التعليقات السنية على العقيدة الواسطية

فيصل المبارك

أهمية الكتاب

تَألِيْفُ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ فَيْصَلْ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ آل مُبَارَك ت 1376 هـ أهمية الكتاب لعلَّ هذا الكتاب: (التَّعلِيقَاتُ السَّنِيَّة على العَقِيَدة الوَاسِطِيَّة) - كما يظهر لي - هو أول تعليق على (العقيدة الواسطية) وهناك شرح للواسطية لعالم معاصر للشيخ فيصل ومتوفٍ في نفس العام الذي توفي فيه الشيخ فيصل، ألا وهو العلاَّمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، وشرحه هو المعروف بـ (التعليقات المنيفة على ما في الواسطية من المباحث الشريفة) ، وقد ألَّفه الشيخ السعدي عام1372هـ. إلاَّ أن كتابنا هذا فيما يظهر - أُلِّف تأليفاَ من هذا التاريخ، إذ أنَّ الشيخ فيصل رحمه الله وهو المتوفى عام 1376هـ قد اهتمَّ في أُخريات حياته بـ (الروض المربع) فشرَحَه في كتابه (المرتع المشبع) في أربعة مجلدات ضخمة وكان تأليفه لهذا الكتاب قبل عام 1371 هـ كما يدل على ذلك رسالة من الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إلى الشيخ فيصل - رحمهما الله - بتاريخ الأول من رجب من عام 1371 هـ، ثمَّ شرحه الشيخ فيصل " المرتع المشبع " بكتابه (مجمع الجواد) وهو

كتاب ضخم وصلنا منه شرح كتاب البيوع في مجلد كبير، ممَّا يدلُّ على تقدُّم تأليف الشيخ فيصل رحمه الله لشرح الواسطيَّة. لا سيَّما إذا علمنا أن الشيخ فيصل أدرج شرحه على الواسطية في موسوعته المسمَّاة بـ (زبدة الكلام في الأصول والآداب والأحكام) وفيه عدَّة مؤلفاتٍ له، وجُلُّها من أقدم مؤلفاته، والله أعلم.

اعتقاد الفرقة الناجية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ - وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا. أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ. هذا الكتاب هو العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم ابن تيميّة الحرَّاني شيخ الإسلام والمسلمين وقامع أهل البدع والملحدين، ولد سنة إحدى وستين وستمائة، وتوفي سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة رحمه الله تعالى. قوله: (أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة) يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمَّة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة) ، قالوا من هي يا رسول الله، قال مَنْ كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ،

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمَّتي على الحق منصورة لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى) . قوله: (وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره) يشير إلى ما وقع في حديث سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه قال - أي: جبريل - فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه) ، قال: صدقت، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخره -: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) .

الجمع بين النفي والإثبات في وصفه تعالى

وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ. بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] . فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ. لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ. ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى. فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ مُصَدَّقُون؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ. وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180: 182] . فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ. فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ. وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1: 4] وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن

تفسير سورة الإخلاص

ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ علْمِهِ إلاَّ بمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] . قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، أي هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، لأنَّه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال ابن عباس يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، وعنه أيضاً الصمد الذي لا جوف له، وقاله كثيرٌ من المفسِّرين. {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي: ليس له ولدٌ ولا والدٌ ولا صاحبةٌ، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربَّك فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} رواه أحمد وغيره. قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي هو المتفرِّد بالإلهِيَّة. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحي الذي لا يموت، ومعنى القيوم أي: القائم على

تفسير آية الكرسي

كلِّ شيء، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيٌّ عنها. {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} أي نعاس ولا نوم، {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ملكاً وخلقاً. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الحديد: 3] . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} بأمره. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا والآخرة. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} أي: لا يحيطون بشيءٍ من علم الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلعهم عليه ممَّا أخبر به الرسل. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} أي: ملأ وأحاط، قال ابن عباس: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدِّرُ أحدٌ قدره. {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يثقله ولا يشُقُّ عليه. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} قال البغوي: وهو العليُّ الرفيع فوق خلقه، والمتعالي عن الأشباه والأنداد. العظيم: الكبير الذي لا أعظم منه.

إحاطة علمه بجميع مخلوقاته

قوله تعالى: {هُوَ الأوَّلُ} أي الذي ليس قبله شيء. {وَالآخِرَ} الذي ليس بعده شيء. {وَالظَّاهِرُ} الذي ليس فوقه شيء. {وَالْبَاطِنُ} الذي ليس دونه شيء. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ظاهره وباطنه وأوله وآخره. في هامش الصفحة التي فيها آية الكرسي مقابل السطر الذي فيه قوله عز وجل {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} كتب الشيخ أي لا يكرثُه ولا يثقِله ثم رمز لها بالتصحيح (صح) . قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي فإنَّه حقيقٌ بالتوكل عليه، لأنَّه باقٍ على الأبد، والحياة صفةٌ لله تعالى. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] . {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} [سبأ: 1] . {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] . {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [الأنعام: 59] . وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِه} [فصلت: 47] . قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ} أي: يدخُلُ فيها من الماء والأموات وغير ذلك. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات وغيره، والأموات إذا حُشِروا. {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الملائكة والأمطار وغير ذلك.

{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الملائكة والأعمال الصالحة وغير ذلك. قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} مفاتح الغيب: خزائنه. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلاَّ الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ) رواه البخاري. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات. {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، يعني: مكتوبٌ في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي هو عالمٌ بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء. وَقَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] . وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] . قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، وأوَّل الآية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ} ، فالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، قال قتادة: (في كل أرضٍ من أرضه وسماءٍ من سمائه، خلقٌ من خلقه، وأمرٌ من أمره، وقضاءٌ من قضائه، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فلا يخفى عليه شيء.

إثبات السمع والبصر لله سبحانه

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي: الرزاق لجميع خلقه، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوة والقدرة. قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لأنًَّه الفرد الصمد الذي لا نظير له {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ردٌّ للتشبيه، وفي قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ردٌّ للتعطيل، فتضَمَّنَت (الآية) إثباتاً لصفات الكمال لله تعالى، ونفيَ التشبيهِ عنه تباركَ وتعالى. قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، وأوَّلُ الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا} أي نعم الشيء الذي يعظكم به {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي: سميعاً لأقوالكم بصيراً بأفعالكم.

وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39] . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] . وَقَوْلُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قرأ هذه الآية ويضع إبهامه على إذنه والتي تليها على عينه ويقول: (هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه) رواه أبو داود وغيره، ومعنى ذلك إثبات السمع والبصر حقيقةً لا تشبيه السمع بالسمع والبصر بالبصر، فكما أنَّ ذاته لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} أي هي بمشيئة الله إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وأول الآية قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيوفق من يشاء فضلاً، ويخذل من يشاء عدلاً. قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلاَّ ما كان منها وحشياً فإنَّه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أي: هو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه. وَقَوْلُهُ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125] . وَقَوْلُهُ: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] . {وَأَقْسِطُوا إِنّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَْ} [الحجرات: 9] . {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] . قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} أي: يفتح قلبه

إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه

وينوره حتى يقبل الإسلام {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} أي لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلُصُ إليه ما ينفعه من الإيمان، وليس للخير فيه منفذٌ، {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} أي يشُقُّ عليه الإيمانُ كما يشقُّ عليه صعود السماء {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} .

إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله

قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الإحسان: هو أعلى مقامات الطاعة، قال ابن جرير: (يعني جلَّ ثناؤه بقوله: {وَأَحْسِنُوا} أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من معاصي، ومن الإنفاق في سبيلي، وعَودِ القوي منكم على الضعيف ذي الخلة فإنِّي أحب المحسنين في ذلك. قوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا} أي: اعدلوا في الحكم في الفئتين المتقاتلتين. إن الله يحب المقسطين} ، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين،

الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) رواه مسلم. قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي: متى استقاموا على العهد فاستقيموا لهم. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . وَقَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] . قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قال ابن كثير: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي: من الذنب وإن تكرر غشيانه. {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهى عنه من إتيان الحائض, أو في غير المأتى. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} قال ابن كثير: أي يحصلُ لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إيَّاه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء والحكماء: (ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ) . ثم قال تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنَّه كاذبٌ في نفس الأمر. قال الحسن البصري: (زعم قومٌ أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية. قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فيه إثبات صفة محبة الله تعالى لعباده على ما يليق بجلاله. قال الحسن: علم الله تبارك وتعالى أن قوماً

إثبات اتصافه بالرحمة والمغفرة سبحانه

يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} روى أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفُّوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال) . وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] . وَقَوْلُهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] . {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] . {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] . {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} [الأعراف: 156] . {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] . قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال ابن كثير: أي: يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه، ولو كان الذنب من أي شيءٍ كان. والودود: قال ابن عباس وغيره: هو الحبيب. قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الحديث: " أن عيسى عليه السلام قال للمعلم؟ الرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة ". قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وأول الآية: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي: رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأحوالهم {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} .

قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره وكان بالمؤمنين به ورسوله ذا رحمة أن يعذبهم وهم له مطيعون, ولأمره متبعون. {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} . قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي: عمَّت كلَّ شيء، قال الحسن: وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصَّة. قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} قال ابن كثير: أي: أوجبها على نفسه الكريمة؛ تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً. {ِوَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] . {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] . قَوْلُهُ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] . {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] . وَقَولُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] . قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده حتى من الشرك، الرحيم بمن آمن به وأطاعه. قوله تعالى: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي: فسيرحم كِبَري وضَعفي، ووجدي بولدي، وأرجو من الله أن يردَّه علي، ويجمع شملي به، إنه أرحم الراحمين، فهو أرحم لعباده من كلِّ أحد.

ذكر رضى الله وغضبه وسخطه وكراهيته وأنه متصف بذلك

قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} قال ابن جرير: يقول تعالى عز وجل: رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له ما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه، {وَرَضُوا عَنْهُ} يقول: ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه، فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} أي: عامداً قتله {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بقتله إياه متعمداً {وَلَعَنَهُ} أبعده عن رحمته وأخزاه وأعدَّ له عذاباً عظيماً، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن فعل مثل هذا الذنب العظيم. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} من طاعة الشيطان {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} من طاعة الرحمن {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} لأنها عُمِلت في غير مرضاته. {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] . وَقَوْلُهُ: {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] . وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مقْتًا عندَ اللَّهِ أن تقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . َقَولُهُ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: 210] . {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ ربِّكَ} [الأنعام: 158] . قوله تعالى: {فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي: أغضبونا {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بعاجل العذاب {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} .

قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} أي: منعهم وحبسهم عن الخروج {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} . قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} قال البغوي: أي: عظم ذلك في المقت والبغض عند الله، أي، أنَّ الله يبغض بغضاً شديداً أن تقولوا ما لا تفعلون، أي: أن تعِدوا من أنفسكم شيئاً ثم لم تفوا به. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا اصدقوا الله ورسوله، {لِمَ تَقُولُونَ} القول الذي لا تُصدِّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالِفة أقوالَكم {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} يقول: عظُم مقتا [عند ربكم قولكم ما لا تفعلون] .

ذكر مجيء الله لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله

وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ} قال ابن كثير: يقول تعالى مهدداًُ الكافرين: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} يعني: يوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال تعالى: {وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} . {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21: 22] . {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] . وَقَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] . {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ} قال ابن جرير: (يقول جلَّ ثناؤه هل ينظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت، فتقبض أرواحهم، أو أن يأتيهم ربك - يا محمد - للقضاء بين خلقه في موقف القيامة، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ} يقول: أو أن يأتيهم بعض آيات ربك, وذلك - فيما قال بعض أهل التأويل -: طلوع الشمس من مغربها. قوله تعالى: {كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا} قال ابن كثير: أي: وطِّئت ومُهِّدت وسُوِّيت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربهم، و {جَاء

َ رَبُّكَ} يعني: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق - صلوات الله وسلامه عليه - فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفِّعه الله تعالى في ذلك -وهي أول الشفاعات-، وهي المقام المحمود، فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً. قوله تعالى {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا} قال ابن جرير: وتأويل الكلام: ويوم تشقق السماء عن الغمام، وقيل أن ذلك غمام أبيض مثل الغمام الذي ظُلِّل على بني إسرائيل، ثم ذكر عن مجاهد قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} قال: هو الذي قال: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ، الذي يأتي الله فيه يوم القيامة, ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل. قال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه ......................................................................... غمامٌ زعموا في الجنة. وذكر بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله حين يهبط، بينه وبين خلقه سبعون [ألف] حجاب منها النور والظلمة والماء، فيضرب الماء في تلك صوتاً تنخلع له القلوب. وعن عكرمة في قوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} يقول: والملائكة حوله. وعن ابن عباس قال: إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجن والإنس، وهو يوم التلاق، يوم يلتقي أهل السماء وأهل

الأرض، فيقول أهل الأرض: جاء ربنا. فيقولون: لم يجئ وهو آتٍ، ثم تشقق السماء الثانية، ثم سماءٌ سماءٌ، على قدر ذلك من التضعيف، إلى السماء السابعة، فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السماوات، ومن الجن والإنس. قال: فتنزل الملائكة الكروبيون، ثم يأتي ربنا تبارك وتعالى في حملة العرش الثمانية، بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة، قال: وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه، وكل ملك منهم واضع رأسه بين يديه يقول: سبحان الملك القدوس، وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القَباءُ، والعرش فوق ذلك، ثم وقف. انتهى. قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره (¬1) إلاَّ الله تعالى ورسوله. ¬

(¬1) أي: تفسير هيئة الصفة وكيفيتها، بل نفوض الكيفية إلى علم الله عز وجل، أمَّا الصفة فإنَّ مذهب السلف إثبات صفات الله عز وجل، وإثبات معناها، وتفويض الكيفية إلى علم الله عز وجل، لأن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، ولله عز وجل المثل الأعلى.

إثبات الوجه لله سبحانه

قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} ، وقبلها {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس فإنه هالك، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} يا محمد {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} . وَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] . {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64] . {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} من نعت الوجه، فلذلك رفع {ذُو} . وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بالياء - {ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} - على أنه من نعت الرب وصفته، قال ابن عباس: {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} ذو العظمة والكبرياء. قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي: كل شيء هالكٌ إلاَّ هو، قال ابن كثير في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السموات إلاَّ من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبداً.

وهذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية بأنه ذو الجلال والإكرام. قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} قال ابن جرير: يقول تعالى: قال الله لإبليس, إذ لم يسجدْ لآدمَ وخالفَ أمرَه: يا {إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} يقول: أيُّ شيءٍ منعك من السجود {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يقول: لخلق يدي. يخبر تعالى ذكره بذلك، أنه خلق آدم بيده، ثم ساق بسنده عن ابن عمر: خلق الله أربعةً بيده: العرش، وعدن، والقلم, وآدم. ثم قال لكل شيءٍ: كن فكان. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} قال ابن عباس: ليس يعنون بذلك أنَّ يدَ الله موثقة، ولكنهم يقولون أنه بخيل أمسكَ ما عنده, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وقال الضحاك: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} يقولون: إنه بخيل ليس بجواد. قال الله: {غُلَّتْ وَقَولُهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] . {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13: 14] . {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] . أَيْدِيهِمْ} أمسِكت أيديهم عن النفقة والخير، ثم قال يعني نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، يقول لا تمسك يدك عن النفقة، قال البغوي: ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كلتا يديه يمين". والله أعلم بصفاته, فعلى العباد فيها الإيمان

والتسليم، وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: أمرُّوها كما جاءت بلا كيف. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} يا محمد الذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه وبلِّغ رسالاته {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} يقول جلَّ ثناؤه: فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملَك, ونحن نحوطُك ونحفظُك فلا يصِلُ إليك من أرادك بسوء من المشركين. قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} قال ابن كثير: أي: تجري بأمرنا وبمرأى منا ونحو حفظنا وكلاءتنا {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي: جزاءً لهم على كفرهم بالله وانتصاراً لنوحٍ عليه السلام. قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي: بمرأى مني. قال قتادة: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} هو غذاؤه, ولتغذُ على عيني. قال ابن كثير: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أي: عند عدوك جعلته يحبك. قال سلمة بن كهيل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قال: حببتك إلى عبادي. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال أبو عمران الجوني: تُربى بعين الله. وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحيث أرى. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف، وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة. انتهى.

إثبات السمع والبصر لله سبحانه

وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] . وَقَوْلُهُ: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] . وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمدلله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية. رواه أحمد وغيره. قال ابن جرير: يقول تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} يا محمد، {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} يقول وتشتكي المجادلةُ - ما لديها من الهم بظهار زوجها منها - إلى الله، وتسأله الفرج. {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} يعني: تحاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمجادِلة خولة بنت ثعلبة {أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يقول تعالى ذكره: إن الله سميع لما يتجاوبانه ويتحاورانه، وغير

ذلك من كلام خلقه، بصير يما يعملون ويعمل جميع عباده. قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قالت اليهود: يا محمد، افتقر ربُّك فسأل عبادَه القرض، فأنزل الله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية. قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} قال البغوي: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} ما يُسِرّونه {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] ، {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217: 219] عن غيرهم ويتناجونه بينهم، {بَلَى} نسمع ذلك ونعلم، {وَرُسُلُنَا} أيضاً من الملائكة يعني الحفظة {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} قال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنعه، لست بغافل عنكما فلا تهتما. وقال ابن جرير: يقول الله تعالى ذكره: قال الله لموسى وهرون {لا تَخَافَا} فرعون، {إِنَّنِي مَعَكُمَا} أعِينكما عليه، وأبصركما {اسْمَعُ} ما يجري بينكما وبينه، فأُفهِمُكما ما تحاورانه به، {وَارَى} ما تفعلان ويفعل، لا يخفى علي من ذلك شيء.

قوله تعالى {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم أبوجهل إذ ينهى محمداً عن عبادة ربه والصلاة له، بأنَّ الله يراه، فيخاف سطوتَه وعقابَه. وقال ابن كثير: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي: أمَا علِمَ هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتمًَّ الجزاء. قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، قال ابن جرير: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} إلى صلاتك، ويرى {تَقَلُّبَكَ} في المؤتمين بك فيها بين قيام وركوع وسجود وجلوس {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} تلاوتك يا محمد، وذكرك في صلاتك ما تتلو وتذكر، {الْعَلِيمُ} بما تعمل فيها ويعمل فيها من يتقلب فيها معك، مُؤتَماً بك، يقول: فرتِّل فيها القرآن، وأقم حدودها فإنك بمرأى من ربك ومسمع. {وَقُل اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] . وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَال} [الرعد: 13] ، وَقَوْلُهُ: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] ، قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَقُلْ} يا محمد لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك، {اعْمَلُوا} بما يرضيه من طاعته وأداء فرائضه، {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} يقول: فسيرى اللهُ إن عملتم عملكم، ويراه رسوله {وَالْمُؤْمِنُونَ} في الدنيا {وَسَتُرَدُّونَ} يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم فلا يخفى عليه شيء من باطن

أموركم وظواهرها {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون، وما منه خالصاً وما منه رياءً، وما منه طاعةً وما منه معصيةً، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به

قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ، قال ابن كثير: وقوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} أي: يَشُكُّون في عظمته، وأنه لا إله إلا هو، {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} . قال ابن جرير: شديدةٌ مما حلتُه في عقوبة من طغى عليه وعتَا، وتمادى في كفره. وهذه الآية شبيهةٌ بقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50 - 51] وعن علي رضي الله عنه: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي: شديد الأخذ. وقال مجاهد شديد القوة. قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} قال ابن

جرير: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أن عيسى أحَسَّ منهم الكفر. وقَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15: 16] . وكان مكرهم الذي وصفهم الله به مواطأة بعضهم بعضاً على الفتك بعيسى وقتله. قال: وأما مكر الله بهم فإنَّه -فيما ذكر السُدِّي-: إلقاؤُه شَبَهَ عيسى على بعض أتباعه، حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك ... إلى أن قال: وقد يحتمل أن يكون معنى مكر الله بهم استدراجه إياهم، ليبلُغَ الكتاب أجله. وقال البغوي: المكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة، ومن الله استدراج العبد وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم، كما قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] . قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض بصالح؛ بمصيرهم إليه ليلاً ليقتلوه وأهله، وصالح لا يشعر بذلك {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} يقول: فأخذناهم بعقوبتنا إياهم وتعجيل العذاب لهم، و {هُمْ لا يَشْعُرُونَ} بمكرنا. وقد بينَّا فيما مضى معنى مكر الله بمن مكر به، وما وجه ذلك، وأنَّه أخذُهُ من أخذَهُ منهم على غِرَّةٍ، أو استدراجُه من استدرجَ منهم على كفرِه

به ومعصيتِه إيَّاه، ثمَّ إحلالهُ العقوبةَ على غِرَّةٍ وغفلةٍ. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16] قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المكذبين بالله ورسوله والوعد والوعيد يمكرون مكراً، وقوله: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} يقول وأمكر مكراً، ومكره جلَّ ثناؤه بهم إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به. وقَوْلُهُ: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] . وقال البغوي: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} يخافون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهرون ما هم على خلافه، {وَأَكِيدُ كَيْدًا} وكيد الله استدرجه إياهم من حيث لا يعلمون. قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] ، قال ابن جرير: يعني بذلك جلَّ ثناؤه {إِنْ تُبْدُوا} أيها الناس {خَيْرَا} يقول: إن تقولوا جميلاً من القول لمن أحسن إليكم، فتُظهروا ذلك شكراً منكم له على ما كان منه من حَسَنٍ إليكم، {أَوْ تُخْفُوهُ} يقول: أو تتركوا إظهار ذلك فلا تُبدوه، {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} يقول: أو تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي قد أذنتُ لكم أن تجهروا له به {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} يقول: لم يزل ذا عفوٍ عن خلقه، يصفح لهم عمَّن عصاه، وخالف أمره، {قَدِيرًا} يقول: ذا قدرةٍ على الانتقام منهم، وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفوٍ عن عباده مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه، يقول: فاعفوا أنتم أيضاً أيها الناس عمن أتى إليكم ظلماً، ولا

وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة

تجهروا له بالسوء من القول إلاَّ من ظُلم. وقال ابن كثير: وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} أي: إن تُظهروا أيها الناس خيراً أو أخفيتموه، أو عفوتم عمَّن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربِّكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإنَّ من صفاته تعالى أن يعفوَ عن عباده مع قدرته على عقابهم، ولهذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ولهذا وردَ في الأثر: أنَّ حملة العرش يُسبِّحون الله فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد مقدرتك. وفي الحديث الصحيح: "ما نقص مالٌ من صدقةٍ، ولا زادَ الله عبداً بعفوٍ إلاَّ عزاً ومن تواضع لله رفعه". {ِوَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] . وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] ، وأول الآية {وَلا يَأْتَلِ} أي: لا يحلف، {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} . قال ابن جرير: يقول: {وَلْيَعْفُوا} عمَّا كان منهم إليهم من جُرم،

وذلك كجُرمِ مِسطحٍ إلى أبي بكر، في إشاعته على ابنته عائشة ما أشاع من الإفك، {وَلْيَصْفَحُوا} يقول: وليتركوا عقوبته على ذلك بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم، {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} يقول: ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم، بإفضالكم عليهم، فيترك عقوبتكم عليها {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لذنوب من أطاعه، واتبع أمره {رَّحِيمِ} بهم أن يعذبهم مع اتباعهم أمره وطاعتهم إياه على ما كانت لهم من زلة وهفوة، قد استغفروه منها، وتابوا إليه من فعلها.

إثبات الاسم لله ونفي المثل عنه

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المنافقون الذي وصف صفتهم قبلُ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} فيها، ويعني بالأعز الأشد والأقوى، قال الله جل ثناءه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} يعني: الشدة والقوة، {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} بالله {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} ذلك. قال البغوي: فعزة الله قهره من دونه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم. وَقَوْلُهُ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] . وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] . قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: قال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ} أي: بقدرتك وسلطانك وقهرك من دونك من خلقك، {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يقول: لأضِلَّنَّ بني آدم أجمعين، {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} يقول: إلا مَنْ أخلصته منهم لعبادتك، وعَصَمتَه من إضلالي، فلم تجعل لي عليه سبيلاً، فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه.

وذكر بسنده عن قتادة قال: علِمَ عدوُّ الله أنه ليست له عزَّة. قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: تبارك ذكرُ ربك يا محمد، {ذِي الْجَلالِ} يعني: ذي العظمة، {وَالإكْرَامِ} يعني: ومن له الإكرام من جميع خلقه. وذكر بسنده عن ابن عباس: قوله: {ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} يقول ذو العظمة والكبرياء. وقال ابن كثير: أي: هو أهلٌ أن يُجَلَّ فلا يُعصَى، وأن يُكرمَ فيُعبد، ويُشكَر ولا يُكفَر، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام ". وفي الحديث الآخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً وقال: " اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ". قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال ابن جرير: وقوله {فَاعْبُدْهُ} يقول: فالزم طاعته، وذل لأمره ونهيه، {وَاصْطَبِرْ

لِعِبَادَتِهِ} . يقول: واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه، والعمل بطاعته، تفز برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عِدْلَ ولا شبيه في جُوده وكرمه وفضله، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] . {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] ، وَقَوْلُهُ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . يقول: هل تعلمُ يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته، والصبر على طاعته مِثْلاً في كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا، ما ذلك بموجود. وذكر بسنده عن ابن عباس في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: شبيهاً. قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قال أبو العالية: لم يكن له شبيهٌ ولا عِدلٌ وليس كمثله شيء. قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال ابن جرير: الأندادُ جمعُ نِدِّ، والنِّدُّ: العِدْلُ والمِثْلُ. وذكر بسنده عن ابن عباس في قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: أشباهاً. وعن قتادة في قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض، ثم تجعلون له أنداداً. وقال البغوي: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي: أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله.

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} قال ابن كثير: يذكر تعالى حال المشركين في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أنداداً، أي: أمثالاً ونظراء، يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند، ولا شريك له.

نفي الشريك عن الله تعالى

قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه .......................................................................... محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَقُلْ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} فيكون مربوباً لا رباً؛ لأن رب الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} عاجزاً ذا حاجةٍ إلى معونة غيره ضعيفاً، ولا يكون إلها من يكون محتاجاً إلى مُعين على ما حاول، ولم يكنْ منفرداً بالملك والسلطان، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} يقول: ولم يكن له حليفٌ حالفَه من الذُّلِّ الذي به؛ لأن من كان ذا حاجة إلى نُصرة غيره، فذليل مهين، ولا يكون من كان

ذليلاً مهيناً يحتاج إلى ناصر إلهاً يطاع، {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} يقول: وعظِّم ربك يا محمد بما أمرناك أن تعظمه به من قول وفعل، وأطعه فيما أمرك ونهاك. وقال ابن كثير: لمَّا أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى، نزَّه نفسه عن النقائص فقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} بل هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي: ليس بذليل فيحتاج أن يكون له ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له. قال مجاهد في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} لم يحالف أحداً، ولم يبتغ نصرة أحد. {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أي: عظِّمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً. قال ابن جرير: حدثني يونس: أنبأنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الآية قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولداً. وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله هذه الآية {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} . {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] قَوْلُهُ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1: 2] ،

قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: يسجد له ما في السماوات السبع، وما في الأرض من خلقه ويعظمه. وقوله {لَهُ الْمُلْكُ} : يقول تعالى ذكره: له ملك السماوات والأرض، وسلطانه ماضٍ قضاؤه في ذلك كله، نافذ فيه أمره. وقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ} يقول: وله حَمْدُ كل ما فيها من خلقٍ؛ لأن جميع مَنْ في ذلك من الخلقٍ لا يعرفون الخيرَ إلا منه وليس لهم رازقٌ سواه، فله حمدُ جميعهم. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يقول: وهو على كل شيء ذو قدرة، يقول: يخلق ما يشاء، ويميت من يشاء، ويغني من أراد، ويفقر من يشاء، ويعز من يشاء. ويذل من يشاء، ولا يتعذر عليه شيءٌ أراده؛ لأنه ذو القدرة التامة التي لا يُعجزُه معها شيء. قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: تبارك تفاعل من البركة، وهو كقول القائل: تقدَّس ربنا. فقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} يقول: تبارك الذي نزل الفصل بين الحق والباطل فصلاً بعد فصل، وسورةً بعد سورة. {عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون محمدٌ لجميع الجن والإنس الذين بعثه الله إليهم داعياً إليه.

{نَذِيرًا} يعني منذراً ينذرهم عقابه ويخوفهم عذابه، إن لم يوحدوه، ويخلصوا له العبادة، ويخلعوا كل ما دونه من الآلهة والأوثان. ......................................................................... {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . يقول تعالى ذكره: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} ، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الذي له سلطان السموات والأرض يُنفذ في جميعها أمره وقضاءه، ويُمضي في كلها أحكامه، يقول: فحق على من كان كذلك أن يطيعه أهل مملكته، ومن في سلطانه، ولا يعصوه. يقول: فلا تعصوا نذيري إليكم أيها الناس واتبعوه، واعملوا بما جاءكم به من الحق. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} يقول تكذيباً لمن أضاف إليه الولدَ، وقال: الملائكة بنات الله: ما اتخذ الذي نزَّل الفرقان على عبده ولداً، فمن أضاف إليه ولداً فقد كذب وافترى على ربه. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} يقول تكذيباً لمن يُضيف الألوهية إلى الأصنام ويعبدها من دون الله من مشركي العرب - ويقول في تلبيته: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك -: كذب قائلوا هذا القول، ما كان لله من شريكٍ في مُلكه وسلطانه فيصلح أن يُعبد من دونه، يقول تعالى ذكره: فأفردوا أيها الناس لربكم - الذي نزل الفرقان على عبده محمد نبيه - صلى الله عليه وسلم - الألوهية، وأخلصوا له العبادة دون كل ما تعبدونه من دونه من الآلهة والأصنام والملائكة والجن والإنس؛ فإن كل ذلك خلقه وفي ملكه، فلا تصلح العبادة إلا لله الذي هو مالك جميع ذلك.

وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} يقول تعالى ذكره: وخلق الذي نزَّل على محمد الفرقان كلَّ شيء، فالأشياء كلها خلقه وملكه، وعلى المماليك طاعة مالكهم وخدمة سيدهم دون غيره، يقول: وأنا خالقكم ومالِكُكم، فأخلصوا لي العبادة دون غيري. وقوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} يقول: فسوَّى كلَّ ما خلق، وهيَّأه لما يصلح له فلا خلل فيه ولا تفاوت. وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 92] ، {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] . {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 33] . قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يقول تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} أي لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لغلب بعضهم بعضاً كالعادة بين الملوك، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} من الولد والشريك، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ما غاب عن خلقه وما رأوه. {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فارتفع الله وعلا عن شرك هؤلاء المشركين، ووصفِهِم إياه بما يصفون. قوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} قال ابن جرير: يقول: فلا تمثلوا لله الأمثال، ولا تشبهوا له الأشباه؛ فإنه لا مِْثلَ له ولا شِبه، فإنه أحدٌ صمدٌ، لم يلد ولم يُولد، ولم يكن له كُفُواً أحد.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يقول: والله أيها الناس يعلم خطأ ما يمثِّلون ويضربون من الأمثال، وصوابه، وغير ذلك من سائر الأشياء، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} صواب ذلك من خطئه. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} ما تزايد قبحه من الكبائر، {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} جهرها وسرها. {وَالإثْمَ} كل ذنب. {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: الظلم.

إثبات استواء الله على عرشه

وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . فِي [سَبْعَةِ] مَوَاضِعَ: فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] . وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} [يونس: 3] . {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} برهاناً، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} بالافتراء عليه، والكذب من دعوى أنَّ له ولداً، ونحو ذلك مما لا علم لكم به. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء. {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة. وقال ابن كثير: أما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي، والثوري والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا

تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبِّهين منفيٌ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيءٌ من خلقه، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نُعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شَبَّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس في ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى. انتهى. وَقَالَ فَي سُورَةِِ الرَّعْدِِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] . وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اْستَوَى} [طه: 5] . وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] . وَقَالَ فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: {اللَّهُ الَّذِي خلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] . وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] . وقال البغوي: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي ومقاتل: استقر، وقال أبو عبيدة: صعد، وأوَّلت المعتزلة الاستواءَ بالاستيلاء، فأمَّا أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. وسأل رجلٌ مالكَ بن أنس عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليّاً وعلاه الرحضاء (¬1) ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاًّ، فأمر به فأخرج. ¬

(¬1) أي: يكلون العلم بكيفية ذلك، أمَّا العلم بمعنى الصفة نفسها فكما قال مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول.

وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات: أمرُّها كما جاءت بلا كيف. انتهى. وقال في "جامع البيان": أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفةٌ له بلا كيف، نؤمن به، ونكِلْ العلم إلى الله تعالى. .......................................................................... قوله تعالى سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن جرير: قوله تعالى ذكره: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السماوات السبع، والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهير، ثم استوى على عرشه مُدبِّراً للأمور، وقاضياً في خلقه ما أحب، لا يضادُّه في قضائه أحد، ولا يتعقَّب تدبيره متعقِّب، ولا يدخُل أموره خللٌ. وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خَلَق السماوات والأرض في ستة أيام، قيل: كهذه الأيام، وقيل كل يومٍ كألف سنة ممَّا تعدُّون. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها.

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: الله -يا محمد- الذي رفع السماوات السبع بغير عمدٍ ترونها، فجعلها للأرض سقفاً مسموكاً ... إلى أن قال: وأمَّا قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فإنه يعني: عَلاَ عليه. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن كمال قدرته، وعظيم سلطانه: أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخيره، رفعها عن الأرض بُعداً لا تنال، ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطةٌ بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعةٌ عليها من كل جانب على السواء، وبُعدُ ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام. وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام وسُمْكها خمسمائة عام، وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ} الآية. .......................................................................... وفي الحديث: " ما السماوات السبع وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرضٍ فلاة والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك

الفلاة"، وفي رواية: "والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل ". وجاء عن بعض السلف أن بُعْدَ ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبُعدَ ما بين قطبيه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتةٍ حمراء. وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدَّم تفسيره في سورة الأعراف، وأنَّه يُمَرُّ كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا. وقال ابن كثير وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} : تقدَّمَ الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً، وأنًَّ المسلك الأسلم في ذلك طريقةُ السلف: إمرارُ ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل. قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قيل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد، والفراغ يوم الجمعة، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وعلا عليه، وذلك يوم السبت فيما قيل.

وقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} يقول: فاسأل يا محمد بالرحمن خبيراً بخلقه, فإنه خالق كل شيء، ولا يخفى عليه ما خلقه. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبَّرهنَّ وما فيهنَّ, ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا.

إثبات علو الله على مخلوقاته

وَقَوْلُهُ: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] . {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه} [النساء: 158] . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36: 37] قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} قال ابن جرير: يعني بذلك جلَّ ثناؤه، ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم، إذ قال الله جل ثناؤه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فـ (إن) صلة من قوله {وَمَكَرَ اللَّهُ} يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فتوفاه الله ورفعه إليه. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي رفعي إياك إلى السماء. قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} قال ابن جرير: يعني بل رفعَ اللهُ المسيحَ إليه، يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكنَّ الله رفعه إليه، فطهَّره من الذين كفروا. قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قال ابن

جرير: يقول تعالى ذكره إلى الله يصعد ذكر العبد إياه, وثناؤه عليه، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} يقول: ويرفع ذكر العبد ربه إليه العمل الصالح، وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمره به. ثم ذكر بسنده عن عبد الله قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده، الحمد لله، لا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله، أخذهن مَلَك فجعلهن تحت جناحيه، ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن, ثم قرأ عبد الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لما وعظه المؤمنُ من آلِهِ بما وعظه به، وزجره عن قتل موسى نبي الله، وَقَوْلُهُ: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] . {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17] . {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] . وحذره من بأس الله على قيله (اقتله) ما حذره لوزيره هامان وزير السوء: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ} يعني: بناءً. {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ} : لعلي أبلغ من أسباب السموات أسباباً أتسبَّبُ بها إلى رؤية إله موسى. وقوله: {وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا} يقول: وإني لأظن موسى كاذباً فيما يقول ويدَّعي من أن له في السماء رباً أرسله إلينا.

قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أيها [الناس] الكافرون {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} يقول: فإذا الأرض تذهب بكم وتجيء وتضطرب، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وهو الله {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} وهو التراب فيه الحصباء الصغار، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} يقول: فستعلمون أيها الكفرة كيف عاقبةُ نذيري لكم، إذ كذبتم به، ورددتموه على رسولي. وقال البغوي: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قال ابن عباس: أي عذاب من في السماء إن عصيتموه.

إثبات معية الله لخلقه

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] . قال ابن جرير: وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} يقول تعالى ذكره مخبراً عن صفته وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ} من خلقه، يعني بقوله: {يَلِجَ} يدخل، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} منهم، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} إلى الأرض من شيء قط، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} فيصعد إليها من الأرض، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يقول: وهو شاهدكم أيها الناس، أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يقول: والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن وسيء، وطاعة ومعصية، ذو بصر، وهو لها محصٍ ليجازيَ المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء

بإساءته يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وأول الآية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فترى أن الله يعلم ما في السماوات والأرض من شيء، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره. يقول جل ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم. ثم وصفهم -جلَّ ثناؤه- قُربَه من عباده وسماعَه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم، فيتحدثون سراً بينهم، فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} من خلقه {إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} يعلم سرهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، {وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} يقول: ولا يكون نجوى خمسةٍ، إلا هو سادسهم كذلك، {ِلاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .، وَقَوْلُهُ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] . {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] . {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ} يقول: ولا أقل من ثلاثة، {وَلا أَكْثَرَ} من خمسة، {إِلا هُوَ مَعَهُمْ} إذا تناجوا، {أَيْنَ مَا كَانُوا} يقول: في أي موضع ومكان كانوا. وعنى بقوله: {هُوَ رَابِعُهُمْ} يعني: أنه شاهدهم بعلمه وهو على عرشه. ثم ساق بسنده عن الضحاك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} إلى

قوله: {هُوَ مَعَهُمْ} قال: هو فوق العرش وعلمه معهم {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وقال ابن كثير: وحكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معيَّة علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضاً مع علمه بهم وبصره نافذٌ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء، قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. قوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} قال ابن جرير: يقول إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر: {لا تَحْزَنُ} ، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحزن إن الله معنا، والله ناصرنا، فلن يعلم المشركون بنا، ولن يصلوا إلينا ". قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} قد تقدمت هذه الآية في الآيات التي فيها إثبات السمع والبصر، والمراد بها هنا إثبات المعيَّة الخاصة. قال ابن كثير: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} أي لا تخافا من فرعون، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه, وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليَّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي؛ فلا يتكلم ولا يتنفس

ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونظري وتأييدي. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} قال ابن جرير: يقول {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] . {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ} يا محمد {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الله في محارمه فاجتنبوها وخافوا عقابه عليها، فأحجموا عنه التقدم عليها، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} يقول: وهو مع الذين يُحسنون رعاية فرائضه، والقيام بحقوقه ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه. وقال ابن كثير: وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معيَّة خاصَّة، كقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} ، وقوله لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصديق وهما في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . وأمَّا المعيَّة العامَّة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وكقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، وكما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} الآية.

ومعنى {الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: تركوا المحرمات، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي: فعلوا الطاعات، فهؤلاء يحفظهم ويكلؤهم، وينصرهم ويؤيدهم، ويُظفِرُهم على أعدائهم ومخالفيهم. قوله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} قال ابن جرير: {وَاصْبِرُوا} يقول: اصبروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنه وتتركونه، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} يقول: اصبروا فإني معكم. وأورد البغوي في تفسير هذه الآية حديث: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا" الحديث. قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] قال ابن جرير على قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية، تأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدِّقون بالمرجع إلى الله للذين قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} يعني بـ {كَمَ} كثيراً غلبت فئة قليلة فئة كثيرة {بِإِذْنِ اللَّهِ} يعني بقضاء الله وقدره، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يقول: مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته، يعني والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله، وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على

أعدائه الصادين عن سبيله المخالفين منهاج دينه، وكذلك يقال لمعين الرجل على غيره: هو معه. بمعنى: هو معه بالعون والنصرة.

إثبات الكلام لله تعالى

قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، وأول الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، قال ابن جرير: يعني بذلك فاعلموا حقيقة ما أخبرتكم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب، والثواب والعقاب يقيناً، فلا تَشُكّوا في صحته، ولا تمتروا في حقيقته، فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خُلْفَ فيه. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، يقول: وأي ناطقٍ صدق من الله حديثاً، وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعاً، أو يدفع به عنها ضراً، والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب؛ لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع، ولا دفع ضر عن نفسه، أو دفع ضر عنها سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظير، ومن أصدق من الله حديثاً وخبراً.

وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} أي لا أحد أصدق منه في حديث وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه. قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} ، قال ابن جرير يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116] . {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا .......................................................................... وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] . أيها الناس، {مِنَ اللَّهِ قِيلا} أي لا أحد أصدق منه قيلاً، فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، وتكفرون به، وتخافون أمره، وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق منه قيلاً، وتعملون بما يأمركم به الشيطان رجاء لإدراك ما يعدكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، وقد علمتم أن عِداتِه غرور لا صحة لها، ولا حقيقة، وتتحذونه ولياً من دون الله، وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فتكونوا له أولياء، ومعنى القيل والقول واحد. وقال ابن كثير: " {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} أي: لا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: " إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ... ، قال ابن جرير: يقول

تعالى ذكره: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} فيقول: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} إذ قال الله {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقيل: إن الله قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا. وساق بسنده عن السُدِّي قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله عن قوله فقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} إلى قوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . وعن ابن جريج {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقر له بالعبودية على نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان كان باطلاً. .......................................................................... وقال ابن كثير على قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآيات: هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبدَه ورسولَه عيسى ابن مريم عليه السلام، قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} , وهذا

تهديدٌ للنصارى وتوبيخٌ وتقريع على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره. قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وكملت كلمة ربك، يعني القرآن، سمّاه كلمةً كما تقول العربُ للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: هذه كلمة فلان. [ {صِدْقًا وَعَدْلا} يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل، والصدق والعدل نُصبا على التفسير للكلمة] كما يقال عندي عشرون درهماً. {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} يقول: لا مغيِّر لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقعٌ فيه، وذلك نظير قوله جل ثناؤه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} . وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} قال قتادة: صدقاً فيما قال، وعدلاً فيما حكم، يقول: صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحقٌّ لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة.

{لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقال البغوي: قوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} قرأ أهل الكوفة ويعقوب {كَلِمَتُ} على التوحيد، وقرأ آخرون: {كَلِمَاتٍ} بالجمع والمراد بالكلمات أمره ونهيه، ووعده ووعيده. {صِدْقًا وَعَدْلا} ، أي صدقاً في الوعد {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] . {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] . {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] . {َنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] . والوعيد، وعدلاً في الأمر والنهي، قال قتادة ومقاتل: صدقاً فيما وعد، وعدلاً فيما حكم، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قال ابن عباس: لا رادَّ لقضائه ولا مغيِّر لحكمه، ولا خُلف لوعده، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قيل: أراد بالكلمات القرآن {لا مبدل له} يريد لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. انتهى. قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} : قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه: وخاطب الله بكلامه موسى خطاباً. وساق بسنده عن نوح بن أبي مريم، وسُئل: كيف كلم الله موسى تكليماً؟ قال: مشافهة. وقال ابن كثير: قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وهذا تشريفٌ لموسى عليه السلام بهذه الصفة، ولهذا يقال له الكليم.

وقال صاحب " الوجيز ": أخبر الله بأنه شرَّف موسى بكلامه وأكَّده بالمصدر دلالةً على وقوع الفعل على حقيقته لا على المجاز. قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ} الذين قصَّ الله قَصَصَهم في هذه السورة؛ كموسى بن عمران، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وشمويل، وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: "هؤلاء رسُلي فضلت بعضهم على بعض، والذي كلَّمته منهم موسى - صلى الله عليه وسلم -، ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة". وساق بسنده عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال: يقول: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات، يقول: كلَّّم الله موسى، وأرسل محمداً إلى الناس كافةً. .......................................................................... وقال البغوي: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} أي: كلمه الله تعالى، يعني موسى عليه السلام، {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ درجات} يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وما أوتي نبيٌّ آيةً إلا أوتي نبينا مثل تلك الآية، وفُضِّل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تُحصى، وأظهرها

القرآن الذي أعجز أهل السماء والأرض على الإتيان بمثله. انتهى. قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الجبل، ويعني بالأيمن يمين موسى؛ لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال قام عن يمين القبلة وعن شمالها. وقوله {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} يقول تعالى ذكره: وأدنيناه مُناجياً كما يقال: فلان نديم فلان ومُنادِمه، وجليس فلان ومُجالسُه، وذُكر أن الله جل ثناؤه أدناه حتى سمع صريف القلم. ثم ساق بسنده عن ابن عباس: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أُدنِيَ حتى سمع صريف القلم. وقال ابن كثير: وقوله {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [أي: الجبل، {الأيْمَنِ} ] أي: الجانب الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن من غربيه عند شاطئ الوادي، فكلَّمه اللهُ تعالى وناداه وقرَّبه فناجاه. قال ابن عباس: أُدني حتى سمع صريف القلم، وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم، يعنون صريف القلم بكتابة التوراة، وقال السدي {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أُدخل في

السماء فكُلِّم، وعن مجاهد نحوه. وقال البغوي: قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ} يعني يمين موسى. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] ، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة} [الأعراف: 22] . وَقَوْلُه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] . والطور: جبل بين مصر ومدين، ويقال اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي: مناجياً، فالنجي المناجي، كما يقال: جليس ونديم، قال ابن عباس: معناه قرَّبه فكلَّمه، ومعنى التقريب إسماعه كلامه، وقيل: رفعه الحجب حتى سمع صريف القلم. انتهى. قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد إذ نادى ربك موسى بن عمران {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يعني: الكافرين {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} عقاب الله على كفرهم به. قوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ونادى آدم وحواءَ ربُّهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدوٌ مبين، يقول: قد أبان عداوته لكما بترك السجود لآدم حسداً وبغياً. وعن ابن عباس قال: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: أكلتَ من الشجرة

التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كُرهاً ولا تضعُ إلا كُرهاً. قال: فرنَّت حواءُ عند ذلك، فقيل لها: الرنَّةُ عليك وعلى ولدك. وعن أُبيّ بن كعب قال: كان آدم رجلاً طُوالاً كأنه نخلة سحوق، كثير شعر الرأس، فلما وقع فيما وقع فيه من الخطيئة بدت له عورته عند ذلك وكان لا يراها، فانطلق هارباً في الجنة، فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة. فقال لها: أرسليني. فقالت: إني غير مرسلتك، فناداه ربه عز وجل: يا آدم أمنِّي تفر؟ قال: يا رب إني استحييتك. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين فيقول لهم: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] . {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} [الفتح: 15] . فيما أرسلناهم به إليكم، من دعائكم إلى توحيدنا، والبراءة من الأوثان والأصنام، {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} . قال مجاهد: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ} قال: الحُجَجُ. يعني الحُجَّة.

قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك يا محمد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحدٌ ليسمع كلام الله منك، وهو القرآن الذي أنزله الله عليك {فَأَجِرْهُ} يقول: فأمِّنه {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وتتلوه عليه {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يقول: ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله - إن هو أبى أن يُسلم، ولم يتعظ بما تلوتَه عليه من كلام الله فيؤمَّن إلى {مَأْمَنَهُ} يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك حتى يلحق بداره وقومه من المشركين. قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال ابن كثير: يقول تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي: ينقاد لكم بالطاعة، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه؛ ثم قست قلوبهم من بعد ذلك {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ

يُحَرِّفُونَهُ} أي: يتأوَّلونه على غير تأويله، {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله. قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: سيقول يا محمد المخلفون في أهليهم عن صحبتك إذا سرتَ معتمراً تريد بيت الله الحرام، إذا انطلقت أنت ومن {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] . صَحِبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة لتأخذوها -وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر-: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر فنشهد معكم قتال أهلها. {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يقول: يريدون أن يُغيِّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية؛ وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضاً من غنائم أهل مكة، إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئاً. وقوله: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل لهؤلاء المخلَّفين عن المسير معك يا محمد: لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا المسير إليهم من قتالهم، {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} . يقول: هكذا قال الله لنا من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا إلى

خيبر؛ لأن غنيمتها لغيركم. قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركن تلاوته واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه، والعمل بحلاله وحرامه فتكون من الهالكين، وذلك أن مصير من خالفه، وترك اتباعه يوم القيامة إلى جهنم، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} يقول: لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك، أهل، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك. وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} يقول: إن أنت يا محمد لم تتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك يا محمد، يقص على بني إسرائيل الحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] . {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ، وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى، فقالت اليهود فيه ما قالت، وقالت النصارى فيه ما قالت، وتبرَّأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وغير ذلك من الأمور التي اختلفوا فيها، فقال جل ثناؤه لهم: إن هذا القرآن يقص عليكم الحق فيما اختلفتم، فاتبعوه، وأقرُّوا لما فيه، فإنه يقص عليكم بالحق، ويهديكم إلى سبيل الرشاد.

إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى

قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} يقول: فاجعلوه إماماً تتبعونه وتعملون بما فيه أيها الناس، {وَاتَّقُوا} يقول: واحذروا الله في أنفسكم أن تضيعوا العمل بما فيه، وتتعدوا حدوده، وتستحلوا محارمه. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يقول: لتُرحموا؛ فتنجوا من عذاب الله وأليم عقابه. وقال ابن كثير: في الدعوة إلى اتباع القرآن، يرغَِّب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه، ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين. قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى

جَبَلٍ} وهو حجر {لَرَأَيْتَهُ} يا محمد {خَاشِعَا} يقول: متذلِّلاً {مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} على قساوته، حذراً من أن لا يؤدِّي حقَّ الله المفترض عليه في تعظيم القرآن، وقد أُنزل على ابن آدم، وهو بحقِّه مستخفّ، وعنه وعمَّا فيه من العبر والذكر مُعرض، كأن لم يسمعها، كأنَّ في أذنيه وقراً، وساق بسنده عن ابن عباس من قوله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قال: يقول: لو {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] . {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102] . أني أنزلتُ هذا القرآن على جبل حمَّلتُه إياه، تصدَّع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله عز وجل الناسَ إذا أُنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشُّع. قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حُكمَ أُخرى، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} . يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغيِّر من أحكامه، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} . يقول: قال المشركون بالله المكذِّبون لرسولِه: {إِنَّمَا أَنْتَ} يا محمد {مُفْتَرِ} أي: مكذب، تخرصُ بتقوُّل الباطل على الله، يقول الله تعالى: بل أكثر هولاء القائلين لك يا محمد: إنما أنت مفترٍ. جُهَّالٌ بأن الذي تأتيهم به من عند الله، ناسخه ومنسوخه، لا يعلمون حقيقة صحته. قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ

آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلُ} يا محمد للقائلين لك {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} ، فيما تتلو عليهم من آي كتابنا، {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} يقول: قل جاء به جبريل من عند ربي بالحق. وقوله {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا} يقول تعالى ذكره: قل نزَّل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه روح القدس عليَّ من ربي, تثبيتاً للمؤمنين، وتقوية لإيمانهم، ليزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيماناً لإيمانهم، وهدىً لهم من الضلالة، وبشرى للمسلمين الذين استسلموا لأمر الله، وانقادوا لأمره ونهيه، وما أنزله في آي كتابه، فأقرُّوا بكلِّ ذلك, وصدقوا به قولاً وعملاً. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يعَلِّمَهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] . وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22: 23] قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون - جهلاً منهم -: إنما يعلّم محمداً هذا الذي يتلوه بشرٌ من بني آدم، وما هو من عند الله، يقول الله تعالى ذكره مكذِّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون؟ إن لسان الذي تلحدون إليه أعجمي، يقول: تميلون إليه بأنه يعلم محمداً أعجمي. وذلك أنهم فيما ذُكِر كانوا يزعمون أن الذي يُعلّم محمداً هذا القرآن عبدٌ رومي، فلذلك قال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وهذا القرآن لسانٌ عربيٌ مبين.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة، {نَاضِرَةٌ} يقول: حسنة جميلةٌ من النعيم، يقال من ذلك: نَضُرَ وجهُ فلان، إذا حَسُنَ من النعمة، ونضَّر اللهُ وجهه إذا حسَّنه كذلك. وساق بسنده عن الحسن في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: حسنة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضُرَ وهي تنظر إلى الخالق. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه ألفي سنة ",قال: "وإنَّ أفضلهم منزلة لمن ينظرُ في وجه الله كلَّ يومٍ مرَّتين " قال: ثمَّ تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: بالبياض والصفاء، قال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: " تنظر كلَّ يومٍ في وجه الله عز وجل ". وقال ابن كثير: وقد ثبتت رؤية المؤمن لله عز وجل في الدار الآخرة في

الأحاديث من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة في الصحيحين: أنَّ ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تُضارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحابة؟ " قالوا: لا. قال: "فإنَّكم ترون ربكم كذلك ". وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " جنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنَّتان من فضة آنيتهما وما فيهما، ومابين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن". قوله تعالى: {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بقوله: {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} على السرر في الحجال من اللؤلؤ والياقوت، ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والنعيم والحبور في الجنات. وقال على قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} يقول تعالى ذكره: {فَالْيَوْمَ} وذلك يوم القيامة {الَّذِينَ آَمَنُوا} بالله في الدنيا {مِنَ الْكُفَّارِ} فيها {يَضْحَكُونَ} ، {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} يقول: على سررهم التي في الحجال ينظرون إليهم وهم في الجنة، والكفار

في النار يُعذَّبون. وقال في قوله تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أي: محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} أي: يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فيها فضلٌ عميم {عَلَى الأرَائِكِ} وهي: السرر تحت الحجال، {يُنْظَرُونَ} ، قيل: معناه: ينظرون في .......................................................................... ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد، وقيل: معناه {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} إلى الله عز وجل. وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم، كما تقدم في حديث ابن عمر: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين ". وقال أيضاً: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} أي: في مقابل ما ضحك بهم أولئك {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} أي: إلى الله عز وجل، في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون، ليسوا بضالين؛ بل هم من أولياء الله المقربين،

ينظرون إلى ربهم في دار كرامته. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل، وهذا قول أبي بكر الصديق وغيره من السلف والخلف. قال ابن جرير: إن الله تبارك وتعالى وعد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى أن يجزيهم على طاعتهم إياه الجنَّة، وأن يبيِّض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها، ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفاً من لآلئ، وأن يزيدهم غفراناً ورضواناً، كل ذلك من زيادات عطاءِ اللهِ إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال ابن جرير: وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} يقول: لهؤلاء المتقين ما يُريدون في هذه الجنة التي أُزلفت لهم من كل ما تشتهيه نفوسهم وتلذُّه أعينهم، وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} يقول: وعندنا لهم .......................................................................... على ما أعطيناهم من هذه الكرامة التي وصف جلَّ ثناؤه صفتها مزيدٌ يزيدهم إيَّاه، وقيل إن ذلك المزيد النظر إلى الله جل ثناؤه. ذكرُ من قال ذلك: حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي قال: حدثنا قرة بن عيسى قال: حدثنا النضر بن عربي عن جده عن أنس: " إن الله عز وجل

إذا أسكن أهلَ الجنةِ الجنة وأهلَ النارِ النارَ، هبط إلى مرج من الجنة أفيح، فمدَّ بينه وبين خلقه حُجُباً من لؤلؤ، وحُجُباً من نور، ثم وضعت منابر النور، وسُرُر النور، وكراسي النور، ثم أُذِن لرجلٍ على الله عز وجل.. إلى أن قال: ثم ناداهم الرب عز وجل من وراء الحُجُب: مرحباً بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا وكُسُوا وطيبوا، وعزَّتي لأتجليَنَّ لهم حتى ينظروا إليّ. فذلك انتهاء العطاء وفضل المزيد. قال: فتجلَّى لهم الرب عز وجل ثم قال: السلام عليكم عبادي، انظروا إليَّ فقد رضيت عنكم " الحديث. فَصْلٌ: ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك. َ فَمِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم ـ: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: - صلى الله عليه وسلم ـ: (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ) . حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم ـ: (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ) . مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ) . وقال البغوي: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ، وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاؤوا، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه، وهو قوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} , يعني الزيادة لهم في النعيم مما لم يخطر ببالهم. وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم.

إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه

وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: (رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ فَيَبْرَأَ) . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ، وَقَوْلُهُ: (أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ (حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قال البغوي في "شرح السنَّة": القَدم والرِجْل المذكوران في هذا الحديث من صفات الله المنزَّهة عن التكييف والتشبيه، وكذلك كلُّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب والسنَة كاليد والإصبع وغيرها، فالإيمان بها فرضٌ، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي يسلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطِّل، والمكيِّف مشبِّه، تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . انتهى. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون الشبيه لو قيل له يدٌ كيدٍ وسمعٌ كسمعٍ. وقال ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولم يكيِّفوا شيئاً منها، وأمَّا الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا: من أقرَّ بها فهو مشبِّه؛ فسمَّاهم من أقرَّ بها معطِّلة. انتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال البخاري: باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع فسوَّاهنَّ: خلقهنَّ. وقال مجاهد: استوى: علا على العرش. وَقَوْلُهُ: (وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: (أَيْنَ اللهُ؟) . قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (مَنْ أَنَا؟) . قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قال الحافظ: وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب " الفاروق " بسنده

إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله ابن الأعرابي - يعني محمد بن زياد اللغوي - فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: هو على العرش كما أخبر. فقال: يا أبا عبد الله، إنما معناه استولى. فقال: اسكت، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضادٌّ. وقال غيره: لوكان بمعنى استولى لم يختص بالعرش لأنه غالبٌ على جميع المخلوقات. ونقل محيي السنة البغوي في " تفسيره " عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه: ارتفع. وقال أبو عبيد والفرَّاء وغيرهما بنحوه. وأخرج أبو القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " من طريق الحسن البصري عن أمِّه عن أمِّ سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. وأخرج البيهقي بسندٍ جيد عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. انتهى. وقال في " شرح الطحاوية ": " روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه " الفاروق " بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمَّن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض! فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سمواته. قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر.

إثبات معية الله تعالى لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه

وَقَوْلُهُ: (أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ) . حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ) . رِوَايَةُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: (أَيُّهَا النَّاسُ! أرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا. إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَن رَّبِهِ بِمَا

موقف أهل السنة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفة الربانية

يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ؛ بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ؛ فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة؛ ِ وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ والْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ. وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ. وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الرَّافِضَةِ والْخَوَارِجِ. قال في "فتح الباري" في أول كتاب التوحيد: قال ابن حزم في كتاب "الملل والنحل" .......................................................................... فِرَق المقرّين بملة الإسلام خمس "، أهل السنة، ثم المعتزلة، ومنهم القدرية، ثم المرجئة ومنهم الجهمية والكرَّامية، ثم الرافضة ومنهم الشيعة، ثم الخوارج ومنهم الأزارقة والإباضية، ثم افترقوا فرقاً كثيرة، فأكثر افتراق أهل السنة في الفروع، وأما في الاعتقاد ففي نُبَذٍ يسيرة، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب. فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط، وليست العبادة من الإيمان، وأبعدهم الجهميَّة القائلون بأن الإيمان عقدٌ بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه وعبد الوثن من غير تقية، والكُرَّامية القائلون بأن الإيمان قولٌ باللسان فقط وإن اعتقد الكفر بقلبه ... -وساق الكلام على بقية الفرق، ثم قال -: ... فأمَّا المرجئة فعمدتهم

الكلام في الإيمان والكفر فمن قال: إن العبادة من الإيمان، وأنه يزيد وينقص ولا يكفِّر مؤمناً بذنب، ولا يقول أنه يخلد في النار فليس مرجئاً، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم. وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال: القرآن ليس بمخلوق، وأثبت القدر ورؤية الله تعالى في القيامة، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة، وأن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي، ولو وافقهم في سائر مقالاتهم.. -وساق بقية ذلك إلى أن قال - ... وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفرق الخمس من مثبتٍ لها ونافٍ، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يعطِّلون، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان ومن تبعه من الرافضة والكُرَّامية فإنهم بالغوا في ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علوّاً كبيراً، ونظير هذا التباين قول الجهمية أن العبد لا قدرة له أصلاً، وقول القدرية أنه يخلق فعل نفسه. انتهى. وقال القرطبي في شرح حديث "أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصِم ": هذا الشخص .......................................................................... الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، وردِّه بالأوجه الفاسدة، والشُّبه الموهمة، وأشدُّ ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلِّمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسلف أُمّته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة،

وقوانين جدليّة، وأمور صناعية، مدار أكثرها على آراء سُوفسطائية، أو مناقضات لفظية، ينشأ بسببها على الآخذ فيها شُبَه ربما يعجز عنها، وشكوكٌ يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالمٍ بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصلٍ عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثمَّ إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعاً من المحال لا يرتضيها البُله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيُّز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفة الله تعالى ... -إلى أن قال -: ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان عجز عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدركُ به، فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزَّهٌ عن الشبيه، مقدس عن النظير، متصف بصفات الكمال، متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعَرَض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالاً -قال-: وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وبعضهم إلى الإلحاد، وبعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلبُّهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما

يدرك ما في نصوص الشارع من الحِكم التي استأثر بها، وقد رجع كثيرٌ من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: ركبتُ البحر الأعظم, وغصتُ في كلِّ شيءٍ نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فراراً من التقليد، والآن فقد رجعتُ واعتقدتُ مذهب السلف. انتهى.

وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه ومعيته لخلقه وأنه لا تنافي بينهما

فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] . وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] . أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ، اللُّغَةُ، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِم إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ. وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ - مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا - حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {فِي السَّمَاء} . أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ. فَصْلٌ: وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. . .} [البقرة: 186] . الآيَة، وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم ـ:

وجوب الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقه

(إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِّن عُنقِ رَاحِلَتِهِ) . وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ. وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً، لاَ كَلامَ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلاَمِ اللهِ، أَوْ عِبَارَةٌ؛ بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْكَلاَمَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لاَ إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا. وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُرُوفُهُ، ومَعَانِيهِ؛ لَيْسَ كَلامُ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلاَ الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ. وَقَد دَّخَلَ أيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلاَئِكَتَهِ وَبِرُسُلِهِ: الإيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ بِهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لاَ يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ. يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهَ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ كَمَا يَشَاءُ اللهُ تَعَالَى. فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ... -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا يَكُونُ

ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر

بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ. فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَن نَّبِيُّك؟ فيُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيِّي. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ. ثُمَّ بَعْدَ هّذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ. وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ. فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102: 103] . وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13: 14] . وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ومكانه وصفاته

وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا. وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ النبي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم - وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ. وَلَه -صلى الله عليه وسلم- فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ

إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة

يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة. وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا. وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ. وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ. فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَلْق، ِ وَهُمْ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ. فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ

الْقِيَامَةِ. فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَم تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] ، وَقَال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] . وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً: فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ. وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ. . وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ. وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، مَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ

الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ خَلَقَ أفْعَالَهُم. وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ. وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] . {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 22] . وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ: (مَجُوسَِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حُكْمَهَا وَمَصَالِحَهَا.

حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة

فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ؛ بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] ، وَقَالَ: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمِ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ. بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، وَقَوْلُهُ: - صلى الله عليه وسلم ـ: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ،

الواجب نحو الصحابة وذكر فضائلهم

فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ. فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] ، وَطَاعَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْلِهِ: (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) . وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ. وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ - وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ - وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ. وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ. وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ - وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَر ـ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم. فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) . وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة. وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِّنَ الصَّحَابَةِ. وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-

منزلة أهل البيت النبوي عند أهل السنة والجماعة

وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ. مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا. لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ - مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ. وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) . وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه - وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ - فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي) . وَقَالَ: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ

تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله أهل البدع والضلالة في حق الصحابة وآل البيت

كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) . وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ: خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ. وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ. وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ. وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَهُم مِّنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ - إِنْ صَدَرَ - حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِّنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِّنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ

موقف أهل السنة والجماعة من كرامات الأولياء

مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدََّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ. ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ. ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَن نَّظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ. وَمِنْ أُصًولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِّنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

صفات أهل السنة والجماعة

فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيثُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) . وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ. وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ. وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ. وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ. وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ. فَصْلٌ: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ:

بيان مكملات العقيدة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي يتحلى بها أهل السنة

وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ. وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا) ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بُالْحُمَّى وَالسَّهَرِ) . وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ. وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) . وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ، َوَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا. وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

معنى الأبدال

لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أُمَّتُهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي) ، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَّنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. قوله: "وفيهم الأبدال " أي: العلماء الزهَّاد. قال في " النهاية ": في حديث علي - رضي الله عنه -: " الأبدال بالشام " هم الأولياء والعُبَّاد، والواحد: بدْل وبَدَل، سُمُّوا بذلك لأنهم كلما مات واحدٌ منهم أُبدِل بآخر.

وقال في " القاموس ": والأبدالُ: قومٌ بهم يُقيمُ اللهُ عز وجل الأرض، وهم سبعون، أربعون بالشام، وثلاثون بغيرها، لا يموت أحدهم إلا قام مكانه آخر من سائر الناس. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: أمَّا الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال الأربعين, كلَّما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً " وهذا الجنس ونحوه من علم الدين قد التبس عند أكثر المتأخرين حقه بباطله - ولا بد أن يقيم الله فيهم من تقوم به الحجة خلفاً عن الرسل ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين فيحقُّ الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون-، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقرَّبين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، ولا تعيين العدد - .......................................................................... إلى أن قال - فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام، وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم لما كان في خلافة علي - رضي الله عنه - قد ثبت عنه

عليه السلام أنه قال: " تمرق مارقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فكان عليٌّ وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعاً، وإن كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة، فقد جعل الله لكل شيء قدراً. والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط فمن تكلم بغير علم دخل في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، ومن يتكلم بقِسطٍ وعدلٍ دخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . والذين تكلموا باسم البدل فسَّروه بمعانٍ منها: أنهم أبدال الأنبياء، ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر ولا بأهل بقعة من الأرض. فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعانٍ باطلة مثل قولهم: إن الأبدال الأربعين رجال الغيب بجبل لبنان. انتهى ملخصاً.

والمقصود أن لفظة الأبدال يراد بها حق وباطل: فمراد شيخ الإسلام وغيره من العلماء: أنهم العلماء العاملون الداعون إلى دين الله المتبعون لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وأما الجهال وأهل الغلو فمرادهم أن أهل الأرض يطلبون منهم أن يقضوا حوائجهم، ويكشفوا ضُرَّهم، ويشفعوا لهم عند ربهم وهذا هو دين المشركين الذي أُنزِلت الكتب وأُرسلت الرسلُ للنهي عنه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ، وقال تعالى: {قل إنِّي نُهيتُ أن أعبدَ الذين تدعون من دون الله لمَّا جاءني اليبينات من ربي وأُمٍرْتُ أن أسلِمَ لربِّ العالمين} وقال تعالى {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .

§1/1