التعليقات على متن لمعة الاعتقاد لابن جبرين

ابن جبرين

مقدمة الكتاب

مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقد كنت كتبت أسئلة وأجوبتها على لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة الحنبلي -رحمه الله- وألقيت تلك الأسئلة على طلاب المعاهد العلمية، وقد بقيت عندي هذه الأجوبة هذه السنين، فرغب إليّ بعض الشباب أن يطبعها رجاء أن يستفاد منها، فأذنت له في ذلك، ولم أتمكن من التعليق عليها مع مسيس الحاجة إلى ذلك، وهذه الأجوبة تناسب مستوى التلاميذ الذين كتبت لهم؛ حيث لم أتوسع في النقول والإيضاح للمعاني، وذكر أقوال الطوائف الأخرى ومناقشة شبههم، والإكثار من سرد النصوص السمعية والأدلة العقلية، فإن ذلك يستدعي طولا مملا لا تتحمله مقدرات أولئك التلاميذ. وقد حرصت على إيضاح المفردات التي في المتن، وكذا بيان المعنى الذي تدل عليه الجملة مع الاختصار، وخرّجت الأحاديث التي يستشهد بها

المؤلف دون توسع، وقد استشهدت بأحاديث لم أخرّجها، وكذا ذكرت في التعليق جملا كثيرة مستندها بعض الأحاديث أو الآثار، لكن لم أبحث عن درجتها، وإنما هي من الأحاديث أو النقول المتداولة في الكتب وعلى الألسن، والاشتغال بتخريجها مما يطول به التعليق ولا مناسبة له في ذلك الأوان والاشتغال، ولعله يتيسر لنا بعد حين أن نخرّج ما نقدر عليه من تلك الأخبار؛ ليطمئن القارئ إلى صحة الاستدلال بها، وإن كان أصل الدليل مشهورا مقطوعا به كما هو المعلوم في أمور العقائد التي تعتمد الأدلة القطعية من الآيات وصحيح الأخبار وإن كانت آحادًا مما تلقته الأمة بالقبول وتقبله السلف الصالح والصدر الأول من هذه الأمة ولا عبرة بمن رده أو تأوله وحرفه من المتأخرين الذين تأثروا بشبهات المبتدعة وضلوا عن سواء السبيل والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل مكان وزمان، الذي لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحيط بعلمه إنس ولا جان، أحمده على جزيل الامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. وبعد: فهذه أسئلة وأجوبة على متن لمعة الاعتقاد، شرحت فيها المفردات اللغوية، وأوضحت فيها المعاني العقدية وقد حرصت على الاختصار لأن المقام يستدعي ذلك ولأن محتوياتها متكررة في العقائد المبسوطة والله المسؤول أن ينفع به كما نفع بأصله وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تعريف بهذه العقيدة ومؤلفها

تعريف بهذه العقيدة ومؤلفها

_ (أ) : من مؤلف هذه العقيدة؟ (ب) ما موضوعها؟ (ج) وما سبب تسميتها؟ (د) وما طريقة المؤلف في الاعتقاد؟ (هـ) ما أهمية هذا الموضوع. (و) ومتى حدث الخلاف فيه؟ (أ) هو الموفق ابن قدامة المقدسي الحنبلي ينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو قرشي عدوي مات سنة 620 عن ثمانين سنة، وكان قد ولد بجمّاعيل من أرض فلسطين ثم انتقل إلى دمشق وقد صنف كتبا كثيرة أغلبها في الفقه كالمغني والكافي والمقنع والعمدة وله كتب في فنون أخرى رحمه الله وأكرم مثواه. (ب) موضوعها في توحيد الأسماء والصفات وما يلزم اعتقاده في الآيات والأحاديث التي تتضمن شيئا من صفات الله تعالى وفي طريقة أهل السنة في أمور الغيب ونحو ذلك.

(ج) وسماها (لمعة الاعتقاد) لوضوح أدلتها وما تضمنته، واللمعان: الإضاءة والنور، والاعتقاد هو ما يجزم بصحته ويعقد القلب عليه، ثم وصفها بقوله (الهادي إلى سبيل الرشاد) أي: أن اعتقاد ما فيها يكون دالا إلى الطريق التي من سلكها فهو من الراشدين. (د) أما طريقة المؤلف فهي الاقتصار على قراءة النصوص في الصفات وإمرارها كما جاءت وعدم الاشتغال بتفسير شيء منها لفظا أو معنى، وعلى هذا أغلب المشتغلين بالفقه. وقد تجرأ كثير من العلماء المحققين ففسروها بما هو المتبادر إلى الفهم من معناها، وصرحوا بحقيقة ما تدل عليه مع نفي التشبيه، وإنما فوضوا الكنه والكيفية، وقصدهم بذلك إبطال تأويلات النفاة ورد تحريفاتهم. (هـ) لا شك أن معرفة العبد لربه هي أوجب الواجبات، ويتبع ذلك معرفة ما يعتقده العبد بقلبه ويقوله بلسانه في ربه ومالكه، مما يستحقه الرب من صفات الكمال، وما ينزه عنه من النقائص وأنواعها، فإن هذه المعرفة غاية المعارف، والوصول إليها غاية المطالب، ولأجل هذه الأهمية ورد إيضاح هذا النوع في الكتاب والسنة أتم إيضاح، وتقبل ذلك المؤمنون حقا كما تقبلوا جميع ما في الوحيين من الأخبار والأحكام وغيرها. (و) وكان حدوث الخلاف في إثبات الصفات في أوائل القرن الثاني، فأول من اشتهر بإنكارها الجعد بن درهم حيث أنكر الاستواء والعلو

والكلام والمحبة ونحوها فضحى به خالد القسري حيث قتله بعد صلاة العيد لأجل هذه المقالة، وقد أخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت إليه، فإن السلف يسمون من نفي الصفات أو شيئا منها جهميا.

ثم كثر أهلها آخر القرن الثاني وأول القرن الثالث وتمكنوا من بعض الخلفاء، وحصل لأهل السنة اضطهاد وتعذيب، حتى أعز الله دينه، وأظهر أهل الحق؛ ولا يزال النفاة كثيرا إلى اليوم، وذلك مصداق ما في الحديث من وقوع التفرق والاختلاف في هذه الأمة.

مقدمة صاحب المتن ابن قدامة

مقدمة صاحب المتن: (ابن قدامة) قال الشيخ الإمام العلامة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله: الحمد لله المحمود بكل لسان المعبود في كل زمان.

_ (أ) ما معنى قوله الحمد لله؟ (ب) وكيف وصفه بكونه محمودا بكل الألسن، ومعبودا في كل الأزمنة فما وجه هذا العموم؟ (أ) الحمد لغة: الثناء، وشرعا ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله. (ب) وكونه تعالى محمودا بكل الألسن على عمومه، وحمدها إياه إما بلسان الحال، أو بلسان المقال، فتسبيح الكافر والبهائم والجماد هو ما في تركيبهم وخلقهم من عجيب الصنع الذي يستنطق الألسن بالحمد والتسبيح لمن أنشأه على غير مثال سبق؛ وقد يكون لكل عضو ولكل مخلوق تسبيح وحمد غير مفهوم لنا، على حد قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . وأما العبادة فأصلها الذل والخضوع، وأراد أنه تعالى هو القاهر المتصرف في خلقه، فكلهم ذليل خاضع لهيبته وتصرفه، طوعا وكرها، وهذا عام لكل موجود في كل زمان.

لا يخلو من علم الله مكان

الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن.

_ (أ) ما كيفية عموم العلم؟ (ب) وما دليل ذلك؟ (ج) وما المراد بالشأن؟ (أ) أي: هو تعالى عليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية في أي موضع من ظهر الأرض أو بطنها. (ب) والدليل عليه النصوص الكثيرة كقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} . (ج) والمراد بالشأن: الخَطْب والأمر والحال؛ أي: هو سبحانه لا ينشغل بتدبير مخلوق وأمره عن تدبير بقية الخلق {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

جل الله عن الأشباه

جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد.

_ (أ) ما معنى جل وتنزه؟ (ب) وما الأشباه والأنداد والصاحبة؟ (ج) وما سبب نفي ذلك عن الله تعالى؟ (د) وما النفوذ؟ (أ) جلَّ أي: عظم، وتنزه أي: تباعد. والمراد أنه سبحانه معظم مقدس عن أن يكون له ند أو شبيه، وبعيد أن يتخذ صاحبة أو ولدا. (ب) والأشباه: الأكفاء والنظراء. والأنداد: جمع ند، وهو: المثيل والسمي والكفو، والصاحبة: الزوجة. قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، وقال {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . (ج) ونفي ذلك عن الله تعالى؛ لكمال تصرفه وانفراده وحده بتدبير جميع الخلق، وعدم احتياجه إلى معين وظهير. (د) والنفوذ هو: المضي والجريان. أي: أن حكمه وأمره وقضاءه سار ونافذ في جميع الخلق؛ فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.

لا تمثله العقول

لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

_ (أ) ما الفرق بين تمثيل القلوب وتوهم العقول؟ (ب) وما التفكير والتصوير؟ (ج) وما معنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الآية؟ (أ) تمثيل العقول: تخيلها وتقديرها؛ أن ذات الله كذا، وأن استواءه هكذا. وتوهم القلوب: نظرها -خطأ- في ذات الله أو صفاته؟ وأصل الوهم الظن الخاطئ. (ب) والتفكير: هو التفكير بالقلب في الشيء الغائب، والتصوير هو التصور له، يعني أن القلوب لو فكرت في ذات الله، وتخيلت أنه هكذا أو أن صفته كذا، أو كيفية نزوله أو استوائه كذا لكانت خاطئة، وقد ورد في الأثر: "تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق". (ج) أما قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهي آية عظيمة، تضمنت الرد على من شبه الله أو شيئا من صفاته بخلقه فإنه غاية التنقص، وعلى من نفى عن الله شيئا من صفاته. فقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على المشبهة والممثلة، وقوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على المعطلة، حيث أثبت لنفسه السمع والبصر الحقيقي، فيلحق بهما سائر صفات الكمال.

الكلام في أسمائه تعالى وصفاته

الكلام في أسمائه تعالى وصفاته له الأسماء الحسنى، والصفات العلا.

_ (أ) ما المراد بالأسماء الحسنى، والصفات العلا؟ (ب) وما المراد بالعلو فيها؟ (أ) الاسم: ما حصل به تعيين المسمى، ومن الأسماء: ما هو حسن يتمدح به، ومنها: ما هو قبيح، فأسماء الله كلها حسنى، وله من كل اسم مشتق من صفة أحسن ذلك وأرفعه، وكل اسم من أسماء الله فهو دال على صفة، فالرحمن: دال على الرحمة، والعزيز: دال على العزة، وهكذا. (ب) والعلو في الصفات علو معنوي، أي: له الصفات العظيمة الشأن، الفاضلة الرفيعة في المعنى.

ما في السماوات وما في الأرض ملك الله

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} .

_ (أ) ما تقول في الاستواء؟ (ب) وماذا تفيده اللام في قوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ؟ (ج) وما المراد بما فيهما وما بينهما؟ (د) وما هو الثرى؟ (هـ) وما معنى {وَإِنْ تَجْهَرْ} إلخ؟ (و) وما السر وأخفى منه؟ (أ) (يأتي الكلام على الاستواء في موضعه إن شاء الله) . (ب) اللام تفيد الملك، أي: أن جميع ما في السماوات وما في الأرض ملك الله كما أنهم خلقه وعبيده. (جـ والمراد بما فيهما وما بينهما: الجن والإنس، والملائكة، والحيوانات، والجمادات، وسائر الموجودات. (د) والثرى هو: التراب الندي. (هـ) أما: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} فيفيد سعة علمه، واطلاعه على عباده، أي: هو عالم بالجهر والإخفات، فتقدير الآية: وإن تجهر أو تخافت فإنه عالم بالجميع. (و) والسر: حديث النفس، وما يخفيه الضمير، وأخفى منه: ما علم الله أنه سيخطر بالبال أو يدور في الخيال.

صفة العلم

أحاط بكل شيء علما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما، ووسع كل شيء رحمة وعلما، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .

_ (أ) ما الإحاطة؟ (ب) وما القهر؟ (ج) وما الفرق بين العزة والحكم؟ (د) وكيف وسعت رحمته وعلمه كل شيء؟ (هـ) وما المراد بما بين أيديهم وما خلفهم؟ (و) وما معنى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ؟ (أ) الإحاطة: إدراك الشيء من كل جهاته، فالله تعالى محيط بكل المخلوقات مستول عليها، عالم بسرها وخفيها. (ب) والقهر: القوة والغلبة التي تستلزم كمال التصرف كيف يشاء. (ج) والحكم: وضع الشيء في مواضعه اللائقة به، والعزة: المنعة والقوة، والمعنى: أنه تعالى كما أنه القاهر لخلقه فهو غير ظالم لهم، بل قهره لهم بحق، وفي موضعه المناسب، وهو غاية المصلحة والحكمة. (د) وأما سعة الرحمة: فقد قال تعالى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}

أي: عمت جميع الخلق، والرحمة في الأصل: الرقة والشفقة التي تحمل على الحنو والحنان، والرفق والإحسان، والله تعالى موصوف بالرحمة التي تليق بكماله ففي الحديث: «أنه تعالى أرحم بعباده من الوالدة بولدها» ، وأما سعة العلم فهو: كالإحاطة بكل شيء علما. (هـ) قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قيل: ما بين أيديهم: الدنيا، وما خلفهم: الآخرة، وقيل: العكس، وقيل: ما بين أيديهم: ما بقي من أعمارهم، وما خلفهم: ما مضى لهم، والمراد: أنه عالم بكل الأحوال. (و) {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} يفيد قصور علمهم عن الإحاطة بكيفية الباري، أو إدراك كنه صفة من صفاته، لكمال الله تعالى وتقدس، وضعف المخلوق ونقصه.

الواجب على المسلم نحو أسماء الله وصفاته

الواجب على المسلم نحو أسماء الله وصفاته موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم. وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن، وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل.

_ (أ) ما طريقة أهل السنة في وصف الله تعالى؟ (ب) ولماذا وصف الكتاب: بالعظيم، والنبي: بالكريم؟ (ج) ولماذا عبر بقوله: أو صح عن المصطفى؟ (د) وما صفة الإيمان به؟ (هـ) وما معنى: تلقيه بالتسليم والقبول؟ (و) وما التعرض له بالرد والتأويل؟ (ز) وما الفرق بين التشبيه والتمثيل؟ (أ) يصفون الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه تعالى أعلم بنفسه وبغيره، فلا يصفه أحد أعلم به منه، وكذا رسوله أعلم بمن أرسله، فلا يمكن أن يثبت لربه إلا ما أوقفه عليه، وكان إثباته دليل الكمال، وآية على صدقه فيما جاء به. (ب) ووصف الكتاب: بالعظيم أي: عظيم الشأن، جليل القدر؛ ليكون أدعى إلى تعظيمه، وقبول ما جاء فيه من الصفات وغيرها، وعبر بقوله: (وعلى لسان نبيه الكريم) ليفيد أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عن الله تعالى، هو الذي أجراه على لسانه، وهو من جملة رسالته التي بلغها إلى

الأمة، ووصفه بالكريم لكرمه على الله، ورفعة منزلته، وذلك من أسباب قبول ما جاء به. (ج) أما قوله: (أو صح عن المصطفى) فاحترز بذلك عما لم يثبت من الأحاديث الضعيفة، فإنه لا يقبل في العقائد والأحكام إلا ما ثبت عنه عليه السلام، مما نقله وصححه الأئمة العدول، وقد قيض الله للأحاديث هؤلاء الأئمة الذين تتبعوها، وبينوا ما لم يثبت منها، والمراد بالمصطفى المختار أي: هو صفوة الله، وخيرته من خلقه. (د) (وجب الإيمان به) أي: التصديق الجازم بالقلب، وعقده ويقينه بصحة كل ما ورد، وإثباته وصفا لله على ما يليق بجلاله وكماله. (هـ) وأما تلقيه: فهو مقابلة ما ورد من ذلك (بالتسليم والقبول) تقول: تلقيت كلامه بصدر رحب أي: استقبلته بما يدل على تعظيمه واحترامه، والقبول ضد الرد، أي: الرضا به، واعتقاده من جملة الدين. (والتسليم) الانقياد لما دل عليه. والإذعان له، وعدم النفرة والإنكار لشيء من ذلك. (و) وأما (التعرض) فهو: الاعتراض عليه، كأنه عرض نفسه في طريق النصوص، حتى لا ترد إلى قلبه على حقيقتها فمنها: ما يكذب به، ومنها: ما يحرفه، ومنها: ما يغالي في إثباته، وغير ذلك، (والرد) هو: الإنكار لذلك والتكذيب، وعدم قبوله كما وصف اليهود الذين {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} ، (والتأويل) صرفه عن ظاهره.

(ز) (والتشبيه والتمثيل) : المغالاة في إثبات الصفات بجعلها كصفات الخلق؛ (فالتمثيل) : اعتقاد أنها كصفاتهم من كل وجه (والتشبيه) : جعلها شبيهة بها وقريبة منها، فالتمثيل أبلغ.

الكلام في المشكل من النصوص

الكلام في المشكل من النصوص وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين، بقوله سبحانه وتعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .

(أ) ماذا نقول فيما لم نفهم معناه من نصوص الصفات؟ (ب) وإلى من نكل علمه؟ (ج) وعلى من تكون عهدة الخطأ فيه؟ (د) ومن المراد بالراسخين في العلم؟ (هـ) وما طريقتهم في متشابه القرآن؟ (أ) يقبل أهل السنة كل ما في القرآن والحديث النبوي، وما اشتمل من ذلك على شيء من الصفات قالوا به، واعتقدوا حقيقة تلك الصفات على ما يليق بالموصوف تعالى، وإذا أشكل شيء من ذلك قبلوا لفظه، وفوضوا العلم بالمعنى والكيفية إلى عالمها، وذلك كصفة النزول، وكيفية الاستواء ونحوها، فإن النزول قد ثبت في الأحاديث الصحيحة ولكن توقف العلماء عن التقعر في كيفيته وهل يخلو منه العرش أم لا يخلو ... إلخ. فالتفويض للمعنى أي: للكنه والماهية. فأما المعنى اللغوي للنزول والاستواء، فهو معلوم عند أهل السنة، ولهذا جعلوهما من أدلة صفة العلو لله تعالى. (ب) (ونرد علمه إلى قائله) : وهو الله تعالى، والمبلغ عنه وهو: الرسول عليه الصلاة والسلام. (ج) وإن كان فيه خطأ فالعهدة على من نقله؛ أي: اللوم والحساب على من تعمد الخطأ، وإنما قبلوا ما جاءهم بواسطة علمائهم الذين يثقون

بعدالتهم وصدقهم؛ وقد تلقوا عنهم كل الشريعة في العقائد والأوامر والنواهي. (د) (والراسخون في العلم) : هم المتمكنون فيه، الذين رسخ الإيمان والعلم في قلوبهم وثبت عن دليل ويقين. (هـ) وطريقتهم ذكرها الله بعد أن قسم هذا الكتاب إلى: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فذكر أن الراسخين يؤمنون بالجميع، ويقولون: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فلا يردون منه شيئا، ولا يضربون بعضه ببعض، وذلك حث على طريقتهم وترغيب فيها، وهي التصديق بالجميع محكمه ومتشابهه الذي لم يظهر لنا معناه.

التأويل المذموم

التأويل المذموم وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .

_ (أ) من المراد بالذين في قلوبهم زيغ؟ (ب) وما طريقتهم في المتشابه؟ (ج) وما غرضهم في ذلك؟ (د) وما التأويل في الأصل؟ (هـ) وهل تمكن معرفته لأحد؟ (أ) الزيغ: الميل والانحراف عن القصد. وزيغ القلب صدوده عن الإيمان بسبب الذنوب التي تتراكم عليه حتى تصرفه عن قبول الحق. (ب) وطريقة الزائغين: تتبع المتشابه والخوض فيه وتفسيره بالآراء والأهواء، والمراد بالمتشابه: الآيات التي توهم اختلافا، أو يفهم منها البعض تشبيها أو تمثيلا، أو لا يتوصل إلى معرفة المراد منها لكل أحد بل لا يعرف معناها إلا أهل الرسوخ في العلم. (ج) وغرضهم في ذلك: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: يحاولون إيقاع الناس في الكفر والشك في صحة الدين وإعجاز القرآن، وصدهم عن قبول الحق، وكذا يحاولون معرفة ذلك المتشابه.

(د) والتأويل يستعمل لثلاثة معان: 1 - قيل: هو حقيقة الشيء وما يؤول إليه، وكنه الأشياء الغائبة وكيفية ظهورها. وهذا هو المراد به في كثير من الآيات القرآنية كقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} . 2 - وقيل: هو التفسير الذي هو إيضاح معاني الآيات، وبيان المراد منها، وهذا اصطلاح كثير من المفسرين من السلف، كابن جرير الطبري وغيره. 3 - وقيل: هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح، إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن به. وهذا اصطلاح أهل الكلام، والمتأخرين من الأصوليين، وقد تسلطوا بهذا التأويل على نصوص الصفات وحدها، فحرفوا معانيها، وصرفوها عن المتبادر منها إلى احتمالات بعيدة بحجة أن العقل عندهم ينكر ما يدل عليه المفهوم منها، ففسروا الرحمة بأنها: إرادة الإنعام، والغضب بأنه: إرادة الانتقام، واليد بأنها: النعمة أو القدرة ونحو ذلك. (هـ) والتأويل للمتشابه هو الأول من هذه المعاني الثلاثة، وهو الذي لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} أي: لا يعلم حقيقته وما يؤول إليه إلا الله، فحجبهم عما أملوه ورجوه، وقطع أطماعهم عن الوصول إلى معرفة تأويل تلك الآيات المتشابه ظاهرها.

كلام أئمة السلف في الصفات

كلام أئمة السلف في الصفات 1 - قول الإمام أحمد في هذا الباب قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا» و: " إن الله يرى في القيامة " وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها ونصدق بها لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين. نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول، وتثبيت القرآن.

(أ) ماذا يفيد قول أحمد رحمه الله: نؤمن بها ونصدق بها؟ (ب) وما معنى قوله: لا كيف ولا معنى؟ (ج) وما المراد بالحد والغاية المنفية هنا؟ (د) وما معنى: لا يبلغه وصف الواصفين؟ (هـ) وما مجمل القرآن ومتشابهه؟ (و) وما معنى قوله: لشناعة شنعت؟ (ز) وما تثبيت القرآن؟ (أ) هذا الأثر عن أحمد مشهور وقد رواه أبو يعلى في إبطال التأويلات له، ويفيد كلامه رحمه الله بيان طريقة السلف في نصوص الصفات وأن المؤلف في هذه العقيدة قد سار على طريقتهم التي هي التصديق بتلك النصوص، كحديث النزول، وأحاديث الرؤية وغيرها، واعتقاد صحتها ودلالتها على معانٍ، وإن كانت تلك المعاني غير مفهومة لنا على حقيقتها وما هي عليه لقصور علم البشر عن إدراك كنه تلك الصفات لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . (ب) قوله: (لا كيف ولا معنى) أي: لا نتكلف السؤال عن كيفية تلك الصفات وهيئتها، ولا نقول: إن معناها كذا وكذا، بغير دليل، بل نقول: هي صفات أثبتها الله لنفسه، فنعتقدها، ونكل كيفيتها وكنهها إليه تعالى.

(ج) قوله: (بلا حد ولا غاية) هما بمعنى: نهاية الشيء ومداه؛ يعني أن نتقبل الصفات الواردة لله، ولا نحددها ونعرفها، ونجعل لها غايات ومبدأ ومنتهى، من قبل أنفسنا، بل نجريها على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وهو: نفي مشابهة الله لأحد من خلقه في ذاته وصفاته. (د) قوله: (لا يبلغه وصف الواصفين) أي: لو وصفوه من قبل أنفسهم لما بلغوا ما يستحقه، ولما وصلوا إلى حقيقة صفاته وكنهها وما هي عليه، فهو العالم بماهيتها مع علمنا بالمعنى الظاهر للفظ اللغوي، وإنما يجهل المعنى الباطن وهو: الكنه والكيفية. (هـ) أما مجمل القرآن فهو: الآيات التي اختصر لفظها، ودخل في معناها معان كثيرة، ولم يرد بسطها وتوسيع معاني ما دلت عليه، والمتشابه: تقدم معناه، والمراد: أننا نصدق بالقرآن كله المجمل منه والمبسوط، والمحكم والمتشابه، ونقول: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . (و) قوله: (لشناعة شنعت) الشناعة: القبح، أي: لا نترك ذكر شيء من صفات الله الواردة، ولو شنع علينا الناس وعابونا، ورمونا بأنا مشبهة، وممثلة، وحشوية، ونوابت، ونحو ذلك، كما قال الزمخشري المعتزلي عامله الله بعدله يعيب أهل السنة:

قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفة (ز) (وتثبيت القرآن) : إثباته، أي: لا نعلم كيفية شيء من الصفات، إلا إننا نقبلها تصديقا للرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه الذي بلغها، وإيمانا بالقرآن الذي أثبتها الله فيه.

قول الإمام الشافعي في هذا الباب

2 - قول الإمام الشافعي في هذا الباب قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله. وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم كلهم متفقون على الإقرار والإمرار، والإثبات لما ورد من الصفات، في كتاب الله، وسنة رسوله، من غير تعرض لتأويله.

_ (أ) ما مفاد كلام الشافعي رحمه الله؟ (ب) ومن المراد بالسلف والخلف؟ (ج) وما الفرق بين الإقرار والإمرار والإثبات؟ (أ) يفيد أن الواجب على المسلم قبول ما جاء عن الله ورسوله، سواء فهم معناه والحكمة فيه أو خفي عليه. كما أن عليه التصديق بربوبية الله وإلاهيته، وبرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكذا يلزمه قبول ما ورد عن الله في كتابه، أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن فهم معنى ذلك قال به، وإلا فوضه أي: فوض العلم بالكنه والكيفية إلى الله وحده. وهذا معني قوله: (على مراد الله) أي: على ما أراد منه، مع أنه ما خاطب الناس إلا بما يفهمونه.

(ب) قوله: (وعلى هذا درج السلف) أي: ساروا وقطعوا حياتهم، وهم على معنى ما تقدم وما يأتي. والسلف هم: أهل القرون المفضلة، من الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين. والخلف: مَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من علماء المسلمين، وعوامهم المتمسكين بالسنة. (ج) والإقرار هو: الاعتراف بصحة تلك النصوص، ودلالتها على معانيها المرادة منها. والإثبات: اعتقاد أنها حق ثابتة لا ريب فيها ولا توقف؛ والإمرار: إمرارها كما جاءت بلا كيف، وهو معنى ما تقدم من إثباتها لفظا، وعدم التعرض لمعناها بغير علم.

الترغيب في السنة والتحذير من البدعة

الترغيب في السنة والتحذير من البدعة وأقوال العلماء في ذلك واجب المسلم نحو السلف: وقد أمرنا باقتفاء آثارهم، والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .

_ (أ) ما معنى اقتفاء آثارهم.. إلخ؟ (ب) وماذا يفيد قوله: "عليكم بسنتي"؟ (ج) وما السنة؟ (د) ومن المراد بالخلفاء هنا؟ (هـ) وما صفة العض عليها؟ (و) وما المحدثات؟ (ز) وكيف تكون المحدثة بدعة والبدعة ضلالة؟ (ح) وما درجة هذا الحديث؟

(أ) الاقتفاء هو: الاتباع وآثارهم: أفعالهم التي أثرت عنهم، أمرنا بأن نفعل ما فعلوا وندين بما دانوا. والاهتداء: الاستدلال، والمنار: علم الطريق، أي: أمرنا بأن نستدل في سيرنا المعنوي بالأعلام التي نصبوها لنا في الطريق وهي: ما قالوه وفعلوه وخلفوه لمن بعدهم في العقائد والأعمال. (ب) قوله: (عليكم بسنتي) يفيد الأمر بلزومها والتمسك بها واتباعها، وهذه الصيغة تفيد التحريض على الأمر بالشيء فإذا قلت: عليك بالجد والمواظبة، فهو أمر بذلك وتحريض عليه. (ج) والسنة: الطريقة والمنهج والمراد: الأقوال والأفعال المأثورة عن الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه رضي الله عنهم. (د) المراد بالخلفاء الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وألحق بهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لحسن سيرته، فهم الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقاموا مقامه وعملوا كما عمل، والرشد: الصلاح والاهتداء في السير والعمل وهو ضد الغواية. (هـ) قوله: (عضوا عليها) أي: تصلبوا في التمسك بها، كما يتمسك العاض على الشيء بجميع أضراسه والنواجذ: أقاصي الأسنان.

(و) (وإياكم ومحدثات الأمور) أي: ابتعدوا عنها وهذه الصيغة تفيد التنفير عن الشيء فإذا قلت: إياك والكسل، وإياك والبطالة، فالمعنى: احذر ذلك وابتعد عنه، والمحدثات: كل ما ليس له أصل في الدين مما يحدثه الناس بالأهواء والآراء. (ز) (فإن كل محدثة بدعة) : هذا تفسير للكلمة بما يوضحها، فإنه لما اشتهر النهي عن البدع في الدين والزيادة فيه بعد أن أكمله الله وجاء التحذير عن المبتدعين، فسر هنا المحدثة التي نهى عنها بأنها تكون بدعة ثم أخبر بأن البدعة ضلالة، أي: ذهاب عن الحق، وضياع في الدين وسلوك لسبيل الضالين. (ح) والحديث صحيح فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، وهو أحد الأربعين النووية.

قول ابن مسعود في هذا الباب

1 - قول ابن مسعود في هذا الباب: وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".

_ (أ) ما مراد ابن مسعود بالاتباع والابتداع؟ (ب) وماذا كفوا في قوله: فقد كفيتم؟ (أ) أي: اتبعوا سنن الرسول وخلفائه، وسيروا على نهجهم، ولا تبتدعوا في الدين وتزيدوا فيه من قبل أنفسكم باستحسان عقولكم، فتضيفون إليه بعد كماله ما ليس منه. (ب) (فقد كفيتم) أي: كفاكم الرسول وخلفاؤه الاستحسان، وأراحوكم من الرأي والنظر. وهذا الأثر والحديث قبله دلالتهما ظاهرة في الأمر باتباع السلف وتقليدهم، سواء في الأصول والعقائد أو في الفروع.

قول عمر بن عبد العزيز في هذا الباب

2 - قول عمر بن عبد العزيز في هذا الباب: وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاما معناه: قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى؛ فلئن قلتم: حَدَثَ بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، وقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسِّر، وما دونهم مقصِّر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.

_ (أ) من يريد بالقوم المذكورين؟ (ب) وما وقوفهم عن علم؟ (ج) وعن أي شيء كفوا؟ (د) وما مراده بالبصر النافذ؟ (هـ) وما مرجع الضمير في كشفها؟ (و) وما مراد من قال: حدث بعدهم؟ (ز) وما وصفهم وكلامهم بما يشفي ويكفي؟ (ح) وما المحسر والمقصر والجافي والغالي؟

(أ) هذا كلام جليل القدر، يدل على قوة المعرفة بالله، وبدينه، وبحملة الدين، ففيه الأمر بالتمسك بالسنة، واتباع طريق السابقين الأولين، وفيه النهي عن الخوض في الدين بغير علم؛ سواء في العقائد أو في العبادات؛ ومراده بالقوم الصحابة، وعلماء التابعين. (ب) ووقوفهم: هو تركهم الخوض في المتشابه، ونهيهم عن السؤال والبحث في أمور الغيب بمجرد الظن والتخمين، وقد ابتلي بهذا أهل الكلام حتى صار من أسباب خطئهم وضلالهم، فالصحابة والتابعون وقفوا عن علم، حيث علموا ما في البحث عنها من الخطر وعلموا قصر الإنسان، وضعفه عن إدراك أمور الغيب، وعلموا أنما يهمهم معرفة أمور العبادات والأعمال. (ج) وقوله: (كفوا) أي: صدوا ومالوا عن الكلام فيما لا يعنيهم، وما حجبوا عنه. (د) ومراده بالبصر: البصيرة؛ وهي: نظر القلب، والنافذ: الثاقب القاطع للمبصرات، أي: أن السلف كفوا عن الخوض في البدع والكلام، وما لم يطلعهم الله عليه وكان انكفافهم عن بصيرة ويقين، لا عن ظن وتخمين. (هـ) (ولهم على كشفها) أي: كشف الأمور المبتدعة، كالقدر، والإرجاء، والتعطيل للصفات ونحوها، واللام قبل الضمير موطئة للقسم.

أي: هم أقدر وأقوى على إظهارها، وكشف معانيها، وأحرى بذلك، وأحق بالحصول عليه لو كان فيه فضل، فلما كفوا عنها مع قدرتهم دل على أن لا خير في بحثها، فالوقوف حيث وقفوا أولى بمن أراد نجاة نفسه. (و) فإن قيل: إنها تجددت بعدهم، وأنهم لم يتوسعوا في العلم، ولو بحثت في وقتهم وظهرت لتكلموا فيها!! فالجواب: إن الذين أحدثوها لا يقاسون بالصحابة، ولا يدانونهم في العلم ولا في الفضل، وإحداثهم لهذه البدع دليل على أنهم قد زاغوا عن السبيل، وخالفوا هدي الصحابة، رغبة عن سنتهم، ورضوا لأنفسهم أن يسلكوا غير سبيلهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . (ز) (وقد وصفوا منه ما يشفي وتكلموا منه بما يكفي) أي: لم يخف عليهم هذا الأمر الذي قيل إنه متجدد بعدهم، بل قد علموه، ولكنهم سكتوا عما لا يعنيهم، واشتغلوا بما لهم فيه فائدة، فوضحوه وتكلموا بما فيه الكفاية لمن أراد الله هدايته، وتكلموا أيضا في تلك الأمور المبتدعة، فنهوا عن الخوض في القدر، وحذروا من القدرية، والخوارج، والمعطلة ونحوهم. (ح) (فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر) أي: من تجاوزهم وتكلم

بما سكتوا عنه حسر وعجز، وانتهى إلى الحيرة والشك، كما حدث لبعض كبار المتكلمين، ومن تجاهل علمهم وترك ما بحثوا فيه فهو مقصر أي: ناقص المعرفة. والجفاء: هو التنقص والاحتقار للدين، وذلك فيمن ترك شيئا من علومه الواجبة. والغلو هو مجاوزة الحد، كالتدخل فيما لا يعني الإنسان، وخير الأمور أوساطها، وهو الصراط المستقيم.

قول الإمام الأوزاعي في هذا الباب

3 - قول الإمام الأوزاعي في هذا الباب: وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول.

_ (أ) من الأوزاعي؟ (ب) وماذا يفيده أول كلامه؟ (ج) وما رفض الناس؟ (د) وما الآراء؟ (هـ) وكيف زخرفتها؟ (أ) الأوزاعي هو إمام الشام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو، من كبار تابع التابعين، مات سنة 157 هـ، وهذا الأثر عنه مشهور، كما في تذكرة الحفاظ: (1\180) . (ب) ويفيد قوله: (عليك بآثار من سلف) لزومها والتمسك بها، والآثار: ما أثر عنهم من أقوال وأفعال، قي العقائد، والعبادات. والمراد بمن سلف: الصحابة وأجلاء التابعين. (ج) ورفض الناس للإنسان: أن يمقتوه، ويعيبوا فعله، فإن أغلب الناس يميلون مع كل مستحدث جديد، ويمقتون من تمسك بسنة الأقدمين،

ويرمونهم بالرجعية والتقهقر والتزمت ... إلخ. مما هم بريئون منه. (د) وآراء الرجال: تخرصاتهم، واستحساناتهم التي قالوها بمجرد النظر والظن، مع مخالفتها للدليل، أي: اتركها وابتعد عنها. (هـ) والزخرفة: الزينة والصبغة الجميلة ظاهرا، وأصل الزخرف: الذهب، ثم شبه به كل مموه ومزور، أي: لا تقبل أفكارهم وآراءهم، ولو بالغوا في تحسينها وتحليتها إلى المسامع، وأكثروا لها من تعليل، مادامت مخالفة للحق، ودلالة الأثر في أمر الأوزاعي رحمه الله باتباع آثار السلف الصالح، في العقائد والأعمال، ونهيه عن بدع المبتدعين.

قول الإمام الأدرمي في هذا الباب

4 - قول الإمام الأدرمي في هذا الباب: وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة، ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم. قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت، فانقطع الرجل، فقال الخليفة -وكان حاضرا: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم. وهكذا من لم يسعه ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت فلا وسع الله عليه.

_ (أ) ماذا يفيده كلام الأدرمي هذا؟ (ب) وما تلك البدعة؟ (ج) ومن ذلك المبتدع؟ (د) وأي خليفة عنده؟ (أ) هذه مناظرة بليغة قاطعة من جهة النظر، وقد ذكرت في كتب التأريخ والتراجم، والعقائد وغيرها، وفي أكثر الروايات ما سمي الأدرمي، وإنما ذكروا أنه جيء به موثقا لتعذيبه، وسمي في بعضها عبد الله بن محمد.

والصواب ما هنا. (ب) وتلك البدعة هي القول بخلق القرآن. (ج) والمبتدع هو: أحمد بن أبي دؤاد فهو الذي زين للخلفاء امتحان أهل السنة، وإلزامهم بهذا القول، فامتحن الإمام أحمد وغيره، وضربوا، وحبسوا، حتى نصرهم الله. وأول من هم بالمحنة الخليفة المأمون فمات قبل التمكن منها، ونفذها بعده أخوه المعتصم ثم بعده الواثق. (د) والمراد بالخليفة هنا هو: الواثق. ودلالة هذا الأثر واضحة هنا في وجوب السير على آثار السلف، وترك البدع التي أحدثت بعدهم، فإنهم لو جهلوها لكان الدين ناقصا في وقتهم، وذلك ينافي قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . وفي بعض ألفاظ هذه المناظرة أنه قال لابن أبي دؤاد: فيا لكع بن لكع، يجهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه شيئا، وتعلمه أنت؟ فإنه من المستقر في عقائد المسلمين تفضيل الرسول عليه الصلاة والسلام، وخلفائه الراشدين على من بعدهم، في العلم، والدين، وسائر صفات الفضل؛ وحيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بين وبلغ ما أوحي إليه، ولم يكتم منه شيئا، ولم ينزل بعده وحي، وحيث أن أصحابه قد ورثوا سنته، وقاموا بتبليغها بعده؛ فمن المحال أن يكون من بعدهم خيرا منهم في هذه الأمور

وعلى فرض أنهم علموا هذه العلوم التي يخوض فيها من بعدهم، واعتقدوها حسب اعتقاد هؤلاء المبتدعة، فإنهم لم يلزموا الناس باعتقادها، ولم يدعوهم إليها، فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم، وحينئذ فقد وسع الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين لهم بإحسان قراءة آيات الصفات، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت بلا كيف فمن لم يسعه ذلك فلا وسع الله عليه.

أمثلة لبعض الآيات والأحاديث التي أثبتت بعض الصفات

أمثلة لبعض الآيات والأحاديث التي أثبتت بعض الصفات أولا: الآيات: الصفة الأولى: الوجه: فمما جاء من آيات الصفات قول الله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} .

_ (أ) ماذا تدل عليه هذه الآية؟ (ب) وما دليل إثبات الوجه لله تعالى؟ . (أ) يقول تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي: كل ما على وجه الأرض، وما على الوجود هالك وميت؛ ثم ذكر أن الباقي وجه الله تعالى، فهو تعالى لا يفنى ولا يموت، والجن والإنس يموتون. (ب) في هذه الآية إثبات الوجه صفة لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية، التي لا تنفك عن الله تعالى؛ ومثلها قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقوله {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وفي الحديث: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله..» ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم» .

وقوله: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات» . وفي الحديث أيضا: «حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» . فأهل السنة يثبتون الوجه صفة لله، على ما يليق بجلاله، زائدة على الذات، ولا يشبهونه بما يختص بالمخلوق.

صفة اليدين

الصفة الثانية: اليدان: وقوله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .

_ (أ) ماذا تدل عليه هذه الآية؟ (ب) وماذا ترد به تأويل من نفى هذه الصفة؟ (أ) في الآية رد على اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ومرادهم وصفه تعالى بالبخل، فأخبر تعالى بسعة فضله وعطائه، وأنه ينفق كيف يشاء، وأن يديه مبسوطتان، أي: بالعطاء والامتنان. ويد الله صفة من صفاته الذاتية التي لا تنفك عنه، وقد دل على إثباتها الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، وفي الحديث: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة..» وفيه أيضا: «إن الله غرس جنة عدن بيده؛»

«وكتب التوراة بيده» ونحو هذه الأدلة كثيرة، فيثبتها أهل السنة، مع نفي التشبيه كسائر الصفات. (ب) وأنكر المعتزلة ونحوهم هذه الصفة، وفسروها بالنعمة أو القدرة، وهذا حمل لكلام الله وكلام رسول الله على مجاز بعيد عن المتبادر إلى الأفهام، ولا يناسب ذلك جميع النصوص، ولا يقال: الله خلق آدم بقدرتين أو نعمتين، وعليه أيضا لا يكون لأدم مزية على سائر الخلق التي خلقت بقدرة الله.

صفة النفس

الصفة الثالثة: النفس: وقوله تعالى إخبارا عن عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .

_ (أ) ما معنى: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ؟ (ب) وما دلالتها على الموضوع؟ (أ) حكى الله عن عيسى أنه اعترف لله بسعة العلم، والاطلاع على الضمائر، وما تخفيه النفوس؟ وأن عيسى وغيره من المخلوقين لا يحيطون به علما. (ب) وفي الآية إثبات صفة النفس لله تعالى، فيثبتها أهل السنة ولا يشبهونها بما يختص بالخلق.

صفة المجيء والإتيان

الصفة الرابعة: المجيء والإتيان: وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} .

_ (أ) ما مفاد هاتين الآيتين؟ (ب) وما قول أهل السنة في مدلولهما؟ (ج) وما الجواب عن تأويل النفاة؟ (أ) يخبر تعالى عن هول القيامة، وأن الأرض تندك دكا، وأنه سبحانه يجيء لفصل القضاء بين عباده، وتنزل الملائكة صفوفا. وفي الآية الأخرى: أخبر أن الكفار ما ينتظرون إلا إتيان الله يوم القيامة ليحكم بين الناس. (ب) وفي الآيتين الدلالة الواضحة على إثبات مجيء الله وإتيانه كما يشاء يوم القيامة وأنه الذي يتولى الحكم بين عباده؛ فأهل السنة يقرون بما تضمنته هذه الآيات، ونحوها من الأحاديث، ويقولون: إنه تعالى يجيء

مجيئا حقيقيا كما هو المفهوم من النصوص، إلا أنهم يتوقفون عن الكيفية، ويعتقدون أنه تعالى لا يشبه بشيء من خصائص الخلق. (ج) وأنكر ذلك الجهمية، والأشعرية ونحوهم، لأنه بزعمهم من خصائص المحدثات والمركبات؛ وتأولوا الآيات ونحوها بأن المراد: يجيء أمره. ونحو ذلك، وهو تأويل بعيد، يفتح لكل ملحد باب التقديرات في القرآن، ليصرفه عن المفهوم المتبادر إلى العقل من معناه، والقرآن ظاهر المعنى لكل مؤمن سليم الفطرة، وأيضا فإن أمره سبحانه ينزل كل حين، لا يختص بيوم القيامة، ولو كان المراد أمره لصح نفي حكم الله بين العباد، والقول بأن الحكم من غيره، وهو باطل.

صفة الرضا والمحبة والغضب والسخط والكراهية

الصفة الخامسة: الرضا: الصفة السادسة: المحبة: الصفة السابعة: الغضب: الصفة الثامنة: السخط: الصفة التاسعة: الكراهية: وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقوله في الكفار: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وقوله: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} وقوله: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} .

_ (أ) بين ما في هذه الآيات من المعاني؟ (ب) وما نوع الصفات التي تؤخذ منها؟ (ج) وكيف يرد على من أنكرها؟ (أ) في هذه الآيات دلالة على أن الأعمال الصالحة سبب للسعادة، والحصول على رضا الله ومحبته التي تسبب الفلاح والفوز، وأن الأعمال السيئة سبب للشقاوة التي علامتها سخط الله وغضبه. وفيه إثبات العلل، وارتباط الأسباب بالمسببات، وقد أنكر بعض الطوائف الارتباط بين العمل والجزاء. (ب) وفي الآيات إثبات بعض الصفات الفعلية التي يفعلها الله بمشيئته،

كصفة الرضى، والغضب، والمحبة، والكراهة، والسخط، فنثبت ذلك لله كما أثبته لنفسه ونفوض إليه العلم بكيفيتها. (ج) وأنكر ذلك النفاة من المعتزلة والأشاعرة ونحوهم، قالوا: لأن المحبة رقة في القلب، تستدعي الميل إلى المحبوب، ولأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذه الأحوال إنما تناسب المخلوق. وتأولوا الرضا والمحبة: بالإكرام، والنصر، والثواب، وتأولوا الغضب والكراهة والسخط: بأنه العقاب، ونحو ذلك مما هو صرف للقرآن والسنة عما هو المتبادر منهما إلى أفهام المخاطبين.

ثانيا الأحاديث

ثانيا: الأحاديث: الصفة العاشرة: النزول: ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:

_ (أ) لماذا سيق هذا الحديث؟ (ب) وما الرد على من تأوله؟ (أ) تقبل أهل السنة هذا الحديث الصحيح، وآمنوا بما فيه من إثبات نزوله وتودده إلى عباده، وحثهم على الدعاء، والذكر، والتوبة، في آخر الليل؛ وتوقفوا عن تكييف هذا النزول بل أجروه على ما يليق بجلال الله تعالى. (ب) وقد كبر هذا الحديث على المعطلة من الجهمية ونحوهم، واضطربوا فيه. فرده بعضهم، وقالوا: هو من أخبار الآحاد، وهي لا تفيد إلا الظن بزعمهم، فلا يدخل في العقائد. وتأوله آخرون بأن المراد نزول رحمته أو أمره ونحو ذلك. والحديث مروي في الصحاح والسنن، وسائر دواوين أهل السنة، عن جمع من الصحابة، فهو يفيد اليقين الجازم، وكذلك ما صح من أخبار

«ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا» .

_ الآحاد، مما عدلت نقلته، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يفيد اليقين على الصحيح؛ وأما تأويله بنزول الرحمة والأمر فباطل، لأن أمره تعالى ينزل كل وقت، ولا يختص بثلث الليل الأخير، وأيضا لا يصح أن أمره يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، كما في تتمة الحديث.

صفة العجب والضحك

الصفة الحادية عشر: العجب: الصفة الثانية عشر: الضحك: وقوله: «يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة» وقوله: «يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة» ، فهذا وما أشبهه، مما صح سنده، وعدلت رواته، نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه لا شبيه له ولا نظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وكل ما تخيل في الذهن، أو خطر بالبال، فإن الله تعالى بخلافه.

_ (أ) ما تفهم من هذين الحديثين في الصفات؟ (ب) ومتى تقبل الأحاديث في العقائد؟ (ج) وما فائدة قوله: بتأويل يخالف ظاهره؟ (د) وما الفرق بين صفات المخلوقين، وسمات المحدثين؟

(هـ) وما معنى قوله: تخيل في الذهن، أو خطر بالبال؟ (أ) في الحديث الأول: إثبات صفة العجب لله تعالى على ما يليق به، وسبب العجب استحسان المتعجب منه واستغرابه، وهو هنا كون الشاب ليست له صبوة، أي: ميل إلى اللهو والهوى، فإن عادة الشباب الإكباب على ملذات النفس من اللهو والبطالة، فإذا وجد شاب عَزُوفٌ عن الشهوات، مُعْرِضٌ عن أنواع المشتهيات الملهية، مقبل على الآخرة وما يقرِّب إليها، كان مما يثير العجب، وهو من أسباب مضاعفة الثواب. وفي الحديث الثاني إثبات صفة الضحك لله تعالى، على ما يليق بجلاله. والعجب والضحك من الصفات الفعلية الاختيارية، يفعلها تعالى متى شاء، وسبب الضحك في الحديث التعجب من اجتماع القاتل والمقتول في الجنة، وذلك أن القاتل كان كافرا، فأسلم وقاتل في سبيل الله فاستشهد، وهذا الحديث متفق على صحته، وأما الأول فهو حسن، رواه أحمد وأبو يعلى والبيهقي وغيرهم. (ب) وتقبل الأحاديث في العقائد، كما تقبل في الأعمال، بشرط صحتها، وعدالة نقلتها وثقتهم، خلافا لأهل البدع القائلين: إن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، فلا تقبل في العقائد، والمراد بالآحاد ما عدا المتواتر، والصحيح قبولها، وإفادتها اليقين. (ج) (ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره) : كتأويل النفاة بقولهم: إن

الضحك والعجب يراد بهما الثواب، ونحو ذلك، ففيه دليل على أن الواجب القول بما دل عليه الظاهر، مع اعتقاد نفي مشابهة المخلوقين، على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . (د) و (صفات المخلوقين) : ميزاتهم وخصائصهم، (والسمات) : الهيئات والأشكال، و (المحدثون) : الخلق الذين أحدثهم الله. (هـ) (وكلما تخيل في الذهن ... إلخ) هذا كقوله في الخطبة: لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير؛ لأن المخلوق قاصر عن أن يحيط بكنه الباري، أو يصل بفكره إلى كيفية شيء من صفاته: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .

صفة الاستواء

الصفة الثالثة عشر: الاستواء: ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .

_ (أ) ماذا تدل عليه هذه الآية؟ (ب) وما العرش؟ (ج) واذكر تفاسير السلف للاستواء والجواب عن تفاسير المعطلة؟ (أ) يمجد الرب تعالى نفسه باسمه الرحمن، ليتذكر الخلق سعة رحمته، ثم ذكر علوه على خلقه، واستواءه على عرشه. (ب) والعرش في اللغة: سرير الملك، وهو هنا عرش حقيقي، خلقه الله، وخصه بالاستواء عليه، وقد ذكر في عدة مواضع. كقوله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، وقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ، وقوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} ، وقوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، وقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، ونحوها. وقد ورد في الحديث: «إن الكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت»

«بأرض فلاة» مع قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . (ج) وقد فسر السلف الاستواء بأربعة تفاسير، ذكرها ابن القيم رحمه الله بقوله في الكافية الشافية: ولهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار ... تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن وقد كدّرت نصوص الاستواء وتفاسير السلف لها صفو مشارب الجهمية، حتى تمنى الجهم بن صفوان أن يحك آية الاستواء من المصاحف، وقد ذهبوا في تأويلها كل مذهب، وطعنوا في تفاسير السلف بشبه وهمية زعموها عقلية، وإنما هي خيالات باطلة، وأغلب كتب النفاة تعتمد تفسير استوى: باستولى، أو تفسير العرش: بالملك، ويستدلون ببيت شعر وهو: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق وهذا التفسير غير معروف عند العرب، ولم ينقله أحد من أئمة اللغة

والبيت لا يعرف في دواوين العلم الصحيحة، وفيه تصحيف، وعلى تقدير ثبوته فالاستواء فيه هو الاستقرار، أي: استقر على عرشها، واطمأن بها. ولو كان الاستواء في الآيات هو الاستيلاء لم يكن لتخصيص العرش فائدة، فإن الله تعالى مستول على جميع المخلوقات.

صفة العلو والفوقية

الصفة الرابعة عشر: العلو والفوقية: وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك» وقال للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لحصين كم إلها تعبد؟ قال: سبعة. ستة في الأرض وواحدا في السماء. قال: ومن لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاترك الستة، واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي» ، وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء.

_ (أ) بين دلالة الآية المذكورة والحديث الأول؟ (ب) وكيف يستدل بكلام الجارية؟ (ج) وما معنى قوله: كم إلها تعبد؟ (د) وما المراد برغبته ورهبته.

(هـ) وبين دلالة الأثر عن الكتب المتقدمة. (و) وما معنى حرف الجر في قوله: (في السماء) ؟ (أ) تفيد الآية والحديث أن الله تعالى في السماء، والمعنى: كيف تأمنون الله الذي في السماء فوقكم ومطلع عليكم، وفي الحديث: توسل إلى الله بكونه الرب، أي: المالك المربي لنا بالنعم، وبكونه في السماء حيث أن صفة العلو تفيد الغلبة والتمكن، ثم مجده تعالى بقوله: "تقدس اسمك"، أي: تنزه، وعظم جلالك، وكبرياؤك، والحديث رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والطبراني عن أبي الدرداء في رقية المريض. (ب) أما حديث الجارية فرواه مسلم وأبو داود والنسائي والإمام مالك وغيرهم، ودلالته واضحة على إثبات صفة العلو لله تعالى فإنه لما قال: "أين الله" فقالت: في السماء، كان اعترافا منها بالله مألوها، وأنه العلي الأعلى، ولما أقرها على ذلك، وشهد لها بالإيمان، دل على أن اعتقاد كون الله في السماء مما يتم به الإيمان. (ج) أما حديث حصين -وهو والد عمران - فرواه الترمذي والبيهقي وغيرهما، سأله عن عدد الآلهة التي يعبدها وكانوا يسمون كل معبود إلها، لأنهم يألهونه، أي: تألهه قلوبهم، محبة، وخوفا، ورجاء، وكانوا يعترفون بالله ربا وخالقا، فلذلك ذكر حصين أنه يعبد سبعة آلهة، وأن واحدا منها في السماء وهو: الله. (د) وقوله: "من لرغبتك ورهبتك؟ " الرغبة: قوة الرجاء، والرهبة: شدة الخوف، أي: أيهم الذي تقصده وتهرع إليه عند شدة الخوف من

ضرر، أو عند الحاجة إلى شيء مفقود، فاعترف بأن ذلك لله وحده، وكانوا في الشدة ينسون ما يشركون، ويدعون الله مخلصين له الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} وقال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . ودلالة الحديث في إقراره على أن المعبود للرغبة والرهبة هو الذي في السماء، وفي قوله: اترك الستة واعبد الذي في السماء، أي: اعبد الله وحده، فلما أسلم علمه هذا الدعاء المختصر النافع. (هـ) وأما الأثر المنقول عن الكتب المتقدمة ففيه: وصف هذه الأمة بأنهم وإن كانوا في الأرض فإنهم يعبدون الله الذي هو فوقهم في السماء، فدلالته كدلالة ما قبله. (و) أما قوله في هذه النصوص (في السماء) ، فليس معناه أن السماء تحويه أو تحصره، تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا، وقد فسرت بتفسيرين: أحدهما: أن حرف الجر بمعنى: "على"، كما في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} فإن "في" بمعنى: "على" فالمراد كونه على السماء، أي: فوقها. الثاني: أن المراد بالسماء العلو، أي: هو في العلو وفوق العباد.

حديث الأوعال

حديث الأوعال وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا - وذكر الخبر إلى قوله- وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك» فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله.

_ (أ) ما تفهم من هذا الحديث؟ (ب) وماذا يسمى؟ (ج) وكيف الجواب عن تأويل من تأوله؟ (أ) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والضياء المقدسي والبيهقي وابن خزيمة وابن منده وغيرهم، وهو يدل الدلالة الواضحة على فوقية الله تعالى، وأن العرش أعلى المخلوقات، وأن الله تعالى فوق العرش كما شاء ويؤيده قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين وأن العرش فوق الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمين

وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} فالله تعالى فوق خلقه بجميع أنواع الفوقية أي بقهره، وبقدره، وبذاته. (ب) وهذا الحديث يسمى: (حديث الأوعال) حيث ذكر في بعض ألفاظه ما نصه: «ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش» . (ج) وتأوله النفاة بأن المراد: فوقية القدر، كما يقال: الذهب فوق الفضة، ونحوه. وهذا التأويل خلاف المفهوم، وهو غير مطرد في جميع النصوص، وقد صرح هنا بأن العرش فوق الماء، وأن الله فوق العرش، ثم لا مناسبة لأنْ يقال: إن الله أرفع قدرا من العرش فإنه مما لا يحتاج إليه عند كل عاقل، حيث لا مساواة ولا مقاربة.

قول الإمام مالك في الاستواء

قول الإمام مالك في الاستواء: سئل مالك بن أنس الإمام رضي الله عنه فقيل: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ثم أمر بالرجل فأُخرج.

_ (أ) ما مراد هذا السائل؟ (ب) وما معنى جواب مالك؟ (ج) ولماذا جعله مبتدعا؟ (د) وبين دلالة هذا الجواب؟ (أ) أراد هذا السائل البحث عن كيفية الاستواء هل هي معلومة؟ وهل هي كاستواء المخلوق أم لا؟. (ب) قوله: (الاستواء معلوم) أي: مفهوم لكل عربي، فإنه إذا عُدِّيَ بعلى -كما هنا- أفاد العلو والارتفاع، كقوله تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أي: تعلوها، وتستقروا فوقها، فالاستواء معلوم، يفسر، ويترجم من لغة إلى لغة.

وأما الكيفية: فمجهولة للبشر، لقصور علمهم عن الإحاطة بالله وصفاته. وقوله: (والإيمان به واجب) أي: يلزم التصديق به، واعتقاده حقا، حيث ثبت بالدليل، وتواردت عليه الآيات. (ج) وأما السؤال عن الكيفية: فبدعة، لم يُؤْثر عن السلف وعلماء الأمة، وإنما كانوا يقرؤون الآيات، ويقرونها على ما هي عليه، ولا يتقعرون وراء ذلك. (د) وهذا الجواب عظيم القدر، وقد روي قريب منه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك وروي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا عليها، وروي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الإقرار بأن الاستواء مفهوم، وأن له كيفية، وتلك الكيفية مجهولة، ولو كان الإمام مالك رحمه الله ينكر الاستواء لما قال: إنه معلوم، ولما كان له كيفية يحتاج إلى السؤال عنها.

فصل في إثبات صفة الكلام

فصل في إثبات صفة الكلام الصفة الخامسة عشر: الكلام: ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم، يسمعه منه من شاء من خلقه. سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه، قال الله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقال سبحانه: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .

_ (أ) ما تقول في صفة الكلام لله؟ (ب) وما معنى كون كلامه قديما؟ (ج) وكيف كلم الله موسى؟ (د) وما الدليل على أنه يكلم الناس في الآخرة؟ (هـ) وماذا يؤخذ من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} ؟ (أ) مسألة إنكار الكلام من أقدم ما أحدثه المبتدعة، وقد بالغ السلف في إثبات صفة الكلام لله وبينوا بطلان أقوال النفاة من الجهمية ونحوهم،

وأثبتوا أن الله تعالى متكلم ويتكلم إذا شاء بكلام يسمعه منه من شاء، وبينوا أن صفة الكلام صفة مدح، وأن سلبها نقص وعيب وهو الخرس، وقد عاب الله عِجل بني إسرائيل بقوله {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} . (ب) وعند أهل السنة أن كلام الله قديم النوع، متجدد الآحاد، ومعنى كونه قديم النوع: أن جنسه قديم، فالله تعالى متصف في الأزل بكونه متكلما، فإن الله بجميع صفاته ليس بحادث، ولكنه لا يزال يتجدد ويحدث له كلام إذا شاء، وصفة الكلام من الصفات الفعلية الملازمة للذات متى شاء. (ج) وقد ذكر الله أنه كلم موسى تكليما، ولهذا يسمى موسى: كليم الرحمن، ولا يشك أهل السنة أن موسى عليه السلام سمع كلام الله حقيقة، لا بواسطة ملك، ولا مترجم، بل منه إليه، لأن الله قال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} ولا يصح أن يقول هذا مخلوق، فتحقق أنه عين كلام الله الذي سمعه موسى وقال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي} أي: اخترتك وخصصتك بإرسالي لك إلى فرعون وإلى قومك من بني إسرائيل، وبتكليمي لك كلاما مني إليك، ثم إن قوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} يراد به موسى.

وقد حاول بعض الجهمية من بعض القراء أن يقرأها بنصب الجلالة، حتى يكون موسى هو الفاعل لينفي عن الله أنه هو المتكلم، ولكن أورد عليه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} فهي صريحة في أن الرب هو الفاعل. وقد تكلف الجهمية وغيرهم من نفاة الكلام تأويل هذه الآيات، حتى فسر بعضهم قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بقوله: المراد جرحه بأظافير الحكمة؛ لأن الكلم: الجرح في اللغة. وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، يرده توارد المعنى بألفاظ كثيرة يفهم منها صريح الكلام. ويرده قوله تعالى: {بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ولم يقل: (بكلمي) بإسكان اللام حتى يفسر بالجرح، ويرده آيات النداء كما يأتي بعضها قريبا إن شاء الله وكذا آيات القول والحديث ونحوها، والله تعالى يكلم من أراد من خلقه، فيكلم جبريل من وحيه بما أراد، وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، كما يأتي في الأحاديث. (د) وأما تكليمه للناس في الآخرة فدليله قوله عليه الصلاة والسلام «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان» وكذا

الأحاديث الكثيرة في نعيم أهل الجنة، وأن منه: زيارتهم لربهم، وكلامه لهم، وسؤالهم منه الرضا ... إلخ، وهي أحاديث متداولة بين الأمة، مروية في أمهات الكتب، وفيها التصريح بأنهم يسمعون كلام الله حقيقة كما شاء. (هـ) أما قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} ففيها أنه تعالى لا يكلم في الدنيا أحدا من البشر مقابلة، ولا يتمكن أحد منهم من رؤيته، لاتصافه تعالى بالعلو، والكبرياء والعظمة، ولضعف تركيب البشر عن الاستقرار والثبوت لذلك ثم أخبر أنه ينزل الوحي والشرع على من اختاره لذلك، بواسطة الملك، أو يلهمه ويلقيه في روعه، وقد يكلم البعض من وراء حجاب كما كلم موسى، وقد يرسل رسولا من الملائكة فيكلم الرسول البشري بما أرسله الله به.

كلام الله بحرف وصوت مسموع

الصفة السادسة عشر: كلام الله بحرف وصوت مسموع: وقال تعالى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ، وقال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وغير جائز أن يقول هذا إلا الله. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الخلائق يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان» رواه الأئمة، واستشهد به البخاري.

وفي بعض الآثار: أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار فهالته وفزع منها، ناداه ربه: يا موسى فأجاب سريعا استئناسا بالصوت: لبيك لبيك أسمع صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك، ووراءك، وعن يمينك، وعن شمالك. فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال فكذلك أنت يا إلهي أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى.

_ (أ) ماذا تدل عليه الآيات والأحاديث في النداء؟ (ب) وماذا يؤخذ من قوله: "سمع صوته أهل السماء"؟ (ج) وما معنى حفاة.. إلخ؟ (د) وما معنى قوله لموسى "أنا فوقك ووراءك.. إلخ"؟ (أ) تكرر في القرآن نداء الله لموسى وغيره، كقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} وقوله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} وكذا الآية هنا: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} وكذا قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} وكحديث ابن أنيس المذكور، وفيه: «فيناديهم بصوت» ... رواه الأئمة، كأحمد والطبراني

والحاكم وأبي يعلى وغيرهم. وكذا الأثر في قصة موسى والشاهد منه قوله: ناداه ربه يا موسى إلخ. ولا شك أن النداء لا يكون إلا بكلام، فهذه النصوص من أدلة أهل السنة أن الله يتكلم إذا شاء، وينادي بصوت يسمع، وذكر هنا خصوصية ذلك الصوت، وهي أنه يسمعه من بَعُدَ، كما يسمعه من قَرُبَ، وغير جائز ما تزعمه النفاة من أن الصوت لغير الله، يخلقه في بعض ما يشاء، وأنه خلق في الشجرة كلاما سمعه موسى إلى غير ذلك من تمحلاتهم الباطلة، فإنه تعالى نادى موسى وقال له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ولا يقول هذا مخلوق لموسى ولا يصح أن تقول تلك الشجرة له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} إلخ، فتحقق أن النداء كلام الله. (ب) أما حديث ابن مسعود فهو مرفوع عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والبيهقي ولفظه: «إن الله تعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة» إلخ، ومثله حديث النواس بن سمعان الذي رواه ابن خزيمة وابن جرير وابن أبي حاتم وأوله: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة» إلخ. فالله تعالى يتكلم بالوحي حقيقة، ويكلم الملك، وتسمع صوته السماوات

وأهلها. (ج) أما قوله: "حفاة عراة بهما" فأراد أنهم يحشرون يوم القيامة قد تخلوا مما كانوا يغالون في الحرص عليه في الدنيا، من الأموال، والممتلكات، حتى الأكسية والأحذية، وأصل (البهم) السواد، ومنه الكلب البهيم، وهو خالص السواد. قيل: ليس في ألوانهم ما يغيرها. وقيل: سالمين من عاهات الدنيا، من عمى، أو عرج، ونحوهما؟ وقيل: أصحاء، وقيل: لا شيء معهم، ولعل ذلك لتقريب شبههم بالبهائم التي لا تملك شيئا، أو لا تنطق، حيث أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن؟ قال تعالى: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . (د) فأما الأثر المذكور في قصة موسى فهو من الإسرائيليات، وهي لا تصدق ولا تكذب إلا بدليل. وقصة رؤيته النار مذكورة في القرآن، كقوله تعالى {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وأما كونها هالته فلعل ذلك بعد ما قرب منها، ورآها توقد في شجرة خضراء، ودلالة الأثر في قوله: "أسمع صوتك". وقوله: أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي. فدل على أن كلام الله بصوت مسموع. أما قوله: "أنا فوقك ووراءك ... إلخ" فالمراد أنه تعالى محيط بالعبد في كل حالاته، ومن جميع جهاته، وهذا لا ينافي علوه وفوقيته تعالى كما سبق.

فصل في أن القرآن كلام الله حقيقة

فصل في أن القرآن كلام الله حقيقة ومن كلام الله تعالى: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين؛ بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

_ (أ) ما تقول في القرآن؟ (ب) وما حبل الله المتين؟ (ج) وكيف نزل به الروح الأمين؟ (د) وما حكم القول بأنه مخلوق؟ (هـ) وما معنى قوله: منه بدأ وإليه يعود؟ (أ) اتفق السلف والأئمة على أن القرآن كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه، تكلم به كما شاء، وكذا التوراة والإنجيل وسائر كتبه، قال الله تعالى {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يجيرني حتى أبلغ كلام ربي»

رواه أبو داود بمعناه. وليس لكلام الله نهاية، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} . (ب) (وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين) : هذه من أسماء هذا القرآن، كما سماه الله بالكتاب، والفرقان، والذكر الحكيم، وغيرها، ومعنى كونه: كتاب الله، أنه كتب بأمره، حيث جرى به القلم في اللوح المحفوظ، ثم كتب في المصاحف التي بين أيدينا، وسماه مبينا؛ لأنه بين ووضح فيه الأحكام وغيرها، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وروي في حديث عن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه مرفوعا تسميته: بحبل الله، وهو تشبيه له بالحبل الذي يتعلق به من يريد الرقي من أسفل إلى أعلى، وكلما كان الحبل متينا قويا، كان أثبت له، وآمن أن ينقطع بمن تمسك به، وقد أمرنا بالتمسك بتعاليم هذا القرآن، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} أي: بدينه وشرعه المتلقى عن الكتاب والسنة.

(ج) وقد ذكر الله إنزال هذا القرآن منه، قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وكذا آية الشعراء المذكور معناها في المتن وهي قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي: هو تنزيل من الله، نزل بواسطة الروح الأمين، وهو ملك الوحي جبريل عليه السلام، المأمون على وحي الله، أنزله على قلب سيد المرسلين، بأن قرأه وهو يسمع ويعقل حتى ثبت في قلبه. (د) وذهبت المعتزلة إلى أن القرآن مخلوق، خلقه الله في اللوح المحفوظ أو غيره، وأخذه جبريل نقلا من ذلك. وهذا يعتبر تكذيبا لله ورسوله كما في النصوص السابقة، وهو خلاف ما عليه الصحابة والسلف الصالح، وقد تشعبت مذاهب المبتدعة في القرآن، ولهم أقوال لا دليل عليها، ولا طائل تحتها. (هـ) أما قوله: (منه بدأ وإليه يعود) فالمعنى أنه الذي تكلم به ابتداء، وإليه يرجع في آخر الدنيا، حيث يسرى عليه فينسخ من الصدور، ويمحى من المصاحف، ورفعه من أشراط الساعة، عندما يعرض عن العمل به.

عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم

عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وهو: هذا الكتاب العربي، الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فقال الله سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وقال بعضهم: هو شعر، وقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فلما نفى عنه أنه شعر، وأثبته قرآنا، لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي، الذي هو كلمات، وحروف، وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد إنه شعر، وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل.

_ (أ) ما معنى كونه سورا محكمات؟ (ب) وما معنى كونه ذا أول وآخر، وأجزاء وأبعاض؟ (ج) وعلى أي شيء يدل كونه متلوا بالألسنة، محفوظا في الصدور.. إلخ؟

(د) وما المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والأمر والنهي؟ (هـ) وما فائدة إثبات ذلك؟ (و) وما الباطل المنفي عنه؟ (ز) وبأي شيء تحدى الله المشركين؟ (أ) نتحقق أن القرآن المرسوم في المصاحف هو عين كلام الله، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغه لأمته، ولم يكتم شيئا، وأن أصحابه بلغوه لمن بعدهم، وتناقلته الأمة، حتى وصل إلينا كما هو، لأن الله تكفل بحفظه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} بخلاف الكتب قبله، فإنه وكّل حفظها إلى حملتها، كما قال تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} . وهذا القرآن الموجود يتكون من سور وآيات، وحروف وكلمات، كما هو مشاهد، وقد نقل إلينا هكذا نقلا متواترا، وتلقاه المسلمون وآمنوا به، واعتقدوا وجوب اتباعه والعمل بما فيه، أما السورة فأصلها القطعة من الشيء أو البقية ومنه سؤر الشارب والآكل أي: ما فضل من شرابه أو طعامه. والمراد هنا القطعة من القرآن التي لها علامة مبدأ ونهاية، ومجموع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، منها الطويل، والمتوسط، والقصير. (ب) وأما وصفه بأن "له أول وآخر.." إلخ. فللرد على القائلين

بالكلام النفسي، فإنا نشاهد للقران فاتحة هي: أم القرآن، وخاتمة هي: سورة الناس، فتحقق أن له أول وآخر، مع الاعتقاد بأن كلام الله من حيث هو لا يتناهى، ولو كتب بمياه البحار كما سبق. وهذا القرآن له أجزاء وأبعاض، والجزء: البعض والقطعة من الشيء، وقد جزئ القرآن ثلاثين جزءا، ويدل ذلك على أنه عين المشاهد المحسوس، خلافا للأشاعرة ونحوهم الزاعمين أنه معنوي، وأن الموجود عبارة أو حكاية عنه. (ج) قوله: (متلو بالألسنة ... ) إلخ. أي: لا يخرج بهذه الأفعال عن كونه كلام الله، وكذا لا يخرج بنقله من صحيفة أو كتابته في لوح أو نحو ذلك، وكل هذا رد على أهل الحكاية والعبارة. (د) أما المحكم والمتشابه فسبق أن المحكم هو: المثبت الظاهر المفهوم لكل ذي فهم سليم، وهو الذي يجب العمل به واتباعه، كآيات العبادات، والمعاملات، والعقود، والأمثال، والقصص ونحوها. وأن المتشابه: ما قد يشتبه ظاهره، أو يخفى المراد منه، وأن الواجب أن يقال: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . وأما الناسخ والمنسوخ: فقد قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، والنسخ هو: رفع حكم الآية السابقة، أو

حكمها ولفظها، أو لفظها دون حكمها، بآية متأخرة بعدها، وقد رفع بعض الآيات التي نزلت أولا، وأبدلت بمثلها أو خير منها، لحكمة تقتضي ذلك، ونسخ بعض ألفاظ آيات دون حكمها، كآية الرجم. فالناسخ هو: الآيات الثابتة، التي نزلت متأخرة بحكم جديد، رفع بها حكم آيات سبقتها بالنزول. والمنسوخ هو: الآيات التي رفع حكم العمل بها. وأما العام والخاص فهو: ما حكمه عام لكل المكلفين، أو خاص بالذكور دون الإناث، أو البالغين أو نحو ذلك. وأما الأمر والنهي: فالمراد: طلب الفعل أو الكف. وأمثلة هذه الأمور وأحكامها في أصول الفقه. (هـ) وفائدة ذكر هذه الأمور هنا ليتأكد أن كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الموجود المحفوظ، فإنه مشتمل على أحكام وتعاليم للأمة؛ وليعرف أيضا أننا مأمورون باتباعه، والعمل بما فيه. (و) أما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} ففيه وصف هذا القرآن بهذه الأوصاف العظيمة: أولا: كونه عزيزا: أي رفيع القدر والمنزلة، فإن فضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.

ثانيا: كونه مصونا محفوظا: أن يتطرق إليه مبطل أو ملحد بتغيير أو تبديل، فالباطل في الآية اللغو واللهو، وما لا فائدة فيه، أي: هو منزه عن ذلك، وعن تحريف أهل الباطل. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: من كل جهاته، لا يقدر مبطل أن يظهر فيه طعنا، أو يجد فيه عيبا أو مغمزا، وقد قيض الله من فحول الأئمة من يرد أقوال الطاعنين فيه، ويبين بطلانها. (ز) وأما التحدي: فقد قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ، وقال {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} وقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} فتحداهم إذ كانوا في شك من صحته وكونه كلام الله أن يعارضوه بمثله، ثم تنزل إلى عشر سور، ثم إلى سورة ولو من أقصر سوره فعجزوا عن ذلك، وظهر صدق القرآن حيث أخبر عن عجزهم بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، ففي هذا معجزة عظيمة، حيث أخبر عن عجزهم فوقع كما أخبر.

قول الله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ...

وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} ، وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} ، بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: {كهيعص} ، {حم عسق} ، وافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة» حديث صحيح. وقال عليه السلام: «اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» .

_ (أ) هل يقال إنه آيات؟ (ب) وما دليل إثبات ذلك؟ (ج) وما الدليل على أنه حروف وكلمات؟ (د) وما يستفاد من ذلك؟ (هـ) وما المراد بإعراب القرآن في الحديث؟

وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. وقال علي رضي الله عنه: من كفر بحرف منه فقد كفر به كله. واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته، وكلماته، وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف.

_ (أ) أما كونه آيات فظاهر، فإن كل سورة تشتمل على عدد آيات، أقلها ثلاث آيات كسورة الكوثر، وكل آية لها مبدأ ونهاية، وتسمى آخرها فاصلة، وأصل الآية العلامة الدالة على شيء، وقد سمى الله مخلوقاته آيات كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي: من البراهين التي تدل عباده على كمال قدرته، وسميت الآية من القرآن بذلك لكونها بمفردها معجزة وبرهانا، دالة على صحة الدين، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام. (ب) وقد سمى الله هذا القرآن آيات بينات أي: واضحات الدلالة، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}

فالإشارة في: {بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} تعود إلى الآيات البينات التي تتلى عليهم، فدل على تسمية القرآن آيات، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} والضمير في (هو) يعود على القرآن المذكور في الآيات قبلها، ثم قال بعدها: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} فأثبت أن هذا الكتاب هو الآيات التي طلبوا، أي: يقوم مقامها في الدلالة والحجة. (ج) والآية: مركبة من كلمات، والكلمة: مركبة من حروف، فهذا القرآن كلمات وحروف، والكلمة: القول المفرد، وقد تطلق على الجملة، وأصل الحرف: طرف شيء كحرف الوادي، سمي به الواحد من حروف التهجي، وقد تكاثرت الأدلة على أن القرآن كلمات وحروف، وقد حكى الله عن الوحيد المذكور في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أنه قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فقال الله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وهو يشير بقوله {إِنْ هَذَا} إلى القرآن الذي بين أيدينا الذي هو حروف، وكذا أشار إليه الذين كفروا بقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} .

وأشار إليه تعالى بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} . ولما قال بعضهم: هو شعر قال الله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، وقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فالضمائر كلها تعود إلى هذا المقروء الموجود في المصاحف، وهو بلا شك متكون من سور وآيات، وكلمات وحروف {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} لأن الذي ليس كذلك لا يقال إنه شعر ولا مفترى. وقد افتتح الله منه تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة، وهى: (الم) ست سور، و (المص) و (المر) و (الر) خمس سور، و (كهيعص) و (طه) و (طسم) سورتين، و (طس) و (يس) و (حم) ست سور، و (حم عسق) و (ق) و (ص) و (ن) . وهذا دليل على أنه حروف مركبة من جنس هذه الحروف، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة» . وفي المسند وسنن أبي داود وغيرهما عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» أي: أنهم يقرؤونه بألسنتهم، ويجودونه ويفخمون ألفاظه، ولكنه لا يصل إلى قلوبهم، ولا يتأثرون بزواجره ومواعظه، وإنما يخرج من الفم ولا يصل إلى الجوف، وهو معنى مجاوزة التراقي. ثم ذكر أنهم إنما يقرؤونه لتحصيل أجرة دنيوية عاجلة، ولا يؤجلون الأجر إلى الآخرة، وفي هذه الأحاديث التصريح بأن القرآن مركب من حروف، وكذا في قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، وكذا في قول علي رضي الله عنه: من كفر بحرف منه فقد كفر به كله. فسماه هؤلاء الخلفاء حروفا، وقد ورد في الحديث ذكر عدد الآيات لبعض السور، واتفق المسلمون على جواز عد كلماته وحروفه، وأن من جحد منه سورة، أو آية، أو كلمة أو حرفا متواترا فهو كافر، وهذا من جملة الأدلة على أن القرآن الذي هو كلام الله مركب من كلمات وحروف. (د) ويستفاد من ذلك إثبات أنه عين كلام الله، والرد على من زعم أن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأنه شيء واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالسريانية فهو توراة.. إلخ، وقد عرفت الدليل على إثبات كون كلام الله تعالى قديم النوع، متجدد الآحاد.

(هـ) وأما إعراب القرآن الوارد في الحديث وكلام أبي بكر وعمر فالمراد به التأكد في قراءته عن الخطأ والغلط، والنقص والزيادة، وهذا حث على حفظه وتحقيقه، والتأكد من كلماته وحروفه عند النطق بها، وهذا هو السر في تعظيم ثوابه حيث أعطي بكل حرف عشر حسنات، لأن إعرابه كذلك دليل على شدة اعتنائه واهتمامه بالقرآن، ولهذا قابله بمن لحن فيه، أي غلط بتغيير بعض الكلمات أو الحروف، زيادة أو نقصا، أو تحريفا عن خطأ أو نسيان، فخطؤه مغفور، وله بكل حرف حسنة، فضلا من الله، لأجل حسن قصده. وهذا الحديث رواه الطبراني في الأوسط وفي إسناده ضعف.

فصل في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة

فصل في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة والمؤمنون يرون الله تعالى في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فلما حجب أولئك في حال السخط، دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته» حديث صحيح متفق عليه. وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.

_ (أ) ما تقول في رؤية الله تعالى؟ (ب) ومتى تكون؟ (ج) ومن الذي يراه؟ (د) وهل هي بصرية أو قلبية؟ (هـ) وبين الأدلة على ذلك مع إيضاح دلالتها؟ (و) وما معنى: لا تضامون؟ (ز) وما الجواب عن أدلة منكري الرؤية؟

(أ) اتفق السلف وأهل السنة من الخلف على إثبات رؤية الله تعالى، رؤية حقيقية عيانا بالأبصار، مع تنزيه الرب تعالى عن مشابهة الخلق في شيء من خصائصهم وصفاتهم. (ب) وهذه الرؤية تكون في يوم القيامة، وفي الجنة كما يشاء الرب سبحانه. (ج) وتكون في الموقف للمؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان، ففي حديث أبي سعيد المتفق عليه يقول عليه السلام: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، قالوا: لا. قال: هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك» ثم ذكر أنه يتبع كل أحد ما يعبده، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم فإذا رأوه خروا سجدا، ثم ذكر أن المنافق -الذي كان يسجد رياء- لا يستطيع السجود، وقد ذكر هذا في قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} . وتكون الرؤية في الجنة خاصة بالمؤمنين، فمنهم من ينظر إلى الله تعالى بكرة وعشيا، ومنهم من يزوره ويراه في مثل يوم الجمعة، ويسمى يوم المزيد، فالرؤية من أعلى نعيم أهل الجنة، فلهذا عوقب الكفار بالحجاب عن ربهم.

(د) ثم هي رؤية بالأبصار حقيقة، كما نطقت بذلك السنة، وأوضحه القرآن. (هـ) وقد ذكر المؤلف عليها أدلة كافية: ففي الآية الأولى: وصف الوجوه السعيدة بالنضارة، وهي البهاء والجمال، ثم صرح بأنها تنظر إلى ربها، وأضاف النظر إلى الوجوه لأنها محل الأعين. وفي الآية الثانية: ذكر أن الكفار محجوبون عن ربهم، فلما حجب هؤلاء في الغضب، أفاد أن الأبرار ينظرون إلى الله في الرضا، فلو كان المؤمنون لا يرونه لكانوا محجوبين أيضا عن ربهم. وأما الأحاديث في إثبات الرؤية فكثيرة جدا، استوفاها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في حادي الأرواح وغيره، وأشهرها حديث جرير المذكور «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، أي أنها حقيقة لا التباس فيها ولا توهم، كما أنهم لا يشكّون في رؤية القمر. (و) لا تضامون، أي: لا يلحقكم ضيم، وهو الضرر والمشقة، وروي بفتح التاء وتشديد الميم، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض حالة الرؤية، والأول أشهر. (ز) والمنكرون للرؤية هم الجهمية، ومن قلدهم كالمعتزلة، وبعض المرجئة، قالوا: إن إثباتها يستلزم التشبيه، وإثبات الجهة، وذلك من شأن

المحدثات والمركبات، ثم تكلفوا في رد دلالة النصوص بما يشهد العقل ببطلانه، فأهل السنة يثبتون جهة العلو لله كما سبق، ولا يلزم منها الحدوث والتجدد لشيء من صفات الله تعالى أما أدلتهم النقلية فأقواها قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يجاب عنها بأن الرؤية أخص من الإدراك فالمعنى لا تحيط به، إذا رأته لعجزها عن إدراك كنهه، فتكون الآية دليلا على الإثبات، واستدلوا بقوله تعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} لما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ، فيقال: إنه لا يظن بموسى عليه السلام أن يسأل ما لا يجوز على الله، فهو لما سأل الرؤية منعه، لضعف البشر في الدنيا عن الثبوت لذلك، ولهذا لما تجلى الله تعالى للجبل اندك، وروي أنه غار في الأرض، ففي الآخرة يمد الله عباده بقوة يقدرون معها على رؤية ربهم.

فصل في الإيمان بالقدر

فصل في الإيمان بالقدر ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور.

_ (أ) ما الإيمان بالقدر؟ (ب) وما حكمه؟ (ج) وما معنى كونه الفعال لما يريد؟ (د) وما الفرق بين المشيئة والإرادة؟ (هـ) وما المراد بتقديره وتدبيره؟ (و) وما معنى لا محيد لأحد عن القدر المقدور؟ (ز) وما اللوح المسطور؟ (ح) من المخالف في هذا الباب؟ (ط) واذكر أقسام الإرادة مع الدليل والتمثيل؟ (أ) الإيمان بالقدر هو اعتقادنا أن الله علم ما سيعمله الخلق قبل أن يوجدهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وقدر وحدد لكل منهم عمره وأجله، وأنه الذي أعطاهم قوة وقدرة على الأعمال، وأنه لا يكون في الوجود حركة أو سكون إلا بإرادة الله ومشيئته، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فله المشيئة النافذة، والقدرة الشاملة، لجميع ما في الكون.

(ب) وهذا أحد الأركان الستة للإيمان، فمن لم يؤمن به ومات على ذلك فهو متوعد بالنار، كما في سنن أبي داود وغيره عن عبادة بن الصامت أنه أوصى ابنه عند الاحتضار بالإيمان بالقدر، ثم قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، يا بني إنك إن مت على غير ذلك دخلت النار. (ج) قوله: (الفعال لما يريد) . بيان لكمال تصرفه، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يخرج عن إرادته شيء، ولا يستعصي على تدبيره أمر. (د) والمشيئة والإرادة هنا بمعنى واحد، أي: لا يحدث في الوجود حركة ولا سكون إلا بعد أن يريده الله إرادة خلق وتقدير، فلا أحد من الخلق يقدر على أن يتغلب على الله، ويخرج عن مشيئته. (هـ) وهكذا معنى تقديره وتدبيره، أي: لا يستطيع أحد الخروج عما قدره الله عليه، وكل ما حدث أو سيحدث من قول أو فعل فقد علمه الله، وقدر حدوثه، فلم يصدر إلا بعد تدبيره وتكوينه. (و) (ولا محيد) أي: لا مفر ولا محيص لأحد عن المقدَّر، المكتوب عليه قبل أن يخلق الله السماوات والأرض فلا يتعدى ما جرى به القلم في أم الكتاب.

(ز) والمراد (باللوح المسطور) : اللوح المحفوظ المذكور في القرآن، وقد روي في بعض الآثار أنه من درة بيضاء، وأنه واسع وكبير، وقد كتب الله فيه مقادير الخلق، قبل أن يخلق السماوات والأرض. (ح) ظهر في آخر عهد الصحابة قوم أنكروا القدر السابق، ويعرفون بغلاة القدرية، كمعبد الجهني وغيلان القدري فأنكروا العلم الأزلي، ونفوا كتابة الحوادث قبل حدوثها، وقالوا: إن الأمر أنف. أي: مستأنف. وقد كفرهم السلف، وحذروا منهم، كما روى مسلم عن ابن عمر أنه قال: والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. وقال الإمام الشافعي: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. وقال الإمام أحمد القدر قدرة الله.

ثم حدث بعدهم المعتزلة، كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وأنكروا قدرة الله على أفعال العباد، وزعموا أن الله لا يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، وأن قدرة المخلوق على أفعاله تغلب قدرة الله تعالى، وقد أنكر عليهم السلف، وبينوا ضلالهم، وقد روي في السنن عن جابر مرفوعا تسميتهم بمجوس هذه الأمة؛ لأن فعلهم هذا شرك، بل هو أول شرك حدث في الإسلام.

(ط) وأما الإرادة فهي في كتاب الله قسمان: 1 - إرادة كونية قدرية: يدخل فيها كل الموجودات، من طاعات ومعاص. 2 - إرادة دينية شرعية: تتعلق بالطاعات المأمور بها، سواء وجدت أو لم توجد. فالأولى: بمعنى المشيئة، وهي عامة لكل ما وجد فيقال في الطاعات: إن الله أرادها وقدر وجودها، وأحبها فوجدت. وفي المعاصي: إن الله أرادها كونا وقدرا وخلقها فوجدت، مع أنه نهى عنها ولم يحبها. وأما الثانية: فهي بمعنى محبة المراد، والرضا به، ولا يلزم منها وجود المراد، فإيمان المؤمنين، وأعمالهم التي قد عملوها، تعلقت بها الإرادتان، حيث إن الله شاءها وخلقها فوجدت، وأحبها ورضيها فمدح أهلها؛ وإيمان الكافر لم يوجد مع أن الله قد أحب منه الإيمان، وأمره به شرعا، ولكنه ما أراده قدرا، ولا خلقه فيه، ولا أعانه، فلم يتعلق به إلا الإرادة الدينية الشرعية. فالكونية: يلزم منها وجود المراد، وقد يكون محبوبا، كإيمان المؤمن، أو مكروها ككفر الكافر. والشرعية: يلزم منها محبة المراد، والمدح على فعله، ولا يلزم وجوده، فهو تعالى أحب إيمان المؤمن، وأراده شرعا وقدرا فوجد، وأحب إيمان الكافر، وأراده شرعا، ولم يرده قدرا فلم يوجد.

ودليل الشرعية قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . ودليل القدرية قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .

عقيدة أهل السنة والجماعة في أفعال العباد

عقيدة أهل السنة والجماعة في أفعال العباد: أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وقال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} . وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل صدقت.» انفرد مسلم بإخراجه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره» .

ومن دعاء القنوت الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: «وقني شر ما قضيت» .

_ (أ) ما المراد بكونه مريدا لأفعال العباد؟ (ب) وما معنى تقديره للأرزاق والآجال؟ (ج) وما الحكمة في إضلاله من أضل؟ (د) وتكلم على أدلة تقدير الأشياء؟ (أ) قوله: (أراد ما العباد فاعلوه) أي: إرادة كونية قدرية، وهو معنى قوله: خلق الخلائق وأفعالهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فهو سبحانه لا يكون في ملكه ما لا يريد. وقد أنكرت ذلك القدرية النفاة، وأنكروا النصوص الكثيرة في هذا الباب كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} فالله تعالى هو الفعال لما يريد، فلا يقع في الكون فعل ولا ترك إلا بإرادته واختياره. (ب) أما قوله: (وقدر أرزاقهم وآجالهم) فالمعنى أنه تعالى حدَّد ووقت لكل مخلوق عمره وزمن وجوده، ومدة حياته، وفقره أو

غناه، ونحو ذلك، وكل ذلك في قديم الأزل، فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، فلا يموت أحد إلا بأجله، ولا يصيبه إلا ما قدر له. وقد بين الله الحكمة بقوله: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . فإذا علم العبد أن ما أصابه مكتوب عليه رضي وسلم، فلا يجوز الندم والتسخط، وذم الحظ، ولوم النفس أو الغير على أمر قد فات، كما لا يجوز الفرح أشرا وبطرا بما يؤتاه الإنسان، وإضافة ذلك إلى القوة والمعرفة والحظ. وقد كثرت الأدلة على معنى ما تقدم، كقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك» إلخ. وهذا كله لا ينافي فعل الأسباب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له» فترك الأسباب عجز، والاعتماد على الأسباب كفر. (ج) أما كونه تعالى أضل بعض خلقه، فليس ذلك ظلما منه لهم، بل إنه سبحانه علم فيهم عدم صلاحيتهم للولاية، فخلى بينهم وبين أنفسهم، وسلط عليهم أعداءهم، فضلوا، فجعلهم عبرة للآخرين، وفتنة وابتلاء

للمؤمنين، في جهادهم والصبر على أذاهم، وليكون هؤلاء الأشقياء نصيب دار الجزاء الثاني، وهي النار التي أعدها لمن خرج عن الهدى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أي: لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، بخلاف المخلوقين، فهم يسألون، وعليهم من يحصي أعمالهم إلى يوم الحساب. (د) والأدلة المذكورة تفيد سبق علم الله وكتابته للأشياء قبل وقوعها، وتحديد أوقات حدوثها، فقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فيها أن ما وجد أو سيوجد فالله الذي خلقه، وقدر زمن وجوده، وهكذا قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} فيدخل في كل شيء العامل وعمله، أي: قدره تقديرا كاملا، لا يتغير ولا يتبدل. أما قوله {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ففيها حث المؤمن على الرضا والتسليم بما يجري عليه في الدنيا من خير أو شر، إذا علم أن كل مصيبة تحدث في الأرض، من قحط أو وباء ونحوهما، أو تحدث في الأنفس أو في الأموال والأولاد، فهي مدونة عند الله في أم الكتاب قبل أن يبرأ الخلق ويوجدهم، وعلم أن الخلق والأمر لله، يتصرف في ملكه بما شاء، وعلم أن ربه حكيم عليم، لا يظلم أحدا، وأن هذه المصيبة، إما عقوبة على ذنب اقترفه، وإما ابتلاء وامتحان للعبد،

ليظهر صبره أو جزعه، وإما لرفع منزلته، وإعظام مثوبته، فإنه تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فهذا ونحوه مما يحمل المؤمن على القناعة، والرضا بما حصل، وعدم الأسى والأسف على الفائت، ولكن عليه قبل حدوث الفوت أن يطلبه، ويبذل المستطاع من جهده، فيما يمكنه من أعمال الدنيا والآخرة. وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} أي: من كان أهلا لولاية الله وقربه، قذف الله في قلبه نورا يعرف به سبل الخير، ويتقبل كل ما جاءه عن ربه، ويجد لذلك لذة في نفسه، وانبساطا وطمأنينة، وهو أثر شرح صدره للإسلام. فأما من لا يستحق ذلك، وكان طبعه وميله إلى الكفر والعناد، فإن الله يخذله، ويجعل صدره ضيقا، مما يؤثر فيه مللا وإعراضا عن الإسلام، وحبا وإيثارا للفسوق والعصيان، وهذا هو الحرج الذي يدل على شدة الضيق، وهذه الإرادة كونية قدرية، يلزم منها وقوع المراد. أما حديث ابن عمر في أركان الإيمان، فهو: حديث جبريل المشهور، رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ورواه مسلم عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب وهو المذكور هنا أنه من أفراد مسلم يعني عن البخاري ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر وفي حديث عمر في أول صحيح مسلم أن ابن عمر قال لمن أخبره عن منكري القدر: «إذا لقيت»

«أولئك، فأخبرهم أني براء منهم، وهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.» إلخ. والشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أركان الإيمان قوله: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» . فأما حديث: (آمنت بالقدر ... ) إلخ، فلم أجده بهذا اللفظ فيما لدي قريبا من كتب الحديث، وقد روى الطبراني في المعجم الكبير، بسند رجاله موثقون، عن ابن عمر مرفوعا: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والجنة، والنار، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله» وكل هذا أمر بالرضا والتسليم لما يجري من الحوادث خيرها وشرها كما سبق. فأما حديث القنوت المذكور: فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن. وأوله: «اللهم اهدني فيمن هديت..» فأفاد أن الله هو الذي يقضي على العبد ما حصل، ويخص بعض خلقه بالهداية فضلا منه، وبعضهم بالإضلال عدلا منه.

جمع أهل السنة والجماعة بين الشرع والقدر

جمع أهل السنة والجماعة بين الشرع والقدر: ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره، واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب، وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحدا على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} فدل على أن للعبد فعلا وكسبا، يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره.

_ (أ) ماذا يسمى من احتج بالقدر على المعاصي؟ (ب) وبأي شيء تكون الحجة لله؟ (ب) وما نوع قدرة العبد واستطاعته وكسبه؟ (د) وهل فعله خارج عن خلق الله؟ (هـ) وتكلم على أدلة قدرة العبد؟ (أ) المحتجون بالقدر هم الجبرية والمجبرة، زعموا أنهم مجبورون على فعل الذنوب وترك الطاعات، وأن العبد لا قدرة له ولا اختيار، وشبهوا حركاته بحركة المرتعش، وبتحريك الرياح لأغصان الشجرة، وقد

احتجوا بمثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقد جعلوا للكفرة عذرا، حيث زعموا أن تعذيبهم ظلم وجور من الرب تعالى، حيث عاقبهم على أفعال خلقها فيهم. ولا شك أن هذا إبطال للشرع، وإنكار للحكمة والمصلحة. ثم هم لا يحتجون بذلك في الأحوال كلها؛ بل يلومون من أساء إليهم، ويؤدبون خدامهم على المخالفة، وإنما يعتذرون بالقدر عند ارتكاب الذنوب، بأن الله لم يهدهم، وأنه الذي أوقعهم في ذلك بخلقه فيهم، ونحو ذلك، وفيهم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وعند مراد الله تفنى كميت ... وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ... ظهيرا على الرحمن للجبر تزعم (ب) وعند أهل السنة أن الله تعالى لا يظلم أحدا: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وأنه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لتقوم الحجة، وتنقطع المعذرة، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . (ج) وللعباد قدرة واستطاعة على الأفعال، بموجبها كلفهم الله بالشرائع، وأمر ونهى، وبحسبها يثيب المطيع، ويعاقب العاصي، وبها

يتمكنون من الفعل والترك، وتنسب إليهم تلك الأفعال، مع أن الله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم. (د) ولا يخرج شيء عن خلق الله، فالعبد يوصف بأنه مطيع أو عاص، أو بر أو فاجر، بسبب ما يصدر عنه من الأفعال، وليس العبد هو المستقل بفعله واختياره، خلافا للقدرية النفاة، ولا مجبرا على أفعاله، خلافا للجبرية، بل الله أعطاه قدرة واختيارا بحسبه، تنسب إليه أفعاله. (هـ) قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: لم يكلف أحدا من الخلق إلا بما في وسعه، وبحسب استطاعته، والوسع: الطاقة. قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} صريح بأن للعباد استطاعة، قد أمروا بتقوى الله على مقتضاها وبقدرها. قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} يخبر تعالى عن يوم القيامة، وأن كل نفس تجازى ذلك اليوم بما كسبت، أي: عملت وحصلت من خير وشر، وأنه لا ظلم على أحد، فأثبت للعباد كسبا وفعلا، ورتب عليه الثواب والعقاب. ولكن كل ذلك بعد خلق الله ومشيئته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} .

فصل في الإيمان والدين

فصل في الإيمان والدين والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} فجعل عبادة الله، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كله من الدين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة، أو خردلة، أو ذرة من الإيمان» فجعله متفاضلا.

_ (أ) ما الإيمان لغة وشرعا مع الدليل؟ (ب) وما معنى كون الأعمال من مسمى الإيمان؟ (ج) وما الدليل على زيادته ونقصه وتفاضله؟ (د) وما المراد بالزيادة والنقص؟

(أ) الإيمان لغة: التصديق الجازم بالشيء، ودليله قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمصدق. وشرعا: ما ذكر في المتن من كونه قولا باللسان، وعملا بالأركان، واعتقادا بالجنان، والأدلة عليه كثيرة، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى الشام قبل صرف القبلة. وتكرر في السنة جعل الأقوال والأعمال من الإيمان، ففي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله» ثم فسره بالشهادتين، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خصال الخير من الإيمان كصيام رمضان، وقيامه، وقيام ليلة القدر، والجهاد، والحج، واتباع الجنائز، وأداء الأمانات، ونحوها. وكذا الحديث المذكور، وهو حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» رواه البخاري ومسلم فالشهادة قول باللسان، والإماطة: عمل جوارح، والحياء: عمل قلب، وقد جعل ذلك كله من شعب الإيمان.

(ب) ومعنى كون الأعمال من الإيمان: أن المؤمن الموقن بكل ما جاء عن الله، يحمله يقينه على المبادرة إلى العمل، فتكون تلك الأعمال من الإيمان والدين الذي يدين به، لأن الباعث عليها ما في القلب من اليقين. وقول اللسان: يراد به الكلام كالشهادتين، والذكر، والدعاء، والتلاوة، وسائر الأقوال الخيرية. والعمل بالأركان: وهي الجوارح، وهو: كالصلاة، والصوم، والحج، والجهاد، وتغيير المنكر باليد، ونحوها. والعقد بالجنان: أي: بالقلب يراد به التصديق، والإخلاص، والتوكل، والمحبة، ونحوها، وكل هذه الأعمال من مسمى الإيمان، لأنها من آثاره. وذهب بعض (المعتزلة) أن الإيمان مجرد التصديق فقط، فكل من صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن لم يتبعه، كاليهود، فهو مؤمن عندهم. وعند (الجهمية) الإيمان هو: المعرفة بالله فقط، فإبليس، وفرعون والمشركون، واليهود، والنصارى، ونحوهم، مؤمنون كاملو الإيمان عند الجهمية، لأنهم يقرون بوجود الله، ويؤمنون به ربا وخالقا، وإن جحده بعضهم كفرعون عنادا. وقالت (المرجئة) : الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، فالمنافقون عندهم مؤمنون لأنهم مقرون بألسنتهم، وهناك أقوال أخر ظاهرة البطلان.

ودلالة آية البينة ظاهرة، حيث ذكر العبادة، والإخلاص، والصلاة، والزكاة، ثم قال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} والدين هو: الإيمان، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فجعل أركان الإسلام الظاهرة، وأركان الإيمان، وركن الإحسان، كل ذلك من الدين. (ج) وأما أدلة زيادة الإيمان ونقصانه فكثيرة جدا، كقوله تعالى {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وكل ما قبل الزيادة، قبل النقص. وفي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين» إلخ.

(د) والمراد بالزيادة والنقص: تفاضل الناس في الدين، بحسب كثرة العمل، وما يقوم بالقلب؛ فإذا عمل خيرا كذكر وصدقة وجهاد، زاد إيمانه، فإن عمل معصية كَسَبٍّ ونهب وكِبر وحسد، نقص إيمانه، فهذا سبب التفاضل في الأعمال والأديان. قوله صلى الله عليه وسلم: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان» رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ كثيرة، وهو ظاهر في تفاضل أهل الإيمان، بحسب ما يقوم بالقلب، من قوة اليقين، أو ضعفه. و (البرة) : الحبة من البر أي: الحنطة المعروفة. و (الخردلة) : حبة الخردل أي: الشجر المعروف وحبه ضرب من الحرف يشبه حب الرشاد إلا أنه أصغر منه. و (الذرة) : واحدة الذر، هو صغار النمل المعروف.

فصل في الإيمان بالغيب

فصل في الإيمان بالغيب ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل عنه، فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه.

_ (أ) ما حكم الإيمان بالغيب؟ (ب) ومن أين يتلقى هذا الباب؟ (ج) وهل يرد ما لا يدرك بالعقل؟ (أ) يجب التصديق بالأمور الغيبية، من أمور الآخرة، وأخبار الأمم السابقة، ونحو ذلك، إذا ثبت بالدليل. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . (ب) وهذا الباب إنما يتلقى من القرآن، وصحيح الأخبار، فأما الإسرائيليات فتروى على حد قوله صلى الله عليه وسلم «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} » .

(ج) ولا يجوز رد شيء من أمور الغيب، الثابتة في الكتاب أو السنة، لمجرد استبعاد العقل، فإن العقول تضعف عن إدراك أمور الغيب. ومن الأمور الغيبية ما شاهدناه، أي: ظهر كما روي في الخبر، مثل الفتن والملاحم التي وقعت طبق ما ورد في الأحاديث ومنها ما غاب عنا، ولكنه لا بد أن يقع، كأشراط الساعة، وأحوال القيامة ونحوها.

أمثلة لبعض أمور الغيب التي يجب الإيمان بها

أمثلة لبعض أمور الغيب التي يجب الإيمان بها المثال الأول: حادثة الإسراء والمعراج: مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظة لا مناما، فإن قريشا أنكرته وأكبرته، ولم تكن تنكر المنامات.

_ (أ) ما الإسراء والمعراج؟ (ب) وما دليله؟ (ج) وما مستند من قال: إنه كان مناما مع الجواب عنه؟ (أ) هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء السابعة، وإلى حيث شاء الله، وكان ذلك بجسده وروحه. (ب) والدليل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} أراد بالعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك يعمُّ جسده وروحه، ودليل المعراج قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} إلى قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} . وقد تواترت الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، كأنس وجابر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم، في صفة

الإسراء والمعراج، أنه صلى الله عليه وسلم ركب البراق ونزل منه وربطه بالصخرة، وصلى وصعد، ومعه الملك واستفتح، ثم سلم على من في السماوات من الأنبياء، ثم هبط، ونحو ذلك مما يؤكد أن الإسراء والمعراج كان يقظة لا مناما، وأنه بالجسد والروح. (ج) وقد استبعد ذلك بعض من حرموا كمال الإيمان بالغيب، وأنكروا الإسراء بجسده، وزعموا أن ذلك مجرد رؤيا منامية ولو كان كذلك لما أنكره كفار قريش، فإنهم استبعدوا ذلك، وقالوا: كنا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرا ذهابا، وشهرا إيابا، ومحمد يزعم أنه أسري به إليه، فأصبح فينا. ثم لو كان الإسراء مناما لم يكن فيه معجزة ولم يكذبه أحد، فإن كل أحد قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس ولا يكذبه أحد، وقد بادر أبو بكر رضي الله عنه إلى تصديقه في الإسراء، وقال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، في خبر السماء يأتيه بكرة وعشيا.

حادثة موسى مع ملك الموت

المثال الثاني: حادثة موسى مع ملك الموت: ومن ذلك أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه، لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه.

_ (أ) ما تقول في قصة موسى المذكورة؟ (ب) وعلى أي شيء يدل هذا الفعل منه؟ (أ) هذه القصة رواها البخاري ومسلم وغيرهما: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردها بعض المعتزلة الذين لم تتحمل عقولهم الإيمان بالغيب، وبقدرة الله، وتقبلها أهل السنة كسائر أمور الغيب. (ب) قال ابن كثير في التأريخ: استشكله ابن حبان ثم أجاب بما حاصله: أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي، وجاءت الملائكة في صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط فكذلك موسى لعله لم يعرفه، فلذلك لطمه ففقأ عينه، لأنه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا، في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن اهـ. ولا شك أنه في المرة الأولى، إنما جاء ابتلاء، وإلا لو قدر الله موته لما قدر على رده.

الكلام في أشراط الساعة

المثال الثالث: أشراط الساعة: ومن ذلك أشراط الساعة، مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل.

_ (أ) ما أشراط الساعة؟ (ب) وما الدجال؟ (ج) ومن أين ينزل ابن مريم؟ (د) ومن يأجوج ومأجوج؟ (هـ) وما الدابة؟ (و) ومتى تطلع الشمس من مغربها؟ (أ) قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . والشرط لغة: العلامة، والمراد: علامات قربها، وأعظم أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو آخر الأنبياء، وقد ورد ذكر أشراط الساعة في الكتاب والسنة، فنصدق بها، ولو استبعدها من ضعف يقينه. (ب) فمن ذلك خروج الدجال وهو: الكذاب الأشر الذي يدعي أنه الرب، فيجري الله على يديه أمورا من الخوارق، فتنة وابتلاء، وقد تواترت الأحاديث في شأنه، بما يوجب القطع بما تضمنه مجموعها، وقد سردها ابن كثير في الجزء الأول من النهاية، ووصفه فيها بأنه أعور العين اليمنى كأنها

عنبة طافية، وأنه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤها كل مسلم، وأن معه جنة ونارا، وأنه يقتل رجلا ثم يحييه، وأن القرية التي تطيعه ترزق الريف والخصب، والتي تخالفه يصيبها الجهد والقحط، وكل ذلك فتنة وابتلاء. (ج) وأما نزول عيسى بن مريم: فقد ذكر في أحاديث كثيرة توجب القطع، استوفاها ابن كثير في التفسير، في آخر سورة النساء، على قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} . وفسرت الآية: بأن أهل الكتاب سوف يصدقون به عند نزوله في آخر الزمان قبل موته، وهذا هو الأشهر، وقد تضمنت الأحاديث نزول عيسى عليه السلام، على المنارة البيضاء بمسجد دمشق وأنه يقتل الدجال بباب لُدٍّ ووصف بأنه حكم مقسط، يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتخرج الأرض بركتها، ويمكث في الأرض سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، وقد ذكر الله أنه رفعه في قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} فيكون نزوله من السماء. (د) وأما خروج يأجوج ومأجوج: فقد ذكر في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} وذكر الله أن ذا القرنين جعل دونهم ردما، لما قيل له: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ثم قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ}

وذكر في الأحاديث كثرتهم وشربهم مياه الأنهار، وأن الناس يتحصنون منهم بالحصون، وأن الله يرسل عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون موتى، ثم يرسل ريحا فتلقيهم في البحار، وينزل مطر فيغسل الأرض بعدهم كما في آخر صحيح مسلم وغيره. (هـ) وأما الدابة: فقد قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، وقد ذكر في السنة خروج هذه الدابة، ووصفت بأنها ذات وبر، وأربع قوائم، وأنها تخرج من مكة وأنها تخاطب الناس، وأن معها عصى موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن، وتختم أنف الكافر، إلى آخر ما ذكر بشأنها. (و) وأما طلوع الشمس من المغرب: فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ، وفسرت هذه الآية في السنّة بإتيان الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، وذلك وقت انقطاع التوبة، فهذه الأشراط ونحوها نصدق بها، ولو استبعدها أهل العقول الفاسدة، وقالوا إنها تخالف بدائه العقول، فإن الله لا يخرج شيء عن قدرته.

عذاب القبر ونعيمه

المثال الرابع: عذاب القبر ونعيمه وعذاب القبر ونعيمه حق وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق، وسؤال منكر ونكير حق.

_ (أ) ما تقول في عذاب القبر ونعيمه؟ (ب) وما دليله؟ (ج) وهل هو على الروح أو البدن؟ (د) وما اسم ملائكة العذاب؟ (أ) نؤمن بأنه حق وواقع، وأن كل أحد يناله حظه من العذاب أو النعيم في البرزخ ولو صلب، أو حرق وذري في الرياح، أو أكلته السباع، فإن أمر البرزخ يخالف المألوف في الدنيا، والإنسان مركب في الدنيا من جسد وروح، وبعد الموت لا تعدم الأرواح، فهي التي ذكر عنها أنها تصعد، وتذهب وتجيء.. إلخ، ولا يستبعد أن الجسد يتألم أو يلتذ في البرزخ، ولو اضمحل، فالله لا يعجزه شيء، فلا يصيخ الموحد إلى ما يهذي به مَن قل حظهم من الإيمان، بطعنهم في هذا الأمر، وقياسهم لأمر الآخرة على أمر الدنيا. (ب) وقد استدل عليه بقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}

وقوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} . (ج) وقد أورد ابن كثير عند هذه الآية كثيرا من أحاديث عذاب القبر ونعيمه، ذكر في مجموعها أن الميت يجلس، ويسأل عن ربه ودينه ونبيه، وأن المؤمن يوسع عليه قبره، ويكون روضة من رياض الجنة، وأن الكافر يضيق عليه، حتى تختلف أضلاعه، ويكون حفرة من حفر النار، ونحو ذلك وقد حجب عن أبصار بني آدم للابتلاء، وليؤمنوا بالغيب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ في التشهد الأخير من عذاب القبر، ويأمر به، روى ذلك أبو هريرة وعائشة وغيرهما. (د) وقد وردت أحاديث في ذكر فتاني القبر، وهما الملكان الموكلان بفتنة القبر، وأنهما منكر ونكير، وذكر أن صوتهما كالرعد القاصف، وبصرهما كالبرق الخاطف، إلى آخر ما ذكر.

البعث بعد الموت

المثال الخامس: البعث بعد الموت: والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، فيقفون في موقف القيامة، حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

_ (أ) ما تقول في البعث بعد الموت؟ (ب) ولماذا يكون؟ (ج) وما الصور؟ (د) وما صفة النفخ فيه؟ (هـ) وما اسم الذي ينفخ فيه؟ (و) وما صفة البعث؟ (ز) وما الأجداث؟ (ح) وكيف يحشرون؟ (ط) وما معنى غرلا بهما؟ (ي) وما الحكمة في ذلك؟ (ك) وما مدة وقوفهم؟

(أ) نؤمن بأن الله يبعث الخلق فيحييهم بعد فنائهم، وتفرق أجزائهم، ويعيدهم خلقا جديدا، ويجمعهم في موقف القيامة، والأدلة على البعث في القرآن كثيرة، ولما كان المشركون يستبعدون ذلك، احتج لذلك ببدء خلقهم، فإن الإعادة أهون، والكل هين على الله، وبإحياء الأرض بعد موتها، وبخلق السماوات والأرض مع عظمتهما، وبقدرته تعالى وعدم خروج شيء عن إرادته الكونية، وأنه إنما يقول للشيء كن فيكون، وأدلة ذلك كثيرة في القرآن، وكذلك ذكر اليوم الآخر وهول المطلع، مستوفى في الكتاب والسنة. (ب) وقد ذكر تعالى أنه يبعث الخلق؛ ليجازيهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا: خيرها وشرها، وليقتص من الظالم للمظلوم. (ج) وبين يدي ذلك النفخ في الصور وهو قرن عظيم، روي أن عظم دارة فيه كعرض السماوات والأرض. (د) وأما صفة النفخ: فهي غير معروفة للبشر، لكن ذكر في الحديث أن الأولى تكون طويلة ممدودة، وذكر أن النفخات ثلاث: الأولى: نفخة الفزع قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} والفزع: الخوف الشديد الذي يسبب الهرب ونحوه، بحيث يموج بعضهم في بعض: و {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} .

الثانية: نفخة الصعق قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي: ماتوا. الثالثة: نفخة البعث قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} فتخرج الأرواح إلى أجسادها. (هـ) والملك الذي يتولى النفخ فيه هو إسرافيل عليه السلام، فهو الموكل بالنفخ في الصور. (و) وصفة البعث غير معلومة لنا، لعدم المشاهدة، والله تعالى لا يعجزه شيء، وقد روي في بعض الأحاديث أن الله ينزل مطرا غزيرا تنبت منه الأجساد، وتتجمع أشلاؤها، ثم ترسل إليها الأرواح بعد النفخة الثالثة، ثم تشق عنهم الأرض فيخرجون: {مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} أي: يسرعون. (ز) والأجداث: القبور والأماكن التي جمع فيها خلقهم. (ح) وأما صفة الحشر ففي الصحيحين: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} وإن أول من يكسى إبراهيم» ، وفيهما عن «عائشة قالت:»

«يا رسول الله ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} » ، وقد قال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} . (ط) (الغرل) : غير المختونين، فالغرلة القلفة، وتقدم معنى (البهم) . (ي) والحكمة في كونهم غرلا ليكمل خلقهم، قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . (ك) وأما وقوفهم، فقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وذكر في القرآن طول ذلك اليوم، وأن مقداره كألف سنة، وفي آية أخرى خمسين ألف سنة، وورد في بعض الآثار أن المؤمنين لا يحسون بطوله، وكثرت الأدلة على شدة الهول، وفظاعة ذلك اليوم، نسأل الله العافية.

الحساب

المثال السادس: الحساب: ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} .

_ (أ) على أي شيء يكون الحساب؟ (ب) وهل هو عام أو خاص؟ (ج) وما الدواوين؟ (د) وما الكتب التي يعطونها؟ (هـ) وكيف يؤتى الشقي كتابه بشماله ومن وراء ظهره؟ (أ) يعتقد المسلمون أن الله سيجمع الأولين والآخرين في موقف القيامة، ليفصل بينهم وأنه سوف يحاسبهم على أعمالهم، وأنه سريع الحساب، فيسألهم ويقررهم بذنوبهم: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وفي الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد يناقش»

«الحساب إلا عذب» وأما قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك العرض» أي عرض الأعمال من غير مناقشة. (ب) وظاهر أكثر الأدلة أن الحساب عام لكل فرد، وفي بعض الآثار أن الكفار يساقون إلى النار بلا حساب، لأنهم لا حسنات لهم، ولكن لا بد أن الله يسألهم: {مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} و {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وقد ذكر الله أنه يخرج للعبد كتابه، ويقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وأن الكافر يقول: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} . (ج) والدواوين هي: صحف الأعمال، التي دونت فيها الحسنات والسيئات، فكل يجد ما قدمت يداه في كتاب: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .

(د) وهذه الكتب هي التي يعطونها بالأيمان والشمائل، لقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} وقيل: إن الكتاب الذي يعطاه أحدهم بطاقة فيها علامة السعادة أو الشقاوة، والأول أظهر. (هـ) وأما أخذ الكافر كتابه بشماله ووراء ظهره، فقيل: تلوى الشمال خلف الظهر، وقيل: تنزع من صدره وتركب خلف ظهره، ثم يسلم كتابه بها: {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .

الميزان

المثال السابع: الميزان: والميزان له كفتان ولسان، توزن به الأعمال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} .

_ (أ) ما تقول في الميزان؟ (ب) وماذا يوزن به؟ (ج) وما سبب خفته وثقله؟ (أ) نعتقد أن الميزان حق كما أخبر الله، وأنه حقيقي له كفتان ولسان ويخف ويثقل، ولكن لا يعلم كيفيته إلا الله، والحكمة فيه إظهار العدل ونفي الظلم، ولا التفات إلى من أنكره من المبتدعة، أو من تأوله بالعدل بمعنى أنه يعدل بين الخلق، ونحو ذلك مما هو تحريف للكلم عن مواضعه. (ب) وأما الموزون فقيل: أولا: توزن الأعمال وإن كانت أعراضا، فالله قادر على جعلها أجساما كما ذكر أن الصلاة تصعد ولها نور أو ظلمة، وأن القرآن يجادل يوم القيامة عن حامله، ونحو ذلك. ثانيا: توزن الصحف التي كتبت فيها الأعمال، كما في حديث صاحب البطاقة والسجلات.

ثالثا: يوزن العامل نفسه، كما في الحديث: «أنه يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} » . (ج) وأما خفته وثقله، فإنما هو بحسب صالح الأعمال أو سيئها، وبحسب الإخلاص وعدمه.

الحوض والصراط

المثال الثامن: الحوض والصراط: ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. والصراط حق، يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار.

_ (أ) ما تقول في الحوض؟ (ب) وهل هو خاص أو عام؟ (ج) وما الصراط؟ (أ) نعتقد أن الله يعطي نبينا صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة حوضا عظيما وصف في بعض الروايات بسعته وأنه مسيرة شهر في شهر، أو ما بين أيلة إلى صنعاء وكذا ما ذكر من بياض مائه وحلاوته، وكثرة أباريقه وهي آنيته، وأنه يصب فيه ميزابان من الجنة، يرده الأبرار، ويذاد عنه الفجار. (ب) وقد روي أن لكل نبي حوضا، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم، أكثرهم واردا. وقيل: هو الكوثر، وفسر أيضا الكوثر بأنه الخير الكثير، أو أنه نهر عظيم في الجنة، والله أعلم. (ج) وأما (الصراط) فهو جسر ينصب على متن جهنم، دحض مزلة كحد السيف، يمر عليه الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل والركاب، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، وعلى جنبتي الصراط كلاليب، مثل شوك السعدان، تخطف من أمرت بخطفه، فناج مسلّم، ومخدوش، ومكردس في النار، وهذا هو الورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ومعنى: يجوزه الأبرار أي: يعبرونه حتى يجاوزوه. ويزل عنه الفجار أي: يسقطون.

الشفاعة

المثال التاسع: الشفاعة: ويشفع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعد ما احترقوا، وصاروا فحما وحمما، فيدخلون الجنة بشفاعته، ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين.

_ (أ) ما تقول في الشفاعة؟ (ب) وكم عدد الشفاعات؟ (ج) وما الخاصة والعامة؟ (د) ومن الذي يستحقها؟ (أ) أصل الشفاعة التوسط للإنسان لتقضى حاجته، والمراد هنا طلب النبي صلى الله عليه وسلم ورغبته إلى ربه بعد إذنه أن يفصل بين عباده، وأن يخرج الموحدين من العذاب، وكذا من يشفع غيره. وهي ملك لله، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} وقد رد الله على المشركين الذين يزعمون أن الأولياء ونحوهم يشفعون لهم، وأخبر أنها لا تكون إلا بعد إذنه تعالى للشافع، ورضاه عن المشفوع له، كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وعند أهل السنة أن الله يأذن لنبينا صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، ليظهر فضله، وينال

المقام المحمود. (ب) وقد أحصيت شفاعاته صلى الله عليه وسلم من الأحاديث المتواترة فبلغت ست شفاعات. (ج) والخاص به عليه الصلاة والسلام خمس: الأولى: الشفاعة العظمى لفصل القضاء والإراحة من الموقف يطلبها الناس من أولي العزم حتى تنتهي إليه. الثانية: شفاعته في فتح أبواب الجنة لدخول أهلها. الثالثة: شفاعته لبعض أهل الجنة في رفع درجاتهم. الرابعة: شفاعته في أناس استحقوا النار أن لا يدخلوها. الخامسة: شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب. وأما العامة فهي: شفاعته وشفاعة الأنبياء والصالحين والملائكة في أناس دخلوا النار من الموحدين أن يخرجوا منها، فيخرجون بعد احتراقهم وصيرورتهم (فحما وحمما) أي: سودا فيلقون في نهر الحياة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل. (د) ولا تكون الشفاعة للمشركين، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقد أنكرت المعتزلة والخوارج إخراج أهل الكبائر من النار، وردوا أحاديث الشفاعة، بناء على مذهبهم في تغليب جانب الوعيد.

الجنة والنار والموت

المثال العاشر: الجنة والنار والموت: والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون، والمجرمون {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: «يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت» .

_ (أ) ما تقول في الجنة والنار؟ (ب) وهل هما موجودتان الآن؟ (ج) وهل العذاب والنعيم مستمر أم لا؟ (د) وما كيفية ذبح الموت؟ (هـ) وما الحكمة في ذلك؟ (أ) نعتقد أن الجنة حق، وأن النار حق فالجنة دار كرامته تعالى ينعم بها أولياءه، والنار دار إهانته، يعذب بها أعداءه، ولكل منهما ملؤها، والقرآن مملوء من ذكر الجنة والنار وما فيهما من النعيم والجحيم. (ب) وهما موجودتان الآن، كما قال تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وعن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي: هيئت وأوجدت،

وقال في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآهما وهو في صلاة الكسوف وغيرها، ورأى من فيهما، ووصفهما بما يوجب القطع بوجودهما الآن. (ج) وتكاثرت الأدلة على أبدية الجنة والنار، وأنهما لا تفنيان، ولا ينقطع ما فيهما أبدا وسرمدا، قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وقال: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} . (د) وأما ذبح الموت، فليس المراد به الملك الموكل به وهو عزرائيل وإنما المراد حقيقة الموت الذي هو الفناء، ولا يستبعد على قدرة الله قلبه في صورة كبش، وهو الذكر من الضأن، وإيضاحه لهم حتى يعرفوه. (هـ) والحكمة في ذبحه كي يتحققوا دوام ما هم فيه، وعدم الزوال والانقطاع، وهو معنى قوله: " خلود ولا موت ". أي: لا يتصور بعد هذا موتكم وفناؤكم، لزوال سببه، فيفرح أهل الجنة، ويحزن أهل النار.

فصل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه

فصل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود والحوض المورود وهو إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم.

_ (أ) ما تقول في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ (ب) وما معنى كونه خاتم النبيين مع الدليل؟ (ج) وما سيادته المرسلين؟ (د) واذكر بعض فضائله؟ (هـ) وما لواء الحمد والمقام المحمود؟ (أ) نشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق إلى كافة الناس، وفضله بعموم الرسالة وخلودها، وهدى به من الضلالة وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. (ب) وهو خاتم النبيين أي: آخرهم، وشريعته آخر الشرائع- قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم عدّ من أسمائه المقفي والعاقب وفسره بأنه

الذي ليس بعده نبي. وفي حديث ثوبان الطويل قال: «وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» . (ج) وأما سيادته المرسلين، فظهرت ليلة الإسراء والمعراج بتقدمه إماما عليهم، وعلوه فوق جميعهم مقاما، إلى سدرة المنتهى، وإلى حيث شاء الله. وتظهر سيادته أيضا يوم القيامة، عندما يتأخر أكابر الرسل عن الشفاعة، حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها أنا لها» . (د) وأما فضائله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من أن يحاط بها، فهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يستفتح باب الجنة، وله المقام المحمود، والحوض المورود، وهو أكثر الأنبياء واردا، وقد شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وهو وأمته أول من يجوز

الصراط، وله الوسيلة وهي درجة في الجنة، إلى غير ذلك من مقاماته العلية. (هـ) وأما لواء الحمد، فهو: اللواء المعقود له يوم القيامة. وقد روى الترمذي وحسنه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم على ربي ولا فخر.» . وروي أيضا: عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر» . وروى الترمذي أيضا وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» الحديث. وأما المقام المحمود: فقد قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وفسر هذا المقام بأنه الشفاعة العظمى التي يحمده بها الأولون والآخرون.

الكلام في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الكلام في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وأفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نقول- والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره» . وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث» وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر» وهو أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة. ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله، وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه، لتقديم أهل الشورى له. ثم علي رضى الله عنه لفضله، وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «عليكم»

«بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وقال صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» فكان آخرها خلافة علي رضى الله عنه.

_ (أ) اذكر بعض فضل هذه الأمة؟ (ب) وفضل الصحابة؟ (ج) وما هو ترتيب الصحابة في الفضل مع الدليل؟ (د) واذكر بعض فضائل الخلفاء وترتيبهم في الخلافة مع الدليل؟ (أ) قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وتكاثرت الأدلة من السنة في فضل هذه الأمة، كمضاعفة الأجر لها، وهدايتها إلى ما ضل عنه الأمم قبلها، ونحو ذلك. وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» الحديث. (ب) وأما فضل الصحابة فمشهور، كما سنشير إليه إن شاء الله، وهم خير أصحاب الأنبياء رضي الله عنهم، لما ظهر من جهادهم، وهجرتهم،

ومواساتهم، وعملهم الصالح، وعلمهم النافع، وفضلهم السابغ على الأمة. (ج) وأفضلهم الخلفاء الأربعة، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة عند أهل السنة، والدليل عليه قول ابن عمر: «كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان» رواه البخاري وزاد الطبراني في الكبير: " فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره". ولابن عساكر: كنا نفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعليا. وأخرج ابن عساكر: عن أبي هريرة قال: "كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -ونحن متوافرون- نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان. وأما الرواية المذكورة عن علي في المتن، فرواها أحمد وغيره، عن علي رضي الله عنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر» قال الذهبي: هذا متواتر عن علي فلعن الله الرافضة ما أجهلهم. وأخرج البخاري: عن «محمد بن علي بن أبي طالب قال قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر قال: ثم أي؟»

«قال: عمر قال: وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.» . وأما حديث أبي الدرداء فرواه عبد بن حميد وأبو نعيم وغيرهما، من طرق عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد أفضل من أبي بكر إلا أن يكون نبيا» وفي لفظ: «على أحد من المسلمين بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» . (د) وأما فصائلهم رضي الله عنهم فكثيرة جدا: فأما أبو بكر فهو المراد بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} المراد بصاحبه: أبو بكر عندما كان معه في الغار، وهو رفيقه عليه الصلاة والسلام في الهجرة، وصهره، وقرينه في الحياة، وبعد الممات، وهو أول من آمن من الرجال، وفيه نزل قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} فلهذا لُقِّب بالصديق، لصدقه في الإيمان، ومبادرته بالتصديق. وروى البخاري عن أبي هريرة -وذكر قصة- إلى أن قال: فقال النبي

صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي» . وأدلة خلافته كثيرة، منها تقديمه في الصلاة، حيث قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» لذلك قال الصحابة: رضيناه لدنيانا، كما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا. وفي الصحيحين: عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في آخر حياته: «إن من أَمَنِّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر» ويكفي إجماع الصحابة على مبايعته، وما كان الله ليجمعهم على ضلالة. وأما عمر فهو: (فاروق) هذه الأمة، لأن الله فرق بإسلامه بين الحق والباطل، كما روى ابن عساكر وأبو نعيم عن ابن عباس أنه سأل عمر عن سبب تسميته بالفاروق، فأخبره بقصة إسلامه طويلة، أنه لما أسلم وهم مختفون قال: «يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى قال: ففيم»

«الاختفاء، قال فخرجنا صفين، حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إلي وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة شديدة، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ» لأنه ظهر الإسلام، وفرق بين الحق والباطل. وقد تكاثرت الأحاديث في فضله وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من المحدثين أي: الملهمين، وأن الشيطان إذا رآه في فج سلك فجا غير فجه، وأخبر بكثرة علمه، وقوة دينه، وبشره بالجنة، وأدلة ذلك كلها في الصحيح وما يقرب منه. وأما خلافته فقد أشير إليها في الأحاديث، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أرَ عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن» .

وروى الترمذي: عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر» . وقد تمت البيعة له بعد أن عهد إليه أبو بكر لما رأى من أهليته، فقبله المسلمون، ورضوا بإمامته، وأعز الله به الدين، وفتحت في عهده كنوز كسرى وقيصر واتسعت رقعة الإسلام. ثم بعده عثمان بن عفان وهو "ذو النورين" سمي بذلك لأنه تزوج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم واحدة بعد واحدة أولا: (رقية) وماتت سنة ثنتين من الهجرة، ثم (أم كلثوم) ولما ماتت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان لنا بنت ثالثة لزوجناها عثمان» ولم يتفق هذا لغير عثمان أسلم قديما وهاجر الهجرتين، وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، ولما دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم جلس وسوى ثيابه، وقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» وهو الذي اشترى بئر رومة وجعلها سقاية

للمسلمين، وجهز جيش العسرة فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وقال: «ما على عثمان ما عمل بعد اليوم.» . وأما خلافته فكانت في أول شهر محرم عام أربع وعشرين، وكان عمر قد جعل الأمر شورى بين ستة وهم بقية العشرة ما عدا أبي عبيدة فقد مات قبل عمر وسعيد بن زيد فاتفق أهل الشورى على عثمان رضي الله عنه، وبايعه المسلمون. ثم بعده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو: أفضل من بقي، وقد اتفقوا على خلافته، وصحة إمامته، لكن أهل الشام امتنعوا عن مبايعته حتى يسلّم لهم قتلة عثمان وأما فضائله فكثيرة جدا فقد أسلم وله ثمان سنين، وهو أول من أسلم من الصبيان، وهو زوج فاطمة البتول، ووالد السبطين الحسن والحسين وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كفله وهو صغير. فهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وسنتهم، والعض عليها بالنواجذ وهذا الحديث قد تقدم تخريجه أول الكتاب. وأما حديث: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» فقد رواه أحمد

وأبو داود وغيرهما عن سفينة أبي عبد الرحمن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: «الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكا» ، قال سفينة: فخذ، سنتي أبي بكر وعشر عمر واثنتي عشرة عثمان وست علي هكذا قال سفينة ولكن مجموع خلافتهم لا تكمل الثلاثين، حتى تضم إليها خلافة الحسن بن علي ستة أشهر.

الكلام في العشرة المبشرين بالجنة

الكلام في العشرة المبشرين بالجنة: ونشهد للعشرة بالجنة، كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة ابن الجراح في الجنة» . وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها كقوله: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» ، وقوله لثابت بن قيس: «إنه من أهل الجنة» . ولا ننزل أحدا من أهل القبلة جنة ولا نارا إلا من نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنا نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل.

_ (أ) اذكر بقية العشرة؟ (ب) وسبب تخصيصهم بهذه البشارة؟ (ج) ومتى يحكم للمعين بالجنة أو النار؟ (د) وما الرجاء للمحسن والخوف على المسيء؟ (هـ) وما حكم التكفير بالذنوب؟

(أ) العشرة المشهود لهم بالجنة تقدم منهم الخلفاء الأربعة، والباقون هم: الزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل والحديث المذكور في الشهادة لهم مروي في السنن عن عبد الرحمن بن الأخنس عن سعيد بن زيد ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف (ب) وخُصُّوا بهذه البشارة لسبقهم إلى الإسلام، وجهادهم، وبذلهم الأموال والأنفس في سبيل الله ونحو ذلك. (ج) ونشهد بالجنة لكل من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم. كالحسن والحسين والحديث المذكور أخرجه الترمذي وصححه: عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. والشهادة لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه رواها مسلم وأحمد عن أنس. وقد ثبت لكثير من الصحابة الشهادة بالجنة، كعكاشة بن محصن وعبد الله بن سلام وعمار بن ياسر وغيرهم. أما الجزم بالجنة أو النار فلا يجوز لغير من جزم له الرسول بوحي من ربه، لأنا لا نعلم ما يختم له به ولا علم لنا بما في القلوب. (د) قوله: (لكنا نرجو للمحسن) أي: إذا رأينا من ظاهر عمله الخير رجونا له الجنة، من غير جزم، استئناسا بالنصوص الدالة على البشارة، والوعد من الله لأهل الخير، وصلاح القول والعمل. (ونخاف على المسيء) أي: من العذاب والنار. والمسيء هو: من

وجوب الحج والجهاد مع كل إمام برا كان أو فاجرا ونرى الحج والجهاد ماضيا مع كل إمام، برا كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله عز وجل، حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار» رواه أبو داود.

_ يعمل السيئات والآثام، فيخاف عليه لورود أدلة فيها وعيد شديد بالعذاب أو النار ونحوها على مثل تلك الأعمال السيئة. (هـ) وأما التكفير بالذنوب لأهل القبلة -أي: أهل الإسلام، واستقبال القبلة في الصلاة والحج ونحوها- فلا يجوز تكفيرهم بمجرد عمل ذنب كبير ونحوه، وما ورد من نصوص الوعيد فإنا نجريها على ظاهرها، ليكون أبلغ في الزجر عن تلك المآثم، مع اعتقادنا أنه لا يخرج بها من الدين، ولا يخلد في النار، ونقول في جنس أهل الكبائر إنهم مؤمنون ناقصو الإيمان، أو فاسقون بكبائرهم، وهم في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم مآلهم إلى دخول الجنة، خلافا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ويستحلون دماء أهل الكبائر وأموالهم، وللمعتزلة الذين يخرجون العاصي من الإسلام، ولا يدخلونه في الكفر، وهو في الآخرة عند الخوارج والمعتزلة مخلد في النار، أنكروا أحاديث الوعد والشفاعة ونحو ذلك.

وجوب الحج والجهاد مع كل إمام برا كان أو فاجرا

(أ) ما حكم الجهاد والحج مع أئمة الجور؟ (ب) وما معنى: ماضيان؟ (ج) وما حكم الصلاة خلف الظلمة؟ (د) وما درجة الحديث المذكور؟ (هـ) وما معنى: ثلاث من أصل الإيمان؟ (و) وما دلالة الحديث؟ (أ) يلزم الرعية طاعة ولاة الأمور، ولو ظهر منهم شيء من الظلم والجور، وقد روي في الحديث: «من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية» ، وقد قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وقد كان الصحابة والسلف يصلون خلف بعض الفسقة، ويقيمون الحج

والجهاد تحت إمرة بعض الولاة الظلمة، كالحجاج والمختار بن أبي عبيد والوليد بن عقبة بن أبي معيط وكل هذا رد على الرافضة القائلين: إنه لا جهاد إلا مع إمام معصوم. (ب) وقوله: (ماضيان) أي: واقعان موقعهما في الإجزاء، وأداء الواجب، وخص الحج والجهاد لاحتياجهما إلى أمير يقاوم قطاع الطريق، ويسوس الجيش، ونحو ذلك مما يحصل بالبر والفاجر. (ج) وأما صلاة الجمع والأعياد والجماعات خلفهم فجائزة، لأن صلاتهم في نفسها كاملة الشروط والواجبات، ولم يزل السلف يصلون خلف أمراء الجور ولا يعيدون، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم» . (د) وحديث أنس هذا رواه أيضا البيهقي والضياء المقدسي وفي سنده رجل مجهول، ولكن له شواهد. (هـ) ومعنى قوله: "ثلاث من أصل الإيمان" أن هذه الثلاث من خصال الإيمان، ومما يلزم كل مؤمن اعتقادها والعمل بها، فمن أخل ببعضها نقص إيمانه. (و) ودلالة الحديث في الخصلة الثانية، حيث أخبر أن الجهاد ماض أي: مستمر في هذه الأمة، لا يجوز تركه لجور جائر أو عدل عادل، وأنه مستقر في الشريعة، من حين فرض على النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن يقاتل الدجال في آخر الدنيا.

عقيدة السلف في الصحابة وما حدث بينهم

عقيدة السلف في الصحابة وما حدث بينهم ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} . وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .

_ (أ) ماذا يجب علينا نحو الصحابة؟ (ب) وما كيفية توليهم؟ (ج) وما المراد بمساوئهم وما شجر بينهم؟ (د) ووضح دلالة الآيات والحديث؟ (أ) اشتهر عن الرافضة -لعنهم الله- سب الصحابة، وشتمهم، وتكفيرهم، وبالأخص أكابرهم، كالعشرة ما عدا عليا وقد ولّدوا أكاذيب وترهات لفقوها، وألصقوها بهم، وجحدوا فضلهم، وأنكروا جميع مميزاتهم، واتهموهم بإخفاء شيء من القرآن ونحوه، وأضافوا إلى ذلك

الغلو والإفراط في علي وأهل بيته، حتى عبدوهم من دون الله، فلأجل الرد عليهم، وإظهار بهتانهم أظهر أهل السنة فضل الصحابة وسبقهم، وجعلوه في معتقداتهم، فنحن نحب جميع الصحابة، ونترضى عنهم، ونعترف بفضلهم، ونشهد لهم بالصلاح، وندعو لهم مع أنفسنا، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} . وما ذاك إلا أنهم آمنوا وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت القلة والذلة، ثم هاجروا وتركوا البلاد والأهل والمال، ثم بذلوا نفوسهم وما يملكون رخيصة في سبيل الله، وإعلاء كلمته ونصرة رسوله، هذا مع العبادة والتهجد، والمسابقة إلى الخيرات، كما تشهد بذلك الآثار المستفيضة. (ب) والمراد بتوليهم: محبتهم وموالاتهم كلهم، وعدم بغض أحد منهم، والحرص على الاقتداء بهم، ومعاداة من عاداهم. (ج) و (مساوئهم) هي: ما ينقل عن بعضهم من الأعمال المرجوحة أو المكروهة، فإننا نكف عنها، ولا نعيبهم بها، بل نعتذر عنهم بأن تلك المعائب المنقولة أكثرها مكذوب عليهم، من توليد أعدائهم من الخوارج، والروافض، والنواصب، وما صح منها فهم فعلوه باجتهاد، ولهم أجر على الاجتهاد وخطؤهم مغفور. (ج) و (ما شجر بينهم) أي: وقع بينهم من الاختلاف الذي أدى إلى القتال، كما في وقعة الجمل وصفين، نكف عن ذلك ولا نعيبهم به، بل نعتقد أن الكل مجتهد، والمخطئ منهم معذور لاجتهاده.

(د) قول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} هذا مدح لمن جاء بعد السابقين الأولين من هذه الأمة، مقتديا بهم، داعيا لهم، مع نفسه بالمغفرة ونزع الغل، وهو: الحقد في القلب، في الآية الاعتراف بفضل الصحابة، بأنهم إخواننا أي: في الدين، وبسبقهم الذي فاقوا به من بعدهم، وبالشهادة لهم بالإيمان. قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} هذا مدح للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ووصف لهم بالشدة والقوة على الكفار، وبالرقة والشفقة فيما بينهم، وهذا كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} . والحديث المذكور في الصحيحين عن أبي سعيد وفي ابن ماجه عن أبي هريرة بإسناد صحيح، وسببه أنه كان بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد شيء، فنال منه خالد فقال صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي ... » أي: السابقين، فإن عبد الرحمن أسلم قديما قبل الهجرة، وخالدا إنما أسلم سنة ثمان. فكيف بسب من هو أفضل من عبد الرحمن كالشيخين؟ وكيف بما صدر ممن هو بعد خالد رضي الله عنه؟ ومعنى الحديث: أن الواحد من غير الصحابة لو أنفق في سبيل الله مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ من الثواب ثواب من أنفق من الصحابة مدا أو نصيفه، والمد: مكيال معروف، والنصيف: النصف أي: نصف المد، أو نصف أحد الصحابة.

عقيدة السلف في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم

عقيدة السلف في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم، ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم.

_ (أ) ماذا يجب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم؟ (ب) ولماذا سُمِّينَ بأمهات المؤمنين؟ (ج) وما معنى مطهرات ومبرآت؟ (د) وأيهن أفضل؟ (هـ) وما حكم من قذف عائشة؟ (و) وماذا يقال في معاوية؟ (ز) وما معنى كونه خال المؤمنين؟ (أ) يجب الترضي عنهن، وإظهار ما لهن من الفضل والمآثر، ولا شك أن الله ما اصطفى لنبيه إلا أفضل نساء زمانه، ولهذا رضين بالانتماء إليه، حيث وعدهن الله أنهن أفضل من سائر النساء، كقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وخيرهن الله بين الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وعدد من دخل بهن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة، ومات عن تسع.

(ب) وسمين أمهات المؤمنين لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، أي: بمنزلة الأمهات في التوقير والاحترام، وعدم حلهن لأحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، لا في الخلوة والنظر والمحرمية، لأن الله أمرهن بالحجاب، وإدناء الجلابيب، ونهاهن عن تبرج الجاهلية كغيرهن. (ج) ومعنى المطهرات: طاهرات النفوس والقلوب، البعيدات عن رذائل الأمور، وكذا المبرآت أي: من الأدناس والفواحش والميل إليها، وذلك كرامة لنبيه، أن اصطفى له خيرة نساء أهل زمانه. (د) أما أفضلهن فلا شك أن خديجة وعائشة هما أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام، فخديجة أفضل بالسبق والمؤازرة والمواساة، وكونه لم يتزوج عليها، ورزق منها أولادا ونحو ذلك، وعائشة ظهر فضلها بكونه تزوجها بكرا ولم يتزوج بكرا غيرها، وكون الوحي ينزل إليه في بيتها، وكذا بما حفظت عنه من العلم والفقه الذي انتفع به من بعدها. (هـ) ومن فضل عائشة نزول براءتها في القرآن لما رماها أهل الإفك، فأنزل الله فيها وحيا يتلى، وعلى هذا فمن رماها بما برأها الله منه فهو كافر، مكذب للقرآن، مستحق للإثم والعذاب العظيم، وذلك أنها كغيرها من نسائه قد جعلهن الله زوجات له في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تكون كل منهن طاهرة، مبرأة من الفاحشة ونحوها، حماية لفراش نبيه صلى الله عليه وسلم.

(و) وأما معاوية فهو: ابن أبي سفيان وهو من أفاضل الصحابة، أسلم مع أبيه، وصار كاتبا للوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم صار من قوادالجيوش في الشام فجاهد وفتح بلادا كثيرة، ولما قتل عثمان طالب بدمه، وقاتل لأجل ذلك، حتى قتل علي ثم بايعه أهل الشام، وبايعه الحسن بن علي واجتمع عليه الأمر، وبقي خليفة للمسلمين، وفيهم بقية الصحابة، ولم يطعن أحد في خلافته ولا في دينه، وله فضل الصحبة، والأمانة لكتابة الوحي، والجهاد، وسائر أعمال الخير مما يمدح به. (ز) ومعنى كونه خال المؤمنين: أنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.

حق ولاة الأمر على رعاياهم

حق ولاة الأمر على رعاياهم ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين.

_ (أ) ماذا يجب لولاة الأمور على الرعية؟ (ب) وما الحكم إن أمروا بما لا يجوز شرعا؟ (ج) ومتى يكون أحدهم واجب الطاعة؟ (د) وما معنى الخروج عليهم وشق العصا؟ (أ) من رحمة الله بعباده أن أقام فيهم ولاة وسلاطين، ذوي قوة ونفوذ يأخذون على يد الظالم، ويعطون كلًّا ما يستحقه، حيث إن الاعتداء والظلم والتعدي من طبيعة كثير من الناس، وذلك مما يحدث الفوضى والاضطراب، فكان وجود الولاة من باب المصلحة، حتى يأمن الناس على دمائهم وأموالهم، ثم إن ظلم الولاة وتجبرهم من باب الفتنة للعباد، وقد يكون تسليطهم عقوبة على الأمة لذنوب ارتكبوها. وقد أمر الله بطاعة الولاة، ونهى عن الخروج عليهم ماداموا يظهرون شعائر الإسلام، كالصلاة والحج ونحوهما، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقال النبي

صلى الله عليه وسلم: «عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد حبشي، مجدع الأطراف، كأن رأسه زبيبة، يقودكم بكتاب الله» . والمراد بالسمع والطاعة: سماع ما يأمرون به، وامتثاله إن لم يكن معصية بقطع النظر عن صلاحهم أو عدمه. وقد خالف في ذلك المعتزلة والخوارج، وأجازوا الخروج على الولاة، ونبذ طاعتهم، متى أظهروا شيئا من المعاصي، ولا شك أن الخروج عليهم يسبب مفاسد عظيمة، من القتل والسلب، وتفرق الكلمة، واختلال الأمن ونحو ذلك. (ب) وتحرم طاعتهم إن أمروا بمعصية، كفعل محرم، أو ترك واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» متفق عليهما.

(ج) والذي تجب طاعته هو من يرتضيه جمهور المسلمين، فيبايعونه ويتسلم أزمة القيادة، أو يتغلب عليهم قهرا حتى يتولى أمرهم، وليس من شرط ذلك تسميته بأمير المؤمنين، بل لو سمي خليفة أو سلطانا أو ملكا أو إماما صدق عليه أنه من الولاة المأمور بطاعتهم. (د) والمراد بالخروج عليهم نبذ طاعتهم، ونصب العداوة لهم، ونقض العهد والبيعة معهم، وشبه قوة المسلمين واجتماع كلمتهم بالعصا القوية، فإذا تفرقوا ضعفت قوتهم، وانكسرت حدتهم، فكانوا كالعصا إذا شقت قربت من الانكسار. (أ) بماذا تعامل المبتدعة؟ (ب) وما المراد بالجدل في الدين؟ (ج) وما الموجب للبعد عن كتب أهل البدع؟ (د) وما البدعة والمبتدعة؟ (هـ) واذكر شيئا من عقائد الرافضة، والجهمية، ومن ذكر معهم؟ (أ) يجب هجر أهل البدع وبغضهم، ومباينتهم أي: فراقهم، كما يجب مقتهم، والتحقير من شأنهم، والتحذير من شرهم، وكل ما فيه إذلالهم، وإهانتهم، مما يسبب رجوعهم إلى السنة، أو التحذير منهم، وعدم الانخداع بزخرفهم. (ب) وأما الجدال المنهي عنه فهو: الخوض بلا علم ولا برهان، والتقعر في علم الكلام الذي لا فائدة فيه أو فيه مضرة. فأما المجادلة بالتي هي أحسن، فقد أمر الله بها لإظهار الحق، أو قمع المبطلين، ودحض المبتدعين. (ج) والنهي عن قراءة كتب البدع وأهل الإلحاد والشرك، وكذا الإصغاء إلى كلامهم، لئلا يعلق بالذهن شيء من شبههم مما يسبب الميل

المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم

المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة بدعة، وكل متسم بغير الإسلام مبتدع، كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية، والسالمة ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها.

إليهم، أو تحسين مذهبهم، أو تفضيله على مذهب أهل السنة ومعتقدهم، ولكن يجوز للعالم المتمكن قراءة كتبهم للرد عليها، وإظهار تناقضها، وقلب أدلتهم عليهم، لأنه لا يخاف عليه الانخداع بتلك الشبه. (د) وأما البدع فهي المحدثات في الدين، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . وأنواع البدع كثيرة: فمنها: ما يكفر به كبدعة الجهمية، والقدرية، والمجسمة. ومنها: ما لا يكفر به كالبدع التي أحدثها بنو أمية، مثل الخطبة جالسا، وتقديم خطبة العيد على الصلاة، ويلحق بها تعبد جهلة الصوفية بالرقص، والتصفيق، وأنواع المعازف، وكشف الرؤوس في الصلاة على وجه التعبد، وأمثال ذلك. والمبتدع: كل متسم بغير الإسلام أي: من جعل له سمة وميزة ظاهرة غير ميزة المسلمين وشعارهم، أو تسمى باسم يخالف في معناه ما عليه الصحابة والتابعون. (هـ) وأما المبتدعة المذكورون، فخصهم بالذكر لاشتهار مذاهبهم، مع

قبحها وبعدها عن الصواب، وقد تكفل أئمة أهل السنة بكشف عوارهم، وهتك أستارهم، ونقض أصولهم من أسِّها. 1 - (الرافضة) : هم المتسمون بالشيعة، يزعمون أنهم شايعوا أهل البيت ونصروهم، وهذه الفرقة قد عمت وطمت، وانتشر مذهبها الباطل، وتمكن في العراق وإيران والشام والهند والسند وقد انتشر

بكثرة في جهات من المملكة أذلهم الله، ومع كثرتهم فهم أخبث الطوائف معتقدا، وأعظمها حقدا على أهل السنة، ومن عقيدتهم سب الصحابة، وتكفير أبي بكر وعمر وعائشة وأكابر السابقين، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة) فكفى وشفى، وإنما سموا رافضة لأنهم جاءوا إلى زيد بن علي بن الحسين فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال: هما صاحبا جدي، بل أتولاهما. قالوا: إذا نرفضك. فسموا رافضة وسمي من بايعه ووافقه زيدية. 2 - (الجهمية) : نسبة إلى رئيس البدع الاعتقادية الجهم بن صفوان اشتهروا بإنكار الصفات والرؤية، وقالوا بخلق القرآن، فالسلف يطلقون اسم الجهمي على كل من نفى الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، وقد تفرق مذهب الجهمية، في المعتزلة، والأشاعرة، والجبرية، والقدرية وغيرهم. 3 - (الخوارج) : وهم كل من خرج عن الطاعة، وكفر بالذنوب، واستباح بذلك الدماء والأموال، وأول ما خرجوا في وقت علي رضي الله عنه، فقتلهم بالنهروان وقد ورد بشأنهم أحاديث كثيرة، تتضمن وصفهم بكثرة العبادة، حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمْرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وقال: «لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد» وأكثرها في الصحيحين. 4 - (القدرية) : وهم المنكرون للقدر، وهو تقدير الموجودات سابقا أو المنكرون لقدرة الله

على أفعال العباد، وتقدم تفصيل مذهبهم، وإبطاله في فصل القدر، وقد روى ابن ماجه عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم مجوس هذه الأمة، وقال: إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تتبعوهم» . 5 - (المرجئة) : وهم الذين غلبوا جانب الرجاء، فقالوا: لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل؛ فأباحوا المعاصي، وخففوا على الناس ارتكابها؛ وقيل: هم القائلون بأن الأعمال ليست من الإيمان، أي: أنهم أرجئوا الأعمال أي: أخروها عن الإيمان. 6 - (المعتزلة) : أتباع عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وهم كثير لا كثرهم الله، وقد بنوا مذهبهم على خمسة أصول: أ- العدل: وأرادوا به نفي تقدير الله المعاصي على العبد ونفي قدرته على أفعال العباد. ب- التوحيد: وأرادوا به نفي الصفات، لأن إثباتها عندهم يلزم منه التعدد. ج- إنفاذ الوعيد: وأرادوا به تخليد أهل الكبائر في النار تنفيذا لنصوص الوعيد. د- المنزلة بين المنزلتين: أي: أن العاصي ليس مؤمنا ولا كافرا في الدنيا، بل في منزلة بين الكفر والإيمان. هـ- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: وقصدهم به الخروج على الولاة إذا أظهروا المعاصي أو الظلم. وقد أكثر العلماء من الرد عليهم، وإبطال قواعدهم وأصولهم. 7 - (الكرَّامية) : أتباع أبي عبد الله محمد بن كرَّام بتشديد الراء، وهو ممن يثبت الصفات، إلا أنه يغالي في الإثبات، حتى انتهى به إلى التجسيم والتشبيه. 8 - (الكلَّابية) : أتباع عبد الله بن سعيد بن كلَّاب بتشديد اللام، البصري عالم شهير، إلا أن له مخالفات في بعض الأصول كمسألة الكلام، والصفات، ونحوها. 9 - (السالمة) : نسبة إلى رجل يقال له: ابن سالم ذكر عنه أنه كان يشبه الله تعالى بإنسان له جوارح وحواس.. إلخ.

10 - ويلحق بهذه الفرق فرقة (الأشاعرة) ينتسبون إلى أبي حسن الأشعري وقد كان في أول عمره مبتدعا، ينفي أكثر الصفات ويقول بالكلام النفسي. ولكنه رجع إلى مذهب أهل السنة، وألف في ذلك كتابه الإبانة، وكتابه مقالات الإسلاميين- وقد انتسب إليه خلق كثير، سموا أنفسهم أشعرية، وقد انتشروا في أكئر البلاد الإسلامية، وزعموا أنهم أهل السنة، وتقلدوا مذهب الأشعري القديم، وأنكروا رجوعه، وكذبوا بنسبة تلك الكتب إليه. وهذا التفرق في الأمة مصداق الحديث في تفرق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.

الكلام على الاختلاف في الفروع

الكلام على الاختلاف في الفروع وأما النسبة إلى إمام في الفروع كالطوائف الأربع فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة.

_ (أ) ما حكم الانتساب إلى الأئمة الأربعة؟ (ب) وما الفروع؟ (ج) وما المراد بالطوائف الأربع؟ (د) وما سبب اختلافهم؟ (هـ) وكيف يكون اختلافهم رحمة؟ (و) وما معنى كون اتفاقهم حجة؟ (أ) الأئمة هم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ويلحق بهم أمثالهم من أجلاء العلماء، كالأوزاعي والثوري والليث وإسحاق فيجوز اتباع مذاهبهم في الفروع، للعاجز عن معرفة الأدلة، أو عن الترجيح بينها، ومتى ظهر لأحد الدليل، ولم يجد ما يعارضه صريحا، وجب اتباعه، ولو خالفه الإمام المتبع، وحرم الإصرار على التقليد، والتعصب لخلاف الدليل. (ب) والفروع هي: أدلة الأعمال البدنية والمالية التي يخفى الدليل أو الراجح في بعضها أحيانا، كالقراءة خلف الإمام، والجهر بالبسملة، والعدد للجمعة، وزكاة الحلي، وعلة الربا، ونحوها. أما الأصول وهي العقائد فلا يجوز فيها التقليد لوضوح الأدلة.

(جـ) والطوائف الأربع هي: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. (د) وسبب الاختلاف سعة الأدلة، وقصور الأفهام عن بعضها، فمنهم من لا يبلغه الدليل، أولا يصح عنده، أو يفهم منه غير المراد فيفتى باجتهاده، أو يلحق بعض المسائل بما يقاربها حيث لم يبلغه الدليل. (هـ) ومعنى كون الاختلاف رحمة ومحمودا: ما فيه من التوسعة، ونفي الحرج، حيث لم يكلف كل فرد بالعمل بما هو الصواب في نفس الأمر، وليس كثرة الاختلاف رحمة في نفسه، لما يقع بسببه من التعصب والمنافسة، ولكن وقوعه من باب العذر للعباد. (و) وأما اتفاق الأئمة على حكم أو مسألة فهو حجة قاطعة، فإن الأمة معصومة أن تجتمع على خطأ؛ والإجماع هو الدليل الثالث من أصول الأدلة، يحتج به كما يحتج بالآيات والأحاديث، والغالب أن الإجماع لا بد له من دليل قطعي من الكتاب والسنة. نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات، برحمته وفضله آمين. وهذا آخر المعتقد، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. هذا آخر ما يتعلق بهذه الأسئلة على لمعة الاعتقاد، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

§1/1