فأمكن إسقاطه. قيل له: هذا باطل على أصله إذا شرط الخيار أربعة أيام، فأسقط الزيادة في اليوم الثالث؛ فإنه يصح العقد عنده، وإن كان قد مضى جزء من المدة لا يمكن إسقاطه. فإن قيل: تلك المدة لا توجب فساد العقد، فلهذا مضيها لم يوجب فساده، وليس كذلك الزيادة على الثلاث؛ فإن الفساد بها يحصل، فإذا مضى جزء منها تمكن الفساد. قيل له: إذا شرطا خيار أربعة أيام، فالكل فاسد عنده، ولا يصح

أن يقال: إن الفاسد منها خيار اليوم الرابع دون الثلاثة؛ لأن من مذهبه إذا شهد شاهدان؛ أحدهما بألف درهم، والآخر بألفين: أنه لا يحكم بشهادتهما بألف، ويزعم أنهما شاهدان مختلفان، وإن كان في ضمن الألفين ألف؛ لأن لفظة الألفين ليست بعبارة عن ألف بحال. ويحتج أصحابه على هذا بأن من قال: في الدار ثلاثة رجال، وكان فيها رجل واحد؛ أنه كاذب في جميع خبره، ويقولون: إذا قال النصراني: الله ثالث ثلاثة؛ أنه كاذب في جميع خبره، ولا يجوز أن يقول: إنه صادق في واحد، كاذب في اثنين. فإذا كان هذا مذهب المخالف لم يصح أن يقول: إنه من شرط خيار أربعة أيام كان الشرط صحيحًا في ثلاث، فاسدًا في الزيادة، بل يجب أن يكون فاسدًا في الجميع. فإذا كان كذلك لم يكن فرق بين إسقاط الزيادة في اليوم الرابع، وبين إسقاطها في الثالث. وأيضًا فإنهما تفرقا عن فساد بيع، فوجب أن لا تلحقه الصحة. أصله: إذا تفرقا في الصرف والسلم قبل القبض. فإن قيل: المعنى فيه: أن الافتراق حصل عن دين بدين، وهذا

المعنى لا يمكن رفعه من العقد، وفي مسألتنا افترقا عن خيار صحيح وفاسد، وإسقاط الخيار ممكن، فإذا أسقطاه قبل تمكنه صار كأن لم يكن. قيل له: لا فرق بين أن يكون الصرف عينًا بعين أو دينًا بدين في البطلان. وعلى أنه لا فرق بين أن يكون جميع الخيار فاسدًا لأجل جهالته في جميع الأجل، وبين أن يكون بعضه فاسدًا وبعضه صحيحًا، فلا معنى لهذا الكلام. واحتج المخالف بأن المعنى الذي لأجله كنا نحكم بفساد البيع هو الأجل والخيار، فإذا أسقطاه قبل مضي جزء منه عري العقد منه، وحصل العقد عاريًا عن المعنى الموجب لفساده، فصح، كما لو وقع العقد في الابتداء من غير شرط الخيار. ولا يلزم عليه إذا اشترى عبدًا على أن يعتقه، أو على أن لا يبيعه؛ لأنه لا فرق ينهما؛ فإنهما إذا أسقطاه بعد ذلك صح العقد. والجواب: أنه لا يصح إسقاطه عندنا؛ لأن الأجل والخيار غير ثابت، ويفارق الخيار الصحيح في الأجل الصحيح؛ لأنه ثابت، فصح إسقاطه، وهذا كما نقول: إن الثمن في البيع الفاسد لا يصح إسقاطه،

والإبراء منه؛ لأنه غير ثابت، ويصح إسقاط الثمن في البيع الصحيح؛ لأنه ثابت. ثم هذا يبطل إذا أسقطا أحد الدرهمين. واحتج بأنه شرط ملحق بالعقد، فجاز إسقاطه. دليله: إذا كان الخيار معلومًا. والجواب: أنا قد بينا: أنه ليس هاهنا شرط ثابت، فيلحقه الإسقاط. ثم المعنى في الأصل: أن الخيار هناك صحيح، والأجل صحيح، فصح إسقاطه، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه فاسد، فهو كما لو أسقطاه بعد مضي جزءٍ منه. واحتج بأنه شرط ملحق لا يقتضيه العقد، فجاز أن تتعلق بالعقد أحكام الصحة، كالبيع بشرط الصحة. والجواب: أن وصف العلة ضد المقتضي؛ لأن ما لم يقتضيه العقد يمنع صحته. وعلى أن المبيع بشرط العتق مضمون بالثمن، فلهذا تعلق به أحكام الصحة، وهذا بيع فاسد، أشبه بيع درهم بدرهمين. *فصل: والدلالة على من قال من أصحابنا بصحة العقد، وإبطال الشرط،

وإن لم يبطل: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، والنهي يقتضي الفساد. ولأنه عقد معاوضة شرط فيه شرطًا فاسدًا، فأبطله، كالسلم والصرف. ولأن إسقاط الشرط يؤدي إلى جهالة الثمن؛ لأنه يحتاج أن يسقط من الثمن ما قابل الشرط؛ لأنه إنما نقصه من الثمن لأجل الشرط. وهذا يلزم عليه إذا ابتاع بشرط البراءة بطل الشرط، وصح العقد بالمسمى، وإن كان الشرط قد قابله جزء من الثمن. وكذلك إذا ابتاع حرًا وعبدًا صح العقد في العبد بقسطه من الثمن، وبطل في الحر، وسقط ما قابله من الثمن، ويبقى العبد بقسطه، وإن كنا نعلم أنه لو ابتاعه بقيمته لم يصح العقد، وقد صح هاهنا. واحتج من ذهب إلى جواز العقد بحديث بريرة، وأن عائشة شرطت الولاء لمواليها؛ يعني: لما اشترت بريرة، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - العقد، وأبطل الشرط. والجواب: أنه يحتمل أن يكون الشرط تقدم العقد، أو كان مقارنًا للعقد، لكن عائشة كانت مخصوصة بجواز ذلك الشرط، وكان نهيه عن ذلك راجعًا إلى غيرها من الناس. وقد قال أحمد في رواية الأثرم: كان قد تقدم من النبي - صلى الله عليه وسلم - القول

فيه فتقدم [....] على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان هذا تغليظًا. ويأتي الكلام على هذا الخبر في مسألة البيع الفاسد إذا اتصل به القبض. واحتج بأنه عقد ليس من شرطه القبض في المجلس، أشبه النكاح، لا يبطله الشرط الفاسد. والجواب: أن الشرط الفاسد في النكاح على ضربين: أحدهما: يفسد النكاح رواية واحدة، وهو الشرط الذي يمنع استقرار العقد، وأن يطلقها في وقت بعينه، أو شرط يوجب التشريك في البضع، كنكاح الشغار، فهذا الضرب يبطل النكاح. والضرب الثاني: ما لم يوجد فيه شيء من ذلك، مثل أن تشرط عليه أن لا يطأها في وقت، أو تمنعه الولد، أو يشترط عليها أن لا ينفق عليها، ولا يصدقها، وإن أصدقها رجع فيه، ويشترط هو عليها أن لا يطأها، فقال أبو بكر في كتاب (المقنع): فيها قولان: أحدهما: النكاح فاسد أيضًا؛ لأنه شرط، فأشبه الشرط الأول. والثاني: أنه صحيح؛ لأن النكاح يصح على المجاهيل، وهو مهر المثل، فلم يبطله الشرط، كالعتق والطلاق، ويفارق هذا البيع؛ لأنه لا يصح مع الجهالة، فلهذا أبطله الشرط.

مسألة إذا شرطا الخيار لأحدهما، فاختار فسخ العقد بغير محضر من الآخر جاز

واحتج بأنه عقد تمليك، فلا تبطله الشروط الفاسدة. دليله: العمرى. والجواب: أن ذلك الشرط على غير العاقد، وهم الورثة؛ لأن هذا الشيء كان يصير إليهم بعد موته، والشرط إذا كان على غير العاقد لم يبطل العقد، كما لو قال: بعتك هذه الدار على أن لا ينتفع بها فلان. ... 264 - مسألة إذا شرطا الخيار لأحدهما، فاختار فسخ العقد بغير محضرٍ من الآخر جاز: وهذا على قياس قوله: إذا وجد بالمبيع عيبًا ملك الرد بغير حضرته، وكذلك الوصي يعزل نفسه بعد موت الموصي، والوكيل يعزل نفسه من الموكل. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل لحبان ابن منقذ ثلاثة أيام، فإن رضي أخذ، وإن سخط ترك. ولم يفرق بين أن يكون بحضرة صاحبه، أو غيبته، فهو على عمومه.

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين ثلاثًا؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها). فجعل له ردها في الثلاث، ولم يفرق بين الحضور وعدمه. والقياس: أن من لا يعتبر رضاه في رفع العقد، لا يعتبر حضوره قياسًا على الزوجة في الطلاق. ولا تلزم عليه الإقالة؛ لأنها لما افتقرت إلى رضا المقيل، افتقرت إلى حضوره. ولا يلزم عليه حضور الزوجة في مجلس اللعان، وإن لم يعتبر رضاها؛ لأنه يجوز لعان الزوج في غيبةٍ من المرأة. فإن قيل: المعنى في الطلاق: أنه يقتضي إسقاط حق الزوج عن البضع، فلهذا لم يحتج إلى حضور المرأة، كالبراءة من الدين؛ لا تحتاج إلى حضور الذي عليه الدين، وليس كذلك البيع؛ فإنه يتعلق به حق كل واحد من المتعاقدين، فلا يجوز لأحدهما إسقاط حق صاحبه إلا بحضرته. قيل: أما النكاح فيتعلق به حق كل واحد من الزوجين. يدل عليه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

ولأنه إذا طلقها قبل الدخول بها سقط نصف المهر، وزال سبب وجوب نفقتها في المستقبل، وذلك إسقاط لحقها. وكذلك الرجعة تصح في غيبتها، وهو يسقط حقها؛ لأنها جارية في العدة، وتملك نفسها بانقضائها، كما يملك كل واحد من المتبايعين بانقضاء مدة الخيار، وتصح الرجعة في غيبتها، ويسقط حقها. وأيضًا فإنه فسخ بيع في مدة خيار، فصار كما لو فسخ بحضرة صاحبه. ولأن ما كان فسخًا للبيع بحضور أحد المتبايعين، كان فسخًا في غيبة الآخر. دليله: وطء البائع وقبلته للأمة في مدة الخيار في غيبة من المشتري. فإن قيل: الوطء والقبلة لم يجعلا للفسخ، وإنما ينفسخ البيع بهما من طريق الحكم، فلم يعتبر حضور المشتري، وليس كذلك قوله: فسخت البيع، ورددته، وأبطلته؛ فإنه موضوع للفسخ، فلم يصح إلا بحضور المشتري. قيل له: ما لم يجعل للفسخ، إذا انفسخ به البيع في الحالين، فالذي وضع للفسخ أولى بذلك، ألا ترى أن الكتابة لما وقع بها الطلاق مع القصد والنية، كان وقوعه بالصريح الذي وضع للإيقاع به أولى؟ وإذا صحت الفرقة بالردة، كانت بالطلاق أولى، وإذا صحت الرجعة بالوطء، كانت باللفظ الصريح أولى.

واحتج المخالف بأن فيه فسخ البيع بغير محضرٍ من صاحبه، فوجب أن لا يجوز، كما لو قال أحدهما: أقلني، ثم غاب، فقال الآخر بعد غيبته: أقلتك؛ فإنه لا يجوز. ولا يلزم عليه إذا كان البائع بالخيار، فأعتق، أو قبل؛ أن البيع ينفسخ، وإن لم يكن الآخر حاضرًا؛ لأن العتق والقبل ليسا بفسخ، وإنما ينفسخ البيع بعد القبل ونفاذ العتق من طريق الحكم. [....] أنه يجوز أن يقول في غيبته: أقلتك، ويصح ذلك إذا كان على الفور، فلو كان واقفًا عند باب داره، فقال له: (أقلني)، ثم أطبق الباب في وجهه، فقال: (أقلتك) في الحال، صح، وإن لم يكن مشاهدًا له. [....] نقيسه عليه إذا تطاول الزمان بالغيبة. [....] هناك بطل بالإعراض، وهو أخذه في الغيبة، لا بالغيبة، ولهذا لو كان حاضرًا، فتشاغل بعمل آخر، ثم أقاله، لم يصح. وقد قيل: إنه بطل بالتأجير، لا بالغيبة، ولهذا نقول: لو كان حاضرًا، وقال له: أقلتك، وهو سمعه بعد زمان متراخٍ لم يصح. وعلى أنه يبطل بعتق البائع وقبله؛ فإنه فسخ، وينفذ بغير حضور.

وعلى أن الإقالة يعتبر فيها رضا البائع، فلهذا اعتبر حضوره، وهاهنا لا يعتبر رضاه. واحتج بأن المشتري قد تعلق له بالعقد له بالعقد حق، وهو حصول الملك بمضي المدة، وجواز التصرف فيه، كما أن المودع قد تعلق له حق بالوديعة، وهو إمساكها، ثم اتفقوا أنه لا يجوز للمودع إبطال حق المودع بقوله: (قد فسخت الوديعة، وأبطلت حقه عن إمساكها) بغير محضرٍ منه، كذلك يجب أن لا يجوز للبائع إبطال حق المشتري بقوله: (قد فسخت البيع، وأبطلته) بغير محضر من المشتري. ولا يلزم عليه إذا استهلك البائع المبيع في يده؛ أنه يبطل حق المشتري، وإن لم يكن حاضرًا؛ لأن الاستهلاك ليس بفسخ، وإنما ينفسخ به البيع من طريق الحكم. [....] أنه يبطل النكاح؛ فإنه يتعلق [به] حق الزوجين، ويصح طلاق الزوج في غيبة الزوجة، وكذلك وطء البائع الجارية المبيعة في مدة الخيار وقبله في غيبة المشتري. وعلى أنا لا نسلم الأصل؛ لأن الوديعة تنفسخ، وتبطل بالفسخ والعزل عن الإمساك، وإن كان في غيبة المودع، وإذا بلغه لزمه ردها عليه على حس الإمكان، ولا يجوز له إمساكها.

[....] لو كانت قد انفسخت لكانت إذا هلكت في يد المودع يجب عليه ضمانها. [....] الوديعة تنفسخ، ويبقى الشيء على الأمانة في يده إلى أن يتمكن من ردها، ألا ترى أنه لو كان المودع حاضرًا، ففسخ الوديعة، انفسخت، وبقيت على الأمانة إلى أن يفرط في ردها، فلو قام المودع في الحال إلى موضع الوديعة؛ ليردها عليه، فوقع الحريق، فاحترقت قبل وصوله إلى موضعها، لم يجب عليه ضمانها. واحتج بأن المشتري قد ثبت له حق جواز التصرف بالعقد متى مضت المدة، كما ثبت للمضارب والوكيل والشريك جواز التصرف في المال، ثم ليس لرب المال أن يفسخ المضاربة والشركة والوكالة بغير محضر من الآخر، كذلك هاهنا. [....] أنا لا نسلم هذا ونقول يجوز لرب المال أن يفسخ المضاربة والشركة والوكالة غير محضرٍ من الآخر. واحتج بأنا نفرض المسألة في الرد بالعيب، وأنه ليس للمشتري أن يفسخ بغير حضور البائع، ولا حكم الحاكم، فنقول: كل من ثبت له الخيار في فسخ العقد لأجل العيب، لم يتم الفسخ به وحده، واعتبر

مسألة إذا ابتاع شيئا وشرط الخيار لغيره صح؛ سواء شرط الخيار لنفسه، وجعله وكيلا له في الإمضاء والرد، أو شرطه للوكيل دونه، إلا أنه إن شرطه لنفسه، وجعله وكيلا، كان له دون الوكيل، وإن شرطه للوكيل، كان الخيار لهما

في حال وقوعه حضوره وحضور غيره، كخيار امرأة العنين؛ أنه يحتاج إلى حضورها، وحضور الحاكم. والجواب: أن خيار امرأة العنين يختلف في تعلق الفسخ بها في الجملة، فمنهم من لا يرى ذلك، فافتقر ذلك إلى الحاكم؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس كذلك فسخ البيع بالخيار والعيب؛ لأنه مجمع عليه في الجملة، وإن اختلف في مواضعه، فلم يعتبر فيه رضا ولا قضاء، كخيار المطلقة. ... 265 - مسألة إذا ابتاع شيئًا وشرط الخيار لغيره صح؛ سواء شرط الخيار لنفسه، وجعله وكيلًا له في الإمضاء والرد، أو شرطه للوكيل دونه، إلا أنه إن شرطه لنفسه، وجعله وكيلًا، كان له دون الوكيل، وإن شرطه للوكيل، كان الخيار لهما: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا قال لرجل: زوجتك بنتي إن رضيت أمها، وهي صغيرة، لا أرى شيئًا وقع بعد حتى ترضى أمها. وظاهر هذا: أنها إذا رضيت صح، ولزم العقد، وهذا خيار لغير العاقد.

وقال أصحاب أبي حنيفة: يصح، ويكون لهما. وقال أصحاب الشافعي: إن شرطه له، وجعله وكيلًا في الإمضاء والرد صح وجهًا واحدًا، وإن شرطه للوكيل فعلى وجهين: أحدهما: لا يصح. والثاني: يصح. وهل يكون للوكيل، أو لهما؟ على وجهين. والدلالة على أنه إذا شرطه لنفسه، وجعله وكيلًا في الإمضاء والرد يصح: أنه إذا جاز أن يكون وكيلًا في أصل البيع، جاز أن يكون وكيلًا في الخيار، بل هذا أولى. والدلالة على أنه يصح إذا كان لغيره: أنه خيار مستفاد بالشرط، وكان لمن شرط له. دليله: لو شرطاه لأحد المتبايعين؛ فإنه يكون له، كذلك هاهنا. والدلالة على أنه يكون لهما: أنه إذا ثبت بهذا الدليل أنه يكون لمن شرط له، وجب أن يكون للموكل أيضًا؛ لأن هذا فرعه، وعنه ملك، فاستحال أن يكون للوكيل زيادة على موكله. [و] احتج من منع صحته للوكيل بأنه لا يصح أن يملكني ملك

مسألة إذا اشترى رجلان من رجل عبدا على أنهما بالخيار ثلاثة أيام، فرضي أحدهما، كان للآخر أن يرد نصيبه خاصة على قياس قوله: إذا اشترى رجلان عبدا، فوجدا به عيبا، فرضي أحدهما، كان للآخر أن يرد نصيبه خاصة

غيري، ويملك ملكي بغير أمري. والجواب: أنه ملكه بأمره. وعلى أنه يلزم عليه إذا جعل الخيار لأحدهما. واحتج بأن خيار الشرط لينظر كل واحد من المتبايعين الحظ في الفسخ والإمضاء، وهذا يستحيل أن يكون لمن لا حظ له فيه، وإنما يكون له الحظ. والجواب: أنه يكون لمن له الحظ، أو من يقوم مقامه، وهذا الوكيل قائم مقامه، فيجب أن يصح، كما صح التوكيل في أصل العقد، وإن كان القصد بالعقد طلب الحظ. ... 266 - مسألة إذا اشترى رجلان من رجلٍ عبدًا على أنهما بالخيار ثلاثة أيامٍ، فرضي أحدهما، كان للآخر أن يرد نصيبه خاصة على قياس قوله: إذا اشترى رجلان عبدًا، فوجدا به عيبًا، فرضي أحدهما، كان للآخر أن يرد نصيبه خاصة: نص عليه في رواية ابن القاسم في من اشترى ثوبًا بينه وبين آخر، فوجد به عيبًا، فرضي أحدهما، ولم يرض الآخر: فإن شاء أخذ أرش الثوب بقدر حصته، وإن شاء رد نصفه على البائع. وهو قول الشافعي.

وقال أبو حنيفة: ليس له أن يرد نصيبه. دليلنا: أنه رد جميع ما ملكه بالعقد بخيار الشرط، فجاز له ذلك من غير رضا البائع. دليله: إذا اشتريا صفقتين. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن البائع فرق الصفقة فيها، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن البائع لم يفرق الصفقة في النصفين، وإنما جمع بينهما، وخرج جميع العبد من ملكه صفقة واحدة، فلم يجز تبعيضها في الفسخ. قيل له: بيعه من اثنين تبعيض للصفقة، لأن ذلك بمنزلة أن يقول: بعتك النصف بكذا، وبعتك النصف الآخر بكذا، أو قوله: (بعتكما) بنيته على الاختصار قائم مقام تكرار اللفظ، وكان بيعه من أحدهما غير بيعه للآخر. فإن قيل: لو كان في حكم الصفقتين، لجاز أن يقبل البيع في نصيبه دون الآخر، كما يجوز ذلك في الصفقتين. قيل له: يجوز ذلك. ويبين صحة هذا، وأنهما في حكم الصفقتين: أنه لو اشترى رجلان من رجل شقصًا في دار، جاز للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر، كما لو اشترياه في صفقتين، فدل على أن شراء الاثنين من

واحد- وإن كان صفقة واحدة- في حكم الصفقتين. فإن قيل: إنما يجوز أن يأخذ أحدهما دون الآخر؛ لأنه ليس فيه تفريق الصفقة على واحد. قيل له: قد بينا أنه هو المبعض للصفقة، فجرى مجرى ما لو أفرد كل واحد منهما بالعقد. واحتج المخالف بأنه خرج العبد عن ملك البائع صفقة واحدة، فلا يجوز رد بعضه إليه إلا برضاه، كما لو كان المشتري واحدًا. والجواب: أنا لا نسلم: أنه خرج صفقة واحدة، وإنما هو صفقتان من الوجه الذي ذكرنا. وأما إذا كان المشتري واحدًا، فلم يرد جميع ما ملكه بالعقد، وهاهنا قد رد جميع [ما] ملكه بالعقد بخيار الشرط، أشبه إذا اشترياه صفقتين. واحتج بأن خيار الشرط يمنع تمام الصفقة، فلو جاز لأحدهما أن يرد نصيبه خاصة، لكان فيه تفريق الصفقة على البائع في الإتمام، وهذا لا يجوز، ألا ترى أنه لو أوجب في عبدين لم يجز للمشتري أن يقبل البيع في أحدهما دون الآخر، كذلك هاهنا. والجواب: أنا قد بينا: أن البائع فرق الصفقة على نفسه. وأما إذا أوجب في عبدين لواحد، فقبل في أحدهما، لم يصح؛ لأنه قبل في بعض ما أوجبه العقد، فمثاله: أن يرد بعض ما ملكه بالعقد، فلا يجوز.

مسألة خيار الشرط لا يورث

واحتج بأن العبد خرج من ملك البائع صفقة واحدة غير معيبٍ بالشركة، فلا يجوز رد بعضه إلى ملكه معيبًا بالشركة إلا برضاهما، كما لو كان المشتري واحدًا، ووجد به عيبًا، لم يجز له أن يرد بعضه، كذلك هاهنا. قالوا: والشركة عيب؛ لأنه ينقص الثمن عند التجار في العادة، ولهذا نقول: لو تزوج امرأة على دار، فاستحق بعضها، كان لها أن ترد الباقي لأجل الشركة؛ لأجل أنها عيب. والجواب: أن البائع هو الذي بعض الملك على نفسه حيث باعه من نفسين؛ لأنه يعلم أن الذي يؤول إليهما مبعض، إلا أن هناك يؤول مبعضًا في وقتين، وهاهنا في وقت واحد. وأما إذ كان المشتري واحدًا فلأن عقد البيع في الأصل لم يتضمن التفريق، فأما المشتريان فالملك تفرق عليهما بأصل العقد. ... 267 - مسألة خيار الشرط لا يورث: نص عليه في رواية الأثرم وابن منصور.

وهو قول أبي حنيفة وداود. وقال مالك والشافعي: يورث. دليلنا: أنه مدة ملحقة بالعقد، أو مدة مضروبة في البيع، فوجب أن تبطل بالموت، كالأجل. فإن قيل: هذا لا يصح على أصلكم؛ لأن حنبلًا وأبا الحارث وابن ثواب نقلوا عن أحمد: أن الأجل لا يبطل بالموت. قيل له: ونقل ابن منصور عنه: إذا أفلس لم يحل دينه بالموت أحرى أن يحل دينه. فعلى رواية ابن منصور القياس صحيح، وعلى رواية غيره- أيضًا-: إذا لم يوثق الورثة، كان لصاحب الدين المطالبة في الحال. فإن قيل: الأجل حق للمشتري، وفي تبقيته بعد موته ضرر على الميت وعلى ورثته: أما على الميت فلما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)، رواه أبو هريرة. وأما على ورثته؛ فإنه لا يجوز تصرفهم في التركة. فلذلك سقط بالموت.

قيل له: أما دخول الضرر على الميت فغير مؤثر في ذلك؛ لأنه لو مات، وعليه دين مؤجل، وتركته دين مؤجل له على غيره، لا تركة له غيرها؛ فإن الميت لا ضرر عليه في بقاء الدين الذي عليه؛ لأنه غير مطالب به؛ إذ لا تركة له ليستوفى منها الحال؛ لأن تركته مؤجلة، ومع هذا فالدين الذي عليه حال. وعلى أن الضرر إنما يدخل على الميت عند محل الأجل، فأما قبل المحل، فلا ضرر عليه؛ لأنه غير مطالب به، ألا ترى أنه في حال الحياة لا يطالب به قبل الأجل. وأما دخول الضرر على الورثة، فلا يصح؛ لأنه لو كان الدين على بعض الورثة مؤجلًا، فإن له في ذلك فائدة في تأخيره عليه، فكان يجب أن تتأخر المطالبة. على أن الشيء إذا كان موروثًا انتقل إلى الورثة، وإن استضروا به، كما ينقل العبد المقطوع اليدين والرجلين، والتراب الموضوع في ملك الغير، فيلزم الوارث نقله. وعلى أن للورثة في الأجل فائدة، وهو أن يتأخر بيع التركة، ولا يتعجل في الحال، فتتغير أسعارها. ولأنا نلزمهم جواز تصرف الورثة، لو بقي الأجل، كما أن الولي يتصرف في الحساب المأذون له إذا كان عليه دين مؤجل. فإن قيل: الموت يوجب نقل الدين إلى التركة، ولو بقي الأجل

لبقي في الأعيان، وتأجيل الأعيان لا يصح، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا العبد على أن أسلمه بعد شهر، لم يصح قبل الذي عليه. قيل له: لو كان كذلك لبطل الرهن بدين الميت؛ لأن الحق انتقل إلى العين، والرهن بالأعيان لا يصح، دل على بطلان هذه الطريقة. ولأن المدين لو لم يترك إلا دينًا على وارثه سقط الأجل، وإن كان يثبت في دين، ولا يتعلق بعين. ولأن الموت يسقط التأجيل من طريق الحكم، فسقط الخيار. دليله: انقضاء مدة الخيار ومدة الأجل. وقياس آخر، وهو: أنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة، فجاز أن [لا] ينتقل إلى الوارث. دليله: خيار القبول والإقالة والوكالة والمضاربة. ولا يلزم عليه إذا اشترى عبدًا على أنه خباز، فوجده بخلاف ذلك؛ لأن هذا الخيار فيه معنى المال بدلالة: أنه لو لحقه عيب عند المشتري، رجع بنقصان ذلك. وكذلك خيار الرد بالعيب فيه معنى المال؛ لأنه معوض عنه بمال، وينتقل إلى الأرش ند تعذر الفسخ. وهذه أجود طريقة في المسألة، لكن يلزم عليها حد القذف إذا

طالب به الميت؛ أنه يورث، وليس [فيه] معنى المال، وقد احترزنا عنه بقولنا: فجاز أن لا ينتقل إلى الوارث، فإذا كان التعليل للجواز لم تلزم عليه أعيان المسائل. ويجاب عنه بجواب آخر: أنه إذا طالب بالحد قبل الموت ما انتقل إلى الوارث، وإنما يستوفى بحكم المطالبة من الميت، فنظيره في مسألتنا: أن يختار، ثم يموت. فإن قيل: المعنى في خيار القبول والإقالة: أنه حق غير ثابت بدلالة: جواز الرجوع عنه، وخيار الشرط ثابت. قيل له: ملك الموهوب له غير ثابت بدلالة: أن للواهب الرجوع، ومع هذا لا يورث، وملك البضع والأجل وعقد الكتابة ثابت، ولا يورث. فإن قيل: خيار القبول يبطل بالافتراق، والموت أعظم من الافتراق، وخيار الشرط لا يبطل بالافتراق. قيل له: خيار المجلس يبطل بالافتراق، ولا يبطل بالموت عندكم، والأجل لا يبطل بالافتراق، وكذلك النكاح، ومع هذا يبطل بالموت. وعلى أن خيار القبول إنما بطل بالافتراق؛ لأنه يدل على الإعراض، والميت لم يوجد منه إعراض، فكان يجب أن يبطل خياره. فإن قيل: إنما لم يكن للوارث أن يقبل البيع أو الإقالة؛ لأن من شرط القبول أن يوجد عقيب الإيجاب، فإذا مات المشتري قبل القبول،

ووارثه غائب عن المجلس، تراخى القبول، فلم يجز. فإن قيل: قد قال أصحابنا: إنه يجوز. قيل له: هذا خلاف الإجماع، ثم هذا فاسد؛ لأن البائع إنما أوجب البيع لزيد، وكيف يجوز أن يقبله عمرو؟ ولو جاز هذا لجاز أن يقبله الأجنبي، وهذا ظاهر الفساد. وقد قال أحمد في رواية إسحاق بن هانئ: لا تجوز معاقدة الأب إلا بشهودٍ وقبول الزوج، وقوله: (قد قبلت)، ولا يجوز قوله: (قد قبلت) بعد وفاة الأب. وإن شئت قلت: إنما جعل له الخيار ليرتئي؛ فيأخذ المبيع، أو يرده، والرأي لا يورث بدليل: خيار القبول، وخيار الإقالة؛ فإن الوارث لا يقوم مقام المشتري في الرأي في القبول في الشراء وفي الإقالة. وكذلك المضارب والشريك لا يقوم الوارث مقام الميت في ما جعل إليه من الارتياء في التصرف، والامتناع منه. ولا يلزم عليه خيار العيب؛ لأن الوارث ليس يرث الرأي، وإنما يرث بدل جزء فائت، [قد] أخذه البائع، ولم يسلم الجزء بإزائه، فيطالب البائع، كما يطالب بسائر ديونه، [و] خيار الشرط ليس هناك

إلا الرأي، والرأي لا يورث. وقياس آخر، وهو: أن كل من ثبت له خيار من جهة الشرط؛ فإنه لا ينتقل إلى وارثه. دليله: إذا خير رجلًا في طلاق زوجته، فمات قبل إيقاع الطلاق؛ فإنه لا ينتقل إلى وارثه. وكذلك الوكيل بالبيع إذا شرط الخيار، ثم مات، لم ينتقل إلى وارثه. وكذلك إذا شرط الخيار للأجنبي، فمات، لا ينتقل إلى ورثته. ولا يلزم عليه إذا اشترى عبدًا على أنه كاتب، أو خباز، فلم يجده على الصفة المشروطة؛ لأن هذا الخيار لم يثبت من جهة الشرط، وإنما ثبت بعدم الصفة المستحقة، فهو كخيار العيب. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الخيار ثبت من جهة الوكالة، والوكالة تبطل بالموت، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لم يثبت من جهة الوكالة. قيل له: خيار القبول يثبت للمشتري من غير جهة الوكالة، وكذلك خيار الرجوع في الهبة، ومع ذلك فلا ينتقل الخيار في الأصل الذي قسنا عليه.

فإن قيل: إنما لم ينتقل الخيار إلى وارث الوكيل، لأنه حق متعلق بالبيع، والمبيع لا ينتقل إليه، فلا ينتقل الحق المتعلق به، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن المبيع ينتقل إلى وارث المشتري، فيجب أن يتعلق الحق المتعلق به. قيل له: هذا يبطل بالبائع والمشتري إذا كانا بالخيار، وماتا جميعًا؛ أن المبيع ينتقل إلى ورثة أحدهما، والخيار ثبت لورثة كل واحد منهما، فينقل الخيار إلى من لا ينتقل إليه المبيع، فبطل أن يقال: إن وارث الوكيل لا ينتقل إليه الخيار. ويبطل- أيضًا- بخيار القبول في البيع وفي الإقالة. وقياس آخر، وهو: أنه حق فسخ ثبت لا لفوات معنى، فلا يورث، كالرجوع في الهبة. فإن قيل: الرجوع في الهبة ثبت للأب لفضيلته، وهذا المعنى لا يوجد في وارثه. قيل له: فلو وهب الجد لابن ابنه، ثم مات، فورثه الأب، لم يجز له الرجوع مع وجود الفضيلة. وهذه الطريقة أجود الطرق، والاعتماد عليها. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: (من ترك كلا أو دينًا فعلي، ومن ترك مالًا أو حقًا فلورثته).

والخيار حق من الحقوق. والجواب: أنا نقول: أثبتوا أنه قد ترك الخيار حتى يدخل تحت الظاهر؛ فإن عندنا أن خياره يبطل بموته. وعلى أنا نحمله على الديون ونحوها بما ذكرنا. واحتج بأن الموت معنى يزيل التكليف، فوجب أن لا يقطع الخيار، كالجنون والإغماء. والجواب: أن الإغماء لا يزيل التكليف عندنا. وعلى أنه لا يجوز اعتبار الموت بالجنون والإغماء؛ لأن خيار الوكيل يبطل بموته، ولا يبطل بالجنون والإغماء، وكذلك خيار الرجوع في الهبة، وكذلك الشركة والوكالة والمضاربة والنكاح والكتابة. واحتج بأنة خيار ثابت في بيع، فجاز أن يقوم الوارث فيه مقام مورثه. دليله: خيار العيب. والجواب: أنه لا تأثير لقوله: (في بيع)؛ لأن الإجارة والصلح والصداق والخلع سواء. وربما قالوا: خيار ثابت في عقد معاوضة محضة، فقام الوارث مقامه فيه.

دليله: خيار الرد بالعيب. وفيه احتراز من خيار القبول والإقالة؛ لأنه غير ثابت، ألا ترى أن لصاحبه أن يبطله بأن يرجع في الإيجاب. وقوله: (معاوضة محضة) احتراز من المكاتب؛ أنه بالخيار، ثم إذا مات بطل خياره؛ لأن الكتابة ليست بمعاوضة محضة. وربما قالوا: خيار ثابت لفسخ معاوضة لا يبطلها الموت، أشبه خيار العيب. ولا تلزم عليه الكتابة؛ لأنه يبطلها الموت. وربما قالوا: خيار ينفرد به كل واحد من المتبايعين، فجاز أن يقوم الوارث فيه مقام مورثه، كالعيب. وفيه احتراز من خيار القبول والإقالة؛ لأن كل واحد منهما لا ينفرد هـ، ألا ترى أن لصاحبه أن يمنعه من القبول بأن يرجع في الإيجاب، وخيار الثلاث ينفرد به كل واحد منهما؛ لأنه ليس لصاحبه أن يمنعه منه، كخيار العيب. والجواب: أن هذه الأصناف تبطل بخيار الوكيل؛ أنه ثابت في عقد معاوضة محضة، ولا تبطل تلك المعاوضة بالموت، وينفرد به كل واحد من المتبايعين، ومع هذا لا يقوم الوارث مقامه. وتبطل بخيار الإقالة؛ فإنه ثابت، ويبطل بالموت.

وليس إذا ملك إبطاله لم يكن ثابتًا بدليل: حق الرجوع في الهبة، وإذا كان الخيار لهما أيضًا؛ فإنه ثابت، وإن ملك إبطاله. وعلى أن خيار العيب آكد؛ لأنه يثبت في الصرف والسلم والنكاح، ولا يثبت خيار الشرط. ثم المعنى في خيار العيب: أن فيه معنى المال؛ لأن العقد اقتضى تسليم المعقود عليه صحيحًا، فإذا سلمه معيبًا، فقد حبس جزءًا من المبيع، وقد أخذ بدل ذلك الجزء، ولم يكن مستحقًا له، فجعل للمشتري التوصل إلى استدراك ذلك الجزء، فإذا مات قبل وصوله إليه، قام وارثه مقامه في التوصل إليه، كما يقوم مقامه في سائر أمواله وديونه. ويبين صحة هذا: أن للمشتري أن يصالح البائع عن ذلك الجزء على مال، كما يجوز أن يصالح عن سائر الديون، فلو لم يكن فيه مال، وكان بمنزلة خيار الشرط، لما جاز الصلح عنه على مال، [كما] لا يجوز الصلح عن خيار الشرط. ويبين صحة هذا: أنه متى تعذر رده بالهلاك أو نحوه، ثبتت المطالبة بالمال، وهو الأرش، ولو لم يكن هناك إلا الخيار لما ثبتت المطالبة بالمال عند تعذر الرد، كما لا تثبت في خيار الشرط. فإن قيل: ما يأخذه من الأرش ليس في مقابلة الخيار، وإنما هو في مقابلة الجزء الفائت. قيل له: إلا أنه إنما استحق الأرش عندك عند فوات الخيار، وليس

هذا المعنى موجودًا في خيار الشرط؛ لأنه لو فات بانقضاء مدته لم يستحق به مال بحال. وجواب آخر، وهو: أن خيار الرد بالعيب غير موروث، وإنما ثبت للورثة ابتداء، ألا ترى أنه لو مات المشتري قبل قبض المبيع، وحدث بالمبيع عيب في يد البائع، ثبت الخيار للورثة ابتداء؛ لأن المشتري له الخيار في حياته، فلا يجوز أن يكون موروثًا. فإن قيل: لا يجوز أن يثبت للورثة خيار الرد بالعيب؛ لأنهم لم يملكوا المبيع بالعقد، وإنما يثبت الرد لمن ثبت له العقد. وأما حدوث العيب بعد موت المشتري؛ فإنما يثبت للوارث حق الرد؛ لأنه يثبت للمشتري؛ لأنه مضمون على البائع بعقد البيع، فصار ما حدث من العيب كأنه موجود حال العقد، ويثبت للمشتري، وانتقل إلى الورثة ميراثًا، كما نقول: إن من حفر بئرًا في طريق المسلمين، ثم مات، فوقع فيه إنسان، أو بهيمة فماتت، وجب الضمان على الميت، وتعلق بميراثه بمنزلة وجوده في حال الحياة؛ لوجود السبب الذي تعلق به الضمان في حال الحياة. قيل له: فخيار القبول سبب في ثبوت الملك، وقد وجد في حال

حياته، ومع هذا لا يورث، وكذلك خيار الإقالة. واحتج بأن الخيار من حقوق الملك، ومن ورث شيئًا ورثه بحقوقه، كما لو ورثوا دارًا ورثوها بحقوقها، وكذلك لو ورثوا دينًا، وبه رهن، ورثوه بحقه، وهو إمساك الرهن. والجواب: أنا لا نسلم أن الخيار من حقوق الملك، بل هو من حقوق العقد، كالأجل. ثم يبطل ما قالوه بمن أوصى بخدمة عبده؛ أن الملك ينتقل إلى الورثة، ولا تنتقل لهم حقوق الملك من المنافع. واحتج بأن الخيار شرط لينظر كل واحد ما له فيه الحظ، وهذا المعنى موجود في الوارث. والجواب: أن الوكالة عقدت لحظ الموكل، وورثته يحتاجون إلى هذا الحظ، ولا يثبت لهم. وكذلك المضاربة وخيار الإقالة أثبته البائع لحظ المشتري، ووارثه يحتاج إلى هذا المعنى، ولا يثبت له. واحتج بأن الخيار حق لازم يتعلق بعينٍ، لا يبطل بموت المستحق عليه، فوجب أن لا يبطل بموت المستحق. دليله: الرهن.

والجواب: أن هذا باطل بالكتابة على أصلهم؛ فإنها لازمة من جهة المولى، ولا تبطل بموته، وتبطل بموت المكاتب. وإذا تزوج أمة غيره؛ أن حق الزوج لا يبطل بموت المستحق عليه، وهو المولى، ويبطل بموت المستحق. فإن قيل: الأمة يستحق عليها، ويبطل بموتها. قيل له: الأمة لا تملك شيئًا، فيستحق عليها، وإنما الملك للمولى، فالاستحقاق يقع عليه. ولو جاز أن يقال ذلك في النكاح لجاز أن يقال في الرهن إذا كان المرهون أمة: إن المستحق عليه الأمة، ويبطل بموتها. ثم الرهن فيه معنى المال، فلهذا لم يبطل، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه حق ليس فيه معنى المال، أشبه خيار القبول والإقالة، ولهذا قلنا في خيار القصاص والكفالة: لا يبطل؛ لأن فيه معنى المال، وهو الانتقال إلى الدية وإلى ذمة الكفيل. واحتج بأنه لو طالب بالخيار قبل الموت، ومات؛ فإنه يورث عنه، كذلك إذا لم يطالب. والجواب: أنه لو طالب برد الهبة، ومات، ملك وارثه المطالبة بالعين، ولو مات قبل ذلك لم يملك. واحتج بأن عقد البيع باقٍ، وزمان خيار الشرط باقٍ، ولم يوجد

ممن له الخيار رضًا بتركه، فوجب أن يكون الخيار باقيًا. أصله: إذا كان من له الخيار باقيًا. والجواب: أنه لا يمتنع أن لا يوجد ممن له الخيار رضا، ويسقط خياره، كما لو أعتق الآخر إذا كان الخيار لهما. ويبطل به إذا كان الخيار للمشتري، فحدث نده عيب في مدة الخيار؛ فإنه يبطل خياره. ثم نقلبه فنقول: فلا نثبت الخيار لمن لم يثبت له بالعقد، كما لو كان العقد باقيًا. ثم المعنى في الأصل: أنه لم يحدث ما يسقط التأجيل حكمًا، فلم يسقط الخيار حكمًا، وفي مسألتنا الموت يسقط التأجيل من طريق الحكم، وكذلك يسقط خيار الشرط. واحتج بأن الخيار لعقد الصفة المشروطة إذا ورث، فالخيار المشروط أولى بذلك؛ لأن الصفة تثبت بالشرط، ولولا الشرط لم تثبت الصفة بمطلق العقد، وثبت الخيار بفقدها، فالخيار الذي يثبت بالشرط من غير واسطة أولى بالتأكيد والتبقية بعد الموت. والجواب: أن ذلك الخيار لم يثبت شرطًا، وإنما ثبت بعدم الصفة المستحقة فهو كخيار العيب. والذي يبين صحة هذا: أنه لو حدث في المبيع ما يمنع الرد، كان له الرجوع بأرش ذلك.

مسألة إذا مضت مدة الخيار، ولم يكن من مشترطه رد ولا إجازة حكم عليه بنفس مضي المدة

واحتج بأن خيار الشرط إذا ثبت فهو حق من حقوق البيع متعلق بعين المبيع، فوجب أن يورث. أصله: التمسك بالمبيع حتى يستوفي الثمن، ووجوب التسليم إذا استوفاه، وخيار الرد بالعيب، وخيار فقد الصفة. والجواب: أنا لا نسلم أنه من حقوق البيع، وإنما هو معنى عارض يجوز أن يوجد في البيع، ويجوز أن لا يوجد في البيع. ولا نسلم- أيضًا- أنه متعلق بعين المبيع، وإنما يثبت به فسخ العقد في المبيع، فهو كخيار الإقالة. فأما الإمساك والتسليم فهي موجبات البيع، فتجري مجرى الملك، فتثبت لوارث المتبايعين. وأما الخيار بفقد الصفة فهو خيار العيب؛ لأن الشرط أوجب كون البيع على صفة، فيجب الخيار بعدمها. ... 268 - مسألة إذا مضت مدة الخيار، ولم يكن من مشترطه رد ولا إجازة حكم عليه بنفس مضي المدة: وقال مالك: لا يحكم عليه. دليلنا: أن الخيار مدة ملحقة بالعقد، فيجب أن ينقضي بانقضاء المدة.

دليله: الأجل في الثمن. ولأنه خيار لفسخ بيع، فلم يقف إبطاله على وجود قولٍ من جهته، كخيار الرد العيب والمجلس. وقد قيل: إن المسألة مبنية على أصل، وأن الخيار عندنا مشروط للفسخ إذ العقد بغير شرط يقتضي الإجازة [....]، فوجب أن يكون شرط الخيار فائدة، وما له إلا الفسخ. واحتج المخالف بأن مدة الخيار إنما ضربت لحقه، لا لحق عليه، فلم يلزم الحكم بنفس مضيه، وكذلك العنين. والجواب: أنه يبطل بالأجل؛ فإنه ضرب لحق من عليه الدين، ثم يلزمه الحكم بنفس مرورها. ثم المعنى في العنة والإيلاء: أنها فرقة متعلقة بسبب من جهة الزوج، فافتقرت إلى قول، وهذا فسخ بيع. واحتج بأن العقد كان موقوفًا على الإجازة، فإذا انقضت المدة فقد عدمت الإجازة. [والجواب: ...].

مسألة إذا تقدم القبول على الإيجاب لم ينعقد البيع سواء كان القبول بلفظ الماضي مثل أن يقول: ابتعت منك بكذا، أو كان بلفظ الطلب، فقال: بعني بكذا، وكذلك النكاح في إحدى الروايتين

269 - مسألة إذا تقدم القبول على الإيجاب لم ينعقد البيع سواء كان القبول بلفظ الماضي مثل أن يقول: ابتعت منك بكذا، أو كان بلفظ الطلب، فقال: بعني بكذا، وكذلك النكاح في إحدى الروايتين: نقلها مهنا عنه في من قال لرجل: بعني هذا الثوب بدينار، فقال: قد فعلت، لا يكون هذا بيعًا حتى يقول الآخر: قد قبلت. وهو اختيار أبي بكر ذكره في كتاب (الشافي)، وقال: هذا مثل رجل قال لرجل: زوجني بنتك، فقال: قد فعلت، فلابد من قبوله للنكاح. وفيه رواية أخرى: يصح البيع، ولا يصح النكاح، ولا فرق- أيضًا- في ذلك بين لفظ الماضي أو الطلب. نص عليه في رواية علي بن سعيد النسوي في الرجل يقول للرجل: بعني هذا بكذا، فيقول البائع: هو لك، جائز وقد تم البيع، فإن قال: زوجني ابنتك، فقال: قد زوجتك، ففي النكاح يقول: قد قبلت؛ النكاح أشد. قال أبو حنيفة: إذا تقدم القبول على الإيجاب في عقد النكاح صح، وإن تقدم في لفظ البيع نظرت؛ فإن كان بلفظ الماضي صح. وإن كان بلفظ الطلب والأمر لم يصح.

وقال مالك والشافعي: يصح في البيع والنكاح سواء كان بلفظ الماضي، أو بلفظ الطلب. والكلام في ثلاثة فصول: أحدها: أن البيع لا ينعقد على الرواية المشهورة. والثاني: مع أبي حنيفة في فرقه بين البيع والنكاح. والثالث: على الرواية التي تحكم بصحة البيع؛ لا فرق بين لفظ الماضي والطلب خلافًا لأبي حنيفة. والدلالة على أن البيع لا يصح في الجملة خلافًا لمالك والشافعي: أن القبول تقدم الإيجاب في عقد يلحقه الفسخ، فلم يصح. دليله: لو تأخر الإيجاب عن القبول ساعة، وهما في مجلس العقد. فإن قيل: المعنى هناك: أن الإيجاب لو تقدم وتأخر القبول عنه هذه المدة لم يصح، كذلك القبول إذا تقدم وتأخر الإيجاب. قيل: لا نسلم لك هذا، وقياس مذهبنا: أنه إذا وجد الإيجاب والقبول في مجلس العقد صح، وإن لم يكن عقيبه بناء على قول أحمد في خيار المخيرة. ولأن القبول إنما كان قبولًا للإيجاب، فمتى لم يوجد الإيجاب لم يكن قبولًا لعدم معناه، كما أن الشفيع لو أسقط شفعته قبل البيع لم

تسقط، والمعتقة إذا أسقطت خيارها قبل القبول لم يسقط لعدم موجبه، وهو ثبوت النقص عليها بعتقها تحت عبد، ودخول الضرر على الشريك بحدوث ملك الثاني، كذلك هاهنا. وذهب المخالف إلى أن الزوجة لو قالت لزوجها: اخلعني على ألف درهم، فقال: قد خلعتك، صح، وإن كان القبول قد تقدم، والخلع معاوضة. والجواب: أن الخلع لا يلحقه الفسخ، وهذا يلحقه؛ لأن الخلع يصح تعليقه بشرط، وهو أن تقول: إن طلقتني ثلاثًا فلك ألف درهم، فطلقها، استحق العوض، وإن كان خلعًا، ولو قالت: إن بعتني ثوبك فلك ألف، لم يصح. واحتج بأن الطلب يتضمن الرضا، فهو بمنزلة القبول بعد الإيجاب. والجواب: أن بعد الإيجاب يوجد معناه، وهاهنا لا يوجد. ولأن هناك تأخر القبول، وهاهنا تقدم، فهو كما لو تقدم ووجد الإيجاب بعد ساعة، وهما في المجلس. *فصل: والدلالة على أن النكاح لا يصح- أيضًا- خلافًا لأبي حنيفة: أنه عقد يلحقه الفسخ، تقدم القبول فيه على الإيجاب، أشبه البيع.

فإن قيل: القياس في النكاح: أن لا يجوز، وإن تركناه في النكاح لحديث الموهوبة؛ قام رجل، فقال: زوجنيها، فقال: (زوجتكها على ما معك من القرآن)، فتقدم القبول. قيل له: إذا كان القياس يقتضي بطلانه، فيجب الحكم به؛ إذ ليس هاهنا ما هو أولى منه. وأما الخبر فيحتمل أن يكون المتزوج أعاد القبول بعد الإيجاب، ولم ينقل. فإن قيل: عقد النكاح يجوز أن يليه واحد، ألا ترى أن للرجل أن يزوج ابنة أخيه من ابن أخيه، وهما صغيران، ويجوز أن يكون الوكيل الواحد للرجل والمرأة، فيزوج أحدهما من الآخر، ولا يجوز ذلك في البيع. قيل: يجوز أن يليه واحد، وهو أن يبيع مال ابنه من ابنته، وهما صغيران، فيكون العاقد واحدًا. فإن قيل: العادة قد جرت بالمساومة والمراوضة في البيع، فإذا تقدم القبول احتمل أن يكون سومًا، والنكاح بخلافه. قيل: العادة جارية في النكاح بالمساومة والمراوضة في قدر الصداق والزيادة والنقصان فيه.

* فصل: والدلالة على أنه يصح إذا كان بلفظ الطلب والأمر على الرواية الأخرى خلافًا لأبي حنيفة: أن العقد إذا تقدم القبول فيه لم يفترق الحال بين لفظ الماضي والطلب. دليله: عقد النكاح، وعقد الخلع، ولا فرق بين أن يقول: زوجني بنتك، وبين أن يقول: قبلت نكاح ابنتك، وكذلك لا فرق بين أن تقول: اخلعني، وبين أن يقول: قبلت خلعك على كذا، فالحكم سواء في الصحة. وذهب المخالف إلى أنه إن لم يوجد منه لفظ الماضي، أشه إذا قال: بعتك، فقال: أنا آخذه بذلك، لم يصح. نص عليه في رواية مهنا. وكذلك إذا قال: تبيعني بكذا، فقال: قد بعتك، لا يصح. نص عليه في رواية مهنا. والجواب: أنه يبطل بالقبول في الخلع والنكاح. وعلى أن هناك وعد بالقبول، فليس فيه ما يدل على الرضا، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الطلب يدل عليه، فلهذا فرقنا بينهما.

مسألة إذا تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله في العادة، وكان أحدهما ممن لا يخبر سعر ذلك المبيع، فله الخيار

270 - مسألة إذا تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله في العادة، وكان أحدهما ممن لا يخبر سعر ذلك المبيع، فله الخيار: نص عليه في رواية محمد بن العباس في مريض وهب هبة على عوض، وكان العوض يقارب الهبة: فهو جائز، وشبهه بالبيع، وإن كان غير متقارب لا يتغابن الناس بمثله لم يجز، ولا يجوز في ذلك إلا ما يجوز في البيع. وقال- أيضًا- في رواية أبي النضر إسماعيل بن ميمون العسكري: الخلابة: الخداع، وهو أن يغبنه في ما لا يتغابن الناس في مثله؛ يبيعه ما يسوى درهمًا بخمسة. وقال- أيضًا- في رواية أبي سعيد اللحياني: إنما كره غبن المسترسل، فإذا ساوم وعرف، فلا بأس. وقال أبو بكر في كتاب (التنبيه): وحد الغبن الثلث، وقيل: السدس. وظاهر هذا: أنه محدود عند أبي بكر بالثلث والسدس، والمنصوص عن أحمد: أنه غير محدود، وهو على ما يتغابن الناس بمثله في العادة. وهو قول مالك، ومن أصحابه من حده بالثلث. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا خيار له بذلك.

وقال داود: البيع باطل من أصله. دليلنا على ثبوت الخيار: عموم قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والمغبون غير راضٍ بهذه التجارة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر، ولا ضرار)، وفي إلزامنا المبيع في حق المغبون إلحاق ضررٍ به؛ لأنا نلزمه إخراج شيء من ماله لا يقابله عوض. فإن قيل: وفي إثبات الخيار إلحاق ضررٍ بالآخر؛ لأنا نفسخ العقد عليه. قيل له: الضرر حاصل في جهة المغبون؛ لأنه يخرج من ماله ما لا يقابله عوض، وهذا معدوم في حق البائع. وقوله: (لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفسٍ منه)، وهذا الثمن مال المشتري. ويدل عليه ما روى الدارقطني في كتاب (الأفراد) بإسناده عن أبي أمامه الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما زاد التاجر على المسترسل فهو ربا)، ومعناه: حكمه حكم الربا في تحريم الأخذ.

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحبان: (بع، وقل: لا خلابة)؛ يعني: لا غبن. وهذا يقتضي سلامة العقد من الغبن، فإذا غبن ملك الفسخ، كما قال [النبي - صلى الله عليه وسلم - للعداء] ب خالد بن هوذة، وقد اشترى منه عبدًا، أو أمةً: (لا داء، ولا غائلة، بيع المسلم للمسلم). اقتضى سلامة المبيع من العيب، فإذا ظهر به عيب فسخ. ولأنه غبن يخرج عن العادة، فملك الفسخ. دليله: غبن الركبان. وقد دل على ذلك الأصل ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: (لا تلقوا الركبان، فمن يلقى فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق، إن شاء أجازه، وإن شاء رده). ومعلوم أنه إنما جعل له الخيار لأجل الغبن. فإن قيل: البائع هناك غير مفرط؛ لأنه لا يعرف القيمة، وهذا مفرط؛ لأنه يمكنه أن يعرف القيمة. قيل له: إذا ظهر بالمبيع عيب فهو مفرط؛ لأنه كان يمكنه أن

يختبر المبيع، ومع هذا يملك الرد. ولأنه معنى يملك الركبان الفسخ به، فملك غيرهم الفسخ. دليله: العيب في المبيع. وإن شئت قلت: نقصان في أحد العوضين، أشبه النقصان في المبيع بالعيب. وإن شئت قلت: نقصان بثمن العين، أشبه العيب. فإن قيل: لو كان الغبن يجري مجرى العيب، لوجب أن يملك الفسخ به إذا وجد بعد العقد وقبل القبض، كما يملك ذلك في العيب الحادث بعد العقد وقبل القبض. قيل له: إنما ملك الرد بالعيب إذا كان موجودًا حال العقد، وإذا حدث قبل القبض؛ لأنه عيب في الموضعين، وليس كذلك الغبن؛ لأنه إنما يكون غبنًا في أحد الموضعين، وهو حال العقد؛ لأن الغبن هو فعل التغابن، وهذا لا يوجد بعد العقد، والعيب هو نقص يحصل في السلعة بغير فعل العاقد، وهذا يوجد في الموضعين. وعلى أن هذا يبطل بغبن الركبان يثبت به الفسخ حين العقد، ولا يثبت بعد العقد وقبل القبض. فإن قيل: لو كان هذا يجري مجرى العيب لاستوى قليله وكثيره، كما قلت في العيب. قيل له: قد يفرق بين يسير العيب وكثيره.

قال في رواية أبي طالب: يرد من الغبن إذا كان الغبن شديدًا، وبما ألفى الرجل. وظاهر هذا: أنه لا يرد من اليسير. وكذلك نقل مهنا عنه في الرجل يشتري مصحفًا على أنه جامع، فخرج فيه آية، أو آيتان ساقطة: ليس هذا بعيب، ولا يخلو المصحف من هذا. وعلى أن هذا باطل بغبن الركبان يثبت به الفسخ، وإن فرق بين قليله وكثيره، وكذلك الحاكم وأمين الحاكم والوصي والأب إذا باعوا بنقصان في الثمن، فإن كان يسيرًا جرت العادة بمثله جاز، ولو كثر لم يجز. وعلى أن البياعات تسلم من العيب اليسير، كما تسلم من الكثير، فلهذا ملك الفسخ فيهما، وليس كذلك الغبن المطابق للعادة؛ لأن البياعات لا تخلو منه. ولأن كل واحد يقصد الاسترخاص، فأجيز ذلك على حسب تعارفهم فيه، فإذا خرج عن ذلك جاز أن يملك الفسخ. وعلى أن غلظ الدابة عيب إذا زاد وتفاحش، وليس بعيب إذا كان يسيرًا، وكذلك يسير الرمد في العين ويسير الحمى ليس بعيب، وإن كان كثيره عيبًا. فإن قيل: المعنى في العيب: أنه نقص في المعقود عليه، وليس

كذلك هاهنا؛ لأنه نقص في ما لم يعقد عليه. قيل له: النقص يحصل في الثمن، وذلك معقود عليه. ثم يبطل هذا بغبن الركبان. فإن قيل: لو كان ثبت به الفسخ، لوجب أن يكون محرمًا، كما أن التدليس العيب محرم. قيل: الرد بالعيب ثابت، وإن لم يكن قصد التدليس؛ لأن غبن الركبان يثبت الفسخ، وإن لم يكن محرمًا. ثم لا يمتنع أن نقول: محرم إذا كان مسترسلًا، وقد قال أحمد: إنما كره غبن المسترسل. واحتج المخالف بما روى ابن عمر: أن حبان بن منقذٍ أصابته آمة في رأسه، وكان يخدع في البيع، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا). قال: فلو كان الغبن سبيلًا يملك به الفسخ لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه. والجواب: أنا قد جعلناه حجة لنا؛ لأنه نهى عن الغبن، فاقتضى سلامته منه، كما اقتضى سلامته من العيب. وعلى أن راوي الحديث عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال

عمر: وكان ضريرًا. هكذا روى الدارقطني في (سننه) بإسناده عن طلحة بن يزيد بن ركانة: أنه كلم عمر بن الخطاب في البيوع، فقال: ما أجد لكم سببًا أوسع مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان بن منقذٍ: أنه كان ضرير البصر، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدة ثلاثة أيام؛ إن رضي أخذ، وإن سخط ترك. وإذا كان ضريرًا لم يصح عقده عند الشافعي، فلا يصح الاحتجاج به. وعلى أنه لم يمتنع شرط الخيار مع استغنائه عنه، كما قال: (فمن ابتاع مصراة فهو بخير النظرين ثلاثًا). فشرط له الخيار مع استغنائه عنه. وعلى أنه يحتمل أنه كان يغبن غبنًا لا يخرج عن العادة، وكان الخيار لأجل ذلك. واحتج بأنه نقص لا يغير المبيع، ولا ينقصه، فلا يملك به الخيار، كما لو كان النقص غبنًا في العادة. أو يقول: كل ما لو حدث بعد العقد وقبل القبض لم يثبت به الخيار، فإذا كان موجودًا في حال العقد لم يثبت به الخيار.

دليله: ما ذكرنا. والجواب عن اليسير: ما ذكرنا، وهو: أن ذلك لا تأثير له في العقد بدليل جوازه في حق الآدميين والوصي والأب. ولأن البياعات لا تنفك عن غبن يسير، فلا يمكن الاحتراز عنه. ولأن اليسير لا يثبت به الخيار في حق الركبان، والكثير يثبت، فبان الفرق. وأما الجواب عن حدوثه بعد العقد وقبل القبض: ما تقدم، وهو: أن هذا لا يوجب الفسخ في تلقي الركبان. ولأن ذلك لا يسمى غبنًا؛ لأن الغبن فعل الغابن. واحتج بأن خيار المغابنة لما لم يثبت من جنسه شرطًا، [لم يثبت شرعًا، ألا ترى أن خيار المجلس لما ثبت شرعًا، ثبت من جنسه شرطًا]، وهو خيار الثلاث. والجواب: أنه يبطل بخيار الركبان؛ ثبت شرعًا، وإن لم يثبت شرطًا. ولأنه قد يثبت الشيء شرطًا، وإن لم يثبت شرعًا، كالأجل في الثمن في بيوع الأعيان، وقد يثبت شرعًا، وإن لم يثبت شرطًا، كالأجل في المسلم فيه. وعلى أنه لا يمتن أن نقول: من جنسه ما ثبت شرطًا، وهو: إذا شرط ثبوت الخيار في الغبن اليسير.

واحتج بأن الغبن في العقد لا يثبت الخيار. دليله: الغبن في عقد الصداق، وهو أن تكون الزوجة مغرورة أو الزوج مغرورًا في قدر الصداق. والجواب: أنا لا نعرف الرواية في ذلك، غير أن قياس قوله يقضي أن لا خيار هناك؛ لأنه قد نص في رواية إسحاق بن هانئ: إذا تزوجها على أنها بكر، فلم تكن كذلك، فلها المهر كاملًا. فلم يجعل له النقصان في المهر مع شرط صفة يختلف المهر لأجلها، فأولى أن لا يجعل له مع الإطلاق. وحكى هذا الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن النقصان في الصداق والزيادة فيه لما لم يثبت الخيار في حق أهل الركبان، لم يثبته في حق غيرهم، والبيع بخلافه. والثاني: أن المهر غير مقصود في نفسه، ولهذا المعنى يجوز أن يعرى العقد عن تسميته، ولهذا المعنى يجب أن يسمى عين الناكح إذا كان القابل وكيلًا، ولا يجب ذلك في عقد البيع، فإذا لم يكن مقصودًا لم تؤثر الزيادة والنقصان فيه. *فصل: والدلالة على أن البيع لا يبطل من أصله: ما تقدم من حديث تلقي

الركبان؛ وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لهم الخيار، ولم يحكم ببطلان العقد من أصله. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساوم جابرًا بعيرًا بدراهم إلى أن بلغ به أوقية. وروي أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليبعها، ولو بضفيرٍ). وهذا يدل على صحة البيع مع الغبن. ولأن الغبن نقص في الثمن، كالعيب نقص في المثمن، ثم ثبت أن ظهور العيب يثبت الخيار، ولا يوجب بطلان العقد، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26]، وإذا باع ما يساوي ألفًا بدرهم فهذا نفس التبذير، وقد نهى عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. والجواب: أن الآية انصرفت إلى غير هذا من صرف المال في الفساد، ولم تنصرف إلى هذا؛ لأنه إذا كان راضيًا به فهو كالواهب [من] ماله قدر الغبن، وهو غير ممنوع من ذلك. *فصل: والدلالة على أنه لا يتقدر بالثلث والسدس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت

مسألة الربا ثابت في غير الأعيان المنصوص عليها على ما نبينه: وهو قول الجماعة.

الخيار للركبان، ولم يقدره بذلك. ولأن الغبن إنما أثبت الفسخ؛ لأنه نقصان في أحد العوضين، كالعيب، ثم الفسخ بالعيب لا يقدر بذلك، كذلك الغبن. فإن قيل: العيب يستوي يسيره وكثيره، وهاهنا يفرق بين القليل والكثير، فجاز أن يحد بالثلث؛ لأنه آخر حد القلة. والجواب: أنا قد بينا: أن العيب يفرق بين يسيره وكثيره. وعلى أنه ليس إذا فرق بين يسير هذا وكثيره، يجب أن يتقدر بالثلث، كالعمل اليسير في الصلاة لا يتقدر بثلث أفعالها. ... 271 - مسألة الربا ثابت في غير الأعيان المنصوص عليها على ما نبينه: وهو قول الجماعة. وقال داود وأهل الظاهر من نفاة القياس: لا ربا إلا في المنصوص عليه، وهي الأعيان الستة. وبنوا هذا على أصلهم في نفي القول بالقياس، ونحن نبني هذا على أصلنا في وجوب القول بالقياس، فنلحق غير المنصوص عليه بالمنصوص في حكمه عند وجود علته.

ثم نستدل من حيث الاسم على إثبات الربا في غير المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. والربا هو الزيادة لغة وشرعًا: أما الشرع فقوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5]؛ يعني زادت وعظمت. وأما اللغة فيقال: فلان أربى على فلان في الشتم؛ إذا زاد عليه فيه. فالظاهر يقتضي تحريم الزيادة الحاصلة في كل مبيعين سواء كان مما نص عليه، أو لم ينص عليه، إلا ما منع منه الدليل. وطريقة أخرى، وهو: ما روى الدارقطني بإسناده عن معمر بن عبدالله: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الطعام بالطعام مثلًا بمثلٍ)، وكان طعامنا يومئذ الشعير. والطعام اسم لكل مطعوم لغة وشرعًا: أما الشرع فقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ

لَكُمْ} [المائدة: 5]؛ يعني: ذبائحهم. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]؛ يعني: الماء. وقالت عائشة- رضي الله عنها-: عشنا زمانًا ما لنا طعام إلا الأسودان؛ الماء والتمر. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماء زمزم: (إنه طعام وشفاء). وأما اللغة فإن القائل يقول: ما طعمت اليوم شيئًا؛ يعني: لم أذق شيئًا من المأكول، ولا يصح أن ينفي ذلك عن نفسه إذا كان قد أكل فاكهة، أو غيرها. وقال لبيد: لمعفرٍ قهدٍ تنازع شلوه .... غبس كواسب ما يمن طعامها وإذا ثبت أن ذلك اسم لكل مطعوم، فالخبر يقتضي وجوب التماثل

مسألة العلة في فساد العقد عند وجود التفاضل زيادة كيل في جنس المكيلات في أصح الروايات: رواها الجماعة عنه

في جميعه، إلا ما خصه الدليل. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، وهذا عام. والجواب: أنه قد قال تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقد بينا: أن الربا في الشرع واللغة: الزيادة، وهذا موجود هاهنا. ... 272 - مسألة العلة في فساد العقد عند وجود التفاضل زيادة كيلٍ في جنس المكيلات في أصح الروايات: رواها الجماعة عنه: فنقل الميموني عنه قال: أذهب إلى حديث عمار، وهو حديث جامع؛ ما يكال وما يوزن مما يؤكل ويشرب، وما لا يؤكل، ولا يشرب. وروى حنبل عنه وبكر بن محمد: لا بأس بخيارة بخيارتين، وبطيخة ببطيختين، ورمانة برمانتين؛ لأنه ليس أصله كيلًا ولا وزنًا. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه. وفيه رواية أخرى: مأكول مكيل أو موزون جنس. وعلى هذا لا ربا في ما يؤكل، وليس بمكيل، ولا موزون، مثل الرمان والسفرجل، ولا في غير المأكول مما يكال ويوزن، كالثوم والجص والأشنان ونحوه.

وقد نص على هذا في رواية حنبل فقال في القوارير المكسورة: أكثر لا بأس يدًا بيد؛ ليس هو مما يوزن مما يؤكل. وبهذا قال الشافعي في القديم. وفيه رواية ثالثة: مطعوم جنس. فتدخل فيه سائر المطعومات دون غيرها. قال أبو بكر في كتاب «الشافي»: روى ذلك جماعة منهم محمد بن يحيى في ما حدثنا أبو بكر الخلال عنه: وقد سئل عن البيض بالبيض والرمان بالرمان قال: لا يجوز إلا مثلًا بمثل؛ هذا يؤكل. قيل له: إن لم يؤكل، ولم يوزن؟ قال: نعم. قيل له: مثل أي شيء يجوز؟ قال: مثل الحديد، وما أشبه هذا. وبهذا قال الشافعي في الجديد. وقال مالك: مقتات، وما يصلح المقتات والمدخرات في جنس. والصحيح عندي: أن يقال: العلَّة كونه مكيل جنس، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه اعتبر الكيل، وظاهر السنة يقتضي ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وما كيل مثل ذلك». وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كيلًا بكيلٍ». وهو اختيار الخرقي وشيوخ أصحابنا.

والدلالة على ذلك: ما روى الدارقطني في (سننه) قال: نا أبو محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد بن الحسن وآخرون قالوا: نا عبدالله ابن أحمد بن حنبل قال: ثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال: نا أبو بكر ابن عياش، عن الربيع بن صبيحٍ، عن الحسن، عن عبادة وأنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما وزن مثلًا بمثلٍ إذا كان نوعًا واحدًا، وما كيل مثل ذلك، وإذا اختلف النوعان، فلا بأس به). وهذا نص؛ لأنه اعتبر المماثلة في الوزن والكيل، وعند المخالف هي معتبرة في المأكول. فإن قيل: فقد قال الدارقطني: لم يروه عن أبي بكر غير الربيع هكذا، وخالفه جماعة، فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة وأنس بلفظٍ غير هذا اللفظ. قيل له: انفراده بالرواية لا يوجب ضعف روايته، ولا الطعن فيها؛ لأنه إسناد صحيح، واختلاف الرواية على الربيع لا يقدح فيه. وأيضًا ما روى أحمد في (المسند) قال: نا حسن بن محمد، قال: نا خلف؛ يعني: ابن خليفة، عن أبي جنابٍ، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم الدرهمين، ولا الصاع بالصاعين؛ فإني أخاف عليكم الرماء) - والرماء هو الربا- فقام رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يبيع الفرس

بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: (لا بأس إذا كان يدًا بيد). فوجه الدلالة: أنه معلوم أنه لم يرد نفس الظرف لاتفاق المسلمين على جواز بيع الصنفين بعضها ببعض متفاضلًا، فعلم أنه أراد ما يدخل في الصاع، ويكال به، فاقتضى عمومه تحريم التفاضل في جنس المكيلات. ومخالفنا يزعم أن بيع قفيز جص بقفيزي جص يجوز، وكذلك قفيز نورة بقفيزين. فإن قيل: ما يدخل في الصاع مضمر، فكيف تعتبر عموم المضمر؟ قيل له: اسم الصاع يتناول في الحقيقة ما يكال، ويتناول في الحقيقة الكيل، بدليل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو شعير. ويقول القائل: هذا قفيز، وبعتك قفيزًا من هذا الطعام. فإذا تناولهما الاسم حقيقة، ثم دل الدليل على أن أحدهما لم يرد بقي الآخر. وأيضًا روى أبو كر الأثرم بإسناده عن عبادة بن الصامت، ن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذهب بالذهب وزنًا بوزنٍ، والفضة بالفضة وزنًا بوزنٍ،

والبر بالبر كيلًا بكيلٍ، والشعير كيلًا بكيلٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالبر، والشعير أكثرهما يدًا بيدٍ، والتمر بالتمر، والملح بالملح، فمن زاد أو ازداد فقد أربى). وروى أحمد في (مسند أبي هريرة) بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ كيلًا بكيلٍ، ووزنًا بوزنٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى إلا ما اختلف ألوانه). وروى أبو بكر في كتاب (الشافي) بإسناده عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة الفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مديًا بمديٍ، والشعير بالشعير مديًا بمديٍ، والملح بالملح مديًا بمديٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيدٍ، وأما نسيئة، فلا). وجه الدلالة: قوله: (مثلًا بمثلٍ) (كيلًا بكيلٍ)، فأوجب استيفاء المماثلة من طريق الكيل في جواز البيع.

وخلافنا في علة التحريم. قيل له: الأمر باستيفاء المماثلة من طريق الكيل يقتضي النهي عن التفاضل في الكيل؛ إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده. وعلى أن ذكر التساوي والتفاضل علة في الحكم، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة إلا بطهورٍ) بيانًا لعلة الحكم. ولأن ذكر الصفة في الحكم تعليل، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]؛ فإن الربا والسرقة علة في إيجاب الحد. فإن قيل: فقد قال في الخبر: (عينًا بعينٍ)، ولم يدل على كونه علة. قيل له: منع ذلك الإجماع. وأيضًا فإن البطيخ وما أشبهه غير مكيل، ولا موزون، فوجب أن لا يحرم التفاضل فيه. دليله: الثياب والعبيد، ونحو ذلك. ولا يلزم عليه الماء؛ لأنه يجوز بيعه متفاضلًا. وأيضًا فإنا وجدنا للتفاضل في الكيل والتساوي فيه تأثيرًا في

العقد، ولم نجد للتفاضل في المطعم تأثيرًا، ألا ترى أنه يجوز بيع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة؛ لوجود التساوي في الكيل، [ولا يجوز مع عدم التساوي في الكيل] مثل قفيز حنطة ونصف رديئة بقفيز حنطة جيدة. فإن قيل: اعتبرنا المساواة في الكيل في جواز البيع، وخلافنا في علة التحريم، وليس في هذا دلالة عليها. قيل: علة التحريم كونه مكيلًا، والحكم هو جريان الربا، وفساد العقد وصحته. فإن قيل: العلة عندنا كونه مطعومًا، وهذا معنى لا يتزايد. قيل له: وكذلك العلة عندنا كونه مكيلًا، وهذا معنى لا يتزايد، لكن لما كان ما ذكرناه علة أثر المكيل في الذي به صار مكيلًا، ثم وجدنا الطعم الذي صار به مطعومًا لا يؤثر، دل على أن كونه مطعومًا ليس بعلة. وتلخيص هذا: أنه لو كانت العلة كونه مطعومًا لأثر في الطعم الذي صار به مطعومًا، كما قلنا نحن في المكيل: لما كان علة أثر في المكيل الذي صار به كيلًا، فلما لم يؤثر فيه، بل جاز بيع مكوكٍ خفيف

بمكوكٍ ثقيل، دل على أن كونه مطعومًا ليس بعلة. فإن قيل: قد يؤثر اختلاف الطعم؛ لأنه لو باع طعامًا، فوجده عفنًا، رده لنقصان طعمه. قيل له: هذا تأثير في إثبات الخيار، ونحن نطلب تأثيرًا في صحة العقد وفساده. وإن شئت قلت: الزيادة في الأكل ليس لها تأثير في تحريم البيع، فوجب أن لا يكون الأكل مع غيره علة، كالزيادة في الاقتيات؛ لما لم يكن لها هناك تأثير في تحريم البيع، لم يكن الاقتيات مع غيره علة، وكالزيادة في الذرع، وإذا ثبت صح أن العلة ما اعتبرنا. ولأنه لا يخلو الأكل والجنس [إما] أن يكون علة لتحريم التفاضل في الجملة، أو لتحريمه من جهة الكيل. ولا يجوز أن يكون علة للتحريم في الجملة؛ لأنه قد يوجد، ولا تحريم، مثل قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة عفنة. وقد يوجد من جهة العدد، ولا يحرم أيضًا، مثل مكوكٍ بمكوك حنطة يجوز، وإن كان عدد الحبات في إحدى الخبيتين أكثر. ولا يجوز أن يكون علة لتحريم التفاضل من جهة الكيل؛ لأن

الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء ليست مكيلة، ويثبت فيها التحريم عنده بهذه العلة. ولأن الطعم ليس بعلمٍ للمقدار، فلا يكون علة، كاللون والرائحة. ولأن المعدودات تضمن بالقيمة، فلا يدخل الربا في نقدها. دليله: الثياب. أو نقول: لأنها تباع في العادة عددًا، أشبه الثياب. ولأن غير المطعومات من المكيلات زيادة كيل من جنس، فهو كالحنطة بالحنطة. فإن قيل: المعنى فيها: أنها مطعوم. قيل له: بين الحكم؛ فإن قلت: لا يجوز التفاضل فيها، انتقض بالتساوي من الكيل إذا تفاضلا في العدد. وإن قلت: فلا يجوز التفاضل فيها كيلًا، فقد عللت بما ذكرنا، وضممت إليه وصفًا آخر، وهذا لا يصح. فإن قيل: الماء مكيل جنس، ولا ربا فيه. قيل له: لا نسلم أنه مكيل؛ لأن ما لم ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على بيعه كيلًا، رجع في معرفة ذلك إلى المدينة، وليس نعلم أن الماء يباع بالمدينة كيلًا. ولأن الطعم منفعة، فلا يكون علة، كالشم والذوق.

واحتج المخالف بما روى معمر بن عبدالله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثلٍ. ومنه دليلان: أحدهما: أنه ذكر الصفة في الحكم تعليل، فيدل على تعليق الحكم تلك العلة، فلهذا نقول: إن قول الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الحجرات: 6] يدل على تعليق التبين بالفسق. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في سائمة الغنم زكاة) يدل على تعليق الزكاة بالسوم. وكذلك قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. و: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وقوله: جزاء للمحسنين، وعذابًا للكافرين، وما أشبه ذلك. والثاني: أن نهيه عن بيع الطعام بالطعام يقتضي عموم جميع الأطعمة مما يكال، ولا يكال، كالبيض والسفرجل وغيره. والجواب عن الدليل الأول، فهو: أن ذكر الصفة في الحكم قد يكون علة، وقد لا يجعل علة الدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا بأس بيع الحيوان بالحيوان؛ اثنين بواحدٍ يدًا بيدٍ)، ولم يدل ذلك على

اختصاص الحكم بالحيوان. وكذلك نهيه عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، ونهيه عن بيع الطعام قبل قبضه. والجواب عن الثاني، وأن الطعام عام في البيض والرمان: فالظاهر يمنع دخوله تحت الخبر؛ لأن اسم الطعام قد صار مخصوصًا في العرف بنوع من الأطعمة حتى إذا أطلق لم يعقل منه غيره، ألا ترى أنه إذا قيل: سوق الطعام، لم يعقل منه سوق الصنادلة، وإن كان يباع فيها أشياء مطعومة، وإنما يعقل منه السوق التي تباع فيها الحنطة، فإذا كان كذلك انصرف الخبر إلى ما يعقل من إطلاقه، ولم يجز حمله على كل مطعوم. فإن قيل: تسمية سوق الطعام معنى لا تعرفه العرب. قيل له: الكوفة والبصرة معربان، والقوم تثبت الحجة بقولهم، وسموا هذه الأسواق بلغتهم. فإن قيل: لو كانت النورة والجص مثل الطعام، لم يكن لتخصيص الطعام معنى. قيل له: كما خص النهي عن بيع الطعام قبل القبض، وإن كان الطعام وغيره سواء. واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أعلى المأكولات، وهي الحنطة، وعلى أدناها، وهي الملح، وحرم التفاضل فيهما، فنبه على حكم سائر

المأكولات؛ لأن من شأن العرب أن تنص على الأعلى والأدنى، فتنبه على ما عداهما. والجواب: أنا نقلب عليهم فنقول: نص على أعلى المكيلات وعلى أدناها، فنبه بذلك على سائر المكيلات. فإن قيل: نص على أشياء مختلفة في الأكل، فلو كان مراده تعليق الحكم بالكيل، لذكر جنسًا واحدًا، واقتصر عليه. قيل له: هي متفقة في الأكل، وإنما تختلف في معانٍ أخر، وهي الطعوم ونحوها، فنقول لك: لو كان مراده تعليق الحكم بالأكل، لذكر جنسًا واحدًا، واقتصر عليه. وعلى أنه قد ذكر الذهب والفضة، والعلة فيهما واحدة عندهم، وهو كونها قيم المتلفات. واحتج بأن الله- تعالى- نهى عن أكل الربا بقوله: {لا تَاكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130]، ولا يجوز أن ينهي عن أكل ما لا يتأتى فيه الأكل. والجواب: أن هذا يقتضي ثبوت الربا في المأكول، وفي غيره موقوف على الدليل. وعلى أن الأكل يفيد التناول بدلالة قوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقال: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، والمراد به الأخذ. واحتج بأن الكيل معنى يتخلص به الربا، فوجب أن لا يكون

علة في التحريم. أصله: القبض في المجلس؛ فإنه لما كان معنى يتخلص به من الربا، لم يكن علة فيه. والجواب: أن علة التحريم زيادة كيل في جنس، وعلة التحليل التساوي في الكيل، فعلة التحريم غير علة التحليل، وإذا كان كذلك، فلم يجعل ما يتخلص به من الربا علة في التحريم. ولو جعلنا العلة الكيل لم يلزمنا ما قالوه أيضًا؛ لأنا نجعله علة لتحريم التفاضل، وعلة لإباحة التساوي، ولا يمتنع أن يكون الشيء الواحد علة لتحريم شيء، وإباحة شيء آخر، كالحيض هو علة لتحريم الوطء، ولإباحة الإفطار. فأما القبض في المجلس فهو دليلنا؛ لأنه لما كان سببًا للتخلص من الربا، كان فقده موجبًا للربا. وعن هذه أجوبة أخر غير ما ذكرنا: أحدها: أنا لا نسلم أن الكيل يتخلص به من الربا، وإنما التخلص بالمساواة في الكيل. ولأن ما جاز أن يقال: إنه يتخلص به من الربا مع المساواة، جاز أن يقال: لا يتخلص به من الربا، ويراد به: مع التفاضل.

وجواب ثانٍ: القول بموجب العلة، ولأن الكيل ليس بعلةٍ للربا، وإنما العلة مكيل جنس، والتفاضل علة في بطلان العقد. وجواب ثالث، وهو: أن القبض لا يختص عقود الربا بدليل أنه شرط في الهبة، والكيل يختص بعقد الربا، ولا يتعداه، فلهذا كان علة. واحتج بأن بيع القصيل بالقصيل جائز لعدم الأكل، وإذا عقد الحب لم يجز لوجود الأكل، وكذلك المسلوخة بالمسلوختين لا يجوز لوجود الأكل، وقد كان قبل ذلك يجوز بيع شاة بشاتين. والجواب: أنا نقلب عليهم فنقول: بيع القصيل بالقصيل يجوز لعدم الكيل، وإذا عقد الحب لم يجز لوجود الكيل، فعلم أن الاعتبار بالكيل. وكذلك المسلوختان، وإنما لم يجز متفاضلًا لوجود الوزن فيهما، [لا] لوجود الأكل. واحتج بأن الكيل موضوع لمعرفة المقادير، فلا يجوز أن يكون علة لتحريم البيع متفاضلًا، كالذرع والعدد. والجواب: أنا قد بينا: أن علة تحريم المبيع زيادة الكيل، وزيادة الكيل لم توضع لمعرفة المقادير.

على أن زيادة الذرع ليس لها تأثير في تحريم البيع، فلم يجز أن يكون الذرع علة. فعلى هذا القياس لما لم يكن لزيادة الأكل تأثير في تحريم البيع، وجب أن لا يكون الأكل علة، وأما زيادة الكيل فلها تأثير في تحريم البيع، فجاز أن يكون الكيل علة. ولأن الذرع والعد كل واحد منهما لم يجعل علمًا للتخلص من الربا، فلم يكن علة فيه، ولما كان الكيل والوزن مقدارًا [....] جعل علمًا للتخلص، جاز أن يكون علة فيه. واحتج بأن علتنا تلازم المعلول؛ لأن المأكول لا يخرج عن كونه مأكولًا، وعلتكم تفارقه؛ لأن الشيء قد يكون مكيلًا في وقت، ثم تتغير العادة، فيصير موزونًا، وقد يكون مكيلًا في موضع، وموزونًا في موضع آخر، فيجب أن تكون علتنا أولى. والجواب: أن التي تلازم المعلول والتي تفارقه سواء عندنا، ألا ترى أن السوم علة لوجوب السائمة، ويجوز أن تفارق المعلول، ثم هي والتي تلازم المعلول سواء. واحتج بأن علتنا أعم من علتكم وأجرى في الفروع؛ لأنها توجد في جميع المأكولات مثل الرمان والسفرجل والخوخ والبيض والجوز واللوز.

والجواب: أن كونها أعم لا نرجح به العلة عندنا. وعلى أن هذا يوجب أن تكون علتنا في الذهب والفضة- وهو الوزن والجنس- أولى من علتهم؛ لأنها أعم منها. واحتج بأن علتنا تجري في معلولاتها، ولا يردها أصل، ولا تعارضها علة هي أولى منها، فيجب أن تكون هي علة للحكم. والجواب: أن علتنا تجري في معلولاتها، ولا يردها أصل، ولا تعارضها علة هي أولى منها، فيجب أن تكون هي علة الحكم. على أن قولهم: (لا يردها أصل) غلط؛ لأن الأكل عند مخالفنا علة لتحريم البيع في المكيلات إذا عدم التساوي فيها من جهة المكيل، وقد أجاز بيع الثمرة على رؤوس النخل بالتمر إذا كان خمسة أوسق، وإن لم تعلم المساواة بينهما من جهة الكيل، ولم يجز في خمسة أوسقٍ فصاعدًا، وإن كانت موضوعة على وجه الأرض. وأجاز- أيضًا- بيع البقول التي يأكلها الناس بعضها ببعض متفاضلًا مع وجود العلة التي يعتبرها في هذا الباب. وأجاز بيع السمك والجراد متفاضلًا، وهو مطعوم مباح؛ لأنه لا تقف إباحته على ذكاة، ولكن أكله يقف على ما يستصلح به، فهو كاللحم باللحم لا يباع متفاضلًا، وإن كان أكله يقف على استصلاح.

واحتج بأن الأكل علة ذاتية، والكيل فعلية، والذاتية أشبه بالعقلية، والفعلية أشبه بالشرعية، وإذا اجتمعت عقلية وشرعية كانت العقلية أولى. والجواب: أن الأكل يختلف، ألا ترى أن الهنيد تأكله العرب، ولا يأكله غيرهم، ولم يمنع اختلاف العادة في الأكل أن يكون علة. والهنيد: شيء يعمل من حب الحنظل، ومن دهنه، حتى قال شاعرهم: غنينا بالهنيد عن الثريد وعلى أن الأكل اعتياد الناس لأكل الشيء وفعلهم [له]، والكيل اعتياد الناس بيعه كيلًا وفعلهم له، فأحدهما كالآخر. واحتج بأن ما ذكرتموه يؤدي إلى أن يكون الجنس الواحد معللًا بعلتين؛ لأن الحنطة فيها الربا؛ لأنها مكيل، فإذا خبزت جرى فيها الربا؛ لأنه موزون، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز تعلل الموزون بعلتين. والجواب: أن الخبز بالصنعة قد صار في حكم جنس آخر، وبهذا انتقل عن أصله في الكيل.

واحتج بأن الأعيان تكال وتوزن في بلد، ولا تكال وتوزن في غيره، فيؤدي إلى أن يكون الشيء فيه الربا في بعض البلاد دون بعض. والجواب: أنه لا يمتنع ذلك، كما أن الشمس تغيب في بعض البلاد، فيباح الفطر، وهي باقية في غيره، فيحرم الفطر، وتزول في بعضها، فيدخل الوقت. على أن هذا لا يصح على أصلنا؛ لأن الاعتبار عندنا في الأشياء بمكة والمدينة، فما كان مكيلًا بالمدينة فهو مكيل في سائر البلاد، وإن خالف عادتهم، وكذلك الموزون. *فصل: والدلالة على مالك في اعتبار القوت، وما يصلحه من المدخرات: ما تقدم من حديث عبادة وأنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما وزن مثلًا بمثلٍ، وما كيل مثل ذلك). وهذا يعم المقتات والمدخر وغيره. وكذلك حديث ابن عمر: (لا تبيعوا الصاع بالصاعين). وبينا أن المراد به: ما يدخل في الصاع، وذلك عام في المقتات وغيره. ولأن غير المقتات، كالسمسم وبزر كتان والأشنان والنورة مكيل،

فوجب أن يحرم التفاضل فيه. دليله: المقتات المدخر. ولأن التأثير للكيل دون الاقتيات بدليل أنه متى وجدت الزيادة في الكيل حرم البيع، ومتى وجد التساوي جاز البيع، وإن تفاضلا في الاقتيات، مثل قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة عفنة. وإن شئت قلت: إن الزيادة في الاقتيات لها تأثير في تحريم البيع، فوجب أن لا يكون الاقتيات مع غيره علة. دليله: الزيادة في الطعم والزيادة في الذرع. ولأن القوت والادخار ليس بعلم للمقدرات، فلا يكون علة، كاللون والرائحة. والقوت لا يجوز أن يكون علة؛ لأن الملح ليس بقوت، ويجري فيه الربا، وكونه مصلحة للقوت لا يجوز أن يكون علة؛ لأن الماء والحطب من مصلحته، وليس بعلة. واحتج المخالف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أربعة أشياء جميعها مكيلة، فلو كان المراد مجرد الكيل لاقتصر على واحد منها. قالوا: ولا تنقلب علتنا في القوت؛ لأنا نستفيد بنصه على كل واحد من الأعيان الأربعة ما لا نستفيد بنصه على أحدهما، وهو:

أنه نبه بالبر على كل مقتات تعم الحاجة إليه، وتقوم الأبدان بتناوله. ونص على الشعير تنبيهًا على مشاركته في معناه مما يقتات حال الضرورة، كالذرة والدخن وغيرهما، وأن انفراده بكونه علفًا للبهائم لا يخرجه عن حكم القوت، وأن الربا لا يتعلق بما يقتات حال الرفاهية والسعة دون حال الضرورة. وذكر التمر تنبيهًا به على العسل والزبيب والسكر وكل حلاوة مدخرة غالبًا للاقتيات، وأن الربا يتعلق بنوع الحلاوات. وذكر الملح تنبيهًا على الأبازير، وما يتبع الاقتيات، ويصلح المقتات، وأن الربا ليس بمقصور، [ولو كان] مراده تعليق الحكم بالقوت، لاقتصر على ذكر الشعير، فيكون منبهًا على ما يقتات حال الضرورة من التمر والزبيب، فلما كرر ذلك التمر والشعير، وهما يقتاتان حال الضرورة، دل على أنه لم يرد تعليق الحكم بالقوت. وجوا آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن تكون العلة الكيل، ولا تقتصر على أحد المكيلات، كما كانت العلة عند مالك في الذهب والفضة كونها ثمنًا، ومع هذا فلم يقتصر على أحدهما، بل قد قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل، كذلك هاهنا.

واحتج بأن علتنا يتعلق تأثيرها بكل واحد من المنصوص عليه؛ لأنه لو لم يذكره لم يستفد تعلق الربا بنوعه، ولا يوجد ذلك في علتكم؛ فإنه يستوي فيها نصه على واحد منها، وعلى جميعها؛ لأن الكيل واحد فيها. والجواب: أنا قد بينا: أنه قد كان يستفيد بذكر أحدها على غيره؛ لأن في ذكر الشعير تنبيهًا على الحنطة التي هي أعلى منها، وعلى التمر- أيضًا- الذي هو أعلى من الشعير؛ لن فيه قوتًا وحلاوة. واحتج بأن الربا شرع تحريمه حراسة للأموال وحفظًا لها، ولانتفاء الضرر عن الناس فيها، وقد ثبت أنه ليس عام عندنا وعندكم في كل المتمولات، فوجب أن يكون في ما تمس الحاجة إليه، وتشتد الضرورة إلى حفظه، وهي الأقوات، وما في معناها من [....]، وهو الأثمان. والجواب: أن الحاجة لا تمس الملح؛ لأنا نعلم أن الحاجة إليه تابعة لغيره، ومع هذا ففيه الربا، كذلك لا يمتنع في ما عداه أن يكون الربا يجري فيه، وإن لم تمسه الحاجة. وعلى أنا قد بينا: أن الاقتيات لا يجوز أن يكون علة من الوجه الذي ذكرنا.

مسألة لا يجوز بيع تمرة بتمرتين، وحبة بحبتين

273 - مسألة لا يجوز بيع تمرةٍ بتمرتين، وحبةٍ بحبتين: نص عليه في رواية جعفر بن محمد: وقد سئل عن تمرة بتمرتين، فقال: لا، كيلًا بكيل، ومثلًا بمثل. وكذلك نقل ابن منصور عنه: أكره تمرة بتمرتين. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. دليلنا: ما تقدم من حديث عبادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب مثلًا بمثلٍ، والفضة بالفضة مثلًا بمثلٍ، والبر بالبر كيلًا بكيلٍ). وروى أبو بكر في لفظ آخر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا مثلًا بمثل، سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. ولم يفرق بين القليل والكثير. فإن قيل: الخبر لا يتناول إلا ما يتأتى فيه الكيل، والقليل لا يتأتى فيه الكيل. قيل له: المساواة كيلًا ذكرها في الاستثناء دون المستثنى منه، وتخصيص الاستثناء لا يوجب تخصيص المستثنى منه، كما قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] عام، ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] خاص في الرجعيات.

وجواب آخر، وهو: أن اليسير يتأتى كيله في حفرة من خشبة أو أرض، أو قشر فستقة، وما أشبه ذلك، فوجب اعتبار المساواة بذلك، وإن خرج عن العادة، كما اعتبرنا المساواة في الموزونات، وإن كانت صغيرتان لا يمكن وزنهما بالميزان في العادة. ولأن كل جنس يجري فيه الربا وجب أن يستوي قليله وكثيره. أصله: الذهب والفضة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن العلة توجد في قليله وكثيره، وهو الوزن مع الجنس، ويعدم في قليل الكيل. قيل له: قد بينا أنها توجد في قليل المكيل، كما توجد في كثيره، وإن خرج عن العادة لقلته، كما يعتبر الوزن في الموزون، وإن خرج عن العادة لكثرته. واحتج المخالف بأنه ليس بمكيل، ولا موزون، فوجب جواز بيع بعضه ببعض متفاضلًا، كالثياب ونحوها. والجواب: أنا لا نسلم أنه ليس بمكيل من الوجه الذي ذكرنا. وعلى أن الثياب جنس لا يجري فيه الربا، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه جنس يجري فيه الربا، فاستوى قليله وكثيره، كالموزون. واحتج بأن على مستهلكها القيمة، فهي كالثياب. والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل عليه المثل دون القيمة.

مسألة [علة] تحريم البيع متفاضلا في الذهب والفضة زيادة وزن في جنس

ثم المعنى في الثياب ما تقدم. ... 274 - مسألة [علة] تحريم البيع متفاضلًا في الذهب والفضة زيادة وزنٍ في جنسٍ: نص على هذا في رواية ابن القاسم وسندي، فقال: رطل حديد برطلي حديد لا يجوز قياسًا على الذهب والفضة. ونقل عنه أيضًا: رطل تبرٍ برطلي تبرٍ لا يصلح. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: العلة كونها أثمان الأشياء، وقيم المتلفات. دليلنا: ما تقدم من حديث أنس: (ما وزن مثلًا بمثلٍ إذا كان نوعًا واحدًا)، وهذا عام في جميع الموزونات. ويدل عليه ما روى أبو الحسن الدارقطني بإسناده عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سواد بن غزية أخا بني عدي من الأنصار، وأمره على خبير، فقدم عليه بتمر جنيب؛ يعني:

الطيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (أكل تمر خيبر هكذا؟) قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة آصع من الجمع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تفعل، ولكن بع هذا، واشتر بثمنه من هذا، وكذلك الميزان). ومعلوم أنه لم يرد نفس الميزان؛ لاتفاق المسلمين على جواز بيع الموازين بعضها ببعض متفاضلًا، فعلم أنه أراد به ما يدخل في الوزن، فاقتضى عمومه تحريم التفاضل في سائر الموزونات، ومخالفنا يزعم أن التفاضل في الموزونات لا يحرم إلا الذهب بالذهب والفضة بالفضة خاصة. فإن قيل: هذا دعوى العموم في المضمرات. قيل له: أهل اللغة تحذف المضاف، وتقيم المضاف إليه مقامه، فقوله: (وكذلك الميزان)؛ يعني: ذي ميزان. والاسم إذا بطل حمله على حقيقته، وجب حمله على التوسع؛ لئلا يبطل كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولأن الحديد والرصاص موزون جنسٍ، فوجب أن يحرم التفاضل فيه.

دليله: الذهب والفضة. أو نقول: زيادة وزن من جنس، فتعلق بها التحريم، كالأثمان. ولأنه لا يعرف بها المقدار، فلم تكن علة لكونه ذهبًا. ولأن علتهم تبطل بالفلوس؛ لأنها إذا أنفقت أثمان، ولا ربا فيها. ولأن تحريم التفاضل من الذهب والفضة مستفاد من جهة النص، ولا معنى لأن تستنبط منهما علة لا تثبت حكمًا في فرع، ولا تفيد إلا ما أفاده النص، ألا ترى أنا لما استفدنا أن الظهر أربع ركعات والمغرب ثلاث ركعات بالإجماع، لم يجز أن نستنبط منهما علة لا تثبت حكمًا في فرع، ولا تفيد غير ما أفاده الإجماع. فإن قيل: النص أفاد تحريم التفاضل فيهما، ولم يفدنا المعنى الذي لأجله حرم، وإذا استنبطنا منهما علة عرفنا المعنى الذي به تعلق الحكم، واستفدنا الفرق بين حكم معلل، وبين حكم استأثر الله بعلمه، ولم يطلعنا عليه. قيل له: فيجب أن تطلب العلة في أن الظهر لم كانت أربعًا، والمغرب ثلاثًا لهذا المعنى؟ وجواب آخر، وهو: أنه لا فائدة في معرفة معنى الحكم إذا لم يتعد إلى غيره؛ لأنه لا يفيد إلا ما أفاده النص. وربما سأل المخالف هذا السؤال على وجه آخر، وهو أنه قال: يفيد الفرق بينه وبين غيره.

قيل له: فهل مثل هذا في الظهر والفجر يجب أن يطلب الفرق بينهما؟! فإن قيل: لا يمتنع أن تكون علة صحيحة، وإن دلت على ما دل عليه النص، كما أن خبر الواحد يكون دالًا على ما دل عليه نص القرآن، ويكون صحيحًا. وقد يكون في الفرع نص، ويصح مع ذلك القياس على أصلٍ بعلته، كما نقول في تحريم النبيذ: فيه نصوص كثيرة، ونقيسه على الخمر، فثبت تحريمها. قيل له: نص القرآن وخبر الواحد كل واحد منهما يدل على نفس الحكم، وما اختلفنا فيه يدل على علته، وعلة الحكم من شأنها أن تكون متعدية مفيدة بدليل علة الربا؛ نحن نعلم أن النص ورد على ستة أشياء، فلما طلبنا علة الحكم، وجب تعديها، فالمخالف يعديها إلى كل مطعوم، ونحن نعديها إلى كل مكيل، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأن الربا لا يثبت في معمول الصفر والنحاس، فلم يثبت في أصله، كالطين، وعكسه: الذهب والفضة. والجواب: أنا لا نسلم الوصف؛ فروى أبو طالب وأحمد بن هشام وحرب: لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينين، ولا إبرة بإبرتين؛ أصله الوزن.

وبه قال أبو بكر من أصحابنا. ونقل ابن منصور وإبراهيم ويعقوب بن لحيان وحنبل: لا بأس ثوب بثوبين وكساء بكسائين يدًا بيدٍ. فعلى هذا المعنى في المعمول وفي الأصل: أنه لا يكال، ولا يوزن، وهذا موزون جنسٍ، أشبه الذهب والفضة. واحتج بأن إسلام الفضة والذهب في الصفر والنحاس جائز، ولو كان الربا ثابتًا فيهما بعلة واحدة، لم يجز ذلك، كما لا يجوز إسلام الذهب في الفضة، ولا الطعام في الشعير، فلما جاز ذلك ثبت أنه لا تجمعهما علة واحدة في الربا، كالدراهم مع الثياب، والذهب مع الطعام. والجواب: أن القياس يقتضي المنع، لكن أجزناه لأجل الحاجة، وهو: أن الدراهم والدنانير أثمان الأشياء، وبهم حاجة إلى السلم، فلو منعنا من ذلك كان فيه مشقة عظيمة، وللمشقة تأثير بدليل جواز بيع العرايا، وهو بيع رطبٍ بتمرٍ خرصًا لأجل الحاجة، وكذلك قرض الخبز والعجين، والقياس يمنع. وجواب آخر، وهو: أنه إنما لم يجز إسلام الذهب في الفضة لاتفاق معانيها، وهي كونها ثمنًا، وكذلك المكيل متفق المعنى، وهو أن جميعها مثمن، فلما اتفقت الأعيان التي جمعتها العلة في الصفة حرم النساء فيها.

فأما الوزن فيوجد في أشياء متفقة كلها مثمنة, كالزعفران والحديد والرصاص, فيوجد تحريم النساء فيها لاتفاقها, كما أوجب في المكيلات, ويوجد في أشياء مختلفة بعضها ثمن وبعضها مثمن, فلما اختلف معناها, صار ذلك كاختلاف العلة, فجاز أن يسلم بعضها في بعض. يبين ذلك: أن المكيلات كلها تكال على صفة واحدة, والموزونات تختلف؛ منها ما يوزن بالقبان, ويسامح فيه, كالحديد والرصاص, فدل على افتراق الحكمين, فخرج من هذا أنه إنما جاز إسلام الذهب والفضة في الموزونات لاختلاف معانيها من وجهين: أحدهما: أن أحدهما ثمن, والآخر مثمن. والثاني: أنهما مختلفان في صفة الوزن, فحصلا في حكم الجنسين من هذا الوجه. فإن قيل: فيجب أن لا يجوز سلم الحلي في الزعفران؛ لأن كل واحد مثمن. قيل: الحلي من جنس الثمن, ولهذا يحرم التفاضل فيه. واحتج بأن الوزن معنى يتخلص به من الربا, وجب أن لا يكون علة فيه. أصله: القبض.

والجواب عنه: ما تقدم في التي قبلها, وهو: أن العلة زيادة وزن من جنس, أو العلة فيه كونه موزونًا, فعلة الربا غير المعنى المخلص من الربا. وعلى أنا قد بينا: أنه لا يمتنع أن يكون علةً لتحريم الوطء, ولإباحة الإفطار. وجواب آخر, وهو: أنه ليس المخلص من الربا الوزن, وإنما المخلص المساواة في الوزن. وجواب آخر, وهو: أن القبض لا يختص عقود الربا, والوزن بختصها من الوجه الذي ذكرنا في التي قبلها. واحتج بأنه معنى يقدر به الشيء, أو جعل لمعرفة المقادير, أشبه العد والذرع. والجواب: أنا قد بينا: أن الزيادة هي علة التحريم, وليس الزيادة هي التي يقدر بها الشيء. على أن زيادة الذرع والعد ليس لها تأثير في تحريم المبيع, فلم يجز أن يكون الذرع والعد علة, وليس كذلك زيادة القدر؛ فإنها تؤثر في تحريم المبيع, وهو الزيادة في الذهب والفضة, فجاز أن يكون الوزن علة.

مسألة لا يجوز بيع فلس بفلسين سواء كانت نافقة, أو كاسدة, وسواء كانت بأعيانها

ولأن العدد والذرع كل واحد منهما لم يجعل علمًا للتخلص من الربا, فلم يكن علة فيه, ولما كان الكيل والوزن مقدارًا جعل علمًا للتخلص من الربا, جاز أن يكون علة فيه. واحتج بأن علتنا لا تنتقض, ولا تخالف نصًا ولا إجماعًا. والجواب: أن هذه الطريقة لا تدل على الصحة؛ لأن المختلفين في المذهب يعلل كل واحد منهما مذهبة بعلةٍ على هذه الصفة, ثم إحداهما باطلة, فعلم أن هذا بدليل. على أنها تبطل بالفلوس إذا أنفقت؛ فإنها أثمان, ولا ربا فيها عندهم. وعلى أنا ندعي في علتنا مثل ما ادعوه, فلا فرق بينهما. ... 275 - مسألة لا يجوز بيع فلسٍ بفلسين سواء كانت نافقةً, أو كاسدةً, وسواء كانت بأعيانها: وهذا بناء على المسألة التي بعدها, وأن الربا يجري في معمول الحديد والرصاص. وقد قال أحمد في رواية حنبل: أكره السلم في الفلوس, أو تأخر

القبض فيها؛ هو صرف. وظاهر هذا من كلامه: أنه جعلها جارية مجرى الأثمان. وقال أبو حنيفة: إن كانت كاسدة, فلا ربا فيها بحال, وإن كانت نافقة, فباعها بأعيانها, جاز فلس بفلسين, وإن باعها بغير أعيانها, لم يجز بيع فلس بفلسين. دليلنا: أن ما لم يجز بيع بعضه ببعض متفاضلًا إذا كان في الذمة لم يجز إذا كان معينًا, كالذهب والفضة. فإن قيل: إذا كانت بغير أعيانها صار فلس بفلس قصاصًا, ويبقى فلس لي بإزائه شيء, وهذا لا يجوز؛ لأنه أكل مالٍ بالباطل, وهذا المعنى معدوم فيها إذا كانت بأعيانها, فلهذا جاز التفاضل. قيل له: هذا باطل ببيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة عينًا بعين؛ فإن القصاص لا يحصل, ومع هذا لا يجوز التفاضل فيها. فإن قيل: الذهب والفضة قبضها مستحق في المجلس, والفلوس قبضها غير مستحق في المجلس. قيل له: لا نسلم لك هذا, وقد كرهه أحمد في رواية حنبل.

مسألة يجري الربا في معمول الصفر والنحاس والرصاص, ونحو ذلك

واحتج بأنها معدودة, فجاز التفاضل فيها, كالثياب. والجواب: أنه يبطل بها إذا كانت بغير أعيانها. وعلى أنا نسلم أنها معدودة, بل هي موزونة, والمعنى في الثياب: أنه يجوز التفاضل فيها إذا كانت في الذمة, وهذا بخلافه. ... 276 - مسألة يجري الربا في معمول الصفر والنحاس والرصاص, ونحو ذلك: نص عليه في رواية أبي طالب وأحمد بن هشام وحرب فقال: لا يباع فلس بفلسين, ولا سكين بسكينتين, ولا إبرة بإبرتين. وقال أبو حنيفة: يجوز. دليلنا: ما يثبت الربا بتبره يثبت في معمولة. دليله: الذهب والفضة, وعكسه: الطين. فإن قيل: معمولة وتبره موزون, فلهذا جرى الربا فيه, وما عمل منه خرج بالصنعة عن حد الوزن, فصار في حكم المعدود, فلهذا لم يثبت الربا فيه.

قيل له: ليس الأمر على هذا, بل العادة فيها الوزن, وإن ثمن الثقيل منها أكثر من ثمن الخفيف, فكيف يقال: إنها معدودة؟! ولو كان هذا لجاز أن يقال: المصوغ من الذهب والفضة معدود, وليس بموزون؛ لأن الخواتيم الصغار والسكاكين المحلاة يقصد منها عددها وصفتها, دون وزنها, ومع هذا فالوزن معتبر فيها. ولأن كل صفة لو كان عليها الذهب والفضة جرى فيها الربا, فإذا كان عليها الحديد والرصاص جرى فيه الربا. دليله: إذا كان تبرًا. فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية ابن منصور وابن إبراهيم وحنبل ويعقوب بن لحيان في ثوب بثوبين وكساء بكساوين: لا بأس به يدًا بيدٍ. قيل له: إنما قال هذا في ثياب لا يبتغى منها الوزن, كالصوف والقطن, فأما للإبريسم؛ فإنه لا يجوز ذلك فيها؛ لأنه يبتغى منها الوزن, فهي كالصفر والنحاس. وذهب المخالف إلى الأسئلة التي تقدمت, وقد أجبنا عنها.

مسألة التفاضل جائز في الماء

277 - مسألة التفاضل جائز في الماء: أومأ إليه أحمد في رواية أبي الصقر في عين ماء بين أقوام بينهم نوائب, فاقترض بعضهم نوبة صاحبه, فقال: إن كان محدودًا يعرف, ثم يجمع, فلا بأس. فقد أجاز قرضه, ولم يعتبر فيه كيلًا, ولا وزنًا, ولو كان فيه الربا لاعتبر ذلك. وروي عن مالك رواية: أنه لا يجوز. وروي عن محمد: أن الماء مكيل. دليلنا: أن كل ما لم ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه يباع كيلًا, أو وزنًا؛ فإنه يرجع في كونه مكيلًا أو موزونًا إلى مكة والمدينة, وعندهم إلى العادة. ومعلوم أن الماء ليس بمكيل ولا موزون بمكة والمدينة, ولا في العادة, ولا فيه نص أيضًا, فلم يكن مكيلًا, كالمعدودات والمذروعات. واحتج المخالف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بالصاع, ويتوضأ بالمد, فلو لم يكن مكيلًا ما قدره بالمد والصاع. والجواب: أنه قدر ذلك بالصاع والمد في الوضوء والغسل بضرب من التقريب, فأما أن يكون مكيلًا في العقود, فلم ينقل ذلك,

مسألة إذا باع جنسا يجري فيه الربا بعضه ببعض, وتفرقا قبل القبض, بطل البيع, وذلك مثل المكيل بعضه ببعض, والموزون بعضه ببعض

والربا إنما يدخل في ما كان مكيلًا في العقود. ... 278 - مسألة إذا باع جنسًا يجري فيه الربا بعضه ببعض, وتفرقا قبل القبض, بطل البيع, وذلك مثل المكيل بعضه ببعض, والموزون بعضه ببعض: نص على هذا في رواية صالح فقال: لا يجوز بيع البر بالبر, والشعير بالشعير, والتمر بالتمر إلا يدًا بيد. وقال- أيضًا-في رواية أبي طالب: الفلوس والنحاس أصله وزن, لا يباع واحد باثنين, ولا الرطل بالرطلين, أذهب إلى قول الثوري, شبهه بالذهب والورق؛ لا يباع إلا يدًا بيد. فقد نص على التقابض في البر والشعير والتمر, ونص على ذلك في الحديد والنحاس, وبهذا قال مالك والشافعي, إلا أن مالكًا اعتبر ذلك بأصله, وهو المقتات المدخر. والشافعي اعتبر المطعوم.

وقال أبو حنيفة: يجوز التفرق في ذلك قبل القبض, ولا يجوز شرط الأجل فيه. دليلنا: ما روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب, والفضة بالفضة, والبر بالبر, والشعير بالشعير, والتمر بالتمر, والملح بالملح, مثلا بمثل, يدًا بيدٍ, فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ). وروى- أيضًا- بإسناده عن عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يباع الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزنٍ, والورق وزنًا بوزنٍ؛ تبره وعينه, وذكر الشعير بالشعير, والبر بالبر, والتمر بالتمر, والملح بالملح, ولا بأس بالشعير بالبر يدًا بيد, والشعير أكثرهما يدًا بيدٍ, فمن زاد, أو أزاد, فقد أربى. فشرط في بيع البر بالبر وبيع البر بالشعير أن يكون يدًا بيد, وهذا يمنع جواز التفرق قبل القبض. فإن قيل: قوله: (يدًا بيدٍ) لا يفيد القبض, وإنما يفيد التعيين, وأنه يكون نقدًا, ولا يكون نسيئة, ألا ترى أن ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان إلا يدًا بيدٍ. واتفقوا أن القبض في المجلس ليس بشرط في بيع الحيوان بالحيوان؟

فثبت أنه أراد به التعيين, وأنه لا يكون نسيئة. ويقال أيضًا: فلان يبيع يدًا بيد؛ يعني: يبيع نقدًا, ولا يبيع نسيئة. قيل له: حقيقة قوله: (يدًا بيدٍ) تقتضي التقابض في الحال. ولأنه قد قال: (عينًا بعينٍ) , فلا يجوز أن يحمل قوله: (يدًا بيد) على معنى التعيين؛ لأن فيه حمل اللفظ على التكرار. ولأنه قد قال: (الذهب بالذهب مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ) , واتفقنا أن المراد به القبض. والقياس: أن ما حرم فيه النساء, حرم فيه التفرق قبل التقابض. دليله: الذهب والفضة. ولا يلزم عليه بيع الجواهر بعضها ببعض؛ أنه يحرم فيها السلم, ولا يحرم فيها التفرق قبل التقابض؛ لأنا قلنا: (ما حرم فيه النساء) , والتحريم هناك يرجع إلى العقد؛ لأنه عقد على المجهول؛ لأن الجوهرة لا تضبط, فإذا عقد على مجهول كان المحرم هو العقد دون النسيئة. يدل عليه: أنها لو كانت في حقةٍ, وعقد عليها مع حضورها, لم يصح البيع عندنا, ويكون المحرم العقد لأجل الجهالة دون البيع نقدًا. وإن شئت قلت: ما حرم فيه النساء لأجل الربا, حرم فيه التفرق قبل القبض, كالذهب والفضة.

ولا يدخل عليه بيع الجواهر؛ لأن النساء يحرم فيها لأجل الجهالة دون الربا. يبين صحة هذا: أن التفرق قبل التقابض والنسيئة يجريان مجرى واحدًا, ألا ترى أن الذهب والفضة لما حرما في كل واحد منهما حرما في الآخر, وكذلك رأس مال السلم لما حرم فيه أحدهما حرم الآخر, وما لا ربا فيه لما لم يحرم النساء فيه, لم يحرم التفرق قبل القبض. فإن قيل: المعنى في الذهب والفضة: أنهما لا يتعينان بالعقد, وإنما يتعينان بالقبض, فكان النساء محرمًا؛ لأن العوض الذي في الذمة غير معين, ومن شرطه أن يكون معينًا, وليس كذلك إذا كانا معينين, فتفرقا قبل التقابض؛ فإن تعينهما بالعقد يغني عن القبض. قيل: لا نسلم لك هذا؛ لأن الذهب والفضة يتعين بالعقد, ولا يجوز التفرق فيه قبل القبض. فإن قيل: المصوغ من جنس ما لا يتعين, فألحق بنفسه. قيل له: إذا فارق جنسه في التعيين, جاز أن يفارقه من حكم

التعيين, ولا يشترط القبض فيه, كما أن الجزء المشاع من الصبرة لما فارق جنسه في التعيين, فبيع غير معين, فارقه في حكمه عندهم, فاشترط فيه القبض. وقياس آخر, وهو: أن كل عقد أفسده دخول الأجل فيه, كان القبض في المجلس شرطًا فيه. دليله: لو باع جزءًا مشاعًا من صبرة. ولا يلزم عليه بيع الجواهر؛ لأن المفسد هناك الجهالة, وليس المفسد دخول الأجل. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الطعام حتى يقبض. فظاهره: أنه إذا قبض بعد الافتراق جاز بيعه. وروي عنه: أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان؛ صاع البائع, وصاع المشتري. والجواب: أن هذا احتجاج من دليل الخطاب, والمخالف غير قائل به. على أن الخبر قصد به منع التصرف في المبيع قبل قبضه, ولم يقصد به بيان صحة العقد, وهذا يقف على القبض قبل التفرق, وقد بين ذلك في خبرنا, فهو أولى.

مسألة الحنطة والشعير جنسان, يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ومتماثلا

واحتج بأنهما عينان من غير جنس الأثمان, فوجب أن لا يكون القبض في المجلس شرطًا فيهما. دليله: الأشياء المعدودات, كالحيوان والثياب والعقار. والجواب: أن المصوغ من الذهب والفضة قد خرج عن أن يكون ثمنًا, ومع هذا فإن القبض شرط في المجلس. ثم المعنى في تلك الأشياء: أن الربا لا يدخلها, فلهذا لم يحرم التفرق قبل القبض. ولا يلزم على هذا الجواهر؛ لأنه لم يحرم للتفرق, وإنما حرمت للجهالة, وليس كذلك هاهنا؛ لأنهما عينان يحرم فيهما النساء, فحرم التفرق قبل القبض, كالذهب والفضة. ... 279 - مسألة الحنطة والشعير جنسان, يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا ومتماثلًا: نص عليه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث: فلا بأس بصاع حنطة بصاعين شعيرًا يدًا بيدٍ. وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

وقال مالك: هما جنس واحد, لا يجوز التفاضل فيهما. وقد أومأ إليه أحمد في رواية حنبل, فقال: الحنطة والشعير والسلت صنف, وقال: يكره أن يبيع الحنطة بالشعير اثنين بواحد, ويجمعهما في الصدقة. دليلنا: ما تقدم من حديث عبادة: (ولا بأس بالشعير بالبر, والشعير [أكثرهما]). وهذا نص. روى أحمد بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الحنطة بالحنطة, والشعير بالشعير, والتمر بالتمر, والملح بالملح كيلًا بكيل, وزنًا بوزن, فمن زاد, أو ازداد, فقد أربى, إلا ما اختلفت ألوانه). ولون الشعير يخالف لون الحنطة. رواه أحمد في (المسند). ولأنهما عينان لا يقتاتان في بلد واحد غالبًا, فوجب أن يكونا جنسين, كالتمر والزبيب. يبين هذا: أن الزبيب والتمر يتفاوتان في المنفعة, كما يتفاوت التمر والشعير. فإن قيل: فرق بينهما بدليل أنه تضم الحنطة إلى الشعير في إيجاب الزكاة, ولا يضم التمر إلى الزبيب.

قيل: قد يضم الذهب إلى الفضة في إيجاب الزكاة, وهما جنسان, وكذلك القطاني. واحتج المخالف بما روي: أن معمر بن عبد الله أرسل غلامه بصاع من قمح, فقال: بعه, واشتر شعيرًا, فأخذ زيادة بعوض صاع, فقال: رده, ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الطعام بالطعام مثلًا بمثلٍ) , وكان طعامنا يومئذ الشعير. والجواب: أنا نحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام مثلًا بمثلٍ) على البر بالبر, والشعير بالشعير بدليل حديث عبادة. وقوله: (كان طعامنا يومئذ الشعير) لا يوجب حمل اللفظ على سببه, بل يعتبر عمومه عندنا. وأما امتناع معمر بن عبد الله من ذلك, فالجواب عنه كالجواب عما روي عن عمر وسعد ومعيقيب الدوسي وعبد الرحمن بن عبد يغوث بالمنع, وهو محمول على طريق الكراهية منه, دون التحريم بدليل ما ذكرنا من حديث عبادة. واحتج بأنهما يتقاربان في المنافع, ويتفقان في المنبت والحصاد,

مسألة ما لا ربا فيه يجوز بيع بعضه ببعض نساء, وهو ما عدا المكيل والموزون في أصح الروايات

وأحدهما لا يخلو من الآخر, وكانا كالجنس الواحد اعتبارًا بالعلس مع الحنطة, والقشمش مع الزبيب. والجواب: أن التمر مع الزبيب يتقاربان في المنافع؛ لأنهما حلوان ويقتاتان, وكذلك الذهب والفضة؛ لأنهما قيم المتلفات, وأروش الجنايات, ومع هذا فهما جنسان, ويجوز التفاضل بينهما, كذلك هاهنا. فإن قيل: أليس قد جعلتموها في حكم الجنس الواحد في ضم أحدهما إلى الآخر في إيجاب الزكاة, يجب أن تفعلوا مثل هذا في الربا. والجواب: أن الذهب والفضة يضم بعضه إلى بعض, وكذلك القطاني, ومع هذا لم يوجب ذلك أن يكونا جنسًا واحدًا, وكذلك هاهنا. وعلى أن في مسألة الضم روايتين. ... 280 - مسألة ما لا ربا فيه يجوز بيع بعضه ببعض نساءً, وهو ما عدا المكيل والموزون في أصح الروايات: نص عليها في رواية حنبل, فقال: إذا لم يكن أصله الكيل والوزن, فلا بأس به اثنين بواحد يدًا بيد, ونسيئةً.

وبهذا قال الشافعي, إلا أن الشافعي ما لا ربا فيه عنده: عدا المطعوم. وفيه رواية أخرى: الجنس بانفراده يحرم النساء. أومأ إليه في رواية حنبل في موضع آخر: وقد ذكر له قول مكحول: إذا كان الحيوان من صنف واحد فمكروه بيعه نسيئة, وإذا اختلفت فلا بأس؛ البقرة بشاتين, فقال أبو عبد الله: ولا أرى به بأسًا إذا اختلفت, وأتوقاه من جنس واحد. وبهذا قال أبو حنيفة. وفيه رواية ثالثة: العروض بانفرادها يحرم النساء سواء اتفقت أجناسها, أو اختلفت. نص عليها في مواضع: فقال في رواية حنبل في موضع آخر: لا يباع شيء من الحيوان اثنين بواحد إلى أجل, وإن اختلفت أجناسهم. وقال- أيضًا- في رواية أبي طالب: لا يعجبني بعير ببعيرين نساءً. وقال- أيضًا- في رواية أبي الحارث وجعفر بن محمد: ثوب بثوبين يدًا بيد, ولا يجوز نسيئة. وقال- أيضًا- في رواية ابن إبراهيم: ثوب قطن بثوبي كتان

نسيئة لا يجوز؛ اختلف, أو لم يختلف. وهو اختيار الخرقي. وقال مالك: الزيادة في الجنس تحرم النساء, فأما التساوي في الجنس, أو الزيادة في الجنسين, فلا تحرم النساء. وجه الرواية الأولى: ما روى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن العاص: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا, قال عبد الله: ليس عندنا ظهر, فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاع ظهرًا إلى خروج المصدق, وابتاع عبد الله بن عمرو بالبعيرين وبالأبعرة إلى خروج المصدق بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني: حديث صحيح جيد الإسناد. فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الله أن يبتاع إبلًا على أن يرد بدلها إبلًا مؤجلة, فابتاع عبد الله بعيرًا ببعيرين إلى أجل, فلو كان الجنس بانفراده يحرم النساء لما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ إبلًا مؤجلة. فإن قيل: ليس في الخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإثبات الإبل في ذمته إلى أجل, ويجوز أن يكون أمره بشراء الإبل بالدراهم؛ ليبيع إبل الصدقة, ويقضي من ثمنها. قيل: في الخبر قال: ابتعت البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة.

وهذا يقتضي: أن الشراء وقع على نفس الأبعرة دون أثمانها, وفعل ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يثبت إبلًا مثلها في إبل الصدقة, فأخذ عبد الله على أن تبقى ثابتة في إبل الصدقة, ومثل هذا جائز عندنا, وإنما الخلاف في جواز ثبوتها في الذمة بعقد البيع, وليس في الخبر أنها ثبتت في ذمة النبي - صلى الله عليه وسلم - , أو في ذمة عبد الله. قيل له: لا يصح إثباتها في إبل الصدقة؛ لأن العوض المطلق في البيع إنما يثبت في الذمة دون غيرها. وقد روينا في الخبر: فابتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى خروج المصدق. والقياس: أنهما عوضان لا يحرم فيهما التفرق قبل التقابض, فوجب أن لا يحرم إسلام أحدهما في الآخر لأجل الربا, أو لا يحرم إسلام أحدهما في الآخر إذا أمكن ضبطه بالوصف. دليله: بيع ثوب كتان بثوب قطن, أو إبريسم, والثوب الهروي بالمروي. ولا تلزم عليه الجواهر؛ لأنه لا يحرم فيها التفرق قبل القبض, ولا يجوز إسلام أحدهما في الآخر؛ لقولنا: لأجل الربا, وهناك لم يمنع لأجل الربا, لكن لأجل الجهالة, ولعدم ضبط صفاته. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه عدم وصفي علة تحريم التفاضل,

وهو: الجنس, والكيل أو الوزن, وليس كذلك هاهنا؛ لأن أحد وصفي علة تحريم التفاضل موجود, وهو الجنس. قيل له: إذا كان القياس على الثوب الهروي بالمروي, لم تصح المعارضة في الأصل؛ لأن أحد وصفي العلة موجود, وهو الجنس؛ لأن أصلهما القطن, وهو جنس واحد. فإن قيل: الصنعة تجعلهما جنسين. قيل له: الصنعة في الفضة لا تخرجها عن أصلها, ولا تجعلها جنسًا آخر, بل الخلاص من جنس الدراهم المضروبة والحلي سواء. فإن قيل: الصنعة في الفضة لا تخرجهما عن حد الوزن. قيل له: وكذلك أواني الحديد والرصاص. ويبين صحة هذا على أصلنا, وأن الصفة لا تجعله في حكم الجنسين على أصلنا: أن الخل والدبس من جنس واحد عندنا, ولا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا, وكذلك الرائب- وهو الدوخ- والحليب جنس واحد, وإن كان الرائب حامضًا بالصنعة, وكذلك المصل بالجبن جنس واحد. وقد قال أحمد- في رواية أحمد بن سعيد- في اللبن بالزبد والمصل اثنين بواحد: أكرهه؛ لأن أصلهما الطعام, وكذلك الأدهان

كلها ما كان منها من السمسم لا يجوز واحد باثنين, وإن تفاضلت بالصنعة [....]. وأما الكلام على علة الفرع فيأتي في أدلتهم, إن شاء الله تعالى. ولأن الأجل أحد وجهي الربا, فوجب أن لا يعم الأموال, أو نقول: فلا يجوز تحريمه بمجرد الجنس. دليله: تحريم التفاضل؛ فإنه لا يعم جميع الأموال, ولا يتعلق بمجرد الجنس, بل يختص بالمكيل والموزون, وكذلك الأجل يجب أن لا يعم, ولا يتعلق بمجرد الجنس. ولا يصح قولهم: (إن جهات الربا ثلاثة: التفرق قبل القبض, والنساء, والتفاضل)؛ لأن التفرق قبل القبض والنساء نوع واحد, وهو الافتراق من غير تقابض, والتفاضل نوع آخر من جهة أخرى. فإن قيل: تحريم النساء أعم وآكد من تحريم التفاضل؛ لأن تحريم التفاضل يختص الجنس الواحد, وتحريم النساء يعم الجنس والجنسين, فلو باع به الشعير مكوك بمكوكين جاز. قيل له: تحريم التقابض أعم من تحريم التفاضل, ومع هذا لا يعم الأموال, ولا يتعلق بالجنس.

وبيانه: أن بيع الذهب بالفضة يحرم فيه التفرق قبل التقابض, ولا يحرم التفاضل في ذلك. واحتج المخالف بما روى أحمد في (المسند) بإسناده عن سمرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. والجواب: أنا نحمل ذلك على النسيئة في العوضين جميعًا, وهو الظاهر من الخبر؛ لأن النسيئة صفة الحيوان المذكورة في الخبر, فرجع إليهما جميعًا, وتكون الدلالة على هذا خبرنا, وهو أحصر. واحتج بما روى أبو بكر بإسناده عن أسامة بن زيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الربا في النسيئة). والجواب: أنه محمول على ما يجرى فيه الربا بدليل ما ذكرنا. واحتج بأن الجنس أحد وصفي علة تحريم التفاضل يدًا بيد, فوجب أن يحرم النساء. دليله: المعنى المضموم إلى الجنس, وهو الكيل. قالوا: ولا يلزم عليه الدراهم في سائر الموزونات؛ لأن من أصلنا جواز تخصيص العلة الشرعية. وقد احترز بعضهم عن ذلك, فقال: أحد وصفي علة تحريم

التفاضل في غير جنس الأثمان, أو في ما يتعين. ولا يلزم عليه الدراهم في سائر الموزونات؛ لأنها من جنس الأثمان, ولأنها لا تتعين. والجواب: أنا لا نسلم: أن التحريم في الأصل ثبت لوجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل, وإنما ثبت لوجود علتيه, وهو الكيل والجنس. فإن قاسوا على المكيل من جنسين, كالحنطة والشعير, وأنه يحرم النساء لوجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل, فالمعنى في الأصل: أنهما عوضان يحرم إسلام أحدهما في الآخر لأجل الربا, فلهذا حرم فيهما النساء, وليس كذلك هاهنا؛ لأنهما عوضان لا يحرم التفرق فيهما قبل التقابض, فوجب أن لا يحرم النساء. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: ما ذهبتم إليه يفضي إلى أن يكون المعقود عليه- وهو الثمن- مستحقًا, وهو إذا أسلم في ثوب هروي ثوبًا مرويًا, ثم حل الأجل, استحق عليه تسليم ما كان ثمنًا, فلم يجز ذلك. قيل: يجوز ذلك إذا كان استحقاقه بسبب آخر, وهو كونه عوضًا عما في ذمته, بمثابة ما لو باع الثوب الذي كان عوضًا في السلم, ثم اشتراه؛ فإنه يصح, وإن كان مستحقًا في العقد الأول, ومستحقًا في العقد الثاني.

* فصل: والدلالة على مالك في جواز التفاضل في ذلك: ما تقدم من حديث عمرو بن العاص؛ وأنه أخذ بعيرًا ببعيرين إلى إبل الصدقة. ولأنهما عوضان لا يحرم النساء فيهما مع التساوي, فلم يحرم مع التفاضل. دليله: الجنسان. وعكسه: الذهب والفضة؛ لما حرم النساء فيهما مع التساوي, حرم مع التفاضل. واحتج المخالف بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الربا في النسيئة). والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن في الزيادة ذريعة إلى القرض الذي يجر نفعًا؛ لأنه كأنه أقرضه بعيرًا ببعيرين إلى أجل؛ لأنه ليس هناك اختلاف أغراض, وتباين منافع, فيحمل التفاضل عليه, فلم يبق إلا ما قلنا, وإذا قويت التهمة فيه منعناه؛ لكونه ذريعة إلى الأمر الممنوع منه. ويفارق هذا إذا تساويا؛ لأن هذه الذريعة معدومة. قالوا: ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب في من باع طعامًا إلى أجل, فحل الأجل: فلا يأخذ قيمته طعامًا, ولا تمرًا, ولا شيئًا يكال ويوزن؛ لأنه يؤدي [إلى] دخول النساء في ما يدخله الربا. والجواب: أنه لا يجوز أن يحمل على القرض, وله وجه مقصود

في البيع؛ لأنه قد يقصد الربح ببيع بعير ببعيرين نساء, كما يقصد ذلك بعقد السلم, فوجب حمله عليه. واحتج من نصر الرواية الثالثة بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنما في النسيئة). والجواب: أنه محمول على ما يجري فيه الربا. واحتج بأن الأشياء نوعان: أثمان, ومثمنات. ثم ثبت أن الأثمان تحرم النساء بانفرادها, كذلك المثمنات. والجواب: أن المعنى في الأثمان: أن يجري فيها الربا, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يجري فيه الربا. واحتج بما روى أحمد في ما تقدم في مسألة علة الربا بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين, ولا الدرهم بالدرهمين, ولا الصاع بالصاعين) , فقام رجل, فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس, والنجيب بالإبل؟ فقال: (لا بأس إذا كان يدًا بيد). فقد اعتبر القبض في بيع الحيوان متفاضلًا. والجواب: أنه محمول عليه إذا كان النساء من الطرفين, فيحصل بيع دين بدين. فإن قيل: فذلك لا يكون يدًا بيد, وإنما يكون يدًا بنسيئة.

مسألة إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان, فباع من أهل الحرب درهما بدرهمين, أو درهمين بدرهم, لم يجز

قيل: إنما قال: (يدًا بيدٍ) على طريق إلحاق أحدهما بالآخر اسمًا, وذلك كثير في اللغة؛ قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] , والنسيان إنما كان في أحد الطرفين, وهو في حق الآدمي, وإنما أخرجه للجزاء. ... 281 - مسألة إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان, فباع من أهل الحرب درهمًا بدرهمين, أو درهمين بدرهمٍ, لم يجز: نص عليه في رواية أبي الحارث وابن إبراهيم وابن القاسم: وقد سئل عن الأسير يشتري الدرهم بدرهمين, فقال: معاذ الله! ما أحل الله الربا في موضع من المواضيع. وقال- أيضًا- في رواية المروذي: وقد سئل عن الربا في بلاد العدو, قال: لا. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب, ولا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل).

ولم يفرق بين دار الحرب ودار الإسلام, فهو على العموم. ولأن ما حرم فعله عل المسلم في دار الإسلام, حرم في دار الحرب, كالزنا وارتكاب الفواحش. وإن شئت قلت: لأنها إحدى الدارين, فلم يجز فيها بيع درهم بدرهمين. دليله: دار الإسلام. فإن قيل: سائر الفواحش لا يجوز استباحتها على أهل دار الحرب بوجه, وليس كذلك هاهنا, لأن ما أخذه على وجه الاستباحة, ولا خلاف أن أخذ مال الحربي على وجه الاستباحة يجوز, فلهذا فرقنا بينهما. قيل له: فيجب أن يأخذه في دار الإسلام على الوجه الذي يأخذه في دار الحرب؛ لأن أخذ ماله يجوز على وجه الاستباحة. قيل له: دار الإسلام دار إباحة في حق الحربي إذا لم يكن له أمان. يدل عليه: أنه إذا دخل دار الإسلام؛ فإنه يؤخذ, وما معه من المال, كما يؤخذ في دار الحرب, وإذا كان له أمان منع الأمان من أخذ ذلك. وكذلك دار الحرب دار إباحة لمن لا أمان له من الكفار, ومن له أمان لا يجوز أخذ ماله. وقد نص أحمد على هذا في رواية الميموني: وقد سئل عن بيع

الأسير في أرض العدو الدرهم بالدرهمين, فقال: إذا كان موثقًا في أيديهم, ولم يأتمنوه, سرق منهم, وأخذ ما شاء, وإذا دخل بأمان لم يبع الدرهم بالدرهمين, ولم يسرق. فإن قيل: فيجب إذا سرق منهم مالًا, أو قهرهم على مال, وخرج إلى دار الإسلام: أن لا يملكه, ويجب رده إليهم. قيل: هكذا نقول: إذا دخل دار الحرب بأمان, وكذلك إذا استقرض منهم, واشترى منه في ذمته, وخرج إلى دار الإسلام, وجب عليه أن ينفذ العوض إلى صاحبه. وقد قال أحمد في رواية أبي داود في أسير قال لعلجٍ: أخرجني إلى مأمني, وأعطيك كذا: يفي له بذلك, فإن لم يجد يفديه المسلمون, إن لم يوجد في بيت المال. واحتج المخالف بما روى مكحول, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب). فنفى أن يكون بينهم ربا. والجواب: أنا لا نعرف هذا الخبر. ولو صح حملنا قوله: (لا ربا)؛ معناه: لا يجوز الربا, كما [قال - صلى الله عليه وسلم -]: (لا جلب, ولا جنب, ولا شغار في الإسلام).

وقوله: (لا صرورة في الإسلام). وقوله: (لا صلاة إلا بطهور). وما أشبه ذلك. فيكون حجة عليهم, وتكون فائدة التخصيص بدار الحرب؛ ليبين أنها- وإن ما يأخذه المسلم من الحربي في دار الحرب لا يأخذه على وجه البيع؛ لأن بيع درهم بدرهمين لا يجوز, وإنما يأخذه على وجه الاستباحة, وله أن يأخذه على هذا الوجه؛ لأن أموالهم مباحة لنا ما لم يحظره الأمان, فإذا أعطاه درهمين بطيبة نفسه, وأخذ درهمًا, حملنا الأمر على الوجه الذي يجوز, وهو أن ذلك القدر لم يدخل تحت الأمان. والجواب: أنها في حق من دخل إليهم بأمان دار حظر, وليست بدار إباحة. وعلى أنها دار إباحة في حق الكفار, فأما المسلمون وأموالهم غير مباحة فيها, والخلاف في المسلمين إذا تبايعوا فيما بينهم, وإذا تبايعوا

مع أهل الحرب واحد. ثم يبطل هذا بمن تزوج منهم بخمس نسوة, فيجب أن تكون مأخوذة بالاسترقاق دون العقد, ويجب إذا قتل منهم في دارهم, وبيع جسده بمال أن يملك المال بالاستباحة, ولا يجوز ذلك لما روى ابن المنذر في كتابه عن ابن عباس: أن مشركًا قتل يوم الأحزاب, فبعث المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابعث إلينا جسده, ونعطيك عشرة آلاف درهم, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا خير في جسده, ولا ثمنه). وهذا يدل على أن أخذ المال على ذلك لا يحل. فإن قيل: هذا كان بالمدينة في الوقت الذي حاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - , وكانت دار إسلام. ولأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك غيظًا لهم, واستخفافًا بهم. قيل له: النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العلة في رد ديته؛ لأنه لا خير في جسده, وعلى قولهم العلة فيه أنه كان في دار الإسلام, أو قصد غيظهم, وهذا خلاف الظاهر.

مسألة المكيلات المنصوص عليها مكيلة أبدا, لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلا, والموزونات المنصوص عليها موزونة أبدا, وما لم ينص على تحريم التفاضل فيه كيلا ولا وزنا, فالمرجع فيه إلى عرف العادة بالحجاز في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فما كانت

282 - مسألة المكيلات المنصوص عليها مكيلة أبدًا, لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلًا, والموزونات المنصوص عليها موزونة أبدًا, وما لم ينص على تحريم التفاضل فيه كيلًا ولا وزنًا, فالمرجع فيه إلى عرف العادة بالحجاز في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فما كانت العادة فيه الكيل, لم يجز إلا كيلًا في سائر الدنيا. وما كانت العادة فيه الوزن, لم يجز إلا وزنًا في سائر الدنيا. فأما ما ليس هناك عرف, أو حدث لشيء عرف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - احتمل أن يرد إلى أقرب الأشياء به شبهًا بالجحاز, واحتمل أن يعتبر بحاله بالعرف في موضعه: وقال أبو حنيفة: ما لم ينص على تحريم التفاضل فيه كيلًا, ولا وزنًا, فالمرجع فيه إلى عادة الناس, ولا نخصه بعادة أهل الحجاز. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الوزن وزن أهل مكة, والمكيال مكيال المدينة). وفي رواية أخرى: (المكيال مكيال أهل المدينة, ولا ميزان إلا بمكة). وإنما قصد رد البلاد كلها إلى هذين البلدين, ولم يرد أيضًا: أن

الاعتبار بمكيال المدينة دون مكيال مكة, ولا اعتبار بميزان مكة دون المدينة. ولأن العرف في البلدان يومئذ سواء, وإنما نص على مكيال المدينة؛ لينبه به على مكيال مكة, ونص على ميزان مكة؛ لينبه به على ميزان المدينة. فإن قيل: يحمل المكيال مكيالهم في تقدير الصاع بالكفارات, والميزان ميزانهم في نصاب الزكاة. قيل: هذا تخصيص بغير دليل. واحتج المخالف بما روي في حديث عبادة وأنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما وزن مثلًا بمثل إذا كان نوعًا واحدًا, وما كيل مثلًا بمثل إذا كان نوعًا واحدًا) , ولم يفصل. والجواب: أنه محمول على ما نص على وزنه أو كيله بما ذكرنا. واحتج بأن ما لم ينص على كونه مكيلًا, جاز بيع بعضه ببعض وزنًا. أصله: الدراهم والدنانير. ولم ينص على كونه موزونًا, جاز بيع بعضه ببعض كيلًا. أصله: الطعام والملح.

مسألة لا يجوز بيع الحنطة بالدقيق في أصح الروايتين

والجواب: أن المعنى في الأصل: أنه منصوص عليه وزنًا وكيلًا, فلهذا جاز, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه غير منصوص على كونه وزنًا, ولا يثبت عرفه بالحجاز وزنًا, فلم يجز بيعه وزنًا, كالطعام. واحتج بأن كل بقعة لا تعتبر عادة أهلها في غير زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - , لا تعتبر عادة أهلها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - , كسائر البقاع. والجواب: أنه إن ما لم يعتبر في غير زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأقر عليه, فهو شرعه وأمره, وليس إذا لم يجب العمل بفعل غيره وقوله, لا يجب بقوله [....]. ... 283 - مسألة لا يجوز بيع الحنطة بالدقيق في أصح الروايتين: رواها ابن إبراهيم, وابن بختان, وأبو الحارث, وابن منصور في إحدى الروايتين. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وفيه رواية أخرى: يجوز ذلك وزنًا. رواها ابن منصور في موضع آخر.

وروى حرب- أيضًا- عنه: وقد سئل عن بيع الدقيق بالخبز, فلم يعجبه, وسهل في الدقيق بالبر وزنًا. واختلف أصحاب مالك في تحصيل مذهبه في بيع الحنطة بالدقيق؛ فمنهم من قال: المسألة على روايتين. ومنهم من قال: المسألة على اختلاف حالين؛ فإن كان كيلًا لم يجز, وإن كان وزنًا جاز. وكذلك الخلاف في بيع الحنطة بالسويق, وبيع السويق بالدقيق. وقال في رواية حنبل: لا بأس بالبر بالسويق, والسويق بالدقيق وزنًا, ولا يجوز كيلًا. وقال في رواية أبي الحارث: السويق بالحنطة أكرهه. وكذلك في رواية مهنا: أكره حنطة مقلية بغير مقلية. فالدلالة على أنه لا يجوز في الجملة هو: أنه جنس فيه الربا, بيع بعضه ببعض على صفة ينفرد أحدهما بالنقصان عن الآخر في المستقبل, في ما قدر به, فلم يجز. دليله: بيع الرطب بالتمر. وافق مالك على ذلك, والرواية لا تختلف عن أحمد في ذلك أيضًا. ولا يلزم عليه بيع الرطب بالرطب؛ لأنهما يتساويان في النقصان. ولا تلزم عليه الحنطة العفنة بالجيدة؛ لأن النقصان لا يحصل في ما قدر به.

وإن شئت قلت: جنس فيه الربا, بيع بعضه ببعض على صفتين مختلفتين, أشبه الرطب بالتمر. ولا يلزم عليه الرطب بالرطب؛ لأن الصفة واحدة. والأولى أصح؛ لأن هذه تنتقض بالعفنة والجيدة, والبياض مع السواد. فإن قيل: فيجب إذا باع حنطة بدقيق, ثم طحنت الحنطة, فلم يزد كيلها على كيل الدقيق؛ أن يجوز. قيل له: الغالب أنها تزيد, والحكم للغالب. واحتج المخالف بأن الدقيق هو الحنطة بعينها, وإنما تفرقت أجزاؤها, فصار كالصحاح بالمكسرة. والجواب: أن التساوي هناك بالوزن, وقد وجد, وهو المعتبر, والتساوي هاهنا يعتبر بالكيل, وهما [غير] متساويين. ولأن الحنطة إذا طحنت زادت على كيل الدقيق, فلذلك لم يجز. *فصل: فإن قلنا: يجوز بيع الحنطة بالسويق, وبيع السويق بالدقيق, فإنما يجوز متساويًا, ولا يجوز متفاضلًا.

نص عليه في رواية حنبل. وقال مالك وأبو يوسف ومحمد: يجوز متساويًا ومتفاضلًا. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الطعام بالطعام مثلًا بمثل). واسم الطعام يتناول الدقيق والسويق باتفاق, فوجب اعتبار المساواة فيه لعموم الخبر؛ لأن الدقيق والسويق من أجزاء الحنطة, فلا يجوز التفاضل فيهما. دليله: الدقيق بالدقيق, والخبز بالخبز. وإن شئت قلت: هما من أجزاء الحنطة, فكانا جنسًا واحدًا. دليله: ما ذكرنا. واحتج المخالف بأن الصنعة قد غيرت حكم السويق, وجعلته جنسًا مفردًا عن الحنطة, وللتغيير بالصنعة تأثير في اختلاف الجنسية, ألا ترى أن لحم الضأن والمعز لا يجوز متفاضلًا, ثم بيع النيئ بالمطبوخ منه متفاضلًا جائز؛ لاختلاف الأغراض منه, كذلك السويق والدقيق. وربما قالوا: كل واحد منهما لا يعود مثل صاحبه, فهو كالناطف والخل. والجواب: أن هذا المعنى موجود في الدقيق مع الحنطة؛ فإن

الصنعة قد غيرت حكم الدقيق, وجعلته في حكم جنس آخر لاختلاف المنافع, وكذلك الحنطة المقلية وغير المقلية جنس واحد عند أبي يوسف ومحمد, ولا يعود مثل صاحبه, ومع هذا فلا يجوز التفاضل. وقد نص أحمد على هذا في رواية مهنا: وقد سئل عن الحنطة المقلية بغير المقلية, فكرهه. وما ذكروه من اللحم النيئ بالمطبوخ, وأنه يجوز متفاضلًا, فغير صحيح؛ لأنه لا يجوز عندنا؛ لا متفاضلًا, ولا متساويًا؛ لأنه يجري مجرى الرطب بالتمر, والخبر بالحنطة. وكذلك الناطف بالخل لا يجوز. وقد نص أحمد على هذا في رواية ابن القاسم: وقد سئل عن اللحم المطبوخ باللحم النيئ, وأن مالكًا يقول: لا بأس بهم تفاضلًا لما قد دخله من الصنعة, فكرهه. قيل له: يقولون في اللحم النيئ بالمشوي: لا يجوز, فقال: نعم, هكذا هو. وقيل له: واللحم الطري بالقديد؟ فقال: هذا بمنزلة الرطب بالتمر؛ لأن اللحم الطري رطب, وهذا يابس. وقد نص- أيضًا- في بيع الخبز بالحنطة في رواية ابن

مسألة يجوز بيع الدقيق بالدقيق إذا كانا على صفة واحدة من النعومة

إبراهيم, فقال: لا يعجبني. ونص في رواية ابن القاسم وسندي في بيع الخبز بالدقيق: لا يجوز. ... 284 - مسألة يجوز بيع الدقيق بالدقيق إذا كانا على صفة واحدة من النعومة: ذكره أبو بكر في كتابه (الشافعي). وهذه المسألة تدل على أن للدقيق مثل؛ إذ لو لم يكن له مثل لم يجز بيع بعضه ببعض لعدم المساواة. وهو قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يجوز, ولا مثل له عنده. دليلنا: ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطعام بالطعام مثلًا بمثلٍ). واسم الطعام يتناول الدقيق باتفاق. وكل عين جاز بيع بعضها ببعض قبل تفرق أجزائها, جاز بعد تفرقها إذا جاز تفريقها. دليله: الشيرج بالشيرج, والعصير بالعصير.

وإن شئت قلت: ما كان له مثل قبل تفريق أجزائه, كان له مثل, وإن تفرقت. دليله: الدراهم. وكل جنس جاز بيع بعضه ببعض إذا كان على صفة الادخار, جاز بيع بعضه ببعض إذا زال عن حال الادخار. دليله: بيع الحنطة بالحنطة؛ يجوز إذا كان على صفة الادخار, ويجوز إذا زالا عن ذلك بالعفن. أو نقول: كل جنس جاز بيع بعضه ببعض إذا كان على صفة ادخاره, جاز بيع بعضه ببعض على غير تلك الصفة. دليله: اللبن باللبن, والعصير بالعصير. فإن قيل: معظم منافع اللبن حال رطوبته تجرى مجرى ادخاره. قيل له: عامة منافع اللبن طريًا توجد حال رطوبته, وكذلك عامة منافع الدقيق؛ لأنهما قد اتفقا في الصفة والمقدار, أشبه بيع الحنطة بالحنطة. ولا يلزم عليه بيع الرطب بالتمر؛ لاختلافهما في الصفة. واحتج المخالف بأنه جنس فيه الربا, بيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان في حال الكمال والادخار, فوجب أن لا يصح. دليله: بيع الحنطة بالدقيق, والرطب بالتمر, واللحم بالحيوان. والجواب: أنه ينتقض ببيع الحنطة العفنة بالعفنة؛ فإن هذا

الوصف موجود فيه, وقد يجوز. وقد احترز بعضهم, فقال: قوت زال عن هيئة الادخار بصنعة آدمي, فأشبه الحنطة بالدقيق, والناعم بالخشن. والجواب: أن قولهم: (قوت) لا تأثير له؛ لأن غير القوت, وهو اللحم الطري باللحم الطري لا يجوز, وإن لم يكن قوتًا. ثم لا نسلم أنه زال عن حال بقاء نوعه, وإنما زال عن حال بقاء أصله, وهذا لا يمنع البيع, كالعصير بالعصير, وقد زال عن حال بقاء أصله, وهو الزبيب, ومع هذا يجوز. ثم المعنى في الناعمة بالخشنة, والحنطة بالدقيق, والرطب بالتمر, واللحم بالحيوان: أنه يفضي إلى أن ينفرد أحدهما بالنقصان في الثاني؛ لأن الخشن لو أعيد الطحن عليه زاد, وهذا لا يوجد في الناعمين. وكذلك الحنطة لو طحنت تفرقت أجزاؤها, فزادت. وكذلك الرطب إذا جف, وبلغ في الجفاف حالة التمر, نقص عنه. وكذلك الحيوان إذا ذبح, نقص عن قدر اللحم, فلهذا لم يجز. وليس كذلك هاهنا؛ لأن المساواة موجودة حال العقد على وجه لا يفضي إلى أن ينفرد أحدهما بالنقصان في الثاني, فهو كالحنطة بالحنطة.

مسألة يجوز بيع الخبز وزنا

وإن شئت قلت: المعنى في هذه الأصول: أن الصفة مختلفة, وهاهنا الصفة متفقة. واحتج بأن أجزاءه مختلفة بالنعومة والخشونة, فلم يكن له مثل. والجواب: أن هذا النوع من الاختلاف غير مؤثر بدليل الحنطة الرزينة بالخفيفة, والتمر الحديث بالعتيق؛ فإنه لا يمنع المثلية لأجل المساواة في المكيال, كذلك هذا. واحتج بأن بيع الدقيق بالدقيق يؤدي إلى التفاضل حال كونها بوزن؛ لأن دقيق الحنطة الثقيلة أكثر من دقيق الحنطة الخفيفة, فكأنه باع حنطة بحنطة متفاضلة, وهذا لا يجوز. والجواب: أن هذا يبطل بخل العنب والعصير؛ فإنه يجوز مثلًا بمثل, ونحن نعلم أنا إذا رددناهما إلى العنب كان أحدهما أكثر من الآخر؛ لأن العصير من بعض العنب يكون من بعض, ثم لا يجري مجرى العنب بالعنب متفاضلًا. ... 285 - مسألة يجوز بيع الخبز وزنًا: قال في رواية أبي الحارث: رغيف برغيف لا بأس به إذا لم يرد

الفضل خلافًا لأصحاب الشافعي في قولهم: لا يجوز. دليلنا: أن ما يخالطه من الماء والملح يراد لمصلحته, وهو غير متفاوت, فلم يمنع من البيع, كبيع الثمر بالثمر وفيه نواة, والجوز واللوز في قشره؛ فإن النوى والقشر غير مأكول, ولم يمنع من البيع. ولا يلزم عليه إذا باع طعامًا وماءً وملحًا بطعام وماء وملح؛ لأن ذلك ليس من مصلحته. ولا يلزم عليه إذا باع الهريسة بعضها ببعض والعصيدة؛ لأن التفاوت يكثر في ما يحصل فيها من اللحم والدبس. واحتج المخالف بأن مع البر من غير جنسه, وهذا لا يجوز. ولأن أصل كل واحد الكيل, فلا يجوز بيعه وزنًا. ولأن عمل النار فيه لا يختلف. والجواب عن قولهم: (إن مع البر من غير جنسه) فيبطل بالنوى في التمر, والقشر في اللوز والجوز. وأما قوله: (إن الأصل فيه الكيل) فقد انتقل عن ذلك إلى الوزن, فهو كاللبن؛ يباع بعضه ببعض كيلًا, فإذا صار أقطًا أو جبنًا بيع وزنًا. وأما قوله: (إنه يتفاوت في الجفاف) فيبطل ببيع التمر بالتمر؛ فإنه يختلف جفافه في الشمس, ومع هذا يجوز بيع بعضه ببعض, كذلك هاهنا. وهذه المسألة تدل على أن للخبز مثلًا؛ إذ لو لم يكن مثله

مسألة لا يجوز بيع الحنطة المبلولة باليابسة

لم يجز بيع بعضه ببعض؛ لعدم المساواة. ... 286 - مسألة لا يجوز بيع الحنطة المبلولة باليابسة: وقد قال أحمد في رواية الميموني: إذا كانت الثمرة واحدة, فلا يجوز أن يشترط رطبًا بيابس. واحتج بالتمر بالرطب, وقال: الحنطة اليابسة بالرطبة فلا. دليلنا: أن إحدى الحنطتين تخالف الأخرى في الصفة المقصودة, فلم يجز. دليله: المقلية بغير المقلية. فإن قيل: المقلية فيها زيادة صفة لها قيمة, كالصبغ في الثوب, فيصير بمنزلة من باع قفيز حنطة بقفيز, وشرط مع أحدهما زيادة درهم. فإن قيل: لا يجوز أن يكون المانع ما ذكرت؛ لأن المصوغ من الذهب والفضة للصنعة قيمة, ومع هذا لا يجوز بيعه بالتبر من جنسه. وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرطب بالتمر: (أينقص الرطب إذا يبس؟)

مسألة خل العنب وخل التمر جنسان, يجوز التفاضل فيهما

قالوا: نعم. قال: (فلا إذًا). وهذا موجود هاهنا. واحتج بأن المساوة موجودة حال العقد, أشبه إذا كانا يابستين. والجواب: أنه يبطل بالمقلية مع غير المقلية. وعلى أن الكلام يأتي في ذلك في مسألة بيع الرطب بالتمر. ... 287 - مسألة خل العنب وخل التمر جنسان, يجوز التفاضل فيهما: ذكره أبو بكر في كتاب (الخلاف) , وحكاه عن أحمد في رواية مهنا. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: هما جنس واحد, لا يجوز التفاضل فيهما. وقد روى مهنا عن أحمد: وقد سئل عن الخل من الخمر بخل

التمر, فقال: كل واحد لا يصلح إلا مثلًا بمثل. هكذا رواه أبو بكر في كتاب (الشافعي). وهو قول مالك. فالدلالة على الجواز: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما وزن مثلًا بمثل إذا كان نوعًا واحدًا. وخل العنب وخل التمر نوعان, فدليل الخطاب يقتضي أن لا تجب الماثلة فيهما. ولأنهما نوعان لأصلين هن أجناس, ويجوز التفاضل فيها, وكانت الفروع أجناسًا, يجوز التفاضل فيها. دليله: الأدقة, والأخباز, والشبرق مع الزيت. ولا يلزم عليه اللحمان والألبان؛ لأنهما أجناس على الصحيح من الروايات. واحتج المخالف بأن منافعهما متقاربة, أشد تقاربًا من لحم الضأن والماعز, ومع هذا فهما جنس واحد, كذلك هاهنا.

ولأنه لو حلف: لا يأكل خلًا, فأي خل أكل حنث, فنقول: شمله اسم جمع خاص, أشبه لحم الضان والماعز, وخل العنب بخل العنب. والجواب: أنه يبطل بالأخباز والأدقة وبالزيت مع الشبرق؛ فإن هذه الأشياء قد شملها الاسم الخاص في كونها دقيقًا وخبزًا, وكونها دهنًا, ولو خلف: لا أكل دقيقًا- أو خبزًا- أو دهنًا, حنث بكل واحد منهما. وأما خل العنب بخل العنب فالمعنى فيهما: أنه لما جرى الربا في أصلهما, جرى في فرعهما. وأما اللحمان وألبان الغنم مع البقر ففيه روايتان؛ فعلى إحداهما: لا نسلم. والثانية: يجري فيهما الربا, وإن لم نجزه في أصولهما؛ لأنه لما لم يجز الربا في أصولها, لم يمكن اعتبار حالها بها, فاعتبرنا الاتفاق والاختلاف حالة حدوث حكم الربا في الفروع, وليس كذلك هاهنا؛ لأن أصولها يجري فيها الربا, فكان اعتبار الفروع بها.

مسألة لا يجوز بيع شيء من المكيلات والموزونات على التحري

288 - مسألة لا يجوز بيع شيء من المكيلات والموزونات على التحري: أومأ إليه في رواية حنبل: وذكر له قول مالك: لا خير في الخبز قرصًا بقرصين إذا كان بعض ذلك أفضل, فأما إذا كان يتحرى مثلاُ بمثل, فلا بأس, وإن لم يوزن, ويرد مثل وزنه, فقال أحمد: الموزون أحب إلي, وكذلك الخمير الذي يعار يوزن, ويرد مثل وزنه. وقال- أيضا- في رواية الأثرم: الدنانير عددًا, وهي تنفق برؤوسها, وفي مكان أقل فلا. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز بيع اللحم باللحم, والخبز بالخبز على التحري, وكذلك بيع الحلي المكسور والتبر من الذهب والفضة, وكذلك بيع الدنانير بالدنانير, والدراهم بالدراهم, إلا أنه مكروه عندهم في الدنانير بعضها ببعض, والدراهم بالدراهم. ووافقوا في المكيلات: أنه لا يجوز بيع بعضها ببعض بالتحري. واختلف أصحابه بعد هذا؛ فمنهم من أجاز ذلك على الإطلاق. ومنهم من شرط فيه تعذر الموازين, كالبوادي والأسفار. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن أبي سعيد, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

(لا يصلح صاع تمر بصاعين, ولا درهم بدرهمين, والدرهم بالدرهم, والدينار بالدينار, لا فضل بينهما إلا وزنًا). فأمر بالمساواة بينهم بالميزان, وهذا عام. ولأنه جنس فيه الربا, فلم يجز بيعه بجنسه على التحري. دليله: المكيلات في الحضر والسفر, والموزونات في الحضر. فإن قيل: المكيل لا يعدمون ما يكيلونه به, وإن لم تكن مكاييل معتادة؛ لأنه يجوز بالزنبيل والغرارة والكوز ونحو ذلك, وليس كذلك الموزون؛ فإنهم يعدمون ما يزينونه [به] في الغالب, فجاز أن يسامحوا في ذلك للضرورة, ألا ترى أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز في غير العرايا, ويجوز في العرايا لأجل الحاجة والضرورة, كذلك هاهنا. قيل: لا فرق بينهما, وذلك أنهم كما لا يعدمون مكيلًا, وإن خرج عن المعتاد, كذلك لا يعدمون ميزانًا, وإن خرج عن المعتاد؛ لأنهم لا يعدمون خشبة وخيطًا وشيئًا يشبه الكف من أي شيء كان, فيزين بعضًا ببعض. ولأنه إذا تعذر الميزان فقد لا يتعذر غيره, وهو أن يعرض كل واحد منهما لصاحبه ثوبه بعد ذلك.

واحتج المخالف بأن قرض الخبز يجوز من غير ميزان مع القدرة على الوزن, والعلم بحصول التفاضل فيه؛ لأنهم لا يقصدون الربا في ذلك, فأولى أن يجوز ذلك في حال الضرورة. وقد قال أحمد في رواية الميموني: قد سهل قوم أن يأخذ أكبر, ويدفع أصغر, فإذا لم تكن مروضة, ولا مواطأة, فلا بأس. وقال- أيضًا- في رواية الفضل بن زياد في الرغيف بالرغيفين: ما لم يرد به الربا, فلا بأس به. والجواب: أن الضرورة عادة في قرض اليسير من الخبز والخمير؛ لأن العادة أن ذلك القدر لا يبيعه الناس من بيوتهم, وبهم حاجة إلى إقراضه, وهذا معدوم هاهنا؛ لأنهم يتوصلون إلى وزنه بغير الميزان المعتاد, ويتوصل إلى ملكه- أيضًا- بعقد في الذمة من غير جنسه. واحتج بأن النقل مستفيض عن الصحابة: أنهم كانوا يقتسمون اللحوم على التحري, والقسمة: إما بيع, أو في حكم البيع. والجواب: أن القسمة عندنا إقرار حق, وليست ببيع. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم في الشريكين إذا كان بينهما النخل, فأراد أن يقتسما بالخرص: جاز. فقد أجاز قسمة الثمار بالخرص, ولو كان بيعًا لم يجز؛ لأنه لا يجيز بيع الثمار بعضها ببعض خرصًا إلا في العرايا فقط.

مسألة اللحوم أجناس باختلاف أصولها, وكذلك الألبان في إحدى الروايات

واحتج بأن الحزر في الشرع قد جعل طريقًا إلى جواز البيع في ما شرط فيه الكيل والوزن عند تعذرهما, كالزكاة والعرايا, كذلك في مسألتنا للضرورة, وهو: أن الموازين تتعذر, وتشق, فلو قلنا: إنهم لا يقتسمون اللحم في الأسفار إلا بميزان لشق, ولأدى إلى ضياعه, وإلى فوات الانتفاع به, فجاز لهذه الضرورة. وإذا جاز اقتسامه على التحري جاز في البيع؛ لأن أحدًا لا يفرق بينهما. والجواب: أن بيع العرايا لأجل الحاجة إلى شراء الرطب, ولا يكون في يده ثمن, ولا تباع بالنسيئة, فجوز لتلك الحاجة, ولا حاجة هاهنا إلى بيع الجزاف من الوجه الذي ذكرنا من اعتبار ميزان يخرج عن العادة, والبيع بغير جنسه. وأما الخرص للثمار فلأجل الحاجة أيضًا, وهو أن يعرف قدر نصيب الفقراء, فيتصرف المالك في الثمرة, لا طريق لنا غير ذلك, وهذا معدوم هاهنا. ... 289 - مسألة اللحوم أجناس باختلاف أصولها, وكذلك الألبان في إحدى الروايات: رواها حنبل عنه, فقال: لا بأس بلحم بقر بلحم غنم رطلين

برطل, ولحم جمل رطل برطلين, وكذلك من الوحش من الظباء والأيل. وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا. وهو قول أبي حنيفة. وفيه رواية أخرى: أنها أربعة أجناس لحم الأنعام صنف, والوحش صنف, ولحوم الطير صنف, ولحوم دواب الماء صنف, يجوز بيع كل واحد بخلافه متفاضلًا, ولا يجوز بصنفه إلا متماثلًا. نص عليه في رواية مهنا, وأبي الحارث, وإبراهيم بن هانئ, وحرب, ويعقوب بن لحيان, وابن مشيشٍ, واللفظ له, ومهنا: وقد سئل عن رطل لحم غنم برطلي لحم بقر, فكرهه. قيل له: فلحم سمك؟ قال: هذا أبعد. قيل له: فلحم الطير؟ قال: هذا أبعد. فمنع من التفاضل بين لحوم الأنعام, وأجازه بين لحوم الطائر والسمك بقوله: هذا أبعد؛ يعني: أبعد من الربا. وبه قال مالك. والثالثة: ما أطلق الخرقي القول, فقال: وسائر اللحمان جنس واحد, وهذا يعم سائر اللحمان من لحم الأنعام والوحش والطير والسمك. وقد أطلق أحمد هذا في رواية.

وللشافعي قولان: أحدهما: مثل رواية حنبل, وأنها أجناس باختلاف أصولها. الثاني: أن جميعها جنس واحد. ما نقله حنبل: أن اللحمان والألبان فروع لأصول هي أجناس, فوجب أن تكون هي أجناسًا في أنفسها. دليله: الأدقة والأخباز. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن أصولها فيها الربا, فأمكن اعتبار تلك الحالة فيها, فبني فروعها عليها في اختلاف الأجناس. وليس كذلك في اللحمان والألبان؛ فإن أصولها لا ربا فيها, فلا يمكن اعتبار حالها بها, فاعتبر الاتفاق والاختلاف حال حدوث حكم الربا في الفروع. قيل: هذا يبطل بالفواكه؛ فإنه لا ربا في أصولها التي هي الشجر, ومع ذا فهي أجناس في أنفسها, وكذلك اللحمان والألبان. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطعام بالطعام مثلًا بمثلٍ). وهذا عام. والجواب عنه: ما تقدم, وأنه قد حصل لهذه التسمية عرف تنصرف إليه, وهي الحبوب.

ولأن هذا عام, فنحمله على غير مسألتنا بما ذكرنا. واحتج بأنه شمله اسم جمع خاص حين حدوث الربا فيه, وإن كان صنفًا واحدًا, كالتمور. وقولنا: (جمع خاص) احتراز من الفواكه؛ لأنها أصناف, ولكن شملها اسم عام يعم العنب والتفاح والسفرجل وغير ذلك. وقولنا: (حين حدوث الربا) فيه احتراز من الأدقة والأخباز؛ لأنها أصناف؛ لأن الاسم شملها بعد حدوث الربا فيها؛ فإن الربا في هذه الحبوب كان قبل كونها دقيقًا. والجواب: أنا لا نسلم: أن اللحم اسم خاص, بل هو عام؛ لأنه يشتمل على أجناس مختلفة, فهو عام من هذا الوجه, خاص بالإضافة إلى غيره, كقولنا: حيوان اسم خاص بالإضافة إلى غيره, عام في اشتماله على أجناس مختلفة. ولأن الاسم الخاص إذا دل على الجنس الواحد, فلا فرق بين أن يسمى به حال حدوث الربا, وبعد حدوثه, فلا معنى لهذا الوصف. ثم المعنى في التمور: أن أصولها جنس واحد, وكانت في حكم أصولها, واللحمان خرجت من أجناس مختلفة, وكانت مختلفة, كالأدقة والأخباز.

وفي ما ذكرنا دلالة على مالك, ونخصه بأن هذا لحم, فكان معتبرًا بأصله. دليله: لحم الغنم والطائر ولحم السمك؛ لما كانت أول تلك أجناسًا, كانت فروعها أجناسًا, كذلك لحم الغنم والبقر؛ لما كانت أصولها أجناسًا, وكذلك فروعها. فإن قيل: لحم السمك والطائر ليس من جنس لحم البقر والغنم؛ لأنهما لا يتفقان في غرض, ولا منفعة, ولا يؤكل أحدهما على الوجه الذي يؤكل عليه الآخر, فدل على أنهما جنسان. ولأن لحم السمك لا يحتاج إلى زكاة, فكان جنسًا يفارق ما يحتاج إلى زكاة, كالعسل والخل, وهذا معدوم في بقية اللحوم. ولأن لحم السمك لا يضاف إليه, وإنما يقال: سمك, ولا يقال: لحم سمك. قيل له: ولحم الإبل والغنم لا يتفقان في الغرض, ولا يؤكل أحدهما على الوجه الذي يؤكل الآخر؛ لأنا نعلم خلقًا من الناس يمنعون من لحم الإبل, وكذلك لا تتفق الأغراض في كثير من الوحش, كالثعلب والضبع, كما تتفق في لحوم الغنم. واحتج المخالف بأن الإبل والبقر من بهيمة الأنعام, ومن ذوات الأربع, فلم يجز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا. دليله: ضمها في الزكاة.

مسألة لا يجوز بيع الرطب بالتمر

وهذه فروع لأصول هي أجناس. دليله: الأخباز والأدقة. ... 290 - مسألة لا يجوز بيع الرطب بالتمر: نص عليه في رواية الجماعة؛ حنبل, والميموني, وعبد الله- واللفظ لحنبل- فقال: لا يباع الرطب بالتمر, ولا الزبيب بالعنب, ولا رطب بيابس؛ لأنه ينقض إذا جف. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. دليلنا: ما روى أحمد في (المسند) قال: أنا سفيان, عن إسماعيل ابن [أمية, عن عبد الله بن] يزيد, عن أبي عياش قال: سئل سعد عن بيع سلت بشعير, أو شيء من هذا, فقال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تمر برطب, فقال: (أتنقص الرطبة إذا يبست؟) قالوا: نعم. قال: (فلا إذًا). وروى الدارقطني بإسناده عن سعد قال: نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التمر بالرطب, وقال: (إذا يبس نقص).

فإن قيل: هذا الخبر يرويه زيد أبو عياش, وهو مجهول. وقال أبو حنيفة: لا أقبل خبره. وقد صوب هذا الطعن عبد الله بن المبارك, فقال: كيف يقال: إن أبا حنيفة لا يعرف الحديث, وهو يقول: زيد أبو عياش لا أقبل خبره؟! قيل له: من أصل أبي حنيفة: أن من عرف إسلامه, وجهلت حاله, فهو على العدالة, وخبره حجة مل لم يثبت جرحه. وأما على مذهبنا فإن زيدًا أبا عياش معروف بالثقة والعدالة, وقيل: هو من أهل المدينة, مولى لبني مخزوم. وقد احتج بهذا الحديث أحمد, ومالك, وذكره أصحاب الحديث, فسقط الطعن. فإن قيل: الطعن أولى من التعديل, وقد طعن أبو حنيفة فيه. قيل له: أبو حنيفة لم يطعن, وإنما قال: أبو عياش مجهول غير معروف, وهذا ليس بطعن, ولا يعارض شهادة من عرفه, وشهد بعدالته. فإن قيل: قد يقف العالم على قبول الحديث مع عدالة الرواة, فلا يلزمه, ألا ترى أن عمر بن الخطاب وقف على قبول خبر عمار في التيمم للجنب مع عدالة عمار, فلا يلزم حكم الخبر عمر لشكه فيه. قيل له: لا يجوز التوقف في قبول الخبر مع عدالة الرواة, بل يجب العمل به؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63].

وأما توقف عمر [....]. فإن قيل: قد اختلف في هذا الحديث: فروي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الرطب نسيئة. وروي: أن سعدًا سئل عن الرجل يسلف الرطب بالتمر, فقال سعد: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا. قيل له: هذا الاختلاف لا يمنع الاحتجاج؛ لأنه يمكن الجمع بينهما, والقول بهما. فإن قيل: يحمل الخبر على أن المراد به: النهي عن بيعه بالتمر نساءً. يدل عليه ما روي عنه: أنه نهى عن بيع الرطب بالتمر نساءً. وراوي هذين واحد, ومن أصلنا أن نجعل الزيادة كأنها مذكورة فيهما. ولأن من أصلكم بناء المطلق على المقيد, ويجعل النساء كالمذكور في خبر المطلق. ويلزم على أصلكم في القول بدليل الخطاب: أن نقول: إن نهيه عن بيع أحدهما بالآخر نساء يدل على أن بيع أحدهما بالآخر يدًا بيدٍ جائز. قيل له: إنما جعل الزيادة كأنها مذكورة فيهما, وبناء المطلق على

المقيد, والدليل الخاص يقضي على اللفظ العام, إذا لم يكن في المطلق ما يمنع من حمله عليه, وفي هذا المطلق ما يمنع من حمله عليه, وفي هذا المطلق مانع من ذلك, وهو تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - بنقصان الرطب إذا يبس, وهذا لا يصلح للمنع من النسيئة؛ لأن التمر اليابس لا يجوز أن يباع بعضه ببعض نسيئة, وكذلك بيع البر بالبر, والشعير بالشعير, والبر بالشعير؛ فإنه [لا] يجوز نسيئة. وتعليله عندهم: وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل. وتعليله عندنا: أنه يجري الربا في نقده. وإذا كان كذلك, لم يجز أن يحمل المطلق على النسيئة. فإن قيل: فإذا لم يجز هذا, وجب أن يتعارضا, ويسقط الاحتجاج به. قيل له: لا يجب هذا؛ لأنا نجمع بينهما فنقول: لا يجوز بيع الرطب بالتمر نقدًا ونسيئة؛ جمعًا بين الخبرين. فإن قيل: يحمل نهيه على وجه الإرشاد, لا على وجه التحريم؛ كأنه لما شاوره مشتري الرطب بالتمر بين له أن لا حظ له في هذا البيع؛ لأنه يأخذ أقل مما يعطي. قيل له: ظاهر النهي يقتضي التحريم, والإنسان لا يحرم عليه ذلك.

وأيضًا ما رواه أحمد في (المسند): ثنا سفيان, عن الزهري, عن سالم, عن أبيه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع التمر بالتمر, ورخص في العرايا بأن يشترى بخصرها؛ يأكلها أهلها رطبًا. وروى الدارقطني بإسناده عن سالم, عن أبيه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباع الرطب بالتمر الجاف. وهذه الأخبار نصوص. والقياس: أنه جنس فيه الربا, بيع ببعض على صفتين مختلفتين, فلم يجز العقد. دليله: بيع الحنطة بالدقيق. ولا يلزم عليه بيع الرطب بالرطب؛ لأن الصفة واحدة. وإن شئت قلت: بيع بعضه ببعض على صفة, ينفرد أحدهما بالنقصان عن الآخر في المستقبل, في ما قدر به, أشبه ما ذكرنا. ولا يلزم عليه بيع الرطب بالرطب؛ لأن أحدهما لا ينفرد بالنقصان. ولا يلزم عليه التمر الحديث بالمسوس, والحنطة الجيدة بالعفنة؛ لأن أحدهما لا ينقص عن اآخر في ما قدر به؛ لأن المكيال يأخذ من

كل واحد مثل ما يأخذ من الآخر. ولا يلزم عليه العرايا؛ لأن ذلك البيع يقع على صفة لا ينقص أحدهما عن الآخر في المستقبل؛ لأنه لا يجوز ببعضه حتى يغلب الظن: أنهما يتساويان حال الجفاف. وهذه العبارة أجود من التي قبلها. فإن قيل: المعنى في الحنطة بالدقيق: أن المساواة معدومة في الحال؛ لأن قفيز حنطة أكثر من قفيز بدلالة: أنه إذا فرق أجزاءها بالطحن كان أكثر من قفيز, ومعلوم أنه لم تزد فيها بالطحن أجزاء لم تكن موجودة. وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن المساواة موجودة في الحال, وإنما يحدث النقصان في أحدهما في الثاني في أجزاء كانت موجودة حال العقد, وهذا [لا] اعتبار به, كما ينقص التمر الحديث. قيل له: هذا يبطل ببيع حنطة جيدة مكتنزة بحنطة ضامرة؛ فإن البيع صحيح, وإن علمنا أن دقيق إحدى الحنطتين أكثر. فإن قيل: فقد أجزت بيع الرطب بالتمر على وجه حزر, وهو العرايا, ولم تجز بيع الدقيق بالحنطة بحال, فدل على الفرق بينهما. قيل له: الموضع الذي أجزت بيعه به حزرًا إنما بيع على صفة يتساويان حال الجفاف, وهذا المعنى معدوم في مسألتنا.

وقد احتجَّ من نصر هذه المسألة بأنه جنس فيه الربا, بيع منه ما هو على هيئة الادخار بما منه من غير هيئة الادخار على صفة يتفاضلان حال الادخار, أشبه الحنطة بدقيقها. وهذه العبارة لا تصح على أصولنا؛ لأنا لا نعتبر في جواز البيع أن يكونا- أو أحدهما- على هيئة الادخار, ولهذا يجوز بيع الدقيق بالدقيق والرطب بالرطب. وعلى أنها تبطل بيع التمر المسوس بالحديث, والحنطة العفنة بالجيدة؛ فإن العفن والمسوس على غير هيئة الادخار, والآخر على هيئته, ويجوز البيع. واحتج المخالف بأن الرطب لا يخلو: إما أن يكون من جنس التمر, أو من غير جنسه. فإن كان من جنسه جاز لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (التمر بالتمر). وإن كان من غير جنسه فهو أحرز لقوله: (إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم). ولا يلزم عليه الحنطة بالدقيق؛ لأن هذا ليس باعتلال, وإنما هو استدلال بظاهر الخبر, فلا يتوجه النقض عليه. والجواب: أن الرطب من جنس التمر, إلا أنه لا يتناوله اسم التمر,

كما أن الماعز من جنس الضأن, ولا يتناوله اسم الضان, وإذا لم يتناوله اسم التمر لم يدخل تحت قوله: (التمر بالتمر). وكذلك الدقيق من جنس الحنطة, ومع هذا لا يسمى حنطة, ولا يدخل تحت قوله: (الحنطة بالحنطة). على أنا نحمل قوله: (التمر بالتمر) إذا تساويا في الصفة بما ذكرنا. واحتج بأن المساواة موجودة حال العقد, وإنما يحدث النقصان في أحدهما في الثاني, وحدوث النقصان في أحدهما في الثاني لا اعتبار به, إذا كانت المساواة موجودة في حال العقد, كما تقول في التمر الحديث بالتمر العتيق. والجواب: أن النقصان الذي يحدث في التمر الحديث لا يمكن الاحتراز منه؛ لأنه ما من تمر إلا وقد يكون فيه قليل رطوبة إذا زاد جفافه زالت, فعفي عن ذلك؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه لقلته, فهو كالتراب اليسر الذي يكون في الطعام, فعفي عنه لقلته. ولأنه لا يمكن الاحتراز منه, وليس كذلك الرطوبة التي في الرطب؛ لأنها كثيرة يمكن التحرز منها, فلهذا لم يعف عنها. واحتج بأنه باع التمر بجنسه متساويًا, أشبه التمر الحديث بالعتيق. والجواب: أن قوله: (باع التمر) لا تأثير له؛ لأنه إذا باع الزبيب

بجنسه, أو باع حنطة بجنسها, أو شعيرًا بجنسه, ونحو ذلك في ما يجري فيه الربا كان هكذا, فلم يصح الوصف. ثم المعنى في الأصل ما تقدم. واحتج بأن النقصان الحادث بعد العقد لا يؤثر في العقد, كما لو سرق أحد المبيعين. والجواب: أن النقصان بالجفاف مفارق لما يحصل بالسرقة, ألا ترى أنه إذا باع طعامًا بطعام, ثم سرق أحدهما لم يفسد العقد, ولو باع طعامًا بدقيق لم يصح؛ لحصول المفاضلة بينهما في الثاني, كذلك هاهنا. واحتج بأنه بيع رطب بتمر نقدًا, أشبه بيع العرايا. والجواب: أن بيع العرايا لا يجوز إلا مع المساواة في الثاني, وهو أن يغلب على الظن: أنهما يتساويان حال الجفاف, وهذا معدوم في مسألتنا. واحتج بأن ما جاز بيعه بالدراهم, جاز بالرطب, كالعنب. ولأن ما جاز بيعه بالرطب قبل الجذاذ, جاز بيعه بعده, كالعنب. والجواب: أنه لا يمتنع أن يجوز بيعه بالدراهم, ولا يجوز بالرطب, كالدقيق؛ يجوز بيعه بالدراهم, ولا يجوز بالحنطة. ولذلك لا يمتنع أن يجوز بيعه قبل الجذاذ, ولا يجوز بعده, كالحنطة بالحنطة؛ يجوز قبل حصول الطحن في أحدهما, ولا يجوز

مسألة يجوز بيع الرطب بالرطب

بعد حصوله في أحدهما. ثم المعنى في العنب مع الرطب: أنهما جنسان, وليس كذلك هاهنا؛ لأنهما جنس واحد فيه الربا, بيعا على صفتين مختلفين, أشبه بيع الحنطة بالدقيق. واحتج بأنه إذا كان النقصان من الطرفين لا يمنع, وهو بيع رطب برطب, أولى أن لا يمنع من أحدهما. والجواب: أن إذا وجد من الطرفين حصلت المساواة في الصفة, وإذا وجد من أحدهما عدمت المساواة, فجرى مجرى البر بالدقيق. ... 291 - مسألة يجوز بيع الرطب بالرطب: نص عليه في رواية الحسن بن ثواب. وهذا يدل على أن له مثلًا؛ إذ لو لم يكن له مثل لم توجد المساواة. وهو قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يجوز, ولا مثل له عنده. دليلنا: أن كل جنس جاز بيع بعضه ببعض حال جفافه, جاز حال رطوبته. دليله: اللبن باللبن. وإن شئت قلت: الرطوبة التي فيهما مقصودة بالعقد, فجاز بيع

أحدهما بالآخر, كاللبن باللبن. يبين صحة هذا, وأن الرطوبة التي في الرطب مقصودة: جواز بيع العرايا, وهو رطب بتمر؛ لأنه يقصد في هذه الحال, كما يقصد اللبن حال رطوبته. فإن قيل: عامة منافع اللبن توجد حال رطوبته, فاعتبر التساوي في هذه الحال؛ التي هي حال كماله, وعامة منافع الرطب تحصل حال جفافه, فكانت تلك حال الكمال, فاعتبر التساوي فيها. قيل له: منافع اللبن طريًا توجد حال رطوبته, وكذلك عامة منافع الرطب, فأما الادخار فاللبن والتمر سواء, تؤخذ منافعهما بعد. ولأنهما قد اتفقا في الصفة والمقدار, أشبه الحنطة بالحنطة, والتمر بالتمر. ولا يلزم عليه الرطب بالتمر؛ لاختلافهما في الصفة. ولأنه يجوز بيع بعضه ببعض على صفة الادخار, فجاز على غير صفته. دليله: الحنطة العفنة بالعفنة, والتمر المسوس بالمسوس. والقياس على هذا الأصل أجود؛ لأن فيه إسقاط أن التمر والحنطة على هيئة الادخار؛ لأن العفن والمسوس قد خرج عن ذلك.

واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الرطب بالتمر, وجعل العلة فيه النقصان, وهذا المعنى موجود في الرطب [بالرطب]. والجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المؤثر في العقد نقصان الرطب عن كمال التمر الموجود في الحال, وهذا لا يوجد في الرطب بالرطب؛ لأنه لا كمال في واحد منهما, ويجري هذا مجرى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: (ملكت بضعك فاختاري). ومعناه: ملكتيه تحت عبد, فاختاري؛ لأن زوجها كان عبدًا. ولم يعتبر عموم التعليل, كذلك هاهنا؛ لما نهى عن بيع الرطب بالتمر, وعلل فيه بهذا التعليل, يجب أن يكون المراد به: الرطب بالتمر. واحتج بأن كل ما لم يجز بيع بعضه ببعض عند التفاضل في الكيل, لم يجز بيع بعضه ببعض مع الجهل بالمساواة, كالطعام بالطعام. والجواب: أنا نقول: إن أردت بقولك: (لم يجز بيعه مع الجهل بالمساواة) حال العقد, فلا نسلم أنه مجهول المساواة حال العقد؛ لأن التساوي موجود كيلًا.

وإن أردت بالجهل المساواة في الثاني, فيبطل ببيع اللبن باللبن. ثم المعنى في الطعام إذا باعه صبرة بصبرة: أن المساواة معدومة حال الكيل, وهاهنا هي موجودة مع الاتفاق على الصفة, فهي كالحنطة بالحنطة, والتمر بالتمر. واحتج بأنه جنس فيه الربا, بيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان حال الادخار, فلم يجز. أصله: الرطب بالتمر. والجواب: أنه يبطل ببيع اللبن باللبن, والعصير بالعصير. ثم المعنى في ذلك: اختلافهما في الصفة, وهاهنا قد اتفقا في المقدار والصفة. واحتج بأن كل معنى لو وجد في البدلين منع صحة العقد, فإذا وجد فيهما منع. أصله: الجهل. والجواب: أنه يبطل ببيع اللبن باللبن؛ فإن هذه الرطوبة لو وجدت في أحد البدلين منعت صحة العقد, وإذا وجدت فيهما لم تمنع. وعلى أنه إذا وجد في أحدهما, فالاتفاق في الصفة معدوم, وليس كذلك هاهنا؛ لأنهما يتفقان في الصفة والمقدار, فلهذا فرقنا بينهما.

مسألة لا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض, ومع أحدهما, أو معهما, من غير جنسهما مثل مد عجوة ودرهم بمدي عجوة, أو درهمين وثوب بدرهمين, أو مد حنطة ومد شعير بمدي حنطة ومد شعير, أو مد حنطة جيدة ومد حنطة رديئة بمدين جيدين, أو رديئين, أو وسطين, أو دينار جيد

292 - مسألة لا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض, ومع أحدهما, أو معهما, من غير جنسهما مثل مد عجوة ودرهم بمدي عجوة, أو درهمين وثوب بدرهمين, أو مد حنطة ومد شعير بمدي حنطة ومد شعير, أو مد حنطة جيدة ومد حنطة رديئة بمدين جيدين, أو رديئين, أو وسطين, أو دينار جيد ودينار وسط بدينارين جيدين, أو وسطين: وقد نص على هذا في مواضع: فقال في رواية أبي داود: لا يباع السيف المحلى بفضة بدارهم حتى تنزع الحلية منه. وكذلك نقل حنبل عنه في الخاتم والمنطقة والسيف وما أشبه ذلك: لا أرى أن يباع حتى يفصل, وتخرج الفضة منه, والقلادة على ذلك. وكذلك نقل صالح عنه في من باع ثلاثة دنانير مكسرة بدينارين عينًا ودراهم: لا يعجبنا هذا, ولكن إن شاء باعها بدراهم, واشترى بها من الذهب ما شاء.

وكذلك نقل أبو الحارث عنه في ذهب محمول عليه: لا يباع بورق حتى يخلص, فإن باع الذهب منه بفضة, والفضة بذهب, لم يجز حتى يخلص. وكذلك نقل الحسن بن علي عنه في ألف درهم صحاح ودينار بألف درهمٍ ومائة درهمٍ مقطعةٍ ودينارٍ: باطل. وكذلك نقل عبد الله عنه في ألف درهم وستين دينارًا بألف درهم وخمس مائة دينار: فهو خبيث رديء, لا يعجبنا. وقد علق القول في رواية ابن القاسم: وذكر له قول مالك في دراهم صحاح وفضة مكسورة بدراهم مكسورة وزنًا بوزن سواء: لا يجوز, فقال: نعم, فيه شيء؛ إنما أراد أن يدخل الفضة مع الصحاح؛ لتجوز معها. فقيل له: فالتمر البرني مع [....] بتمر آخر, ويزيد مثل ذلك, فقال: التمر غير هذا, فأجازه في التمر, ولم يجزه في الفضة. وظاهر هذا: الفرق بينهما, ولا فرق بينهما؛ لأن الجميع يدخله الربا. ونقل الميموني- أيضًا- كلامًا فيه احتمال, فقال كلامًا طويلًا, ومنه أنه قال: الذهب والفضة إذا اجتمعا, وهذه الأشياء لا نشتريها مجتمعة حتى نفصلها.

قيل له: وإن اشتراها بذهب, وفيها فضة, يفصلها؟ أو بفضة, وفيها ذهب وفضة, يفصلها؟ قال: على ظاهره, كذا هو, ولو كان ذهب بدراهم, أو دراهم بذهب, فليشتر كيف شاء, وإنما تكلموا إذا اجتمعا فلا يشتريه بأحدهما حتى يفصله. وهذا موضع نظر. قال الميموني: ورأيت أبا عبد الله إذا اجتمعا جميعًا ذهب وفضة, أو جوهر, فاشتراه بأحدهما, فلا بأس, وإنما يقع التفصيل إذا اشترى منها ذهبًا بذهب, وما فصله, أو فضة بفضة, ولم يفصلها. قال أبو بكر الخلال في كتاب (العلل): هذا توهم من الميموني, ومذهب أبي عبد الله: أن لا يشتري أصلًا على أي معنى كان, إلا أن يفصل. والمذهب على ما حكينا في المنع. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع النوعين بالنوع على الإطلاق, فأما الجنس بعضه ببعض إذا كان مع أحدهما غيره: فإنما يجوز ذلك إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره, فيقابل العوض بعضه, ويكون الباقي في مقابلة مثله من جنسه.

فأما إذا كان مثله, أو دونه, فلا يجوز. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية أبي حرب الجرجرائي: إذا دفع دينارًا كوفيًا ودرهمًا, وأخذ دينارًا شاميًا, فإن كان وزن الدينارين سواء, فلا يجوز, إلا أن ينقص أحد الدينارين, فيعطيه بحسابه فضة. وقال في رواية ابن منصور في بيع الزبد باللبن الذي فيه زبدة, فقال: إذا كان الزبد أكثر من الزبد الذي في اللبن, فيكون بعضه في مقابلة الزبد الذي في اللبن, وبعضه في مقابلة المخيض. وقد نقل مهنا عنه خلاف هذا, فقال: أكره بيع الزبد باللبن. فمنع منه على الإطلاق. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن فضالة بن عبيد قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها خرز معلقة بذهب, ابتاعها رجل بسبعة دنانير, أو تسعة دنانير, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا حتى تميز بينه وبينه) ,قال: إنما أردت الحجارة. قال: (لا حتى تميز بينهما) , قال: فرده حتى ميز بينهما. فنقل السبب, وهو بيع الخرز والذهب بالذهب, والحكم, وهو إبطال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك البيع, فاقتضى الظاهر تعلق ذلك الحكم بذلك السبب, ثم أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: (لا حتى تميز بينه وبينه)؛ يعني: إنما لم يجز البيع؛ لأنه ذهب وخرز غير متميز بيع بذهب.

فإن قيل: لنا في هذا الخبر مثل ما لكم؛ لأن (حتى) للغاية, وحكم ما بعد الغاية بخلاف ما قبلها, فلما نهى عن بيعها قبل التفصيل اقتضت الغاية جواز بيعها بعد التفصيل بذهب. قيل له: لم يرد بالتفصيل من جهة المشاهدة, وإنما أراد به في العقد, وأن لا يجمع بين الذهب والخرز في عقد واحد, وأنتم تبيحون الجمع بينهما. فإن قيل: ما أنكرت أن يكون منع من بيعهما قبل التمييز؛ لأنه لم يعلم أن الذهب الذي في القلادة أكثر من الذهب الذي بإزائه, أو مثله, أو أقل, وعندنا لا يجوز حتى يعلم أن الذهب الذي مع الخرز أقل من الذهب الذي بإزائه. قيل له: لو كان المانع من بيعه قبل التفصيل ما ذكرتم, لوجب أن يستفصل, ويسأل, ولما لم يسأل عن ذلك, دل على أن الحكم لم يختلف لأجل ذلك. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا حتى تميز) , فجعل العلة في إبطال البيع هذا, وإذا حملوا الخبر على ما ذكروا أسقطوا هذه العلة؛ لأنه روي في الخبر: أن المشتري قال: إنما قصدت الحجارة, قال: (لا حتى تميز) , وإذا كان الحجر هو المقصود استحال أن يباع مع الذهب بمثل وزن الذهب الذي معه, إنما يكون بزيادة على ذلك؛ ليحصل له

الغرض من الحجارة. فإن قيل: فالدلالة على أنه لم يحظر بيعها قبل التفصيل لأجل أنه صفقة, وإنما حظر لأنه لم يعلم أن الذهب الذي مع الخرز أكثر من الذهب الذي بإزائه, أو مثله, أو أقل: ما روى الليث بن سعد, عن خالد ابن أبي عمران, عن حنش, عن فضالة بن عبيد قال: أصبت قلادة يوم خيبر فيها ذهب وخرز, فأردت أن أبيعها, فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - , فذكرت ذلك له, فقال: (افصل بعضها من بعض, ثم بعها كيف شئت). فأطلق له بعد التمييز بيعها كيف شاء. قيل له: معنى قوله: (بعها كيف شئت)؛ معناه: بعقد واحد إذا لم يقابله من جنسه, أو بعقدين إذا قابله من جنسه. وأيضًا فإنه جنس فيه الربا, بيع بعضه ببعض, ومع أحدهما من غير جنسه, فلم يصح العقد. دليله: إذا كان أحد العوضين مثل الآخر, ومع أحدهما من غير جنسه. وأيضًا فإن الصفقة إذا تناولت شيئين مختلفي القيمة, يقسط الثمن على قيمتهما, لا على أجزائهما. دليله: إذا باع شقصًا وسيفًا بمائة, فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه

من الثمن, لا بنصفه. وكذلك إذا باع قفيزين من طعام من صبرتين قيمتهما واحدة بعشرة دراهم, وتلف أحدهما قبل التسليم, قبض المشتري ما بقي بنصف الثمن, وإن كان أحد القفيزين رديئًا يساوي درهمين, والآخر جيدًا يساوي أربع دراهم, فتلف القفير الرديء, فإن المشتري يأخذ القفيز الجيد بثلثي الثمن. وإذا كان كذلك قلنا: إذا باع مد عجوة قيمته درهم ودرهمًا بمدي عجوة قيمتهما ثلاثة دراهم, فإن ثلث المدين يقابل الدرهم, وثلثاه يقابل المد, وهو مد وثلث, فيكون ذلك ربا. وكذلك إذا باع نوعين مختلفين بنوع واحد, فإن الثمن يتقسط على القيمة, فكأنه إذا باع مائة دينار قيمتها ألفان, ومائة قيمتها ألف, وثمانين قيمتها ألفان, فإن ثلث المائتين الوسط يقابل المائة دينار الدون, وثلثاها يقابل المائة الجياد, وهذا ربا محض, فيبطل البيع. وهذا الذي ذكرناه إذا كان قد علم قيمة المبيعين, وأن التقسيط عليهما يفضي إلى ذلك, فإن لم يعلم ذلك فالبيع باطل للجهل بالمساواة. ولهذا قلنا: إذا باع دراهم بدراهم جزافًا لم يجز للجهل بالمساواة. وإن كانت قد علمت أيهما احتمل أن يصح العقد, ويحتمل أن

لا يصح أيضًا؛ لأنه قد يجوز أن يتعين حال العقد, فالمساواة مجهولة بكل حال, وإنما يعلم بالتقويم بعد العقد, والجهل بالمساواة يبطل العقد في ما فيه الربا. وللمخالف على هذه الدلالة سؤالان هما دليلاه في أصل المسألة, ويأتي الكلام عليهما في أدلته. فإن قيل: إنما تقسط القيمة على الأجزاء في ما لا مثل له. قيل له: وقد تقسط على ما له مثل بدليل أنه لو ابتاع قفيزين من صبرتين, فتلف أحدهما, يقسط الثمن على قدر القيمة, وإن كان ذلك مما له مثل. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحنطة بالحنطة مثلًا بمثلٍ كيلًا بكيلٍ). وقفيز حنطة جيدة وقفيز حنطة رديئة بقفيزين جيدين, أو وسطين, أو رديئين مثل بمثل من طريق الكيل, فيجب أن يجوز. وكذلك قوله: (الذهب بالذهب مثلا بمثلٍ وزنًا بوزنٍ) يقتضي جواز بيع مائة دينار جياد ومائة وسط بمائة دينار جياد؛ لوجود المماثلة في الوزن.

والجواب: أن الخبر يقتضي الجواز مع المساواة, وهذا يقتضي مساواة من جميع الوجوه. وعلى أنا نحمله على المساواة في المقدار والصفة بما ذكرنا. واحتج بأنه يجوز بيع دينارين جيدين بدينارين وسطين, أو رديئين, أو مكسورين, كذلك دينار جيد ودينار وسط بدينارين وسطين, أو جيدين. والعلة فيه: وجود المماثلة في الذهب بالذهب من جهة الوزن. قالوا: وقد نص أحمد على جواز ذلك, فقال في رواية صالح والفضل بن زياد ومهنا: الدراهم الصحاح بالمكسرة لا بأس بذلك, إذا كان وزنًا بوزن. وقال- أيضًا- في رواية الميموني في الدنانير البهرجة يباع بوضيعة الدرهم والدرهمين في الدينار, هل يؤخذ بوزنها دنانير جيادًا؟ وقد تكون شامية لا وضائع على غيرها, فقال: إن كانت إنما تكره من قبل سكتها كان أهون, تؤخذ مثلًا بمثل على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأما إن كان ذهبًا, قد حمل عليه, ودخل فيه شيء من الفضة والنحاس, أو خالطه غيره, فقد زال عنه اسم الذهب لما دخل فيه. والجواب: أن أجزاء كل واحد من العوضين متساوية, فإذا قسم

أحدهما على الآخر على قدر قيم أجزائه, لم يؤد إلى التفاضل, فلهذا جاز, وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن أجزاء العوضين مختلفة القيمة, وإذا قسم الأجزاء عليه أخذ كثير القيمة أكثر مما يأخذ قليل القيمة, فيؤدي إلى التفاضل. وإن شئت قلت: إن التقويم هناك يقع على أحد العوضين, وأجزاؤه متساوية, فإذا قسم عليه العوض الآخر لم يفض إلى التفاضل, وهاهنا يقع التقويم على أحدهما, وأجزاؤه مختلفة القيمة, فإذا قسم عليه الآخر تفاضل. واحتج بأن الجودة في الذهب والفضة إذا لاقت جنسها, فلا قيمة لها, ألا ترى أنه لو باع دينارًا جيدًا بدينار وسط جاز, وإن كانت الجودة معتبرة لم يجز؛ لأنه يصير كأنه باع دينارًا بدينار وزيادة. وكذلك لو باع دينارًا فاسانيًا بدينارين رديئين, وقيمة الفاساني مثل قيمة الرديئين, لم يجز, ولو كانت الجودة معتبرة لوجب أن يجوز. وإذا سقط اعتبار الجودة في الدينار مع الوسط, صار كأنه باع دينارين جيدين بوسطين, ولا يشبه هذا إذا اشترى عبدين؛ أن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتهما؛ لأن الجودة في غير المكيل والموزون لها قيمة؛ سواء لاقت جنسها, أو غير جنسها, فلهذا اعتبر قيمتهما

في انقسام الثمن عليهما. والجواب: أنه لو كان كذلك لوجب إذا استقرض دينارًا جيدًا, أو أتلف دينارًا جيدًا: أن لا يكون للجودة قيمة, وإذا رد دينارًا رديئًا يجب قبوله, وهذا لا يقوله أحد. وأما إذا باع دينارًا جيدًا بدينار رديء, أو باع طعامًا جيدًا بطعام رديء؛ فإنه يجوز؛ لأنه لا يؤدي إلى التفاضل في الكيل, أو الوزن. وعلى أنا قد بينا العلة فيه إذا باع قفيزًا جيدًا بقفيز رديء في الدليل الذي تقدم. واحتج بأن العقد إذا كان له وجهان؛ أحدهما: إذا حمل عليه صح, والآخر: إذا حمل عليه لم يصح, حمل عليه الوجه الذي يصح دون الوجه الذي لا يصح, ألا ترى أنه لو اشترى ثوبًا بعشرة دراهم, وفي البلد نقد معروف, وفي بلد آخر نقود مختلفة, حمل العقد على نقد هذا البلد ليصح, ولا يحمل على نقود ذلك البلد؛ لأنه إذا حمل عليها بطل. والجواب: أنا لا نسلم أن له وجهًا في الصحة لما بينا, وهو: أن الصفقة إذا تناولت شيئين مختلفي القيمة يقسط الثمن على القيمة, وإذا قسطناه على القيمة أفضى إلى الربا. ولأن العقد إذا كان له مقتضى حمل عليه, وإن كان ذلك يفضي إلى فساده, وكذلك لو باع عبدًا بألف درهم سلمه إلى المشتري, ولم

يقبض الثمن, ثم اشترى ذلك العبد وعبدًا آخر بألف ومائة درهم, وقيمة العبد الآخر ألف درهم, أو خمسمائة درهم, بطل العقد في العبد الذي باع أولًا؛ لأنه ابتاع ما باعه بأقل منه, وقد كان يمكن حمل العقد على وجه يصح, وهو أن يجعل كأنه اشترى الأول بألف والثاني بمائة, ولم يجعلوا. وكذلك إذا اشترى صاعًا من تمر بصاعي تمر لم يجعل صاع بإزاء صاع, والصاع الآخر هبة, ليصح العقد. فبطل قولكم: إن العقد إذا كان له وجهان؛ أحدهما: إذا حمل عليه صح, والآخر إذا حمل عليه لم يصح, حمل العقد على الوجه الذي يصح. وإنما وجب حمله على نقد بلده؛ لأنه أقرب إليه؛ لأنه موضع العقد, لا لأنه يؤدي إلى الصحة بدليل: أنه لو كان نقد بلده مختلفًا بطل العقد. فإن قيل: هما دخلا في عقد البيع, فلا يجوز أن يلزمهما عقد هبة, كما إذا دخلا في عقد هبة, لا يجوز أن يلزمهما عقد بيع وإجارة. قيل له: وإن دخلا في عقد البيع, فقد قصدا أن يكون الثمن متقسطًا على المبيعين على قدر قيمتهما؛ لأنه معلوم من قصد من يشتري درهمًا

مسألة إذا ابتاع عبدا- ومعه مال- بثمن من جنس المال الذي معه, وكان المال بقدر الثمن, أو أكثر منه, ولم يقصد المال, وإنما قصد العبد؛ لنفاسة في حسنه وجماله, إن كانت أمة يقصد الاستمتاع بها, أو كان عبدا يقصد قوته وصناعته وعقله, جاز البيع

في قرطاس بثلاثة دراهم: أنه لم يقصد أن يشتري درهمًا بدرهم والقرطاس بدرهمين, وإنما قصد أن يقابل القرطاس قدر قيمته من الثمن, ويقابل الدرهم قدر قيمته. وكذلك من اشترى درهمين؛ أحدهما جيد, والآخر رديء, بدرهمين وسطين؛ فإنه يعلم أن لم يقصد أن يكون درهم من الوسطين في مقابلة درهم جيد, والآخر في مقابلة الرديء, بل قصد أن يتقسط الدرهمان على قيمة الدرهمين, فليس الاعتبار بما ذكروه بأولى من اعتبار هذا القصد. ... 293 - مسألة إذا ابتاع عبدًا- ومعه مال- بثمن من جنس المال الذي معه, وكان المال بقدر الثمن, أو أكثر منه, ولم يقصد المال, وإنما قصد العبد؛ لنفاسة في حسنه وجماله, إن كانت أمة يقصد الاستمتاع بها, أو كان عبدًا يقصد قوته وصناعته وعقله, جاز البيع: نص عليه في غير موضع, ذكره الخرقي في (مختصره) , وأبو بكر- أيضًا- في (مختصره).

قال أبو بكر: وكذلك إذا ابتاع نخلة عليها رطب بتمر, قال: ولو قصد الرطب بطل العقد, خلافًا للشافعي في قوله: العقد باطل؛ قصد المال الذي معه, أو لم يقصده إذا قلنا: إن العبد لا يملك, وكذلك يبطل بيع النخلة وعليها رطب بتمر, وكذلك إذا ابتاع شاة فيها لبن. دليلنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز التفاضل في القرض لعدم القصد للزيادة اعتبارًا بأن المقصود به الرفق, فروت عائشة قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخبز والخمير؛ يقرض الخبز الجيران, ويردون أكثر وأقل, قال: (ليس به بأس ليسا هذه مرافق الناس, لا يراد فيها الفضل). فأجاز التفاضل في ذلك لعد القصد, وإن كان ذلك مما يجري فيه الربا. وكذلك يجوز أخذ العوض عن القرض إذا كان دراهم أو دنانير بعد مدة, ولا يجوز تأخير القبض عن مجلس العقد في الصرف؛ لأن القصد من القرض الرفق, فحمل على المقصود به. ولأنها لو شرطت عليه في عقد النكاح أن لا يطأها بطل العقد, ولو شرط عليها أن لا ينفق, لم يبطل العقد؛ لأن المقصود بالنكاح الوطء, فشرطه ينافي المقصود, فدل على أن القصد معتبر. ولأن ما ليس بمقصود في حكم المعدوم بدليل ما روي: أن رجلًا

باع من رجل حريرة بمائة, ثم اشتراها بخمسين, فسأل ابن عباس عن ذلك, فقال: دراهم بدراهم متفاضلة, دخلت بينهما حريرة. فبين أن الحريرة لما لم تكن مقصودة, كانت في حكم عدمها, ويحصل البيع كدراهم بدراهم متفاضلة. وكذلك حديث زيد بن أرقم لما باع إلى العطاء, ثم اشترى بأقل من ذلك, قالت عائشة: أبطل جهاده. فلم يجعل للمبيع حكمًا, وجعله بيع دراهم بدراهم متفاضلًا, كذلك هاهنا؛ لما لم يكن المال الذي معه مقصودًا, كان كعدمه. واحتج المخالف بما روي عن فضالة بن عبيد: أن أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها خرز معلقة بذهب, ابتاعها رجل بسبعة دنانير, أو بتسعة دنانير, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا, حتى تميز بينه وبينه). قال: إنما أردت الحجارة, قال: (لا, حتى تميز بينهما). فوجه الدلالة: أنه أبطل البيع مع قوله: إنه قصد الحجارة, فدل على أنه لا اعتبار بالقصد.

والجواب: أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - اتهمه في قوله: قصدت الحجارة؛ لأنه معلوم أن الذهب مقصود بالعقد, وقصده أولى من قصد الحجارة, وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الإنسان في العادة قد يقصد العبد لمعنى فيه من صنعة وقوة, ويقصد الأمة لجمالها, فيقر عليهما ما كان معهما من الذهب. كذلك يقصد النخلة دون الرطب؛ لكثرة ريعها ونماها, وكذلك الشاة, فهو كالقصد في قرض الخبز والعجين المراد به: دفع الحاجة وسد الخلة دون الزيادة. واحتج بأن العقد إذا كان له مقتضى حمل على مقتضاه, ولا يعتبر قصد, كذلك هاهنا. والجواب: أنه ليس الظاهر هناك: أنه قصد بأحدهما الهبة, بل قصد المعاوضة, وليس كذلك هاهنا؛ لأن الظاهر يحتمل ما قاله من القصد لعين العبد والأمة, كما أن الظاهر من القرض الرفق. فإن قيل: إذا شرط المشتري المال علمنا أنه مقصود له؛ لأنه لو لم يقصده لم يشترطه. قيل له: قد لا يقصده وإن شرطه؛ لأنه [قد] يكون قصده صرفه إلى العبد, وبقاؤه عليه, ويتأول مذهب من قال: العبد يملك. فإن قيل: لما لم يجز شراء المال الذي معه منفردًا عن العبد بثمن

مسألة لا يجوز بيع اللحم المأكول بالحيوان المأكول

أقل منه, كذلك إذا كان معه العبد. قيل: لا يمنع أن [لا] يجوز ذلك منفردًا, ويجوز مع العبد على طريق التبع, كالثمرة لو ابتاعها قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع منفردًا عن الأصل لم يجز, ولو ابتاعها مع الأصل جاز, كذلك هاهنا, فهما سواء؛ لأن المال تبع للعبد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من باع عبدًا وله مال) , فأضاف المال إليه. وكذلك الثمر هو تبع للأصل بدليل حديث ابن عمر: نهى عن بيع النخل حتى يزهو. ومعناه: عن ثمرة النخل. ... 294 - مسألة لا يجوز بيع اللحم المأكول بالحيوان المأكول: نص عليه في رواية أبي طالب وحرب ومهنا. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. وقال مالك: إن كان الحيوان لا يصلح في الغالب إلا للحم مثل

الكباش المعلوفة للقصاب والهراس والبقر المعلوفة للحم, لم يجز بيعه باللحم, وإن كان لا يراد اللحم جاز. هكذا ذكره ابن القصار. دليلنا: ما روى مالك, عن الزهري, عن سهل بن سعد الساعدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وروى الحسن, عن سمرة, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وروى زيد بن أسلم, عن سعيد بن المسيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وروى أبو بكر من أصحابنا بإسناده عن سعد بن المسيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا يباع حي بميت). فإن قيل: نحمله على بيع اللحم بالحيوان نسيئة. قيل له: اللفظ عام. وعلى أنه لو كان المراد به النسيئة, لم يخص اللحم؛ لأن عند المخالف لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة, فلا معنى

لتخصيص ذلك باللحم. ولأن أبا بكر النيسابوري روى هذا الحديث في (الزيادات) عن زيد بن أسلم, عن سعيد بن المسيب: أنه قال: نظرة, أو يدًا بيد. وهذا نص في إبطال السؤال. فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد به: النهي عن بيع اللحم بالحيوان المذبوح. قيل له: قد روى أبو بكر من أصحابنا بإسناده عن سعيد, عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع حي بميت). وروى أبو بكر النيسابوري, عن محمد بن يحيى, عن عبد الرازق, عن معمر, عن زيد بن أسلم, عن سعيد بن المسيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالشاة الحية. وهذا يسقط السؤال. وعلى أن بعد الذبح لا يسمى حيوانًا إلا على سبيل المجاز, وإنما كان حيوًان. فإن قيل: أراد به: إذا باع اللحم الذي في الحيوان دون غيره من الجلد والبطون وغيرها, وهذا يحتمل في اللغة, فيكون معناه: نهى عن

بيع اللحم في الحيوان. وتكون الباء قائمة مقام (في) , كما تقول: بعت بالسوق, وفي السوق. قيل له: ظاهر الباء البدل عند المخالف؛ لقوله: بعتك بكذا, فيجب حمل اللفظ على ظاهره. وعلى أنه لا يحتمل؛ لما رويناه من قوله: (لا يباع حي بميت). وروى الشافعي بإسناده عن عبد الله بن عباس: أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر, فجاء رجل بعناق, وقال: أعطوني جزاءًا بهذا العناق, فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. قال هذا بحضرة الصحابة. فإن قيل: روى أبو بكر النيسابوري في (الزيادات) عن محمد بن يحيى, عن عبد الرزاق, عن معمر, عن يحيى بن أبي كثير, عن رجل, عن ابن عباس: أنه قال: لا بأس أن يباع اللحم بالشاة. قيل له: قد قال أبو بكر النيسابوري: ما وجدت فيه غير هذا. فإن قيل: [يحتمل] أن يكون ذلك الجزور من إبل الصدقة, فنحر للمساكين, [فحضر] أبو بكر؛ ليفرقه عليهم, فلهذا قال لصاحب

العناق: لا يصلح هذا. قيل له: لو كانت من إبل الصدقة لم يخف على الناس أن بيعها لا يجوز, فكان لا يطلب الرجل أن يبتاع منها. ولأن الذي نقل في الخبر حكم, وهو المنع, وسبب, وهو شراء لحم بحيوان, فيجب حمل الحكم على ذلك السبب. والقياس: أنه فرع يجري فيه الربا, بيع بأصله الذي هو منه, فلم يصح. دليله: بيع الزيت بالزيتون, والعصير العنب, والحنطة بالدقيق, والسيرج بالسمسم إذا كان في الأصل أكثر من الفرع. ولا يلزم عليه بيع العرايا؛ لأنا قلنا: فرع بيع بأصله, وهناك بيع أصل بأصل؛ لأنا نبيع التمر بما في الرطب من التمر, ولهذا نجيزه خرصًا. ولا يلزم عليه بيع دراهم ببقرة؛ لأن كل واحد منهما أصل؛ لأنه يجيء من الدراهم بقرة. ولا يلزم عليه بيع دجاجة فيها بيض ببيض؛ فإنه لا يجوز. ولا يلزم على هذا بيع لحم السمك بسمك حي؛ فإنه لا يجوز. ولا يلزم عليه بيع الحمار أو العبد بلحم الغنم؛ لأنه لا رواية فيه. وعلى أنه لا يلزم؛ لأنا قلنا: بأصله الذي فيه منه, وليس ذلك بأصل للحم الغنم.

وفرَّقوا بين هذه الأصول وبين مسألتنا بفرق هو دليلهم, ويأتي الكلام عليه في أدلتهم. واحتج المخالف بأن الحيوان معدود, فوجب أن يجوز بيع اللحم به, كسائر المعدودات. والجواب: أن سائر المعدودات الحيوان ليس بأصل لها, وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الحيوان أصل له, فلم يجز بيعه به. دليله: ما ذكرنا من الشيرج بالسمسم, والحنطة بالدقيق, والزيت بالزيتون, والعنب بالعصير. واحتج بأن اعتبار اللحم في حال حياة الشاة ساقط؛ لأنه لو اعتبر لحمها في حياتها لما جاز بيعها بالدراهم؛ لأن لحم الشاة لا تحله إلا الزكاة, وهي في هذه الحال غير مذكاة, فلما جاز بيعها في حياتها, علم سقوط اعتبار لحمها, فإذا سقط اعتباره, صار كأنه باع اللحم بغير جنسه, فيجوز على الإطلاق. ولا يلزم عليه بيع اللبن بشاة في ضرعها لبن, والصوف بشاة على ظهرها صوف؛ لأن إباحتها غير موقوفة على حصول الزكاة في الشاة, ألا ترى أنه يجوز أخذها في حال حياة الحيوان والانتفاع بها, فلا يسقط اعتبارهما في هذه الحال. وإذا كان مع الشاة لبن معين لم يجز بيعها بلبن أو صوف إلا على الاعتبار.

وكذلك دهن السمسم بالسمسم, ودهن اللوز باللوز, ودهن الجوز بالجوز, والزيت بالزيتون. والجواب: أن اللحم الذي في الشاة معتبر إذا قابله لحم من جنسه, وإذا كانت إباحته تقف على الزكاة, كما أن الصوف الذي على ظهرها, واللبن الذي في ضرعها معتبر إذا قابله لبن أو صوف, وإن كان جواز بيعه يقف على جزه وعلى حلبه, كما أن إباحة اللحم تقف على زكاته, ولا فرق بينهما. وقولهم: إن اللبن والصوف لا يقف على زكاة, فقد بينا أنه تقف إباحة بيعه على معنى آخر, وهو الجز والحلب, فلا فرق بينهما. فإن قيل: فلو كان اللحم الذي في الحيوان معتبرًا, لوجب إذا باعه بحيوان مثله أن لا يجوز البيع. قيل له: لا يمتنع أن يسقط اعتباره إذا بيع بحيوان مثله, ألا ترى أنه إذا باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن, أو شاة عليها صوف بشاة عليها صوف, صح البيع, ولو باع بلبن مفرد أو صوف مفرد لم يصح, كذلك هاهنا. *فصل: والدلالة على مالك: ما تقدم من نهيه عن بيع اللحم بالحيوان, ونهيه عن بيع حي بميت, وهذا عام في حيوان قصد لحمه, أو لم يقصد. فإن قيل: المراد به: الحيوان الذي يقصد لحمه بدليل أن راوي هذا

الحديث سعيد, وقد فسره على هذا, فروى أبو الزناد, عن سعيد: أنه كان يقول: نهى عن بيع الحيوان باللحم, فقلت لسعيد: أرأيت رجلًا اشترى شاتين بعشرة شياه؟ فقال سعيد: إن كان اشتراها لينحرها, فلا خير في ذلك. قيل له: الخبر عام, وتخصيص سعيد واعتباره النحر مذهب له, لا يوجب تخصيص الخبر, لا سيما وسعيد لم يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فيكون ممن حضر التأويل, فيعرف مواقع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه بيع لحم مأكول بحيوان من جنسه, فلم يجز. دليله: إذا باعه بحيوان يقصد لحمه. فإن قيل: إذا قصد لحمه, فهو في حكم جنس واحد؛ لأنه لا غرض فيه إلا اللحم, فلهذا لم يجز, وليس كذلك إذا لم يقصد لحمه؛ لأن الغرض مختلف, فهو في حكم جنس آخر, فلهذا فرقنا بينهما. قيل له: لو كان الحيوان الذي لا يصلح إلا اللحم في حكم اللحم, لوجب أن لا يجوز بيعه بحيوان مثله إلا على الاعتبار, كما لا يجوز بيع لحم بلحم إلا على الاعتبار, ولما جاز من غير اعتبار دل على أنه ليس في حكم اللحم, وجرى مجرى الحيوان الذي لا يقصد لحمه. ومنهم من يقول: لا يجوز بيع هذا الحيوان بمثله إلا على الاعتبار.

مسألة هل يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن؟ أو شاة عليها صوف بصوف؟ يتخرج على روايتين نص عليهما في بيع النوى بالتمر الذي فيه النوى

ومن امتنع من هذا لزمه أن لا يجيز بيع سمسم بسمسم؛ لأن الغرض من كل واحد الدقيق, وأحد لم يقل هذا, كذلك الحيوان بالحيوان. واحتج المخالف بأنه لحم بحيوان لا يقصد لحمه, أشبه بيع لحم الشاة ببغل وحمار. والجواب: أن ذلك ليس بأصل له, فلهذا لم يمنع, كما لا يمنع من بيعه بالدراهم والدنانير, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه أصل له, أشبه الحيوان الذي يبتغى لحمه. ... 395 - مسألة هل يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن؟ أو شاة عليها صوف بصوف؟ يتخرج على روايتين نص عليهما في بيع النوى بالتمر الذي فيه النوى: أحدهما: المنع على الإطلاق. وهو قول الشافعي. والثانية: الجواز على الإطلاق. وهو قول أبي يوسف.

وقال أبو حنيفة: يجوز على الاعتبار؛ فإن كان اللبن المفرد أكثر من اللبن الذي في الشاة جاز. فالوجه في المنع: أنه جنس فيه الربا, بيع بأصله الذي فيه منه, فلم يجز. دليله: إذا كان اللبن مثل اللبن الذي في الشاة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس له وجه في الصحة, وإذا كان اللبن المفرد أكثر كان له وجه في الصحة, وهو إنما زاد على ذلك في مقابلة الشاة. قيل له: قد أجبنا عن هذا السؤال في مسألة مد عجوة بما فيه كفاية. وطريقة أخرى, وهو: أن اللبن في الضرع يأخذ قسطًا من الثمن بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المصراة: «من ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا؛ إن سخطها ردها وصاعًا من تمرٍ». فلولا أنه يأخذ قسطًا لما رد معها تمرًا, ألا ترى أنه لو اشترى شاة حائلًا, فحملت عنده, ثم ظهر على عيب, كان له ردها, وإمساك ولدها من غير أن يرد معها شيئًا.

وإذا ثبت أنه يأخذ قسطًا من الثمن, فهو بيع لبن بلبن, ومع أحدهما غيره, وهذا لا يجوز, كما لا يجوز مد عجوة بمدي عجوة, أو مد بمد وثوب. فإن قيل: لو كان يأخذ قسطًا من الثمن لم يجز بيع الشاة في ضرعها لبن, لا بلبن, ولا بغيره؛ لأنه بيع لبن مجهول, فهو كما لو باع شاة, ومعها لبن في قدح مغطى. قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه إذا كان في الضرع, فهو مستكن فيما فيه مصلحة, فلهذا جاز, وليس كذلك إذا كان في قدح؛ لأنه مستور بما لا مصلحة فيه, فلهذا لم يجز, ألا ترى أنه لو باع الجوز واللوز جاز, ولو باع لب الجوز مستورًا بشيء وقشر الجوز لم يجز؟ وكان الفصل بينهما هذا, كذلك هاهنا. ولأن اللبن إذا كان في الضرع كان تبعًا للشاة بدليل أنه يدخل في البيع بإطلاق العقد, فلهذا جاز, وليس كذلك إذا كان في القدح؛ لأنه مقصود في نفسه غير تابع لغيره, ألا ترى أنه [لا] يدخل في البيع بإطلاق العقد؟ فجاز أن تدخل الجهالة تبعًا, فلا تمنع صحة العقد, وإن كانت

تمنع صحة العقد إذا كانت مقصودة, ألا ترى أنه لو باع ثمرة قبل بدو صلاحها مطلقًا لم يجز, ولو باعها مع النخل جاز, وإن كان لو أفرد بالعقد لم يصح. فإن قيل: فإن جاز أن يأخذ اللبن قسطًا, جاز أن يأخذ الحمل قسطًا. قيل: فيه روايتان: إحداهما: يأخذ قسطًا كاللبن, ولا فرق بينهما. والثانية: لا يأخذ. والفصل بينهما: أن اللبن في الضرع مقدور على تناوله, فهو كاللب في الجوز, يكسر ويؤخذ, واللبن في قدح, فلهذا أخذ قسطًا من الثمن, والحمل لا يمكن استخراجه من الجوف حتى يخرج بنفسه بقدره, فهو كالأعضاء منها, فلهذا لم يأخذ قسطًا. فإن قيل: إذا كان يأخذ قسطًا كان يجب أن يجوز إفراده بالعقد. قيل له: لا يمتنع أن يجوز على وجه البيع, وإن لم يجز إفراده, ألا ترى أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مفردة عن النخل لا يجوز, ولو باعه مع النخل صح تبعًا, وإن لم يصح إفراده.

مسألة إذا تبايعا دراهم بدنانير في الذمة بالصفة, وتقابضا, ثم وجد أحدهما بعد التفرق عيبا من جنسه, كان له البدل

واحتج المخالف بأن اللبن والصوف موزون, فجاز بيعه بالحيوان. دليله: الذهب والفضة. والجواب: أنا نقول بموجبه, وهو إذا لم يكن هناك لبن ولا صوف مع الشاة. وعلى أن الشاة ليست بأصل للذهب والفضة, وليس كذلك هاهنا؛ لأنها أصل اللبن والصوف, أشبه إذا كان اللبن مثل اللبن الذي في الشاة. ... 296 - مسألة إذا تبايعا دراهم بدنانير في الذمة بالصفة, وتقابضا, ثم وجد أحدهما بعد التفرق عيبًا من جنسه, كان له البدل: نص عليه في رواية حرب والمروذي والميموني خلافًا للشافعي في أحد القولين: له الخيار في الفسخ, وليس له البدل. دليلنا: أن كل ما جاز استبداله قبل التفرق جاز مع صحة العقد بعد التفرق, كالسلم. ولا يلزم عليه إذا كان الصرف عينًا بعين؛ لما لم يجز استبداله قبل التفرق, كذلك بعد التفرق.

واحتج المخالف بأنه لو ثبت له البدل حكمنا بصحة الصرف مع وجود التفرق به قبل القبض؛ لأنه إذا رده لا يأخذ بدل ما رده, وإنما يأخذ الأصل الذي وقع عليه العقد, فقد فارقه قبل قبض ذلك, وبهذا يبطل الصرف. والجواب: أنه لا يفضي إلى هذا؛ لأن الذي قبضه, وإن كان معيبًا, فهو قبض صحيح, فالمقبوض هو الذي وقع عليه العقد. الدليل عليه: أنه لو كان غيره لبطل العقد؛ لأنه وجد التفرق قبل القبض, ولو كان غيره لما جاز له إمساكه, ألا ترى أنه لو كان من غير جنسه, فأراد إمساكه لم يكن له؟ فإذا ثبت أنه قبض صحيح, فإذا أراد الرد كان قطعًا للعقد حين الرد؛ لأنه رفع العقد من أصله بدليل: أنه لو كان المبيع شاة, فحملت ووضعت, ثم أصاب بها عيبًا, ردها دون النماء, وكذلك لو كانت نخلة, فأثمرت, ردها دون النماء, فإذا كان قطعًا للعقد في الحال ثبت أنه ما عري عن القبض بحال؛ إما قبض الأصل أو ما قام مقامه. ولا فصل بين القبضين أكثر من أنه إذا قبض المعيب كان قبضًا جائزًا, وإذا قبض الأصل كان قبضًا لازمًا, فإذا رد المعيب فلابد من قبض الأصل قبل التفرق. واحتج بأن الصرف يتعين تارة بالقبض, وتارة بالعقد, ثم ما تعين

مسألة الدراهم والدنانير تتعينان بالعقد إذا عينت

بالعقد لا يكون له البدل, كذلك إذا تعين بالقبض. والجواب: أنه يبطل به إذا قبض فأصابه العيب قبل التفرق, وكان الصرف في الذمة؛ فإنه قد تعين بالقبض, ومع هذا له البدل. على أنه إذا تعين بالعقد لو جاز البدل أخذ غير ما اشتراه, فلهذا لم يصح, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه إذا أبدل أخذ ما اشتراه. ... 297 - مسألة الدراهم والدنانير تتعينان بالعقد إذا عينت: ومعناه: أن أعيانهما تملك بالعقد, وأن تعيينها يمنع استبدالها وثبوت مثلها في الذمة, وإذا خرجت مغصوبة بطل العقد. وقد قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل قال لرجل: بعني ثوبك هذا بهذه المائة درهم, فلما دفعها إليه إذا هي زيوف: يرد المبيع. ونقل في موضع آخر: إذا اشترى لحمًا بهذا الدرهم والدرهم مردود له قيمة اللحم إذا استهلكه. وقال في رواية عبد الله وأبي الحارث وأبي داود في عبد له مال سأل غيره, أن يشتري له نفسه من سيده بهذه الألف: فإن اشتراه بعين المال فالشراء باطل, وإن اشتراه لا بعين المال صح, وعتق.

وهذا يدل على أنا تتعين؛ لأنها لو لم تتعين لم يبطل العقد بتعيينها في حق العبد, ولا بخروج الدرهم رديئًا؛ لأنه يجوز العدول عنها. وكذلك نقل المروذي عنه في من اشترى جارية بمال حرام, فقال: اشتريت منك هذه الجارية بهذا المال بعينه: لم يطأها, وإن كان قد اشتراها, ثم أعطى المال بعد, فالبيع قد وقع, وكان بينهما فرق. وقد علق القول في رواية أبي داود: وقد سئل عن عبد دفع إلى رجل مالًا, فأمره أن يشتريه, فاشتراه به, فأعتقه, قال: يرد الدراهم على المولى, ويؤخذ المشتري بالثمن, والعبد حر. ويحمل قوله: (اشتراه به) بمعنى: نقده في ثمنه, وكان الشراء في ذمته. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يتعين, ولا يملك بالعقد, ويجوز استبدالها وثبوت مثلها في الذمة. وحكى ابن نصر المالكي أن الظاهر من قول أصحابهم: أنها لا تتعين. وحكي عن ابن القاسم: أنها تتعين. دليلنا: ما روي في حديث عبادة بن الصامت, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

(لا تبيعوا الذهب بالذهب, ولا الورق إلا سواء بسواء, عينًا بعينٍ, يدًا بيدٍ). وهذا يدل على أنهما يتعينان؛ لأنهما إذا لم يتعينا بالتعيين, وكانا في الذمة, لم يكن عينًا بعين, وإنما يكون عينًا بعين إذا ملكت عين كل واحدة منهما بعين الأخرى. فإن قيل: لم يرد بالتعيين في حال العقد لاتفاقنا على جواز بيع الدراهم بالدراهم بغير أعيانها, وإنما أراد به تعيينه في المجلس وقبضه؛ لئلا يتفرقا عن دين بدين. قيل له: بل أراد بالتعيين حال العقد, لأنه قال: لا تبيعوا إلا عينًا بعينٍ. وهذا يقتضي بيعًا بالعين, وعندهم أن العين لا تملك بالعقد. وقولهم: (إنه يجوز بيعها بغير أعيانها) , فإنما كان كذلك؛ لأنه مخير بين التعيين بالعقد, وبين التعيين بالقبض في المجلس, ويكون بمنزلة التعيين بالعقد. والقياس: أنه عوض مشار إليه في العقد, فوجب أن يتعين به. أصله: العروض. ولا يلزم عليه السلم؛ لأنه غير مشار إليه, وإنما هو موصوف في

الذمة، ولو أشير إليه بطل عقد السلم. ولهم فرق بين العروض وبين الدراهم والدنانير مذكور في أدلتهم. وإن شئت قلت: ما يتعين بالقبض، جاز أن يتعين بالعقد، إذا لم يبطل العقد بالتعيين. دليله: العروض. ولا يلزم عليه المسلم فيه؛ لأنه يجوز أن يتعين بالعقد، لكن في بيوع الأعيان. وإن شئت قلت: ما تعين في الغضوب والودائع، جاز أن يتعين بالعقود إذا عين، كالعروض. ومعنى تعيينها في الغصوب والودائع: أنه إذا طولب بها، لزمه تسليمها بعينها، ولا يجوز له أن يعدل عنها، ويعطي غيرها، كالعروض يجب أن يكون حكمها في العقود كذلك. فإن قيل: إذا جاز أن يتعين في الغصوب والودائع يجب أن يتعين في مسألتنا؛ ألا ترى أن العروض تتعين في الغصوب والودائع، [و] لا تتعين في السلم، وكذلك المكيال والميزان يتعينان في الغصوب، ولا يتعينان في عقد البيع. قيل له: إنما لم تتعين العروض في السلم؛ لأن تعيينها يفسد العقد،

وليس كذلك تعيين الدراهم والدنانير في مسألتنا؛ لأنه لا يفسد العقد، فهو كالعروض. وأما المكيال والميزان فيأتي الكلام عليه في أدلتهم. ولأن كل ما جاز أن يتعين به غير الدراهم، جاز أن تتعين به الدراهم. دليله: القبض. ولأن كل جهة تتعين بها الأعيان، فإنه تتعين بها الأثمان، كالغضب والوديعة. فإن قيل: القبض لا يقع إلا على عين، فلهذا تعين بالقبض، والعقد قد يقع على غير عين، فإذا عين لم يتعين، كالمكيال. قيل: لا يمتنع أن يقع العقد على غير عين، ثم إذا عين به تعين، كالوصية بالثلث؛ تقع على غير عين، وإذا عينت بشيء بعينه تعينت. وكذلك إطلاق العبد في المهر والكتابة يصح، ويقع على غير عين، وإذا عين تعين. وكذلك بيع قفيز من صبرة يصح، [و] إذا عين منها جزءًا تعين. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ} [يوسف: 20]. قال الفراء: الثمن ما يثبت في الذمة. فجعل من صفة الثمن ثبوته، فيجب أن تكون هذه الصفة لازمة له في جميع الأحوال، ومخالفنا يزعم: أنه إذا عين لم يثبت في الذمة.

والجواب: أن قول الفراء لا يقبل في الأحكام؛ لأنه لا معرفة له بذلك، وإنما يقبل في ما طريقة اللغة، والدراهم؛ هل تتعين، أم لا؟ حكم، وليس طريقه اللغة. فإن قيل: قوله: (الثمن ما يثبت في الذمة) حكاية عن أهل اللسان، فيقبل قوله، وإن كان تحته حكم شرعي، كما لو قال: الحرام: اسم لما لا يجوز تناوله. والمباح: اسم لما يجوز تناوله. يقبل قوله، وإن كان تحت ذلك حكم شرعي. قيل له: إذا قال: الحرام: اسم لما لا يجوز تناوله. والمباح: اسم لما يجوز تناوله. لم يقبل منه ذلك أيضًا؛ لأنه حكم شرعي، ولكن لو قال: الحرام عندهم: ما يكرهونه، وتعافه نفوسهم. والحلال: ما تميل إليه نفوسهم. قبل؛ لأنه ليس بحكم شرعي. وعلى أنه يمكن تأويله، وهو: أنه إذا أراد به الثمن المطلق؛ فإنه يثبت في الذمة عند الإطلاق، وهذا يختص به الثمن دون غيره من المثمنات. واحتج بأنه لو تعينت لما صح العقد عليها، فلما اتفقوا على أنه لو

قال: (اشتريت منك هذا الثوب بعشرة دراهم) صح العقد، ولو لم يصف العشرة إذا كان هناك نقد معروف، دل على أنها لا تتعين. والجواب: أن جواز إطلاق العوض في العقد لا يدل على أنه إذا عقد على عينه لا يتعين. الدليل عليه: إطلاق الوصية بعبد، أو شاة، أو بعير، أو دابة، أو ثوب، أو قفيز من طعام يصح، ويتعين بعقد الوصية ما عين منها. وكذلك يجوز إطلاق اليمين في الدراهم والدنانير، [و] لو حلف على دراهم بأعيانها، أو دنانير بأعيانها، تعينت، وتعلقت اليمين بها. وكذلك يجوز إطلاق العبد في المهر والكتابة، ويتعين بالتعيين. وكذلك يجوز بيع قفيز من صبرة وصاع زيت، أو شيرج، أو برد من شيء مجتمع، وإذا عين جزء منه، وأفرد بالعقد، صح وتعين، كذلك هاهنا. وعلى أن الدراهم والدنانير إذا أطلقت فهي بمعنى الموصوفة؛ لأن نقد البلد إذا كان واحدًا انصرف العقد إليه، ويكون بمنزلة المشروط فيه؛ لأن العرف القائم بينهم يقوم مقام الشرط، ألا ترى أن النقود إذا كانت مختلفة لا مزية لبعضها على بعض لم يجز إطلاق العقد فيها، وإنما يجوز إطلاق العقد إذا كان النقد المتعامل به واحدًا لا يختلف، فيحمل إطلاق العقد عليه، ويكون بمنزلة قوله: بعتك من هذا النقد بكذا.

وليس كذلك العروض؛ فإنه يجوز العقد عليها بالوصف، وتثبت في الذمة، ولا يجوز إطلاق العقد عليها من غير وصف؛ لأنه لا عرف فيها يحمل العقد عليه، ويقوم مقام الشروط فيه، فلو كان في نوع من العروض عرف قائم في المعاملة، لحملنا إطلاق العقد عليه من غير وصف، وأقمنا العرف فيه مقام الشرط والوصف. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية جعفر بن محمد النسائي في الرجل يبتاع، فيفتح جرابًا، فيريه، ثم يقول: الباقي على صفة هذا، قال: إذا جاءت على صفة، فليس له رده. وهذا يدل على أن الثياب قد يثبت لها عرف في بلدها، فتعلق عليها الصفة، كالنقود. فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية الأثرم في رجل باع ثوبًا بكذا وكذا درهمًا، أ, اكترى دابة بكذا وكذا درهمًا، فاختلفا في النقد، فقال: له نقد الناس. فقيل له: إن نقد الناس بينهم مختلف، فقال: له أقل ذلك؟! ونقل ابن القاسم عنه في رجل اشترى ثوبًا بدراهم، والدراهم على ما علمت من اختلافهم، ثم اختلفا في النقد: فليس له أن يعطيه أردأ الدراهم، ولا أفضلها، ولكن الوسط. قيل له: فإن اختلفا، فأي الدراهم يعطيه؟ قال: أقلها؛ يعني: المقطعة. قالوا: وهذا يدل من كلام أحمد على أنه يجوز إطلاق الثمن، وإن كان نقد البلد مختلفًا، فامتنع أن تكون العلة.

وكذلك نقل صالح عنه في رجل صالح رجلًا على ألف درهم، ولم يذكر صحاحًا، ولا مكسرة: وقع الصلح على الصحاح ما لم يتواصفا على شيء. وقد أطلق الصلح على ألف، وإن كانت مختلفة بالصحاح والمكسرة، والصح بيع. قيل: أما كلامه في مسائل الأثرم وابن القاسم، فهو محمول على أن نقد البلد مختلف، والأقل منه أغلب، فجعل له الأقل؛ لأنه غالب نقد البلد. ويمكن أن يحمل ذلك على أن البائع عين أحد النقدين، ثم اختلفا في ذلك النقد، فأسقط التحالف بينهما، وردهما في موضع إلى الأقل، وفي موضع إلى الوسط. والأول أشبه؛ لأن الاختلاف في الأجود والأقل اختلاف في قدر الثمن، وذلك يوجب التحالف. وكذلك يجب أن يحمل قوله: (يعطى الوسط)، أو (يعطى الصحاح) إذا كان ذلك غالب نقد البلد، وإنما كان كلامه محمولًا على الوجه الذي ذكرنا؛ لأنه قد نص على أن تعين الثمن شرط، فقال في رواية حرب في رجل ابتاع من رجل برًا على سعر ما يبيع: لم يجز حتى يبين له السعر.

وكذلك نقل ابن منصور. واحتج بأنه لو أطلق العقد، ولم يعينها، ولم يصفها، لم تتعين، فإذا عينها يجب أن لا تتعين، كالمكيال والميزان. والجواب عن جواز الإطلاق عليها: ما تقدم. وأما المكيال والميزان: فإن لم يعرف مقدار المكيال، ولا مقدار الصنجة، لم يصح العقد؛ لجهالة ذلك. وإن كان مقدار المكياج معروفًا في البلد، وكذلك مقدار الصنجة، صح العقد؛ لأنه معروف المقدار، ولكن لا يتعين؛ لأنه ليس بمستحق بالعقد، وإنما يتوصل به إلى معرفة مقدار الحق، فلهذا لم يتعين، وكذلك الميزان، وليس كذلك الموزون؛ فإنه نفس المستحق، فلهذا تعين. واحتج بأنه ثمن، فوجب أن يكون موضعه الذمة، كما لو أطلق العقد. والجواب: أنه إذا أطلق العقد؛ لم يثبت في الذمة لكونه ثمنًا بدليل: أنه لو أطلق العقد في الإجارة، أو النكاح، أو الخلع، ثبت في الذمة، وإن لم يكن ثمنًا. وعلى أن المعنى في الأصل: أن الثمن هناك غير معين، ولا مشار إليه، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه بدل مشار إليه، فتعين. دليله: العروض.

واحتج بأنها لو تعينت بالعقد لم يجز التصرف فيها قبل القبض، كالعروض إذا تعينت بالعقد، لم يجز التصرف فيها قبل قبضها، فلما جاز التصرف فيها قبل القبض، دل على أنها لم تتعين، وأنا محلها الذمة. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية ابن منصور: وقد سئل عن اقتضاء دراهم من دنانير ودنانير من دراهم في البيع، فقال: يأخذ بالقيمة، وإن اقتضاه في الدين فبالقيمة. فأجاز التصرف فيه قبل القبض بأخذ العوض عنه. والجواب: أنه إنما جاز التصرف في الثمن إذا كان متعينًا؛ لأنه يجوز التصرف في الثمن- أيضًا- إذا كان متعينًا قبل القبض؛ لأن من أصلنا: لو ابتاع ثوبًا جاز بيعه قبل قبضه، فإذًا الثمن والعروض على حد سواء في باب التصرف. وإن كان الثمن في الذمة جاز التصرف أيضًا فيه؛ لأنه قد أمن انتقاض العقد بهلاك الثمن، ولم يؤمن انتقاضه بهلاك المبيع. وعلى أن هذا لا يصح على أصلهم؛ لأن العقار يتعين بالعقد، ويصح بيعه قبل قبضه، فامتنع أن يكون جواز التصرف دلالة على عدم التعيين. والمسلم فيه غير متعين، ولا يجوز التصرف فيه، فامتنع أن يكون ثبوته في الذمة دلالًة على جواز التصرف فيه.

واحتج بأنه لا غرض في إثبات الدراهم والدنانير، وإنما الغرض في مقدارها، فإذا عينت لم تتعين، وكان ذلك بمنزلة تعيين المكيال والميزان والأوزان، وكما لو استأجر أرضًا يزرعها حنطة؛ فإنه يجوز أن يزرعها حنطة وما ضرره ضرر الحنطة. والجواب: أن هذا باطل بالدراهم والدنانير في الوديعة والغصب؛ فإنه لا يجوز إبدالها بمثلها، وإن وجد معناها. وكذلك يبطل به إذا ابتاع قفيزًا من صبرة بعينها، أو صاع زيت من جملة زيت؛ فإنه يتعين، ولا يجوز للبائع إبداله بغيره من تلك الصبرة ومن ذلك الزيت، وإن لم يكن في أعيانها غرض؛ لأنه طعام واحد وزيت واحد، وإنما الغرض في قدرها. وعلى أن الدراهم والدنانير قد تكون أعيانها مقصودة بأن تكون دراهم يعتقد أنها حلال لا شبهة فيها، وغيرها مشكوك فيه، أو تكون دراهم يتيقن أنها مملوكة له، وغيرها يشك في ذلك من حالها، فلا يأمن إذا أخذها ربما ظهر استحقاقها. ويفارق هذا المكيال والميزان من الوجه الذي ذكرنا. ويفارق هذا إذا استأجر أرضًا ليزرعها حنطة؛ لأن في ذلك الموضع حق المستأجر منفعة الأرض دون الحنطة، وإنما يستوفي حقه بالحنطة، فملك استيفاءها بالحنطة وما يقوم مقامها، كما لو كان لرجل على رجل

مسألة من باع نخلا غير مؤبر، فثمرته للمشتري

دين؛ فإنه يملك استيفاءه بنفسه وبوكيله. وليس كذلك الدراهم والدنانير إذا عينت؛ لأنها حق للمشتري، وإذا أبدلها البائع بغيرها كان متصرفًا في حق غيره، لم يكن له ذلك. ... 298 - مسألة من باع نخلًا غير مؤبرٍ، فثمرته للمشتري: قال في رواية الأثرم في من اشترى رقبة الأرضـ، وفيها ثمر ونخل لم يبد صلاحه: فالثمرة تابعة للأرض إذا لم يقصد الثمر، وإنما قصد الأرض. معنى قوله: إذا قصد الأرض، ولم يقصد ثمره: لم يبد صلاحها على البقاء، وجعل شراء الأرض ذريعة إلى ذلك. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: الثمرة للبائع إلا أن يشترطها المبتاع. دليلنا: ما روى أحمد في (المسند) قال: نا إسماعيل قال: نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من باع نخلًا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع). ومن دليلان: أحدهما: من دليله، والثاني: من لفظه. أما من دليله: فهو أنه خص المؤبر بالذكر، وعلق الحكم عليه.

فدل على أن غير المؤبر حكمه بخلافه. فإن قيل: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل عندنا على أن ما عداه بخلافه، بل يكون موقوفًا على الدلالة. قيل له: عندنا يدل على أن ما عداه بخلافه، ولنا أن نبني فروعنا على أصولنا. والدلالة الثانية من لفظه، وهو: أن (من) [من] حروف الشرط في اللغة، فيدل اللفظ على أن التأبير شرط في كون الثمرة للبائع. وإذا ثبت أنه شرط فيه، لم يملكه بعدم الشرط، وعندهم وجود الشرط وعدمه سواء. فإن قيل: لم يخرج هذا على وجه الشرط، وإنما خرج على العادة الجارية بينهم بتأبير النخل، ولم يكونوا يتركونه يخرج كلامه على العادة، كما قال تعالى: {ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23]، فخص الربيبة التي تكون في حجره، وحرمها عليه؛ لأن العادة أن الربيبة تكون في حجر الرجل، فخرج الكلام على العادة، ثم لم يكن الحكم مقصورًا عليها، بل التي ليس في حجره كالتي في حجره في التحريم. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا قطع في الثمر حتى يؤويه الجرين»،

فخص الجرين بالذكر؛ لأن العادة أن الثمرة قد استحكمت إذا اجتمعت في الجرين، فخرج كلامه على العادة، ثم لم يكن الحكم مقصورًا عليه، كذلك هاهنا. قيل له: حقيقة اللغة ما ذكرنا، فوجب أن نحمل اللفظ على حقيقته، فإن تركناه في موضعٍ فلدلالةٍ دلت عليه. وعلى أن هذه العادة لا نعرفها، والإنسان يبيع النخل وقت حاجته إلى بيعها، وقد تكون في وقت الحاجة مطلعة، وقد لا تكون مطلعة، فكيف يبيعها مؤبرة؟ فسقط هذا السؤال. فإن قيل: يحتمل أن يكون خرج هذا على سؤال سائل عن بيع النخل بعد أن يؤبر، فقال: (من باع نخلًا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع). فذكر التأبير لذكر السائل، لا أنه شرط فيه. قيل له: لم يجئ للسؤال، فلم يجب حمله عليه. وعلى أنه يجب حمله على ما تقتضيه اللغة، وإن كان قد تقدمه سؤال؛ لأن السؤال بغير حكمه. وعلى أن أبا بكر الأثرم رواه في (مسائله) بإسناده عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع عبدًا، وله مال، فله ماله، وعليه دينه، ومن

أبَّر نخلًا، فباعه بعد تأبيره، فله ثمرته، إلا أن يشترط المبتاع). هذا معناه، وهذا يدل على أن الاعتبار بالتأبير. والقياس: أنه نماء كامن لظهوره غاية، فجاز أن يكون قبل ظهوره تابعًا لأصله. دليله: الحمل واللبن. وقولنا: (نماء) احتراز من الدقيق. و (كامن) احتراز من الظاهر. (لظهوره غاية) احتراز من الجوز واللوز؛ فإن اللب لا يخرج من قشره إلا بكسره وإخراجه، وكذلك الحنطة في السنبل. وقولنا: (فجاز أن يكون تابعًا) احتراز من النخل الكبير إذا كان بعضها مؤبرًا، وبعضها غير مؤبر، فباعها؛ أنه لا يبيع مالم يؤبر منها على الأصل على اختلاف أصحابنا؛ لأن التعليل للجواز. ولا يلزم عليه عقد الرهن؛ فإن النماء يتبعه أيضًا، كالبيع. ولا يلزم عليه طلع الفحول؛ لأنه لا يفرق بينه وبين غير الفحول. فإن قيل: لو كان هذا بمنزلة الولد، لوجب إذا باع مئة نخلة في بستان؛ بعضها مؤبر، وبعضها غير مؤبر، أن لا يدخل المؤبر في البيع، ويدخل ما لم يؤبر، كما لو باع عشرين شاة، وقد ولدت واحدة منها، ولم تلد تسعة عشر؛ أن التي ولدت لا يتبعها ولدها، والتي لم تلد يتبعها.

قيل له: تأبير بعضه جعل بمنزلة تأبير جميعه، كما جعل بدو الصلاح في بعضه كهو في جميعه، ولم نجد في الأصول أن ظهور الحمل في أحد الغنم جعل بمنزلة ظهور ما لم يظهر حملها، فلهذا فرقنا بينهما. فأما إذا لم يظهر واحد منهما، فهو في [الكمون] سواء، فيجب أن يتساويا في الحكم. فإن قيل: لو كان بمنزلة الولد، وجب أن يكون المؤبر منها وغير المؤبر سواء في كونه تابعًا؛ لاتصاله به في الحالين جميعًا، كالولد المتصل. فلما اتفقنا على أن الثمرة الظاهرة مع اتصالها بالنخل لا تكون تابعًا لها في البيع، ولا تكون بمنزلة الولد المتصل بالأم، بل هي كمال منفرد عن النخل، لا يتبع النخل في البيع، كذلك التي لم تؤبر. قيل له: الحمل له استتار وظهور، وليس له اتصال؛ لأنه غير متصل بالأم، وإنما هو مودع في الجوف، فكانت الثمرة في حال استتارها بالطلع كالحمل، وفي حال ظهورها كالولد الظاهر، وليس له اتصال. ولأن الثمرة إذا ظهرت أخذت شبهًا من الولد الظاهر لظهورها من وعائها، وشبهًا من الجنين لاتصالها بالأصل، فلم يكون أحدهما أولى من الآخر، فبقيت الثمرة على ملك مالكها كما كانت.

وليس كذلك إذا كانت الثمرة كامنة في وعائها؛ فإنها بمنزلة الحمل قبل ظهوره، وكانت تابعة للأصل. فإن قيل: لو كانت كالحمل واللبن لم يجز استثناؤها في البيع، كما لا يجوز استثناء الحمل واللبن. قيل له: روى ابن القاسم وسندي جواز استثناء الحمل في البيع. فعلى هذا: لا فرق بينهما. ونقل ابن منصور وحنبل: لا يصح. وإنما اختلفتا من هذا الوجه؛ لأن الحمل واللبن أجريا مجرى أجزاء الجارية في أنها تتبع في البيع، فحين لم يجز بيع بعض أعضائها بشرط القطع، لم يجز استثناء الحمل واللبن، والطلع أجري مجرى أجزاء النخل، فلما جاز إفراد بعض أجزاء النخل من السعف وغيره بشرط القطع، جاز استثناء القطع أيضًا، فاختلفا في هذا؛ لاختلافهما في هذا المعنى، وهما متساويان فيما ذكرنا. واحتج المخالف بأن العقد على الشجر لا يوجب دخول الثمر في البيع بغير شرط. دليله: المؤبر، وإذا باع مئة نخلة في بستان واحد، ونخلة منها مؤبرة، وتسع وتسعون نخلة غير مؤبرة؛ أنه لا يدخل شيء منها في البيع. والجواب: أنها إذا أبرت فقد ظهرت، وإذا لم تؤبر، فلم تظهر، وفرق بينهما.

الدلالة عليه: الحمل واللبن. ولأنها إذا أبرت فقد أخذت شبهًا من الحمل ومن الولد الظاهر، فتعارضها، وبقيت الثمرة على ملك مالكها، وليس كذلك إذا لم تؤبر؛ فإنها جارية مجرى الحمل، فكانت تابعة للأصل. فإن قيل: ليس من حيث كانت في إحداهما ظاهرة والأخرى كامنة، يجب أن يختلف حكمها، ألا ترى أن صوف الشاة ظاهر، ولبنها كامن، وجميعها يتبعان الأصل في البيع، والزرع ظاهر، والبذر كامن، ولا يتبع الأصل في العقد عليه. قيل له: إنما كان الشعر كاللبن في البيع، وإن اختلفا في الظهور؛ لأنهما في حكم واحد بدليل: أنه لا يجوز إفراد الشعر الظاهر بالعقد، كما لا يجوز إفراد اللبن الباطن بالعقد. وأما الزرع والبذر فإنما لم يتبعا؛ لأن البذر مودع، وليس بنماء الأرض، ولا جزء منها، فهو بمنزلة المال المدفون، والزرع الظاهر بمنزلة الطلع المؤبر. وأما إذا أبر بعض نخيل بستان، ولم يؤبر جميعه، فإن أصحابنا اختلفوا في ذلك:

فقال أبو بكر: لا يكون تأبير البعض تأبيرًا للكل، بل يكون للبائع ما أبر دون ما لم يؤبر. وقال شيخنا: تأبير بعضه قد جعل بمنزلة تأبير جميعه، كما جعل بدو الصلاح في بعضه بدوًا في جميعه. واحتج بأن الثمرة لا تتبع الأصل في البيع بحال. دليله: ثمار سائر الأشجار، وإذا كان النخل مؤبرًا. والجواب عنه إذا كان مؤبرًا: ما تقدم. وأما سائر الأشجار فإن ثمارها تتبع أصولها إذا كانت كامنة في وردها، فإذا ظهرت الثمار، وتناثر الورد، لم تتبع أصولها، فإذًا لا فرق بينهما. واحتج بأنه نماءٌ خارج من الأصل، وله غاية ينتهي إليها في العادة، وهي كالشجرة نفسها. وفيه احتراز عن الولد في البطن، واللبن في الضرع؛ لأنهما غير خارجين عن الأصل. والجواب: أن الشجرة نفسها نماء ظاهر، فلهذا لم تتبع الأرض في البيع، فهي كالثمرة المؤبرة، والولد الظاهر. واحتج بأن الطلع يجوز إفراده بالبيع، فلم يكن تابعًا.

مسألة إذا باع نخلا مؤبرا، فثمرته للبائع، وله تركها حتى تدرك

أصله: الثمر المنفصل. والجواب: أنه يبطل بأغصان الشجرة، وسعف النخلة؛ تتبع الأصل، وبالشجرة تكون في الدار تتبع الدار في البيع، وإن كان يجوز إفرادها بالبيع، وكذلك البناء يتبع الأرض في البيع، وإن جاز إفراده بالبيع. ... 299 - مسألة إذا باع نخلًا مؤبرًا، فثمرته للبائع، وله تركها حتى تدرك: ذكره الخرقي في (مختصره). وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يؤخذ البائع بقطعه، ويجبر عليه. دليلنا: حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أرأيت لو منع الله الثمرة، بم يأخذ أحكم مال أخيه؟!). وهذا يدل على أن الثمرة المبيعة يجب تركها إلى حال إدراكها؛ لأنه لو كان يجب قطعها في الحال لما أصابتها الجائحة، ولا منعت الثمرة. وأيضًا فإن من ابتاع شيئًا متعلقًا بحق غيره، فإنما يجبر الغير على إزالته ونقله على حسب العادة في ذلك، ألا ترى أن المشتري إذا زرع الأرض، فاستحق الشفيع الأرض، لم يجبر على قلع الزرع حتى

يبلغ أوان الحصاد. وكذلك لو ابتاع من رجل دارًا ليلًا، وفيها طعام وقماش كثير، لم يجبر على نقله ليلًا؛ لأن العادة لم تجر بذلك، ولا يجبر- أيضًا- على جمع الحمالين دفعة واحدة، بل ينقله شيئًا فشيئًا على حسب العادة. وكذلك لو ابتاع أرضًا ذات نخل وشجر، واستثنى البائع النخل والشجر، لم يجبر البائع على نقلها؛ لأن ذلك لا ينقل في العادة. وكذلك الثمار في العادة لا تقطع إلى وقت الجذاذ، فلم يجبر البائع على إزالتها ونقلها قبل تلك الحالة. فإن قيل: القياس كان يتقضي أنه يجب على المشتري نقل زرعه، لكن تركناه استحسانًا. قيل له: المعنى الذي تركت لأجله القياس في حق الشفيع موجود هاهنا، فيجب أن تتركه له. فإن قيل: إنما لم يجبر على نقل الطعام والقماش ليلًا؛ لأنه لا يمكن نقله ليلًا، ولا يجد من ينقله. قيل له: النقل بالليل يمكن، ويوجد، ولكن تلحق المشقة فيه، وكذلك في قطع الثمرة قبل بدو صلاحها يمكن، لكن تلحقه المشقة فيه. فإن قيل: فإذا استثنى النخل والشجر ملك ذلك بأصله من الأرض، لهذا لم يجبر على نقله. قيل له: إنما ملك ذلك بأصله من الأرض؛ لأن العادة جارية ببقاء

النخل على الدوام، ألا ترى أنه لو باع أرضًا فيها زرع مستثنى للبائع، لم يكن له ذلك بأصله من الأرض؛ لأن العادة فيه أنه لا يبقى على الدوام. فإن قيل: هذا يبطل بالثمرة إذا جذها، وتركها في أرض يشمسها، أو قطف العنب، وتركه فيها ليصير زبيبًا، ثم باع الأرض؛ فإنه يجبر على نقله قبل جفافه، وإن لم تجر العادة بذلك. قيل له: لا عادة في تجفيفه في أرض بعينها، فلهذا لزمه نقلها؛ ليجففها في أي موضع شاء. وأيضًا من ابتاع شيئًا، وحصلت منفعة مستثناة لغير المشتري، فإن المستحق لتلك المنفعة له استيفاؤها على الكمال، كما لو باع أمًة مزوجة؛ فإن منفعة البضع تكون مستثناة للزوج على الكمال. فإن قيل: فالزوج لا يملك استيفاء منفعة البضع ليلًا ونهارًا، وإنما له ذلك ليلًا، فلا يحصل له ذلك على التمام. قيل له: القدر الذي حصل مستثنى هو الذي حثل للزوج بعقد النكاح، وذلك القدر هو الاستمتاع بالليل دون النهار، وعلى المشتري تمكينه، فأما الاستمتاع نهارًا، فلم يكن ذلك حقًا للزوج حتى يكون مستثنى بالعقد. واحتج المخالف بأن ملك المشتري مشغول بمال البائع، فيجبر على نقله على حسب الإمكان، كما لو جذ الثمرة بعد ما أدركت، وتركها في أرضه، وأراد تجفيفها، ثم باع الأرض، أو قطف العنب، وتركه في أرضه؛ ليصير زبيبًا، ثم باع الأرض، أو باع داره، وله فيها متاع؛ أنه

مسألة إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها لم يجز، إلا أن يشترط قطعها

يجبر على نقل ذلك كله على حسب الإمكان. والجواب: أن الواجب في ذلك نقلها على ما جرت العادة دون الإمكان بدليل ما ذكرنا من الشفيع لا يجبر المشتري على نقل الزرع قبل حصاده، وإن كان ذلك ممكنًا، وكذلك لا يجبر البائع على نقل المتاع ليلًا، وإن كان ممكنًا، كذلك هاهنا. وأما إذا كان فيها ثمرة يشمسها ويجففها، فإنما كلف نقلها قبل ذلك؛ لما ذكرنا، وهو: أن ذلك لا يختص بمكان دون مكان. واحتج بأنا لو أجبرنا المشتري على تركها إلى وقت إدراكها صار كأن البائع باع شيئًا، واستثنى لنفسه منفعته، وهذا لا يجوز، ألا ترى أنه لو قال: (بعتك هذه الدار على أن أسكنها سنة) لم يصح العقد؟ والجواب: أنه يصح ذلك عندنا، ويأتي الكلام فيه في ما بعد، إن شاء الله. على أن هذا باطل بالزرع في حق الشفيع؛ فإنه لا يملك إجبار المشتري على قطعه، وإن أدى ذلك إلى المعنى الذي ذكره. ... 300 - مسألة إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها لم يجز، إلا أن يشترط قطعها: نص على هذا في رواية ابن القاسم وسندي: لا بأس أن يشتري

البلح ليقطعه، والحصرم إذا كان يقطعه. كذلك نقل أبو طالب عنه: يجوز أن يبيع البلح على أن يصرمه. وقد علق القول في رواية عبد الله: إذا اشترى بلحًا في نخل ليقطعه على المكان فنعم، فإن اشتراه ورأيه قطعه، وباعه على مثل ذلك، ثم إن المشتري تركه حتى أدركته عاهة، يرجع على البائع بماله، هو في ملك البائع قبل أن يجذه. وظاهر هذا: أنه أجاز البيع من غير شرط إذا كان عزمه قطعه. والمذهب: أنه لا يصح، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا لم يشترط قطعها جاز البيع. دليلنا: ما روى أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تباع الثمار حتى يبدو صلاحها، وتنجو من العاهات. وروى بإسناده في لفظ آخر عن ابن عمر: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. وروى بإسناده في لفظ آخر عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري.

وبإسناده عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى تشقح. قلت: متى تشقح؟ قال: تحمار، وتصفار، ويؤكل منها. وروى بإسناده عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة. وروى بإسناده عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، وعن العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد. ذكر عبد الله هذه الأخبار في (مسائله)، وظاهر هذه الأخبار يقتضي تحريم بيعها في جميع الأحوال، إلا أن الدلالة دلت على جواز بيعها بشرط القطع، فأجزناه، وبقي ما عداه على موجب حكم النهي مستعملًا في بيعها على الإطلاق. وفيها دليل آخر، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق النهي فيها بعدم صفة من الثمرة، وهو بدو الصلاح فيها وحصول الإزهاء، وعندهم النهي لا يتعلق بذلك، وإنما يتعلق بشرط التبقية. فإن قيل: المراد بالخبر: النهي عن بيعها بشرط التبقية بدلالة ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ

أحدكم مال أخيه). والموجود من الثمرة في الحال غير ممنوع، وإنما يجوز أن تمنع الأجزاء التي ينتظر حدوثها بتركها إلى أن يتنامى عظمها بأن لا يوجدها الله تعالى. قيل له: لا يصح هذا التأويل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق جواز البيع ببدو الصلاح، والبيع المشروط فيه التبقية لا يجوز عندكم بعد بدو الصلاح. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق النهي عن البيع لمعنى يعود إلى الثمرة، وهو عدم بدو الصلاح فيها، والبيع المشروط فيه التبقية يبطل عندهم لا لمعنى يعود إلى الثمرة. وأما قولهم: إنه جعل العلة في إبطال العقد هلاك الثمرة، وهذا إنما يكون في الأجزاء التي تنتظر، وذلك إنما يكون بشرط التبقية، فليس كذلك؛ لأن عندنا أن الثمار إذا بيعت مطلقًا، فإن إطلاق العقد يقتضي تبقيتها إلى أوان الجذاذ، فيلحقها التلف والعاهة، كما لو شرط تبقيتها. فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد بالخبر النهي عن بيع الثمرة قبل ظهورها بدلالة قوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة)، وإنما يمنع المعدون بأن لا يوجدها. قيل له: لا يمكن حمله على هذا؛ لأنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو

صلاحها، فاقتضى أن يكون هناك ثمرة موجودة يتوجه النهي إليها. والقياس: أنها ثمرة نامية أفردت بالبيع قبل بدو صلاحها، لا على شرط القطع، فلم يصح بيعها. دليله: لو باعها بشرط التبقية. وقولنا: (نامية) احتراز منه إذا باع ثمرة في أصلها، والأصل مقطوع من الأرض؛ لقولنا نامية. وقولنا: (أفردت بالعقد) احتراز منه إذا بيعت مع أصلها. وقولنا: (قبل بدو صلاحها) احتراز منه إذا باعتها بعد بدو الصلاح. وقولنا: (لا على شرط القطع) احتراز منه إذا شرط قطعها. فإن قيل: إذا شرط تركها، فقد نفى موجب العقد، فبطل العقد، وليس كذلك إذا أطلق العقد؛ لأنه لم ينف موجبه. قيل له: لا نسلم أنه نفى موجب العقد؛ لأن تسليم الثمرة على أصولها يكون بالتخلية بينها وبين المشتري، ولو تلفت بعد ذلك كانت من ضمان المشتري، فلم يكن شرط التبقية منافيًا؛ لأن نقلها بعد التسليم ليس من أحكام العقد، وإنما هو بحكم العادة، كما قالوا في المشتري إذا زرع: لم يكن للشفيع أخذه بالقطع. وأيضًا فإنا نبني المسألة على أن إطلاق العقد يقتضي التبقية، ونستدل عليه بما تقدم من أن من باع دارًا ليلًا، وفيها طعام وقماش، لم يجبر على نقله ليلًا، ولا يجبر على نقله دفعة واحدة.

وإذا باع أرضًا فيها نخل وشجر، واستثنى ذلك، لم يجبر على نقله. وكذلك المشتري إذا زرع، لم يجبره الشفيع على قطعه. وإذا كان كذلك، فالعادة في الثمار: أنها لا تنقل وتزال عن النخل إلى وقت الجذاذ، فحمل إطلاق العقد عليه، فنقول: إطلاق العقد إذا كان له عرف وعادة تحمل عليه صار بمنزلة المشروط في العقد. دليله: الأثمان؛ فإنها تحمل عند الإطلاق على نقد البلد، ويصير كالمشروط فيه، كذلك هاهنا. فإن قيل: إنما حملنا المطلق من الثمن على النقد المعتاد؛ لأنه لا يؤدي إلى فساد البيع، وفي الثمرة إذا حملنا الإطلاق على العادة في التبقية يؤدي إلى فساد البيع؛ لأنه يصير بمنزلة من باع طعامًا في بيت، وشرط تركه فيه. قيل له: نقد البلد لو كان مختلفًا- ولم يكن بعضها أغلب من بعض- ببطل، وإن كان نقد أقرب البلدان إليه واحدًا، ووجب حمله على نقد بلده، وإن أدى إلى فساد البيع. ثم هذا باطل بالمشتري إذا زرع، ثم أخذه الشفيع؛ فإنه لا يجبره على نقله، وإن أدى إلى المعنى الذي قال. وما ذكره من بيع الطعام والمتاع فإنما وجب نقله؛ فإنه لا عادة في تركه، وتبقيته عليه. فإن قيل: لو وجب حمل البيع على المعتاد، لوجب بأن يكون بيع

الثمار باطلًا؛ لأن العادة ببغداد أن أصحاب الثمار يشترطون [.....] على المشتري، ومعلوم أن هذا بيع باطل. قيل له: العادة إذا كانت مخالفة للشرع ولم يحمل العقد عليها، وإنما يحمل على عادة صحيحة جائزة غير مخالفة الشرع. واحتج المخالف بأنه لو شرط قطعها جاز، كذلك إذا أطلق العقد [و] لم يشترط، يجب أن يجوز، كما لو بدا صلاحها. والجواب: أنه إذا شرط القطع لا يكون معقودًا على غرر؛ لأنها إذا قطعت سلمت من العاهة، فلهذا صح البيع، وكذلك إذا بدا الصلاح قد نجت من العاهة، فلا يكون العقد على غرر. وليس كذلك إذا لم يبد صلاحها، وباعها مطلقًا؛ لأن ذلك يقتضي تبقيتها على ما قررناه، وفي ذلك غرر، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وحتى تنجو من العاهة، وحتى تزهي، ولهذا قال: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه). واحتج بأن العقد على الأعيان لا بفتقر في صحته إلى شرط نقلها عن ملك البائع بدلالة: العقد على الطعام في أرض البائع أو في داره، والثوب، والعبد.

والجواب: أن العرف في سائر الأعيان تسليمها في الحال، فحمل مطلق العقد فيها على العرف، فيجب على هذا القياس أن يحمل مطلق العقد على الثمرة قبل بدو صلاحها على العرف فيها، وهو التبقية، فوجب حمله عليه، كما حمل على العرف في الأثمان. وإن قاسوا على الثمرة المبيعة مع الأصل، فالمعنى فيها: أن الغرر قد سقط هناك؛ لكونها تبعًا للأصل، فجاز، كما قلنا للمجهول من أساس الدار وأطراف الجذوع وطي البئر، وكذلك بيع الحمل، والصوف على الظهر. وإن قاسوا على الوصية بها مطلقًا؛ احتمل المنع، واحتمل الجواز، ويكون الفرق بينهما: أنه لا ضرر على الموهوب له والموصى له في ملكها قبل بدو صلاحها؛ لأنه لم يبذل عوضًا في مقابلها حتى إذا تلفت ذهب عوضه، فلذلك صحت تلك العقود. فأما المبتاع فعليه ضرر في الابتياع قبل بدو الصلاح؛ لأنه بذل عوضًا في مقابلها، فإذا ذهب عوضها، فكان فيه ضرر، فلم يجز، ألا ترى أن الوصية تجوز بالمعدوم والمجهول، وإن لم يخرص البيع. ***

مسألة إذا باع الثمرة بعد بدو صلاحها بشرط التبقية صح

301 - مسألة إذا باع الثمرة بعد بدو صلاحها بشرط التبقية صح: ذكره الخرقي في (مختصره). وقد نص أحمد في رواية الجماعة على أنه إذا اشترى الثمرة، ولحقتها جائحة: أنها تتلف من مال البائع. وهذا يدل من أصوله على أن له شرط البقاء إلى وقت الجذاذ. وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا شرط البقاء بطل البيع. دليلنا: ما تقدم من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن [بيع] الثمرة حتى يبدو صلاحها، وحتى تزهي، وحتى تنجو من العاهة، وحتى تشقح، وحتى تطيب. ومنه دليلان: أحدهما: أنه أجاز البيع بعد بدو صلاحها على الإطلاق، فيدخل فيها البيع بشرط القطع، والبيع مطلقًا من غير شرط. والثاني: أنه علق النهي بغاية، وهو بدو الصلاح فيها، وما بعد الغاية بخلاف ما قبلها، فلما كان البيع قبل بدو الصلاح بشرط التبقية باطلًا، اقتضى بحكم الغاية أن يكون بعد بدو الصلاح بشرط التبقية صحيحًا.

وأيضًا فإن العادة في الثمار تبقيتها على أصولها إلى أوان الجذاذ، فإذا جاز إطلاق العقد فيها، جاز بشرط التبقية، ألا ترى أن النقد إذا كان معروفًا معتادًا في البلد، جاز إطلاق العقد عليه، وجاز شرطه. ولأنا نبني هذه المسألة على ما قبلها، وأنا إطلاق العقد في الثمار يقتضي التبقية، فإذا شرط ذلك في العقد كان تأكيدًا، فلم يغيره، كما لو شرط تسليم المبيع. واحتج المخالف بأن تسليم المبيع في الحال من موجب العقد، فإذا شرط ترك الثمرة، فقد نفى موجب العقد، ونفي موجب العقد يفسد العقد، كما لو اشترى عبدًا على أن لا يسلمه إليه إلى شهر بطل العقد؛ لأنه نفى موجبه. والجواب: أنه موجب العقد هو التسليم، وتبقية الثمرة ليس بتأخير التسليم؛ لأن تسليم الثمرة على رؤس النخل بالتخلية بينها وبين المشتري، وإنما الكلام في نقلها، والنقل ليس من موجب البيع، وإنما يجب النقل على حسب العادة بدليل: أن الثمرة لو بقيت مع الأصل، لم يجب على البائع نقلها إلى أوان الجذاذ، وإن لم تكن الثمرة مبيعة، ولا معقود عليها. واحتج بأنه اشترى ثمرة على شرط الترك، فوجب أن لا يجوز، كما لو اشتراها قبل بدو صلاحها، وشرط تركها. والجواب: أن [في] بيعتها قبل بدو صلاحها غرر كثير؛ لأنها

مسألة إذا اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فلم يقطعها حتى بدا صلاحها، وأتى عليها أوان جذاذها، بطل البيع، وتكون الثمرة بزيادتها للبائع، ويرد الثمن على المشتري في أصح الروايتين

تعرض للهلاك، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت إن منع الله الثمرة)، وإذا بدا الصلاح زال الغرر، فجاز بيعها. واحتج بأنه شرط الانتفاع بملك البائع في عقد البيع، فهو كما لو باع بيتًا فيه طعام على أن ينقله بعد شهر. والجواب: أنه يجوز ذلك على أصلنا. على أنه لا عادة في تبقية الطعام، وفي الثمار عادة. ... 302 - مسألة إذا اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فلم يقطعها حتى بدا صلاحها، وأتى عليها أوان جذاذها، بطل البيع، وتكون الثمرة بزيادتها للبائع، ويرد الثمن على المشتري في أصح الروايتين: نقلها أبو طالب، وحنبل في موضع: فقال في رواية أبي طالب: لو باعه نخلًا على أن يصرمه، فتركه حتى اصفر، أو احمر، فسد البيع، وكذلك الحشيش إذا لم يقطعه وسنبل، فسد البيع، وتكون الثمرة والسنبل لصاحب الأرض. وكذلك نقل حنبل في موضع: إذا باعة نخلًا على أن يصرمه،

فتركه حتى بلغ، فذلك للبائع، ويرد عليه الثمن. وكذلك نقل أبو طالب في من اشترى قصيلًا؛ ليجزه وهو حشيش، فتركه حتى سنبل، فسد البيع. وهذه الرواية اختيار الخرقي وأبي بكر. وفيه رواية أخرى: العقد صحيح لم يبطل. نص عليه في رواية [......] ابن سعيد، وحنبل في موضع آخر: فقال في رواية ابن سعيد: لا يشتري الرطبة إلا جزة، فإن تركها حتى تطول وتكبر، كان للمبتاع ما جز منها، وكان البائع شريكًا للمبتاع في النماء الزائد، إلا أن يكون يسيرًا قدر يوم، أو يومين، وكذلك النخل. وكذلك نقل حنبل: لا يجوز بيع الرطببة الأجزه، فإن باعة على أن يجزه، أو نخلًا على أن يصرمه، فتركه حتى زاد، فالزيادة لا يستحقها واحد منهم، ويتصدقان به. فقد اتفقا عنه على أن البيع لم يبطل، واختلفا في قدر الزيادة؛ فنقل ابن سعيد: أنهما يشتركان فيها، ونقل حنبل: يتصدقان بالزيادة. وقوله: يتصدقان، ويشتركان بالزيادة؛ يريد به: الزيادة في القيمة؛ لأن الزيادة هاهنا في عين الثمرة، وليست أعيانًا يشار إليها؛ فينظر: كم كان قيمتها وقت العقد؟ فإذا قيل: مئة، قيل: وكم قيمتها بعد الزيادة؟ قالوا: مئتان، فيتصدقان أو يشتركان في القيمة الزائدة.

وهذا عندي على طريق الاستحباب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن، وهذه الثمرة قبل قطعها ليست من ضمان المشتري بدليل: أنها لو تلفت بآفة سماوية، أو بعطش كانت من ضمان البائع، ولهذا كره له أخذ ربحها. وكره للبائع أيضًا؛ لأنها حدثت على ملك المشتري. وقوله: (يشتركان) على طريق الاستحباب؛ لأن المشتري تعدى بتركها في نخل البائع، فاستحب له أن يستطيبه بجزء منها. والفقه في ذلك إذا قلنا: العقد لم يبطل: أن تكون بزيادتها للمشتري. ونقل أبو طالب في موضع آخر: إذا اشترى قصيلًا، ثم مرض، أو توانى حتى صار شعيرًا، فإن أراد الحيلة فسد البيع. وظاهر هذا: أنه إذا لم يقصد ذلك فالعقد صحيح. ومعنى هذا: أنه إذا لم يقصد الحيلة فهو أسهل في بابه، بمعنى: أنه إذا لم يأثم بذلك لو قصد الحيلة، وهو: أن يشترط القطع حال العقد، وفي نيته تبقيته إلى وقت الجذاذ، أثم بذلك؛ لأنه يغر البائع، وإلا فهما يتفقان في حكم البطلان والصحة، وإنما يختلفان في المأثم؛ لأن ما يبطل البيع لا فرق بين القصد فيه وعدمه، كتلف المبيع قبل قبضه.

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: العقد صحيح لم يبطل، والثمرة للمشتري بزيادتها. وجه الأولى، وأن العقد باطل، والثمرة بزيادتها للبائع: ما تقدم من نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهو، وحتى يبدو صلاحها. وهذا عام فيه إذا كان بشرط القطع، وبشرط البقاء، إلا أنا خصصنا جواز ذلك إذا كان بشرط القطع وتعقبه القطع بالإجماع، وبقي ما عداه- وهو إذا لم يقطع- على موجب الظاهر. وأيضًا فإنه أخر قبضًا مستحقًا لحق الله تعالى، أشبه تأخير قبض رأس مال السلم والصرف. ولأنها ثمرة أفردت بالعقد، لم يبد صلاحها، ولم تقطع في وقت إمكان القطع، فبطل العقد، كما لو شرط البقاء، أو أطلق العقد. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن العقد أوجب الغرر، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الغرر حدث بعده. قيل: لا يمتنع أن يحدث بعده، ويجري مجرى الموجود حال العقد بدليل: التفرق قبل قبض رأس مال السلم، وثمن الصرف. ثم لا نسلم: أن الغرر حدث بعده، وهو أنه قد يشرط القطع؛ ليسلم له العقد، ويعتقد الترك؛ ليحصل له الغرض، فيجعل الشرط ذريعة إلى ذلك، والذرائع معتبرة لما نبينه في ما بعد. ونبني المسألة على أصل، وهو: إذا ابتاع ثمرة، فلم يقبضها حتى

حدثت ثمرة أخرى، ولم تتميز الثانية من الأولى؛ أن العقد يبطل عندنا، وعند أبي حنيفة، وأحد القولين للشافعي، كذلك إذا كانت الزيادة متصلة بعلة: أنه أحد نوعي الزيادة، فإذا حدثت قبل القبض، جاز أن تؤثر في بطلان العقد، كالزيادة المنفصلة إذا لم يتميز المبيع منها. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن الزيادة منفصلة، وليس كذلك هاهنا؛ لأنها متصلة بالمبيع، فهي كما لو ابتاع عبدًا هزيلًا، فقبل أن يقبضه سمن. قيل: هذا لا يوجب الفرق بينهما في البطلان، كما لم يوجبه في الفسخ، وقد ثبت أنه لو ظهر على عيب، وقد زاد المبيع زيادة متصلة أو منفصلة ملك الفسخ، وكذلك إذا أفلس بالثمن وهناك زيادة. ونبني المسألة على أصل آخر، وهو: القول بالذرائع، وذلك أنا لو حكما بصحة البيع كان ذريعًة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها على الترك إلى وقت الجذاذ؛ لأنه يشترط القطع؛ ليسلم له العقد، ويعتقد الترك؛ ليحصل له الغرض، والذرائع معتبرة في الأصول، ألا ترى أن الله- تعالى- نهى عن سب الآلهة، وإن كان مباحًا؛ لئلا يكون ذريعًة إلى سب الله- تعالى- بقوله: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

وامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتل المنافقين؛ لئلا يقولوا: إن محمدًا يقتل أصحابه. ومنع من أن يأكل من هديه إذا عطب دون محله؛ لئلا يكون ذريعة إلى أنه قصر في علفه. والجماعة يقتلون بالواحد؛ لئلا يكون ذريعة إلى أن من أراد قتل غيره شارك غيره؛ ليسقط القصاص عنه. وكذلك حرام القاتل الإرث؛ لئلا يكون ذريعة إلى تعجيل الميراث. وكذلك لم يجز قرض الإمام المباح وطؤهن؛ لئلا يكون ذريعة إلى الاستباحة بغير عقد ولا ملك. وكذلك قال أصحابنا: الفرار من الزكاة لا يسقط؛ لأنه يكون ذريعة إلى إسقاط الزكاة جملة. وكذلك إذا باع طعامًا إلى أجل، فلما حل الأجل، باع المشتري من البائع ذلك الطعام بالثمن الذي له عليه، فلم يصح البيع؛ لأنه ذريعة إلى حصول بيع طعام بطعام. وكذلك من أراد أن يقرض دينارًا بدينارين إلى أجل، فباعه سلعة بدينارين إلى سنة، لا بقصد البيع، ثم رجع، فابتاعها منه بدينار نقدًا، ويبقى له دينار إلى سنة، كذلك هاهنا. وقد روي أن رجلًا باع من رجل حريرة بمئة، ثم اشتراها بخمسين، فسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم متفاضلة،

دخلت بينهما حريرة. وقد ذكر الحضرمي في كتاب (البيوع) هذا الحديث بلفظين أخرجه إلينا أبو محمد النجشي بإسناده قال: قال ابن عباس: اتقوا هذه العينة، لا تكون دراهم بدراهم بينهما حريرة. وبإسناده عن أنس: أنه سئل عن العينة؛ يعني: بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله. وروى ابن بطة في تحريم النبيذ بإسناده عن الأوزاعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع)؛ يعني: العينة. وهذا يقتضي أن ذكر البيع في ما يقصد به الربا لا يبيحه، [و] ذلك يقتضي أن ذكر الشرط في ما يقصد به عدمه لا يبيحه. فإن قيل: الذرائع غير مؤثرة في التحريم، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أخا [بني] عدي على خيبر جاءه بتمر جنيبٍ، فقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟) قال: لا، لكن بعت الصاعين بالصاع، فقال: (لا تفعل، ولكن بع تمركم بعرضٍ، واشتروا به تمرًا). وهذا نفس الذريعة إلى بيع تمر بتمر متفاضلًا. وكذلك من أراد أن يزني بامرأة، فعقد عليها عقد نكاح، جاز أن يطأها، وإن كان العقد ذريعة إلى ذلك الفعل الذي كان ممنوعًا منه، كذلك هاهنا.

قيل: أما حديث [أخي بني] عدي فيحتمل أن يكون أمره بشراء العرض من غير من ابتاع منه التمر الجيد، فيكون العرض في تلك الحال مقصودًا، وإنما يمنع لو ابتاع به عرضًا ممن يبتاع منه التمر الجيد؛ لأنا تعلم أن العرض غير مقصود في تلك الحال. وأما عقد النكاح فإنه مقصود في نفسه، وإن كان يتوصل به إلى الوطء؛ لأنه يقصد به لحوق النسب، وثبوت التوارث، وغير ذلك من الأحكام، فلهذا صح؛ لأنه مقصود في نفسه. فإن قيل: فالعقود لا يعتبر فيها القصد. قيل: المكره لا تصح عقوده لعدم القصد لها، والوكيل يعتبر قصده بالشراء لموكله. واحتج المخالف بأن المبيع بحاله وذاته، وإنما انضاف إليه غيره على وجه لا يتميز عنه، وهذا لا يوجب بطلان العقد، كما لو كان المبيع عبدًا صغيرًا، فكبر، وطال، وسمن؛ فإن البيع لا يبطل، كذلك الثمرة. والجواب: أن القبض هناك لحقهما، وهاهنا لحق الله تعالى، وقد فات مع الإمكان، فهو كالقبض في السلم والصرف. والثاني: أن ذلك ليس بذريعة إلى فعل المحظور، وهذا يحصل

ذريعة إلى فعل المحظور، وهو بيع ما لم يبد صلاحه على الترك. واحتج بأنه لو باع ثمرة بعد ما بدا صلاحها، فلم يقبضها حتى حدثت ثمرة أخرى مثل التين والباذنجان والبطيخ ونحوه، فلم يأخذه حتى حدثت ثمرة أخرى، ولم يتميز، فإن العقد لا يبطل، كذلك إذا كانت ثمرة واحدة، فزادت عينها وذاتها. والجواب: أن الخلاف فيهما واحد، والقول في الثمرة إذا اختلطت بثمرة أخرى وفي الثمرة الواحدة إذا زادت سواء، وفي العقد روايتان؛ أظهرهما: بطلان العقد، ولا فرق بينهما. وقد قال أبو بكر في كتاب (الشافي): أما بيع الباذنجان والورد والرطبة وما أشبهه، فلا يجوز البيع فيه إلا لقطة لقطة، والرطبة كل جزة، فإن بيع ما ظهر على قطعه جاز، ويفسد البيع إن تأخر حتى تطلع بقيته. واحتج بعضهم بأنه مبيع لو قبضه في الحال صح، فإذا أخر قبضه لم يبطل. دليله: غير الثمرة. والجواب: أنه يبطل بالصرف، ورأس مال السلم؛ لو قبضه في حال صح، ولو أخره لم يصح. ثم المعنى في الأصل، وفيه إذا قبضه في الحال: أنه قد أمن فيه الغرر، وبالتأخير الغرر حاصل، ولهذا المعنى تأثير في الفساد بدليل

مسألة إذا بدا الصلاح في نوع من الثمار كان صلاحا لبقية ذلك النوع في قراح واحد في إحدى الروايتين

بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها على الترك أو مطلقًا لم يصح لخوف الغرر، ولو شرط القطع صح، كذلك هاهنا، وهذا المعنى الذي نبه الشرع عليه. فإن قيل: المعنى هناك العقد أوجب الغرر، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الغرر حدث بعده. قيل: قد أجبنا عن هذا في السؤال عن القياس. ... 303 - مسألة إذا بدا الصلاح في نوعٍ من الثمار كان صلاحًا لبقية ذلك النوع في قراحٍ واحد في إحدى الروايتين: نقلها حنبل فقال: إذا كان في بستان بعضه بالغ وغير بالغ، بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ. وظاهر كلامه: أنه صلاح لبقيته إذا كان الغالب عليه الصلاح. وفيه رواية أخرى: لا يكون ذلك صلاحًا لما لم يبد صلاحه من ذلك النوع، كما لا يكون صلاحًا لنوع آخر. واختار أبو بكر ذلك في كتاب (الشافي). وقال في رواية ابن منصور: لا يباع حتى تؤمن عليه العاهة، فإن احمر بعضه، وبعضه أخضر، يباع الذي بلغ.

وكذلك نقل جعفر بن محمد، ومحمد بن أبي حرب. ويجب أن يحمل هذا على أنه لا يكون صلاحًا لنخلة أخرى، أو شجرة أخرى، فأما في النخلة الواحدة والشجرة الواحدة، فيكون صلاحًا رواية واحدة؛ لأنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة؛ لأنه لو أفرد البسر بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها، وليس كذلك من نخلتين؛ لأنه لا يأمن الاختلاط؛ لأت التمييز قد حصل بتعيين النخلة. واختار أبو إسحاق في بعض تعاليقه أن بدو الصلاح في نوع لا يكون صلاحًا لبقيته، وقال: قوله: (حتى يبدو صلاحه) يقتضي الكل بدلالة قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]؛ اقتضى ذلك الكل، لا البعض. وقال مالك: إذا بدا الصلاح في نوع من الثمار كان صلاحًا لبقيته من ذلك القراح وما جاوره من الأقرحة في ذلك البلد، إذا كان الصلاح المعهود، لا المنكر في غير وقته. فالدلالة على أنه لا يكون صلاحًا لثمرة قراح آخر، ولا يجوز بيع غير القراح الذي فيه النخلة التي بدا صلاحها: [ما] روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع العنب حتى يسود. وظاهر هذا: أنه لا يجوز بيع ما لم يسود من ذلك النوع في القراح

الواحد، إلا أن الدليل دل على جواز ذلك، وبقي ما عداه في الأقرحة على ظاهره. ولأنه إذا بدا الصلاح في بسرة منها لا يخلو: [إما] أن تعتبر تلك البسرة نفسها، أ, تعتبر حتى يبدو في جميعها. فبطل أن يقال: تعتبر بنفسها؛ لأنه لو أفردها بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها. وبطل أن يقال: تعتبر في جميعها؛ لأنه لو اعتبر هذا لأكلت الثمرة قبل جواز بيعها. ثبت أن الاعتبار يلحق غيرها بها بقدر الحاجة إليه، وليس غير الحائط الواحد. واحتج المخالف بأن المعتبر في ذلك هو الأمن من الآفة على الثمرة دون الحيازة، ألا ترى أنها لو كانت حائطًا واحدًا، جاز بيع باقيه؛ لأن مجاورة الأقرحة لهذا القراح، كمجاورة سائر نخيل القراح لهذه النخلة، فيجب تساويهما. والجواب: أنا لا نسلم أن العلة في القراح الواحد الأمن، وإنما جعلنا بدو الصلاح في بسرة كبدو الصلاح في كل النوع في الحائط الواحد لسوء المشاركة واختلاف الأيدي، وهذا معدوم في الحائطين، فوجب اعتبار كل حائط بنفسه.

* فصل: والدلالة على أنه يكون صلاحًا لبقية ذلك النوع في القراح الواحد، وهو: أن الصلاح لو بدا في نخلة واحدة كان صلاحًا لبقية ثمرة تلك النخلة، كذلك في بقية نخيل ذلك القراح. فإن قيل: إنما كان صلاحًا في النخلة الواحدة؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت، وامتنع التمييز، وهذا المعنى لا يوجد في نخلتين. قيل له: إن لم يوجد الاختلاط في نخلتين؛ فإنه يوجد معنى آخر، وهو سوء المشاركة واختلاف الأيدي، وهذا معدوم في الحائطين، فكان يجب أن يكون صلاحًا في القراح الواحد لهذه العلة. واحتج من منع ذلك من أصحابنا بأنه لما لم يكن صلاحًا لقراح آخر، كذلك هاهنا. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أنه لا حاجة بنا إلى ذلك، وبنا حاجة في القراح الواحد من اختلاف الأيدي. ولا يجوز قياس هذا على الأنواع المختلفة، وأن بدو الصلاح في بعضها لا يكون صلاحًا لنوع آخر؛ لأن الأنواع يختلف إدراكها وطلوعها، فلا تختلط، والنوع الواحد يتلاحق إدراكه، فيختلط، فلهذا لم تجعل كالنوع الواحد. * فصل: فإن باع نخلًا من قراحٍ قد أبر بعضه، فهل يكون الكل للبائع، كما

لو كان قد أبر جميعه؟ اختلف أصحابنا؛ فقال شيخنا أبو عبد الله: يكون جميعه للبائع، كما لو باع نخلًا من قراح قد بدا الصلاح في بعضه؛ أنه يكون صلاحًا لبقية ذلك النوع. وهو قول الشافعي. وقال أبو بكر في كتاب (الخلاف): يكون للبائع ما أبر، وما لم يؤبر فهو للمشتري. وحكاه عن أحمد في رواية علي بن سعيد. وهو اختيار أبي إسحاق- أيضًا- ذكره في (تعاليقه). والوجه في أنه يكون جميعه للبائع: حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلًا بعد أن أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع). وإذا أبر بعضها انطلق هذا الاسم عليها، فيقال: هذه نخلة مؤبرة. ولأنا لو جعلنا المؤبرة منها للبائع، وغير المؤبرة للمبتاع، أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي والخصومة التي لا تنقضي، فلهذا جعلناها كالمؤبرة كلها. ولهذا قلنا: إن بدو الصلاح في بعض النوع صلاحًا لجميعه من ذلك القراح على الصحيح من المذهب لهذا المعنى، كذلك هاهنا. واحتج أبو بكر بأنه باع ما أبر، وما لم يؤبر، فوجب أن يكون ما لم

مسألة يجوز بيع ما ظهر من المقاثي والمباطح دون ما بطن

يؤبر للمشتري، كما لو باع نخلًا من حائطين. ولأنها نخل لم تؤبر، فلا تكون ثمرتها للبائع. دليله: لو باعها بانفرادها. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار القراحين بالقراح الواحد، وما أفرد بما بيع مع غيره، ألا ترى أن بدو الصلاح فرقنا فيه بين القراح الواحد وبين القراحين، وبين أن يفرد ما بدا صلاحه بالبيع، وبين أن يبيعه مجتمعًا. ولأن القراحين لا تؤدي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي، وهذا معدوم في القراح الواحد. ومن نصر قول أبي بكر أجاب عن الخبر بأنه حجة [له]؛ لأن ما لم يؤبر لا يقع عليه اسم المؤبر. وأجاب عن سوء المشاركة بأنه يبطل إذا كان في القراح جنسين؛ فإن تأبير أحدهما لا يكون تأبيرًا للآخر، وإن أفضى إلى سوء المشاركة. وأجاب عن بدو الصلاح في بعضه؛ أنه صلاح لبقية النوع بأنه إنما يكون هذا في النخلة الواحدة؛ لأنه يفضي إلى اختلاط المبيع بغيره، فأما في نخلة أخرى، فلا يكون صلاحًا، كمسألتنا سواء. ... 304 - مسألة يجوز بيع ما ظهر من المقاثي والمباطح دون ما بطن: نص على هذا في رواية حنبل وابن سعيد وأبي طالب.

وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز بيع ما ظهر منها، وما لم يظهر إذا بدا أوانها. وكذلك إذا جاز بيع الأصول المغيبة في الأرض، كالجزر والفجل والبصل، وما أشبه ذلك. دليلنا: ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الغرر. وهذا منه؛ لأنه يعقد على ما لم يخلق، وقد يخلق في ما بعد، وقد لا يخلق، وإذا خلق يختلف اختلافًا متباينًا؛ صغيرًا أو كبيرًا، وصحيحًا وفاسدًا، ووحشًا وحسنًا. [و] لأنه بيع ثمرة لم تخلق، فلم يصح، كما لو أفرد الثمرة المعدومة بالبيع. وكل ثمرة لم يجز إفرادها بالعقد لم تجز مع غيرها. دليله: ثمرة النخل سنين. يبين صحة هذا: أن ثمرة النخلة لا تكاد تختلف، ولا يتناثر وردها وقدها صغيرًا وكبيرًا، وهذا يختلف اختلافًا شديدًا قدرًا وقدًا، فإذا لم يجز هذا في النخل ففي القثاء أولى.

ولأن الجزر والفجل إذا لم يقلع فهو بيع مجهول فلا يصح، كما لو اشترى منه شيئًا لم يره، ولم يصفه. واحتج المخالف بعموم قوله: {وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} [البقرة: 275]. والجواب: أن هذا محمول على غير مسألتنا. واحتج بأن الحاجة داعية إلى جواز هذا البيع؛ لأنا لو لم نجزه لاختلطت الثانية بالأولى، ولا تتميز عنها، فلا يمكن بيع هذه الثمرة بحال. والجواب: أنه ليس كذلك؛ لأن الثمرة الثانية تكون متميزة عن الأولى فيمكن إفراد الأولى بالعقد. واحتج بأنه لو بدا الصلاح في بعض الثمار جاز بيع الجميع، ويكون ما لم يبد فيه الصلاح تابعًا لما بدا فيه الصلاح، كذلك هذا، وكذلك ما يحدث من الزيادة في الثمار وما يحصل فيها من الصفرة والحمرة يتبع ما يكون موجودًا حال العقد، كذلك هاهنا جاز أن تتبع الثمرة التي لم توجد الثمرة الموجودة. والجواب: أنه باطل بالشجر الذي يحمل في السنة حملين؛ فإن الصلاح إذا بدا في الثمرة تبعها ما لم يبد الصلاح فيه، ولا يتبع الحادث الموجود في جواز العقد على الجميع. وأما ما يحدث بالزيادة في الثمرة والحمرة والصفرة فليس بتابع للموجود، وإنما يكون ذلك للمشتري؛ لأنه موجود في ملكه.

مسألة يجوز بيع الباقلا في قشره الأعلى، وكذلك بيع الحنطة في سنبلها

305 - مسألة يجوز بيع الباقلا في قشره الأعلى، وكذلك بيع الحنطة في سنبلها: نص على هذا في رواية أبي طالب فقال: لا يجوز بيع الباقلا، وهو ورد، ولكن إذا اشترى الباقلا منه، وأدرك، وكان الغالب فيه الباقلا، اشتراه، يكون قد أمن من العاهة. وقال- أيضًا- في رواية صالح وابن منصور: إذا باع زرعًا وقد استحصد، فالزكاة على البائع، وإن لم يكن استحصد، فسخته. فقد أجاز بيعه إذا استحصد، ولم يجزه قبل ذلك على البقاء. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي في ذلك: باطل. دليلنا: ما روى أحمد بإسناده عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، وعن العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد. وروى في لفظ آخر عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة.

فعلق جواز البيع في الخبرين بغاية، وهو أن يشتد ويبيض، وحكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها. ولأن القشر الأول يحفظ الباقلا من الفساد، ويحرس رطوبته، ولهذا إذا قشر وترك اسود، فهو كقشر الرمان والموز. ولأنه في مضمون خلقة ما ليس بحيوان، وهو مما يجوز بيعه، فجاز بيع ما هو فيه. أصله: الجوز واللوز في قشر واحد. ولأنه مأكول دونه حائل من أصله خلقته، فجاز بيعه. دليله: الجوز، واللوز، والباقلا في قشرته السفلى. فإن قيل: المقصود هناك مستور بما له فيه مصلحة؛ لأن بقاءه عليه حافظ لمنفعته، وإذا أزيل عنه فسد، فلهذا جاز بيعه على تلك الصفة، والمقصود هاهنا مستور بما لا مصلحة له فيه، فلم يجز بيعه. قيل له: فيبطل بالحمل في البطن، واللبن في الضرع؛ يجوز بيعه مع أمه، وإن كان مستورًا بما لا مصلحة له فيه. وعلى أن القشرة العليا من الباقلا في بقائها مصلحة؛ لأنه لا يجف إلا في قشرته العليا، ومتى أخرج منه- وهو رطب- اسود، ولحقه الفساد. وكل حب حاز بيعه إذا خرج من سنبه، جاز بيعه في سنبله.

دليله: الشعير. فإن قيل: الشعير المقصود منه بالعقد ظاهر مرئي، وليس كذلك الحنطة؛ لأن المقصود منها غير مرئي. قيل له: المقصود من الجوز واللوز غير مرئي، ومن الشعير مرئي، ثم هما سواء في جواز العقد عليهما. وكل حالة يجوز فيها بيع الشعير، جاز فيها بيع الطعام. دليله: إذا خرج من سنبله. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الغرر. وفي هذا غرر؛ لأنه مغيب، ومحول دونه. والجواب: أنا قد بينا: أن بيع الغرر ما لا يقدر على تسليمه مثل بيع الطير في الهواء، وبيع السمك في الماء. واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الطعام حتى يفرك. يعني: يفعل فيه الفرك، وعندكم يجوز بيعه قبل الفرك. والجواب: أن لنا في هذا الخبر ما للمخالف؛ لأن ظاهره يقتضي جواز بيعه بعد الفرك، ومخالفنا يقول: لا يجوز حتى يميز بعد الفرك، فإذا تساوينا في الاستدلال بهذا الخبر لم يجز أن يعترض به على الخبر الذي ننفرد نحن بالاستدلال به.

على أنا نحمل قوله: (حتى يفرك)؛ يعني: يبلغ أوان الفرك. واحتج بأن المقصود بالبيع مستور يزال منه في حال الادخار، فوجب أن لا يجوز بيعه. دليله: تراب الصاغة وتراب المعدن بالفضة. والجواب: أن التراب الذي فيه الفضة يجوز بيعه بغير فضة، كما يجوز بيع الحنطة في سنبلها بغير الحنطة، ولا يجوز بيعه بالفضة، كما لا يجوز بيع الحنطة التي في السنبل بالحنطة. وقد نص أحمد على جواز بيع تراب الصاغة بغير جنسه. على أنا قد بينا: أن القشرة العليا لا تزال عنه حال الادخار؛ لأنها تنشف رطوبته، وفي بقائها مصلحة له. واحتج المخالف بأن حكم الجهالة يسقط في العقود في ما تدعو الحاجة إليه، كالإجارات على ما لم يخلق، والجوز واللوز في قشره، ولا حاجة بنا إلى قشرة الباقلا العليا. والجواب: أنا بحاجة إليه من الوجه الذي ذكرنا. واحتج بأنه لا يعلم صغار هو، أم كبار. والجواب: أن هذا غير مقصود في العادة، ولهذا لم يقشر حال الشراء؛ ليعلم كباره من صغاره. فإن قيل: أليس لو قال: (بعتك الحنطة التي في هذا التبن) لم يصح لجهالته؟ كذلك إذا باع ذلك في سنبله.

مسألة لا يجوز أن يبيع ثمرة بستان ويستثني منه أمدادا معلومة، ولا أن يبيع صبرة ويستثني منها أقفزة

وقد نص أحمد على هذا في رواية ابن منصور: إذا باع حنطة هذا البيدر، أو تبن هذا البيدر قبل أن يداس وينقى، فهو مكروه. قيل له: قياس المذهب صحة البيع؛ لأنه قد نص على جواز بيع تراب الصاغة. ولو سلم فإنما لم يجز ذلك؛ لأنه مستور بما لا مصلحة له فيه، وليس كذلك إذا كان في سنبله؛ لأن له فيه مصلحة من الوجه الذي ذكرنا. ... 306 - مسألة لا يجوز أن يبيع ثمرة بستان ويستثني منه أمدادًا معلومة، ولا أن يبيع صبرًة ويستثني منها أقفزًة: ذكره الخرقي. وقد نص عليه أحمد في رواية أبي بكر بن محمد، عن أبيه، عنه: وذكر له بيع الطعام جزافًا، فقال: إذا أراد أن يستثني قال: أبيعك نصفه، أبيعك ثلثه؛ من الطعام، والحائط يقول: أبيعك نصف هذا الحائط، أو ثلثه، أو ربعه، أو يقول: لا أبيعك هذه النخلة، ولا هذه. وكذلك نقل أبو طالب عنه: وذكر له قول مالك في الاستثناء،

فقال: يستثني كذا وكذا نخلة، ويريها المشتري، ويكون معلومًا. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز. ونقل عبد الله عنه: أنه قال في رجل يبيع ثمرة أرضه، ويستثني كرًا، أو كرين: لا يكون به بأس. وظاهر هذا: أنه أجاز ذلك، كما قال مالك. ونقل عنه في موضع في رجل باع حائطًا: لا يستثني ثلثًا، أو ربعًا، أو كرًا، أو كرين؛ لأنه ليس بمعلوم، ويستثني نخلات معلومات. وظاهر هذا: أنه منع استثناء الثلث والربع، كما لا يجوز استثناء كر، ولا كرين. نقل ذلك أبو حفص البرمكي في مجموع له، والصحيح ما حكينا في المذهب. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثنيا إلا أن تعلم. والمراد بالثنيا: بيع شيء، ويستثني بعضه، فهو عام. فإن قيل: فقد قال: (إلا أن تعلم)، وهذا معلوم.

قيل: قوله: (إلا أن تعلم) يرجع إلى الاستثناء، والمستثنى منه هاهنا مجهول. ولأن البيع إنما يصح إذا كان معلوم القدر، وإنما يصير معلومًا بالمشاهدة بأن يقول: بعتك هذه الصبرة، أو ثمرة هذا النخل، ويشير إليه. أو يكون المبيع جزءًا معلومًا بأن يقول: بعتك ثلث هذه الصبرة، أو نصفها. وهذا المبيع غير معلوم بالمشاهدة؛ لأنه إذا استثنى من الصبرة عشرة أمداد، فالباقي غير معلوم بالمشاهدة، ولا هو جزء معلوم، فلم يصح، كما لو قال: بعتك ثوبًا من هذه الثياب، أو عبدًا من هؤلاء العبيد. ولا يلزم عليه إذا قال: بعتك هذه الصبرة إلا ثلثها؛ لأن المبيع هناك جزء معلوم، فهو بمنزلة أن يقول: بعتك ثلاثة أرباع هذه الصبرة. ولا يلزم عليه إذا قال: بعتك ثمرة هذا النخل إلا هذه النخلة؛ لأن المبيع هناك معلوم بالمشاهدة، وهو ما عدا النخلة المستثناة. واحتج المخالف بأن ذلك إجماع أهل المدينة عملًا متواترًا بينهم. والجواب: أن إجماع أهل المدينة ليس بحجة عندنا. واحتج بما روي عن ابن عمر: أنه باع من رجل ثمرة، فقال: أبيعكها بأربعة آلاف وطعام الفتيان.

ويروى عنه: أنه كان يستثني على بيعه إذا باع التمر في رؤوس النخل بالمذهب أن لي منه كذا بحساب بكذا. والجواب: أن قوله: (وطعام الفتيان) ظاهره يقتضي: أنه لم يذكر مقدارًا معلومًا، وأجمعنا على بطلان ذلك، فهم يضمرون فيه: أنه استثنى أرطالًا معلومًة، ونحن نضمر فيه: أنه استثنى ثلثًا، أو ربعًا. وكذلك نحمل قوله: ولي بحساب ذلك. واحتج بأنه استثنى قدرًا معلومًا، فجاز كاستثناء الجزء والنخلة. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أن ذلك معلوم بالمشاهدة، أو بالمقدار، وهذا بخلافه. فإن قيل: فقد روى حنبل عنه: أنه إذا باع جارية، واستثنى حملها، وجب له؛ لأن البيع وقع على الأم، وهو خارج من الشراء، كأنه باع نخلة، واستثنى منها عشرين رطلًا، فله ثنياه. فقد أجاز استثناء أرطال من ثمرة نخلة، والنخلة الواحدة كالصبرة. قيل له: يحتمل أن يكون قال هذا على الرواية التي أجاز استثناء الحمل، وتلك رواية ضعيفة. ويحتمل أن يكون أجاز ذلك؛ لأن الجهالة يسيرة في النخلة الواحدة، ولهذا أجزنا بيع التمر الحديث بالعتيق؛ لأنه نقصان يسير، وكذلك بيع

مسألة فإن باع شاة واستثنى الرأس والسواقط من الجلد والأطراف جاز

العرايا جائز فيما دون خمسة أوسق؛ لأنه يسير. ... 307 - مسألة فإن باع شاًة واستثنى الرأس والسواقط من الجلد والأطراف جاز: نص عليه في رواية مهنا وحرب حنبل، فقال: إذا استثنى الرأس والجلد جاز، وله قيمة الجلد والرأس إن لم يذبح. قيل له: فإن استثنى الشحم؟ فقال: لا أدري! وكأنه كرهه. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يصح هذا الاستثناء. دليلنا: ما تقدم من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم. وهذا معلوم. ولأنه إجماع الصحابة. روى أبو حفص العكبري بإسناده عن عروة قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة، فسلكوا طريق ركونة، فمروا براعي غنمٍ، فذهب أبو بكر وعامر، فاشتريا شاة،

وشرطا له سلبها. وروى أبو بكر بإسناده عن الشعبي قال: قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بقرة باعها رجل، واشترط رأسها، فقضوا بالشروى؛ يعني: أنه يعطيه رأسًا مثل رأس. وروى عبد الله قال: حدثني أبي قال: نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن بشير، عن عمرو بن راشد الأشجعي: أن رجلًا باع بختية، واشترط ثناياها، فرغب فيها، فاختصما إلى عمر، فقال: اذهبا إلى علي، فقال علي: اذهبا إلى السوق، فإذا بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه حساب ثناياها من ثمنها. وهذا إجماع منهم منتشر ظاهر. ولأن الاستثناء والمستثنى منه معلومان، فصح البيع، كما لو قال: بعتك هذه الغنم العشرة إلا هذه الشاة. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن الثنيا. والجواب: أنا قد روينا فيه زيادة، وهو قوله: إلا أن تعلم، وهذا معلوم.

واحتج بأنه باع حيوانًا، واستثنى جزءًا منه، فلم يصح، كما لو استثنى أرطالًا، واستثنى شحمها. والجواب: أن الشحم مجهول فلم يصح، واستثناء جزء منها يؤدي إلى جهالة المستثنى منه، وهوا ما يبقى، فهو كاستثناء صاع معلوم من الثمن؛ فإنه لا يصح لهذه العلة. وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يوجب جهالة الباقي؛ لأنه معلوم بالمشاهدة، فهو كما لو باع ثمرة هذه النخيل إلا ثمرة هذه النخلة. على أن مهنا قد نقل عنه: أنه إذا قال: أبيعك هذه الشاة بعشرين درهمًا على أن لي رأسها، فلا بأس. قيل له: وكذلك إذا قال: أبيعك هذه الشاة على أن لي من لحمها خمسة أرطال؟ قال: نعم، لا بأس به. وظاهر هذا جواز ذلك، والصحيح عندي المنع. واحتج بأنه لما لم يجز إفراد السواقط بالعقد لم يصح استثناؤها. والجواب: أنه لا يصح اعتبار الشراء بالاستثناء؛ لأنه لو ابتاع أرطالًا من ثمرة بستان صح الشراء، ولو استثنى أرطالًا منها لم يصح. ولأنه لو باع دارًا واستثنى أساساتها أو استثنى مطامير فيها صح، ولو ابتاع ذلك لم يصح البيع، كذلك هاهنا. واحتج بأنه استثناء ما لا يجب تسليمه؛ لأنه لو امتنع المشتري من

مسألة توضع الجائحة عن المشتري في ما قل وكثر في أصح الروايتين

الذبح لم يجبر عليه، فلم يصح الاستثناء. والجواب: أنا نقول بأن الاستثناء يضمن أحد شيئين؛ السواقط، أو قيمتها، كما قلنا في من تزوج ثيبًا على قديمة كان حقها في أحد شيئين؛ الثلث بلا قضاء، أو السبع مع القضاء. ... 308 - مسألة توضع الجائحة عن المشتري في ما قل وكثر في أصح الروايتين: نقلها الأثرم وأبو طالب. وروى حنبل عنه: توضع إذا أتت على ثلث الثمرة فأكثر. وهو قول مالك. وقال أبو إسحاق في (تعاليقه): الجوائح بأربعة: النار، والريح، والبرد، والمطر. وقال أبو حنيفة: لا يوضع منها شيء. وهو الأظهر من قول الشافعي. دليلنا: ما روى أحمد بإسناده عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين، ووضع الجوائح.

فإن قيل: قال سفيان بن عيينة: كان حميد يذكر كلامًا بين السنين وبين وضع الجوائح لم أحفظه عنه. وهذا يسقط الاحتجاج به؛ لأنه ربما كان ذلك الكلام يغير الأحكام. قيل له: هذه الزيادة لم يروها أحمد، فلا يلزمنا الكلام عليها. فإن قيل: يحتمل أن يكون أمر العمال بوضع الجوائح عن مالك الثمار حتى لا يأخذوا عشرها. قيل له: قد روي في لفظ آخر مفسرًا: (إذا بعت من أخيك [ثمرًا]، فأصابته جائحة، فلا تأخذ من ثمنها شيئًا، بم تأخذ مال أخيك؟!). وهذا صريح في أن الوضع راجع إلى الثمر دون العشر. وروى أحمد: ثنا روح، ثنا ابن جريجٍ، أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا). وقوله: (إن بعت) خطاب للبائع، وقد نهاه عن الأخذ، فعلم بهذا أن ما أبهمه في موضع آخر المراد به المشتري. والثاني: أنه خص ذلك بالجائحة من السماء، ولو كان المراد به البائع، لم يخص ذلك؛ لأنه لا فرق بين الجائحة من السماء وغيرها في

أنها لا تلزم البائع، بل توضع عنه، وإنما يفترق الحال في حق المشتري على قولنا. والثالث: أن البائع هو الذي وضع [عن] المشتري؛ لأن التلف يكون من مال المشتري عند المخالف، والبائع لم يتلف منه شيء، فعلم أن قوله: (ووضع الجوائح) عمن أصابته الجائحة، والإصابة حصلت بالمشتري. فإن قيل: نحمل هذا على أن البيع على ثمار لم يبد صلاحها، ولم تخلق، كعادتهم، وأنهم كانوا يبيعون ثمرة سنين؛ فإن الهلاك يكون من مال البائع. أو نحمله على أنها ثمرة موجودة قد بدا صلاحها، لكنها تلفت قبل التسليم إلى المشتري. قيل له: لا يصح حمله على ثمرة لم تخلق، أو خلقت ولم يبد صلاحها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر الجائحة في ذلك، وأمر بوضعها، ولو كان المراد به ما قالوه لم يكن لذكر الجائحة فائدة؛ لأن المبيع يكون من مال البائع؛ لأنه يقع باطلًا سواء أصابته جائحة، أو لم تصبه. ولأنه اعتبر في ذلك أن تكون جائحة من السماء، ولو كان المراد به ما قالوه لم يفترق الحال بين ما كان من السماء، أو من جهة آدمي. وقولهم: (نحمله على أن الهلاك حصل قبل القبض) لا يصح أيضًا؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن لتخصيصه بالثمرة فائدة؛ لأن كل مبيع إذا

تلف قبل قبضه عندهم يتلف من مال البائع. ولأنه لو كان كذلك لم يخصه بما كان من جهة السماء؛ لأنه يتلف قبل القبض من مال البائع سواء كان من جهة الله تعالى، أ, من جهة آدمي. ووجه آخر، وهو: أن الثمار على رؤوس النخل تجري مجرى الإجارة؛ لأن الثمار توجد حالًا فحالًا، كالمنافع تستوفى أولًا فأولًا، ثم المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المكري، كذلك الثمار يجب أن تكون من ضمان البائع. فإن قيل: إنما كانت المنافع من ضمان المكري؛ لأنها غير مقبوضة قبل مضي المدة، وليس كذلك الثمرة؛ لأنها مقبوضة. يبين صحة هذا: أنه لا فرق في المنافع بين أن يكون الإتلاف من جهة آدمي، أو من جهة الله- تعالى- في باب الضمان، وفي الثمرة يفترق الحال. قيل له: لا فرق بين المنافع وبين الثمار في أن كل واحد منهما في حكم المقبوض من وجه، وهو جواز التصرف في كل واحد منهما، والعقد عليه، فيجب أن يكون في حكم ما لم يقبض من وجه آخر، وهو: أنه يكون ضمان للبائع، كما كانت المنافع من ضمان المؤجر، لمشاركتهما في أن كل واحد منهما يستوفى أولًا أولًا. وقولهم: إنه لا فرق في الإجارة بين أن يتلف من جهة آدمي، أو

من جهة الله تعالى، فلا يمتنع أن يتساويا. فنقول: إن تلفت يد العبد بأكله رجع بالأجرة على المؤجر، وإن أتلفها أجنبي رجع عليه بقيمة المنفعة. ونبني المسألة على أصل، وأن مجرد التخلية في بيع الثمار لا يكون قبضًا. والدلالة عليه: اتفاقنا على أنها لو تلفت بعطش كانت من ضمان البائع، فلو كانت مقبوضة بنفس التخلية، لم يكن ضمانها من البائع بوجه، كالعبد والثوب. فإن قيل: قد يتصور القبض من غير تمام. ألا ترى أن من ابتاع صبرة على أنها كر، وصدقه المشتري على ذلك، وقبضها، كان القول قوله في قدر ما خرجت حتى يكيلها البائع عليه، فيتم القبض. قيل له: ما اتفقا على قدره، فالقبض فيه تام، وما اختلفا فيه فالقول فيه قول المشتري، وإذا كان كذلك لم نسلم أن القبض هناك غير تام. وأيضًا لما لم يكن للبائع مطالبة المبتاع بقطعها، علم أنها غير مقبوضة، ولم ينفع وجود التخلية، كمن ابتاع طعامًا من رجل، وكاله ليلًا، وخلى بينه وبينه، لم يلزمه نقله حتى يصبح، ولم تكن تلك التخلية قبضًا له. فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم؟ وعندكم أن المبيع إذا تعين

بالعقد فهو في حكم المقبوض. قيل له: إنما نقول هذا في مبيع يقبض في وقت واحد، وفي مبيع يملك البائع مطالبة المشتري بنقله، وهذا معدوم هاهنا. وأجود من هذه العبارة أن نقول: في مبيع لم ينقطع علق البائع منه، وهو التعاهد بالسفي، فكان من ضمانه. دليله: لو ابتاع قفيزًا من صبرة، وتلفت الصبرة قبل قبضها، والعلة هناك تميزه من ملكه. ولأنها ثمرة مبيعة محتاجة إلى تبقيتها في النخل تلفت بآفة سماوية، فوجب أن تكون من البائع. أصله: إذا تلفت قبل القبض. فإن قيل: إذا تلفت قبل القبض فهي من ضمان البائع؛ سواء تلفت بآفة سماوية، أو أرضية. قيل له: لا نسلم هذا. ولأنه مبيع لا يمكن قبضه عقيب العقد، فإذا تلف بغير فعل آدمي لم يسقط حق المشتري، كما لو ابتاع طعامًا كثيرًا. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الثمار حتى تزهي. قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر. قال: (أرأيت إن منع الله

الثمرة، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟!). فمنع من البيع، وعلل بأن الثمرة ربما تلفت، فيأخذ البائع مال المشتري بغير حق، فلو كان الضمان على البائع لما كان يأخذ مال أخيه. والجواب: أن قوله: (بم يأخذ)؛ معناه: بم يعتقد أنه يجوز له الأخذ، أو بم يستحل جواز الأخذ. فخرج هذا مخرج الإنكار على البائع في أخذه الثمن، كما قال تعالى: {وكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]؛ معناه: كيف يجوز لكم أخذه وقد أفضى؟! واحتج بما روى أحمد بإسناده عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقوا عليه). قال: فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك). الدلالة من الخبر: أنه قال: (أصيب في ثمار ابتاعها، فكثر دينه)، فلو كانت من ضمان البائع لم يكثر دينه؛ لأنه كان يأخذ منه الثمن، فعلم أنه كثر دينه؛ لأن الثمر تلف من ضمانه. والجواب: أنه يتحمل أن يكون أصيب فيها بأمر من جهة آدمي،

أو أصيب فيها بعد أن بلغت أوان نقلها حتى تلفت؛ فإنها تكون من ضمانه. واحتج بما روى أحمد بإسناده عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: بأبي وأمي! ابتعت أنا وابني من فلان ثمر أرضه، فأتيناه نستوضعه؛ والله ما أصبنا من ثمره شيئًا، إلا شيئًا أكلناه في بطوننا، أو نطعمه مسكينًا رجاء البركة، فحلف: أن لا يفعل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تألى أن لا يفعل خيرًا! تألى أن لا يفعل خيرًا! تألى أن لا يفعل خيرًا!)، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إن شئت الثمر كله، وإن شئت ما وضعوا، فوضع عنهم ما وضعوا. قالوا: فوجه الدلالة: أنه لم يقل لها: إن ذلك يلزم البائع، بل قال: حلف أن لا يفعل خيرًا، فجعل الوضع من فعل الخير. والجواب: أنه يحتمل أن يكون القوم استوضعوه لجميع ما تلف وما أكلوه وتصدقوا به، فأبى ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تألى أن لا يفعل خيرًا!) في أن يضع الجميع، ولا يلزمه جميع ذلك، وإنما يلزم بقدر ما تلف. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: فإن أصيب بعضه، يضع

عنه بقدر ذلك. ويحتمل أن تكون الإصابة بفعل آدمي، أو بعد أن بلغت أوان نقلها، فأحب له النبي - صلى الله عليه وسلم - رد الثمن؛ لأنه أكمل الأخلاق وأشرفها. واحتج بما روى أبو الزبير عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى ثمرًة، فأصابتها جائحة، فهو من مال المشتري، ولا يرجع على البائع بشيء). والجواب: أن هذا الخبر لا يعرف، ولا يمكن أن يقام له إسناد. ولو صح حملناه على أنها أدركت، وجاء أوان جذاذها ونقلها، فلم ينقلها حتى ذهبت، فتكون من ضمان المشتري؛ لأنه إذا ترك النقل في وقته مع القدرة عليه فهو المفرط. ويحتمل أن يحمل على أن الجائحة من جهة آدمي. واحتج بأنه مبيع لو أتلفه آدمي كان من ضمان المشتري، فإذا تلف بجائحة سماوية وجب أن يكون من ضمانه، كما لو كان المبيع ثوبًا، أو عبدًا، فتلف بعد القبض. والجواب: أنه إذا تلف بفعل آدمي رجع بالضمان على المتلف، فلا ضرر على المشتري في ذلك، وإذا تلف بفعل الله- تعالى- لم يرجع على أحد بشيء، فعليه فيه ضرر، فجاز أن يرجع على البائع لعدم كمال القبض. ولهذا قلنا: إن الغاضب إذا غصبت منه العين، وتعذر الرجوع على

الغاصب الأول، رجع على الثاني، ولو لم يكن غاصب آخر سقطت مطالبته. وكذلك إذا كان بالحق ضامن، وتعذر المضمون عنه، رجع على الضامن. وكذلك العبد الجاني لو أتلفه متلف، رجه المجني عليه [عليه]، ولو مات سقط حقه. وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن لا يسقط حق المشتري بفعل الله، ويسقط بفعل الآدمي، كالموت؛ لا يسقط الإرث، والقتل يسقطه، وكذلك الخمر إذا تخللت بفعل الله تعالى. وأما الثوب والعبد فالمعنى فيه: أن كمال القبض قد وجد فيهما، وليس كذلك هاهنا؛ لأن القبض التام لم يوجد بدليل: أنها لو عطشت كانت من ضمان البائع، فبان الفرق بينهما. واحتج بأن المشتري ملك التصرف فيه، فكان من ضمانه. دليله: ما ذكرنا. والجواب: أن أبا بكر عبد العزيز قال في (تعاليق أبي إسحاق): إذا اشترى الرجل الثمرة وقد بدا صلاحها، وقبضها المشتري، ليس له أن يبيعها. قال: وهو قول زيد بن ثابت. قال: وهو قول أحمد: إنه لا يبيعها المشتري حتى يصرمها.

وهذا صريح من أبي بكر بالمنع من التصرف فيها بالبيع. وجهه: أنه مبيع لو تلف قبل قبضه كان من ضمان البائع، فلم يجز له التصرف فيه. دليله: لو ابتاع قفيزًا من صبرةٍ. وعلى أن ثبوت التصرف لا ينفي الضمان على البائع بدليل أن المستأجر ملك التصرف في المنافع، ومع هذا فلا ننفي الضمان عن المؤجر. وكذلك المبتاع ملك التصرف في العبد المشترى قبل القبض بالعتق، ومع هذا فلو تلف كان من ضمان البائع عندهم. وكذلك إذا ابتاع عبدًا قد وجب عليه القصاص، فقتل في يد المشتري؛ فإنه من ضمان البائع، وإن كان قد ملك التصرف. ثم المعنى في الأصل: ما ذكرنا. واحتج بأنه لو كانت من ضمان البائع، لوجب أن تكون الثمرة بعد خرصها في يد المالك من ضمان الفقراء، حتى إذا تلفت بآفة سماوية تسقط عنه الزكاة. والجواب: أنا هكذا نقول، وأن الزكاة تسقط. نص عليه في رواية حنبل، فقال: إذا خرص، وترك في رؤوس النخل، فعليهم حفظه، فإن أصابته آفة جائحة، فذهبت الثمرة، سقط عنه

الخرص، ولم يؤخذ به. واحتج بأنه لو كانت الثمرة من ضمان البائع، لوجب أن يكون الزرع من ضمان البائع أيضًا، وهو إذا ابتاع حنطة في سنبلها بعد إصلاحها، أو باقلًا في قشرته العليا، فتلف قبل قبضه. والجواب: أنا لا نعرف الرواية في ذلك، ويحتمل أن يقال: إنه من ضمان البائع، كالثمار؛ لأن أحمد أسقط عن أرباب الزرع الزكاة في مقدار ما يأكلون، كما أسقطه في الثمار، ذكره في رواية المروذي، وجعل الحكم فيها سواء. ويحتمل أن يفرق بينهما، ويكون الزرع من ضمان المشتري، والثمرة من ضمان البائع، وهو أشبه؛ لأن الزرع والباقلا لا يجوز بيعه من غير شرط القطع إلا بعد تكامل صلاحه وأوان جذاذه، فإذا تركه بعد ذلك فرط، فضمنه، وليس كذلك الثمار؛ لأنه يجوز بيعها بعد بدو الصلاح، وقبل تكامل ذلك على الترك، فهو غير مفرط. فإن قيل: فما تقولون فيه إذا أدركتها الجائحة بعد أوان جذاذها ونقلها، إلا أنه لم ينقلها. قيل له: ظاهر كلام أحمد: أنها توضع عنه أيضًا؛ لأنه أطلق القول بالوضع، ولم يفرق؛ لأن الجائحة حصلت قبل القبض، فأشبه إذا وقعت قبل أوان الجذاذ. ويحتمل أن لا توضع عنه؛ لأنه إذا ترك النقل في وقته مع القدرة

عليه، فهو مفرط فيه، فلهذا كان عليه الضمان. * فصل: والدلالة على أنها توضع فيما دون الثلث خلافًا لمالك ورواية حنبل: ما تقدم من الأخبار، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضعها، ولم يعتبر في ذلك مقدارًا. فإن قيل: روى ابن وهب قال: أخبرني زيد بن عياض، عن رجل حدثه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معنٍ الأنصاري: أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا ابتاع المرء الثمرة، فأصابته عاهة تذهب بثلث الثمرة، فقد وجب على صاحبه الوضيعة في المال). فخص ذلك بالثلث، وهذا مقيد، فهو يقضي على تلك الأخبار المطلقة. قيل له: هذا الخبر غير معروف، ولا يقوم به سند. وعلى أن نطقه: أن الجائحة إذا ذهبت بالثلث، وجب على صاحبه، ونحن نقول بذلك. ودليله: أن ما دون الثلث لا يجب على صاحبه. ولفظ خبرنا عام، وفيه تعليل يدل على القليل، وهو قوله: (بم يأخذ مال أخية؟!).

فإن قيل: فعلماء أهل المدينة أجمعوا على تقدير ذلك بالثلث، فلولا أن الخبر وارد بالثلث لم يقدروه بذلك؛ لأنهم أعرف به من غيرهم. فروى عبد الرحمن بن القاسم وربيعة وأبي الزناد، عن القاسم بن محمد قال: إذا أصيب المبتاع بثلث الثمن، فقد وجب على البائع الوضيعة. وعن ربيعة وأبي الزناد قالا: لا وضيعة في الجائحة. وعن يحيى بن سعيد مثل ذلك. قيل له: علماء أهل المدينة تأولوا ظاهر الخبر، كما تأولته، وخصوه على الثلث، كما خصصته، ولا يلزمنا قولهم. والقياس: أنها ثمرة مبيعة محتاجة إلى تبقيتها في النخل، فإذا تلفت كانت من ضمان البائع. دليله: الثلث فصاعدًا. أو كل ما كان سببًا في الضمان على البائع إذا وافق الثلث فصاعدًا، كان سببًا في ضمانه في ما دون الثلث. دليله: إذا تلفت بعطش. ولأنه لا يخلو؛ إما أن تكون مقبوضة، أو لا تكون، فإن كانت مقبوضة، وجب أن لا يفرق بين الثلث وما دونه، كسائر المبيعات بعد القبض، وإن لمتكن مقبوضة، وجب أن لا يكون من ضمانه شيء، كسائر المبيعات قبل القبض. فإن قيل: الثمرة لا بد أن يطرح الطير منها والريح وغير ذلك الشيء

مسألة بيع العرايا جائز- وهو: بيع ثمرة على النخل خرصا بمثله من التمر الموضوع على الأرض نقدا من الواهب لها ومن غيره- إذا كان دون خمسة أو سق لمن به حاجة إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه، فإن لم يكن به حاجة لم يجز

اليسير، فلو قلنا: هو من ضمان البائع، كان تعسفًا، ولو قلنا: الكل من ضمان المشتري، كان ضررًا عليه، فحددناه بالثلث، فقلنا: الثلث فما دون من ضمان البائع، وما نقص من ضمان المشتري؛ لأن الثلث آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، وقد جعلت مقدارًا في الأصول بدليل: الوضيعة، وتحمل العاقلة، ومساواة جراح المرأة جراح الرجل. قيل له: فيجب أن يعتبر مثل هذا إذا تلفت بعطش. وعلى أن العادة لم تجر في ذلك بمقدار الثلث والربع، وإنما جرت بالشيء اليسير الذي هو دون الثلث بكثير، فكان يجب أن نقول: ما يخرج عن العادة يضمن. ... 309 - مسألة بيع العرايا جائز- وهو: بيع ثمرةٍ على النخل خرصًا بمثله من التمر الموضوع على الأرض نقدًا من الواهب لها ومن غيره- إذا كان دون خمسة أو سقٍ لمن به حاجة إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه، فإن لم يكن به حاجة لم يجز: نص على هذا في رواية الجماعة؛ صالح وأبي الحارث وابن القاسم وسندي: فقال في رواية ابن القاسم وسندي: العرية: أن يهب الرجل للجار،

أو ابن العم النخلة والنخلتين؛ ما لا تجب فيها الزكاة، فللموهوب أن يبيعها بخرصها تمرًا. ومالك يقول: لا يبيعها إلا من ربها الذي وهبها. وله أن يبيعها ممن شاء من الناس. ومالك يقول: يبيعها إلى الجذاذ بثمن، ولا يبيعها بتأخير، إنما يبيعها ممن يقبضه. وقال الخرقي: يبيعها لمن يأكلها رطبًا، فإن تركه المشتري حتى يتمر، يبطل البيع. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك بحال. وقال مالك: يجوز بيعها من واهبها خاصة دون غيره من الناس، ولا يجوز بيعها بتأخير الثمن عن وقت العقد، وهل يختص ذلك بما دون خمسة أوسق؟ على روايتين. وقال الشافعي: يجوز بيع العرية للمحتاج إلى أكل الرطب أو غير المحتاج فيما دون خمسة أوسقٍ قولًا واحدًا، وفي خمسة أوسق فصاعدًا قولان: أحدهما: المنع. والثاني: الجواز. فالدلالة على جواز بيع العرية في الجملة خلافًا لأبي حنيفة: ما روى أحمد في (المسند) بإسناده عن سهل بن أبي حثمة قال: نهى

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا أن تشترى بخرصها يأكلها أهلها رطبًا. وروى أبو داود بإسناده عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب. وروى- أيضًا- بإسناده عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا فيما دون خمسة أوسقٍ، أو في خمسة أوسق. شك داود بن الحصين. وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن زيد بن ثابت قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العرايا؛ نخل المدينة كانت توهب للمساكين، فلا يستطاع أن ينتظر بها، فيباع ثمرها بما شاؤوا من تمر. وروى محمود بن لبيد: أنه قال لرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إما زيد بن ثابت، وإما غيره: ما عراياكم هذه؟ فقال- وسمى رجالًا محتاجين من الأنصار-: شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي، ولا نقد

بأيديهم يبتاعون بها رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم؛ يأكلونه رطبًا. وهذه الأخبار نصوص في جواز بيع العرية. فإن قيل: هذا عندنا، وهذا محمول على رجل وهب ثمرة نخلة لرجل، فلم يجذها الموهوب له حتى يبدو للواهب، فيمنعه منها كراهية أن يدخل بستانه، فيضر به، ويعوضه منها خرصها تمرًا، ويقبل ذلك الموهوب له، فتطيب للواهب والموهوب، ويخرج من حكم من وعد وعدًا، ثم أخلفه، ويخرج الموهوب من حكم من أخذ عوضًا عن شيء لم يملكه، فيجوز ذلك؛ لأن الغرض منه إيصال هذا القدر إليه. قالوا: ويبين صحة هذا التأويل: العرية مأخوذة من العارية، والعارية تمليك بغير بدلٍ إلا أنه يختص تمليك المنافع، والعرية تمليك الأعيان بلا بدل، وإنما اختلف بناء اللفظتين في الوضيعة لاختلاف المعبر عنه، كما تقول: عدل وعديل، وحصان وحصين، ورزان ورزين.

ويدل عليه قول الشاعر: ليست بسهناء ولا رجبيًة ... ولكن عرايا في السنين الجوائح فمدح النخيل بأنها موهوبة الثمرة في السنين التي تصيب الثمار آفة فتجتاحها، ولو كانت العرية بيعًا لما كان ذلك مدحًا. قالوا: ويدل عليه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خرصتم فدعوا الثلث، أو الربع؛ فإن في المال العرية والوصية). وروي: (خففوا في الخرص؛ فإن في المال العرية والوصية). فضم العرية إلى الوصية، والوصية تمليك بغير بدل، وكذلك العرية. ولأنه أمر بتخفيف الخرص لأجله، ومنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث أبا حثمة خارصًا، فجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إن أبا حثمة زاد علي في الخرص، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: (إن ابن

عمك يزعم أنك زدت عليه في الخرص)، فقال: يا رسول الله! قد تركت عليه خزمة أهله. فدل على أنه أراد ما يهبه أهله؛ إذ لو كان المراد به البيع لما تركها عليه. قيل له: العرية ليست هي العطية فحسب، بل هي اسم لكل ما أفرد عن جملة؛ سواء كان للهبة، أو للبيع، أو للأكل. هكذا قال أبو عبيدٍ. ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا زكاة في العرية)، والمراد به: ما يفرده من المال ليأكله، ولهذا تسقط الزكاة فيه عندنا. وإذا كانت اسمًا لكل ما أفرد عن جملة؛ سواء كانت لهبة، أو لبيع، لم يمكن حملها على الهبة في هذا الموضع لوجوه كثيره، منها: أنه نقل عنه: أنه أرخص في بيع العرايا. وما ذكروه ليس ببيع، وإنما هو رجوع في الهبة، فالاسم لا يتناوله حقيقة، ولا مجازًا. فإن قيل: لما كان معناه عندنا: أن الواهب يعاوض الموهوب على ذلك خرصًا سماه بيعًا على طريق المجاز، كما قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُم} [التوبة: 111]، وأطلق اسم الشراء على ما ليس بشراء حقيقة على طريق التشبيه.

وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الناس غاديان؛ بائع نفسه فموبقها، ومشترٍ نفسه فمعتقها). قيل له: نفس الحر لا يمكن بيعها، فجاز أن يحمل البيع فيها على المجاز، وبيع التمر بالتمر يمكن حمله على الحقيقة في الشرع، فلم يجز حمله على المجاز. وما ذكروه من الرجوع في الهبة لا يسمى بيعًا حقيقة، ولا مجازًا. الثاني: قوله: رخيص في بيع العرايا. فسماه رخصة، وهذا الاسم لا يقع إلا على ما فيه ضرب من التسهيل والتخفيف، وإنما يكون هذا في العرايا؛ لأنه مستثنى من بيع الرطب بالتمر، فأما فيما ذهبوا فليس فيه ضرب من التخفيف. الثالث: قوله: فيما دون خمسة أوسق. وما ذكروه لا يختص بهذا القدر، بل يجوز في هذا القدر وزيادة عليه. فإن قيل: يجوز أن يكون السؤال وقع عن هبة هذا المقدار، فخرج جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سؤال السائل، فرخص له في هبته على هذا الوجه. قيل له: هذا الكلام خرج منه ابتداًء، ولم يخرج على سؤال سائل.

والرابع: قوله: رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا. ولا تأثير للخرص عندهم. فإن قيل: نعتبر الخرص، ولكن لا نجعله مستحقًا، بل نعتبره؛ لنخرج به من حكم من وعد وعدًا، فأخلفه. قيل له: فالخبر يقتضي كونه شرطًا؛ لأنه علق جواز ذلك بشرط الخرص. الخامس: قوله: يأكلها أهلها رطبًا. فبين أنه إنما جاز بيع العرايا؛ ليحصل لمن يشتريها رطب يأكله، والموضع الذي حملوا عليه الخبر لا يوجد فيه هذا؛ لأن الرطب هناك لصاحب النحل، فلا يحتاج أن يدفع التمر ليحصل الرطب؛ لأن الرطب ملك له. السادس: أن الراوي قد نقل خلاف ما قالوا، وهو حديث محمود: أن قومًا شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعوا به رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونه رطبًا. وهذا يمنع أن يكون المراد بالرخصة الهبة على الوجه الذي ذكرتم.

فإن قيل: يحمل هذا على أنه أجاز هذا البيع قبل تحريم الربا، فلما نزل تحريم الربا نسخه. قيل له: لو كان كذلك لما خص بما دون خمسة أوسق. وعلى أنه رخص في العرايا في الموضع الذي نهى عن بيع التمر بالتمر، وذلك النهي كان في الحالة التي يحرم فيها الربا. وقد قيل: إن كل عقد جاز في دار الحرب، جاز في دار الإسلام. دليله: بيع التمر بالتمر. وليس لهم أن يقولوا: إن الربا لا يجري في دار الحرب؛ لأنا لا نسلم ذلك. وإن شئت قلت: كل بيع لو اتصل به القبض صح، كذلك إذا لم يتصل به. دليله: ما ذكرنا. وعكسه: سائر العقود الفاسدة. وإن شئت قلت: بيع رطب بتمر خرصًا على رؤوس النخل، فجاز. دليله: اليسير، كالتمرة والتمرتين. وليس لهم أن يقولوا: إن علة الربا لا توجد في اليسير؛ لأنا قد

بينا في علة الربا: أن اليسير يوجد فيه الكيل على قدره. وقيل: إن الخرص قد ورد الشرع بكونه تتقدر به الأشياء، فجاز أن يتخلص به من الربا. دليله: الكيل والوزن. وقد ورد الشرع بالخرص؛ ليعرف مقدار النصاب الذي تجب فيه الزكاة بدليل قوله: (يخرص النخل فتؤدى زكاته تمرًا، كما يخرص العنب فتؤدى زكاته زبيبًا). وعندهم أن الخرص لا يتخلص به من الربا بحال. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن المزابنة. وهي: بيع الثمرة على رؤوس النخل بخرصها تمرًا. والجواب: أن هذه الأخبار مطلقة في النهي، وفي أخبارنا زيادة، وهو: أنه نهى عن ذلك، وأرخص في العرايا، والأخذ بالزائد أولى. ولأنا نحمل النهي على خمسة أوسق فصاعدًا بدليل ما ذكرنا من أخبارنا، وهي خاصة. واحتج بأنها لو كانت موضوعة على الأرض لم يجز بيعها بخرصها تمرًا، كذلك إذا كانت على رؤوس النخل قياسًا على ما زاد على خمسة

أوسق إذا كانت أقل. دليله: إذا كانت على الأرض. والجواب: أن هذا قياس يسقط نصوص الأخبار التي ذكرناها، ولا يجوز استعماله مع إسقاط النص، ولهذا قال أبو حنيفة: القياس يقتضي أن الأكل ناسيًا يفطر، لكن تركته لحديث أبي هريرة: (إن الله أطعمك وسقاك)، ونترك القياس في الوضوء بنبيذ التمر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ به في حديث ابن مسعود، كذلك هاهنا. وعلى أن ما زاد على خمسة أوسق قدر كثير لا تدعو الحاجة إلى جواز بيعه، وكذلك الرطب على الأرض لا حاجة إلى جواز بيعه بالخرص، فلم يجز، وما دون خمسة أوسق قليل تدعو الحاجة إلى جواز بيعه على رؤوس النخل بالتمر؛ ليحصل للمشتري رطب يأكله مع الناس، وهذا هو المعنى الذي جوز بيع العرايا لأجله. وقد تبيح الحاجة البيع، وتوجب العفو، كما نقول: إن القياس يقتضي أن لا يصح عقد الإجارة؛ لأنها تعقد على معدوم، وكذلك السلف، ولكن الحاجة لما مست إليه أجيز، ورخص فيه. ولهذا فرقنا بين ما دون خمسة أوسق وبين الخمسة؛ لأن ما دونه

في حكم القليل، ولهذا نقول: ما نقص من الثمار لا تجب فيه الزكاة للقلة. واحتج بأن ما يعتبر فيه استيفاء المماثلة من جهة الكيل إذا كان أكثر من خمسة أوسق، اعتبر- أيضًا- إذا كان دون خمسة أوسق. دليله: التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير. والجواب عنه: ما تقدم. * فصل: والدلالة على مالك في جوازه من الواهب له ومن غيره: ما تقدم من الأخبار. ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز بيع العرايا، ولم يخص بها أحدًا، فدل على جوازها في حق الواهب وغيره. ولأن كل عقد جاز مع الواهب جاز مع غيره. دليله: سائر العقود. ولأن الأصل في جواز بيع العرية: أن الحاجة تدعو إلى ذلك ليحصل للمشتري رطب يأكله مع الناس، وقد دل على ذلك حديث محمود بن لبيد، ولا حاجة للواهب إلى ذلك؛ لأن النخل له.

ولأن بيعها من غيره يحصل به سد الحاجة، كما يحصل به منه، فلا معنى لتخصيصه. فإن قيل: نسلم لكم: أنها جوزت للحاجة، ولكن الحاجة غير ما ذكرت، وإنما هي: أن الواهب يلحقه ضرر بدخول الموهوب له وخروجه إلى بستانه لأجل النخلة، فرخص في بيعها منه لتزول عن الواهب هذه الضرورة. قالوا: والذي يدل على أن هذا هو الأصل ما روى حماد بن سلمة، عن أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى المبتاع والبائع عن المزابنة. قال: وأرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العرايا؛ النخلة والنخلتين توهبان للرجل، يبيعها بخرصها تمرًا. قيل له: قد روينا في حديث محمود بن لبيد نصًا صريحًا: أن القوم شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلوه مع الناس، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم. فتبين أن الرخصة خرجت على هذا دون ما قالوه.

ولأنه لو كان كما قالوا، لم يختص ذلك بما دون خمسة أوسق، ولوجب أن يجوز زيادة على ذلك؛ لوجود الضرر في الكثير، كما هو في القليل، ولما خصوه بما دون خمسة أوسق، دل على أن الحاجة إلى ذلك ما ذكرنا من أكل الرطب. وأما حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا؛ النخلة والنخلتين توهبان للرجل. فليس فيه تخصيص ببيعها من واهبها، أو من غيره، فالخبر مطلق، فوجب حمله على عمومه. * فصل: والدلالة على أنه لا يجوز بيعها نسيئًا خلافًا لمالك أيضًا: ما روى أبو الحسن الدارقطني بإسناده عن سعد بن أبي وقاص قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر نسيئة. وهذا عام في بيعه مطلقًا، وفي بيعه على وجه الأرض. ولأنه جنس فيه الربا، بيع بعضه ببعض نسيئًا، فلم يجز. دليله: بيع التمر بالتمر، والرطب بالرطب، والبر بالبر، ونحو ذلك مما يجري فيه الربا. فإن قيل: لما فارقت العرية غيرها في جواز بيع الرطب بالتمر خرصًا على طريق الرخصة، جاز أن تفارق غيرها في باب الأجل.

ولأنه لما كان موضوع العرية لأجل الحاجة، وهو أكله للرطب، فمعنى الحاجة موجود هاهنا، وهو أن لا يجد تمرًا يبتاع به الرطب، فجاز أن يبتاع في ذمته. قيل له: ليس إذا دخلها الربا من وجهٍ، يجب أن يدخلها من وجه آخر، ألا ترى أنه لا يجوز بيعها متفاضلًا؟ ولأنه إنما جاز بيعه خرصًا؛ لأنه يتعذر كيله، والقبض في المجلس غير متعذر. ولأن مالكًا أجاز بيع الموزونات جزافًا عند عدم الميزان، ولم يوجب ذلك جواز بيعها نسيئًا. * فصل: والدلالة على أنه لا يجوز ذلك ممن لا حاجة به إلى أكل الرطب خلافًا للشافعي، وهو: أن العرية مستثناة لأجل الحاجة الداعية إلى أكل الرطب لمن لا تمر معه، وبهذا وردت السنة في حديث محمود بن لبيد قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم؛ يأكلون به رطبًا. فرخص لهم لأجل الحاجة إلى أكله. وكذلك في حديث سهل بن سعد: يأكلها أهلها رطبًا. وإذا كانت الرخصة وردت على هذا الوجه، وجب أن تكون مقصورًة عليه.

والذي يبين صحة هذا: أنهم خصوا ذلك بما دون خمسة أوسق على الصحيح من قولهم. فإن قيل: لا يمتنع أن يعلق الحكم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعنى، ثم يكون ذلك الحكم ثابتًا في عدم معناه، ألا ترى أن السعي والرمل والاضطباع في الحج كان لسبب، وهو: أن مكة كانت دار شرك، وقصدوا ذلك إظهار الجلد عليهم، ثم مع هذا فالسنة باقية، كذلك هاهنا. قيل له: الأصل في هذا: أن الحكم إذا تعلق بمعنى أن يزول بعدم معناه، فإن وجدنا في موضع بقاء الحكم مع عدم معناه فلدليلٍ دل عليه، وهناك دل الدليل من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو: أنه استدام الرمل في وقته بعد زوال معناه. واحتج المخالف بعموم الأخبار: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا. وهذا عام في الغني والمحتاج. والجواب: أنا قد روينا في حديث سهل زيادة: وهو قوله: يأكلها أهلها رطبًا. وفي حديث محمود: أن هذا الإطلاق خرج على وجه الرخصة. واحتج بأن كل بيع [جاز مع الفقراء] جاز مع الأغنياء، كسائر البيوع.

والجواب: أن سائر البيوع لا يختلف الغرض فيها بالفقراء والأغنياء، وهذا البيع يختلف الغرض فيه من الوجه الذي ذكرنا. * فصل: والدلالة على أنه لا يجوز بيع ذلك إذا كان خمسة أوسق خلافًا للشافعي في أحد القولين، ولمالك في إحدى الروايتين: ما تقدم من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا فيما دون خمسة أوسق، أو خمسة أوسق. الشك من داود بن الحصين. فموضع الدلالة: أن الأصل قد ثبت في النهي عن المزابنة، وهو: بيع التمر بالتمر مطلقًا، وورد الخبر في الرخصة في أقل من خمسة أوسق من غير شك، ووقع الشك في الخمسة، فوجب أن يحمل على الأصل في المنع. وأيضًا روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا زكاة في العرية). ثبت أن العرية قدر لا تجب فيه الزكاة، وهو ما دون خمسة أوسق. ولأن الأصل في جواز العرية الحاجة، والخمسة أوسق في حد الكثرة بدليل وجوب الزكاة فيها، ولا حاجة بها، فيجب أن يمنع منه، ويجوز بما دونه؛ لكونه قليلًا تدعو الحاجة إليه.

مسألة إذا قال: بعتك هذه الصبرة؛ كل قفيز بدرهم، فالبيع صحيح في جميعها على ما سمى

فإن قيل: خمسة أوسق إلا رطلًا كثير؛ لأن الرطل لا يؤثر فيه، وأنتم تجيزون به. قيل: له تأثير بدليل أنه يسقط الزكاة. وذهب المخالف إلى عموم قوله: أرخص في العرايا. وهذا مطلق، وقد روينا في حديث أبي هريرة تخصيصًا بما دون ذلك، فوجب حمله عليه. ... 310 - مسألة إذا قال: بعتك هذه الصبرة؛ كل قفيزٍ بدرهمٍ، فالبيع صحيح في جميعها على ما سمى: ذكره الخرقي في (مختصره). وعلى قياسه إذا قال: بعتك هذا الثوب؛ كل ذراع بدرهم، أو اشترى إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا، أو جرابًا هرويًا، فقال: كل واحد من هذا بكذا. وقد علق القول في رواية أبي طالب في رجل قال لرجل: اشتريت منك كل ما في البيت؛ كل كر بكذا من الطعام، والشعير بكذا، والأرز

بكذا، ما اشترى، ثم يكيله، ويقبضه، فيقع الشراء، أرأيت لو احترق البيت قبل أن يكيله، أليس من مال البائع؟ وظاهر هذا: أنه لا يصح العقد حتى يوجد الثمن، وليس هذا على ظاهره، ومعناه: أنه لا يلزم قبل قبضه. وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة في غير الصبرة: إن كان لا يعلم مبلغ الذرع والعدد فالبيع فاسد، وإن علم مبلغ ذلك فهو بالخيار؛ إن شاء أخذ كل ذراع وكل قفيز بدرهم، وإن شاء ترك. وأما الصبرة قال: بيع صحيح في قفيز منها بدرهم؛ سواء علم مبلغ كيلها، أو لم يعلم. دليلنا: أن ثمن كل ثوب معلوم، وإنما بقي أن يعلم جملة الثمن، ويمكننا أن نصل إلى معرفة ذلك على صفة لا تفتقر إلى المتعاقدين ولا إلى واحد منهما بأن تعد الثياب أو الكيل، فيجب أن يجوز كما لو قال: (بعتك برأس مالي وربح درهم في كل عشرة) صح البيع؛ لأنا نتوصل إلى معرفة مبلغه على صفة لا تفتقر إلى المتعاقدين ولا إلى واحد منهما، وهو أن تعد الدراهم، كذلك هاهنا. فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم؟ وقد قال أحمد في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث: أكره أن يقول: للعشرة كذا، وكذا، أو ده

دوا زده، أو ده يازده، لكن يقول: قام علي بكذا، وأبيعه بكذا. فقد منع أحمد من بيع المرابحة على هذا الوجه. قيل: إنما كره أحمد ذلك، ولم يبطله، وخلافنا في صحة العقد وبطلانه، وإنما كره بيع المرابحة على ذلك الوجه لما رواه أحمد عن ابن عمر وابن عباس: أنهما كرها بيع ده دوا زده، وهذا معدوم هاهنا. ولأنه لو قال: (علي أنه مئة ذراع، كل ذراع بدرهم) جاز، وإن كنا لا نعلم جملة الثمن في الحقيقة إلا بالذرع؛ لأنه يجوز أن يزيد، ويجوز أن ينقص، كذلك هاهنا؛ لأن الثمن إذا صار معلومًا في التفصيل لم يجبب أن يكون معلومًا في الجملة؛ لأن العلم بقدر الثمن في التفصيل ينفي غرر الجهالة عن العقد، كما ينفيه العلم بقدره في الجملة. فإن قيل: التفصيل مخالف للجملة؛ لأنه إذا عرف في الجملة، وجهل في التفصيل، كان ما يجب عليه بالعقد معلومًا. وإذا كان معلومًا في التفصيل معلومًا أمكن الوقوف على مقداره بالكيل والعد، فهو كما لو تلف بعض المبيع، وبقي البعض؛ لما أمكن الوقوف على ما قابله من الثمن بالتقويم، لم يضر الجهل به حال العقد، كذلك هاهنا.

واحتج المخالف بأن الثمن مجهول في حال العقد؛ لأنه إذا لم يدر كم عدد الذرعان لم يدر جملة الثمن، وجهالة الثمن في حال العقد تبطل العقد، ألا ترى أنه لو اشترى برقمه، أو برأس ماله، أو بما اشترى به فلان، لم يجز العقد؛ لأن الثمن مجهول في حال العقد، كذلك هاهنا. والجواب: أنا لا نسلم: أنه مجهول حال العقد لما بينا، وهو: أنه يتوصل إلى معرفته من غير المتعاقدين، أو أحدهما، فهو كبيع المرابحة. ولا يشبه هذا إذا اشتراه برقمه؛ لأنه يجوز أن يزيد وينقص على ما يظنه المشتري، فهو مجهول. وكذلك إذا اشتراه برأس ماله، وكذلك إذا اشتراه بما اشترى به فلان؛ لأنه ربما غبن البائع أو المشتري، فيزيد الثمن وينقص، فلم يصح لأجله الجهالة، وهذا معدوم هاهنا، لأنه إن عرف قيمة كل شاة فلا غرر فيه؛ لأنهما قد رضيا في كل شاة بدرهم، فلهذا فرقنا بينهما. وقد أطلق أحمد القول في جواز البيع بالرقم، فقال في رواية أبي داود: وقد سئل عن بيع الرقم، فكأنه لم ير به بأسًا. وقال- أيضًا- في رواية أبي طالب: لا بأس ببيع الرقم، فيقول: أبيعك برقم كذا وكذا، وزيادة على الرقم كذا وكذا، كل ذلك جائز وصالح [......] إنما هو ببيع الرقم.

مسألة إذا قال: (بعتك ذراعا من هذه الدار)، وهما يعلمان مبلغ ذرعان الدار، صح البيع

وهذا محمول على أنهما عرفا مبلغ الرقم، وأوقعا عليه. ... 311 - مسألة إذا قال: (بعتك ذراعًا من هذه الدار)، وهما يعلمان مبلغ ذرعان الدار، صح البيع: وقد قال أحمد في رواية حنبل: وذكر له قول الثوري: أكره أن يقول: (أبيعك ذراعًا من نصف هذا الثوب مما يليك) حتى يذرعه، ثم يبيعه، وإذا قال رجل لآخر: (بعني نصف دارك مما يلي داري) فهو مردود، فقال: إذا ذرع فهو جائز. ومعناه: إذا ذرع جملة الدار أو جملة الثوب، فالبيع جائز في بعضه. وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: البيع باطل. دليلنا: أنه إذا علم ذرعان الدار كان المبيع بينهما معلومًا، فإذا كانت ذرعانها عشرة، والمبيع ذراع، كان المبيع عشرًا، فيصير كأنه قال: بعتك عشرها، ولو قال هذا كان البيع صحيحًا، كذلك إذا قال: بعتك عشرها، ولو قال هذا كان البيع صحيحًا، كذلك إذا قال: بعتك [ذراعًا]، وهما يعلمان أن الدار عشرة أذرع؛ لأن الواحد من العشرة عشر.

ويفارق هذا إذا لم يعلم مبلغ ذرعانها؛ لأن المبيع لا يكون بينهما معلومًا؛ لعدم العلم بجملة الأذرع، فلا يعلم كم المبتاع من جملة الدار. وقد قيل: اشترى من الدار جزءًا معلومًا غير معين، فجاز، كما لو اشترى سهمًا من كذا، وكذا سهمًا من الدار. ولا يلزم عليه إذا لم يعرف مبلغ ذرعان الدار؛ لأن الجزء غير معلوم. ولا يلزم عليه إذا عين الذراع من موضع بعينه، ولم يذكر الابتداء والانتهاء؛ لقولنا: (غير معين)، وهناك قد عين. وقد قال أحمد في رجل قال لرجل: (بعني نصف دارك مما يلي داري)، فهو بيع مردود؛ لأنه لا يدري أين ينتهي بيعه، ولو قال: (أبيعك نصف هذه الدار، أو ربع هذه) جاز. واحتج المخالف بأن الذراع عبارة عن مقدار بعينه لا يزيد، ولا ينقص، وبقاع الدار تختلف، فإذا لم يقيد، لم يجز، كما لو اشترى شاة من هذا القطيع، أو ثوبًا من جملة هذه الثياب. ويفارق هذا شراءه قفيزًا من صبرة؛ أنه يجوز؛ لأن القفزان من صبرة واحدة لا تختلف، والذرعان تختلف. والجواب: أن الذراع عبارة [عن مقدار] مخصوص لا يزيد،

ولا ينقص، وليس بعبارة عن البقعة حتى يقال: إن بقاع الدار مختلفة، فإذا قال: ذراعًا من كذا، أفاد السهم المشاع، وقام مقامه في البيان، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول: أوصيت بقفيزٍ من عشرة أقفزة من غلة هذا القراح، وبين أن يقول: أوصيت بعشر غلته؛ فإن أحد اللفظين قائم مقام الآخر، كذلك قوله: ذراع من عشرة أذرع، أو عشرها، [يجب] أن يكون سواء. وعلى أن قولك: بعتك ذراعًا، يحتمل أن يريد السهم، ويحتمل أن يريد البقعة المخصوصة، فيجب حمله على السهم؛ ليكون البيع صحيحًا؛ لأن المبيع إذا أمكن حمله على الصحة لم يجز حمله على الفساد، ولهذا قال أبو حنيفة في مسألة: مد عجوة ودرهم: البيع صحيح؛ لأن له وجهًا في الصحة. ولأنا إذا حملناه على البقعة ألغينا ذكر ذرعان الدار، وإذا حملناه على السهم لم يكن لغوًا. ولا يشبه هذا شاة من القطيع، وثوبًا من جملة هذه الثياب؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه ليس بعبارة عن سهم مشاع، ولا معين، فلهذا بطل. ***

مسألة إذا كان البائع يعلم كيل الصبرة، فباعها جزافا، لم يجز، إلا بعد أن يعلم المبتاع بقدر كيلها، فإن لم يبين له كان للمبتاع الرد

312 - مسألة إذا كان البائع يعلم كيل الصبرة، فباعها جزافًا، لم يجز، إلا بعد أن يعلم المبتاع بقدر كيلها، فإن لم يبين له كان للمبتاع الرد: قال في رواية حرب: إذا كان يعلم كيله، فجاء رجل يطلبه، فلا يبيعه مجازفة حتى يعلم منه ما يعلم. وقال الخرقي: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرًة. وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع جائز، ولا يلزمه إعلام المشتري. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من غشنا فليس منا). وهذا غش. ولأن المبتاع دخل على أن البائع بمثابته في الجهل بمقدار المبيع. وأيضًا روى ابن وهب من أصحاب مالك عن مسلمة بن علي وغيره، عن الأوزاعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يباع الطعام مجازفة، وهو يعلم ما كيله. وهذا- وإن كان مرسلًا- فهو حجة عندنا وعند أبي حنيفة، ولنا أن نبني فروعنا على أصولنا.

ولأنه باع جزافًا ينفرد بعلم قدر كيله، فلم يجز. دليله: إذا قال: (بعتك ملء هذه الغرارة)، والبائع يعلم قدر ما تسعه. ولا يلزم عليه إذا كان المشتري عالمًا مبلغ كيلها في البلد جاز، وإن لم يعلم لم يجز؛ لأنه لا يؤمن هلاكها، فلا يدري بماذا يرجع المشتري؟ قيل: [....]. ولأنه إذا علم قدره، ولم يعلمه، فقد قصد تدليسه وغبنه وغشه، فملك الخيار، كما لو باع شاة مصراة، أو أمًة قد سود شعرها. واحتج المخالف بأن البيع معلوم بالمشاهدة، فوجب أن يغني عن معرفة كيله. دليله: لو جهلا مبلغها. فلهذا جاز العقد، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه قصد التدليس، فهو كما لو باع أمة سود شعرها، أو جعده، أو شاة أصر لبنها. وإن شئت قلت: علة المعنى في الأصل: أن البائع غير عالم بمبلغ كيله، وهاهنا قد انفرد بمعرفة مبلغه، أشبه إذا باعه ملء هذه الغرارة.

مسألة لا يجوز بيع المكيلات بعضها ببعض جزافا، وكذلك الموزونات

313 - مسألة لا يجوز بيع المكيلات بعضها ببعضٍ جزافًا، وكذلك الموزونات: نص على هذا في رواية بكر بن محمد، فقال: لا بأس أن يشتري ما يكال بما يوزن جزافًا، وما يكال بما يكال فلا، ولا ما يوزن بما يوزن جزافًا، ويشتري الإبل والعروض جزافًا، وإن لم يعلم عدده، وما يعد فلا بأس أن يشتري جزافًا، وإن لم يعرف عدده؛ يجئ إلى قطيع إبل، أو غنم، أو بقر، فيشتريها جزافًا. وقال- أيضًا- في رواية الحسن بن ثواب: لا يجوز أن يشتري نقرة ذهب بنقرة فضة لا يعلم وزنها. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ذلك. وقال مالك: لا يجوز ذلك في الدراهم والدنانير، ويجوز فيما عدا ذلك. دليلنا: ما روى أبوب بكر بإسناده عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الصبر بالصبر من الطعام لا يدري ما كيل هذا، ولا ما كيل هذا. وهذا عام في الصبر إذا كانت من جنس واحد أو من جنسين. وأيضًا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر.

وأصل الجزاف غرر. وطريقة أخرى، وهو: أن جواز بيع المكيل بالمكيل جزافًا يفضي إلى الربا بعقدٍ، وذلك أن إحدى الصبرتين تستحق، فيرجع عليه بمثلها؛ لأن لها مثل، ولا يخلو أن يزيد على القدر، أو ينقص. ويفارق هذا المعدودات؛ لأنه لا ربا فيها، ولأن الواجب القيمة. ولا يلزم عليه إذا أتلف على رجل صبرًة؛ أنه يلزمه مثلها، وإن أفضى إلى الربا؛ لأنه لا يمكن الاحتراز من التفاضل؛ لأنه يتلفه بغير اختياره، وليس كذلك ما ملك بعقد؛ لأنه يمكنه الاحتراز من التفاضل، فلهذا لم يجز. ولأنه بيع مكيل بمكيل جزافًا، أو بيع موزون بموزون جزافًا، فلم يصح العقد. دليله: إذا باعه بشرط الخيار أربعة أيام. فإن قيل: المعنى هناك: أنه لو لم يكن جزافًا لم يصح العقد. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل يصح عندنا. ولأنه مكيل بمكيل، أو موزون بموزون جزافًا، فلا يصح. دليله: إذا باع صبرة طعام جزافًا، أو دراهم صبرة بدراهم صبرة. وإن شئت قلت: لأنه مما يضمن بمثله، فلم يجز بيعه بجنسه جزافًا.

دليله: ما ذكرنا. ولا يلزم عليه المعدودات؛ لأنها لا تضمن بالمثل. فإن قيل: هناك إنما بطل العقد لأجل الربا, والربا هاهنا معدوم لاختلاف الجنسية. قيل له: لا يمتنع أن يبطل العقد لعدم الربا, كما لو باعه شيئًا في كمه أو داره لم يره, أو كان ثمن السلم جزافًا. ولأن العلم بقدر المعقود عليه أحد جهتي العلم بالمعقود عليه, فكان لعدمه تأثير في الفساد, كالجهل بالعين. ولأن بيوع الأعيان أحد نوعي العقد, فجاز أن يؤثر الجزاف في فساده, كالعقد على ما في الذمة؛ يؤثر الجزاف في فساده, وهو رأس مال السلم والقرض. وليس لهم أن يقولوا: إن ذلك معقود على ما في الذمة, وهذا على العين؛ لأن علة الأصل تبطل بالإقرار والنذر؛ هو في الذمة, ولا يفتقر أن يكون معلوم القدر, وعلة الفرع تبطل بمال الشركة والمضاربة؛ هو عقد على عين, ولا يصح في الجزاف. واحتج المخالف بأن هذا معلوم بالمشاهدة, فصح العقد عليه. دليله: المعدودات, والمكيلات بالموزونات. والجواب: أنه يبطل ببيع طعام بطعام ودراهم بدراهم جزافا؛ فإنه

مسألة إذا كان المبيع ثوبا, أو عبدا, أو دارا, أو صبرة, ونحوه مما يتعين ملك المشتري فيه, وتلف قبل قبضه, فهو من مال المشتري

معلوم بالمشاهدة, ولا يصح العقد, وكذلك رأس مال السلم- إذا كان جزافًا- معلوم بالمشاهدة, ولا يصح. وعلى أن المكيل والموزون لما فارق المعدود في تعلق الربا به, وفي أنه يضمن بمثله, جاز أن يفارقه في مسألتنا, فلا يجوز بيع بعضه ببعض جزافًا, ويجوز في غيره. ... 314 - مسألة إذا كان المبيع ثوبًا, أو عبدًا, أو دارًا, أو صبرةً, ونحوه مما يتعين ملك المشتري فيه, وتلف قبل قبضه, فهو من مال المشتري: نص على هذا في رواية أبي الحارث في رجل اشترى طعامًا, فطلب من لحمه, فرجع, وقد احترق: فهو من مال المشتري. واحتج بحديث ابن عمر: ما أدركت الصفقة حيًا مجموعًا, [فهو من المبتاع]. وكذلك نقل ابن منصور عنه في رجل اشترى طعامًا, وقلبه, ولم يقبضه: فهو من مال المشتري. قال أبو بكر: هذا محمول على أنه اشتراه صبرة.

وقال مالك: إن امتنع المبتاع عن القبض مع قدرته على القبض, فهو من ضمانه, فإن تلف قبل ذلك, فهو من ضمان البائع. وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك من ضمان البائع. دليلنا: ما روى أبو بكر بإسناده عن عائشة: أن رجلا اشترى غلامًا, فاستغله زمانًا, ثم أصاب به عيبًا, فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقضى برده, فقال الرجل: يا رسول الله! إنه استغل غلامي, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان). فوجه الدلالة: أنه جعل الخراج بالضمان, وخراج المبيع قبل القبض للمبتاع, فكان ضمانه عليه. فإن قيل: الخبر يقتضي تعليق الخراج بالضمان, وأن من كان الضمان عليه كان الخراج له, ولا يقتضي أن من حصل الخراج له, كان الضمان عليه, وهذا كما يقال: ليس لله نبي إلا صالح, فلا يقتضي أن لا يوجد صالح إلا وهو نبي. قيل له: الباء للبدل, فقد جعل الخراج بدل الضمان, فلا فرق بين أن يقول: (الضمان بالخراج) , وبين أن يقول: (الخراج بالضمان) , كما أنه لا فرق بين ان يقول: (هذه الألف بهذا الثوب) , وبين أن يقول: (هذا الثوب بهذه الألف) في أن كل واحد منهما بدل عن الآخر.

وفارق هذا قوله: (ليس لله نبي إلا صالح)؛ لأنه ليس هناك حرف البدل. وأيضا ما رأيت في (مسائل الفرج بن الصباح البرناطي) ويغلب على ظنى أنه سماع أبي حفص البرمكي؛ لأن ولده أخرج إلي المسائل قال: نا أبو على بن الصواف قال: نا أبو بكر بن عبد الخالق قال: نا أبو همام قال: نا الوليد بن مسلم قال: الأوزاعي, عن الزهري قال: حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر: أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من مال المبتاع. وقول الصاحبي: (مضت السنة) يقتضي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهذا نص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت ذلك من ضمان المبتاع. ولأنه مبيع تعين من مال البائع, فإذا لم يستحق على البائع تركه في ملكه, ولم يشترط القبض في صحة العقد, كان من ضمان المبتاع. دليله: المقبوض. ولا يلزم عليه إذا ابتاع قفيزًا من صبرة, أو منا حديدًا من زبرةٍ, أو مئة بيضة من ألف بيضة؛ أنه من ضمان البائع؛ لأن المبيع هناك غير متعين من مال البائع. ولا يلزم عليه إذا اشترى ثمرة معلقة قد بدا صلاحها, فتلفت بآفة

سماوية؛ أنه من ضمان البائع, وإن كانت متعينة؛ لقولنا: (فإذا لم يستحق على البائع تركها في ملكه) , وتلك يجب عليه تركها إلى الجذاذ بإطلاق العقد. فإن قيل: لا معنى لقولكم: (تعين)؛ لأن ما لم يتعين- أيضًا- هو من ضمان المبتاع, وهو إذا ابتاع سهمًا مشاعًا في عقار, وتلف قبل قبضه, فهو غير متعين, ومع هذا فهو من ضمان المبتاع. وكذلك المعدود أيضًا؛ لأن ابن منصور نقل عن أحمد: أنه ذكر له قول الثوري: كل شيء ليس فيه كيل, ولا وزن, فخراجه وحمله ونقصه على المشتري, وكل بيع فيه كيا ووزن, أو عدد, فلابد للبائع أن يوفيه. فقال أحمد: أما العدد فلا, ولكن كل ما كان يكال ويوزن, فلابد للبائع أن يوفيه؛ لأن ملكه قائم فيه. قيل له: أما العقار؛ فإنه في معنى المتعين, ألا ترى أنه لا يحتاج عند القبض إلى معنى يحصل به التمييز, بل يسلمه على صفته, وليس كذلك قفيز من صبرة؛ لأنه يحتاج عند القبض إلى معنى يحصل به التمييز, وهو الكيل. وأما المعدود إذا كان مشاعًا, فحكمه حكم المكيل والموزون المشاع. وقد ذكر الخرقي هذا في (مختصره) , فقال: إذا وقع البيع على

مكيل, أو موزون, أو معدود, فتلف قبل قبضه, فهو من مال البائع, وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض, فإذا تلف فهو من مال المشتري, وما قاله في رواية ابن منصور فهو محمول على أن المعدود كان متعينًا من مال البائع, ولم يكن مشاعًا من جملة مثل أن يبتاع صبرة [بيض] , أو صبرة باذنجان, ونحو ذلك. وأجود من هذه العبارة: أنه مبيع انقطعت علق البائع منه, فكان من ضمان المبتاع. دليله: بعد القبض. ولا يلزم عليه إذا كان المبيع ثمرة معلقة؛ لأنه لم تنقطع علقه منه, وهو السقي. ولا يلزم عليه إذا كان مكيلًا؛ لأنه لم تنقطع علقه, وهو تميزه عن ملكه. ولا يلزم عليه الصرف؛ لأن علقه باقية, وهو القبض قبل التفرق. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه يجوز التصرف فيه, فلهذا كان من ضمانه, وليس كذلك قبل القبض؛ لأنه لا يجوز التصرف فيه, فلهذا لم يكن من ضمانه. قيل له: لا نسلم لك هذا, بل يجوز التصرف فيه قبل قبضه, وهذه

مسألة يأتي الكلام عليها. فإن قيل: المعنى في الأصل: أن القبض المستحق قد وجد, فلهذا كان من ضمانه, وليس كذلك هاهنا. قيل: القبض المستحق لا يسقط الضمان عن المالك بدليل: فوات القبض في الموصى به وفي الموروث وفي الوديعة والنكاح لا يسقط الضمان عن المالك, كذلك هاهنا. فإن قيل: المعنى في الأصل, وهو ما بعد القبض: أنه لو حصل على وجه غير متميز أسقط الضمان, وهو أن يبتاع قفيزًا من صبرة, فيقبض جميع الصبرة بإذن البائع, فلهذا سقط الضمان إذا كان متميزًا. وليس كذلك قبل القبض؛ فإنه لو لم يكن متميزًا كان من ضمان البائع, كذلك إذا كان متميزًا. قيل له: علة الأصل لا نسلمها على إحدى الروايتين؛ لأن أحمد قد قال في من ابتاع طعامًا مكايلة قد شاهد كيله وقبضه: لم يكن قبضًا حتى يحدث كيلًا ثانيًا. وعلى أن المعنى في الأصل: أن القبض موجود في الموضعين مع التمييز وعدمه, فلهذا كان من ضمان المشتري, وليس كذلك قبل القبض؛ لأنه - وإن لم يوجد القبض في الموضعين- فقد وجد التعيين

في أحد الموضعين, وللتعيين تأثير في إسقاط الضمان بدليل: أنه لو وصى لرجل بثلث ماله متعينًا, فتلف, كان من ضمان الموصي له, ولو وصى له بثلث شائع, فتلف ثلث المال, كان على الجميع, وكذلك هاهنا. وقياس آخر, وهو: أن القبض معنى يستقر به العقد, لم يجعل شرطًا في صحته, فجاز أن لا يقف سقوط الضمان عن البائع بوجوده. أصل ذلك: انقضاء مدة الخيار. ولا يلزم عليه القبض في السلم والصرف؛ لأنه شرط في صحة العقد. ولا يلزم عليه الثمرة في رؤوس النخل؛ لأن التعليل للجواز. فإن قيل: نقلب العلة فنقول: فاستوى فيه المتعين وغير المتعين. دليله: ما ذكرت. قيل: لا تأثير لهذه الأوصاف على أصلك؛ لأنك لو قلت: (مبيع) كفاك. على أنه لا يجوز اعتبار المتعين بعدمه, كما قلنا في الوصية وفي جواز التصرف: يقف على التعيين على ما نبنيه فيما بعد. وقياس آخر, هو: أن الأعيان كالمنافع بدليل: جواز العقد عليها, وبدليل: ضمانها بالمسمى في الصحيح, وبالقيمة في الفاسد. ثم العقد على المنافع ينقسم:

منه ما لا يعتبر القبض في استقرار البدل, وهو عقد النكاح؛ لأن المرأة قبل التسليم استقر لها المهر. ومنه ما يعتبر القبض فيه, وهو منافع الاستخدام والسكنى. كذلك العقد على الأعيان يجب أن ينقسم, وعندهم لا ينقسم. فإن قيل: البضع في حكم المقبوض بدليل: أنها تستحق المطالبة بكمال الصداق قبل التسليم. قيل له: وكذلك المبيع- عند أبي حنيفة وأحد القولين للشافعي- يملك المطالبة بالثمن قبل تسليمه, وله حبسه في يده. وأما على أصلنا فإنما ملكت المطالبة؛ لأنها بتسليمها نفسها يتلف البضع, ويتعذر المهر؛ لأنه في حكم المقبوض, وهذا معدوم في المبيع. وأيضًا لما كان الاعتبار في جواز التصرف في المبيع بالتعيين دون القبض, يجب أن يكون الاعتبار في ضمانه بالتعيين دون القبض؛ لأن كل واحد منهما موجب بالعقد. وبيان هذا: أنه لو ابتاع طعامًا مكايلة, وقبض منه طعامًا بغير كيل, حصل من ضمان المشتري, وليس له التصرف لعدم التمييز, وإن كان قد حصل من ضمانه, فيجب أن يعتبر التمييز في باب الضمان. واحتج المخالف بأنه مبيع تلف قبل قبضه, وكان من ضمان البائع. دليله: ما لم يتعين.

والجواب: أنه لا يجوز اعتبار التعيين بعدمه. الذي يدل عليه بعد القبض لما تعين كان من ضمان المشتري, كذلك قبل القبض لما كان متعينًا يجب أن يكون من ضمانه, وكذلك جواز التصرف, فاعتبر فيه التمييز دون القبض من الوجه الذي ذكرنا, كذلك يجب أن يعتبر في باب الضمان كذلك. واحتج بأنه فوات قبض مستحق, فوجب أن يبطل العقد. دليله: فوات القبض في عقد الصرف والسلم. وإذا بطل العقد حصل من ضمان البائع. والجواب: أن المعنى في الصرف والسلم: أن القبض شرط في صحتهما, فلهذا كان عدمه يبطل, وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن القبض ليس بشرط في صحة العقد, فجاز أن لا يبطل بعدمه. ولا يلزمنا على علة الفرع ما لم يتعين؛ لأنه قد لا يبطل العقد بهلاكه إذا كان هلاكه من جهة آدمي. على أنا قد بينا: أن فوات القبض المستحق لا يسقط الضمان عن المستحق للقبض, كالشيء الموصى به والموروث والوديعة. واحتج بأنه أحد عوضي المبيع, فكان من ضمان من زال عنه قبل قبضه, كالثمن. والجواب: أن الثمن؛ إن كان متعينًا, فهو كالمثمن, وإن كان في

مسألة إذا اشترى قفيزا من صبرة, أو عشرة أمناء حديد من زبرة, أو مئتي بيضة من ألف بيضة, ونحو ذلك مما لا يتعين, فتلف قبل قبضه

الذمة, فهو غير متميز, فيجري مجرى المثمن إذا كان غير متعين. فإن قيل: فما تقولون إذا تزوجها على عبد, فتلف قبل قبضه؟ وخالعها على عبد, فتلف؟ قيل: نقول في تلك العقود ما قلناه في البيع, وأن ما تعين فهو من ضمان المالك؛ فتلف الصداق من مال الزوجة, والعوض في الخلع من مال الزوج. فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية مهنا في من تزوج امرأة على غلام بعينه, ففقئت عين الغلام, ولم تقبضه: فهو على الزوج. قيل: هذا محمول على أن الزوج فقأ عينه, أو على أنه امتنع من التسليم حتى فقئت عينه؛ لأنه غاصب. ... 315 - مسألة إذا اشترى قفيزًا من صبرة, أو عشرة أمناء حديد من زبرة, أو مئتي بيضة من ألف بيضة, ونحو ذلك مما لا يتعين, فتلف قبل قبضه: فإن كان بأمر سمائي بطل العقد قياس قوله في الثمرة إذا

تلفت قبل أخذها بآفة سماوية: أن العقد يبطل؛ لأنه قال في رواية أبي طالب: إذا ذهب كله يرد عليه كله؛ يعني: يرد عليه جميع الثمن. وهذا يدل على أن العقد بطل, فلهذا رد الثمن. وإن تلف بسبب من جهة آدمي؛ إما من جهة البائع, أو من جهة أجنبي, لم يبطل العقد, وكان المشتري بالخيار؛ إن شاء نقد الثمن واتبع الجاني بقيمته, وإن شاء فسخ. نص عليه في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل باع ثوبًا من رجل, ثم باعه من آخر قبل التفرق, ولما يسلمه إلى الأول, فاستهلكه البائع: أخذ بخلاصه, وإن يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه, فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن, فعليه المثل. فقد نص على أن الإتلاف إذا كان من جهة البائع لم يبطل العقد؛ لأنه ألزمه المثل في المكيل؛ لأنه مما له مثل. ولو كان العقد قد بطل لزمه رد الثمن دون المثل, ولم يجعل المشتري بالخيار بين الإمضاء ونقد الثمن والرجوع بالقيمة, وبين الفسخ والرجوع بالثمن, بل جعل له القيمة فحسب. ويجب أن يحمل هذا على أنه جعل له القيمة إذا اختار الإمضاء,

فأما إن اختار الفسخ ونقد الثمن والرجوع بالقيمة, فله ذلك, كما كان له إذا ظهر على عيب بعد القبض؛ فإنه مخير بين الإمضاء, وبين الفسخ. وقال أبو حنيفة: إن أتلفه أجنبي لم ينتقض العقد, والمشتري بالخيار؛ إن شاء نقد الثمن واتبع الجاني, فضمنه قيمته, وإن شاء فسخ البيع. وإن كان الإتلاف من جهة البائع انتقض العقد. وللشافعي قولان: أحدهما: ينتقض العقد. والثاني: هو بالخيار بين الفسخ, والإمضاء وأخذ القيمة, ولا فرق عنده بين أن يكون الإتلاف من جهة البائع, أو أجنبي, أو من جهة الله تعالى. دليلنا: ان الجاني تجب عليه قيمة المبيع, والقيمة تقوم مقام المبيع, وإذا قام مقامه لم يتعذر التسليم, فلا ينتفض البيع, كما لو كان المبيع عبدًا, فجنى عليه فيما دون النفس وافقوا أنه لا ينفسخ العقد, كذلك هاهنا. ولا يلزم عليه إذا تلف بأمر سمائي؛ لأن القيمة لا تجب هناك. ولا يلزم على علة الأصل المبيع المتعين إذا تلف بفعل الله- تعالى- أن العقد لا يبطل, وإن لم يحصل هناك بدل, كقولنا:

والمبيع [....]. فإن قيل: لو استأجر عبدًا شهرًا ليخدمه, فمات العبد, لم يقم غيره مقامه, وإن كان بدلًا عنه. قيل: نظير موت العبد المستأجر أن يهلك المبيع بأمر من السماء, فيبطل العقد؛ لأنه ليس هناك بدل يرجع إليه, فإن أتلفه متلف بطلت الإجارة أيضًا؛ لأن الجاني لا يضمن قيمة المنفعة المعقود عليها, وإنما يضمن قيمة الرقبة, وحق المستأجر هو في المنفعة, فلهذا بطلت الإجارة؛ لأنه لم يحصل له قيمتها, وفي المبيع قد حصل عوض المبيع, وعوض الشيء يقوم مقامه. فإن قيل: فلو غصب العبد مدة الإجارة, فإن المؤجر يرجع على الغاصب ببدل المنافع, ومع هذا تنفسخ الإجارة. قيل: الحكم في الإجارة والحكم في البيع سواء؛ إن تلفت المنافع بأمر سمائي بطلت الإجارة, وهو أن تسقط يد العبد المستأجر بأكله, وإن غصب العبد غاصب حتى انقضت مدة الإجارة كان بالخيار بين أن يفسخ ويرجع بالأجرة, وبين أن يأخذ قيمة المنفعة, وهكذا قال أصحاب الشافعي, ولا فرق بينهما. وقد أومأ إليه أحمد في رواية مهنا في القصار إذا قصر الثوب, وذهب مقصورًا: فعليه قيمته خامًا, وتسقط القصارة, وإن قوَّمه مقصورًا

فللقصار أجرة القصارة. فقد جعل له الخيار بين أن يقومه مقصورًا ويغرم الأجرة, أو خامًا ولا يغرم. واحتج المخالف بأن المعقود عليه قد فات, فلا يمكن تسليمه بوجه, فوجب أن ينتقض البيع, كما لو تلف بأمر سمائي, وكذلك القبض في السلم والصرف. والجواب: أنه إذا تلف بأمر سمائي, فلم يحصل هناك ما يقوم مقام المبيع, والمبيع من ضمان البائع, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه يجب على المتلف بدله, والبدل يقوم مقامه, فيصير كأنه لم يفت. ونخص أبا حنيفة: [أنه] إذا أتلفه البائع بأنه مبيع تلف بفعل آدمي, فلم يبطل العقد, كما لو أتلفه أجنبي. فإن قيل: إذا أتلفه أجنبي وجبت القيمة, والقيمة يوم تقوم مقامه, وإذا أتلفه البائع لم تجب عليه القيمة؛ لأنها لو وجبت لتعلق وجوبها بعقد البيع, ألا ترى أنه لو لم يكن هناك بيع لم تجب؛ لأن من أتلف مال نفسه لم يلزمه ضمان, ولو وجبت بعقد البيع لصارت مبيعة, والمبيع في الذمة لا يجوز إلا على وجه السلم, وهذا ليس بسلم. وليس كذلك إذا أتلفه أجنبي؛ لأن وجوب القيمة عليه لا يتعلق بعقد البيع, ألا ترى أنه لو لم يكن هناك بيع لكانت القيمة واجبة عليه, وإذا لم يتعلق وجوبها بعقد البيع لم تصر القيمة مبيعة في الذمة,

مسألة إذا كان المبيع ثوبا, أو عبدا, أو دابة, أو دارا, ونحو ذلك مما هو متعين, جاز التصرف فيه قبل قبضه

فلا يبطل العقد. قيل له: هذا يبطل إذا أتلفه البائع بعد القبض؛ فإن البيع لا ينتقض, وتجب القيمة عليه, وإن تعلق وجوبها بعقد البيع. فإن قيل: بعد القبض قد سلم للمشتري, وانقطع حق البائع عنه, فصار كالأجنبي. قيل له: والصداق لم ينقطع حق الزوج عنه قبل الدخول, ومع هذا إذا أتلفه بعد التسليم يضمنه. وكذلك إذا تلف المبيع بعد القبض, وظهر على عيب بالثمن, فإن حقه لم ينقطع عنه, ومع هذا يضمن قيمته. ... 316 - مسألة إذا كان المبيع ثوبًا, أو عبدًا, أو دابة, أو دارًا, ونحو ذلك مما هو متعين, جاز التصرف فيه قبل قبضه: نص على هذا في رواية حرب, فقال: إذا اشترى ما يكال ويوزن, فلا يبعه حتى يكيله ويقبضه, وإذا كان لا يكال, ولا يوزن مثل الدار ونحوها, فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه. ونقل- أيضًا- ابن منصور عنه في الرجل اشترى سفينة, فقال له رجل: ناولني منها كرًا: فإن اشترى ما في السفينة صبرة, ولم يسم

كيلا, فلا بأس أن يشرك فيها رجلا, أو يبيع ما شاء, إلا أن يكون سمى كيلًا. وبهذا قال عثمان بن عفان, وسعيد بن المسيب, والحسن البصري والحكم, وحماد, والأوزاعي, وإسحاق. وهذا حكاه ابن المنذر, وكنا نحكي عن مالك مثل هذا, وحكى ابن المنذر عنه: أنه ما عدا المأكول والموزون يجوز بيعه قبل قبضه. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع العقار قبل قبضه, ولا يجوز بيع غيره قبل القبض. وقال الشافعي: لا يجوز بيع شيء منه قبل القبض. دليلنا: عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وهذا عام في كل حال. وأيضًا روى أحمد في (المسند) قال: نا إسحاق بن عيسى, نا ابن لهيعة, عن أبي الأسود, عن القاسم بن محمد, عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من اشترى طعاما بكيل, أو وزن, فلا يبيعه حتى يقبضه). وروى ابن بطة وأبو داود بإسناده عن ابن عباس, عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: (من ابتاع طعامًا, فلا يبعه حتى يكتاله). فوجه الدلالة: أنه خص الطعام بالنهي, واعتبر أن يكون على صفة, وهي الكيل والوزن, فدل على أن ما عدا هذه بخلافها. فإن قيل: دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا علق على صفة, فأما إذا علق على اسم, فلا يكون حجة, وهاهنا هو معلق على اسم الطعام. قيل له: هو حجة عندنا, وإن علق على اسم, وقد قال أحمد: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث) دل على أن غير الوارث تصح الوصية له. وعلى أن هذا معلق على صفة, وهو قوله: (من اشترى طعامًا بكيل, أو وزن) , وهذا صفة. فإن قيل: فالدليل والتنبيه إذا اجتمعا كان التنبيه مقدمًا, والتنبيه فيه: أنه لما نهى عن بيع الطعام قبل القبض, وحاجة الناس إليه أعم, فلأن لا يجوز غيره أولى.

قيل: إنما يكون فيه تنبيه لو أطلق النهي في الطعام, فأما وقد علقه على صفة في الطعام, وهو الكيل والوزن. وعلى أن هذا يوجب أن يكون تخصيصه للنهي عن بيع الذهب والفضة مثلًا بمثل تنبيهًا على غيرها من الموزونات؛ لأن حاجة الناس إليها أعم, ولما لم يقل هذا, كذلك هاهنا. والقياس: أن المعقود عليه متعين, فجاز التصرف فيه قبل القبض. دليله: البضع, والتصرف في البضع قبل القبض أن يخالعها قبل الدخول. وهذه علة جيدة. فإن قيل: المقصود بالخلع الفرقة دون العوض. قيل له: والمقصود بالنكاح البضع دون المهر, ومع هذا لا يجوز التصرف عند الشافعي في المهر قبل قبضه. فإن قيل: الخلع رفع للعقد, ولهذا يصح تعليقه بمجيء زمان, ويصح بعوض, ورفع العقد لا يفتقر إلى القبض, ألا ترى أن الإقالة تصح في المبيع قبل القبض, ولا يصح بيعه. قيل: الخلع- وإن كان رفعًا للعقد- إلا أنه قد جعل في حكم المعاوضة بدليل: أنه لا يقف على قدر الصداق, ولا جنسه, ولو كان فسخًا مجردًا لوقف على ذلك, كالإقالة؛ لما كانت فسخًا في الحقيقة, وقفت على قدر الثمن, وعلى جنسه.

وأيضًا فإنه مبيع تعين فيه ملك المشتري, فجاز التصرف فيه. دليله: إذا قبضه. ولا يلزم عليه إذا ابتاع ثمرة متعلقة؛ فإنه يجوز بيعها قبل قبضها. نص عليه في رواية الأثرم وابن منصور. ولا يلزم عليه إذا ابتاع قفيزًا من صبرة؛ لأنه غير متعين. ولا يلزم عليه إذا ابتاع صبرة طعام؛ لأن فيها روايتين: نقل الأثرم وغيره: لا يجوز بيعها قبل قبضها. ونقل ابن القاسم وحرب جوازه, فقال في رواية ابن القاسم وحرب جوازه, فقال في رواية ابن القاسم: يروى عن ابن عمر أنه قال: كنا نؤمر أن ننقله عن موضعه. ولا أدري ما معنى هذا؟ إذا كان إنما اشترى صبرة فهو بمنزلة القبض, ولكن ابن عمر روى هذا, وفيه مشقة على الناس. وظاهر هذا: جواز بيعها. وأومأ إليه أحمد في رواية حرب في رجل اشترى من رجل غلة, فكالها, وجعل ينظر إليه, ولعل علمه في ذلك الكيل مثل علم المشتري, فلما ابتاعه قال له الرجل: ولنيه: فأرجو أن يجزئه ذلك إذا كان حاضرًا. فقد أجاز بيعه بذلك الكيل من غير قبضه, وهذه الرواية هي الصحيحة. ولا تلزم عليه مدة الخيار؛ لأنه يستوي فيه الأصل والفرع في المنع, وذلك أنه لو قبض المبيع في مدة الخيار لم يجز له التصرف فيه.

فإن قيل: المعنى في الأصل: أن المبيع من ضمانه. قيل: وكذلك هاهنا, هو من ضمانه قبل قبضه, فلا فرق بينهما. على أنه إذا اشترى طعامًا مكايلة, وقبضه بغير كيل, حصل في ضمان المشتري, ومع هذا فليس له التصرف, وانتقضت علة الأصل. وعلى أن هذا غير مؤثر؛ لأن للبائع أن يتصرف في الثمن قبل قبضه, وإن لم يحصل في ضمانه. ولأن الاعتبار بالتعيين دون القبض, بدليل: أنه لو ابتاع طعامًا مكايلة, وقبضه بغير كيل, حصل في ضمان المشتري, وليس له التصرف فيه لعدم التمييز, والتمييز هاهنا موجود, فيجب أن يصح التصرف فيه. ومنهم من يمنع ويقول: يجوز له التصرف فيما يتحقق أنه قدر حقه. وهذا فاسد؛ لأنه يتصرف في ملك غيره. ولأن ما من جزء منه إلا وحق البائع فيه؛ لأنه مما تعين حقه فيه. فإن قيل: لو كان الاعتبار بالتعيين لم يصح القبض بعدمه, وقد قال أحمد في رواية محمد بن الحارث في رجل باع بألف درهم بكذا كذا دينارًا, فأعطاه مائه دينار؛ ليجيء فيزن له, فقال: إذا كان أكثر من حقه فجائز. فقد حكم بصحة القبض في التصرف, وإن لم يحصل التعيين, فدل على أنه لا اعتبار به. قيل له: عدم التعيين غير مؤثر فيه من الوجه الذي ذكرنا.

ولأنه أحد عوضي المبيع, فجاز التصرف فيه قبل القبض. دليله: الثمن. وقد أومأ أحمد إلى جواز التصرف في الثمن في رواية ابن منصور: وقد سئل عن اقتضاء دراهم من دنانير, ودنانير من دراهم في البيع, فقال: يأخذ بالقيمة, وإن اقتضاه في الدين فبالقيمة. فإن قيل: إن كان الثمن معينًا لم يجز التصرف فيه قبل القبض قولًا واحدًا, وإن كان في الذمة فعلى قولين. قيل له: نقيس عليه إذا كان في الذمة: فإن سلمت فالقياس صحيح. وإن منعت دللنا على صحة الأصل بما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع, فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فوجدته يريد أن يدخل حجرته, فأخذت بيده, فقلت: كيف تأمرني ببيع الذهب من الفضة, وبيع الفضة بالذهب؛ أحدهما بالآخر؟ قال: "على سعر يومها, ولا تفارق صاحبك وبينك وبينه لبس". وهذا نص. فإن قيل: فإن سلمنا لكم هذا في الثمن, فالمعنى فيه: أنه قد أمن انتقاض العقد بهلاكه, وهذا المعنى معدوم في المبيع قبل القبض.

قيل له: لا نسلم لك هذا؛ لأن المبيع إذا كان متعينًا قد أمن انتقاض العقد بهلاكه, ويهلك من مال المشتري, فلا فرق بينه وبين الثمن. وعلى أنه يأتي الكلام عليه على هذا مع أبي حنيفة. فإن قيل: تسليم الثمن بتسليم عقد المعاوضة؛ لأن تسليم عقد المعاوضة إذا تعذر لم يسقط إلى القيمة, والثمن إذا تعذر وجب تقويمه, ودفع قيمته إلى البائع, وهذا حكم تسليم الملك دون تسليم العقد. قيل: قد يعجز المشتري عن تسليم الثمن وقيمته, والمبيع في يده, فيرجع البائع إلى المبيع عندنا وعند الشافعي, وهذا حكم تسليم عقد المعاوضات, وأنه قد يتعذر, فلا يسقط إلى القيمة. ولأن للتعيين تأثيرًا فيما يرجع إلى التصرف بدليل: أنه لا يجوز شرط تأخير القبض في بيوع الأعيان؛ لأن فيه قطعًا للتصرف, ويجوز ذلك فيما كان في الذمم, وهو الموصوف. ولأن الشراء جهة من جهات الملك, فجاز التصرف فيما ملكه قبل قبضه. دليله: الإرث والوصية. ولا يلزم عليه ما لم يتعين؛ لأن التعليل بجواز التصرف فيه في الجملة, فلا يلزم عليه أعيان الملك. فإن قيل: الإرث والوصية يجوز التصرف فيهما فيما لم يتعين فيه

ملكه, فلهذا جاز فيما تعين قبل قبضه, والمبيع لما لم يجز تصرفه فيما لم يتعين فيه ملكه, لم يجز فيما تعين. قيل له: علة الفرع تبطل به إذا ابتاع طعامًا مكايلة, وقبضه بغير كيل؛ فإنه لا يجوز التصرف فيه لعدم التعيين, فلو كان متعينًا جاز التصرف فيه. وعلة الأصل تبطل بالثمن؛ فإنه لا يجوز التصرف فيه إذا تعين, ويجوز إذا لم يتعين. ونخص أبا حنيفة بطريقة أخرى: أنه عوض متعين, فجاز التصرف فيه قبل قبضه. دليله: الصداق, وعوض الخلع؛ وافق أنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه, كذلك هاهنا. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه قد أمن انتقاض العقد بهلاك العوض؛ لأنه لو هلك الصداق قبل قبضه لم يبطل النكاح, وكذلك الخلع, والبيع بخلافه. قيل: قد أجبنا عن هذا في الدليل الذي قبله بما فيه كفاية. فإن قيل: المعنى في الصداق وعوض الخلع: أنه يجوز التصرف في غير المتعين, والمبيع بخلافه. قيل: قد أجبنا عن هذا في الدليل الذي قبله بما فيه كفاية. فإن قيل: المعنى في الصداق وعوض الخلع: أنه يجوز التصرف في غير المتعين, والمبيع بخلافه. قيل: لا نسلم لك هذا, والحكم عندنا في الصداق, كالحكم في

البيع في اعتبار التعيين وعدمه على ما نبنيه فيما بعد هذه المسألة. ونخصه- أيضًا- بأنه بيع تعين فيه ملك المبتاع, فجاز تصرفه فيه. دليله: العقار. فإن قيل: المعنى في العقار: أنه أمن انتقاض العقد بهلاكه, فلهذا جاز التصرف فيه [قبل] قبضه, وليس كذلك غيره من المبيعات؛ لأنه لا يأمن ذلك. قيل له: لا نسلم لك هذا؛ لأن المبيع الذي نجيز التصرف فيه قد أمن انتقاض العقد بهلاكه. على أن هذا لا يصح, لأن علة الفرع تبطل بمن ابتاع طعامًا مكايلة, وقبضه بغير كيل؛ فإنه قد أمن اتقاض العقد بهلاكه, ولا يجوز التصرف فيه. وتبطل بالمسلم فيه, لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه, وقد أمن انتقاض العقد بهلاكه؛ لأن السلم إنما يصح في مثل غلة بغداد والكوفة والبصرة, والعادة أن ذلك لا يهلك. ويبطل- أيضًا- بزبر الحديد؛ فإنه لا يخشى هلاكها, ولا يجوز بيعها. وليس لهم أن يقولوا: إنها تبرد وتذرى, فينتقض العقد؛ لأنه يمكن جمعه, فلا ينتقض العقد.

وأما علة الأصل فتبطل به إذا ابتاع غرفة على بيت؛ فإن له أن يبيعها قبل القبض, وهو يخشى انفساخ العقد بهلاكها. ولا يجوز أن يقال: إن قرارها من الهواء باق بعد هلاكها؛ لأن الهواء تابع, وليس بمتبوع, ولهذا لا يجوز إفراده بالعقد. وكذلك إذا اشترى عبدًا بثوب, ووجد القبض في أحدهما, جاز بيعه, وإن جاز انتقاض العقد فيه بهلاك ما لم يقبض. وعلى أن خشية انفساخ العقد فيه بهلاكه لا تمنع من بيعه, ولا تدل على فساده, ألا ترى أن كل من باع شيئًا مما ينقل ويحول؛ فإنه يخشى أن يتلف قبل تسليمه إلى المشتري, وينفسخ البيع فيه, ومع هذا يجوز بيعه. واحتج المخالف بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعتاب بن أسيد حين بعثه إلى اليمن: (انههم عن بيع ما لم يقبضوا, وربح ما لم يضمنوا). ولم يفرق بين المتعين وغيره. وبما روى ابن عمر قال: ابتعت بيعًا فما ربحت فيه, فأردت أن أصفق على يديه, فنظرت, فإذا رجل من خلفي, فنظرت, فإذا زيد بن ثابت يقول: يا عبد الله بن عمر! لا تبعه, كما ابتعته حتى تحوله إلى رحلك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها

التجار إلى رحالهم. والجواب: أن هذا عام, فنحمله ونخصه على المبيع الذي لم يتعين حق المبتاع فيه بدليل ما ذكرنا. واحتج بأنه مبيع لم يقبض, فلم يجز بيعه. دليله: ما لم يتعين ملكه فيه. والجواب: أن المعنى في الأصل: أن حق المبتاع لم يتعين فيه, وليس كذلك هاهنا؛ لأن حقه قد تعين فيه, فجاز بيعه. دليله: بعد القبض. فإن قيل: علة الأصل تبطل بالمكيل والموزون إذا لم يكن مأكولًا؛ فإن مهنا روى عنه أنه قال: كل شيء يباع قبل قبضه إلا ما كان يكال ويوزن مما يؤكل ويشرب. قيل له: هذه رواية ضعيفة, والمذهب الصحيح: أنه لا يجوز بيعه سواء كان يؤكل ويشرب, أو لا يؤكل إذا لم يتعين على رواية حرب وغيره. ثم لا يمتنع أن لا يقبض, وجوز التصرف فيه, كالثمن والبضع والميراث والوصية. وعلى أن قوله: (مبيع) لا تأثير له؛ لأن الصداق, والعوض في الخلع, والأجرة في الإجارة إذا كانت متعينة سواء في المنع عندهم,

فلا معنى لذكر المبيع. وقد عبر بعضهم عن هذا بأنها عين ملكها ببدل, فوجب أن لا يجوز لمالكها بيعها قبل القبض. دليله: ما ذكرنا. والجواب عنه: ما تقدم من الفرق بين الأصل والفرع, ومن القبض بالثمن وبالبضع, وعدم التأثير بالسلم؛ ليس بعين, ولا يجوز بيعه قبل قبضه. واحتج بأن كل حكم تعلق بالقبض فيما لم يتعين, تعلق به فيما تعين. أصله: انتقال الضمان, ولزوم الهبة, وصحة الرهن. والجواب: أن انتقال الضمان ولزوم الهبة وصحة الرهن تتعلق بالقبض فيما لم يتعين, ولا تتعلق بالقبض فيما تعين, كما قلنا في جواز التصرف, فلا فرق بينهما على أصلنا. وقد نص أصحابنا على هذا في ضمان المبيع, وفي الهبة, وفي الرهن. وعلى أنه ليس إذا تعلقت هذه الأحكام في المتعين بالقبض, وجب أن يتعلق جواز التصرف فيه به, كما قلنا في الأثمان: إن هذه الأحكام

مسألة إذا أصدقها عبدا, أو ثوبا, أو دارا, ونحو ذلك مما يتعين ملكها فيه, جاز لها التصرف فيه قبل قبضه. وإن لم يكن متعينا مثل قفيز من صبرة ونحو ذلك, لم يجز لها التصرف فيه قبل قبضه. وكذلك الجعل في الخلع

تتعلق فيه بالقبض, ولا يتعلق جواز التصرف به. ... 317 - مسألة إذا أصدقها عبدًا, أو ثوبًا, أو دارًا, ونحو ذلك مما يتعين ملكها فيه, جاز لها التصرف فيه قبل قبضه. وإن لم يكن متعينًا مثل قفيز من صبرةٍ ونحو ذلك, لم يجز لها التصرف فيه قبل قبضه. وكذلك الجعل في الخلع: وهذا قياس قول أصحابنا؛ لأنهم اعتبروا التعيين في غير البيع, كالهبة والرهن, وجعلوا لزوم الهبة وصحة الرهن في المتعين بالعقد, وفي غيره بالقبض. وقال أبو حنيفة: يجوز لها أن تتصرف فيه قبل قبضه في جميع الأشياء مما يتعين ملكها فيه, وما لا يتعين. وقال الشافعي: لا يجوز لها التصرف في شيء منه قبل القبض. فالدلالة على أن ما لم يتعين ملكها فيه لا يجوز لها التصرف فيه قبل قبضه: أنها عين ملكت ببدل, فإذا لم يتعين ملك مالكها

فيها, لم يجز له بيعها قبل القبض. دليله: ما ليس بمتعين إذا ملكه بعقد البيع. وفيه احتراز من المملوك بالإرث والوصية؛ فإنه يجوز التصرف فيه, وإن لم يتعين؛ لأنه لم يملك ببدل. وفيه احتراز من العبد والثوب؛ لأن ذلك متعين فيه ملك المالك. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه يخشى انفساخ العقد بهلاكه, فلهذا لم يجز التصرف فيه قبل قبضه, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يخشى انتقاض العقد لأجل هلاكه قبل القبض, فلهذا جاز التصرف فيه. وعناه: أن النكاح لا يبطل بهلاك المهر, وكذلك الجعل في الخلع, ولهذا قلتم: إذا أصدقها عبدًا, فخرج حرًا, أو استحق, كان لها قيمته, ولم يبطل عقد الصداق بفساده؛ لأنه لو بطل رجعت إلى مهر المثل. قيل له: قد منعنا أن تكون هذه علة صحيحة في البيع من الوجه الذي ذكرنا, فلا وجه لإعادته. واحتج المخالف بأنه لا يخشى انتقاض العقد بهلاكه قبل القبض, فوجب أن يجوز التصرف فيه قبل القبض. دليله: إذا تعين حقها في الصداق, وكالثمن في المبيع.

والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن المهر أحد البدلين في عقد النكاح, فوجب أن يجوز التصرف فيه قبل القبض. دليله: البضع, والتصرف في البضع قبل القبض أن يخلعها قبل الدخول. والجواب: أن قوله: (أحد البدلين في النكاح) لا تأثير له؛ لأن بدل الخلع وبدل النكاح سواء. ولأن المقصود بالخلع هو الفرقة دون المعاوضة, ولهذا لا يصح أن يملك بضعها غيرها بعوض يبذله, فلهذا لم يكن من شرطه القبض. ولأن رفع العقد لا يفتقر إلى القبض, ألا ترى أن الأدلة صحيحة في البيع قبل القبض, كما تصح بعده. والجواب: الصحيح: أن البضع إنما جاز التصرف فيه قبل قبضه؛ لأنه متعين, ومثله نقول في الصداق المتعين. *فصل: والدلالة على جواز التصرف فيه إذا تعين حقها فيه: أن حقها فيه تعين في المهر, فملكت التصرف فيه. دليله: بعد القبض.

مسألة التخلية قبض فيما ينقل ويحول في إحدى الروايتين

ولأن الاعتبار بالتعيين دون القبض بدليل: أنه لو تزوجها على طعام مكايلة, وقبضته بغير كيل؛ فإنه لا يجوز لها التصرف فيه, وإن كان مقبوضًا لعدم التعيين. ولأن الصداق أحد بدلي النكاح, فجاز التصرف في المتعين منه قبل القبض. دليله: البضع. واحتج المخالف بأنه تصرف في المهر قبل قبضه, أشبه إذا لم يتعين ملكها فيه. والجواب: أن قوله: (في المهر) لا تأثير له؛ لأن التصرف في الثمن عنده كذلك. ولأنه لا يجوز اعتبار المتعين بغيره, كما لم يجز اعتبارهما بعد القبض. وعلى أنا تكلمنا على ذلك فيما تقدم في التي قبلها. ... 318 - مسألة التخلية قبض فيما ينقل ويحول في إحدى الروايتين: قال في رواية الميموني: إذا جهلا جميعًا, فلم يعرف كل واحد منهما كيله, اشتراه صبرة, فقيل له: كيف التسليم؟ فقال: كيف تسليم الثمرة! في رؤوس النخل, إذا لم يحل بينه وبينه, فهو تسليم.

وكذلك نقل محمد بن الحسن بن هارون: إذا اشترى طعامًا, فلا يبيعه حتى يكتاله؛ يميزه بالكيل من مال البائع. ويشهد لهذه الرواية من أصلنا: أن المبيع إذا تعين فهو من ضمان المبتاع, ويجوز له التصرف فيه, وبه قال أبو حنيفة. وفيه رواية أخرى: التخلية ليست بقبض. نص عليه في رواية الميموني في موضع آخر: إذا اشترى الصبرة, فلا يبيعها حتى ينقلها, حديث ابن عمر: كنا نشتري الطعام جزافًا في أعلى السوق, فنهينا عن بيعه حتى ننقله. وكذلك نقل أحمد بن الحسن في رجل اشترى طعامًا, فلما قبضه, رغب عنه, وقال: بعته مرابحة صبرة: لم يجز حتى يكيله كما كاله, وينقله من موضعه, وذكر حديث: [أن] النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا إذا اشترينا الطعام أن ننقله من موضعه. وبهذا قال. وجه الأولى: ما روى أبو داود وعبد الله بن بطة بإسناده عن ابن عباس, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع طعامًا, فلا يبعه حتى يكتاله). فظاهر هذا: أن المشتري إذا اكتاله, ولم ينقله: أنه يجوز بيعه؛ لأن (حتى) للغاية وما بعد الغاية مفارق لما قبلها.

ولأن بالتخلية قد صار في يد المشتري بدليل جواز التصرف فيه بالنقل, والأكل إن كان طعامًا, واللبس إن كان ثوبًا, والنقل والأكل واللبس تصرف, فإذا كان في يده كان من ضمانه, وجاز له, كما لو نقله. فإن قيل: لو كان في يد المشتري لوجب إذا كان المبيع ساحة, فخلى بينها وبين المشتري, فاحترقت, ثم جاء مستحق, فاستحقها؛ أن يكون له ضمان المشتري؛ لأنها في يده. قيل: لا يمنع أن [لا] تكون التخلية قبضًا في ضمان الغصب, وتكون قبضًا في ضمان المبيع, كالعقار إذا خلى البائع بينه وبين المشتري صار من ضمانه, ولو ظهر مستحق للعقار لم يضمن المشتري. وأيضًا فإن القبض سبب لضمان المبيع على المشتري, كالغصب سبب لضمانه على الغاصب, ثم ثبت أنه لا اعتبار بالنقل في ضمان الغصب بدليل: أن المودع إذا جحد الوديعة, أو طولب بردها, فلم يردها, وجب عليه ضمانها, وإن لم يوجد النقل. وكذلك ولد المغصوبة إذا طولب برده, ولم يرده. وكذلك إذا اصطاد ظبية, فولدت, ثم تلفت وولدها, وكان

المعنى فيه ثبوت يده عليه, كذلك المبيع قد تثبت يد المبتاع عليه بالتخلية من الوجه الذي ذكرنا. فإن قيل: نقول بموجبه, وهو إذا كان المبيع في يد المشتري قبل العقد؛ فإنه لا يحتاج إلى نقل. قيل: إلا أنك تشترط فيه ما يقوم مقام القبض, وهو مضي زمان يقبض في مثله, ولا يعتبر مثل هذا في الغصب. وأيضًا فإن التخلية قد وجدت بين المبيع والمشتري, فوجب أن يحصل من ضمانه, ويجوز له بيعه. دليله: العقار. فإن قيل: العادة في العقار التخلية دون النقل؛ لأنه لا يمكن نقله, والعادة فيما ينقل النقل, ولم توجد العادة, فلم تكن قبضًا. قيل: هذا المعنى لا يوجب الفرق بينهما في ضمان المبيع, كما لم يوجب الفرق بينهما في ضمان الغصب, وقد ثبت أن ضمان الغصب يحصل فيما لم ينقل سواء كان عقار, أو غيره, كذلك هاهنا. واحتج المخالف بما روى أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: كانوا يبتاعون الطعام جزافًا بأعلى السوق, فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه

وروى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام, فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى كان سواه قبل أن نبيعه؛ يعني: جزافًا. وبإسناده عن ابن عمر قال: كان الناس يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا الطعام جزافًا؛ أن يبيعه حتى ينقله إلى رحله. وبإسناده عن ابن عمر قال: ابتعت زيتًا في السوق, فلما استوجبته لقيني رجل, فأعطاني فيه ربحًا حسنًا, وأردت أن أضرب على يده, فأخذ رجل من خلفي بذراعي, فالتقت, فإذا زيد بن ثابت, فقال: لا تبيعه حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. والجواب: أنا نحمل الخبر: حتى يحوزوها, أو يخلو بها. وقد قيل: إن معنى هذه الأخبار: أنهم كانوا يتلقون الجلب, وتكثر الأمتعة في الأعدال, ولا ينظرون إليها إلا بعد إحرازها في رحالهم, فنهاهم عن بيعها قبل أن يحوزوها, وينظروا إليها؛ لئلا يلزموا أنفسهم

مسألة إذا باع طعاما بثمن إلى أجل, فلما حل الأجل باع المشتري من البائع ذلك الطعام بالثمن الذي له عليه, لم يصح البيع

مبيعًا مجهول الصفة. واحتج بأنه مبيع مضمون على البائع, لم ينقله إلى المشتري, فلم يكن قابضًا. دليله: إذا لم توجد التخلية. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار التخلية بعدمها, كما لم يجز مثل ذلك في العقار. ولأنه قبل التخلية لم يحصل في يد المشتري, وبعد التخلية قد حصل في يده من الوجه الذي ذكرنا. ... 319 - مسألة إذا باع طعامًا بثمنٍ إلى أجلٍ, فلما حل الأجل باع المشتري من البائع ذلك الطعام بالثمن الذي له عليه, لم يصح البيع: ذكره في رواية أبي طالب. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز. دليلنا: أن في ذلك ذريعة إلى طعام بطعام نسيئًا, وجعلا ذكر

الثمن طريقًا إلى جواز البيع, والذرائع معتبرة في الأصول من الوجه الذي ذكرنا في مسألة الثمرة إذا تركها حتى يبدو صلاحها بما فيه كفاية. فإن قيل: لو كان غرضه بيع طعام بطعام لكان يجعله قرضًا. قيل: لا يحصل له القرض؛ لأن الغرض المطالبة في الحال, وإن أجله وعقد البيع, يتأجل بتأجيله. فإن قيل: ليس هذا بيع طعام بطعام, وإنما باع الطعام الأول بثمن, والطعام الثاني بثمن, فهما عقدان بثمنين بدلالة: أن الطعام الثاني لو خرج مستحقًا سلم إلى صاحبه, ورجع المبتاع على البائع بالثمن, ولو كان ع طعام بطعام لرجع عليه بالطعام الأول. قيل له: قد بينا: أنهما قد يقصدان بذلك بيع الطعام بالطعام, وإن كان الثمن ثابتًا في ذمته في الظاهر, كما أنه يجوز أن يكون قصد بقرض الإماء أن يطأ في غير ملك يمين, ولا عقد نكاح, وإن كان الظاهر: أنه قد ملك الأمة بالقرض. وكذلك قد منع من الأكل من الهدي إذا عطب دون محله, وإن كان تطوعًا؛ لجواز أن يكون قصر في علفه. ***

مسألة التصرية تثبت الخيار للمبتاع في الرد, ورد صاعا من تمر؛ لما احتلبه من اللبن

320 - مسألة التصرية تثبت الخيار للمبتاع في الرد, ورد صاعًا من تمرٍ؛ لما احتلبه من اللبن: نص عليه في رواية الجماعة؛ أبي طالب, وابن إبراهيم, وإسماعيل ابن سعيد. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يملك الرد. دليلنا: ما روى أحمد في (المسند) بإسناده عن الأعرج, عن أبي هريرة يبلغ به قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا البيع, ولا تصروا الغنم والإبل للبيع, فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين؛ إن شاء أمسكها, وإن شاء ردها بصاع من تمر لا سمراء). وروى بإسناده في لفظ آخر عن أبي هريرة, عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع محفلة أو مصراةً فهو بالخيار؛ إن شاء أن يردها فليردها, وإن شاء أن يمسكها أمسكها). وروى أبو داود بإسناده في لفظ آخر عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى [شاة] مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام؛ إن شاء ردها

وصاعًا من طعام لا سمراء). وروى- أيضًا- بإسناده عن ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيامٍ, فإن ردها رد معها مثل- أو مثلي- لبنها قمحًا). فوجه الدلالة من الخبر: أنه نهى عن التصرية, وأنتم لا تنهون عنها, وجعل التصرية سببًا لثبوت الخيار, وأنتم لا تجعلونها سببًا, وجعل الرد بعد الحلب, وعندكم قبل الحلب وبعده سواء, وأوجب رد الصاع عليه, وهذا يقتضي أن اللبن يأخذ قسطًا من الثمن, وعندهم لا قسط له. فإن قال بعضهم: هذا يرويه أبو هريرة, وحديثه لا يعمل عليه. وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كان لا يقبل من أخبار أبي هريرة إلا ما فيه ذكر الجنة والنار. وروي عن أبي هريرة أنه قال: لو حدثت بهذه الأحاديث على عهد عمر لرأيت الدرة تصعد على رأسي وتنزل. فيقال له: لم لا تعمل بحديثه؟ وهو رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد أثنى الله-تعالى- على الصحابة, ورضي عنهم, وزكاهم, وأخبرنا بإيمانهم وتقواهم, وأبو هريرة - رضي الله عنه - داخل في جملتهم, ومن

يتنقص منه فإنما يدخل في مذهب الرافضة في القصر من الصحابة, ونعوذ بالله. وقال أحمد في رواية محمد بن منصور الطوسي: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام, فقلت: يا رسول الله! كل ما روى أبو هريرة عنك حق؟ قال: نعم. وقد قال أبو عبيدٍ القاسم بن سلام في كتابه المسمى بـ (الحجر والتفليس): ناظرت محمد بن الحسن, فاحتججت عليه بحديث أبي هريرة: (ايما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه). فقال: هذا من أخبار أبي هريرة. قال أبو عبيدٍ: وكان ما هرب إليه أشد مما هرب منه. وقد روى عنه جماعة من الصحابة مثل: عبد الله بن عباس, وعبد الله

ابن عمر, وأنس, وعمرو بن حزم, وعمرو بن حريث, وحدث عنه طلحة بن عبيد الله, وأبو أيوب الأنصاري. وقال البخاري في [....]: حدث عن أبي هريرة سبع مائة من أولاد المهاجرين والأنصار. وهذا يدل على علمه ودينه وثقته, والذي روي عن إبراهيم لا يصح عنه, وكيف يصح وقد روينا من عمل الصحابة بروايته وعمل التابعين ما يدل على كذب ذلك؟! وعلى أن هذا متناقض؛ لأنه إذا جاز العمل بخبره فيما فيه من ذكر الجنة والنار, وتصديقه فيه, وجب ذلك في جميع أخباره ورواياته, ولا فرق بينهما. والذي روي عنه أن قال: لو حدثت بهذه الأحاديث في عهد عمر رأيت الدرة تصعد. فيجوز أن يكون لعمر مذهب في قبول الأخبار, كما كان لعلي مذهب في قبولها, وهو: أن يستحلف الراوي عليها. فإن قال هذا القائل: إنما لم أقبل خبره, لا لطعن في دينه, لكن لأنه كان يكثر الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فيقل ضبطه لها. قيل له: هذا يدل على غزارة حفظه, وسعة علمه, ومثله في ذلك

كما قال البحتري: إذا محاسني اللاتي أدل بها ... عدت ذنوبًا, فقل لي: كيف أعتذر؟! وكما قال بعضهم: كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدًا, وبغيًا: إنه لذميم وقد أجاب أبو هريرة عن هذا فيما رواه أحمد في (المسند) بإسناده عن الأعرج, عن أبي هريرة: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , والله الموعد! إنكم تقولون: ما بال المهاجرين لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأحاديث, وما بال الأنصار لا يحدثون بهذه الأحاديث, وإن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتهم في الأسواق, وإن أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها, وإني كنت امرأ معتكفًا, وكنت أكثر مجالسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أحضر إذا غابوا, وأحفظ إذا نسوا, وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا يومًا, فقال: (من بسط ثوبه حتى أفرغ من حديثي, ثم يقبضه إليه؛ فإنه ليس ينسى شيئًا سمعه مني أبدًا) , فبسطت ثوبي, أو قال نمرتي, ثم حدثنا, فقبضته إلي, فو الله ما نسيت شيئًا سمعته منه, وايم الله! لولا أنه في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدًا, ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ

وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الآية كلها. وروى أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: ليس أحد أكثر حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني, إلا عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب, وكنت لا أكتب. وعلى أن أبا حنيفة ترك القياس بحديث أبي هريرة في الأكل ناسيًا. وعلى أن أبا داود قد روى ذلك عن ابن عمر. فإن قيل: قد توقف قوم من الصحابة في روايته: فروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أصبح جنبًا, فلا صيام له) , فقالت عائشة: يرحم الله أبا هريرة! نحن أعلم بهذا منه. وروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الوضوء مما مست النار) , فقال ابن عباس: ألسنا نتوضأ بالحميم؟! وروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه, فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا). قال له الأشجعي: فما يصنع بالمهراس؟! قيل له: ما ذكرتموه ليس برد لرواية أبي هريرة, وإنما هو تأويل

منهم لما رواه من الأخبار؛ إما بنسخ ثبت عندهم بخبر آخر أو تأويل, كما روي: أن الأنصار روت: (الماء من الماء) , فرد عليهم ذلك؛ لأن الخبر منسوخ. فإن قيل: هذا الخبر غير مضبوط في الأصل لاختلاف ألفاظه؛ فروى: (من اشترى شاة مصراةً, أو لقحةً مصراةً, فحلبها, فهو بخير النظرين؛ بين أن يختارها, وبين أن يردها وإناء من طعامٍ). فذكر خيارًا غير مؤقت, وذكر إناء من طعام. وروى: (فهو بالخيار؛ إن شاء ردها وصاعًا من تمرٍ). وفي حديث آخر: (صاعًا من طعام لا سمراء)؛ يعني: لا حنطة, وهذا يقتضي الشعير. وروى: (من اشترى مصراةً فلينقلب بها؛ فليحلبها؛ فإن رضي حلابها أمسكها, وإلا ردها, ورد معها صاعًا من تمرٍ). فهذه الأخبار ليس فيها توقيت الخيار. وروى أخبارًا فيها توقيت؛ فروى: (من ابتاع شاة مصراةً فهو فيها

بالخيار ثلاثة أيامٍ؛ فإن شاء أمسكها, وإن شاء ردها ورد معها صاع تمرٍ). فلما اختلفت ألفاظه في مقدار المردود, وفي إطلاق الخيار وتوقيته, علم أنه غير مضبوط. قيل له: هذا النوع من الاختلاف [لا] يوجب اضطراب الخبر؛ فإن كل لفظ منه يعاضد صاحبه, ويبينه؛ لأنه في موضع أطلق أن له الخيار, وفي موضع فسر المدة بالثلاث, فكان خاصًا يقضى به على المطلق. وإنما تدل على الاضطراب إذا كانت ألفاظًا مختلفةً لا تتفق, ولا يمكن الجمع بينها. فإن قيل: المراد عندنا بالخبر: [أنه] إذا شرط في عقد البيع أن حلابها كذا وكذا, فيفسد العقد لأجل الشرط, وإذا تبين نقصان اللبن عما شرط كان بالخيار: إن شاء أسقط الشرط, ورضي بها, فيصح البيع؛ لأن العقد إذا فسد بشرط ملحق به, ثم أسقط صار كأن العقد وقع عاريًا عن الشرط, فيصح.

وإن شاء فسخه, وردها؛ لأن العقد فاسد. قيل له: هذا التأويل مخالف لجميع ما نفل في الخبر؛ لأنه قال: (لا تصروا الإبل والغنم للبيع). فعلق الحكم بالتصرية, وفي الموضع الذي ذكروه الحكم متعلق بالشرط. ثم قال: (فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها). ولا أثر لهذا الحلب في ذلك الموضع, [وإنما] يحتاج أن يتفق البائع والمشتري على إسقاط الشرط, وإقرار العقد. وقال: (ردها وصاعًا من تمرٍ). وفي ذلك الموضع لا يجب رد التمر. فإن قيل: فهذا الخبر مخالف للأصول, وخبر الواحد إذا خالف الأصول وجب رده. ووجه المخالفة: من وجوه: أحدها: أن من أتلف شيئًا له مثل, وجب عليه رد مثله, واللبن له مثل. ولأنه يؤدي إلى أن يقوم عليه اللبن بصاع, ثم سواء كانت قيمته صاعًا, أو أقل, أو أكثر, وهذا مخالف للأصول؛ لأن من غصب من رجل لبنًا, واستهلكه, لم يقوم عليه بصاع من تمر.

ولأن القيمة يصار إليها عند فوات العين, وعندهم: أن اللبن لو كان قائمًا بعينه, فأراد المشتري رده, لم يجبر البائع على قبوله, وكان له أن يطالبه بصاع تمر. ولأنه يجوز أن يكون ثمن الشاة في الأصل صاع تمر, فإذا ردها, ورد معها صاعًا من تمر, حصل للبائع الشاة ومقدار ثمنها, ويجوز أن يكون ثمنها أقل من صاع, فتحصل له الشاة وأكثر من ثمنها. قيل له: الخبر إذا كان مخالفًا للأصول كان أصلاً بنفسه, وثبت كثبوت سائر الأصول, ووجب المصير إلى موجبه, كما يجب المصير إلى غيره, فلئن وجب رده لمخالفة الأصول, وجب رد الأصول لمخالفته. ولا يمتنع أن تكون الأصول مختلفة, ولهذا عمل أبو حنيفة بخبر نبيذ التمر في الوضوء, وخبر القهقهة, وخبر الأكل ناسيًا مع اعترافه أنه مخالف للأصول المرتبة في الشريعة, كذلك هاهنا. وعلى أن ليس فيما ذكروه مخالفة للأصول. فأما قولهم: (إن من أتلف شيئًا له مثل, وجب رد مثله, واللبن له مثل) , فلا يصح؛ لأنه إنما يجب رد مثله إذا كان معلومًا, واللبن هاهنا مجهول المقدار؛ لأنه في الضرع, وقد اختلط بما حدث بعد العقد للمشتري, ولا سبيل له إلى الوقوف على قدره, [و] في إيجاب عوضه من جنسه ما يؤدي إلى الربا؛ لأن الصاع منه يجوز أن يزيد عليه, ويجوز أن ينقص عنه, فيكون ربًا, فأوجب من جنس التمر؛ لئلا يؤدي إلى الربا.

فإن قيل: لو اختلط لبن شاته بلبن شاة غيره, لم يجب العدول إلى غير جنسه, بل يجعل بينهما. قيل له: ذلك اللبن لا سبيل إلى الوقوف على مقداره قبل الخلط, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا سبيل لنا إلى معرفة مقداره؛ لأن اختلاطه من أصل الخلقة, فهو كالجنين؛ لا سبيل لنا إلى معرفة صفته بحال, فجعل فيه الغرة قطعًا للخصومة. وجواب آخر, وهو: أن المضمونات على ضربين: منها ما يضمن بالمثل. ومنها ما يضمن بالقيمة. وما يضمن بالقيمة من جنسه ما لا يضمن بالقيمة, كالعبيد؛ يضمنون بالقيمة, والأحرار من جنسهم لا يضمنون بالقيمة, وجب أن يكون من جنس ما يضمن بالمثل ما لا يضمن بالمثل, ويضمن بالقيمة. وأما قولهم: (هذا يؤدي إلى أن يضمنه بأكثر من قيمته, أو أقل) , فلا يصح أيضًا؛ لأنه إنما لا يجوز ذلك في الموضع الذي يعرف مبلغ المتلف, وفي هذا الموضع اللبن مجهول المقدار, فيقع التداعي والخصومة في قدره, فأوجب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار, فيقع التداعي والخصومة في قدره, فأوجب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدارًا معلومًا قطعًا للخصومة, كما أوجب ذلك في الجنين غرة؛ عبدًا أو أمة؛ سواء كان ذكرًا أو أنثى؛ لقطع الخصومة, ولأنه قد لا يبين فيه أنه ذكر, أو أنثى, وربما خرج منقطعًا.

فإن قيل: لم يوجب في الجنين الغرة لما ذكرت؛ لأنه لو كان كذلك, لوجب إذا اختلط لبن غيره بلبن شاة نفسه أن يجب فيه شيء مقدر. قيل له: قد أجبنا عن هذا, وبينا الفرق بين اختلاط اللبن من أصل الخلقة, وبين اختلاطه بعد ذلك. فإن قيل: لو لم يوجب الغرة لكان قياس الأصول, فوجب أن يكون القول قول الجاني مع يمينه, وتنقطع الخصومة؛ وقد أوجب فيه الغرة مع إمكان الفصل بينهما بالتمييز, فعلم أنه لم يوجب لما ذكرته. قيل له: إنما لم يقطع الخصومة باليمين؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط الضمان, والدماء يحتاط لها, فلما أوجب الضمان في ذلك قدره بالغرة قطعًا للخصومة؛ لأجل الاختلاف والاحتمال الحاصل في ذلك. وأما قولهم: (إن القيمة يصار إليها عند فوات العين, واللبن هاهنا قائم بعينه) , فلا يصح. قيل له: باختلاطه باللبن الحادث فقد فاتت العين, ولهذا رجع إلى قيمتها. وأما قولهم: (إنه يجوز أن تكون قيمة الشاة صاعًا, فيردها, ويرد معها صاعًا, فيجتمع له الثمن والمثمن) , فلا يصح؛ لأن الصاع الذي يأخذه ليس ببدل عن الشاة, وإنما هو بدل عن اللبن الذي احتلبه, فلا يؤدي إلى اجتماع العوض والمعوض.

وعلى أن مثل هذا موجود في الأصول, وذلك أن رجلاً لو ملك عبدًا قيمته صاع من تمر؛ فإنه تجب عليه زكاة الفطر صاع من تمر, وإن كانت الأصول مبنية على أن زكاة المال لا تكون مثل المال, بل يؤدي قليلاً من كثير. والقياس أنه تدليس بما يختلف به الثمن, فوجب أن يثبت الخيار. أصله: إذا سود شعر الجارية المبيعة, ثم نصل الخضاب, وصارت شمطاء؛ فإن الخيار للمشتري. وكذلك لو باع رجلاً أرضًا قد صر صاحبها الماء, وجمعه في موضع, ثم أرسل عند العقد حتى شاهده المشتري, فرغب في الشراء, ثم نقص الماء, وعلم أنه صراه؛ أنه يملك الخيار في الفسخ, كذلك هاهنا. ولا يلزم عليه إذا علف الشاة حتى امتلأت خواصرها, وصارت كأنها حبلى؛ لأن هذا ليس بتدليس على ما نبنيه فيما بعد. فإن قيل: الشمط عيب, فإذا دلس به ثبت الخيار, وليس كذلك نقصان اللبن؛ فإنه ليس بعيب, فتدليس البائع إياه لا يثبت الخيار, وكذلك نقصان الماء عن دوران الرحل عيب في نفسه.

قيل له: الشمط ليس بعيب؛ لأن ذلك من أصل الخلقة؛ لأن الله- تعالى- خلق الشعر على صفة قد يكون في بعض أحواله أسود, وفي بعضه أبيض, ولعله يمكث في حال بياضه أكثر وأمد. فإن قيل: فيجب إذا اشترى جارية, ووجد شعرها أبيض, أن لا يكون له ردها بذلك, إلا أن يكون شرط سواده, أو دلس البائع بتسويده, فيثبت الخيار, كما إذا سود البقرة, ثم تبين أنا شقراء, كان له الخيار, وإن لم يسوده إلا سود البقرة, ثم تبين أنها شقراء, كان له الخيار, وإن لم يسوده إلا أنه وجدها شقراء, لم يكن له الخيار. وقد أومأ أحمد 'لى هذا في رواية حنبل: وذكر له قول شريح: إنه كان يرد من الشامة ومن الشيب إذا غير. فقال أحمد: هذا نقص في السلعة, وهو عيب يرد به. فجعله عيبًا عند التدليس. واحتج المخالف بأن نقصان اللبن, أو فقده أصلاً, ليس بعيب في الشاة, ألا ترى أنه لو اشتراها, ولم تكن مصراة, فوجدها تحلب قليلاً, أو لم يكن لها لبن اصلاً, لم يكن له أن يردها؟ فتدليس البائع وإيهامه أنها على الصفة التي ظنها المشتري لا يثبت الخيار, إذا وجدها المشتري على خلاف ما ظنه, كما لو أشبعها, أو سقاها, فامتلأت خواصرها, وانتفخت, فظن المشتري أنها حامل, ثم

تبين أنها حائل, لم يكن له أن يردها للمعنى الذي ذكرنا. وكذلك لو سود أنامل عبده, وترك بين يديه دواة وقلمًا وقرطاسًا, فظن المشتري أنه كاتب, ثم تبين أنه ليس بكاتب؛ أنه ليس له أن يرده؛ لأن فقد هذا المعنى ليس بعيب فيه, فإيهام البائع أنه على هذه الصفة لم يثبت للمشتري الخيار, كذلك في مسألتنا. والجواب: أن هذا يبطل به سود الشعر؛ فإن البياض ليس بعيب, ومع هذا إذا قصد التدليس بسواده ملك الخيار. وعلى أن امتلاء الخواصر بالعلف ليس بتدليس, وكذلك سواد أنامل العبد؛ لأن انتفاخ الخواصر وامتلاءها يكون كل يوم من العلف, فمن قدره أنه حمل, فإنما غلط فيه من غير تدليس من البائع. وكذلك المداد على الثوب قد يكون لأنه صاحب دواة, أو غلام لولده في الكتاب, وإذا كان كذلك, كان تقديره باطلاً, وقد أتي من قبل نفسه دون البائع. والذي يبين صحة هذا: أنه لو ابتاع شاة ضرعها عظيم الخلقة, فظن ذلك لكثرة اللبن, ثم بان ذاك لكثرة لحمه وعظمه, لم يكن له الرد؛ لعدم التدليس من البائع, وإن كان المشتري قد ظن كثرة اللبن. واحتج بأن نقصان اللبن لو كان عيبًا, لكان كماله من موجب العقد,

ولو كان من موجبه لكان فقده عيبًا, ألا ترى أن نقصان سائر الأعضاء لما كان عيبًا, كانت سلامتها من النقص موجبة بالعقد, وإذا وجد شيء منها ناقصًا كان له الخيار؛ سواء أوهم البائع في العقد أنها سليمة وأنها صحيحة, أو لم يوهم, ألا ترى الشمط في الجارية؛ لما كان عيبًا, كان فقده عنها وذهابه من مقتضى العقد, فمتى وجدها على هذه الصفة, كان له أن يردها؛ سواء أوهم البائع في حال العقد بتسويد شعرها, أو لم يوهم. والجواب: أنه لا يمتنع أن يثبت الفسخ بالإيهام والتدليس, وإن لم يثبت بالإطلاق بدليل: أنه لو باعه رحى قد صر الماء في موضع, وأجراه حين العقد, ملك الفسخ, ولو لم يفعل هذا لم يكن للمبتاع الفسخ. وكذلك لو ابتاع عبدًا على أنه خباز, فبان بخلافه, ملك الفسخ؛ لأنه كالمدلس له بالشرط, ولو لم يشرط ذلك, لم يكن له الفسخ. واحتج بأن التصرية لو كانت عيبًا يثبت الخيار للمشتري لوجب أن يكون الخيار مبهمًا, ولا يكون موقتًا بالثلث, كسائر العيوب لا يتوقت الخيار فيها؛ لأن عندنا وعندكم إذا علم العيب فهو على خياره ما لم يرض به, أو يفعل ما يستدل به على الرضا, وعند غيرنا إذا علم بالعيب,

مسألة إذا ابتاع جارية فولدت, أو نخلا فأثمرت, ثم ظهر على عيب, كان له الرد بالعيب, وإمساك النماء

فلم يرده مع القدرة على الرد بطل خياره. وقد قلتم في مسألتنا: لو علم بالتصرية قبل مضي الثلاث, فلم يردها, وأمسكها إلى تمام الثلاث, فإنه يبطل خياره, علم أنها ليست عيبًا, وهو ظاهر كلام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: يحبسها ثلاثة أيام. والجواب: أنه لابد هاهنا من مضي مدة لتحقق التصرية, فقدرت بثلاثة أيام, كما لو قدر مخالفنا خيار الشرط بثلاثة أيام. ... 321 - مسألة إذا ابتاع جارية فولدت, أو نخلاً فأثمرت, ثم ظهر على عيب, كان له الرد بالعيب, وإمساك النماء: نص على هذا في رواية أبي طالب في رجل اشترى أمة, فولدت عنده: فإن شاء ردها, وإن شاء أمسكها. ومعناه: يردها بالعيب. فقد أثبت له الرد هاهنا, وإن لم يبين حكم الولد؛ هل هو له, أم لا؟ وقال في رواية ابن منصور: إذا اشترى غنمًا, فنمت, ثم استحقت, فالنماء له, إلا في المصراة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يرد معها صاعًا) , وأما غير ذلك فالخراج بالضمان. فقيل له: قال الثوري: يردها ونماءها, والجارية إذا ولدت مثل ذلك. فقال أحمد: لا.

فقد نص على أنه يملك الرد, ويمسك النماء. ونقل ابن منصور في موضع آخر في من اشترى سلعة, فنمت عنده, وبان بها داء: فإن شاء المشتري حبسها, ورجع بقدر الداء, وإن شاء ردها, ورجع عليه بقدر النماء. فظاهر هذا: أنه لم يحكم له بالنماء, والأول أصح, وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ليس له الرد, ويرجع بأرش العيب. وقال مالك في الجارية: يردها, ويرد ولدها. وفي الثمرة: يمسكها, ويرد الأصل. فالدلالة على أن حدوث النماء لا يمنع الرد في الجملة: أن النماء معنى إذا تلف لم يمنع من رد الأصل بالعيب, فوجب أن لا يمنع مع ثباته. أصله: الكسب. وقيل: لا يمنع من الرد بعد فواته, فلا يمنع من ثباته. وقيل: لا يمنع من الرد بعد فنائه, فلا يمنع مع ثباته, كالكسب. فإن قيل: إذا تلف النماء فكأنه لم يوجد, كما إذا حدث في يده عيب, لم يجز له رده, فإذا زال العيب, كان له رده, وكان بمنزلة ما لم يوجد.

قيل له: فيجب إذا أتلفه أن يجوز له رده, ويكون بمنزلة ما لم يوجد, وقد قلت: لا يجوز له رده, وإن كان قد تلف ... وليس كذلك العيب؛ فإنه لا فرق بين أن يزول بنفسه, وبين أن يزيله مثل الآثار التي تزال بالعلاج. فإن قيل: المعنى في الكسب: أنه بدل منافع المبيع, وليس بنماء حادث من نفسه, وليس كذلك الولد والثمرة؛ فإنهما حادثان من نفس المبيع, فلم يجز رد ذلك الأصل, وتبقية النماء الحادث منه. قيل له: المنفعة حادثة من نفس المبيع, وبدلها قائم مقامها, وذلك كان بمنزلة الولد والثمرة الحادثان من نفس المبيع. ولأن سبب ملك الكسب, وهو سبب ملك الولد والثمرة؛ لأن المشتري يملك الكسب بمبك الأصل, كما يملك الولد والثمرة بملك الأصل, والبيع سبب الملك للأصل, فكان حكم الكسب حكم النماء, فإذا كان الكسب لا يمنع من الرد, كذلك النماء. ولأن الولد مودع في الأم غير متصل بها, والثمرة متصلة بالأصل لا تنفصل إلا بالقطع, وحكمهما سواء, كذلك الكسب يجب أن يكون حكمه حكمها, وإن خالفهما.

فإن قيل: الكسب ليس بموجب بالعقد, والولد موجب به, فلا يجوز أن يفسخ العقد فيها, ويبقى موجبه في يده. قيل له: الكسب بمنزلة النماء من الوجه الذي ذكرنا, وهو أن سبب ملك الكسب هو سبب ملك الثمرة, والثمرة والولد موجب بالعقد, كذلك الكسب. ولأن الكسب قائم مقام المنفعة الحادثة من نفس المبيع وبدلها, وكذلك الثمرة والولد. فإن قيل: المغرور لا يرجع على البائع بما غرم من الكسب, ويرجع بما غرم من قيمة الولد والثمرة. قيل له: يرجع على 'حدى الروايتين, وهي المشهورة. فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية إبراهيم بن هانئ في امرأة أقرت أنها أمة, فباعها رجل, ووطئها المشتري: فليس لها شيء؛ لأنه وطئها على أنها أمته. فقد أسقط المهر هاهنا. قيل له: إنما أسقطه؛ لأن الغرور جاء من جهة المستحق, وهي المرأة, فلهذا لم تستحق؛ لأنها أذنت له في وطئها. وقياس آخر, وهو: أنه نماء حادث في ملك المشتري, فوجب أن لا يمنع من رد الأصل بالعيب.

دليله: إذا حدث في يد البائع قبل تسليمه إلى المشتري. ودليله: النماء المتصل, كالسمن والطول. فإن قيل: المعنى فيه إذا حدث في يد البائع: أنه دخل في التسليم المستحق بالبيع, فصار بمنزلة المبيع, وليس كذلك إذا حدث في يد المشتري؛ فإنه لم يدخل في البيع, ولا في التسليم المستحق بالبيع, فلم يجز رده بالعيب, ولا رد الأصل مع تبقيته. قيل له: النماء الحادث في يد البائع قبل التسليم لم يدخل عندنا في التسليم المستحق بالبيع, وإنما وجب عليه تسليمه إلى المشتري بحق الملك دون العقد, وقد قال أصحابنا: إذا أصدقها غنمًا بعينها, فتوالدت, ثم طلقها قبل الدخول, كانت الأولاد لها. ولم يفرقوا بين أن يحدث الأولاد في يد الزوج, أو في يدها. واما علة الفرع؛ فإنها منتقضة بالزيادة المتصلة؛ فإنها لا تمنع من الرد, ولم تدخل في البيع, ولا في التسليم المستحق بالبيع. وقياس آخر, وهو: أن كل عقد لا يمنع وجود الكسب والنماء المتصل. دليله: الهبة؛ فإن الرجوع في الهبة لما جاز مع وجود الكسب من الموهوب, جاز مع وجود النماء فيه. فإن قيل: النماء غير موجب بعقد الهبة, وهو موجب بعقد البيع.

قيل: هو موجب بهما؛ لأن العقد سبب ملك النماء على ما تقدم بيانه. فإن قيل: المغرور يرجع على البائع بقيمة الولد, ولا يرجع المغرور على الواهب. قيل له: يرجع في الهبة على الواهب, كما يرجع على البائع؛ لأن الغرور منهما واحد. وقياس آخر, وهو: أن النماء معنى لم يحصل به نقص في عين المبيع, ولا في قيمته, فلم يبطل به حق الرد إذا لم يتضمن الرضا بالعيب. دليله: الاستخدام وركوب الدابة. يبين صحة هذا: أن الولادة وحدوث الثمرة وحلب لبن المصراة ليس بنقص في العين, ولا في القيمة, وأن ذلك لو وجد في يد البائع قبل القبض لم يثبت للمشتري فيه حق الرد, ولو كان نقصًا لثبت له ذلك. ولا يلزم عليه إذا زوج العبد والأمة, أو أحدهما؛ لأن ذلك- وإن لم يكن نقصًا في العقد- فإنه نقص في القيمة. على أن أحمد قد توقف عن الجواب في ذلك, فقال مهنا: سألته

عن رجل اشترى جارية, فزوجها رجلاً, فولدت منه, ثم ظهر بها عيب, فأعرض عني, ولم يخبرني بقوله, وقال: قد اختلفوا, ولو قلت معنى لم يتضمن الرضا أجزأ. وأجود من هذا أن نقول: أصاب عيبًا لم يقف على محله, فملك الرد, كما لو لم ينم. واحتج المخالف بأنه لو جاز له أن يردها بالعيب لم يخل؛ إما أن يفسخ العقد بالجارية والولد, أو فيها دون الولد. ولا يجوز أن يفسخ فيهما؛ لأن الولد لم يقع عليه العقد, ولم يدخل في التسليم الموجب بالعقد. ولا يجوز أن يفسخ فيها دون الولد؛ لأن الولد- وإن لم يقع عليه العقد- فهو موجب بالعقد بدليل: أن المغرور يرجع بقيمة الولد على الغار, فلولا أن البائع قد أوجب له سلامة الولد, كما أوجب سلامة الأم لما رجع عليه بقيمته, كما لا يرجع بسائر ما يستحق عليه مما لم يوجب له البائع سلامته. وإذا ثبت أن الولد موجب بالعقد, لم يفسخ العقد في الأم, ويبقى موجبه في يد المشتري؟ فإذا بطل الوجهان لم يبق فيها لجواز الفسخ وجه, ولا يشبه الجارية الموهوبة إذا ولدت في يد الموهوب له ولدًا, ثم أراد الواهب أن يفسخ

الهبة في الأم؛ أنه يجوز, ولا يمنع الولد الرجوع في الأصل؛ لأن ولد الموهبة غير موجب بعقد الهبة, ألا ترى أن الموهوب له إذا استولد الجارية, فاستحقها رجل, أخذ الجارية, وضمنه قيمة الولد, ولا يرجع الموهوب له على الواهب بما ضمن, والمشتري يرجع. ولا يلزم عليه الكسب؛ لأنه ليس بموجب بالعقد, والولد موجب به. والجواب: أن هذا منتقض بالكسب, وبالرجوع في الهبة من الوجه الذي ذكرنا, وأن ذلك موجب بالعقد, ومع هذا لا يمنع. وعلى أنه لا يمتنع رفع العقد مع بقاء موجبه, كما يتزوج امرأة, ثم يطلقها, فيبقى تحريم أمها, وتحريمها على ابنه وأبيه, ويفسخ البيع, ويبقى المبيع في يده على ضمان البيع. وقد قيل في جواب هذا طريقة أخرى, [وهي]: أن الأولاد ليسوا من موجب العقد؛ لأنهم لم يكونوا موجودين حال العقد, وإنما يتعلق حكم العقود بالأعيان. يبين صحة هذا: أن حالفًا لو حلف: أن لا يأكل مما اشتراه زيد, فأكل من نتاج ذلك الشيء ولبنه, لم يحنث. فثبت أن العقد لم يتعلق بهم, وإنما رجع المشتري على البائع

بقيمة الأولاد؛ لأنه ضمن له سلامة المبيع, ومن سلامته أن لا يلزمه غرم لأجله, فحين لم يسلم له ذلك رجع عليه بما غرمه, ألا ترى أن الثمن الذي غرمه المشتري بالعقد لا يتوزع على الأم وعلى الأولاد, فلم يرجع بالثمن لأجل الأم, وبالقيمة لأجل الأولاد؟ ولو كان العقد قد تناول الجميع, وتعلق حكمه بهم؛ لتوزع الثمن عليهم, كما يتوزع على سعرٍ, يعقد عليها عقدًا واحدًا. واحتج بأن من أصلنا: أن الرد بقضاء قاضٍ يوجب رفع العقد من الأصل, وعود الشيء إلى ملك البائع على حكم الملك الأول, وإذا انفسخ العقد من الأصل, صار كأن الولد حصل في ملك البائع, فيجب رده عليه, ولما اتفقوا أنه لا يرد, ثبت أن الأم لا ترد. ولا يلزم عليه الكسب؛ لأن العقد إذا انفسخ من الأصل, صار كأن الكسب حدث عل ملك البائع, وحدوثه على ملكه لا يوجب رده عليه, ألا ترى أنه لو غصب جارية, فاستغلها لم يجب عليه أن يرد على المغصوب منه, وإن كانت الغلة حادثة على ملكه؟ والجواب: أنا لا نسلم: أن الرد بالعيب بقضاء قاضٍ يوجب فسخ العقد في الأصل, وإنما هو فسخ في الحال, وهذه طريقة في المسألة. والدلالة على ذلك: أنه فسخ بيع, فكان فسخًا في الحال, كالإقالة. فإن قيل: الإقالة تدخل الشيء في ملكه بقبوله, فيصير كبيع مستقبل, وليس كذلك هاهنا؛ لأن الشيء يدخل في ملكه بغير قبوله,

فوجب أن لا يكون حكم ملكه حكم ملك مستقبل, كالوارث. قيل له: علة الأصل تبطل بالمشتري إذا وجد العيب بعد القبض, فعندهم لا يرجع المبيع إلى البائع إلا برضاه وقبوله. وليست الإقالة ببيع مستقبل, وإنما هو رفع عقد؛ لأنه لو كان فسخًا للعقد من الأصل لوجب أن يكون الكسب للبائع, فإذا وهب له هبة, أو أوصى له بوصية, ثم رد بالعيب أن يكون ذلك للبائع؛ لأنه حدث في ملكه, كما لو ابتاع شيئًا ابتياعًا فاسدًا, ثم ترادا؛ فإن النماء الحادث في يد المبتاع للبائع, فلما لم يكن للبائع, ثبت أنه قطع للعقد في الحال. فإن قيل: فيجب أن تجب الشفعة؛ لأنه تمليك مبتدأ, وأن لا يرد على بائعه بالعيب. قيل له: إنما لم تجب الشفعة؛ لأنها تستحق بالعقود, لا بالفسوخ, ألا ترى أنها لا تتعلق بالإقالة؛ لأنها فسخ, وإن كانت قطعًا للملك في الحال؟ وعلى أن الشفعة حجة لنا؛ لأنه لو كان رفعًا للعقد لوجب أن يسقط حق الشفعة بالفسخ, وأجمعنا على أنه لا يسقط. وأما الرد بالعيب فلأنه لم يسلم له ما عقد عليه, فهو كالفسخ بالعنة؛ تملكه الزوجة, وهو فسخ في الحال. واحتج بأن النماء مال جعل في يد المبتاع بسبب رقبة المبيع, فمنعه

من الرد بالعيب, كما لو كان المبيع عبدًا, فجنى عليه جناية, فأخذ المبتاع أرشها؛ فإن أخذه للأرش يمنع الرد بالعيب, كذلك إذا كانت جارية, فولدت, وأخذ ولدها, وجب أن يمنعه ذلك من الرد بالعيب. والجواب: أنه يبطل بالكسب؛ فإنه حصل في يده بسبب الرقبة, ومع هذا لا يمنع الرد. وعلى أن الجناية وأخذ الأرش لا يمنع الرد بالعيب على الصحيح من الروايتين, وهذه مسألة تأتي, ويمنع على الرواية الأخرى, ولكن ليس المانع هناك حصول المال, وإنما المانع النقص, ألا ترى أنه لو ذهبت يد العبد بأمر سماوي, منع الرد, وإن لم يكن هناك مال, فسقط ما قاله. *فصل. والدلالة على أن له إمساك الولد ورد الأم خلافًا لمالك: ما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الخراج بالضمان). وروي في لفظ آخر: (الغلة بالضمان)؛ يعني: أن غلة الشيء تكون لمن ضمانه عليه, وضمان المبيع بعد العقد يكون على المبتاع, واسم الغلة يقع على الثمرة والولد وغير ذلك. ولأنه نماء حادث في ملك المبتاع, فكان له إمساكه, ورد الأصل.

دليله: الثمرة. واحتج المخالف بأن الحمل يجري مجرى الأعضاء بدليل: أنه يعتق بعتقها, فلما وجب رد أجزائها التي وقع عليها العقد, وإن زادت وعظمت في يد المشتري, كذلك الحمل. الجواب: أن الأعضاء كانت موجودة حال العقد, فهي كالحمل الموجود حال العقد, فلهذا وجب ردها, وليس كذلك هاهنا؛ لأنه نماء حدث بعد العقد, فهو كالثمرة. واحتج بأنه حكم ثبت في رقبة الأم بسبب عقد, فوجب أن يكون ما حدث من الولد في حكمها. دليله: ولد المكاتبة والمدبرة. والجواب: أن هناك تبعها ولدها تغليبًا للحرية؛ لأن عقد الكتابة والتدبير أوجب عتاق الأم, فجاز أن نتبع الولد في حكمه تغليبًا للحرية؛ لأن مبناها على التغليب والسراية, وليس كذلك البيع والتسليم المستحق؛ فإنه غير مبني على التغليب, فلم يسر إلى الولد. واحتج بأن ولد الماشية يتبعها في إيجاب الزكاة, وكذلك ولد الأضحية يتبعها في الإيجاب, كذلك هاهنا. والجواب: أنا نقول له: لم كان كذلك؟ وما العلة الجامعة بينهما؟ على أن هذا يقابله أن ولد الجانية والمستأجرة لا يتبعها ولدها. ثم ولد الأضحية حجة لنا, وذلك أن حق الفقراء تعلق بالأم,

مسألة إذا اشترى أمة حاملا, فولدت عنده, ثم وجد بها عيبا, فأراد رد الأم, وإمساك الولد, لم يكن له ذلك, وكان بالخيار بين رد الأم مع الولد, والإمساك وأخذ الأرش

فالولد يحدث على حكم ملكهم, فكان الولد تابعًا للأم في الأضحية, وهاهنا الولد يحدث على ملك المشتري, فيجب أن يكون الولد له. وأما الزكاة فالمعنى فيها: أن الحول حال وهناك أولاد موجودون, فتعلق الإيجاب بهم, فمثاله: أن يكون هناك حمل موجود حين العقد, فيتبع الأم في الرد, ومثال الزكاة من مسألتنا: أن يحدث الأولاد بعد الحول, فلا يتبعون الأم في الإيجاب, كما حدث الولد هاهنا بعد العقد, فلا يتبع الأم في الرد. ... 322 - مسألة إذا اشترى أمة حاملاً, فولدت عنده, ثم وجد بها عيبًا, فأراد رد الأم, وإمساك الولد, لم يكن له ذلك, وكان بالخيار بين رد الأم مع الولد, والإمساك وأخذ الأرش: أومأ إليه في رواية ابن منصور: وذكر له قول سفيان في رجل باع جارية, أو شاة, فولدت, أو نخيلاً لها ثمرة, فوجد بها عيبًا, أو استحق: أخذ منه قيمة الثمرة وقيمة الولد, إن كان أحدث فيهم شيئًا, أو كان باع, أو استهلك, فإن كان مات, أو ذهب به الريح, فليس عليه شيء. قال أحمد: كما قال. وظاهر هذا: أنه لم يحكم له بالنتاج, ولا الثمرة؛ لأنه قال: يضمن

قيمة ذلك إذا رد الأم عند تعذر الرد فيهم, وليس هذا إلا على أن ذلك كان موجودًا حال العقد؛ لأنه قد نص فيما تقدم: أن الولد من الخراج, وأنه للمبتاع, فهو محمول على الولد الحادث. وقوله: (إن مات أو تلف بجائحة لم يضمن)؛ لأن ذلك حصل في يده بسبب أذن فيه المالك, لا لينفرد بمنفعته, فلهذا لم يضمنه بغير عدوان, كالوديعة والعين المستأجرة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: له إمساك الولد, ورد الأم. وأصل هذا الخلاف: هل للولد حكم نفسه؟ ومعناه: إذا باع جارية حاملاً, أو ناقة حاملاً, فقسط الثمن عليهما, كأنه باع ناقة وفصيلها, وهو أحد القولين للشافعي. وعلى القول الثاني: لا حكم له بنفسه, فهو كالسمن, فلا يأخذ قسطًا من الثمن, وإذا وضعت كأنه نماء تجدد حين الانفصال. دليلنا: أن كل ما كان له قسط من الثمن إذا كان منفصلاً, كان له قسط منه إذا كان متصلاً, كاللبن. أو نقول: مستكن يؤول إلى حال الظهور والانتفاع, فوجب أن يأخذ قسطًا من الثمن, كاللبن. ثم الحمل أشبه الأشياء باللبن؛ لأن كل واحد منهما في وعاء يؤول

إلى حال الظهور والانتفاع. واحتج المخالف بأنه لما تبع الأصل في العتق والبيع والذكاة, يأخذ قسطًا من الثمن, كاليد والرجل والسمن. والجواب: أن اعتبار الحمل باللبن, أشبه من اعتباره بالأعضاء؛ لما ذكرنا, وهو: أنه مودع فيها, ومستكن فيها, ويفارق الأعضاء؛ لأنها متصلة بها. فإن قيل: أليس لم يجعلوا له حكمًا في صحة اللعان عليه لنفي النسب؟ ولم يجعلوا له حكمًا في صحة الاستثناء في عقد البيع؟ كذلك يجب أن لا يجعلوا له حكمًا هاهنا. قيل له: أما اللعان فهو يجري مجرى الحد؛ لأنه يتعلق بالقذف, والحد لا يثبت بغالب الظن, وليس كذلك تقسيط القيمة عليه؛ لأنه من الأحكام التي تثبت بغالب الظن. وأما استثناؤه في البيع ففيه روايتان: نقل ابن القاسم, وسندي, وغيرهما: أنه يصح. فعلى هذا: لا يلزم؛ لأنه قد تعلق به حكم الاستثناء. نقل حنبل والمروذي: لا يصح. فعلى هذا: الحمل مجهول غير متحقق, والاستثناء إذا كان مجهولاً أبطل البيع بدليل: أنه لو قال: (بعتك هذه النخيل إلا نخلة) لم يصح لعدم التعيين وحصول الجهالة, وهذا معدوم في مسألتنا؛ لأنه كونه

مسألة إذا اشترى جارية حاملا, فولدت قبل القبض, أو بهيمة فنتجت, وولدت في يد البائع قبل القبض, ثم قبضها المشتري, لم يدخل الولد في البيع, ولا يكون له حصة من الثمن, وهو للمشتري, فلو وجد بالأم عيبا ردها بجميع الثمن

مستورًا حال العقد لا يمنع تقسيط الثمن عليه, كما لم يمنع تقسيط الثمن على اللبن. ... 323 - مسألة إذا اشترى جارية حاملاً, فولدت قبل القبض, أو بهيمة فنتجت, وولدت في يد البائع قبل القبض, ثم قبضها المشتري, لم يدخل الولد في البيع, ولا يكون له حصة من الثمن, وهو للمشتري, فلو وجد بالأم عيبًا ردها بجميع الثمن: وهذا ظاهر كلامه في رواية ابن منصور: إذا اشترى غنمًا فنمت, ثم استحقت, فالنماء له إلا في المصراة. ولم يفرق بين أن ينمو في يد البائع, أو المبتاع. وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يدخل الولد في البيع, فإن قبضها المشتري انقسم الثمن على قيمة الأم يوم العقد, وقيمتة الولد يوم القبض, فإذا وجد بأحدهما عيبًا رده بحصته من الثمن. دليلنا: أن الولد حادث في ملك المشتري, فوجب أن

لا يدخل في البيع. أصله: إذا حدث بعد القبض. فإن قيل: إنما لم يدخل في البيع بعد القبض؛ لأن العقد يوجب شيئين؛ الملك والتسليم, وقد وجدا جميعًا, فلم يبق من حقوق العقد شيء, فلهذا لم يدخل في العقد. وأما قبل القبض فالتسليم الموجب بالعقد باقٍ, وهو ثابت في رقبة الأم, فسرى إلى الولد, وإذا سرى دخل في العقد مع الأم, كسائر الحقوق الثابتة في رقاب الأمهات تسري إلى الأولاد نحو الاستيلاد والتدبير والكتابة. قيل له: لا نقول: إنه يدخل في التسليم المستحق بالعقد, وإنما يجب على البائع تسليم الولد وغيره من النماء بحق الملك, لا بحق العقد, وثبوت التسليم في رقبة الأم لا يوجب ثبوته في الولد بدليل: الجناية, وتتعلق برقبة الأم, ويحق تسليمها بها, ولا يدخل الولد فيها. والأمهات إذا حال عليها الحول, وجبت فيها الزكاة المتعلقة بالحول الماضي, وإن كانت ثابتة في رقبة الأم. وأما ولد أم الولد والمدبرة والمكاتبة فالمعنى فيه: أنه مبني على التكميل والسراية, وليس كذلك البيع والتسليم المستحق به؛ فإنه غير مبني على التغليب, فلم يسر إلى الولد.

وطريقة أخرى, وهو: أن الولد إذا تلف في يد البائع لم يسقط بتلفه شيء من الثمن, ولو كان قد دخل في العقد, وانقسم الثمن عليه وعلى الأم, لوجب ان يسقط جزء من الثمن بتلف الولد, كما إذا اشترى الأم والولد المنفصل, ثم تلف الولد, سقط بتلفه جزء من الثمن. فإن قيل: هذا لا يدل على أنه غير داخل في العقد, ألا ترى أنه لو تلف جزء من الجارية قبل القبض لم يسقط من الثمن شيء, ولا يدل هذا على أن ذلك الجزء غير داخل في العقد. قيل له: الأطراف لا ينقسم عليها الثمن, وليس كذلك الولد؛ فإنه إذا دخل في العقد أخذ قسطًا من الثمن عند المخالف, ولو كان كذلك لوجب إذا تلف أن يسقط ما قبله من الثمن. واحتج المخالف بأن حق التسليم بالعقد ثابت في رقبة الأم, فيجب أن يسري إلى الولد, كسائر الحقوق الثابتة في رقاب الأمهات نحو الاستيلاد والتدبير والكتابة, وإذا سرى إليه وجب تسليمه بالعقد, كما يجب تسليم الأم, وإذا وجب تسليمه بالعقد, صار داخلاً في العقد, فينقسم الثمن حينئذ عليهما, فإذا وجد بأحدهما عيبًا رده بحصته من الثمن, كما لو اشترى جاريتين, فقبضهما, ووجد بإحداهما عيبًا؛ أنه يردها بحصتها من الثمن. والجواب عنه: ما ذكرنا, فلا وجه لإعادته.

مسألة إذا وجد بالمبيع عيبا بعد القبض انفسخ العقد بقول المشتري, ولم يعتبر في ذلك تراضيهما, ولا حكم الحاكم

324 - مسألة إذا وجد بالمبيع عيبًا بعد القبض انفسخ العقد بقول المشتري, ولم يعتبر في ذلك تراضيهما, ولا حكم الحاكم: وهو ظاهر كلام أحمد في (مسائله) , وأن له الرد من غير اعتبار الرضا, وقد صرح به في رواية ابن القاسم في رجلين اشتريا ثوبًا, فوجدا به عيبًا, فرضي أحدهما, ولم يرض الآخر: فإن شاء أخذ أرش الثوب بقدر حصته, وإن شاء رد نصفه على البائع. فقيل له: فإن البائع يقول: إن شئتما أخذتماه, وإن شئتما رددتماه؟ أرأيت لو اشترى ثوبين, فوجد بأحدهما عيبًا, لم يكن له أن يرد أحدهما؟ فقال: لا يشبه شراء واحد ثوبين شراء اثنين؛ لأن هذا يملك نصفه, ويملك الآخر نصفه. فقد نص على أن لأحدهما أن يرد بقدر حصته بغير رضا البائع. وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا ينفسخ العقد إلا بالتراضي, أو بحكم الحاكم. دليلنا: أنه فسخ بيعٍ بعيبٍ, فلم يفتقر إلى رضا البائع, ولا حكم حاكم. دليله: قبل القبض. ولأنه فسخ عقد, فوجب أن يكون المتولي له قبل القبض المتولي له بعده, كالإقالة. فإن قيل: قبل القبض لم تتم الصفقة, فالمشتري يمتنع من التزام

تمامها, وهذا لا يقف على التراضي, كالرد في خيار الشرط, وفي مسألتنا الصفقة تمت, ويريد إبطالها بالرد, فهي كالإقالة يعتبر فيها رضا البائع, كذلك هاهنا. قيل له: هذا باطل بخيار المخيرة إذا أعتقت تحت عبد؛ فإنها تملك الفسخ من غير رضا, ولا قضاء, وإن كانت الصفقة قد تمت. وتبطل بالإقالة قبل القبض؛ فإن العقد لم يتم, ومع هذا فيقف على التراضي. وعلى أنه قبل القبض في حكم التام بدليل: أن نفقتها وزكاة فطرتها وكسبها للمشتري, كما يكون ذلك بعد القبض, فلا فرق بينهما. وطريقة أخرى, وهو: أن الفسوخ على ضربين: فسخ بأمر مختلف في تعلق الفسخ به, كخيار امرأة العنين, فهذا يعتبر فيه حضور الحاكم. وفسخ بأمر غير مختلف في تعلق الفسخ به في الجملة, ولكن اختلف في المواضع التي يتعلق الفسخ به, فلا يفتقر ذلك إلى الحاكم, مثل فسخ الأمة إذا أعتقت تحت عبد؛ لما أجمع عليه في الجملة لم يفتقر إلى الحاكم, وإن اختلف في موضع, وهو إذا أعتقت تحت حر. كذلك الفسخ بالعيب مجمع عليه في الجملة, وإنما اختلف في مواضعه, فلم يفتقر ذلك إلى الحاكم, وهذا دليل معتمد في المسألة. واحتج المخالف بأن ملك المشتري تم فيه, فلم ينفسخ

العقد بقوله, كالإقالة. والجواب: أنه يبطل بخيار المخيرة؛ فإنها تملك الفسخ بقولها. وعلى أنه غير مؤثر في الأصل؛ لأن الإقالة لا تحصل بقوله, وإن لم يكن ملك المشتري تامًا, وهو قبل القبض. ثم نقلبه فنقول: وجب أن يستوي فيها القبض وبعده. دليله: الإقالة. ثم المعنى في الإقالة: أن القبول لا يجب على البائع, وفي مسألتنا القبول مستحق عليه, فلم يعتبر رضاه. دليله: قبل القبض. وعلى أنا قد جعلنا الإقالة حجة لنا. فإن قيل: قد يجب عليه القبول, ولا ينتقل الملك إليه إلا برضاه, ألا ترى أن المضطر إلى طعام غيره إذا بذله مالكه, وجب عليه قبوله, ثم لا يملك بقول المالك إلا أن يرضى به. قيل له: القبول هناك لحقه, فجاز أن يعتبر رضاه, وهاهنا القبول لحق غيره, فجاز أن لا يعتبر رضاه, إذا كان القبول لازمًا له. دليله: قبل القبض. واحتج بأن الإنسان لا يملك نقل الشيء من ملكه إلى ملك غيره إلا برضاه, إلا أن يكون له عليه ولاية. ولا يلزم عليه الرد قبل القبض, والرد بخيار الشرط والرؤية؛ لأن

مسألة إذا علم بالعيب فهو على خياره ما لم يرض به، أو يفعل ما يستدل به على الرضا

في خيار الشرط لم يملكه المشتري، وأما خيار الرؤية وخيار العيب قبل القبض، فالصفقة لم تتم، فالمشتري يمتنع من تمام الصفقة، فينتقل الملك من طريق الحكم. والجواب: أن الطلاق ينقل ملك الزوج، ويدخل في ملكها، ولا يعتبر رضاها في ذلك، وكذلك إذا كان المبيع في يد البائع؛ فإنه ينقل ملكه عنه، ويدخل في ملك البائع. ... 325 - مسألة إذا علم بالعيب فهو على خياره ما لم يرض به، أو يفعل ما يستدل به على الرضا: نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي: إذا اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا، فاستخدمه بعد ذلك، فليس هذا برضا حتى يكون منه شيء بين، ويطول. وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: إذا علم بالعيب، فلم يرده مع القدرة على الرد، بطل خياره. دليلنا: أن الرد حصل قبل الرضا، وقبل أن يفعل ما يدل على الرضا، فصح. دليله: إذا رده عقيب العلم.

ولأنه خيار لرفع ضرر متحقق، فكان على التراخي. دليله: خيار القصاص، وخيار المعتقة. وعكسه: خيار الشفعة والمخيرة، وخيار المجلس والشرط؛ لأن ضرره غير متحققٍ. ولا يلزم عليه نفي النسب؛ أنه على الفور؛ لأنه لا خيار هناك، بل يجب عليه نفي الولد، إذا علم أنه من زنا. [....]. ولأنه ملك مستقر، فلم يبطل بالتأخير. دليله: الدين الحال. ولا يلزم عليه خيار القبول، وخيار الشفعة، وخيار المخيرة؛ لأن ذلك غير مستقر، وإنما جعل للتمليك وهذا تعلق بسبب مستقر؛ لأن المشتري وجب له على الائع تسليم المبيع بجميع أجزائه، فلم يسلم. واحتج الخالف بأنه إذا علم بالعيب، فأمسك تبينا أنه مختار للمبيع؛ لأنه لا حظ له في الإمساك مع النقص المتحقق. والجواب: أن هذا يبطل بخيار القصاص؛ فإنه لا حظ له في الإمساك عنه؛ لتحقق الضرر، ومع هذا فهو على التراخي. ولأن هذا لا يدل على الاختيار، كما لم يدل ترك المطالبة بالدين

مسألة إذا وطئ الأمة المبتاعة، ثم وجد بها عيبا، فله أن يردها؛ بكرا كانت، أو ثيبا في أصح الروايتين

على اختيار الترك والإبراء؛ لأن كل واحد منهما حق مستقر. ولأن ترك المطالبة بالرد يحمل على أنه اختار أخذ الأرش؛ لأن له أخذ الأرش عندنا. واحتج بأنه خيار لرفع الضرر عن المال، وكان على الفور. دليله: خيار الشفعة. والجواب: أن خيار الشفعة جعل للتملك، فهو كخيار المخيرة، وخيار القبول، وذلك مقصور على المجلس، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه ملك مستقر، فلم يبطل بالتأخير، كالدين. وجملة المذهب في الخيارات: أن خيار الرد بالعيب على التراخي ما لم يرض، أو يفعل ما يستدل به على الرضا، وكذلك خيار المعتقة كذلك؛ لأنه في معناه: أنه خيار نقص. وأما خيار المخيرة وخيار الشفعة وخيار القبول، فإنه مقصور على المجلس؛ لأنه ليس بمستقر. ... 326 - مسألة إذا وطئ الأمة المبتاعة، ثم وجد بها عيبًا، فله أن يردها؛ بكرًا كانت، أو ثيبًا في أصح الروايتين: نص عليه في رواية حنبل، فقال: إذا [اشترى أمة فوطئها، ثم

ظهر على عيب] ردها، ورد غرتها؛ ثيبًا كانت أم بكرًا، فإن وطئها وقد علم [بالداء] لزمه، ولم يرد بالعيب. قال- أيضًا- في رواية مهنا: إذا اشترى أمة، فزنت عنده، ثم ظهر على عيبٍ، يرد بالعيب. وهو اختيار الخرقي، وبه قال مالك. وفيه رواية أخرى: لا يملك الرد؛ بكرًا كانت، أو ثيبًا. نص عليه في رواية أبي الصقر في من اشترى جارية بكرًا، فلم يجدها بكرًا، فوطئها: رجع على صاحبها بقيمة ما بين الكر والثيب، وهي جائزة عليه إذا كان قد وطئها. وكذلك نقل الأثرم عنه قال: قد قال قوم: إذا وطئ فله ما بين العيب والصحة، وإذا لم يطأ ردها، وأخذ المال، قال: وأنا أسوي بينهما؛ وطئ، أو لم يطأ، [له] ما بين العيب والصحة. وهو اختيار أبي بكر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إن كانت ثيبًا فله الرد، وإن كانت بكرًا لم يكن له الرد. وجه الرواية الأولى: أنه وطئ، فلم يكن له الرد بالعيب. دليله: إذا كانت مزوجة، فوطئها الزوج، أو غصبها المشتري من

البائع قبل دفع الثمن إليه، ووطئها، فطالب البائع بردها إلى يده إلى أن يقبض الثمن، فردت إليه، فوجد المشتري بها عيبًا، كان له ردها، ولم يمنع الوطء من الرد على البائع. وإن شئت قلت: لم يمنع من الرد. دليله: ما ذكرنا. فإن قيل: وطء الزوج مستحق بسبب كان في يد البائع، فصار كأنه حصل في يد البائع، ولهذا قال أبو حنيفة: إذا قتل العبد في يد المشتري بقصاصٍ أو بردةٍ فإنه يرجع بجميع الثمن؛ لأن قتله كان مستحقًا بسببٍ كان في يد البائع، فصار كأنه قتل في يد البائع. قيل له: وكذلك المشتري يطأ بسبب كان في يد البائع، وهو البيع، فلا فرق بينهما. ثم هذا باطل بالبكر إذا وطئها الزوج؛ فإن هذا وجد بسببٍ كان في يد البائع، ومع هذا لا يملك الرد. فإن قيل: ليس المانع من ردها الوطء الذي هو مستحق، وإنما المانع إتلاف جزء منها، والإتلاف غير مستحق بعقد النكاح؛ لأن الزوج إنما يستحق بعقد النكاح الوطء دون إتلاف العضو، ألا ترى أنه لو تزوجها على أنها بكرًا، فوجدها ثيبًا، لم يكن له خيار؟ وكذلك لو كانت بكرًا، فذهبت بكارتها بوثبة أو حيضة، لم يكن له خيار.

قيل له: الوطء لا يتوصل إليه إذا كانت بكرًا إلا بإتلاف ذلك الجزء، فيجب أن يكون إتلافًا مستحقًا، ولهذا نقول: ما لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به، يكون واجبًا مثله. فإن قيل: إذا تزوج أمة غيره، وهي آبقة، لم يتوصل إلى وطئها إلا بالتسليم، والوطء مستحق، والتسليم غير مستحق. قيل له: التسليم مستحق إلا أنه عند القدرة. فإن قيل: المعنى فيه إذا غصبها المشتري، ووطئها قبل إيفاء الثمن، وطالب بها البائع، فرجعت إليه: أنه لا يمنع ذلك من الرد بالعيب؛ لأنه لما طالبه بردها إلى يده موطوءة، كان راضيًا بالنقص والعيب، ولهذا قال أبو حنيفة: لو غصبها المشتري، وقطع يدها، فطالب البائع بردها إليه، فردت إليه، ثم وجد بها عيبًا، كان له ردها. قيل له: البائع لما طالب بردها إليه، فإنما رضي بإمساكها على ملك المشتري معيبة على سبيل الوثيقة له إلى أن يستوفي ثمنها، ولم يرض بأن ترد إلى ملكه معيبةً. فإن قيل: إذا ردت إلى الائع زالت يد المشتري، ويكون الوطء بمنزلة ما وجد في يد البائع. قيل له: وطء المشتري في يد البائع بغير إذنه يمنعه من الرد عند المخالف. على أنا قد بينا: أن وطء المشتري بسببٍ كان في يد البائع، فيجب

أن يكون بمنزلة الموجود في يده. وعلى أن القبض يقطع في الحال، ولا يزال من أصله حتى كأنه لم يوجد. وقياس آخر، وهو: أن الوطء معنى لو حصل من الزوج لم يمنع من الرد بالعيب، فإذا حصل من المشتري يجب أن لا يمنع. دليله: الاستخدام. يبين صحة هذا: أن الاستخدام يكد ويتعب، والوطء يكد ويمتع، فإذا لم تمنع الخدمة، فأولى أن لا يمنع الوطء. فإن قيل: الوطء لا يشبه الاستخدام؛ لأنه لو اشترى جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فوطئها، بطل خياره؛ كما لو جنى عليها، ولو استخدمها لم يبطل خياره. قيل له: اختلفت الرواية في الاستخدام؛ هل يقطع خيار الشرط؟ فروى العباس بن محمد عنه في من اشترى دارًا، وجعل له فيها الخيار، فحدث فيها حدث خراب من مطر أو غيره قبل محل الأجل، ثم شاء ردها: فإن سكنها فهو الجاني، بمنزلة ثوب جعل فيه الخيار، ثم لبسه. وظاهر هذا: أنه أسقط خياره بالسكنى، واللبس، كما يسقط الوطء، فعلى هذا: لا فرق بين الوطء وبين الاستخدام في ما ذكر.

وروى أبو الصقر عنه: إذا اشترى جارية بشرط الخيار يومًا، أو يومين، فغسلت رأسه، أو غمزت رجله، أو طبخت وخبزت، لم تجب بذلك الفعل حتى يبلغ منها ما لا يحل لغيره، فيبطل خياره. وظاهر هذا: أن الاستخدام لا يبطل الخيار. فعلى هذا: الفرق بينهما: أن الاستخدام لو وجد من البائع لم يكن فسخًا، فإذا وجد من المشتري لم يكن رضًا، وليس كذلك الوطء؛ فإنه لو وجد من البائع كان فسخًا، فإذا وجد من المشتري كان رضًا وإمضاءً. فإن قيل: لو استخدم جارية غيره، لم يلزمه شيء، ولو وطئها لم يخل من إيجاب حد، أو مهر، فعلم أن الوطء مخالف للاستخدام. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل نقول: إنه يلزمه أخذ المثل للاستخدام، كما يلزمه المهر بالوطء. واحتج المخالف بأن الوطء بمنزلة إتلاف جزء منها في الحكم، بدلالة ما روي عن علي: أنه قال: إذا وطئها المشتري، ثم وجد بها عيبًا: يردها، ويرد معها عشر ثمنها، إن كانت بكرًا، أو نصف العشر، إن كانت ثيبًا. وإن جنى عليها، ثم وجد بها عيبًا، ردها، ورد أرش الجناية. فحصل من اتفاقهما جميعًا على أن وطأها يجري مجرى الجناية

عليها؛ لأن كل واحد منهما حكم في وطئها بما حكم في الجناية عليها. ثم لو جنى عليها، ثم وجد بها عيبًا، لم يكن له أن يردها، ويرجع بأرش العيب، كذلك إذا وطئها. والجوا: أنه ليس في ما روي عنهما ما يدل على أنه يجري مجرى الجناية؛ لأن عمر قد جعل له الرد، والجناية تمنع من الرد، وإنما أوجب رد المهر لأجل الوطء الذي حصل من جهته، وليس في هذا ما يدل على أنه يجري مجرى الجناية. وأما ما روي عن علي: أنه قال: لا يرد، فليس ذلك؛ لأنه يجري مجرى الجناية، لكن لأنه يحتمل أن يكون حصل من الوطء حمل، أو وطئ بعد العلم، فلهذا منع من الرد. واحتج بأن الوطء يجري مجرى الجناية بدلالة: أنه إذا وجد في ملك الغير، لم يخل من إيجاب حد، أو مهر، كما لا تخلو الجناية من مال، أو عقوبة، ولا تستباح بالإباحة، وتنقص من ثمنها. ثم ثبت: أن الجناية تمنع من الرد، كذلك الوطء. والجواب: أن في الجناية روايتين، أصلهما إذا ابتاع ثوبًا، فقطعه، ثم ظهر على عيب، أو حدث عنده عيب، ثم ظهر على عيب آخر، هل يمنعه ذلك من الرد، أم لا؟ على روايتين:

إحداهما: لا يمنع، وهو المشهور في المذهب. وقد نص عليه في الجناية في رواية حنبل: وذكر له قول الحكم في الغلام يبتاعه سيده، وبه داء لم يتبينه، ثم يحدث نده، فتقطع يده: يرده أقطعًا، ويأخذ دراهمًا، فقال أحمد: أذهب إلى قول الحكم. فقد نص على ذلك. وهذا فصل يأتي الكلام عليه. وعلى أنه لا يجري مجرى الجناية، ألا ترى أن الغاصب لو وطئها لم يلزمه أرش النقص عندهم، ولو جنى عليها لزمه الأرش؟ والزوج لو وطئها لم يمنع الرد، ولو جنى عليها منع الرد. ولو وطئ البهيمة جاز له ردها، ولو جنى عليها لم يكن له الرد. ولو وطئها المشتري، وأراد بيعها مرابحة جاز، وإن لم يبين، وكان بمنزلة الجناية لزمه أرش، كما لو جنى عليها. فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية إسحاق بن هانئ في الرجل يشتري الأمة، فيطؤها، فأراد بيعها: يبين للمشتري أنه قد وطئها؟ قيل له: هذا على طريق الاستحباب؟ [قال]: لا، إنه واجب. وما ذكروه من أنه لا يستباح بالإباحة، فيبطل باللمس لشهوةٍ

والقبلة؛ فإنه لا يستباح بالإباحة، وليس بجناية. وقولهم: (لا يخلو فعله في ملك الغير من مال، أو عقوبة) فليس كذلك؛ لأن العبد إذا وطئ مولاته بشبهة، فلا عقوبة عليه، ولا مال، وكذلك إذا جنى عليها جناية خطأ، لم يجب مال، ولا عقوبة، فلم يصح ما قالوه في الوطء، ولا في الجناية. وقولهم: (إن الوطء ينقص من ثمنها) خطأ؛ لأن الوطء يلذها، وينزهها، ويزيد في ثمنها، والسكوت عن هذا السؤال أحسن. واحتج بأنه لو ردها بالعيب بقضاء القاضي لانفسخ العقد من الأصل، وعادت الجارية إلى البائع على حكم البيع الأول؛ كأنه لم يكن بينهما بيع، ويحصل وطء المشتري في ملك الغير، والوطء في ملك الغير لا يخلو من إيجاب حد، أو مهر، واتفقوا أنه لا يجب عليه حد، ولا مهر، وجب أن لا يرد. والجواب: أنا لا نسلم أن ذلك فسخ للعقد من الأصل، وإنما هو فسخ في الحال، كالإقالة. وقد تكلمنا على هذا الفصل في ما تقدم. وعلى أنه لا يمتنع مثل هذا، ألا ترى أن الموهوب له لو وطئ الجارية الموهوبة كان للواه أن يرجع فيها، فإذا رجع فيها انفسخ العقد من الأصل، وصارت الجارية على حكم الأول؟

ثم لا يجوز أن يقال: الوطء يحصل في ملك الغير، فلا يخلو من إيجاب حد، أو مهر، وإذا لم يجب واحد منهما لم يجز الرجوع فيها، كذلك هاهنا. واحتج بأن الوطء معنى يوجب المهر، فإذا وجد من المشتري في الجارية المشتراة منع الرد، كالعقد. ولأنه معنى تصير به المرأة فراشًا، فهو كعقد النكاح. والجواب: أن قولهم: (يوجب المهر، وتصير به فراشًا) لا تأثير له؛ لأنه لو أفضاها بإصبعه، أو زنت؛ فإنه يمنع الرد عندهم، وإن لم يوجد المعنى الذي قالوه. وعلى أن التزويج قد توقف عنه أحمد في رواية مهنا: وقد سأله عن رجل اشترى جارية، فزوجها، ثم ظهر على عيب، فأعرض عنه، ولم يخبره بقوله، وقال: قد اختلفوا. ويجب أن يكون تحصيل المذهب في تزويجها: أنه يجري مجرى عيبٍ حدث عنده؛ لأنه قد قال في رواية حنبل: إذا اشترى جارية، فوجدها مزوَّجة: أنه يملك الرد، وهو عيب. وإذا ثبت أنه يجري مجرى عيبٍ حدث عند المشتري، فالعيب الحادث لا يمنع الرد على ما نبينه في ما بعد. واحتج بأنها لو زنت لم يجز ردها بالعيب؛ لأن الزنا عيب في الجارية يوجب نقصان الثمن في العادة، وكذلك وطء المشتري.

والجواب: أنا قد بينا: أن وطء المشتري ليس بنقصٍ لها. وعلى أن زنا الأمة لا يمنع ردها بالعيب. نص عليه في رواية مهنا، وقد ذكرناه في أول المسألة، وجملته: أنه يجري مجرى عيبٍ حدث عنده، وذلك لا يمنع الرد مع الأرش. *فصل: والدلالة على أن وطء البكر لا يمنع الرد- أيضًا- خلافًا للشافعي: أنه وطء وجد بعد ثبوت سبب الفسخ، فاستوى فيه البكر والثيب. دليله: إذا ابتاع أمة بشرط الخيار، فوطئها؛ فإن خياره يبطل؛ بكرًا كانت، أو ثيبًا. يجب أن لا يبطل حق الفسخ هاهنا في البكر، كما لم يبطل في الثيب. ولأنه فسخ عقد لا يمنع منه وطء الثيب، فلا يمنع منه وطء البكر. دليله: الرجوع في الهبة والنكاح. وكل وطء لا يمنع خيار الرجوع في الهبة والنكاح لا يمنع الرد بالعيب. دليله: وطء الثيب. ولأنه لو استخدمها لم يمنع الرد، كذلك إذا وطئها. دليله: الثيب. فإن قيل: وطء الثيب لا يوجب إتلاف جزء منها، فلهذا لم يمنع

الرد، وليس كذلك البكر؛ لأن وطأها يوجب إتلاف جزء منها، فلهذا منع الرد، كالجناية. قيل: علة الأصل تبطل إذا عرضها على البيع، أو رضيها، أو زنت، وهي ثيب؛ فإن ذلك لا يوجب إتلاف جزء منها، ومع هذا يمنع الرد. وأما علة الفرع فتبطل بحلب لبن المصراة، وقطع ما مأكوله في جوفه؛ فإنه لا يمنع الرد، وإن كان إتلافًا. وكذلك الإجارة إذا مضى بعض المدة، ثم ظهر على عيب، ملك الفسخ، وإن كان قد تلف بعض المدة المعقودة عليها. وكذلك فسخ النكاح بالعيب بعد وطء البكر يصح، وإن كان بعد إتلاف جزء منها. ولا معنى لقولهم: (إن حل لبن المصراة، وقطع ما مأكوله في جوفه مما يختبر به المبيع)؛ لأن ذهاب البكارة مما يتوصل به إلى الوطء. وعلى أنه لو كان كذلك لتقدر بمدة كخيار الشرط؛ لما كان لاختبار المبيع تقدر عندهم بالثلاث، فلما لم يتقدر لم يكن علته ما قالوه. ونبني المسألة على أصل، و [هو] أن إتلاف جزء من المبيع لا يمنع الرد بالعيب، وكذلك حدوث عيب عنده، والجناية على جزء منه، كذلك ذهاب البكارة ليس فيه أكثر من ذلك، فلم يمنع الرد. وبنى المخالف هذا الفصل على هذا الأصل، ويأتي الكلام عليه.

مسألة إذا تصرف المشتري في المبيع أن كان ثوبا فقطعه، أو حدث به عنده عيب، أو جنى عليه جناية، ثم ظهر على عيب كان عند البائع، فهو بالخيار

327 - مسألة إذا تصرف المشتري في المبيع أن كان ثوبًا فقطعه، أو حدث به عنده عيب، أو جنى عليه جنايةً، ثم ظهر على عيبٍ كان عند البائع، فهو بالخيار: إن شاء رد مع أرش النقص الحادث، ويأخذ الثمن. وإن شاء أمسك، ورجع بأرش العي الذي كان عند البائع. في أصح الروايتين: نص عليه في مواضع: فقال في رواية حرب ويعقو بن ختان وأبي طالب ومهنا وإبراهيم بن هانئ وأبي الحارث: إذا اشترى ثوبًا فقطعه، ثم ظهر به على عي، فهو مخير؛ فإن رده رد نقصان ما حدث فيه، وإن حبسه رجع لى البائع قدر نقصان العيب. وقال في رواية بكر بن محمد، عن أبيه، عنه: إذا اشترى سلعة، فوجد بها عيبًا، وحدث عنده عيب آخر، فالمشتري بالخيار؛ إن شاء أن يرد السلعة، ويعطي أرش ما حدث عنده من العيب، وإن شاء أن يأخذ أرش العيب الذي دلس.

وقال في رواية حنبل: وذكر له قول الحكم في الغلام يبتاعه، وبه داء لم يتبينه، ثم يحدث، فتقطع يده: يرده أقطعًا، ويأخذ دراهمه، فقال أحمد: أذهب إلى قول الحكم. وهو اختيار الخرقي، وبه قال مالك. أومأ إليه في رواية الأثرم ومحمد بن الحسن بن هارون في الرجل يشتري الثوب فيقطعه، أو يصنعه، ثم يجد به عوارًا: فله ما بين العيب والصحة. وقد خرجها أبو بكر على روايتين كالوطء، واختار أن له الأرش. وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وجه الرواية الأولى: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المصراة: (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعًا من تمرٍ). ولم يفرق بين أن يحدث عنده، أو لا يحدث. وروى الخلال في (العلل) بإسناده عن ابن سيرين، عن عثمان في رجل اشترى ثوبًا، فلبسه، ثم رأى به عيبًا: يرده وما نقصه. وأيضًا فإن أصاب عيبًا لم يقف على محله، فملك الرد. دليله: إذا لم يتلف جزء منه.

ولا يلزم عليه إذا تلف المبيع، أو باعه، أو أبرأه المشتري منه بعد العلم به؛ لأنه يستوي فيه الأصل والفرع. ولأنه خيار لا تمنع منه الخدمة، فلا يمنع منه إتلاف جزء. دليله: خيار الشرط وخيار الهبة. فإن قيل: الخدمة لا توجب إتلاف جزء من المبيع، وهذا يوجب إتلاف جزء منه. قيل: حلب لبن المصراة، وقطع ما مأكوله في جوفه، وقطع يد العبد في يد المشتري بجناية سابقة في يد البائع، يوجب إتلاف جزء منه، ومع هذا لا يمنع الرد، وكذلك الإجارة إذا ذهبت بعض المدة، وظهر على عيب. فإن قيل: خيار الشرط والهبة يرجع المبيع إليه والهبة باختياره، فلهذا لم يمنع منه إتلاف جزء، وهاهنا يرجع إليه بغير اختياره. قيل: المصراة، وما مأكوله في جوفه، والعبد الجاني يرجع إليه بغير اختياره، ومع هذا لا يمنع ذلك الرد. وأيضًا فإن إتلاف جزء من المبيع لا يمنع الرد. دليله: حلب لبن المصراة، وقطع ما مأكوله في جوفه، لا يمنع الرد عند الشافعي. وقطع يد العبد الجاني في يد المشتري لا يمنع الرد عند أبي حنيفة. وكذلك حدوث النماء في يد المشتري، ثم ظهر على عيب،

لا يمنعه ذلك من الرد عند أبي حنيفة، وإن كان ذلك النماء موجب بالعقد. فإن قيل: المعنى في حلب لبن المصراة، وقطع ما مأكوله في جوفه: أنه مما يختبر هـ المبيع، فلهذا لم يمنع الرد. قيل: لو كان لهذه العلة لتقدر بمدة؛ كخيار الشرط؛ لما كان لاختار المبيع تقدر عندهم بالثلاث، فلما لم يتقدر لم يكن لهذه العلة. وعلى أن هذا يبطل بتلف بعض المنفعة المعقود عليها؛ فإن ذلك لا يمنع الرد، وإن لم يكن للاختبار. فإن قيل: النقصان الحادث بقطع يد العبد كان بسبب في يد البائع. قيل له: وطء الزوج لها إذا كانت بكرًا مستحق بسببٍ سابق في يد البائع، وعندهم يمنع الرد. ولأن أكثر ما في ذلك أنه يرد بعض المبيع، وهذا لا يمنع الرد بدليل: أنه لو اشترى عبدين، فوجد بأحدهما عيبًا، كان له رد المعيب، وإمساك الصحيح في أصح الروايتين لنا، وأصح القولين لهم. وكذلك لو مات أحد العبدين، ووجد بالآخر عيبًا، كذلك هاهنا. وطريقة أخرى مليحة، وهو: أن كل عقد جاز فسخه العيب- إذا كان المعقود عليه سليمًا- جاز فسخه بالعيب، وإن تلف بعضه، كالإجارة؛ إذا ظهر على عيب في الدار المستأجرة، وقد مضى أيام من المدة، ملك الفسخ، وإن كان قد تلف بعض المعقود عليه، كذلك هاهنا.

ولأن ما أوجب الرجوع الثمن إذا لم يحدث عيب عند المشتري، أو إذا لم يتلف جزء، أوجبه، وإن حدث وتلف. أصله: استحقاق المبيع. ولأن إتلاف بعض المبيع لا يمنع من الفسخ بالعيب، وهو: إذا ابتاع عبدًا بجارية، وتقابضا، وماتت الجارية، ثم ظهر على عيب في العبد، كان له الفسخ في العبد، ويكون فسخًا في الجارية التالفة والعبد، كذا هذا. وطريقة أخرى، وهو: أن البائع أولى بالحمل عليه من المشتري؛ لأنه لا يخلو: إما إن يكون علم بالعيب، فقد دلس، ودخل على أن المبيع مردود عليه. أو يكون لم يعلم بذلك تفريطًا منه وتقصيرًا. فلم يلزم المشتري منه شيء، وكان البائع أولى بالحمل عليه. ولا يجوز أن يقال: إن المشتري فرط بترك التأمل؛ لأنه لو كان مفرطًا لسقط حقه من الرد. واحتج المخالف بأنه لو حدث النقص بالمبيع قبل القبض لم يجبر

المشتري على أخذ السلعة معه؛ لأن النقص حصل بالمبيع في حالةٍ هو مضمون فيها على البائع، كذلك إذا حدث بالمبيع النقص في يد المشتري وجب أن لا يجبر البائع على أخذ المبيع مع ذلك النقص؛ لأنه حدث بالمبيع، وهو مضمون على المشتري. والجواب: أن البائع لو حلب اللبن، وقطع ما مأكوله في جوفه، لم يجبر المشتري على قبوله على قول المخالف، ولو حدث في يد المشتري أجبر البائع على قبوله. وكذلك لو قطعت يد العبد في يد البائع لم يجبر المبتاع على قبوله، ولو قطعت في يد المبتاع بجناية سابقة أجبر البائع على قبوله. ولأنا قد بينا: أن البائع أولى بالحمل عليه من المبتاع، فلهذا كان حدوثه في يد البائع يمنع قبوله، وحدوثه في يد المبتاع لا يمنع الرد. واحتج بأن الرد بالعيب إنما وضع لإزالة الضرر، وفي رده على البائع بعيبٍ إلحاق ضرر به، والضرر لا يزال بالضرر. والجواب: أنا قد بينا: أن البائع أولى بالحمل عليه من المبتاع. ولأن هذا المعنى يبطل بحلب لبن المصراة، وقطع ما مأكوله في جوفه، وقطع يد العبد، وتلف بعض المنفعة المستأجرة؛ فإن في ذلك ضررًا على البائع والمؤجر، ومع هذا لم يمنع ذلك من الرد. فإن قيل: إلحاقه بالمشتري أولى؛ لأن فيه سلامة للعقد، وحفظًا

له، وإذا ألحقناه بالبائع كان فيه فسخ للعقد، وإبطال له، وما عاد بسلامة العقد وحفظه فهو أولى. ولهذا نقول: إذا ضربت المدة للعنين، فقال: قد أصبتها، وأنكرت، فإن القول قول الزوج حفظًا للعقد، وسلامة له، كذلك هاهنا. قيل: فيجب أن يسقط حق الرد جملةً؛ لأن فيه سلامة العقد، ويرجع بالأرش. ويجب- أيضًا- أن يسقط حقه من الرد في المصراة، وما مأكوله في جوفه، وفي الإجارة؛ للمعنى الذي ذكرت، ولما لم يقل هناك، كذلك هاهنا. ولا يشبه هذا ما ذكروه من اختلافهما في الإصابة: أن القول قول الزوج؛ لأن المرأة تدعي معنى ترفع به العقد، فلم تقبل دعواها. فإن قيل: ففي إثبات الرد بعد التصرف إثبات ضرر على البائع من وجه آخر، وذلك أنكم تقولون: إذا كان البائع قد دلس العيب، فتصرف المشتري، ملك الرد، ولا يغرم الأرش. قيل: للغرور والتدليس تأثير في إسقاط الضمان بدليل: المغرور في النكاح، يرجع بالمهر على من غره، ويرجع بقيمة الأولاد، فالرجوع

بقيمة الأولاد قولًا واحدًا، والمهر على قولين، كذلك هاهنا، وإثبات الرجوع يفضي إلى أن تنفك جنايته عن أرش. ولأنه تدليس بعيب، فأثر في إسقاط ما كان يجب من غير تدليس. دليله: إذا غرت المرأة من نفسها بالعيوب، ثم فسخ الزوج النكاح قبل الدخول؛ فإنه يسقط نصف المهر الذي كان يستحق بالطلاق. فإن قيل: إنما سقط؛ لأنه لم يتلف عليها شيئًا من المنافع. قيل: هذا يبطل بالطلاق قبل الدخول؛ فإنه لم يتلف عليها شيئًا، ومع هذا يرجع بنصف الصداق، فما كان يمنع أن يرجع هاهنا. ولما قلت: يسقط؛ لأن سبب الفسخ جاء من جهتها، كذلك هاهنا، جاز أن يسقط؛ لأن سبب الإسقاط جاء من جهته، وهو التدليس. فإن قيل: التدليس لا يسقط الرجوع بالعوض بدليل لبن المصراة يضمنه بالصاع، وإن كان ذلك عن تدليس. قيل: فرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن هناك حصل له عوض، وهو اللبن، وهاهنا ما حصل له عوض، وفرق بينهما. [....] أنهم قالوا: يرجع بقيمة الأولاد قولًا واحدًا، وفي المهر على قولين؛ لأنه قد حصل عوض، وهو الوطء.

مسألة إذا اشترى شيئا مأكولا في جوفه، كالجوز واللوز والبيض والرمان والبطيخ، فكسره، فوجده فاسدا، فنقل ابن منصور: له الرد، وأخذ الثمن

وجواب آخر، وهو: أن الضمان هناك [ثبت] بالشرع على وجه يخالف الأصول، وهو التقدير بالصاع، فلا يقاس عليه، كما لا يقاس جنين الأمة على جنين الحرة إذا سقط ميتًا، بل وجب الضمان هناك ما نقصت الأم، ولم يجب ضمان الجنين. وكذلك لو اطلع إلى دار غيره، فقلعت عينه، لم تضمن، ولو دخل الدار بجملته ضمنت عينه. ... 328 - مسألة إذا اشترى شيئًا مأكولًا في جوفه، كالجوز واللوز والبيض والرمان والبطيخ، فكسره، فوجده فاسدًا، فنقل ابن منصور: له الرد، وأخذ الثمن: ونقل بكر بن محمد: ليس له الرد، ولا المطالبة بالأرش. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: ليس له الرد، وله الأرش. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول أبي حنيفة. والثاني: له الرد.

مسألة إذا اطلع المشتري على العيب، فطالب بأخذ الأرش مع إمكان الرد، جاز

فالدلالة على أن له الرد: ما تقدم من المسألة التي قبلها. ومن منع من الرد فوجهه ما تقدم. ومن أسقط حقه من الرد والأرش فوجهه أن لم يكن من البائع تفريط؛ لأنه ما كان يمكنه اختبار المبيع إلا بفساده، وهذا فاسد؛ لأنه يلزم عليه العيوب الباطنة من الحيوان، لا يمكنه اختبار المبيع إلا بفساده، ومع هذا يملك الرد، أو الأرش. ولأنه مبيع ظهر به عيب قبل العقد، فملك الرد، كسائر المبيع. ... 329 - مسألة إذا اطلع المشتري على العيب، فطالب بأخذ الأرش مع إمكان الرد، جاز: نص عليه في رواية المروذي وأبي الحارث وأبي طالب وابن القاسم وبكر بن محمد. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: ليس له ذلك. دليلنا: أنه أصاب بالمبيع عيبًا كان في يد البائع، لم يقف على محله، فجاز أن يثبت له الأرش. دليله: إذا حدث به عيب عند المبتاع.

ولا يلزم عليه إذا تلف المبيع في يد المشتري، أو باعه، أو أبرأه من العيب؛ لأنه ثبت له الأرش هناك وسقط. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه تعذر رد العين، فلهذا ملك المطالبة بالأرش، وهاهنا لم يتعذر. قيل: لا نسلم هذا في الأصل؛ لأن له الرد، وقد حكينا ذلك فيما تقدم. ولأنه لما كان [له] الفسخ في الكل، وأخذ جميع الثمن، كان له ذلك في النقص، كما لو ابتاع عبدين، فوجد بأحدهما عيبًا، كان بالخيار بين الفسخ في الجميع وأخذ الثمن، وبين الفسخ بالمعيب وإمساك الصحيح على الصحيح من الروايتين لنا، وأحد القولين للشافعي، وعند أبي حنيفة أيضًا، كذلك هاهنا. ولأن خيار الرد بالعيب يؤول إلى مال، [....] الرد، كما أن خيار القصاص [....] أن ولي المجني عليه بالخيار بين القصاص، أو أخذ الدية، كذلك في العيب. ولأن العيب فوات جزء استحق تسليمه بعقد البيع، فملك المطالبة بقيمته.

دليله: لو بان أن بعضه مستحقًا؛ فإن للمبتاع إمساك الباقي، والمطالبة بقيمة المستحق، كذلك هاهنا. واحتج المخالف بأن البائع دخل على أن يخرج هذه العين وحدها بالثمن، فلا يلزمه أكثر منها. والجواب: أنه دخل على أن يخرج هذه سليمة بالثمن، فلم تخرج سليمة، فلهذا لم يستحق كمال الثمن. واحتج بأنه لو ابتاع عبدًا على أنه كاتب، أو خباز، فبان بخلاف ذلك؛ أنه لا يملك المطالبة بالأرش، بل يكون مخيرًا بين الفسخ وأخذ الثمن، وبين الإمساك بالثمن، فكذلك في العيب. والجواب: أنا نقول له: من أين قلت هذا؟ وما أنكرت على من قال: إن له المطالبة بالأرش، كالعيب؟! فإن قيل: فما تقولون في من اشترى ثوبًا على أنه عشرة أذرع، فبان تسعة؟ قيل له: نقول فيه مثل ما قلنا في العيب: هو الخيار بين فسخ العقد وأخذ الثمن، وبين إمساكه والمطالبة بقيمة الذراع. نص عليه أحمد في موضعين: أحدهما: ما نقله أبو حفص العكبري في رواية الحسن بن محمد ابن الحسن: وقد سئل ن رجل اشترى ثوبًا على أنه اثنا عشر ذراعًا، فإذا هو أحد عشر ذراعًا: فهو الخيار؛ إن شاء رده، وإن شاء أخذه،

وله ثمن ذراع. وروى ابن مشيشٍ عنه في رجل اشترى ألف بطن قصبٍ، فعده، فإذا هو تسعمئه: يأخذ من الثمن بقدر القصب، وكذلك من الطعام. ونقل ابن منصور عنه: وذكر له قول سفيان: إذا اشترى مئة ثوب، فوجدها تسعين، فالمشتري بالخيار، ولو زادت على مئة، فالبيع مردود. قال أحمد: كما قال. فقد جعل له الخيار في النقصان، وأما في الزيادة فقد نقل عنه: أن البيع مردود. ونقل عنه في موضع آخر: الزيادة للبائع، وهذا يمنع البطلان. ففي الجملة قد نص على [أن نقصان] المبيع في القدر يجري مجرى نقصانه بالعيب، وأن المشتري [مخير بين الفسخ] وبين الإمضاء والمطالبة بقيمة الجزء الناقص، كالعيب سواء. [....] تزوج امرأة على ألف ذراع، فإذا هي سعمئة: هي ... . بمنزلة قوله: أكلت رغيفًا ورغيفًا.

وقياس آخر، وهو: أنه بيع في أحد طرفيه عاقدان، فجاز تبعيضه في الرد بالعيب. ونقول: فلم نعتبر أحدهما في الرد بحكم الآخر. دليله: لو باع رجلان من رجل عبدًا، فيكون البائع اثنين، والمشتري واحدًا؛ فإنه يجوز له رده على أحدهما دون الآخر. فإن قيل: إذا كان البائع اثنين، فرد على أحدهما لم يلحق به ضرر؛ لأنه يرد عليه جميع ما ملكه منه، وإذا كان البائع واحدًا، والمشتري اثنين، فأراد أحدهما الرد، بعَّض عليه الصفقة، والملك زال عنه مجتمعًا، وفي تبعيضه ضرر، فلم يكن له ذلك. قيل له: البائع هو المبعِّض الملك على نفسه؛ لأنه لما أزال الملك إلى رجلين، علم أن النصف يزول إلى كل واحد منهما، فرضي بتفريق الملك، وإدخال الضرر على نفسه، فإذا رد أحد المشتريين ما حصل له لم يكن ذلك تبعيضًا منه، بل البائع هو المبعض. وعلى أن هذا يبطل إذا ابتاع شيئين من رجل، فوجد بأحدهما عيبًا، كان له رد المعيب، وإمساك الصحيح، وفي هذا تبعيض الصفقة. ونبني المسألة على أصل، وهو: أن بيع الواحد من اثنين في حكم العقدين المنفردين.

ويدل عليه ما تقدم، وهو: أنه بيع اجتمع في أحد طرفيه عاقدان، وكان واقعًا على صفقتين، كما لو كان البائع والمشتري اثنين. ولأن حكم كل واحد منهما حكم المنفرد بدليل: أنه ينتقل إليه ملك نصفه، ويلزمه ثمن نصفه، ويدخل نصفه في ضمانه، فلو خرج العبد مستحقًا رجع بنصف الثمن، ولو كان المبيع شقصًا كان للشفيع أن يأخذ من أحدهما، فلما كان في حكم الملك والثمن والضمان والاستحقاق والشفعة كالمنفرد، وجب أن يكون في الرد بالعيب مثله. فإن قيل: إنما جاز أن يأخذ الشفعة من أحدهما؛ لأنه ليس فيه تفريق الصفقة على أحد. قيل: قد أجبنا عن هذا السؤال فيما تقدم. فإن قيل: لو كان في حكم الصفقتين لوجب إذا كان المبيع عبدًا، فقبل أحدهما نصفه بنصف الثمن، ورد الآخر، أن يصح. قيل له: يصح؛ لأنه قبل جميع ما أوجب له. فإن قيل: فلو باع عبدين من رجلين بألف، فقبل أحدهما أحد العبدين بنصف الثمن، لم يجز، كذلك إذا كان العبد واحدًا، وجب أن لا يجوز قبول أحدهما بنصف العبد. قيل: إنما لم يصح أن يقبل أحد العبدين؛ لأن البائع لم يوجب له أحدهما، وإنما أوجب له النصف من كل واحد منهما، ونصف الثمن

لا يقابل أحدهما؛ لأنه ينقسم على قدر قيمتها، فإذا قبل أحدهما بنصف الثمن لم يكن القبول موافقًا للإيجاب، فلم يصح. وليس كذلك إذا باع عبدًا من رجلين، فقبل أحدهما نصفه بنصف الثمن؛ فإنه يصح؛ لأن قبوله موافق لما يقتضيه الإيجاب. فإن قيل: لو كان في حكم العقد، لوجب إذا باع عبدًا من رجلين، فأحضر أحدهما ثمن نصيبه، وطالب بتسليم العبد إليه، أن يجبر على تسليمه. قيل: يجبر على تسليمه إليه، وهذه مسألة يأتي الكلام عليها. واحتج المخالف بأن العبد خرج من ملك البائع صفقة واحدة غير معيب بالشركة، فلا يجوز رد بعضه إلى ملكه معيبًا بالشركة إلا برضاه، كما لو كان المشتري واحدًا، ووجد به عيبًا، لم يجز له أن يرد بعضه لهذه العلة، والشركة عيب عند التجار ينقص الثمن لأجلها، فإذا كان مشتركًا فقيمته أنقص عند التجار منه إذا كان لواحد. والجواب: أن البائع هو الذي بعض الملك على نفسه حيث باعه من نفسين؛ لأنه يعلم أن الذي يزول إليهما مبعض، إلا أن هناك يزول مبعضًا في وقتين، وهاهنا في وقت واحد. ثم نقول: إذا كان المشتري واحدًا ملك الشيء بجهة واحدة، فلم

مسألة إذا اشترى عبدين، أو ثوبين، فوجد بأحدهما عيبا، كان له رده دون الصحيح في إحدى الروايتين

يكن له رد البعض؛ لأن عقد البيع في الأصل لم يضمن التفريق، فأما المشتريان فالملك يفرق عليهما بأصل العقد. ... 330 - مسألة إذا اشترى عبدين، أو ثوبين، فوجد بأحدهما عيبًا، كان له رده دون الصحيح في إحدى الروايتين: نص عليها في رواية الجماعة؛ صالح وأبي الحارث وابن منصور وأبي طالب وحرب: فنقل صالح وأبو الحارث عنه في الرجل يشتري العبدين صفقة واحدة بثمن واحد، فيجد بأحدهما عيبًا: يرده بحصته من الثمن، فإن وجد أحدهما حرًا يرجع بقيمته من الثمن. وكذلك نقل ابن منصور في من اتاع رقيقين جملة، فإذا في أحدهما عيب: يرد المعيب بالقيمة. وكذلك نقل أبو طالب في من اشترى وسادتين، فكان في إحداهما [عيب]: فإن شاء المشتري رد التي بها العيب بقيمتها، وإن شاء أخذ قيمة العيب، وليس له أن يرد شيئًا صحيحًا. وكذلك نقل حرب عنه في رجل اشترى المشاع، فوجد ببعضه

عيبًا: فليس له أن ينقض البيع إلا فيما فيه العيب. وفيه رواية أخرى: ليس له رد أحد الثوبين والعبدين؛ فإما أن يردهما، أو يمسكهما ويأخذ الأرش. نص عليه في رواية ابن القاسم: إذا [....] ثوبين [....] أحدهما دون الآخر، قال: ولا يشبه هذا إذا [....]. ونقل أبو طالب في موضع آخر في رجل اشترى ثوبين، فظهر بأحدهما عيب: فإن كان يعرف سعر كل واحد رده، وحبس الصحيح، وإن لم يعرف، واشترهما صفقة واحدة، لم يرد، وأخذ أرش العيب. وهو اختيار أبي بكر. فأما إن كان المبيع ينقص بالتفريق، كزوج خف، ومصراعي باب، فوجد بأحدهما عيبًا، فليس له إلا ردهما، أو إمساكهما. نص عليه في رواية ابن منصور وحنبل: فقال في رواية ابن منصور: وذكر له قول سفيان: إذا اشترى زوج نعال، أو مصراعين، فقبضهما، ثم ادعى بأحدهما عيبًا، أخذهما جميعًا، أو ردهما جميعًا، قال أحمد: ما أحسنه! وكذلك نقل حنبل: إذا اشترى خفين، فوجد بأحدهما عيبًا: يردهما

جميعًا، أو يحبسهما جميعًا. وللشافعي قولان، كالروايتين. وقال أبو حنيفة في العبدين إذا قبضهما، ثم وجد بأحدهما عيبًا: كان له رده دون الصحيح، وإن كان قبل القبض: كان له ردهما، أو إمساكهما. وإن اشترى مكيلًا، أو موزونًا، فوجد بعضه عيبًا بعد القبض؛ فإن كان في وعاء واحد، فليس له رد بعضه. وإن كان في أوعية، فوجد بأحدهما، فهو كالثياب. وجه الأولى: أنه يملك رد المعيب في الجملة قبل القبض، وبعده في المكيل والموزون، وفي غيرهما إن ثبت الرد، وإن ثبت الخيار خاصًا بأحدهما، فله رده دون الآخر. دليله: إذا اشترى عبدين، وشرط الخيار في أحدهما، وثبت العقد في الآخر. ولا تلزم عليه الخفاف؛ لأن العيب بأحدهما عيب بهما؛ لأنه يحصل معيبًا التفريق.

فإن قيل: ذكر ابن القاضي في (التلخيص): أن فيها قولين: أحدهما: أن البيع يفسد بهذا الشرط بناءً على تفريق الصفقة، وأنها لا تفرق، وأنها متى فسدت الصفقة في أحدهما فسدت في الآخر. قيل: قد رد عليه بعض أصحابكم، وقال: هذا غير صحيح، وقال: يجب أن يكون البيع صحيحًا فيهما، ويرد أحدهما، ويمضي الصفقة. واحتج في ذلك بأن تبعيضها بعد صحتها يجوز برضا البائع، وإذا شرط الخيار في أحدهما فقد رضي بالتبعيض، وليس كذلك في الرد بالعيب؛ فإنه لم يوجد فيه ما دل على الرضا بتبعيض الصفقة، فلم يجز تبعيضها عليه. فإن قيل: فرق أصحابكم بين تلك المسألة، وبين مسألتنا. قيل له: تدليسه بالعيب في أحدهما تبعيض الصفقة عليه؛ لأنه على هذا دخل. وأيضًا فإن العي خاص أحدهما، فله أن يفرد المعيب بالرد، كما لو كان البائع [....]. ولا تلزم عليه الخفاف؛ لأن العيب بأحدهما عيب بهما. فإن قيل: المعنى هناك: أنه لا يؤدي إلى تفريق الصفقة؛ لأن هناك عقدان، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه يؤدي إلى تفريق الصفقة؛ لأن الصفقة واحدة.

قيل له: تدليسه بالعيب تبعيض لها. وعلى أن هذا يبطل إذا باع عبدين على أن الخيار في أحدهما، فالصفقة واحدة، وتتبعض. وإن شئت قلت: رد أحد العبدين بالعيب لا يؤدي إلى إلزام نقص، فصار كالرد على أحد البائعين. ويخص أبو حنيفة قبل القبض بأن العيب خاص أحدهما، فله أن يفرده بالرد. دليله: بعد القبض. فإن قيل: قبل القبض لم يتم العقد، فإذا رد المبيع في أحدهما، وقبل في الآخر، فقد بعض الصفقة في الإتمام، وهذا لا يجوز بغير رضاه، كما لا يجوز أن يقبل البيع في أحدهما. وبعد القبض تمت الصفقة، وإنما تفرق في الفسخ، ويجوز في الفسخ ما لا يجوز في الإتمام بدليل: أنه يجوز فسخ العقد في عبد حي وعد ميت، ولا يجوز إتمام العقد فيهما. قيل له: علة الفرع تبطل بالخفاف، قد تمت الصفقة، ولا يجوز تفريقها. وعلى أنها قبل القبض في حكم التامة بدليل أنه يلزم المشتري نفقتها، وزكاة فطرتها، وكسبها، فلا فرق بينهما. على أنه إنما لم يقبل البيع في أحدهما؛ لأن الإيجاب حصل في

كل واحد منهما مشاعًا، لا لأنه تبعيض في الإتمام، وإنما لم يتم العقد في الميت؛ لأنه قد بطل العقد بموته قبل قبضه، فلهذا لم يصح فيه، وصح الفسخ فيه؛ لأن العقد لم يبطل فيه بموته. ولأنه تفريق المبيع لأجل العيب، فاستوى فيه قبل القبض وبعده. دليله: الخفاف ومصراعي الباب؛ في ذلك الموضع تستوي في منع التفريق، يجب أن تستوي في مسألتنا في جواز التفريق. واحتج المخالف بأنهما عيبان في صفقة واحدة، فلا يجوز تبعيض الصفقة في الرد. دليله: الخفاف ومصراعي الباب. والجواب: أن هناك العيب في أحدهما عيب بالآخر، فلو رد المعيب رده بعيب الأرش، وبالعيب الموجود، والرد بعيب لم يكن في يد البائع لا يجوز [عندهم. فإن قيل]: فعندكم يجوز هذا، وهو إذا حدث بالمبيع عيب، وظهر على عيبٍ؛ فإن [ذلك] لا يمنعه من الرد. قيل له: يحتمل أن نقول هاهنا ما نقول هناك، ويحتمل [قول]

أحمد: (لا يفسخ)؛ معناه: لا يفسخ من غير أن يدفع إلى البائع أرش النقص. ويحتمل أن لا يملك الفسخ؛ لأن على المشتري ضرر في ذلك؛ لأنه ينقص المبيع في يده، وعلى البائع- أيضًا- ضرر. ويفارق هذا إذا حدث عند المشتري عيب، فأراد رده، ودفع الأرش؛ أن له ذلك: أن له في ذلك حظًا، وهو الرجوع في الثمن من غير ضرر عليه. ولهذا قالوا: إذا طلب أحد الشركاء القسمة؛ فإن كان له حظ أجبر الشريك، وإن لم يكن له حظ لم يجبر الشريك على ذلك. واحتج بأن عليه ضررًا في تبعيض الصفقة في العبدين؛ لأنه قد يكون ضم العبد إلى العبد [....] للبيع، وأوفر للثمن، ويكون فصل أحدهما عن الآخر ينقص من الثمن. والجواب: أنه قد يتفق العيب فيما يرغب البائع في بيعه، والحكم عندكم سواء، وأنه إذا رد عليه بقيمته، فقد سلم له غرضه في زيادة قيمة الآخر. [و] لأن هذا يقال: إذا أثبتنا الرد بغير سبب، فأما إذا ثبت بسبب

مسألة إذا اشترى عبدا فقتله، أو طعاما فأكله، ثم ظهر على عيب رجع بأرشه

يقتضي الرد بأحدهما، ويختصه، لم يمنع من ذلك، كما لو هلك أحدهما، ووجد بالآخر عيبًا. ... 331 - مسألة إذا اشترى عبدًا فقتله، أو طعامًا فأكله، ثم ظهر على عيبٍ رجع بأرشه: نص عليه في رواية أبي الحارث في من اشترى جارية، فأعتقها، ثم ظهر على عيب، أو ماتت، ثم ظهر: يرجع بأرش العيب؛ هذا حق له يأخذه بكل حال. فقيل له: فإن جنى عليها المشتري، فقلها، ثم وجد عيبًا، فإن أصحاب الرأي قالوا: لا يرجع بشيء! فقال: إن كان حقًا، فينبغي له أن يأخذه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يرجع بأرشه. دليلنا: أنه علم بالعيب بعد الإياس من رد المبيع، فجاز أن يرجع بالأرش. دليله: إذا مات، أو أعتقه. ولا يلزم عليه إذا باعه، ثم علم بالعيب؛ لأنه يرجع بالأرش على ما نبينه فيما بعد.

وإن شئت قلت: القتل إتلاف ملكه، فلا يمنع من الرجوع بالأرش، كالعتق. وأجود من هذا أنك تقول: أصاب عيبًا لم يقف على محله، فملك الرجوع بالأرش. أصله: ما ذكرنا؛ لأنه لا تأثير لقولنا: (علم بالعيب بعد الإياس)، وعندكم لو علم به قبل الإياس كان له الأرش، وإمساك المبيع. فإن قيل: القياس يقتضي أن لا يرجع بأرش العيب بعد العتق. قيل له: لا نسلم لك هذا، بل القياس يقتضي الرجوع. فإن قيل: العتق ليس بفعل مضمون، ألا ترى أنه لو أعتق عبد غيره لم يضمن، فلهذا لم يمنع من الرجوع بالأرش. قيل له: [الإعتاق فعل] مضمون، ألا ترى أنه إذا أعتق [نصيبه من عبد عتق عليه] الباقي، وأما إذا أعتق ملك الغير، فلا يعتق، فلهذا لم يضمن، كما إذا ضرب عبد غيره، فلم يمت، لم يجب عليه الضمان. وعلى أن هذا يبطل بالبيع؛ لأنه لو باع عبد غيره لم يضمن، ومع هذا فإن البيع في الجملة يوجب الضمان. فإن قيل: البيع يوجب التسليم، وهو فعل مضمون، فإذا باعه صار

كأنه باعه وسلمه. قيل له: التسليم غير البيع، والبيع نفسه لا يوجب الضمان في ملك الغير، ويمنع الرجوع بأرش العيب في الجملة على ما قالوا. فإن قيل: إذا مات امتنع بقاء الملك فيه من طريق الحكم، فلم يبطل حق المشتري من الأرش، وإذا قتله المشتري، فقد منع نقل الملك فيه بفعل مضمون، فمنع الرجوع بالأرش، كما لو باعه. قيل له: علة الفرع تبطل بالعتق؛ فإنه قد منع بقاء الملك بفعل مضمون على الوجه الذي ذكرنا، ومع هذا لا يمنع أخذ الأرش. وكذلك إذا اشترى ثوبًا وقطعه قميصًا، أو صنعه، ثم وجد به عيبًا، جاز له أن يرجع بالأرش، وإن كان ممنوعًا من رده عندهم بفعل مضمون. واحتج المخالف بأنه منع نقل الملك فيه بفعل مضمون، فمنع الرجوع بالأرش، كما لو باعه، ثم علم أنه كان معيبًا. والجواب: أنا قد أبطلنا هذا بالعتق، والصبغ وقطع الثوب. وأما البيع فالمنصوص عن أحمد: أنه لا يمنع الرجوع بالأرش؛ لأنه قال في رواية حرب في رجل اشترى شيئًا، فلم ير العيب، فباعه من آخر، ثم عرضه الثاني على البيع: وجب على المشتري الثاني والأول أن يرجع على البائع بما نقص من العيب. فقد نص على أن للمشتري الأول الرجوع على البائع بالأرش بعد

البيع، ولم يثبت للثاني الرجوع، [وهو] محمول على أنه علم به، فعرضه للبيع، فسقط حقه لأجل ذلك. وقال- أيضًا- في رواية ابن منصور: إذا ابتاع عبدًا، فكاتبه، فوجد به عيبًا بعدما كاتبه، وحكي له قول سفيان: ليس له على البائع شيء بمنزلة البيع، فقال أحمد: لا، لو أعتقه كان له أن يرجع عليه ما بين الرد أو الصحة. فقد نص- أيضًا- على أن الكتابة لا تمنع الرجوع بالأرش، فعلى هذا: لا نسلم الأصل. وقال الخرقي في (مختصره): فإن [....]، ثم ظهر على عيب، كان مخيرًا بين أن يرد ملكه بمقداره من [....] قدر ملكه فيها. وظاهر هذا: أنه جعل له الرجوع [....]. فعلى هذا: المعنى فيه: أنه قد سلم له بدله على الصحة والسلامة من العيب، فلا معنى للرجوع، وهذا معدوم فيه إذا قتله؛ لأنه لم يسلم له ذلك، فهو كما لو أعتقه. والمذهب الصحيح: أنه يرجع الأرش؛ لأن البيع معنى أزال الملك، فهو كالعتق والموت، وما ذكره ذلك القائل من ملازمة البدل

لا اعتبار به؛ لأن المشتري لو وهب العبد لم تحصل له سلامة البدل، والحكم في ذلك سواء؛ إما في الرجوع بالأرش، أو بمنع الرجوع.

§1/1