التضمين النحوي في القرآن الكريم

محمد نديم فاضل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة أحمَده تعالى على نِعمه، وأُصلي وأسلم على نبيه - أفصحِ العربِ وأبيْنهم وأسدهم القائل: "أنا أفصح مَنْ نطق بالضاد" وعلى آله وصحبه صلاة تقيم ولا تَرين. فسبحان من أنطق اللسان بسحر البيان فأشرقت أنواره عن حقائق العرفان "صِنوان وغير صِنوان"، اللَّهم اعزم لي على الرشد، واكتب ليَ السلامة فىِ الرأي، واجعلني منه في برهان. اللهم جنبني الشبهة واعصمني من الزلل، وحبب إليَّ التثبت، وأوزع صدري برد اليقين. اللهم اجعلني ممن سبقتْ له منك الحسنى، وتقدمتْ في حقه العِناية والهداية، وارزقني معرفة بك تعلقها قلبي، توجب بها الحياءَ منك، والإنابة إليك، والأُنس بك، والمحبة لك، والشوق إلى لقائك، والدنوَ من رضاك، فإنما أنا بك، ولك، وإليك، وأنت حسبي وكفى ... وبعد: فهذا بحث في التضمين، وبحث عن التضمين في القرآن الكريم، وقد تناوله النحاة، كذلك اللغويون والبلاغيون والمفسرون .. كلٌ أخذ منه بطرف وعالجه بأسلوب.

والعربية - أشرف اللغات إذ نزل بها خير الكتب على أعظم الأنبياء- كانت وستبقى حضارة، يضيق عنها الوصف، وينحسر عنها الكَلِم فلا يكادُ يبين. وحين تمت المشيئة الإلهية لهذا الإنسان أن يكون خليفة في الأرض علمه الأسماء كلها، جهزه للمَهَّمَةِ الضخمة التي سيكلها إليه، متّعه بالحسّ اليقظ، والبصيرة المفتوحة، وخصه بسر القدرة على الرمز بالأسماء. أمده باللغة التي لم يُجهز بها الملائكة من قبله ما داموا مخلوقين لغير ما خُلق له، فكانت مَعلاة له، شاهدةً بفضله، وباتت وسيلة تساعده على تكييف سلوكه مع ما جاء فيها من أوامر اللَّه ونواهيه، وصارت لوسيع مذاهبها، وبديع مناحيها، من أفضل وسائل التربية والتهذيب دون مُنازع. عبقريتها في صياغتها، وأسرارُ جمالها في خصائص تركيبها، وكفاءتُها العالية في تشقيق المعنى إلى فروعه: الوظيفي والاجتماعي والمعجمي .. جهّزه بالكلمة مَخزن فكر ويُنبوع روح، كل ما فيها يتندَّى، فهي أبداً في تَهطال، وتظل الكلمة بِذرة يلقيها صَناع في رحِم الزمن لتُنبت الشجرة .. هي السِدرة تعطي ثم تعطي مما اختزنت من مَعالِم وصورِ وحَيَوات .. وأيُّ حياة أعز من حياة الفِكَر! والكلمة لا معنى لها إلا إذا سلكناها في نظم وأدرجناها في عبارة، نصيب بها الغرض نُقيمها على أسلوب، ونُديرها على طريقة في صياغة فنية تجعل لها صلة بالحياة فتؤدي غرضها حين تكشف عن حقيقة، وهي أوسع منها، ولو حُدّت بها لما بقيت حقيقة، وإن كثرة مدلولاتها تتفق مع طريقة عرضها وأسلوب أدائها، كلما زدتها فكراً زادتك معنى فهي معك على قدْر ما أنت معها. إن وقفتَ على حد وقفتْ، وإن تماديتَ تمادتْ، وما أدَّيت بها تأدَّت، فهي من لسانِ وراءه قلب .. فصور الربيع بعدد أزهاره، وصور الإيمان تكاد تكون بعدد شعبه.

ولو وقفت على لفظة ما في مجموعة من النصوص لقالت لك: أنا هنا في معنى وهناك في آخر: هذا (عجل) يتعدى بنفسه: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) (¬1) كما يتعدى بـ (إلى): (وعجلتُ إليكَ ربِّ لِتَرْضَى) (¬2) ويتعدى بـ (على): (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) (¬3)، ويتعدى بالباء: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) (¬4) ويتعدى باللام: (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) (¬5) ويتعدى بعن: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) (¬6) ويتعدى بـ (في): (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) (¬7)، ويتعدى بـ (مِن) (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (¬8)، وهو يطالعك في كل مورد بطابع جديد عليه خاتم مَصنعه يفضه السياق ومفتاحه التضمين فهو لذلك وبذلك لا يقبل الحدود، والتوردُ له وَعر المسلَك، مقامه زَلخ. فالعدول من حرف إلى حرف لغير معنى جديد لا وجه له، وكثير من النحاة أصروا بجَدْع الأنف أن يلزمونا بتضمين الحروف عند هذا العدول، وهيهات .. فاللغة ليست ملكاً لهم. وربما أخذوا على المعاجم ضيق الأفق، وأنها لا تعطي اللفظ حقه في رسم آفاقه وتحديد أبعاده. أجل .. يكشف اللفظ عن معناه حين يسلك في نظم ويندرج في تعبير، له في سياقه غرض ولكل غرض في مناحي البيان أسلوب، يُديره الكاتب على طريقة، يُصيب بها مواقع الشعور، يكشف الجمال فيظهره، ويتناول السر فيعلنه، ولولا ذلك لبقيت القلوب على ودائعها مُقْفلة، والقرائح معزولة، ¬

(¬1) الأعراف: 150. (¬2) طه: 84. (¬3) مريم: 84. (¬4) طه: 114 (¬5) الكهف: 58. (¬6) طه: 83. (¬7) البقرة: 203. (¬8) يونس: 50.

اللمحة السريعة تكشف عن حقيقة، تطالعك في جلال وجمال، في صور وألوان، والحق كذلك، إن لم تجد النجم فلا تلتمس الشعاع .. وإن لم يسلك اللفظ في تعبير فلا تسلْ عن معناه. ولانقطاع جيلنا عن لغته نَزُر منها حظُّه، وتخلّفت عنها مَداركه، ولقصور فهمه عن معانيها العالية ما عاد يستوحي من اللفظ إلا الدارج والشائع، فجيلنا من أقل الأجيال المضرية حظاً بلغته، لم يُصِبْ من وجوه تصريف معانيها إلا كما تأخذ الإسفنجة من الماء تنتفخ بقليل منه ثم لا تلبث أن تمجّه. إن وحي الكلمة يصل ماضي اللغة بحاضرها بمستقبلها عَبْر مسيرة الزمن، وستظل هذه اللغة الشريفة بل المعجزة الباهرة تعطي مَن نَشَد من مَجَاني أُكُلها، ويانع قِطافها، كنوزاً أُنفاً مع قدرة على المجاراة والاستيعاب لكل المستجدات، تطوي الطارف على التليد، فجديدها غير مُنبت عن وشائج منابته، وقديمها غيرُ مَكْفوفٍ عن جواذب حواضره. الألفاظ مُغلقةٌ على معانيها، وأغراضها كامنة فيها، إنما يفتحها النظم ويستخرجها، فانظر فيه وفي صياغته وسياقه ومدلوله، وترسَّم آفاقه لفهم معانيها وتحديد أبعادها. هذا فعل (جعل) يتعدى لمفعولين في سياق الآية الكريمة (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (¬1) ويتعدى لمفعول واحد في سياق الآية الكريمة (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (¬2) لماذا؟ إنه السياق إذاً وله مدلولاته. وهذا فعل (سمع) يتعدى بنفسه (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (¬3) وباللام: (سمع اللَّه لمن حمده) (¬4) فهل هما متماثلان؟ كيف! والفرق بينهما كبير. واللغة بعد ذلك انتماء، لو فرّط فيها لانتهى إلى ضياع، ضياعه وضياع ما ينتمي إليه، فإن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد وحاد عن الطريق فإنما استهواه واستخف حِلْمَه ضعفُه في هذه اللغة الشريفة، وبُعدُه عنها وعن حُسن التصرف فيها أو المزاولة لها، ولذلك قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل لحن: "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" (¬5) فسمى اللحن ضلالاً، وقال صلوات اللَّه عليه: "رحم الله امرأً أصلح من لسانه" (¬6) لما في ذلك من عاقبة الفساد وزَيغْ الاعتقاد، وهل يكب الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم!؟ وهل اللسان إلا ترجمان الجَنان؟ أوليس يوقع بالكفر إلا كلمة يهوي بها سبعين خريفاً في النار (¬7). فإذا كان للغة هذا الخطر العظيم فحريٌّ بنا أن نجعلها موضع عنايتنا واهتمامنا لأنها من أخطر القضايا الإنسانية على الإطلاق، إذ هي الكفيلة بإيضاح حقائق التنزيل، والإفصاحِ عن خفايا التأويل، وإظهار دلائل الإعجاز، وشرح معالم الإيجاز، وهي مما أوحى بها العليم الخبير إلى عبده آدم ليكون أنبهَ لها وأذهبَ في شرف الحال بها. وتتبعتُ السر الذي أخْصبَ تاريخنا القَفْر المجدب في الجاهلية فأنبتَ للدنيا في ظل الشريعة أزاهيرَ لا تغيب عنها الشمس .. فإذا هي اللغة في هذا ¬

(¬1) البقرة: 124. (¬2) الأنعام: 1. (¬3) المجادلة: 1. (¬4) البخاري أذان 25، 74، م صلاة 25 (¬5) المستدرك على الصحيحين 2/ 477. (¬6) مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم يرمون نبلاً فعاب عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين فقال: لحنكم علينا أشد من سوء رميكم سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: رحم الله امرءاً أصلح من لسانه. مسند الشهاب 1/ 331، وقد ضعف هذا الحديث ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 250 وغيره. (¬7) في الحديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في النار. الحديث أخرجه البخاري في الرقائق 23، ومالك في الموطأ في الكلام 6، وأحمد في 2/ 334.

الكتاب المبين، قَالَ تَعَالَى (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (¬1) وقال (الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (¬2) ومدحه بالإفصاح والبيان فقال: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (¬3) فالعربية غزت العالم غزوَ تغيير وتحويل وترشيد. فانصراف العبد إلى كتاب اللَّه لفهمه، والكشف عما يفتح اللَّه عليه من مغاليقه، نعمةٌ ترفع صاحبها عن دنياه وتبارك له في عمره، فيصحوَ من غفلة، ويتنضر من يُبْس، ويرقّ من غِلظة، ويتلألأ بالنور يكسوه الجمال، فهو مع كل حرف يروزه، يتملاّه، يستذوقه علّه يكشف الخبيء من سره، والعصي من معناه، يشعر بفيض النعمة الإلهية تستحق كل ثناء عليه، لقد أخصب الكتاب الكريم عند نزوله القفر المجدب فأنبت للدنيا أزاهير إنسانية، فوَّاحة بالعبير، يُنضرها الندى من حسنه. والتضمين من أنزه الفصول في العربية، فإذا تأملته عرفت منه وبه ما لحروف المعاني من أسرار يكشفها لك، ويظهر فيها مزيّة .. ترى الحرف مع فعل أو مشتق لم يألفه، فيوحشك الحرف ويبقى الفعل قلِقا، فإذا حملته على التضمين تمكّن الفعل وآنسك الحرف، فلولا مُعازّة الخاطر في هذه الحروف، ومُساورة الفكر واكتداده لكنت منها على حَرَد وعنها بمعزل وبأمر سواها في شغل. والنظم يتكوّن من مجموعة من المفردات، تنشأ بينها علاقات، ويتم التوازن حين تنتظم المفردات في سياق هادف، يقيمها الكاتب على نمط، ويديرها على طريقة، ليُصيب بها مواقع الشعور، ويثير بها مكامن الخيال، وقد تُسبب إحدى المفردات توتراً لا يهدأ حتى تجد لها تفسيراً مريحاً في دلالة ¬

(¬1) طه: 113. (¬2) الرحمن: 1 - 4. (¬3) النحل: 89.

راشدة، وقد يزيد التوتر حين لا يكون التوازن إلا حالة مؤقتة من الاستقرار، لوقوع تنافر بين دلالتين أو أكثر، قَالَ تَعَالَى: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) (¬1). وكل لفظة تختزن طاقة تُعطيها، أو جزءاً منها حسب وضعها في النظام، وما يتوفر لها من تعاون وانسجام مع بقية المفردات في الجملة وما يتهيأ لها من حسن الجوار، وربما تحتفظ بهذه الطاقة المختزنة عند شعورها بالقلق أو الضيق في نظام معين وقد تتبدد أو تهدر إذا حُشرت في بيئة غير بيئتها، ففي قول إبليس (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (¬2) أين هذه الخيرية بجوار أنا الإبليسية؟ لقد أهدرت طاقتها البيئةُ المحمومة في الجوار المشؤوم، وأين رصيد العزة والكرامة في سياق الحميم يُصب على رأس المشؤوم يتلقاه بأرهف حواسه، حاسة الذوق؟ (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (¬3) لقد أُهدرت كل طاقة للفظ العزيز الكريم في مذاق الماء الحميم، وما حظ الكافر من (الثواب) في عمله؟ (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (¬4) إنه العقاب لا غير. ونَقْلُ حقيقة ما من واقع الحياة المحسوس إلى نظام مكتوب أو مقروء هو الصنعة البيانية أو الصياغة الفنية في يد القوة المصورة تكشف الجمال، جمال النظام اللغوي، وتعلن الأسرار، أسرار الحكمة الغامضة في اختيار اللفظ الملائم، وتضع الإشعاع في التشكيل الصوتي وهو واحد من أشكال الطيف اللغوي (¬5). ¬

(¬1) النساء: 127. (¬2) الأعراف: 12. (¬3) الدخان: 49. (¬4) المطففين: 36. (¬5) وتساهم في الصفات الصوتية من إظهار وإخفاء، من جهر وهمس، من شدة ورخاوة، من تفخيم وترقيق، من استعلاء واستفال، ثم الحركات العضوية في مخارجها من أقصى الحلق إلى وسطه، فأعلاه، وأطراف الثنايا، وحافة اللسان، ووسطه، ورأسه، والشفتين و ...

فليس اللفظ في القرآن كما يكون في غيره، فكل لفظة في الآية تكاد تكون آية، فهي تحمل معنى وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى، وهذا ما ليس في الطاقة البشرية (كِتَابٌ أُحكمت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (¬1). إن قوة الإشعاع في التعبير القرآني وتعدد صوره هو الذي أعجز العرب أن يأتوا بمثله، فهو أسمى من أن يُدرك في حاسة أو ينحصر في مدلول، لقد منحه المنشئ سبحانه صوراً وإشراقاً وإعجازاً يذهب في تأويله المفسرون مذاهب شتى لأنه ينزل في أحوال النفس منازل، ثم يدع للعقل بعدها أن ينطلق في معانيه انطلاق النور في الأفق الأعلى، لا تنقضي عجائبه. وإجادة العربية والحذق فيها والتمكن من ناصيتها يفتح على الدارس مغاليقها ويكشف العصيّ من معانيها، والتضمين في هذه اللغة الشريفة دليل سعتها ومرونتها، وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها، والتركّح في وجوهها ونواحيها، فالكلمة فيها كثيرة الدلالات وتختزن الكثير من المشاعر والأفكار، فإذا أثبتنا معنى لظاهر اللفظ يقبله السياق فلا حرج من التماس النظير من كلام العرب، لأن النظير يُؤنَس به، فأما ألا يَثْبت المعنى إلا به فلا، ولسنا ندع ظاهراً له وجه من القياس لغائب ليس عليه دليل. هذا المعنى الذي أثبتناه للفظ في سياقٍ ما، قد يحور عنه في سياق آخر ليديره على طريقة يصيب بها مواقع الشعور، أو يتنكب عنه استثقالاً مما تحامل الطبع به: فإن لم تنل مَطلبا رمته ... فليس عليك سوى الاجتهاد واختيار هذا الموضوع هيّأ لي أن أقف على هذه الحروف ومتعلقاتها من فعل أو مشتق، أقرأ وأعيد لأتبين ما خفي من أسرارها المغفول عنها وغير ¬

(¬1) هود: 1.

المأبوه لها والمحتجبة وراء النظم وأتدسى معانيها المغيبة في الصياغة، وأصغي لأنغام جِرسها في التركيب، وخفقات إيقاعها السارب في النفس، والمتغلغل في ثنايا نظامها المعجز من غموض الحال ولطف المُتسرَب، أو في بيانها المشرق السَّخيِّ بالإشراق، حيث تحمل أكثر من دلالة تبعاً للغرض من السياق الوارد فيها، دلالة بالتلميح أو التصريح، بالإيحاء أو الإفصاح، بالتعريض أو التكشيف، بالمشارفة أو المظاهرة، وفهم المراد يتطلب قدْرا من مهارة القارئ الحصيف في معرفة هذه الدلالة على ضوء العلاقات بين مفردات نسيج الجملة، فقد حمى أصحاب هذا اللسان حواشيها وهذّبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها وإني لأرجو أن أكون قد استحْيَيْت قدراً من جمالها الفني الخالص، واستنقذتها من رُكام التأويلات النحوية المعقدة، عُزوفا عنها وتحامياً لتجَشُّم الكلفة فيها. فعناية أغلب النحاة كانت بتحليل الأجزاء لمكونات التركيب أكثر من عنايتهم بالتركيب نفسه. حروف المعاني جواهر سنيّة في كتاب اللَّه المبين، تأتي على قدر، تتحكم في توجيه المعنى، وتتصرف في وجوهه، تسري أحكامها في أحناء الجملة وحواشي التركيب، فمن تفطّن لها ممن صحّ ذوقه، وتمت أداته، وأمدّه اللَّه بصفاء القريحة وأيده بمضاء الرؤية، أرتْه من أسرار كتاب اللَّه ما استودعها من إحكام الصنعة فيه، مما هو أليق بمعناه، وأوفق لمراده الذي يُسفر ويَضَح مع الاستقراء له والفحص عن كنهه، أما من رماها للتعاور والتناوب، فلا تحفِل به، واحفظ نفسك منه، ولا تسترسل إليه. وكنت أود لو نشَّمت في شواهد من التضمين في الحديث الشريف (¬1) ¬

(¬1) على سبيل المثال: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا" الحديث تقدم تخريجه، قال ابن حجر في فتح الباري: 1/ 196: ضمن السآمة معنى المشقة فعدّاها (بعلى) وفي حديث البخاري: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي" قال ابن حجر في الفتح: 11/ 291: كذا عُدي (الحق) بـ (إلى) وكأنه ضمنها معنى (انطلق).

وفي دواوين الشعر الجاهلي ومجموعاته وتأهبت له، لولا اتساع رقعة البحث، وخشْيتي ألا يتسع لشواهده، ولا يسمح بإيلافه. هذه الشواهد التي سُقتها من كتاب اللَّه العزيز، لم آتِ بها على سبيل الاستقصاء، ولا أوردتها من قبيل الانتقاء، وإنَّمَا هي حصاد مطالعات في كتب التفسير وعلوم القرآن سقتها مرتبة على حروف الهجاء، وبعد أن استخرجت ما تفرق من فرائد المفسرين مما يُثنى وُيؤثر، وممن أنف أن يلجّ من غير بيّنة ويستطيل مجتهداً، ومن حق العلم ألا يُداجى فيه وراعيت فيما اجتهدت ما ساعدتْني عليه اللغة، وأرشدني إليه السياق، ومن وضوح الإشارة، واحتمال الدلالة مع المُلاطفة والإكثاب من غير إكراه ولا إغصاب. يتساهم ذوو النظر التأمل فيها والبحث عن سرها ومستودعها ليكون لهم سهم منها وحصة فيها. وكما قال الطائي الكبير: *كم ترك الأول للآخر* فكتاب اللَّه لا تزال تظهر غرائبه، وتنكشف عجائبه على مر العصور، ففي حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح (¬1) أنه لما سأل عليها هل خصم رسول اللَّه بشيء، قال لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه اللَّه رجلاً في كتاب اللَّه، فالتضمين اجتهاد يحدد مسار الفعل، ويلبي غرضه، ويفتح للنص آثاراً تعين على إدراك المزيد من احتمالاته، ويخلع على اللفظ روحاً ترفرف في جناحيه، وربما أخذوا على التضمين أنه غامض ولكن الحسن كذلك، وأنه مُحير ولكن السمو البياني كذلك، وأنه مخالف للمألوف، ولكن الحق كذلك. ¬

(¬1) البخاري في الجهاد 171، ومسلم في الإيمان 131.

وبعد الذي بذلته من جهد فيما جمعت، من هذه الشواهد التي أعيت على الدارس في دلالتها المتغلغلة تحت مطاويها حاولت أن أستخرجها بالأناة والصبر واستقصاء الجهد من غير استكراه يذهب به الخاطر إلى إفحاش في الصنعة واعتداء على طبيعة اللغة، أو توهم يُظاهر عليه الخيال فيما مَذِلَ (¬1) به، أو تتايع (¬2) فيه، فقد أخرج أبو نعيم من حديث ابن عباس: "القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه" (¬3). نعم بعد هذا الجهد أقول ما قاله الشمّاخ في قوسه العذراء: فلما شراها فاضت العين عَبرة ... وفي الصدر حزّاز من الوجد حامزُ والعربية من أشرف اللغات لأن اللَّه اختارها لسيد ولد آدم وجعلها لغة أهل دار المقامة في جنته ومحل كرامته، من نظر فيها رقَّ طبعه، ونبل قدره، وهي أفصح اللغات لساناً، وأوضحها بياناً، وأثقفها أبنية، وأكثرها بقياس أفعالها تصرفاً، وقريش منها في الذروة من الفصاحة ارتقت عن عَنْعنة تميم (¬4)، وكَشْكشْة رَبيعة (¬5)، وكَسْكَسْة هَوازِن (¬6)، وتضجّع قَيْس، وعجرفية ضَبَّة، وتَلْتلة بَهراء (¬7)، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن علينا لما تماسكت أجزاء هذه الأمة وتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين إلى يوم الناس هذا. فرسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفصح قريش ولا فخر، إذ قال: "أوتيت مفاتيح ¬

(¬1) مَذِلَ به: ضجر وقلق. (¬2) تتابع: تهافت. (¬3) السنن: للدرقطني: 4/ 144. (¬4) أنشد ذو الرمة عبد الملك: أعن ترسمت من خرقاء منزلة ماء ... الصبابة من عينيك مسجون (فعن) في موضع (أن). (¬5) تزيد الشين مع كاف المؤنث: رأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين. (¬6) تزيد السين مع كاف المؤنث: أعطيتكس ورأيتكس في الوقف دون الوصل. (¬7) يقولون: تعلمون وتفهمون وتصنعون بكسر التاء.

الكلم" (¬1)، وفي رواية: "مفاتح" وهو ما هيأه اللَّه له من أسباب الفصاحة والبلاغة، والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن الألفاظ مما أُغلقت على غيره وتعذرت على سواه. ولعل جيلنا المعاصر من أكثر الأجيال مسؤولية في مضاعفة الجهد، لينهض من عِثاره، ويدفع شبح الخوف عن نفسه، حين يستعيد ثقته بذاته فلا يرضخ للإلْف، ولا يَعزِف عن التجديد، لقد رضي بالقابلية دون الفاعلية يردد آراء من سلف دون مراجعة أو إضافة. جيلنا بحاجة أن يحمل التَبِعة في كل مرافق الحياة، وأولها أمانة الكلمة، وأن يتشوّف إلى مَطمح عَصّي ومُرتقى صعب، ومَسلك شاق مَطْلبه عسير، فما أحاط باللغة إلا نبي، فاللغة أداة للتفكير، وليس التعبير إلا صورة عن قدرة المتكلم العقلية، تعكس كفاءته في مستوى الأداء، وتبين عن بنيته الفكرية أو النفسية، ولابد للمصدور من أن ينفث. هذه عجوز في فناء خَيمتها يمر بها رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هجرته إلى المدينة مع أبي بكر ومولاه عامر (¬2)، ودليلهما عبد اللَّه بن أرقط، فلم يُصيبوا عندها شيئاً، إذ كان القوم مُسْنتين مُرْملين، فنظر رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شاة في كِسر الخيمة. فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلّفها الجَهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجْهد من ذلك فإن رأيتَ بها حَلَباً فاحلبها، فمسح بيده ضَرعها وسمَّى اللَّه فتفاجّت عليه، ودرَّتْ فاجترَّت، فحلب فَجّا حتى علاه البهاء، ثم سقاها وسقى أصحابه وشرب آخرهم ثم ارتحلوا عنها. فقلّما لبثتْ حتى جاء زوجها يسوق أعنُزا عِجافاً يَتسَاوَكن هُزالاً فلما رأى اللبن قال: - من أين لك هذا والشاءُ عازب حائل ولا حَلوبَ في ¬

(¬1) البخاري في التعبير 11، ومسلم في المساجد 5. (¬2) عامر بن فهيرة.

البيت؟ قالت: مَر بنا رجل مبارك، قال: صِفيه لي. قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلجَ الوجه حَسَن الخَلق، لم تَعِبْه نِحلة (¬1)، ولم تُزر به صُقلة (¬2)، وسيماً قَسيما، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، في عَينيه دَعَج (¬3)، وفي أشفاره وَطَف (¬4)، وفي صوته صَهَل (¬5)، وفي عُنقه سَطَع (¬6)، وفي لحيته كَثاثة، أزجَّ (¬7)، أقرن (¬8)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سَماه وعلاه البهاء، حُلو المنطق، فصل لا نَزر ولا هَذر، كأن منطقه خرزات نظْمِ يتحدَّرْنَ، رَبَعَة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قِصَر، مَحفود (¬9)، مَحشود (¬10)، لا عابسٌ، ولا مُفَنَّد (¬11)، خافض الطرف لا يُثبت بصره في وجه أحد، ليس بالجافي ولا المهين، طويل السَّكْت لا يتكلم في غير حاجة .. إلخ (¬12). (¬13) فأي صاحب قلم يملك اليوم مثل لسان ابنة البادية هذه؟ ويوم نملك لساناً كالذي ملكوا، نفتح بإذن اللَّه كما فتحوا ثغور البلاد وقلوب العباد. وأصحاب هذه اللغة إلى الإيجاز أميل وفيه أرغب، به تفاخروا بالبيان الذي يكشف المستور، دون الضمير، ويلتمس الدلالة حين تلتبس على الفهيم، والوقوف على المعنى الحرفي من أسباب القصور في الفهم لأنه يهمل المعنى الدلالي وفيه: المعنى الوظيفي والاجتماعي والمعجمي و ... فدلالة اللفظ من حيث الوضع: خاص وعام ومشترك، وأما من حيث القصد: فدالّ بالعبارة أو بالإشارة أو بالفحوى أو بالاقتضاء. ودراسة كهذه هي إعادة نظر في المعنى وارتباطه بأشكال التعبير، فالارتباط بين الشكل والوظيفة، أو الصلة بين المبنى والمعنى هو اللغة، وهذا النوع من الدراسة يتناول الصوت والصيغة والسياق والدلالة فيصل اللغة بالفكر. ولعل سبب غموض بعض النصوص في تراثنا هو إهمال الوصف الكافي للمقام المحيط بالنص، والتعبير الشائع في اللغة الإنجليزية: ليست العبرة بما قيل، بل بالطريقة التي قيل فيها. والعربية بما لها من تطور واتساع، وتقدم ورقي، تحتاج إلى جهد في تحديد معالم البطاقة الشخصية لكل فعل: بنيته أو صيغته في أحد الأبواب الستة المعروفة، وتحديد وظيفته، لزومه وتعديه، ثم الدلالات التي يعبر عنها، ثم الحروف التي تتعلق به أو يتعدى بها هذا فعل (عقل) يأتي لازماً ومتعدياً، فاللازم يعبر عن ستة معان مختلفة (¬14)، والمتعدي يعبر عن سبعة معان مختلفات كذلك (¬15) أرأيت كم لهذا الفعل من دلالات! ولا سبيل إلى علم الدلالة إلا التوقيف والتعليم. يا لها من صعوبة!! ولكنها صعوبة المجد والرقي. ومن أدوات هذا البيان: حروف المعاني، تناولها البلغاء والنحاة والمفسرون والفقهاء وعلماء الأصول لخطرها، وهي على قلتها كثيرة الدوران بعيدة المنال إلا على ذوي الأفهام. فإذا تعدى الفعل أو مشتقه بغير حرفه المعتاد كما في قوله تعالى: (بِمَا ¬

(¬1) ضمرة ونحول. (¬2) صغر الرأس. (¬3) شديد سواد العينين. (¬4) في هدب أشفار عينيه طول. (¬5) بحة في الصوت، وقيل حدة وصلابة. (¬6) السطع: طول العنق. (¬7) الزجج: تقوس في الناصية. (¬8) القرن: التقاء طرفي الحاجبين. (¬9) مخدوم يسرعون في طاعته. (¬10) بالغوا في إكرامه. (¬11) الفند: الخطأ في الرأي. (¬12) عاتكة الخزاعية. (¬13) المستدرك على الصحيحين 3/ 10 - 11. (¬14) عقل الرجلُ: راجعه بعد شيء أذهبه. وعقل الصبي: ذكاء بعد الصبا. وعقل الظل: إذا قام قائم الظهيرة. وعقلت الرموش: صارت في معاقل الجبال. عقل البطن: استمسك. (¬15) عقلت البعير: شددته بالعقال. عقلت الرجل: صرعنه. عقلت القتيل: غرمت ديته ..

يَسْتَمِعُونَ بِهِ) (¬1)، أو تعدى بحرف وهو يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (¬2)، أو عداه بنفسه وهو يتعدى بحرف: (كَفَرُوا رَبَّهُمْ) (¬3)، أو يتعدى لمفعول عداه لمفعولين: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا) (¬4)، أو لازماً عداه لمفعول: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (¬5)، أو لمفعولين: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالا) (¬6)، أو متعدياً جعله لازماً: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (¬7) أو يتعدى لمفعولين عداه للثاني بحرف: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (¬8) في هذه الأحوال تبقى الدلالة على المراد خافية والمعنى مستوراً، ومع الغموض أو اللبس تضيع الفائدة التي عليها مدار الإفهام والتفهيم والبيان والتبيين. لا بد إذاً أن نسعى إلى الأصل كما سماه سيبويه، أو ( FONEM) كما يسميه الغربيون. وسيلة النحوي في الوصول إلى الأصل: التأويل (التخريج) وذلك عن طريق الحذف أو الإضمار أو القياس أو التضمين. وهذا التخريج مشروط بالرد إلى أصل متفق عليه، فإذا اختلفوا في الاتفاق عليه فالتخريج سيلقى الرفض، وقد يحتمل هذا التأويل وجهاً أو وجوهاً في الرد إلى القواعد الأصولية (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (¬9) جاء الفعل متعدياً في قراءة نافع بنصب (سبيلَ) وجاء لازماً عند بقية العشرة برفع (سبيلُ). فاللفظ من خلال النظريات الدلالية المعاصرة يحسن أن نتناوله بشيء من ¬

(¬1) الإسراء: 47. (¬2) النور: 36. (¬3) هود: 60. (¬4) الأعراف: 155. (¬5) فاطر: 10. (¬6) آل عمران: 188. (¬7) يوسف: 43. (¬8) الدخان: 54. (¬9) الأنعام: 55.

المرونة في تفسيره يتعاون عليه المعنى المعجمي، والمعنى الدلالي، والمقام. والمعنى الدلالي هذا لا يخضع لقاعدة، شأنه شأن الجمال لا يهتدي إليه إلا صاحب ملكة يغلب عليه طابع الاجتهاد في الاستنباط والتأمل الذاتي، ولذا فرّق علماء الأصول بين الدلالة الوضعية والدلالة الأصولية، وكذلك المقام بما يشتمل عليه من علاقات اجتماعية وعقلية، وذوقية، وعاطفية متشعبة لا يفهمها إلا أبناء بيئتها. ومن العقبات التي اعترضت عدداً من المفسرين هي ما أخذوه من السِّريان في طريقة شرح متونهم والتي اعتمدت على شرح الكلمات المفردة، وإيضاح مدلولها دون اللجوء إلى شرح الهيكل العام لأفكار المتن ونظرته الشاملة، فحبسوا أنفسهم وقرَّاءهم في أسْر المفردات، وشقَّ على من يتصدى بعدهم للإحاطة بمعالم الفكرة العامة والتي اختفت وراء دلالات الألفاظ المفردة، ولعل الدراسات الحديثة للتخصص في النحو اليوم تقف على هذه النظرة الشمولية للنص لفهم التراث. والتضمين مفتاح من مفاتيح هذه اللغة الشريفة، وسر من أسرارها، يفترُّ عن بديعة، ويُفضي إلى لطيفة، وهو من طريف ما استودعته هذه اللغة نجواها، لأنه أذهب في الإيجاز وأجمع لخصائص الصنعة، وفيه من الإيماء والتلويح ما ليس في المكاشفة والتصريح، وذلك أحلى وأعذب. فالتضمين يجعل من اللفظ رعشات بيان من نور المادة اللغوية كأنه ينبوع يتدفق أو جدول ماء يترقرق، ليبدع معاني جديدة ويخلع على اللفظ أثواباً بهيجة، فمن أدام فيه النظر ثم صبر ذاق لذة الاستمتاع به، كالشهد من ذاق عرف. والذين عطّلوه في الفعل أو مشتقه وجعلوه في الحروف، وأن بعضها ينوب عن بعض هكذا بلا مُسوغ ولا دليل يدّعونه أو ينتحلونه، نزُرت من

معرفة الحقيقة حُظوظهم، وتخلفت عن الإحاطة بها خواطرهم، وركبهم جهلٌ في الرأي، وإفحاش في الصنعة، واعتداء على طبيعة هذه اللغة. أجل .. إنابة حرف عن حرف يتسمَّح المفسرون فيه فيُخلون بغرضه تجاوزاً له أو سهواً عنه فهو مقام زلخ .. تزلّ فيه القدم وإنما تحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر، وفضل رويّة، وقوة عارضة، وشدة تيقُظ، فإذا لاطفت الغرض من مجيئها، قويت حُجتك في تضمين أفعالها، وذلك أحوط عليك، وأبهر في الصناعة بك، ومن عرف أنس ومن جهل استوحش. وحتى الذين أجروا التضمين في الفعل لم يشيروا إلى الغاية من ورائه فهذا الزمخشري في كشافه مثلاً في قوله تعالى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (¬1) ضمّن (يضربن) معنى (يلقين ويضعن)، ومثله أبو حيان في بحره ولكنه لم يذكر الغاية من هذا التضمين في استبدال فعل من فعل وهي ثمرة التضمين وفائدته. في هذه الحروف دقائقُ وأسرارٌ، طريق المعرفة بها الروية، ولطائف يُتوصلُ إليها بطول التأمل، وخصائص ينفرد بها مَن هُدي إليها، وكُشِف له عنها، وبلغ شأواً فيها مع ما تهيأ له من صفاء القريحة، وصحة الطبع، وامتلاك الأداة. إن إبدالهم حرفاً بحرف في كتاب اللَّه يُخرجُ العبارة من صورتها ومن الذي أُريدت له ويُذهب استطابتها، ويفسد الإمتاع بها والاستملاح لها، فلا تستطيع أن تحدث لهم علماً بها، وفهماً لها، حتى يكونوا مهيئين لإدراكها، ويكون لهم قريحة إذا تصفحوا هذه الحروف، أنِقوا لها، وأخذتْهم أريحية عندها، فإن بدهك موضع منها فلا تعطِ بيدك مع أول خاطر لها، فالطريق ¬

(¬1) النور: 31.

متلئبة، والتأمل فيها يمكنك منها. قال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها، والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس. والتضمين يمنح الفعل أو مشتقه معنى فوق معناه والذي تضمنه بالرمز والإيماء من طريق يخفى ومسلك يدقّ، غير مصرحٍ بذكره، أو مكشوفٍ عن وجهه، ولا مُفصِحٍ عن غرضه، كأنما يرسل في العبارة توهجاً من طاقته فيمنحها قوة تعلو باللغة سمواً، وتُزكيها متعة كلما ازداد البصر فيها تأملاً، فهو محيّر ولكنّ الحسن كذلك، والحمل على المعنى غَور بعيد، ومذهب نازح فسيح، متى قام الدليل عليه، أو شهدت الحال به. ومن شأن الحرف -وقد دخل على فعل أو مشتق لا يتعدى به- أن يكسب المعنى نبلاً، ويمنحه فضلاً، ويوجب له شرفاً، تَطْرَبُ له نفوس السامعين، وتجعل له مزية عند المخاطبين، فهم في قوله تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (¬1) لا ينشدون الشرب للري، ولا يطلبونه لإطفاء الظمأ، لأن أهل الجنة لا يظمؤون وإنما ينشدون من الشرب المسرة ويطلبون اللذة والاستمتاع. أجل حين تعدت الأفعال أو مشتقاتها بغير حرفها أبدع التضمين إبداعه فيها، فإذا هي أزهار موشاة بألوان جديدة من معان لطيفة كالنجوم الزهر يأتلِقن من الجمال في دارة القمر -المضمن- لتكون مِنَصة للعروس -المضمن فيه- أو كمُجْرِي الجَموح بلا لِجَام، ووارد الحرب الضروس من غير احتشام. ولعل الذي دفعني لموضوع التضمين هذا هو التنقيب عن خصائص هذه اللغة والكشف عن أسرارها رغبة في جديد، فحين ضمنت العربُ الفعل فعلاً آخر فقد أودعت الأول الثاني لتُنهض مُنّته، فصار بهذا صفيّه وتليّه، وأصارتْه الصُحبة أن يحل محله فجمع بلاغتين لأنه لزّ معنيين، فالعرب تلجأ إليه عناية ¬

(¬1) الإنسان: 6.

بما وراءه وتوصلاً إلى إدراك ما هو له. وحين يتعدى الفعل أو المشتق بغير حرفه فإن معناه لا ينكشف إلا من خلال وضعه في سياقاته المختلفة، فللسياق دوره في إيضاح المعنى، إنما يحتاج إلى لطف نظر، وقوة عارضة، وشدة تيقظ، فترفَّقْ به يُولك جانبه، ويُمطِك كاهله، ويشفعْ بشرح أحواله المحيطة به. وحين قال بعض النحاة: لا معنى للحرف في نفسه كانوا في منتهى الصواب، ولكنهم أخطؤوا في التطبيق حين وقفوا على مفهومه اللغوي أو دلالته المعجمية لا الوظيفية، غفلوا عن القصد وخفي عنهم الغرض وما تتطلبه الفصحى من إعادة النظر في طريقة التناول، أوليست حروف المعاني روابط تُؤدي وظيفتها حين يُعرف موقعها في النظم؟ فهذا السيوطي يجعل للباء أحدَ عشرَ معنى، بل أوصلها بعضهم إلى الثلاثين لأنه عزلها عن سلطانها حين أزالها عن ولايتها. فعلى الناظر في معاني الحروف أن يتكاسى في بيان مدلولاتها، وأن يعطي الحروف حقها عن ميزة وعلى بصيرة، ليس مُعتاصا ولا مُسترسلا، وأحكام معاقدها ومواردها في الأساليب البيانية المعجزة يدل على شرف هذه اللغة وسَدَاد عقول أصحابها، وتركُ النظر في وجوهها والإعراض عنها، وقلة المبالاة بها يُزري بالدارس ويغضُّ من قدْره، يقول ابن جني (¬1): هذا باب يتلقاه الناس ساذجاً مغسولاً من الصنعة، وما أبعدَ الصواب عنه، وذلك أنهم يقولون: إن (إلى) تكون بمعنى (مع) ويحتجون بقوله سبحانه: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) (¬2) أي مع الله، ويقولون إن (في) بمعنى على ويحتجون بقوله ¬

(¬1) الخصائص: 2/ 306. (¬2) الصف: 14.

سبحانه: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (¬1) أي عليها، ألا ترى أنك إذا أخذت بظاهر هذا القول غُفلا هكذا، لا مُقيَّدا، لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد وأنت تريد معه. وأن تقول: زيد في الفرس وأنت تريد عليه، ورويت الحديث بزيد وأنت تريد عنه. ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش، ولكن سنضع في ذلك رسماً يُعمل عليه، وُيؤمن التزام الشناعة لمكانه أ. هـ. وقال القاضي ابن العربي (¬2): والتضمين في الفعل أقيس وأوسع، وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحْوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض ويحمل بعضها معاني البعض أ. هـ فالتضمين في الحروف مرذول مطَّرح. الفعل أو المشتق إذا كان بمعنى فعل آخر فيما نيطت به أقرابه وشواكله، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، كقول اللَّه تعالى: (أُحلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (¬3) فالعرب لا تقول رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها أو معها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء وكنتَ تُعدي أفضيتُ بـ (إلى) جئت بـ (إلى) مع الرفث إيذاناً وإشعاراً أنه بمعناه، ونكون قد جمعنا المعنيين معاً: الرفث وهو فاحش القول، مع الإفضاء وهو إزالة الفضاء وأعني الإيلاج، وكلاهما مقصود هنا ليمنح العلاقة الزوجية رِقة ونداوة ورحمة، وينأى عن التصريح بالمعنى الحيواني، وُيسدل ثوبَ الستر على العلاقة الزوجية. ¬

(¬1) طه: 71. (¬2) أحكام القرآن: 1/ 177. (¬3) البقرة: 187.

فالرفث حين أُشرب معنى الإفضاء أو حَمله، جاء منه معنى التضمين والذي يسميه بعض النحاة: الإشراب أو الحمل. ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً لا يكاد يُحاط به، ولعله لو جُمع أكثره لجاء كتاباً ضخماً، وقد عرفنا طريقه فإذا مرَّ بك شيء منه فتقبلْه وأنسْ به فإنه فصل من العربية لطيف يدعو إلى الأنس بها والفقه فيها، ومن أجل ذلك أخذتُ به ووضعتُ يدي فيه، لاعتقادي بأنه من أشرفِ علوم العربية وأذهبَ في طرق القياس والنظر وأجمعها لخصائص الصنعة، وعلائق البيان والحكمة، واستعنت اللَّه على عمله، واستمددته من إرشاده وتوفيقه فهو مُؤتي ذلك بقدرته، والمانح بطوله ومشيئته. ثم إن كل من حكم بزيادة الحروف أو تعاورها أو تماثلها (¬1)، فقد زهد بقيمتها أو تشاغل عن خطرها وأعرض عن تدبرها فدخل عليه غلط في فهمها ولَبْس في معرفة مغزاها، وظنون رديةٌ لو علم مغبَّتها لأنِفَتْ نفسه من الرضا بها. نعم ذهب عدد من المفسرين إلى أن التضمين يجري في الحروف .. ¬

(¬1) فالمتعدي بنفسه كالمتعدي بالحرف متماثلان لا يجد كثير من المفسرين فرقاً بين المعنيين كاستعنته واستعنت به الكشاف: 1/ 67. أقول: فإذا تعدى استعان بالباء فقد طلب العون والظهير لنقص قوته عن قضاء حاجته وأداء مهمته. قال تعالى: (استعينوا بالصبر والصلاة) البقرة: الآية 153. فهاتان قوتان يضيفهما إلى قوته ويستعين بهما لقضاء حاجته، وإذا تعدى بنفسه فلعجزه وانعدام ذاته لدى قضاء مطلوبه، واعتماده بالكلية على سواه كما في قوله تعالى: (وإياك نستعين) الفاتحة الآية 5. ومعناه هنا أنه تجرد عن كل قوة يملكها فانعدمت ذاته أمام الذات الإلهية، فالله وحده هو السند، هو الظهير وهو المعين وهو المعتمد، وإليه التوجه في كل شأن، وهذه هي العبودية المطلقة، فهل تقول بعد هذا لا فرق بين استعنته واستعنت به؟!

ولم أر ظناً أزرى على صاحبه من هذا، حين أبطل المزية في الفعل والتي تتفاوت فيه المنازل، وما أسوأ الشناعة لمكانه. وما كان ذلك إلا من جهة تسرّعه أو نقصه في علم العربية، لم يدرِ أن في هذه الحروف دقائقَ وأسراراً، طريق المعرفة بها الرويّة، ومستقاها سَفَرُ الخاطر في صيدها حتى يُكشف له عنها، فمن فزع إليها فبالملاطفة والرفق، هذا ما ينبغي للدارس أن يفهمه منها، فلا هي منا بسبيل، وليس لنا فيها شغل، حين نبدل حرفاً بحرف، أو نعيره مكان أخيه، هكذا ساذجاً غُفْلاً، إنما أنت في التضمين أوجبْت للفعل المقدر من الحسن واللطف والخلابة وعلو الطبقة ما ليس للمعنى المبذول في الفعل المثبت، فبإبدالك الحرف وفَرتَ له هذه المزيَّة وكان له هذا الفضل وتلك الملاحة. وإني لم أزل ملاحظاً لها، عاكفَ الفكر عليها، ليعلم محصول الفضيلة فيها والمزية التي تنسب لها من أين تأتيها، وكيف تعرض فيها .. لتوقَظ لها الهمم، وتوكل بها النفوس، وتُحرك لها الأفكار، وتستخدم فيها الخواطر فلا يُعرض العاقل عنها صفحاً، ولا يطوي دونها كشحاً، وما كان تعريد أكثر المفسرين عنها -حين رمَوْها للتعاور والتناوب أو للزيادة- إلا تحامياً من الخوض في خُلُجها فضلاً عن اقتحام لُججها، وقد أقمت موضوعي على جزأين: الجزء الأول: جعلته على أربعة فصول: الفصل الأول: تناولت فيه حروف المعاني، وظيفتها، تحليل مدلولها من خلال سياقها. الفصل الثاني: صلة الحروف بالتضمين. الفصل الثالث: صلة الفعل ومشتقاته بالتضمين. الفصل الرابع: موضوع التضمين.

الجزء الثاني: أوردت ما عرض لي من شواهد التضمين في كتاب الله. وما كان غَوصي في اليمِّ إلا على تَوجس، أصانع الخاطر وأُداريه مُشْفقا أن أخرج صُفر اليدين من درره، فإن بلغتُ الذي أمّلتُ فبعونٍ منه سبحانه، وإن اشتبه عليَّ فيه اليقين فلا أخلص إلى تمحيصه، أو تأبَّى عليّ أو اعتاص أو خفي عني من الأسرار التي تناصَرَتْ إليها أغراض ذوي التحصيل، وكلتُ الحال إلى مُلاطفة التأوُّل، مع دوام الفكرة مستعيناً عليه بالخلوة، واعتزال زحمة الأشغال، مع تضرع وافتقار، وإن غيبني اللُّجّ بين طياته فعُذري لسان حال الشاعر: لِيبلغَ عُذرا أو يُصيبَ رغيبةً ... ومُبلغُ نفسٍ عُذرها مثلُ مُنجِح أسأل الله السداد في الرأي، والعصمة من الزلل، وأستغفر الله من كل أخذٍ بقول، كما أبرأ إليه من الحول والطول، والحمد للَّه رب العالمين. المدينة المنورة الإثنين 25 رمضان 1425 د. محمد نديم فاضل

تمهيد

تمهيد ذهب ابن جني: في تعريفه للغة أنها أصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم. هذا التعريف يصلح لدور نشوء اللغة، أما بعد اكتمالها فقد صارت جزءا من تفكير أصحابها، واكتسبت مع الزمن صفة أسمى وأرقى من مجرد الرمزية، لأنها اتصلت بخواطر الناس وعقائدهم ومشاعرهم. فاللغة التي ينشأ فيها الفرد ويرضع لبانها ويحيط بأسرار أساليهها وعجائب تصاريفها على مر الزمن، حتى تصير ألفاظها وتراكيبها الموروثة حاملة من كل جيل بصماتِه، ومظهَر سلوكه، وملامحَ شخصيته، وتصبح بوضوحها وشمولها وعاءً لمعارفه ينتمي إليها بعقله وقلبه وخياله يحفظها من الضياع خوفاً من أن يفقد شخصيته حين يفقدها، وإذا كان لكل أمة حضارة مبنّية على لغتها وثقافتها، فكل اختلال يعرض لهذه الحضارة يكون نتيجة غياب لغتها عن التداول، أو قلة الاحتفال بها، فتضعف سيطرتها عليهم، إذ هي الرَّحِم بينهم، ويكون ذلك إيذانا بأنهيار حضارتهم أو سقوطها. وبين الإحاطة باللغة والقصور عنها، مزالق ومخاطر تستوجب الحذر، تضل عنها العقول، فتنقلب المعاني مُشوهة الصورة، فلا يتبين صحيحها من مزيفها، ولا صوابها

من خطئها، كل ذلك بقدر قربه من حقائقها العميقة في نفسه، وأسرارها المتشعبة في حناياه، أو بعده عنها وانطماسها في نفسه، فيدخل عليه من هذا الباب مكر الماكر وخُبث المحتال. واللغة مفتاح، يساعدنا على ولوج أي مجتمع من المجتمعات، للكشف عن أنواع سلوكه ونشاطه الثقافي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي، وتحديد ملامح شخصيته في عصر من العصور. والعلاقة بين اللغة والفكر، هي العلاقة بين الألفاظ والمعاني، وقدرة اللفظ على اختزان المعاني أو قُدرة الفكر على شَحْن الألفاظ بأكبر طاقة من المعاني. والنظرة إلى المعنى تختلف باختلاف الدارسين من فروع الدراسات الإنسانية، كالأدب واللغة وأصول الفقة والفلسفة والمنطق وعلم النفس. والنحاة العرب لم يتخلصوا من قبضة أرسطو السحرية ولا من نفوذ منطقه القياسي الذي صبغ دراستهم اللغوية كما صبغ علم الكلام. فالعلل والأقيسة جهتان من جهات النفوذ الإغريقي على دراساتنا اللغوية فهذا ابن جني يقول: اعلم أن عِلل جُلّ النحويين وأعني بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم المستضعفين، أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين. وإذا كان اهتمام الفلاسفة في معالجة المعنى هو بالعلاقات الذهنية، فإن اهتمام اللغويين في معالجته هو بالعلاقات العرفية. فالفيلسوف يهتم بكُنْه العلاقة، واللغوي يهتم بشكل العلاقة بين الرمز ومدلوله، ومعناه الوظيفي، ويربط بين المعنى والمقام، فاللغة صياغة تخضع لمقتضيات الرمز العرفي، فليس في الفكر ما يسمح بدلالة (فَعَلَ) على المستقبل (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ولا بإفادة (على) معنى الشرط (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي

ثَمَانِيَ حِجَجٍ) فاللغة عند هؤلاء ظاهرة اجتماعية يصدق عليها كل ما يصدق على الظواهر الاجتماعية من الخضوع لظروف الصواب والخطأ. والمعنى الدلالي يستعين بالمقام ليصبح مفهوما في إطار ثقافة المجتمع. فاللغة ليست مجردَ تراكيبَ شكليةٍ يسعى الوضعيون إلى تجريدها من المعنى، مما أفضى إلى تقويض الأسس التي قام عليها النحو الوصفي. واللغة ليست مجرد توصيل كما في لغة الحيوان ولكنها أداة للتفكير الحر والتعبير الذاتي يصدر عن البنية التحتية أو العميقة. النحو الوصفي غير قادر على استجلاء ما استولى الخفاء على جملته لأنه يركّز على الواقع اللغوي أو البنية السطحية وحدها، أما علم البيان فأكثر صلة بالدراسة المعجمية منه بالمعاني الوظيفية، ومجاله النظر في العلاقة بين الكلمة ومدلولها فلا تكون أوسع منه ولا أضيق في الدلالة، ولكن اللغة - أية لغة - وإن كانت تزود المرء بأدوات التجريد الفكري والتأملي، إلا أنها أضيق في مجالها اللفظي من حقل الأفكار في ذهن المتكلمين بها ومن الصور والظلال التي ترد على أخيلتهم. ومن هنا تصبح المعاني حقيقة للألفاظ قاصرة عن الوفاء بمطالب التعبير عن الأفكار المجردة والصور والظلال، ويصبح التعبير اللغوي بحاجة عند جواز الحقيقة العرفية إلى استعمال آخر نُسميه المجاز. وأغلب معاني اللفظ في معاجمنا مجاز، ولطول استعماله يُظَنُّ به أنه حقيقة. فالكلمة منعزلة ضرب من العبث فلا بد من سياقِ يُبرز دلالتها وبذلك يكون لها أكثر من معنى، ويتحدد المقصود منها عند التركيب أي عند النظم. فألفاظ اللغة لم توضع لتعرف

معانيها في أنفسها وإنَّمَا ليُضم بعضها إلى بعض في عقد نَظيم يصوغه جوهريّ ماهر فيختلف معنى اللفظ باختلاف التركيب ويتغير بتغير السياق. والجرجاني بحق رائدٌ من رواد هذا الفن، فلا بد لفهم اللفظ عنده من دخوله في تركيب ما لمعرفة معناه، يقول الإمام السُّبكي: فكثيرا ما رأيت مَنْ يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها. ثم إن الجملة وحدة عضوية، ترتبط الكلمة فيها كما ترتبط الأعضاء في الجسد في تنسيق دقيق وترابط عجيب. كل لفظ من فعل أو اسم أو ظرف أو حرف يؤدي وظيفته من المعنى القائم في النفس. كل لفظ يلون صورة المعنى، لا ينوب عنه صبْغ آخر، ولا يسمح في استبداله في تأدية الأثر النفسي الذي ابتغاه، أو ارتضاه أو قصد إليه، وما كل لفظ يشفع بشرح أحواله المحيطة به، فتضطر لمعرفته أن تلجأ إلى سياقه: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ)، فالسماع حين تعدى بالباء أدى معنى آخر: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ويشعرون حين يسمعون، ونحن أعلم بما يتأثرون به وتفصح عنه نجواهم. فلفظ السمع أدى وظيفته حين انتظم في سياقه وأفصح عن غرضه الذي تضمنه وهو: الإحساس والشعور والتأثر، وكلها تتعدى بالباء. ثم لا بد لفهم المعنى من معرفة المقام، وهو العنصر الاجتماعي في الدلالة، وهو من أحدث ما وصل إليه علم اللغات الحديث، ويتلخص في

مقولتين صغيرتين وقف عندهما علماء البلاغة منذ القديم وجعلوهما شعاراً لهم عند البحث عن المعنى: الأولى: لكل مقام مقال. والثانية: لكل كلمة مع صاحبتها مقام. فالمقام: وهو العنصر الاجتماعي، يُعد من أهم عناصر المعنى، والعبارة الثانية تُلخص ظاهرة النظم أو التركيب وأثره في المعنى الدلالي الاجتماعي، وهو موضوع عناية الجرجاني في دارسته لعلم النحو. فهو نحوي قبل أن يكون بلاغياً، وعلم المعاني الذي وضع أصوله لم يكن إلا إحياء لروح المعنى والحس والتذوق في علم النحو، بعد أن طمس النحاة بتعليلاتهم وحججهم وضوابطهم العقلية من مقولات المنطق وعلم الكلام موضوعَ الإعراب فحولوه هدفا واستنفدوا الجهد بهذه الضوابط بدلا من تذوق اللغة والبحث عن أسرارها الجمالية. يقول ابن مالك في ألفيته: وما أُبيح افعلْ ودع ما لم يُبح. فالإباحة محصورة ضمن قواعدهم المعيارية وضوابطهم الأصولية التي فرضوها، أما ما خرج عنها: فُيحفظ ولا يُقاس عليه. علم المعاني هذا هو قمة الدراسة النحوية، والذي عزله النحاة عن مجال اهتمامهم سهوا منهم، وتولاه البلاغيون عنهم. فالنظم وما يتصل به من بناء، وترتيب، وتعليق، وإثبات، ونفي، واستفهام، وتقديم، وتأخير، يعتبر من أكبر الجهود المبذولة في إيضاح المعنى الوظيفي في السياق أو التركيب. من ذلك ما حكاه سيبويه في قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ): فأهل الجفاء من العرب يقولون: ولم يكن كفوا له أحد، كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة. هذه الأحدية التي شغلت النحاة في تأخيرها عن اسمها وصلتها،

تناولها علماء الأصول وأرباب البيان فقالوا: الأحدية - وهي أبلغ من واحد - معناها لا شيء غيره معه، فلا حقيقة إلا حقيقته ولا فاعل إلا هو، هذه الأحدية: عقيدة في الضمير ... وتفسير للوجود ... ومنهج للحياة ... منهج للتوجه إليه في الرغبة والرهبة، في السراء والضراء. منهج للتلقي منه ... تلقي العقيدة، والقِيم، والموازين، والشرائع، والنظم، والآداب. منهج فريد ... الأرض فيه صغيرة ... والحياة قصيرة ... ومتاع الدنيا زهيد. علماء الأصول حرصوا على فهم المقام عند استنباط الأحكام، وما جاء في هذا الباب في فهم المعنى وتحسينه لطائف ترِق حواشيها وتلإق إلا على ذوي البصائر. إنه (أي المقام) بحر لا يُفثَج ولا يُغرضُّ. ففهم الكلمة معزولةً عن سياقها ضرب من العبث، فلا بد من سياق يُبرز دلالتها، أما الذين وقفوا على اللفظ منفردا، فقد أخطؤوا طريق الصواب كما رأيت. ومن وجوه الاعتراض على من عرّف الكلمة من النحاة بأنها لفظ مفرد أو لفظ وضع لمعنى مفرد: أن الكلمة في المعجم صامتة لا تنطق مُختزنة في ذاكرة المجتمع، وتتحول من الطابع المعجمي إلى السياق الاستعمالي أي من السكون إلى الحركة ومن الصمت إلى الجهر، حين تُصاغ في عبارة أي تسلك في نظام - واللغة نظام - يأخذ المتكلم من معانيها المتعددة في المعجم ما يحدده سياق الجملة أو التركيب. فاللفظ منفرداً يختلف في معناه بعد دخوله في التركيب. ولا بد في فهم معناه، والكشف عن هُويته من اعتبار مكانه في النظم وملاءمته لجيرانه. هل يخطر معنى الاستبداد على بال في مادة (سبق) لولا أنه جاء على لسان

الشنفرى الأزدي سائغا غير منكور ولا مستوحش: وقد سبقتنا أُم عَمرو بأمرها ... وكانت باعناق المَطي أظلَّتِ وهو معنى أغفلته المعاجم. وهذه مادة (كتب) تأتي بمعنى (وهب) في قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) كما ذكر الطبري فيما حدثه ابن حُميد عن ابن إسحاق. وذكر النيسابوري في حاشية الطبري عن ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. أما السُدي فيقول: معنى كتب في هذا الموضع بمعنى أمر كمثله في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) وأقول: لعل تعدية كتب بـ (على) أساغ للسدي أن يُضمنه معنى الأمر والفرض، وتعديته باللام سوغت للطبري معنى الهبة. وهكذا تبقى الكلمة سارحة في معانيها العديدة أو مُعطياتها أو أبعادها أو مدلولاتِها المختلفة، حتى يظهر من السياق مُرجح يحملها على معنى من المعاني بدليل يَعضِده أو يجعله راجحا والباقيات من معانيه مرجوحة. وإذا كان الإعراب فرع المعنى كما قال النحاة، فالإعراب هو تحليل المعنى الوظيفي والمعنى المعجمي والمقام. فالدلالة لها دورها في كشف المعنى الإضافي وتحريره من الغموض إلى الشفافية وهي عند الجرجاني دلالتان: دلالة اللفظ على المعنى، ودلالة المعنى الذي دل اللفظ عليه إلى معنى لفظ آخر، وذلك بتغيير لفظة إلى أخرى (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) فـ (مِن) معناها (على) وهذا من

تضمين الحروف أو تناوبها، أو نصرناه بمعنى نجيناه، وهو من تضمين الأفعال وهذا أظهر وأصنعَ، فالنصر المتعدي بـ على يُفيد الغلبة. وحين عداه بـ (مِن) أفاد النجاة من مكرهم أو سجنهم أو مؤامراتهم فإذا أفلت من أيديهم ليتابع مسيرة دعوته في بلد آخر، فذلك من صور النصر. وسياق الآية إنما يفيد نصر النجاة من يد الظالم، أما نصر الغلبة فلن يتسنى له لأنه فرد فيهم ليس معه أنصار. أو نصرناه نصراً مستتبعا للانتقام ولذلك عدي بـ مِن فخلع النصر ثوبه على النجاة حين ينتقم، أو اكتست النجاة ثوبالنصر، فتحليل العبارة يجري بتشقيقها إلى وحداتها لفهم المراد. وهكذا نتحرر من الغموض في الحرف ليشف الفعل في التضمين عن معنى جديد، ويُسفر عن طعم إضافي من الجهة التي هي أصحّ لتأديته وأكشف عنه في إظهار مُراده. وبقي موضوع السياق أو الدلالة عند غير الجرجاني مغفولاً عنه غير مأبوه له. ففي قوله سبحانه: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) تضمين (رزق) معنى (اتجر) هو من وحي السياق، وتوجيهه مراعاة لمصلحة اليتيم وحفظ ماله، ندير له أمواله في تجارة رابحة ونرعى مصالحه، فلا يُنفق ما ورثه في سنوات معدودة ثم يمد يده إلى الناس. أما أن نجعل (في) بمعنى (مِن) كما ذكر أغلب المفسرين فتوجيه للمعنى تستنكره مصلحة اليتيم. ثم الموقع والارتباط الداخلي بين وحدات الجملة فيما يتعلق بالنظم،

فاللفظ في التضمين قد يحتمل الضدين، فانظر موقع اللفظ من النص، وتأمل حاله قبل أن تحكم له أو عليه، ففي قوله تعالى: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) ذهب العديد من المفسرين إلى أن المسح معناه الضرب والقتل، فهل يُعقل من قائد عسكري أن يُدمر آلياته العسكرية بيده؟! كرائم الخيل من أعظم وسائل الجهاد المبارك فهو يُكرمها وُيباركها بالمسح على سوقها وأعناقها كما نمسح على رأس اليتيم حبا وتعاطفا، أو لمعرفة الخيل الأصيل من سواه. فعلى المشتغلين بالدراسات المعجمية مراعاة وضع الكلمة في تعبير ما، لبيان معانيها الخفية أو المتعددة بتعدد السياقات التي يتعرض لها، والتراكيب التي ينتظم فيها. كانت عناية النحو في الأجزاء التحليلية لمكونات التركيب أكثر من عنايته بالتركيب نفسه فعلم الدلالة السيفية المعربة عن ( Semantique) ينظر في مدلولات اللفظ مفرده وبعد تركيبه في مجموعة جمل وعبارات وما يطرأ على معناه من تغير له علاقته بالمجتمع وظروفه. عناية النحو اليوم هي في دراسة العلاقات ممثلة في الكلمات الواردة في الجملة، والمنشئ أو الناظم وتوجهاته، فقد يُحمل اللفظ على ظاهره ويكون له في المُغيب غيره فما أوحى به معناه من باب الظن، لم تسبق إلى الأنفس ثقته، كان مردودا غير مُتقبل، ففي قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ذكر أبو حيان وكثير من المفسرين أن (مِنْ) بمعنى (الباء) أي يحفظونه بأمر اللَّه وبإذنه من جميع المهالك، هذا ظاهر

النظم، وقال الرازي: ما المراد من كون المعقبات من بين يديه ومن خلفه؟ والجواب: إن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء يحفظون أعماله وأقواله بتمامها لا يغيب من حفظهم شيء؛ ففي العبارة تقديم وتأخير له معقبات من أمر اللَّه يحفظونه، فكان أذهب في الدلالة على المعنى من سواه. فالدلالة وظيفتها البحث عن المعنى، وهي تُعين على فهم الحقيقة اللغوية وترشد إلى تفسيرها بالغوص وراء مُراد المشرع، والاستلهام بروح النص لا بحرفيته لفهم محتواه الاجتماعي أو التاريخي، أي القرائن التي تُلقي عليه ظلال معناه. وقد وضع اللغويون تحت أيدي الدارسين تراثاً في هذا الجانب يستحق كل ثناء وتقدير لما بذلوه من جهود كبيرة لفهم كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. هذا فعل (اتبع) في مجموعة من الأسيقة: 1 - (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ) فمعنى الاتباع: الصُحبة. 2 - (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا) معناه: الاقتداء. 3 - (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) معناه: الاستقامة أو الالتزام. 4 - (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) معناه: الاختيار. 5 - (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) معناه العمل والتطبيق.

6 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) معناه: الطاعة. وهذا فعل (أتى) المتعدي بنفسه في مساقاته المختلفة: 1 - (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) معناه: دنا وقرب. 2 - (أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ) معناه: أصاب. 3 - (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) معناه: مارس. 4 - (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) معناه: قلع. 5 - (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) معناه: عذب. 6 - (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا) معناه: ساق وورد. 7 - (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) معناه: لاط ومثلها: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً) 8 - (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) معناه: جاء. 9 - (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) معناه: جامع. 10 - (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) معناه: مارس. 11 - (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) معناه: زاول. إنما تنكشف معانيه حسب موقعيته، ويظهر تعدد مدلولاته مع تغير صياغته

في تراكيبه وأسيقته، فمزية الموقعية أكشف عن سره، وأوضح في بيان معناه. وهاهو في تعديه بالحروف: 1 - (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) معناه خلق. 2 - (أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ): معناه: أرسل أو جاء. 3 - (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) معناه: ظهر. 4 - (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) معناه: دخل. 5 - (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) معناه: أحاط. 6 - (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) معناه: أغوى. 7 - (أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ) معناه: مر، ومثلها: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ). 8 - (أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ) معناه: أشرف. وهكذا تتعدد دلالات الفعل بتعدد الحروف التي يتعدى بها والأسيقة التي يسرح فيها، ولعل كثرة التضمينات في هذه اللغة الشريفة هو سبب سعتها، وغلبة حاجة أهلها إلى التركح في وجوهها ومطاويها. فالتضمين مذهب مرضي للعمل عليه والوصية به، وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولُطفه مع سعة انتشاره في البليغ من نظم الكلام ونثره، وعموم فائدته وجدوى الانتفاع منه.

فالفعل أو مشتقه - وهو أهم جزء في التركيب اللغوي - يحتاج في تحديد معالمه إلى معرفة لزومه أو تعديته أو الحروف التي يتعدى بها، وأكاد لا أجازف بدعواي حين أقول: إن الحرف هو العصا السحرية مع الفعل تُوجهه، ويستهدي بها حيث توجه، لا يكاد يستغني عنها على مدى تنوع مدلولاته التي تُثريه أو تُغنيه، ومعاجمنا اللغوية رغم جهودها في حصر استعمالاته، فلا يزال بعضها مخبوءاً في دواوين الشعر وكتب اللغة لم تستدركه بعد. سموّ هذه اللغة الشريفة ناتج عن صعوبتها - صعوبة الرقيّ - انفردت عن سائر لغات العالم بتعدد الحروف التي يتعدى بها الفعل فتعطيه من المعاني ما تعددت معه الحروف، حتى لتجد نقيض المعنى عند اختلاف الحرف - انصرف إليه وانصرف عنه، ورغب فيه ورغب عنه، وأخذ بيده وأخذ على يده، ولها بالشيء ولها عنه - هذا (سبق) منفرداً معزولاً يخلتف في الدلالة عنه منظوما مسلوكاً في نَضَد مخصوص، ففي الأنبياء: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) معنى السبق: التقدير في الأزل وهو متعدٍ بحرف. وفي الأنفال: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) معناها: أُفلِتوا، وفي ياسين: (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) معناها: ابتدروا، متعدٍ بنفسه. ثم التركيب: يوظف الكلمة في معنى تحدده القرائن المختلفة: اللفظية والحالية والمعنوية، ثم المقام وهو المرجح لمعنى دون آخر. فلفظ (فتن) يأتي بمعنى: 1 - المعذرة: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) 2 - والاختبار والامتحان: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

3 - والابتلاء: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (1). 4 - والصدّ: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ... ) (2). 5 - والجنون: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (3). 6 - والعذاب: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (4). 7 - والإحراق بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) (5). 8 - والقتل: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (6) (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) (7). 9 - والضلال: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) (8) و (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) (9). 10 - والشرك: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (10) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (11). 11 - والكفر: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) (12) و (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) (13).

فظاهرة تضافر القرائن لإيضاح المعنى الوظيفي في السياق هو ما ذهب إليه الجرجاني في نظرية النظم وهو ما سماه المحدثون (نظرية السياق) ويعود الفضل في الكشف عن هذه الدلالة لعالمين جليلين: الأول في حقل التحليل هو سيبويه، والآخر في حقل التركيب هو الجرجاني، وللكشف عن هذه الدلالة قد تكثر التأويلات حتى تكاد تنبو عنها الأفهام، وبعضها لا يكاد يظهر وجه الحق فيه إلا بتأويل ظني، فاستترت معانيه عن العلماء، وعندها لا يجوز أن نتمارى في تخصيص تأويل أو تعيينه عند تعارض الاحتمالات (لَن تَرَاني): كيفية الرؤية، تعيين حصولها، متى، وكيف، وهل النفي للتأبيد أو للتوقيت؟ وتعيين المراد بالظن والتخمين خَطِرٌ إذا انتفى الدليل والبرهان، خصوصا حين يرتبط بمعتقدات وعبادات، وُيرخص فيه لغير ذلك من مواعظ وتوجيهات. إذاً لا بد لفهم المعنى من معرفة الدلالة ولا بد للدلالة من قرائن، وللقرائن أثرها وأهميتها في فهم الدلالة، فعلماء الأصول وقفوا على المعنى وأطلقوا عليه كلمة - حكم - كشأن المناطقة، فهو ليس عرفياً ولا اجتماعياً ولكنه عقلي صِرْف، إلا أن المناطقة نظروا في المطابقة والتضمُّن واللزوم والماجرى والماصدق والمقولة والجنس والكلية والجزئية. وعلماء الأصول وضعوا مفاهيم اقتضاها منهجهم من حيث دلالة الكلمة أو طريقة الحكم. ودلالة الكلمة قسموها إلى الوضع والاستعمال والوضوح والقصد. واختلف الأحناف عن الشافعية في دلالة القصد. قال الأحناف: دالٌّ بالعبارة أو الإشارة أو الفحوى أو الاقتضاء. وقال الشافعية: دلالة المنطوق ودلالة المفهوم.

وكما يتصف الحكم عند المناطقة بالصواب والخطأ، يكون الحكم عند الأصوليين بالإباحة والوجوب والتحريم. ورغم ما وصفنا المعنى الأصولي بالعقلية لا العرفية ولا الاجتماعية، إلا أنهم في دلالة الكلمة قدموا نوعاً سلبيا هامًّا اصطلحوا على تسميته: مفهوم المخالفة، ولهذا المفهوم قيمة كبيرة عن (القيم الخلافية) التي تتكون مثها الأنظمة اللغوية وقد أشار الفراء إليها. اتفق علماء اللغات على أن العربية أنصع اللغات وأسنعها وآصلها وأكملها لغزارة موادها واطراد اشتقاقها وسرارة جوادّها حتى قال ابن القطاع: من ذمَّ شِعرهم فجر، ومن طعن على لغتهم كفر أ. هـ وإذا كانت قريش أفصح العرب فرسولنا صلوات اللَّه عليه من قريش في الذُؤابة. عن عمر بن الخطاب قال: يا رسول اللَّه مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كانت لغة إسماعيل قد دُرِست فجاءني بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها). أمد اللَّه نبيه إذاً بجوامع الكلم واختار له من اللغات أعربها، ومن الألسنة أفصحها وأبينها، وقريش تفد إليها الحجيج من قبائل العرب تتحاكم إليها وهي مع فصاحتها وحسن لغتها ورقة لسانها، تتخير من كلام الوفود وأشعارها أصفاها وأبينها وأبلغها فاجتمع ما تخيروه إلى سلائقهم التي طُبعوا عليها فلا ترى في كلامهم عنعنة تميم ولا كشكشة ربيعة ولا كسكسة هوازن ولا تضجع قيس ولا عجرفية ضبَّة، أو تلتلة بهراء، فغرّد بفرائد لغتهم كل شاعر ما استطاب، وصدح بجواهر ألفاظهم كل أديب، فأتهم صِيتُها في البلاد وأنجد.

وإذا رأيت البصير بكلام العرب يستجيد أبياتا أو يستحسن مقالة ويصفها بالحلاوة والرشاقة والحسن والأناقة فليس ذلك إلى رقة ألفاظها بل إلى ما حوته من فضل معانيها وبراعة صياغتها. ففي طباع أصحابها من لطف الحس وصفائه، ونصاعة جوهر الفكر ونقائه أنهم لم يُؤتَوا هذه اللغة الشريفة إلا ونفوسهم قابلةٌ لها محسة لقوة الصنعة فيها ففي هذه اللغة من الغموض والدقة ما جعلهم مشغوفين بها ومُعظمين لها وفيها من الحكمة ما تشهد به العقول فهي مَعْلم من معالم سَداد عقولهم وفضيلة نفوسهم. وإذا كان اللسان ترجمان الجنان، فإصابة اللسان في التعبير أو الرداءة في التحبير، ناشئة عن اضطراب في الفكر وفساد في الذوق وقد قيل: الإبداع في الفكر مرتبط بالإحساس بالجمال وكمال البيان. وقدرة المتلقي العقلية تُظهر المستوى الصادر عن بنيته التحتية لهذه اللغة، فمستمعٌ للقرآن يبكي، ينسلخ عن عالمه ويغيب عن حسِّه، وآخر يتركز تفكيره في الواقع اللغوي لا يكاد يخرج عنه، وثالث لا يفقه المراد من إعجازه، ورابع ... وخامس ... وكان أول مرض ألمَّ بلغتنا هو الوقوف عند ظاهر قوانين النحو ومدلول الألفاظ المفردة والانصراف عن معاني الأساليب ومغازي التراكيب إلا على استحياء مما أضعف لغتنا وهي في ريعان الشباب. وكانت دولة الألفاظ قد استبدت بالمعاني في عصر الجرجاني فحاول تأييد المعنى وتعزيز جانبه ورفض أن تكون الكلمة أبسط عنصر لغوي ذي دلالة قال: والألفاظ لا تفيد حتى تُؤلف ضرباً من التركيب والترتيب، فلو عمدت إلى جملة وأبطلت نضدها ونظامها الذي عليه بُنيت وفيه أفرغ معناها، والذي بخصوصيته أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد، لو فعلت ذلك لأخرجت المعنى من كمال البيان إلى محالِّ الهذيان.

فالجرجاني يربط المعنى بطرق الأداء ربطا لا يجوز بعده الحديث عن المعنى، كل على انفراد، فإذا تغيرت صورة التركيب تغير المعنى بمقدار تغير الصورة، فهي لغة تُؤخذ ولا تقاس، وإنَّمَا يُفتش عن صحة استعمالاتها ومواقعها. فإذا قيل: جلس على يميني يعني مُتمكّناً مُستعلياً، وإذا قيل عن يميني يعني منحرفاً متجافيا. وشأن النظم في الكلام كشأن الأصباغ تُحدث ضروباً من الألوان حين يدخل بعضها في بعض. يقول (مستيه) إن الكلمات يتسع معناها ويضيق بحسب اتساع أُفقها وضيقه وُيصرُّ (اسبيرير) على فكرة المعنى المركزي والسياق ونغمة الإحساس. أما علاقة الفعل بالحرف فتركيبة قابلة للتكيف. فالعرب حملت الحرف على فعله المتعدي به حَمْل الفرع على الأصل لأن الفعل في الجملة هو الأصل ولأنه أشيع حكما وأسير، فإذا تأملته عرفت منه ومن حرفه المتعدي به عناية العرب بالتجانس، وأنه منها على بال وهذا من قوة نظرهم ولُطف استشفافهم للغتهم وإعطائهم كل موضع من كلامهم حقه عن ميزة وعلى بصيرة. أما من حمل الحروف بعضها على بعض زاعما أنه مرادٌ لها، فأسْتسْرفه وأتحاماه إذ كيف جاز لهم ذلك ومراتب الحروف متساوية، وليس بعضها أصلاً لبعض؟ فلا تركن إلى زعمهم إلا بعد السَبْر والتأمل، والإمعان والتصفح فإن وجدت حجة مقطوعاً بها صِرت إليها واعتمدتها، وإن تعذّر ذلك عليك جنحت إلى مذهب تعتمده، ومِئَمِ تتورده. وسترى في الجزء الثاني من هذا الكتاب ما يتصل به ويسافر النظر فيه

بحسب ما أعان اللَّه عليه لتزاحم أغراضه وانتشار جهاته. أقول: وقف المتزمتون ذات يوم عند تراكمات لم يتكيفوا معها، فباتت عربيتنا داخل ضروب من الافتراضات في مدارسنا، وازدادت الشقة بينهم وبين حاجات الجماعة يوما بعد يوم. أما الدارسون اليوم فقد وجدوا هُوّة بين ما وضعه النحاة في الاستدلال والتعليل المستند إلى مقولات المنطق وعلم الكلام، وبين ضرورات التطور اللغوي بوصفه واقعاً حياً يتطور بتطور المجتمعات ذاتها، وهذه الهُوَّة لا تُستدرك بإهمال هذا التراث ولا بإحاطته بعِصمة موهومة، بل على الدارس أن يتعامل معه بروح علمية موضوعية قادرة على التعايش مع واقع اللغة: ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فمن رغب في الازدياد من المعرفة والفضل فليربأ بنفسه عن التقليد والنقل. وفي الختام: لست أدعي أنّ ما عرضت له مُسَلَّم به وكل ما أرجوه هو إثارة النقاش لاستقبال مولود جديد ... فكل حقيقة إنما هي وليدة البحث، والتوردُ لها وَعْرُ المسلك، وكل ما أرجوه أن أشارك في البحث عنها عساني أصل.

القسم الأول

التضمين النحوي في القرآن الكريم الجزء الأول وفيه فصول الأول: في حروف المعاني. الثاني: صلة الحروف بالتضمين. الثالث: صلة الفعل ومشتقاته بالتضمين. الرابع: موضوع التضمين.

الفصل الأول في حروف المعاني

الفصل الأول في حروف المعاني وفيه مباحث: الأول: التعريف بالحروف. الثاني: معاني الحروف. الثالث: مدلول الحروف من خلال السياق. الرابع: وظيفة الحروف.

المبحث الأول التعريف بالحروف

المبحث الأول التعريف بالحروف حروف المعاني تُمثل مرحلة الارتقاء اللغوي، فالطفل يبدأ بأسماء الذوات تظهر على لسانه، ثم الأفعال ثم الصفات، ثم الضمائر، وأخيرا حروف المعاني. هذه الحروف قلَّ أن تخلو آية في كتاب اللَّه منها، وهي على قلتها وتداخل معانيها في مختلف مواقعها، وملاحظة الفروق الدقيقة التي يقتضيها هذا الاختلاف في دلالته على معاني الآيات، ذات تأثير بالغ في الأساليب البيانية. قام رجل عند رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقال: من أطاع اللَّه ورسوله فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد غوى، قال له: " بئس الخطيب أنت، هلا قلت: ومن عصى اللَّه ورسوله فقد غوى؟ فلو كانت الواو لمطلق الجمع لما قيل له ذلك. فقد تناولها العلماء لبالغ أهميتها منذ القرن الثاني، فقد أوردها سيبويه في الكتاب في باب عدة ما عليه الكَلِم، ثم جاء من بعده رجال عالجوا

القضية بطرق مختلفة، منهم المسهب ومنهم الموجز في ذلك ثم ظهرت كتب مقصورة على حروف المعاني. هذه الحروف فيها المفرد - حرف الجر - والمركب (هلا ولولا)، وفيها المشترك والمختص: المشترك بين الاسم والفعل كحروف العطف، والمختص بالفعل كحروف الجزم والنصب. ومنها مَنْ إذا دخل على الفعل يقبح دخوله على الاسم كحروف الاستفهام والهمزة وهلا. وأما من حيث عملها، ففيها العامل وغير العامل وهي أقسام: الأول: يعمل لفظا ومعنى كحروف الجر. الثاني: يعمل معنى ولا يعمل لفظاً كـ هل وهمزة الاستفهام وحروف العطف. الثالث: يعمل لفظاً ولا يعمل معنى كحروف الجر إذا كانت مزيدة.

الرابع: يعمل معنى ولفظاً ولا يعمل حكما: لا غُلامَ لزيدٍ. الخامس: يعمل حكماً ولا يغيّر ولا يؤثر في لفظٍ: علمت لزيدٌ منطلق. السادس: لا يعمل في أفي وجهٍ من الوجوه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وهي عندي للتعجب - فبأي رحمة من اللَّه لنت لهم! وأما من حيث تسميتها: فقد سماها المبرد: حروف إضافة، تضيف معاني الأفعال قبلها إلى الأسماء بعدها، ولعل سيبويه اقتبس مصطلح الإضافة من الخليل، ولكنه سماها هو ومَنْ بعده من البصريين حروف جر، وجعل منها ملازماً للجر، ومنها غير ملازم كـ خلا وعدا وحاشا، وسماها أبو علي الفارسي: حروف جر تجر ما بعدها، وعلل ذلك أن الكسرة من الياء، والياء مخرجها من وسط اللسان. وسماها الكسائي: حروف صفات، تقع صفات لما قبلها من النكرات. وعلَّل ابن يعيش تسميتها - حروف تقوية - لأنها توصل الفعل الضعيف إلى معموله، فالأفعال قبلها ضعُفت عن وُصولها إلى الأسماء بعدها. وسماها ابن سيده: عناصر ارتباط، تربط اسماً باسم، أو اسماً بفعل، أو فعلاً بفعل، أو جملة بجملة، وسماها الفراء والزجاجي: خوافض، ولا خلاف في كون المعنى المستعمل فيه الحرف جزئياً ملحوظا للغير، وإنما اختلفوا في كون هذا الجزئي هو الموضوع له أولاً، ذهب إلى الأول العضُد والسيد ومن وافقهما فقالوا: معاني الحروف جزئيات وضْعاً واستعمالا (فمن) مثلاً موضوعة لكل فرد من الابتداءات الجزئية الملحوظة للغير مستحضرة لكلي يعمها، وذهب إلى الثاني الأوائل فقالوا: هي كليات

وضعاً، جزثيات استعمالاً. وقال الرازي: واللفظ إما أن يكون معناه مستقلا بالمعلومية أو لا يكون كالحرف. أ. هـ فالحرف إذا معناه غير مستقل بنفسه. وأما الزجاجي فقد سمى القسم الثالث حرفا لأنه حَد ما بين هذين القسمين ورباط لهما. وقال عبد الحكيم في حاشية المطول: ذهب الأوائل إلى أنها موضوعة للمعاني الكلية الملحوظة لغيرها. ولهذا شرط الواضع في دلالتها ذِكْر الغَير معها. فمعنى (مِنْ) مثلاً هو الابتداء، لكن من حيث أنه آلة لتعرف حال غيره، ولهذا وجب ذكر الغير، وهذا ما اختاره الشارح في تصانيفه يعني التفتازاني. أ. هـ فحروف المعاني دالة على الأعراض النسبية الإضافية، وهي المسؤولة عن الوجود الرابطي. وقد أشار ابن سيده إلى وظيفة الحروف فقال: حروف المعاني روابط تربط الأسماء بالأفعال والأسماء بالأسماء، ومع أنها أكثر في الاستعمال وأقوم دورا فهي قليلة، وسبب قلتها مع كثرة الاستعمال لها أنها إنما يُحتاج إليها لغيرها من الاسم أو الفعل أو الجملة، وليس كذلك غيرها من الأسماء والأفعال، لأنها يُحتاج إليها في أنفسهاء فصارت هذه الحروف كالآلة وغيرها كالعمل في إعداد الآلة، وهذه علة ذكرها أبو علي الفارسي وهي حسنة. فالنحوي يبحث - في ضوء صحة التركيب وسلامته من اللحن والخطأ - عن المعنى من خلال الوظيفة النحوية في الأداة والصيغة والتركيب، فنسمي

بحثه (نحو الإعراب). والأصولي يبحث في دوالّ النِّسب والارتباطات أو في الكشف عن دوالّ المعنى النحوي في الأداة والصيغة والتركيب فيصح أن نطلق على بحثه (نحو الدلالة) في مقابل ما انتهى إليه البلاغيون (نحو الأسلوب) وبحثهم في علم المعاني قد وصل إلى هدف النحو الذي غفل عنه النحاة.

المبحث الثاني معاني الحروف

المبحث الثاني معاني الحروف (لَمَّا كانت مقاصد كلام العرب على اختلاف صنوفهم مبنياً أكثرها على معاني حروفه صُرفت الهممُ إلى تحصيلها، ومعرفة جملتها وتفصيلها، وهي مع قلتها وتَيسر الوقوف على جملتها قد كثُر دَوْرُها وبَعُد غَوْرها، فعزّت على الأذهان معانيها، وأبت الأذعان إلا لمن يعانيها) المرادي. عرَّف سيبويه الحرف فقال: وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. وعرفه المبرد فقال: الحرف ما جاء لمعنى في غيره. وعرفه الفارسي: والحرف ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. وعرفه ابن السراج: الحروف ما لا يجوز أن يُخبر عنها، ولا يجوز أن تكون خبرا. وعرفه الزجاجي: والحرف ما دل على معنى فى غيره.

وعرَّفه الزمخشري فقال: والحرف ما دل على معنى في غيره، ومن ثم لم ينفك من اسم أو فعل يصحبه. وعرفه المرادي فقال: الحرف طرف في الكلام وفضلةٌ ليس له معنى في نفسه، ولكونه لا يدل على معنى إلا في غيره افتقر إلى ما يكون معه، ليفيد معناه فيه. وعرفه ابن الحاجب فقال: الحرف ما دل على معنى في غيره ومن ثم احتاج في جزئيته إلى اسم أو فعل. وعرفه ابن هشام فقال: والحرف في الاصطلاح ما دل على معنى في غيره، وافتقر إلى ما يكون معه ليفيد معناه فيه، وعرفه ابن يعيش فقال: والحرف كلمة دلت على معنى في غيرها، ولكونه لا يدل على معنى إلا في غيره، افتقر إلى ما يكون معه ليفيد معناه فيه. وجاء السيرافي فحوّل عبارة سيبويه من (جاء بمعنى ليس باسم ولا فعل) إلى: جاء لمعنى في الاسم والفعل، وقولنا: يدل على معنى في غيره نعني أن تصوّر معناه متوقف على خارج عنه. فإذا قلت: ما معنى (مِنْ)؟ فقيل لك: التبعيض، لم تفهم إلا بعد معرفتك بالجزء والكل. وعرفه شرف الدين العمريطي فقال: والحرف لم يصلح له علامة إلا من انتفى قبوله العلامة ويأتي بعده ابن النحاس ليقول: والحق أن الحرف له معنى في نفسه كما

إذا خاطبنا إنسانا بـ (هل) فهو يفهم أنها موضوعة للاستفهام وكذا باقي الحروف، فإذاً عرفْنا أن له معنى في نفسه، رغم الشهرة التي عمَّت جمهور النحويين أن الحرف يدل على معنى في غيره، يقف الشيخ بهاء الدين ابن النحاس في التعليقة هذا الموقف، ويوافقه عليه شيخ نحاة الأندلس في التسهيل أ. هـ. وأسال: أين معنى الاستعلاء في قول القائل: عليَّ بفلان، (ايتوني به)؟ ولعَمري ماذا نفهم من الباء منفردة على سَمْتِ ما حَده النحاة ومنهاجِ ما مثلوه. ولعل الرضي الاستراباذي في شرحه على الكافية كان أدق منهم لمعنى الحرف قال: فالحرف موجد لمعناه في لفظ غيره، فهو كلمة فارغة من المضمون ثم قال: فالحرف وحده لا معنى له أصلاً إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدل على أن في ذلك الشيء فائدة، فإذا أُفرد عن ذلك الشيء بقي غير دالٍّ على معنى. فظهر بهذا أن المعنى الإفرادي للاسم والفعل هو في أنفسهما، والمعنى للحرف هو في غيره. فالباء مثلاً لا تدل على معنى الإلصاق أو الاستعانة أو التعليل أو المصاحبة أو البدل أو السبب أو الاستعلاء أو ... أو ... كما ذكر السيوطي حتى تضاف إلى الاسم الذي بعدها لا أنه يُتحَصل منها منفردةَ، وكذلك اللام لا تحمل معنى الملك أو الاختصاص أو ... حتى تكون في جملة مفيدة، ومثلها (إلى) في انتهاء الغاية أو المعية أو التبيين حتى تأخذ مكانها في مَأَمٍّ تتورده. و (على) لا تفيد معنى الشرط إلا حين يكون ما بعدها شرطاً لما قبلها (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (إِنِّي

أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها، لكن النحاة لم يتعرضوا له، وتردد السُبكي في وروده، والحق أنه استعمال صحيح. هذا رأي أغلب علماء الأصول فلا وجود للحروف وهي منعزلة، بل ولا تأخذ معناها اللغوي إلا عند دخولها كعناصر ارتباط في تركيب ما. وهذا ما قاله (فندريس) حين ميّز بين طائفتين من الكلمات: الفارغة والمليئة. فالأولى هي (دوال النسبة) وجعل منها حروف الجر في الفرنسية. وقال: من المستحيل ترجمة هذه الكلمات في القاموس إذ ليس لها معنى مشخّص، فهي عوامل تقويمٍ أو قيم جبرية، أو روابط كيميائية، ومن ثمّ لم تكن توجد منعزلة، والثانية كلمات مليئة هي (دوال الماهية) ويرى فندريس أن هذه الحروف أو الروابط ليست إلا بقايا كلمات قديمة أُفرغت عن معناها الحقيقي واستعملت مجرد رموز. ولعل وظيفة فقه اللغة أن يتناول في هذا البحث إرجاع هذه الأدوات إلى أصولها لمعرفة المعنى الوظيفي الذي تؤديه من خلال التركيب، ومجمل القول في تعريف الحرف لدى علماء الأصول أنه وحده لا معنى له أصلاً وهو في ذلك نظير الحركات الإعرابية حيث هي علامات على الفاعل والمفعول والمجرور في الرفع والنصب والجر، فهي - أي الحروف - موضوعة لمعان في غير ألفاظها. فالحرف لا يدخل فيه المجاز ولا يتحمل التضمين لأن معناه غير مستقل بنفسه، ولكننا حين نضعه في سياق معين، يتفتح عن رصيده المذخور

وإيحائه المتجدد. والمتتبع لهذه الحروف في كتاب اللَّه بعد إنعام الفحص عن كنهها وإلطاف النظر فيها، يراها تخرج عن معناها المألوف الذي وضعه علماء اللغة والنحو لها، وإنَّمَا طريقة عرضها تكشف عن أسرارٍ استودعها اللَّه فيها. فليس إذاً للحرف حالٌ تخصه في نفسه، وإنما تكون حاله لأمر راجع لفعله. أين حال الباء في قوله تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ). من حالها في قوله تعالى: (نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ). من حالها في قوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا). من حالها في قوله تعالى: (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ). فحال هذه الباء في كل آية راجع إلى فعلها المتعدي بها، وليست لحالِ تخصها في نفسها. وأظهرُ من ذهب إلى أن الحرف علامةٌ لا معنى له: التبريزي حيث يقول: إن الحرف لا معنى له أصلاً لا آلياً ولا استقلالياً وإن إطلاق المعنى في الحرف والدلالة تسمح من باب الاضطرار في مجال التعبير، إذ ليس للحرف معنى حتى يقال: إنه مستعملٌ فيه أو يدل عليه فلفظة (مِنْ) في قولك: جئت مِن دمشق إلى المدينة المنورة، علامة على أن بداية المجيء هي من دمشق، ولفظة (إلى) علامة على كون المدينة منتهاه. وكذلك سائر حروف المعاني آلات للحدث لا كواشف عنه، نظير كشف الأسماء عن معانيها، ومن هذا القبيل وضع الإعراب الرفع والنصب والجر علامات لأحوال مدخولها.

ونخلص بعد هذا التطواف إلى أن لكلٍ من الاسم والفعل والحرف معنى إفرادياً إلا أن المعنى للاسم والفعل في أنفسهما، أما الحرف فإن معناه الإفرادي لا يظهر إلا من خلال تركيبه في جملةٍ، ويستمده من العلاقات التي يوحيها السياق. والتعبير عن العلاقات معنى وظيفي لا معجمي، فلا بيئة للحروف خارج أسيقتها، والمعنى الذي يتكون في الذهن لدى سماعنا جملةً من الجمل، لا يمكن أن يتكون لولا أدوات الربط (الحروف وغيرها من دوالّ النسب) فلو قلت: حزنت، فما المعنى المراد؟ أحزنت منه أم له أم عليه أم ماذا؟. في قوله تعالى: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) لقد جمع في لفظة واحدة أمرين متدافعين وتقديرين ضدين. المعاني مسجونة في مواضعها والأذهان معزولة عن الانتفاع منها، لا نعرف إساءة من إحسان، فهل الرغبة (في) نكاح اليتيمة إن كانت جميلة يتزوجها ويأكل مالها، أو الرغبة (عن) نكاحها إن كانت دميمة يعضلها عن الزواج حتى تموت فيرثها؟. أخفى القرآن المعنى لغرض المصلحة، مصلحة اليتيمة. رُوي عن عمر رضي اللَّه عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر ... فإذا كانت جميلة غنية قال: التمس لها مَنْ هو خير منك، وإن كان غير ذلك أمره أن يتزوجها. رضي اللَّه عنك يا عمر ... إنه ميلاد مجتمع جديد. طمس معالم الجاهلية في النفوس وأنشأ تصوراً جديداً، فتم هذا الميلاد، وتغيرت ملامح الحياة كلها وانتقلت موجته من المجتمع الوليد إلى المجتمع الرشيد. هذه الحروف تُسمى حروف الإضافة، وتسمى حروف الجر كما قلت،

وقد يسميها الكوفيون حروف الصفات لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات وهي متساوية في إيصال الأفعال إلى ما بعدها في عمل الخفض، وإن اختلفت معانيها في أنفسها ولذلك قيل: هي فوضى في ذلك، هذه الحروف لا يدخل فيها المجاز لأن مفهومها غير مستقل بنفسها، بل لا بد أن ينضم إليها شيء آخر لتحصل الفائدة. ومن الأفعال أفعال ضعُفتْ عن تجاوز الفاعل إلى المفعول، فاحتاجت إلى أشياء تستعين بها على تناوله والوصول إليه وذلك نحو: عجبت ومررت وذهبت ... فلما ضعفت عن الوصول رُفدت بحروف الإضافة فجُعلت موصلة لها إليها فقالوا: عجبت من زيد ومررت بعمرو وذهبت إلى هشام. فإذا قلت: هذه الحروف إنما أُتي بها لإيصال معاني الأفعال إلى الأسماء فما بالهم يقولون: زيد في الدار والمال لخالد، فجيء بهذه الحروف ولا فعل قبلها؟ فالجواب: أنه ليس في الكلام حرف جر إلا وهو متعلق بفعل أو ما هو بمعنى الفعل في اللفظ أو التقدير: المال حاصل لزيد، وزيد مستقر في الدار، فثبت بما ذكرناه أن هذه الحروف إنما جيء بها مقوية وموصلة لما قبلها من الفعل أو ما هو في معنى الفعل إلى ما بعدها من الأسماء. واعلم أن حرف الجر إذا دخل على الاسم المجرور فيكون موضعهما نصباً بالفعل المتقدم يدل على ذلك أمران: أحدهما: أن عَبرة الفعل المتعدي بحرف الجر، عَبرة ما يتعدى بنفسه إذا كان في معناه: مررت بزيد كمعنى جزت زيداً، وانصرفت عن خالد كمعنى جاوزت خالداً. فكما أن ما بعد الأفعال المتعدية بانفسها منصوب، فكذلك ما

كان في معناها مما يتعدى بحرف الجر، لأن الاقتضاء واحد، ولأن الأفعال ضعفت في الاستعمال فاحتاجت إلى مقوٍّ. والآخر: من جهة اللفظ فإنك قد تنصب ما عطفته على الجار والمجرور، نحو قولك: مررت بزيد وعمروا، وإن شئت وعَمرو ... بالخفض على اللفظ والنصب على المحل. وكذلك مررت بزيد الظريفَ بالنصب والخفض. قال سيبويه: إنك إذا قلت مررت بزيدٍ فإنك قلت: مررت زيدا. وجملة الأمر: أن حرف الجر يتنزل منزلة جزء من الاسم في موضع نصبٍ وبمنزلة جزء من الفعل من حيث تعدى به فصار حرف الجر بمنزلة الهمزة والتضعيف: أذهبت زيداً وفرَّحته.

المبحث الثالث مدلول الحروف من خلال السياق

المبحث الثالث مدلول الحروف من خلال السياق (يفهم مدلول الأداة من واقع الاستعمال) (وإذا كان للسباق دوره الخطير في تحديد مدلول الأداة ومعناها الوظيفي فهو - أي السياق - ينهض بنفسبر تعدد المعنى الوظيفي لكبر من الأدوات النحوية) سبيرير. جعل النحاة لكل أداة من أدوات المعاني معنى مخصوصاً لا يفارقها، فـ إلى: لانتهاء الغاية، وفي: للظرفية، وعلى: للاستعلاء ... الخ. وهل تخرج الأداة عن معناها الذي وضع لها أو وضعت له؟ لا يتضح ذلك إلا من خلال السياق اللغوي ووضعها في تركيب معين يتحدد على ضوئه المعنى المقصود لها، مع ملاحظة القرائن والضوابط والمقام. فالمقام يكون مرجحاً لمعنى دون آخر، وذلك إيضاحا لظاهرة هامة جداً هي: ظاهرة تضافر القرائن لإيضاح المعنى الوظيفي في السياق. ففهم اللفظ معزولاً عن سياقه ضرب من العبث، إذ لا بد من سياق يُبرز دلالته. فهذه اللام في قوله سبحانه:

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ). نلاحظ أن ما تؤديه اللام بهذا السياق، له مبلغ الخطر في الكشف عن المعنى المطلوب، فهي ليست بمعنى (في) ولا الغاية، ولا التعليل، ولا ... وإنَّمَا أوحى السياق بما يتعدى بها وتستريح إليه، إنه فعل (نصب) المتعدي باللام ووضعُ الموازين يوم القيامة إنما هو تمهيد لنصبها. وهذه (مِنْ) في قوله سبحانه: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا). تضمن قضى معنى طابت نفسه أو بلغ حاجته. وهذه الباء في قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) تضمن القضاء معنى الحكم. و (على) في قوله سبحانه: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ). جعلته تضمن قضى معنى: أجهز عليه. ومثلها في قوله: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ). و (إلى) في قوله سبحانه: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). نضمن معنى أتم. و (في) في قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تضمن قضى معنى فصل. ومن خصائص العربية في أفعالها، وما تميز بها بعضها أنه يتعدى بحرف مخصوص لا يتحول عنه إلى سواه فتقول في سمع: استمعت له أو إليه لا

شيء سواه، فإذا أدخلت عليه الباء تلكأ واعتذر إلا بإحراج وخجل، وتحت الخوف والوجَل من أن يُفسَّر الكلام على غير مجاريه، وسنَنِ تعبيره، فتزل به الفُهوم، وتتعثّر في شرحه الأقلام. ففي التنزيل العزيز: (بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ). ذهب بعضهم إلى تضمين الباء معنى اللام، وجعلها بعضهم سببية، وآخرون ذهبوا إلى تقدير محذوف (إليك) وأن الاستماع كان من باب الهزء والسخرية. ويزول الإحراج ويبرد الخجل حين يتقمص السمع شخصية الاهتمام ويتضمن معنى العناية (عني واهتم). ساقتْنا الباء إلى هذا المعنى، فمستمع القرآن من كفار قريش عَنِ بسمو بيانه ومبلغ إعجازه ولكنه يُجاهد فطرته ألا تتأثر وقلبه ألا يرق، واللَّه أعلم كم يشغَل القرآن عليهم اهتمامهم فيُلقون إليه أسماعهم، ولكن غلبتْ عليهم شقوتهم حِرصاً على زعامتهم. فأين الهُزء وأين السخرية؟! لقد فتحت لنا الباء مع فعل السمع بصائر. وإذا كان هذا هو السر في اختصاص الحروف بأفعالها ومصادرها ومشتقاتها، فالعربي في عصوره الأولى إذا تجاوز في استعماله هذه الروابط فسبب عدوله من حرف إلى حرف هو السياق إذاً، وهو الذي وضع الفعل في معنى معين وخصصه به وعداه بحرف يناسبه ويطلبه ويُزيل الغرابة عنه، فإبدال حرف مكان حرف أو قيام حرف مقام حرف، أو تضمين الحروف كثير الإيهام ولا حقيقة تحته، بل لكل حرف معناه، وما اختير في سياقه إلا لغرض يُؤديه، أما أنه استُعمل في وقت من الزمان بمعنى بديله ثم انصرف عنه فيما بعد،

فخطأٌ لا يثبت عند أهل النظر وسأقف عند بعض الحروف مستعرضاً بعض أسيقتها لتمام الفائدة: إن المُلك والتمليك ليسا مستفادين من اللام بقدر ما هما مستفادان من الفعل المصاحب لهما: (وهبتُ لزيدِ ديناراً) بدليل لو أنك أسقطتها - وهبت زيداً - لفهمت معنى التمليك من الفعل وهب، وكذلك في قول اللَّه عز وجل: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فالتمليك مستفاد من المصدر المصاحب لهذه اللام. وكذلك الاختصاص في قولنا: (الحمد لله) ليس هو في اللام بقدر ما هو في الحمد الذي اختص اللَّه به ولا يجوز لسواه من خلقه. ومعنى الاستحقاق في قول الله: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ). وقوله سبحانه: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) مستفاد من سياق الإسناد الخبري. ومن المعاني التي يرشد إليها السياق ولم يذكرها المفسرون لهذه اللام (التسخير) في قوله عز وجل: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) فالريح مسخرة لسيدنا سليمان وليس للتمليك كما قال المفسرون. ودليل آخر: لو أن مدير شركة ما أصدر أمراً بوضع إحدى سيارات الشركة تحت تصرف المحاسب نقول: هذه السيارة للمحاسب. فهل اللام للتمليك؟ لا، بل هي للتسخير، والمعنى مستفاد من السياق. ووجود النظير عند فقدان الدليل كافٍ لصحة ما أثبتناه. فإن ضامّ الدليلُ النظيرَ - ودليلنا (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ) - فلا مذهب لأحد عن ذلك.

ولام الولاية: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). ولام التمهيد والتيسير والتذليل: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا). (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (وًذلَفنَهَالَهُنم فَمِتهَا كوبُهُم). ولام التمكين: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ). وعن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ). (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا). (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ... الخ، ولم يذكر هذا المعنى المرادي في جناه رغم أنه ذكر لمعانيها ثلاثين معنى. وكل هذه المعاني إنما يوحي بها السياق ففي قول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ). قال الفقهاء: اللام للتمليك. ولعلها تكون للاستحقاق في بعض الأنصباء وفي ظروف خاصة. والفرق بينهما يُسفر ويَضح مع الاستقراء له والفحص عن كنهه بدليله أو نظيره. لنقف عند أحد الأنصباء: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) يوم كان المجاهد: سلاحه سيف وترس وجعبة من سهام كان يملكها فاللام للتمليك، واليوم نشتري للأفغاني أو الشيشاني أو الفلبيني المصفحة والمدرعة، فهل صار ذلك ملكا له وفي حيازته بلام التمليك، أو أنها لام الاستحقاق لأنه يستحق أن يستخدمها ما دام الجهاد قائما؟ فاللام

مؤذنة باستحقاق كل مَن نَفَر في سبيل هذا الجهاد المبارك أن يمارس حقه في استخدامها حسب توجيه قيادته. وحين قال بعض النحاة: اللام بمعنى (على) في قوله تعالى: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ) وقوله: (دَعَانَا لِجَنبِهِ). وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعائشة؛ " اشترطي لهم الولاء ". قال ابن النحاس: ولا نعرف في العربية (لهم) بمعنى (عليهم). أي اللام بمعنى على. قال ابن تيمية في مقدمة التفسير: وغلط من جعل بعض الحروف يقوم مقام بعض. هذه الحروف حين تسلطت على أفعال لا تتعدى بها، يمضي الحرف ليأخذ بيدك يُضيء لك ما خفي وراءه من اللطائف والأسرار، مما يحتاج معه إلى تأتٍّ وتأنٍّ وفضل بيان، لتفهم عنه كل موضع، عن مِيزة وعلى بصيرة، ليس استرسالاً ولا ترجيماً. فما جاءت هذه الحروف دخيلة على الفعل بل لتكسب المعنى نبلاً وتظهر فيه مزيةَ. أ. هـ. فمذهب ابن تيمية هذا الذي ذكرته هو العمل عليه والوصية به إلى أن يرد ما يستنزلني عنه. ولام التاريخ كما يسميها بعض النحاة في قول الله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ). بكسر اللام قراءة الجحدري وهي شاذة. وقال المرادي وغيره: اللام بمعنى عند. وفي قول اللَّه عز وجل: (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) اللام ليست للتخصيص كما قال الزركشي. ولكنها في رأي

الأحناف للتمليك، والتمليك مستفاد من سياق الآية من فعل وهب، والواهب مالك لهبته فهو يتصرف بها كما شاء، وقد استشهد أبو حنيفة على جواز عقد النكاح للفتاة البالغة الراشدة بلفظ الهبة في هذه الآية، بأن رسول اللَّه صلى عليه وسلم وأمته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، ولا دليل هنا على الخصوصية. وقال الشافعي وغيره: لا يصح العقد للفتاة إلا بولي لأن عقد الهبة هنا مخصوص برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من دون أمته، لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعي للاشتراك في اللفظ يعني أبا حنيفة يحتاج إلى دليل. وفي قول اللَّه عز وجل: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا). قال الزمخشري والقرطبي وأبو حيان والآلوسي: اللام بمعنى إلى. وضمن مجاهد أوحى معنى أمر وضمنها السدي معنى قال فاللام على أصلها. وأقول: التضمين في الحرف لا حفل به ولا شأن له، ولعل تضمين أوحى معنى أذن أو سمح أولى في هذا السياق من سواه لأن تحديث الأرض بعد الزلزلة عما فعله العباد على ظهرها من مؤمن وكافر، إنما كان بعد أن أذن اللَّه لها بذلك التحديث وسمح. وتبقى العلاقة قائمة بين المضمن والمضمن فيه من حيث الإذن، والسماح صورة من صور الوحي. وإذا سمى النحاة لام التاريخ أو الوقت، ولام المآل والصيرورة والعاقبة (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا). ولام

السبب، والتعجب، والجزاء، ولام الولاية. فإنما أوحت بهذه المعاني الأفعال التي دخلت عليها. قال الخليل: لام المدح في قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) ولام الذم في قوله تعالى: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13). أقول وباللَّه التوفيق: الوقوف على الحرف والتقيد به دون الالتفات إلى السياق والنظرة الشمولية إليه، يُحدث فجوة ولو نسبية بين الجزء والكل، فالمدح والذم في الآيتين مستفاد من نعم وبئس لا من اللام. كذلك اللام التي في موضع إلى في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) ارجع إلى فعل سقى من كتابنا هذا في الجزء الثاني. ومثله قوله تعالى: (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) ارجع إلى فعل نادى في الجزء الثاني. ومثله قوله: (هَدَانَا لِهَذَا). وحروف المعاني في نُبل قَدرها، ونباوة محلها تكون باعثاً لك على استحضار الخاطر، فإذا طالعك أحدها وتأبى عليك معناه، أو اعتاص فهمه، فسياقه والقرائن التي تَعيج به تُصحِب لك أبيَّه فتُشارف معناه، ويتلوح لك بعضُ قُصوده.

أما القول بتعاورها فيُذهب استطابتها ويفسد الإمتاع بها والاستملاح لها. فالمعنى في اللفظ كالروح في الجسد، يتفرس فيه النطاسيُّ الحقيقةَ بطبعه وحسه، كما يتفرس اللبيبُ صفات الأرواح في الأجساد ينحيزة نفسه. حرف (لا) والذي يمتد معه الصوت، يؤذن بامتداد المعنى بخلاف (لن) الذي ينقطع معه الصوت ويُؤذِن بانقطاع معناه: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا). لليهود حين قيل لهم (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فدعواهم قاصرة مترددة بزعمهم أنهم أولياء الله. (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا). لليهود بما قدمته أيديهم فدعواهم قاطعة بأن الجنة لهم بصفة الخلوص. فتأمل ذلك فإنه معنى لطيف وغرض شريف يستعمل (لا) عند التردد و (لن) عند القطع. وشاهد آخر تبطل فيه حجة المعتزلة بالرؤية في قوله تعالى: (لَن تَرَاني) ولم يقل لا تراني، كالذي جاء في قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) منفيا بـ (لا) ولم يقل: لن تدركه الأبصار، والفرق واضح بين الرؤية والإدراك، والحديث صحيح جاء في البخاري: " إنكم ترون ربكم يوم القيامة ". وكل ما مر من هذه اللطائف في دلالة الحرف إنما يتحكم فيه المقام ويوجهه السياق ولا يخضع لتعليل ولا يلتزم بقاعدة.

المبحث الرابع وظيفة الحروف

المبحث الرابع وظيفة الحروف وقف علماء النحو في حدهم لحروف المعاني على وظيفتها في الجملة فقالوا: لفظ يدل على معنى في غيره، يربط بين أطراف الجملة، ولم يقفوا عند ماهيته وحقيقة ذاته. وكان على الحاد أن يُفرق بين الماهية والوظيفية، وأن تكون ألفاظه بعيدة عن العموميات وعن المجاز والمشترك والوحشي. ورحم اللَّه الرازي حين قال: وأحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع من الاحتمالات البعيدة. وقال التبريزي: ليس للحرف معنى حتى يقال: إنه مستعمل فيه أو يدل عليه. والحرف عند علماء الأصول لا معنى له أصلا فهو نظير الحركات الإعرابية: موضوع لمعنى في كير لفظه. فالحروف أدوات لتوصيل أفعال قاصرة وضعيفة، ولإحداث علاقات، والتعبير عن العلاقات معنى وظيفي لا معجمي، واختصار لعبارات كثيرة. وهذه عبارة قالها عبد اللَّه بن جفعر لعاصم: هل لكَ بِنا فيه؟ فلا ينجيه منا ما فعل. ولو سألنا القائل بالتناوب عن تفسيره حروف ابن جعفر لانكفأ مبهوتا لا يقطع فيها بيقين.

امتيازات الحروف: 1 - هي أدوات ربط: ربط ضمير بضمير (أينِ أنت منه؟) و (فكيف أنت له؟). ربط اسم باسم (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ). ربط فعل باسم (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ). ربط فعل بفعل (مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ). ربط جملة بجملة (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). 2 - وهي كثيرة الدوران في الكلام مع افتقارها إلى الضمائم لبيان معناها فلا تفيد إلا مع مجرورها كما أشار سيبويه: الحرف ما دل على معنى في غيره ومن ثَم لم ينفك من اسم أو فعل يصحبه. يتعدد مدلولها الوظيفي ولا يتغير مبناها. فيها معنى ثابت أصيل كما قال سيبويه، فالباء: إنما هي للإلصاق والاختلاط ثم قال: فما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله. وقال الزمخشري: اللام للاختصاص، وهذا أصل معانيها. إذاً لمعاني الحروف ثوابت ومتغيرات. وظاهرة تعدد المعنى الوظيفي للأداة يعكس تشابك العلاقات ولا يفهم مدلول الأداة إلا من واقع استعمالها فلا بيئة لها خارج أسيقتها، ولا تحمل معناها حتى تأخذ مكانها في مأمّ تتورده، وفي طريقنا العسوف نسوق هذا المثل: قال الأعشى الكبير:

فأرادها كيف الدخول ... وكيف ما يؤتى لها إن الفتاة صغيرة ... عِزٌّ فلا يُسدى بها نقف مع اللام - يؤتى لها - والباء يسدى بها - مبهوتين لهذا الاستعمال الذي خرج فيه الشاعر على المألوف الدلالي للحرف أو الرمز العرفي الذي قال عنه أهل اللغة: اللام للتعليل أو التبليغ. والباء للإلصاق أو التبعيض وعلى للاستعلاء ومن لابتداء الغاية وإلى لانتهائها ... الخ. نحن محكومون إذاً أن نلتمس معناها من خلال السياق في النظم الذي وردت فيه. ثم نعود إلى كتاب اللَّه فنقول: اللام مثلاً لما تعددت معانيها: لام الملك والاختصاص والاستحقاق والتسخير والولاية والتمهيد والتذليل والتمكين والتصريف والتاريخ والمدح والذم كما مر بنا. أليست هذه المعاني مستوحاة من السياق؟ لم اختلفوا في معناها والسياق واحد لم يتغير؟ قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ). قال ابن الحاجب اللام معناها عن. وقال ابن مالك في شرح التسهيل: اللام للتعليل. ونقل البحر عن قتادة: إنها لام التبليغ، ونقل الجمل عن أبي السعود: إن اللام بمعنى (في) كما في قوله: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا)، وقال الآلوسي: لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل وقيل هي لام المشافهة. أليس هذا من اختلاف الفهوم في توجيه المعنى ما دام السياق واحداً، جاء في بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية: إن دلالات الفعل قد تكون متعددة والحروف تبع لهذه الدلالات يُؤتى بها لتناسب هذه المعاني. وُيعقب على قوله

أحد المعاصرين: غير أن ابن قيم الجوزية يعد هذا تضمينا وليس هو من التضمين في شيء وإنما هو من تعاور الحروف وإنابة بعضها عن بعض. أقول: لو سلمنا لهذا الباحث تسليم نظر فهل له في دعواه مُرتَفَق نتوركه أو دليل معه عليه؟ قال الأصوليون: إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال. وأسوق هذا الشاهد لنزداد وضوحا: قَالَ تَعَالَى: (وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) وقال: (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) قال العز: أخبتوا إلى ربهم تابوا وأنابوا عداه بـ إلى ليجمع بين التوبة والتواضع، وقال: وأخبتوا إلى ربهم ضُمن المعنى أنابوا. وقال الزركشي والجمل: أخبت فلان إلى كذا اطمأن إليه وأخبت له: خضع وخشع. وقال ابن عباس: وأخبتوا إلى ربهم أخلصوا وخضعوا وخشعوا. وتخبت له: تخلص له وتقبله. وقال مجاهد: أطاعوا. وقال قتادة: خشعوا، وقال مقاتل: أخلصوا. وقال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد. أقول: أخبت إلى: تضمن معنى اطمأن. فالحرف (الى) مع امتداد الصوت وتفريغ النَّفَس وراحة الصدر يفيد اطمئنان القلب وسكون الأعضاء، وهذا المعنى يتفق مع سياق الآية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ). أما أخبت له نقد تضمن معنى خضع والخضوع فيه كسر النفس، والحرف (لِ) مع الكسرة الخاطفة

والصوت المنقطع ونفثة الصدر السريعة، يفيد خضوع الجارحة الموقوت، وخشوعها المنفعل بإثارةٍ تزول بزوال المؤثر، فقد يتوب العبد إلى ربه ثم يعود إلى ما كان عليه مرة ومرة ومرة. وهذه الذبذبة تتفق مع سياق الآية السابقة لها واللاحقة بها، فمن لحظ هذه اللطائف بقلبه وقدّر هذا النظم البديع بلبِّه، أبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد. كيف يقول الفراء: معنى إلى ربهم ولربهم واحد، والسياق بين الآيتين مختلف؟ واللَّه العليم الخبير بخصائص هذه الحروف جعل لكل سياق حرفاً يُنبه إلى ما استودعه من أسرار فيه. فمعاني الحروف تنكشف لمن أَمَّها، وتهيأ لها ونشَّم فيها، فمن طبِن لها أمطته كاهلها وأسلست له غاربها، ومن خبطها وتورطها، أوعرت به سُبُلها. وإذا كان للسياق دوره في تحديد مدلول الأداة ومعناها الوظيفي فهو - أي السياق - ينهض بتفسير هذه المداليل المتعددة. (فيرث) وهو زعيم نظرية السياق، يؤكد الوظيفة الاجتماعية للغة، ومعنى (الأداة) عند أصحاب هذه النظرية هو في استعمالها أو في الدور الذي تؤديه في الجملة فمعناها لا ينكشف إلا من خلال تسييقها أي وضعها في سياقاتها المختلفة مع عناصر أخرى تتعلق بالمقام كما قلت. فدراسة الأداة يتطلب تحليلا لهذه السياقات: السياق اللغوي، والعاطفي، والثقافي، والاجتماعي، وسياق المواقف أو بعبارة أخرى: توزعها اللغوي، فمعناها مستفاد من تركيبها لا من نفسها منفردة: والسياق على هذا التفسير يشمل الكلمة والجملة وما قبلها من الجمل وما بعدها. أقول: - * (أو) في قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) إنما هي للإباحة في أحد الشيئين فلو انتهيت عن طاعتهما معا لكنت مصيبا. فقد

جرت (أو) هنا مجرى الواو لأن النهي إذا دخل في الإباحة استوعب ما كان مباحا باتفاق، وإذا دخل في التخيير ففيه خلاف، ذهب السيرافي إلى أنه يستوعب الجميع كالنهي عن المباح، وذهب ابن كيسان إلى جواز النهي عن كل واحد وجوازه أن يكون عن الجميع، إن قلت للمسافر: صل أربعا أو ثنتين، فالركعتان واجبتان وترك الباقيتين بقصد الترخص. هنا لا تكون (أو) بمعنى الواو لمطلق الجمع كما سبق فالفرق بين التخيير والإباحة هو: جواز الجمع في الإباحة ومنع الجمع في التخيير. وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس (أو) بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى (أو). * و (الباء): في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) إن دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت التبعيض خلافاً للأحناف، وإن دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه أفادت الإلصاق: إلصاق الفعل بمفعوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فأنت لا تقول طفت البيت وإنما بالبيت ولا يسمى من دار ببعض الكعبة طائفا أما من مسح بعض رأسه فيسمى ماسحاً. فهذا ونحوه موضع متناهٍ آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه، يُرجى التنبه لأمثاله، وإمعان الفحص عما هذه حاله. فإذاً على دارس كتاب الله، الكاشف عن أسراره، النظر في الحروف ومحلها وسياقاتها، فإن الرجل يقرأ الآية من كتاب اللَّه فيعيا بوجهها فيهلِك فيها. فقول الحوفي: إن الباء في قوله سبحانه: (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) متعلقة بـ ناظرة، هو باطل لأن الاستفهام له الصدارة والباء متعلقة بما بعدها أي بـ يرجع. ومن قال في قوله سبحانه: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا). (عليه) إغراء نقول: إغراء الغائب ضعيف. فالدلالة على المعنى

شيء، والاستدلال عليه شيء آخر، ولا يلزم الغلط في أحدهما الغلط في الآخر. وحين نقول: يحتمل اللفظ هذا المعنى، فهل نريد صلاحيته له من حيث الوضع اللغوي أم من حيث مراد المتكلم؛ حسبما يقتضيه السياق؟ فإنه لا يلزم من صلاحية الوضع أن يكون مراداً من جهة المتكلم وبعض المفسرين كانت طريقتهم في معالجة حروف المعاني أنهم تناولوا شرحها ضمن مفردات الجملة لبيان معناها وإيضاح مدلولها دون ربطها بالسياق والهيكل العام ونظراته الشاملة، فحبسوا شروحهم وقُرَّاءهم في أسر المفردات، فشق على القارئ أن يحيط بمدلولها من خلال الكُليات، والاهتداء بسهولة إلى معالم الفكرة العامة لأنها اختفت وراء دلالات الألفاظ المفردة وغابت خلف عديد من التخريجات والتأويلات لمعان جزئية دون عرضها أو ربطها في هيكل متكامل تتناسق فيه الجزيئات بالكليات، ويأخذ بعضها برقاب بعض. وحين قال النحاة: (إلى) بمعنى اللام، والباء بمعنى (في) وعن بمعنى على ... ردد ذلك المفسرون أو أكثرهم ولم يسألوا عن سبب تناوب هذه الحروف ولم يتعرضوا للعلة التي من أجلها جرى التعاور. فليس التناوب في الحروف إلا أسلوباً من الهروب في مواجهة المشكلة، أو قنطرة للخروج من مأزق. وحين فشا على ألسنة المفسرين واتسع، صار لشياعِهِ كأنه أصل يقاس عليه، فكيف نفزع إليه وهو لضعفه لا يملك أن يكون علة نفسه؟ فخذ منه حِذرك، ولا تغتر من إخلاد من أخلد إليه وقد كشفت لك عن مساوئه. لا بد إذن أن تكون العلة الغائية ضالة البياني أو المفسر، لأنها تسعى لشرح العلاقات بين المضمّن والمضمّن فيه، حين يُحمل المعنى على التضمين، كما تسعى للكشف عما تحمله هذه الحروف من وظائفَ ومعانٍ. ويرى علماء اللغة المحدثون البحث عن هذه العلة ضرورة لتعميق الفهم، ويَرون حرمان أي بحث لغوي منها محاباة للتمرير على حساب العمق في الفهم والإحاطة.

إن الفكر باعتماده على الهوية المجردة للحرف أو الأداة أو اللفظ دون ربطه بالنص، وبواقع له زمان ومكان، وبظروف اجتماعية وتاريخية ونفسية معينة، ينتهي إلى تأملات مجردة، وهذا من مخاطر العقلية المثالية. لقد كشفت دراسة الألفاظ والأدوات منعزلة عن سياقها أنها فقيرة حين نتناولها في منظور عقلي صِرف، إنها تنفر من التجريد تتعامل مع واقع بذاته، مع وسط اجتماعي أو سياسي أو دعوي ... فهي تحتاج إلى جداول إحصائية وتحليل لنمط تطورها. هذا فعل علم يأتي متعديا بـ (مِن) في هاتين الآيتين: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) في الأولى تضمن معنى الكشف فاللَّه يعلم، ولكن يريد أن يكشف للناس ... وفي الثانية تضمن معنى الفَرْز. لنقف مع فعل (أرسل) في الوسط الذي يتحرك فيه، والدور الذي يُؤديه مع مجموعة من حروف المعاني: 1 - (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ)

(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ) فالإرسال هنا تضمن معنى التسليط والقهر وإنزال الضُّر والعذاب حتى تعدى بـ (على): 2 - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) تضمن الإرسال مع الحرف إلى معنى البعث والتوجيه فقد وجهت إليهن دعوة إلى وليمة. 3 - (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) تضمن الإرسال هنا معنى الإطلاق من الأسر أو الحجز أو العذاب مع حرف المعية (مع) ليشدّ أزْره بالعصبة المؤمنة والصحبة الطبية. 4 - (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) تضمن الإرساد هنا معنى البث مع الحرف (في) 5 - (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) تضمن الإرسال هنا مع الباء معنى الإنذار 6 - (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) تضمن الإرسال مع اللام معنى الفتح والمنح.

فللسياق دوره وللقرائن شأنها، وتحليل النص في موقف ما أو وسط من الأوساط: اجتماعيا كان أو تاريخيا أو نفسيا أو سياسيا ... فإنه يتجاوز الرؤية العرفية إلى كشف البصمات وتحديد المعالم، ولكل رؤية منهجها وفلسفتها، وتمزيق هذه الرؤية أو فصلها سيؤدي إلى تشتتها، وبالتالي سيكون له مظاهر سلبية على الثقافة. فعلى الباحث أن يجتهد في التحري عن خفايا الفعل وأسراره ضمن النظرة الكلية، والرؤية الشمولية، ليصل إلى الفهم الأكمل والأشمل، ليصل إلى المعنى الدلالي الذي اكتسبه من المقام المنظوم فيه، وهذا لا يخضع لتعليل ولا قاعدة، لأنه عرفي يغلب عليه طابع الاجتهاد، طابع الملاحظة والتأمل الذاتي، (فضرب) معناه المعجمي: لطم، أما معناه الدلالي بعد انتظامه في التركيب فتضمن معنى: ضرب الفحل: شال بذنبه، وضرب الجرح: اشتد وجعه. وسعى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ). وضرب الدهر بيننا فرَّقنا. وفرض: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ). وحجر: ضرب القاضي على يده. ومثل: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ). وأضرب عن الأمر: عَزَف عنه. وأضرب في بيته: لم يبرح.

أرأيت إلى التضمين لا يأتيك مصرحاً به مكشوفاً عن وجهه، بل مدلولا عليه بغيره من وجهٍ لا يفطن له إلا من أوتي النظر، ليكون ذلك أعلى لشأنه وألطف لمكانه حتى كان الإفصاح عنه غير سائغ ولا مريح.

الفصل الثاني

الفصل الثاني وفيه مبحثان: المبحث الأول: أقوال العلماء في التضمين. المبحث الثاني: موضوعه.

المبحث الأول أقوال العلماء في التضمين

المبحث الأول أقوال العلماء في التضمين التعريف بالمصطلح: (أ) - في علم المعاني يطلق على الاقتباس. (ب) - في علم العروض يطلق على عيب من عيوب القافية. (ج) - في علم اللغة يطلق على الإيداع والإدخال تقول: ضمن الشيء: أودعه إياه كما تودع الوِعَاء المتاع والميتَ القبرَ قال ابن الرقاع: أوكت عليه مضيقا من عواهنها ... كما تضمن كشح الحرة الحبلا يُطلق في علم النحو على إشراب فعل معنى فعل ليعامل معاملته، ويجري مجراه. أو إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه وللعلماء فيه أقوال:

قال الزمخشري: يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه ويستعملونه استعماله، مع إرادة معنى المتضمن قال: والغرض في التضمين إعطاء مجموع المعنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع معنى (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في حاشية الكشاف: فإن قيل: الفعل المذكور إن كان مستعملا في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي. وإن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. قلنا: هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية. فمعنى (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ): أي نادما على كذا، ولا بد من اعتبار الحال، وإلا كان مجازاً لا تضميناً، وكذا قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي معترفين بالغيب. أ. هـ وقال ابن يعيش: والتحقيق في ذلك أن الفعل إذا كان في معنى فعل آخر، وكان أحدهما يصل إلى معموله بحرف والآخر يصل بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه، إيذانا بأن هذا الفعل بمعنى ذلك الآخر، وذلك كقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما: رفثت بها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى)، جئت بـ (إلى) إيذانا بأنه في معناه.

وقال ابن النحاس في التعليقة: الفرق بين المضمن معنى الحرف وغير المضمن، أن المضمن معنى الحرف لا يجوز إظهار الحرف معه في ذلك المكان، وغير المضمن يجوز إظهار الحرف معه كما إذا قلنا في الظرف إنه يراد فيه معنى (في) فإنا لا نريد به أن الظرف متضمن معنى (في)، كيف ولو كان كذلك لبني وإنما تعني به أن قوةَ الكلام، قوةُ كلام آخر في ظاهره، وكذلك يجوز إظهار (في) مع الظرف فتقول: (خرجت يوم الجمعة) أي خرجت في يوم الجمعة، ولا تقول في أين وكيف مثلا: هل أين ولا أأين ولا هل كيف، ولا أكيف. وقال السعد: حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه. ثم قال: إن الفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، فقولنا: أحمد إليك فلاناً: أحمده مُنْهِيا إليك حمده، وقول اللَّه تعالى: (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى) أي يقلبها نادما على. فالفعل المتروك وهو المضمن يعتبر قيدا للمذكور. واعتُرض عليه بأن في كلامه تناقضا لأن قوله: (مع فعل آخر يناسبه) غير ملائم لقوله: (مع حذف حال) أي اسم لا فعل. وقال السيد: من شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيُجرونه مجراه. فيقولون هيجني شوقاً فعدي إلى مفعولين بنفسه، وإن كان هو يتعدى إلى الثاني بـ (إلى). يقال: هيجه إلى كذا، لتضمنه معنى ذكَر. فإن قلت: إذا كان اللفظ مستعملا في المعنيين معا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز، وإن كان مستعملا في أحدهما فلم يقصد به الآخر، فلا تضمين. قلت: هو مستعمل

في معناه الحقيقي فقط والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلا في الكلام والمحذوف حالا كما في قوله تعالى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) كأنه قيل: ولتكبروا اللَّه حامدين على ما هداكم. وتارة يجعل المحذوف أصلا والمذكور مفعولا كما مر من المثال، أو حالا كما يشير إليه قوله: يعترفون به، فإنه لا بد حينئذٍ من تقدير الحال: يعترفون به مؤمنين وإلا لم يكن تضمينا بل مجازا عن الاعتراف. فاللفظ مستعمل في معناه الأصلي، وهو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ، ويقدر له لفظ آخر فلا يكون من الكناية ولا الإضمار بل من الحقيقة التي قصد منها معنى آخر يناسبها ويتبعها في الإرادة وحينئذٍ يكون واضحا بلا تكلف. اهـ. وقال ابن جني: اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه وذلك كقوله: رفثت إلى المرأة إنما تقول: رفثت بها أو معها، لكن لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى)، جئت بـ (إلى) مع الرفث إيذانا وإشعارا أنه بمعناه، وكما جاؤوا بالمصدر فأجروه على غير فعله لما كان فيه معناه نحو قوله: وإن شئتم تعاودنا عوادا ومنه قول اللَّه تعالى: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) وكذلك قوله تعالى: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي مع اللَّه وأنت لا تقول سرت إلى

زيدِ أي معه، لكن لما كان معناه: من ينضاف في نصرتي إلى الله؟ جاز لذلك أن تأتي هنا بـ (إلى). وكذلك قوله تعالى: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكن لما كان " هذا دعاء من موسى صلوات اللَّه عليه، صار تقديره: أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى. وعليه قول الفرزدق: قد قتل اللَّه زيادا عني ... لما كان معنى قتله: صرفه، عداه بـ عن. ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئا كثيرا لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما، وقد عرفت طريقه فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأْنس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها. أ. هـ وقال في موضع آخر: ومن عادة العرب وسننهم التي يسلكونها أنهم إذا أعطوا شيئا من شيء حكما ما، قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميما للشبه الجامع لهما. اهـ. وقال السيوطي: إيقاع لفظِ موقع غيره لتضمنه معناه. وقال ابن هشام: قد يُشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه، وشممى ذلك تضمينا، وفائدته أن تؤدي كلمة مُؤدى كلمتين، ثم ذكر لذلك أمثلة منها قوله تعالى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ضمن معنى (تُحرموه) فعدي إلى اثنين لا إلى واحد و (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) ضمن معنى (تنووه) فعدي بنفسه لا بـ (على). و (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) ضمن معنى (يُصغون) فعدي بـ (إلى). و (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ضمن معنى (يميز) فجيء بـ من. قال: وفائدة

التضمين أن يدل بكلمة واحدة على معنى كلمتين. وقال في معاني الباء: (وَقَد أَحسَنَ بِي) أي إليَّ وقيل: ضمن أحسن معنى لطف. وقال ابن القيم: في قول اللَّه تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) يضمنون يشرب معنى يروى فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون ذلك دليلا على الفعلين أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال: يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه وعلى الري عن طريق الباء فتأمله. وقال السيوطي: المتضمن معنى شيء لا يلزم أن يجري مجراه في كل شيء، ومن ثم جاز دخول الفاء في خبر المبتدأ المتضمن معنى الشرط نحو: الذي يأتيني فله درهم وامتنع في الاختيار جزمه عند البصريين ولم يجيزوه إلا في الضرورة وأجاز الكوفيون جزمه تشبها بجواب الشرط ووافقهم ابن مالك. قال أبو حيان: ولم يسمع من كلام العرب الجزم في ذلك إلا الشعر. زعم بعضهم أن التضمين بالمعنى الذي ذكره السعد، وهو جَعْل وصف الفعل المتروك حالا من فاعل المذكور، يسمى تضمينا بيانيا وأنه مقابل للنحوي وقيل: إن التضمين من باب المجاز، ويعتبر المعنى الحقيقي قيداً وهذا الذي اعتبره الزمخشري. فعلى مذهب السعد يقال: ولا تأكلوا أموالهم ضامّيها. وعلى مذهب الزمخشري: ولا تضموها إليها آكلين. وقيل: التضمين من الكناية، لفظ أريد به لازم معناه. والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتى

على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يُشترط أن تكون مانعة. أما على قول البيانيين: فيشترط أن تكون القرينة مانعة، فقيل: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها، وقيل: التضمين من باب المجاز، وقيل: التضمين من باب الكناية. قال ابن تيمية: والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف، تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله تعالى: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) أي مع نعاجه و (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي مع الله. ونحو ذلك ... والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمن فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه وكذلك قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ضمن معنى يزيغونك ويصدونك وكذلك قوله: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) ضمن معنى نجيناه وخلصناه. وكذلك قوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) ضمن يروى ونظائره كثيرة. وقال الزركشي: التضمين إعطاء الشيء معنى الشيء وتارة يكون في الأسماء وفي الأفعال وفي الحروف فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ضمن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق يقول الحق وهو حريص عليه. وأما الأفعال فأن تُضمن فعلا معنى فعل آخر ويكون فيه معنى الفعلين جميعا، وذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف فيأتي متعديا بحرف

آخر ليس من عادته التعدي به، فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به. واختلفوا أيهما أولى، فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف، وأنه واقع موقع غيره من الحروف أوْلى. وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أوْلى لأن التوسع في الأفعال أكثر. مثاله: قوله تعالى: (عَيْنًا يشَرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) ضمن يشرب معنى يروى لأنه لا يتعدى بالباء فلذلك دخلت الباء، وإلا فيشرب يتعدى بنفسه وأريد باللفظ الشرب والري معا فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، وقيل: التجوز في الحرف وهو الباء فإنها بمعنى (مِنْ) وقيل: لا مجاز أصلا، بل العين ها هنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه، نحو نزلت بعين فصار مكانا يشرب به. وعلى هذا (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) قال الراغب: وهذا بخلاف المجاز، فإن فيه العدول عن مسماه بالكلية، ويراد به غيره كقوله تعالى: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) فإنه استعمل أراد في مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة، وأن من أراد شيئا فقد قارب فعله، ولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي الذي هو الإرادة ألبتَّةَ، والتضمين أيضا مجاز لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه بالتضمين تفرقة بينه وبين المجاز المطلق. وقال الزركشي: يراعى في التعدية المحذوف. الرفث إلى: الإفضاء. أتوا على: أشرفوا. يرد بإلحاد: يُهمّ، ثم قال: ولم أجد مراعاة الملفوظ إلا في موضعين: أحدهما؛ (يُقَالُ لَه وُ إِبرَاهيمُ) على قول ابن الضائع: أنه

ضمن يقال معنى ينادي، وأورد على نفسه كيف عدي باللام والنداء لا يتعدى به، وأجاب: بأنه روعي الملفوظ به وهو القول: قلت له. الثاني: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) فإنه قد يقال: كيف يتعلق التكليف بالمرضع؟ وأجيب: بأنه ضمن حرم: المعنى اللغوي وهو المنع فاعترض كيف عدي بـ (على) والمنع لا يتعدى به؟ وأجيب بأنه روعي الملفوظ به وهو: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) ثم نقل قول القاضي أبي بكر في كتابه إعجاز القرآن: هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه ثم قسمه إلى قسمين: أحدهما ما يفهم من البنية كقولك: معلوم، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم، والثاني من معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به كالصفة، فضارب يدل على مضروب. قال: والتضمين كله إيجاز وذكر أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله أو التبرك باسمه. وفي كلام ياسين بن زين الدين العليمي في حاشيته على شرح التصريح على التوضيح ثمانية أقوال في التضمين: الأول: أنه مجاز مرسل لأن اللفظ استمعل في غير معناه لعلاقة وقرينة. الثاني: أن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز لدلالة المذكور على معناه بنفسه وعلى معنى المحذوف بالقرينة. الثالث: أن الفعل المذكور مستعمل في حقيقته لم يُشرب معنى غيره - كما جرى عليه صاحب الكشاف - ولكن مع حذف حال مأخوذة من الفعل

الآخر المناسب بمعونة القرينة اللفظية كما ذكر السعد. وقال السيد: ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته. وفيما مثل به جعل المحذوف أصلاً والمذكور مفعولا كـ أحمد إليك فلاناً أي أُنهي إليك حمده، يعني أن المذكور يدل على ذلك، كما يدل على الحال، وقد أراد السيد بيان وجه آخر ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد. الرابع: أن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، ولكن قصد بتبعيته معنى آخر، فلا يكون من الكناية ولا الإضمار. الخامس: أن المعنيين مرادان على طريقة الكناية، فيراد المعنى الأصلي توصلا إلى المقصود، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى. السادس: أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز. السابع: أن دلالته غير حقيقية ولا تجوز في اللفظ، وإنما التجوزُ في إفضائه إلى المعمول، وفي النسبة غير التامة. ونقل ذلك عن ابن جني وقال: ألا ترى أنهم حملوا النقيض على نقيضه فعدوه بما يتعدى به، كما عدوا (أسر) بالباء حملاً على (جهر)، و (فَضُل) بـ عن حملاً على (نَقَص) وقد علق هذا القول على الصحة. الثامن: أنه لا بد في التضمين من إرادة معنيين في لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد، وبذلك يفارق الكناية فإن أحد المعنيين تمام المراد، والآخر وسيلة إليه، وهذا اختيار ابن كمال باشا وقد علق هذا القول على الثبوت. وقال الدسوقي: مشيرا إلى قول ابن هشام (وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين) ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يشترط

أن تكون مانعة، أما على قول البيانيين فيشترط أن تكون القرينة مانعة فقيل: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها. وقال الصبان على الأشموني: إن التضمين النحوي إشراب كلمة معنى أخرى بحيث تؤدي المعنيين، والتضمين البياني تقدير حال تناسب الحرف وتمنع كون التضمين النحوي ظاهراً عن البياني، للخلاف في كون النحوي قياسياً وإن كان الأكثرون على أنه قياسي، كما في ارتشاف أبي حيان دون البياني. وقال ابن كمال باشا: في رسالة له في التضمين: فالتضمين أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي ويلاحظ معه معنى لفظ آخر يناسبه ويدل عليه بذكر شيء من متعلقات الآخر كقولك: أحمد إليك فلانا، فإنك لاحظت فيه مع الحمد معنى الإنهاء ودللت عليه بذكر صلته أعنى كلمة (إلى) كأنك قلت: أُنهي حمده إليك، وإنما أطلقت اللفظ لينتظم الاسم، فإن التضمين لا اختصاص له بالفعل، أفصح عن ذلك صاحب الكشاف في سورة الزخرف حيث قال في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) وضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله: في السماء وفي الأرض كما تقول: هو حاتم في طيءٍ، حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به، كأنَّك قلت: هو جواد في طيءٍ جواد في تغلب. ولغفوله عن هذا قال الفاضل التفتازاني: وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه، وتبعه الفاضل الشريف حيث قال: التضمين أن يُقصد بلفظ فعل معناه الحقيقي. والقاعدة في التضمين أن يراد الفعلان معا قصداً وتبعاً لأن أحدهما مذكور بذكر صلته، ولأن ذكر الصلة غير لازم للتضمين

كما إذا ضمن اللازم معنى المتعدي، وتكون تعديته قرينة للتضمين، وبالجملة لابد في التضمين من إرادة معنيين من لفظ واحد على وجه يكون كل واحد منهما بعض المراد فبه تفارق الكناية، فإن أحد المعنيين فيها تمام المراد والآخر وسيلة لا يكون مقصوداً أصالة، وبما قررناه اندفع ما قيل: الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على المعنى الحقيقي، وإن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. وقال الأستاذ حسين والي: والتضمين مبحث ذو شأن في العربية، وللعلماء في تخريجه طرق مختلفة فقال بعضهم: إنه حقيقة، وقال بعضهم: إنه مجاز، وقال آخرون: إنه كناية. وقال بعضهم: إنه جمع بين الحقيقة والمجاز على طريقة الأصوليين، لأن العلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، وقد وجدوا مخرجا من هذا فقالوا: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها. وقال الأستاذ محمد الخضر حسين: للتضمين غرض هو الإيجاز، وللتضمين قرينة هي تعدية الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه أو تعديه بنفسه وهو يتعدى بالحرف. وللتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين، وكثرة وروده في الكلام المنظوم والمنثور تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية متى حافظ على شرطه، فالكلام الذي يشمل على فعل عدي بحرف وهو يتعدى بنفسه، أو عدي بحرف وهو يتعدى بغيره يأتي على وجهين:

الوجه الأول: ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين، ومثل هذا نَصِفه بالخطأ والخروج عن العربية ولو صدرت عن العارف بفنون الكلام. الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها، حُمل على وجه التضمين الصحيح كما قال سعد الدين التفتازاني: فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم. والتشمير لا يتعدى بـ (إلى) فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى (الميل) الذي هو سبب التشمير عن ساق الجد. من هنا نعلم أن من يُخطئ العامة في أفعال متعدية بنفسها، وهم يعدونها بالحرف مصيب في تخطئته، وليس معنى هذا أن التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره، إنما أريد أن العارف بوجود استعمال الألفاظ لا نبادر إلى تخطئته متى وجدنا لكلامه مخرجا من التضمين الصحيح. وذكر أبو البقاء في كتابه الكليات عن بعض العلماء أن التضمين ليس من باب الكناية ولا من باب الإضمار بل من باب الحقيقة إذا قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة، وذكر عن بعضهم أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه وهو نوع من المجاز. ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يكاد يحاط به. فقوله هذا يوحي بأن التضمين قياسي وليس بسماعي. والتضمين إلحاق مادة بأُخرى لتضمنها معناها باتحاد أو تناسب. وظاهر من هذا أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) أي يمتنعون بالحلف عنهم. وليس حقيقة الإيلاء الإ الحلف،

فاستعماله في الامتناع عن الوطء هو طريق المجاز، من باب إطلاق السبب على المسبب وبذلك جمع بين الحقيقة والمجاز. على رأي علماء الأصول: إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة بخلاف رأي البيانيين أنها مانعة فقالوا: التضمين حقيقة ملوحة بغيرها. فالتضمين من خلال النظريات الدلالية المعاصرة يحسن أن نتناوله بشيء من المرونة في تفسير اللفظ، فاللغة حياة، وألا نأخذ المعنى المعجمي المصبوب في قوالب جامدة فمعنى اللفظ يتعاون عليه السياق والمقام ولهذا السبب فرق علماء الأصول عند استنباط الأحكام بين نوعين من دلالة اللفظ. الدلالة الوضعية كما تواضع عليها علماء اللغة، والدلالة الإطلاقية أو الأصولية. فاللغة لا تنفرد بالدلالة دون تدخل قصد المتكلم ومقام البيان. التضمين إذاً مجلى من مجالي الفكر تظهر فيه قدرة الألفاظ على اختزان المعاني، فاللفظ قد يشمل على معانٍ كثيرة، والتضمين يومئ إلى واحد منها أو أكثر بلمحة تدل عليه وفي التلويح غنى عن التصريح. وقد يَنشد المتكلم معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال عليه، بل بلفظ هو تبيعه أو رديفه، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع.

المبحث الثاني موضوع التضمين

المبحث الثاني موضوع التضمين وفيه مطالب: المطلب الأول: نشوء ظاهرته. المطلب الثاني: غرضه. المصب الثالث: فائدته. المطلب الرابع: قياسي أم سماعي. المطلب الأول: نشوء ظاهرة التضمين لماذا اختصت بعض الأفعال بحرف معين كفعل قصد الذي يتعدى بـ (إلى) وفعل عمد المتعدي باللام على الفصيح؟ لعل هذا التخصيص وارد من قبل الملابسة الواقعة بين معنى الفعل ومعنى الحرف الملازم له، عمد والعمود والعمدة تفيد معنى الارتكاز والتحامل على الشيء بثبات، وهذا لا يتوافق مع إلى أو عن أو سواه وإنما مع اللام التي تفيد الاختصاص أو الملك. وكذلك فعل قصد، والقصد والمقصود الذي يفيد التوجه إلى غاية مخصوصة ونهاية يطلبها، وهذا يتناسب مع إلى التي تفيد الغاية. وفعل رغب إذا أفاد انصراف النفس عن شأن من الشؤون تعدى بـ (عَنْ) وإذا أفاد انغماسها تعدى بفي. فإذا كان هذا هو سر اختصاص هذه الحروف فكيف نفسر تعدّي الفعل

بغير حرفه المعتاد؟ وكيف نفسر بعض الشواهد التي تخرج فيها الحروف عن معانيها المعتادة أو خصوصياتها؟ أقول: هذه عادة للعرب مألوفة وسنة مسلوكة: إذا أعطَوا شيئاً من شيء حكما قابلوا ذلك بأن يُعطوا المأخوذ منه حُكما من أحكام صاحبه، عمارة لبينهما، وتتميما للشبه الجامع بينهما. (فشرب) أعطيناه حكما من أحكام صاحبه (استمتع) في تعديته بالباء عمارة لبينهما، وحين غمض تفسير هذه الظاهرة على علمائنا الأجلاء، ساقهم الاجتهاد العقلي إلى افتراضٍ قدَّروه لتعليل هذه الظاهرة هو: (التضمين) وغالبا يكون الافتراض سبيلا للتعليل والتفسير منذ القديم. جاء في حاشية السجاعي على القطر لابن هشام أن أول من قدر التضمين البياني هو السعد أخذاً من عبارة وقعت للزمخشري في الكشاف على ما ذكره ابن كمال باشا في رسالة التضمين. وجاء في أمالي السهيلي ما يلي: وتعدية (يخالف) بـ (عَنْ) في قوله تعالى: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) محمول على ينحرفون أو يروغون، ومثله تعدية رحيم بالباء في قوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) حملا على رؤوف (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ألا تقول: رافت به، ولا تقول: رحمت به؟ والرفث بمعنى الإفضاء في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ومنها الإحماء في قوله تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا

المطلب الثاني *: الغرض من التضمين

فِي نَارِ جَهَنَّمَ) حملا على يوقد عليها. وفي قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ). والجاري على ألسنتهم: ظفرت به وأظفرني اللَّه به، ولكن جاء محمولا على أظهركم عليهم. أ. هـ. والظاهر من كلام السهيلي أنه أراد بالحمل معنى التضمين ليس غير. المطلب الثاني: الغرض من التضمين للتضمين غرض هو الإيجاز وقرينة هي تعدية الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه، أو تعديته بنفسه وهو يتعدى بالحرف، أو تعديته بغير حرفه المعتاد، أو يتعدى لمفعول واحد عداه لمفعولين، أو يتعدى لمفعولين عداه لواحد، أو لازم عداه، أو متعد جعله لازما. وكثرة وروده في الكلام المنثور والمنظوم تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية متى حافظ على شروطه. فإن لم نرَ بين الفعلين العلاقة التي يُعتد بها فيما ذكرت، كان التضمين باطلا، فإذا وجدت العلاقة ولم يلاحظها المتكلم، فاستعمل فعل أذاع متعديا بحرف الباء، ظناً منه أنه يتعدى به، لم يكن كلامه من باب التضمين بل كان كلامه غير صحيح. الكلام المشتمل على فعل عُدِي بحرف وهو يتعدى بنفسه، أو عُدِي بحرف وهو يتعدى بغيره، يأتي على وجهين: الوجه الأول: ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به حتى تخرج الجملة علئ طريقة التضمين. ومثل هذا نصفه بالخطأ. الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل ملحوظ يصح أن يقصد المتكلم بمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم إن صدر عن من شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها، فيحمل على وجه

التضمين الصحيح كما جاء في الحديث: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتخولنا بالموعظة خشية السآمة علينا. فضمن السامة معنى المشقة فعداها بـ (على). فإن صدر هذا من جاهل باللغة كان لك أن تحكم عليه بالخطأ وإن سمعت قائلا يقول: أرجو اللَّه قضاء حاجتي. فلا جناح عليك أن تحكم عليه باللحن والخروج عن الفصحى لأن فعل الرجاء لا يتعدى إلى مفعولين إلا أن تجعل فعل (أرجو) مُشربا فعل (أسأل) بناء على أن بين الرجاء والسؤال علاقة السببية وتُدخل ذلك في باب التضمين. فالغرض من التضمين إفراغ اللفظين إفراغا كأنَّ أحدهما سُبِك في الآخر فالمعنى لا يأتيك مُصرحا بذكره، مكشوفا عن وجهه بل مدلولا عليه بغيره، يشارفه من طريق يخفى ومسلك يدق، يتلوّح لك بعضه بالإيماء دون الإفصاح وذلك أحلى وأدمث من أن يكون مكاشفة ومُصارحة وجهَرا، عناية بما وراءه من معناه وتوصلاً إلى إدراك مطلبه الذي لا يفطن له إلا من أوتي النظر، ويستشف الغامض ويصل إلى الخفي، حتى كأنَّ الإفصاح به غير سائغ، والإعلان عنه مستوحش. والغرض من التضمين أن يكون لفظه ممطوراً، مفترًّا عن أزهاره، مُبتسما عن أنواره، يحمل في حروفه معنى، ويجر من ورائه معنى، أو يستتبع معنى، وهذا أشفى للنفس من المعنى الفذ. والصلة بين المضمن والمضمن فيه قُرْبُ رحمٍ، تتعدى الظواهر إلى الضمائر لِتَخلُصَ إلى السرائر، فلا نرى تضمينا مقبولا صحيحا حتى يكون المعنى هو الذي تاهب لطلبه واستدعاه، وساق نحوه، وأهدى إلى مذهبه، بطريق من طرق الدلالة بمنطوقة أو مفهومه، مُوافقا لوضع اللغة، سائغاً في الاستعمال ولو على سبيل المجاز، ليزيد في قيمته ويرفع من قَدْره ويعلو في

المطلب الثالث: فائدة التضمين

منزلته بجماله المستفاد من طريق العرض وحسنه المكتسب بالصنعة. المطلب الثالث: فائدة التضمين أن تؤدي كلمة مُؤدى كلمتين فالكلمتان مقصودتان معاً قصداً وتبَعاً، فإذا استُعمل اللفظ في غير ما هو له فقد أضاف معنى إلى أصله، وجاز به موضعه إلى مواضع أُخر من دلالاته، فيكون كل مُنصرَف ينصرف إليه متصلا بأصله. فالوقوف على ظاهره وطرفِ منه يقطعنا عن مذاق طعم الاتصال، طعم الجمع بين طعومه ومذاقاته. فمرة يكون المذكور أصلا، والمحذوف المقدر فرعا: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي لتكبروا اللَّه حامدين على ما هداكم. ومرة يكون العكس فالمحذوف الُمقدر أصل والمذكور فرع (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي الذين يقرون ويعترفون مؤمنين بالغيب. ومرة يكون أحدهما مجملاً والآخر مبيناً وموضحاً (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) فالرؤية مجملة والتأمل والاعتبار تبيين للمعنى وتأليق لصورته. ومن عادة العرب أن يُعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميما للشبه الجامع بينهما. ومرة يكون المذكور خاصا والمقدر عاما (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ). فالشرب خاص بحاسة الذوق، والتلذذ عام: فيكون بالبصر في لمعان الماء وتدفقه وانفجاره من العين، ويكون بالسمع بصوت الخرير، ويكون بالجسد بالسباحة والعوم، و ... فخص التلذذ بالشرب دون سائر الحواس.

المطلب الرابع: قياسية التضمين وآراء العلماء فيه

ومرة يكون المذكور مطلقا والمقدر مقيدا (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) أي مقدسون، فالعكوف مطلق والتقديس مقيد. ومرة يكون المذكور مُلمِّحا بالغرض والمقدر مُصرحا به (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي يميز ويكشف، فصرح بالعلم وألمح بالكشف. ومرة يكون المذكور وسيلة للغرض والمقدر غاية (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فالشرب وسيلة لغاية الاستمتاع واللذة. ومرة تكون العلاقة بين المضمن والمضمن فيه علاقة جزء من كل (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ). فالدعاء تضرع وتوسل ورجاء، وما تدعون إليه هو المرجو والمطلوب وعنده المطالِبُ والحاجات وهو جانب من معاني الدعاء. ومرة يكون المقدر سببا من أسباب المذكور (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ). فتضمن ارزقوا معنى اتجروا مما يجعل العلاقة بين المضمن والمضمن فيه سببية، فالتجارة سبب من أسباب الرزق. وهكذا مرة ... ومرة ... ومرة ... إلخ. المطلب الرابع: قياسية التضمين وآراء العلماء فيه ذكر أبو البقاء عن بعض العلماء أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه. وقال: التضمين سماعي لا قياسي وإنما يُذهب إليه عند

الضرورة. ثم قال: ومن هذا الفن في اللغة شيء كثيرٌ لا يكاد يحاط به، ويؤخذ من هذا أن التضمين سماعي. وذكر الشيخ ياسين في التلويح على التصريح: أن التضمين سماعي. وقال صاحب التصريح بمضمون التوضيح الشيخ خالد الأزهري: واختلف في التضمين أهو قياسي أم سماعي؟ والأكثرون على أنه قياسي، وضابطه أن يكون الأول والثاني يجتمعان في معنى. قاله المرادي في تلخيصه. والتضمين النحوي قياسي عند الأكثرين، والتضمين البياني قياسي بإجماع النحويين. وقد ذكر ابن جني أنه لو نقل ما جُمع من التضمين عن العرب لبلغ مِئين أوراقاً. فإذا قررنا أن التضمين قياسي فقد جرينا على قول له قوةٌ واعتمدنا على ركن شديد. وإذا قلنا سماعي فقد يعترض علينا من يقول: إن من علماء اللغة من يرى أنه قياسي فلماذا تُضيقون على الناس؟ فنحن نثبت القولين، ولكن نرجح قياسيته، والقول بجواز استعماله للعارفين بدقائق العربية وأسرارها، ولا يصح أن نحظره عليهم لأنه داخل في الحقيقة أو المجاز أو الكناية. والبلغاء يستعملونه في كلامهم بلا حرج فكيف نسد باب التضمين في اللغة وهو يرجع إلى أصول ثابتة فيها؟ فعلى نحو - هذه التأويلات ينبغي أن يحمل ما ورد من هذا الباب وهو مقصور على السماع لا يجوز القياس عليه، وجميع ما أورده ابن قتيبة في هذا الباب إنما نقله من كتاب يعقوب بن السكيت في المعاني، وفي هذا الباب لم يذكر كلمة تضمين ولو مرة واحدة على كثرة ما أورده من مسائل وإنما يستعمل كلمة (الحمل)

وما دام التضمين لا يهتدي إليه إلا من أوتي بصيرة نافذة في إدراك الجمال، فهو غير مرتبط بقواعد. ذاتي لا يخضع لمعيار، له ماء ورونق، تحيط به المعرفة ولا تدركه الصفة، يغلب عليه طابع الملاحظة والتأمل الشخصي والاجتهاد.

الفصل الثالث صلة الحروف بالتضمين

الفصل الثالث صلة الحروف بالتضمين وفيه مبحثان: المبحث الأول: التضمين وتناوب الحروف. المبحث الثاني: التضمين وزيادة الحروف.

المبحث الأول التضمين وتناوب الحروف

المبحث الأول التضمين وتناوب الحروف (لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أوْلى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره الا بحجة يجب التسليم بها) الطبري. (والعرب تضمن الفعل معنى الفعل، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف نقوم مقام بعض) ابن تيمية. (وظاهرية النحاة بجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره. هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حذاق أصحابه) ابن قيم الجوية. (وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من

بعض، ويحمل بعضها معاني البعض، فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقيس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال). ابن العربي. (إن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يصل إلى معموله بحرف والآخر يصل بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موضع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر). ابن يعيش. طَويتُ نفسي ذات يوم على موضوع شائك، كاني أطلب فيه خبيئة خفيت عني، وأتدسس إلى دفين مرّ به المفسرون مستعجلين. عجبا ... كيف ينوب الحرف عن أخيه وهو لا يحمل معناه في نفسه إلا على استحياء!. ترخّص في تناوب الحروف مَن ترخص من المقلدين ليخرج من وعورة المسلك، ويفر من صعوبة البحث، إلى قرب المأخذ وسهولة التناول. وأما الحُذاق المتقنون فإلى التضمين في الفعل أميل، وفيه أرغب، وبه أعنى، وسيبويه أولهم ركابا لهذا الثَبَج غير هيّاب منه، وأكثر كلام أتباعه عليه. ولعل الذي حملهم على هذا الخلاف، دقة المدخل وغموض الحال، ولو تساهم أُلو النظر في التأمل في معاني الحروف، وإمعان النظر فيها، والبحث عن سرها ومستودعها، لمكنّهم من اكتلاء غُررها واجتلاء أبكارها وعُونها. وما كان هذا الحسن في حروف العربية، وهو الذي لوى أعناق الفصحاء والبلغاء، إلا لما بناه سبحانه على أسرار استودعها فيها. فلا تقفْ على الفعل مبهوتا بلا لحظ، ولا على حرفه المتعدي به محشوبا بلا تأمل:

(فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) تعدى (فرض) بـ في ومعناه أوجب وألزم. (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) وتعدى بـ (مِن) ومعناه قسما. (فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لهُ) وتعدى باللام ومعناه أحل أو قدر. (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) وتعدى بـ (على) ومعناه أنزل. نعم (فرض) يتعدى بأكثر من حرف ويختلف معناه باختلاف الحرف المتعدي به كما رأيت، أوليس هذا دليلا غير مدفوع على أن التضمين جرى في الفعل لا في الحرف، وشاهد على فساد مَن ذهب إلى خلافه؟!. وهذا ابن القيم يسوق لفعل السمع أربعة معانٍ: 1 - سَمْعُ إدراكٍ ومتعلقه الأصوات ويتعدى بنفسه (إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ). 2 - سَمعُ فهمٍ وعقلٍ ومتعلقه المعاني (سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ). 3 - سَمْعُ إجابة ويتعدى باللام (سمع اللَّه لمن حمده). 4 - سَمْعُ انقياد ويتعدى بـ (مِن) في الحديث قال: " ما سمعت مني " وفي حديث آخر: " تكلم يُسمع مِنك ". فحين يتعدى الفعل بأكثر من حرف يكون المستنبَط والمُستخرَج دقيقا، والتماسه صعبا، ولا يُدرك إلا بالغوص. هذا فعل دخل تعدى بـ (على) وفي

والباء. جعل السيوطي على بمعنى في (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ) وجعل في بمعنى مع (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) وابن هشام جعل الباء بمعنى مع (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ). وإنَّمَا قالوا بتناوبها عندما عجزوا عن استشفاف معانيها. فإذا كانت هذه الحروف تَهي عن حَفل معناها لعواني ذواتها، فكيف بها تتجشم احتمال سواها مما يعاورها أو تنوب عنه؟! إن غياب الحرف المألوف مستبدلا بسواه يُنبئ بولادة معنى جديد. إجماع بعض المفسرين على تضمين حرف معنى حرف ليس بحجة، فالحرف لا يقوم معناه بنفسه فكيف يتضمن معنى سواه؟ وتخصيص العليم في تنزيله لحرف ما واختياره إياه، فيه من المَنْبَهة والحكمة ما يُشير إلى امتيازه؛ والإبداع إنما كان في اختياره، والنجاح يكون في التعويل عليه دون سواه، والعبرة في النهاية هي في الكشف عن سره حين خرج عن مألوفه. إنك إن قلت ما قالوا ضللت الطريق وابتعدت عن مطلوبك، بل انظر إلى التركيب بجُمعه. فالأفعال لا تعطي فائدتها المرجوة حتى تأخذ ضربا من التركيب، وفي هذا التركيب لا بُد من فتح قنوات اتصال بين مفردات الجملة ليؤدي كل لفظ دوره، فالمرونة في التعامل مع الجوار للإحاطة بأبعاد كل لفظ. والرؤية الشمولية في المعالجة تتجاوز ضيق الأفق، وتبقى مفتوحة الأعين على البدائل الأخرى لتسمع توجيه المعنى عند الآخرين. فلو غيرت في هذه الحروف التي تعدت بها والتي بخصوصيتها أفادت لأخرجتها من كمال بيانها إلى جفاف معناها، وضيق أفق مدلولها. وكلم من أفعال انحطت عن رتبتها حين قطعناها عن حروفها بدعوى تعاورها أو بزعم مَنْ جعلها زائدة، فازدرتها

العيون بعد أن كانت طامعة في حسنها المكتسب، وراغبة في جمالها المستفاد، وذلك عن طريق نظامها الفريد وأسلوبها المتميز (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) قال أبو عبيدة والأخفش: (عن) زائدة وقال غيرهم: معناها (بعد). ولا أحسن مما ذهب إليه ابن الحاجب في تضمين المخالفة معنى الحَيَدان لقد عزاها عن فضلها من ادعى بتناوبها، وجُل حُسنها هو تعديها بغير حرفها المعهود، وكيف يتأتى لشادي حُسنها أن يستشف جمالها إلا برؤيتها في عِقدها المنظوم؟ فإن فَرَطْتها من سِلكها أفْقدْتها أهم خصائصها، فإن أَبَيْتَ وعاودت، فخُذْ في غير هذه الصناعة. فحين يقول (يشرب بها) في قوله سبحانه (يشَرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) أي يشرب منها، فقد سلبها حلاوتها، وسر جمالها هو في طريقة عرضها وتعديها بغير حرفها، فإذا كانت الباء بمعنى من فلماذا عدل ربنا العليم في أسلوبه المعجز، وبيانه المبين من حرف إلى حرف سكت عن الجواب القائلون بتناوب الحروف - وجل المُفسرين على هذا - وذهب القائلون بالتضمين إلى أن (شرب) معنى روي وليس في هذا مَقنع لأن الرِي يكون من ظمأ، وأهل الجنة لا يظمؤون (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) الشرب في الجنة إذاً من أجل الاستمتاع والتلذذ ولذلك جيء بالباء إيذاناً بهذا المعنى، وتجلية له، وتشوفا إليه. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا عدل ربنا عن لفظ الاستمتاع إلى لفظ الشرب؟ لو قال سبحانه: عينا يستمتع بها عباد الله، لانصرف الذهن إلى إمتاع البصر في انفجار الماء من هذه العين وتدفقها وفورانها، أو إمتاع السمع بصوت تدفق الماء وخريره، أو إمتاع الجسد

بالسباحة والابتراد، أو إمتاع النفس بهذا المشهد الكلي. ولكن الغرض هو الاستمتاع بالشرب على وجه الخصوص لأنه مذوق، والذائقة أخص الحواس وأشدها، ولذلك كانت العناية بها منه سبحانه. أما بقية الصور والألوان فمراده على وجه العموم عن طريق التضمين. وهكذا يختزن الفعل مع حرفه من المعاني والصور في سياق التضمين ما يُسفر ويَضَح مع الاستقراء له وإلطاف النظر فيه مما نفتقده في التناوب والتعاور. وهذا من أسرار هذه اللغة الشريفة العظيمة الشأن، فالفعل يحمل معنى في نفسه، ومعنى مع الحرف الذي عُدي به، ويومئ به إليه، ومعنى في تركيبه في جملته يوحي بالمنطوق ما ليس منطوقا فإذا الفعل مولود جديد بشخصية جديدة، قد لا تحمل ملامح أرومتها، وأزيدك استبصاراً في تهافت من يرى في التعاور مخرجا أو مذهبا: عَدى ربنا العليم فعل (رزق) بالحرف (في) (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) ورزق يتعدى بـ (مِن) وقال القائلون بالتناوب والتعاور: (في) معناها (مِنْ) ولو سألت: لم عدل سبحانه من حرف إلى حرف؟ وليس بين الحرفين فرق في الإيقاع الموسيقي فكلاهما حركة وسكون. والجواب الشافي يرد على لسان الزمخشري وأخذه عنه أبو حيان في البحر والآلوسي في روح المعاني قال: أي اجعلوها مكانا لزرقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من أرباح أموالهم، لا من صلب المال، لئلا يأكلها الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل منها كما قال بعض المفسرين لكان الإنفاق من المال نفسه. ولعل سائل يسأل: لم عدل تعالى عن (اتجروا) إلى (ارزقوا)؟ أجيب: لو قال اتجروا لصرنا ملزمين بتشغيل أموالهم بالتجارة على وجه الخصوص، وإن لم نجد التاجر الصدوق والصفقة الرابحة.

إذاً في إبدال حرف بحرف غرض له سبحانه عدل إليه وساقه من أجله. وهذه سنة مسلوكة وعادة مألوفة وطريقة مُتلئبة في هذه اللغة الشريفة لا يُنكرها إلا من نَزُر منها حظه وتخلفت عنها مداركه. أرأيت حفظك اللَّه كيف حاز التضمين هذا الشرف الرفيع بتوجيه (رزق) إلى (اتجر) وعن طريق هذه العصا السحرية (في). ولو قلنا ما قاله أصحاب الرأي الفطير بتناوب الحروف وتعاورها، لنفد مال اليتيم في سنوات معدودات، ثم مد يده ليتسول قبل أن يشتد عوده، ولو قيل: ما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه؟ لقلت: التجارة سبب من أسباب الرزق ووسيلة من أحسن وسائله، فالعلاقة بينهما سببية. وبهذه الرؤية الواسعة لمكانة الحرف والنظرة الشمولية للنص نتفادى مطبَّات القائلين بالتناوب والتقارض. فإن تحاميت رعاك اللَّه هذا المسلك الشاق مدعيا غموض حاله، ومتهيبا من ارتياض معاناته، لدعتْك كثافة الذهن إلى إنكار هذه اللطائف ولكنك إن طبنت له، ورفقت به، أولاك جانبه وأمطاك كاهله، ولكشفت عن أسراره. وهذا غور آخر بطين نجتاحه لتزداد يقينا فيما ذهبنا إليه، وعُمقا في معرفته. قال سبحانه: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) قال الحسن: صراط إليَّ مستقيم. وقال مجاهد: الحق يرجع إلى اللَّه وعليه طريقه. وقيل: (على) فيه للوجوب. أي على بيانه وتعريفه والدلالة عليه نظيره (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) فالسبيل القاصد يرجع إلى الله. قال الشاعر: فهُنَّ المنايا أي واد سلكته ... طريقي عليها أو على طريقها

فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة (إلى) التي للانتهاء لا (على) التي للوجوب ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) قيل: في أداة (على) سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط، على هدى، وعلى حق، كما قال في حق المؤمنين: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) وقال لرسوله: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) فاللَّه هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في (على) ما ليس في (إلى) فتأمله فإنه سر بديع. فإن قلت: فكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى؟ قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى، مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في (على) ما يدل على علوه، وثبوته واسقامته، بخلاف الضلال والريب، فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدشسه فيه (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ). وتأمل قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). فطريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها إلى أسفل السافلين. وأما مَق فسر (عليَّ) بالوجوب ففي كونه هو المراد بالآية (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) نظر، لأنه حَذفٌ في غير موضع الدلالة بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حَذْفٌ معروف مألوف، وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة الليل

إلا معنى الوجوب والذي قدمناه وسمعته من شيخ الإسلام ابن تيمية: أليقُ بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما. وإذا صرفت بصرك عما قيل في إنابة الحروف أو تعاورها لفقدان الشاهد والمثل، وعدم إقامة البرهان وسوْق الدليل، مع ضعف الحجة وقصر النظر، فاستنجدْ بفهمك على استنباط لطائف المعاني من وراء التضمين، ترق حواشيها وتدق إلا على أهل البصائر. ولو تعسف متعسف وقال: إن (إلى) بمعنى (مع) في قوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) نقول له: إن اليد تشمل من رؤوس الأصابع إلى الكتف وعلى هذا يكون حرف (إلى) والذي بمعنى (مع) من فضول الكلام لأن المرفق داخل في لفظ اليد مشمول معها، وبهذا التوجيه يفسد المعنى. ثم هل يُؤدي الحرف البديل في السياق اللغوي مُؤدى الأصلي بعد غيابه؟ إن القول بتناوب الحروف أمر هين لأنه يُزيل العقبات كما يزيل المخدر الأوجاع، ولكن المشكلة تبقى دون حل. فمن سلك مسلك هؤلاء وأخذ برأيهم فقد أبعد. بل عليه ألا يعطي يده في هذه المسألة وأن يَكِيس عند الإجابة عنها. ففعل (صبر) مثلا يتعدى باللام والباء و (على)، (وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ). فهل تنوب هذه الحروف بعضها عن بعض؟. أقول: حين تعدى الفعل بـ (على) كان معناه الثبات والإصرار، وحين تعدى

باللام تضمن الرضى والقبول، وحين تعدى بالباء تضمن معنى الاستعانة باللَّه على تحمل المشاق. وقد تنازع أهل العلم أي الصبرين أكمل: لله أم بالله؟. فقالت طائفة: الصبر له أكمل فإن ما كان له فهو غاية، وما كان به فهو وسيلة، والغايات أشرف من الوسائل. وقالت طائفة: الصبر باللَّه أكمل: بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به. قَالَ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ) فأمره بالصبر، والمأمور به هو الذي يفعله لأجله. وليست دعوى القائلين بالتعاور والتناوب والتقارض والتعاوض في حروف المعاني إلا نوعا من الجمود الفكري وجب رَفْضُه واطراحه ما دامت هذه سبيله، والذين ألغَوا التضمين، أو عطَفوه، ركبهم جهل في الرأي

وإفحاش في الصنعة واعتداء على طبيعة اللغة واعتقادات فاسدة، وظنون ردية، لا يعلمون أن في هذه الحروف دقائق وأسراراً، طريق المعرفة بها الرؤية، ولطائف يُتوصل إليها بطول التأمل وخصائص ينفرد بها من هُدي إليها، وكُشف له عنها. وهي على بُعد المرتقى وعز المَطلب، لَبِنة قامت بها الحجة في القرآن وظهرت، وبهرت، وانتهت إلى غاية لا يطمح إليها إلا من أجاد العوم في هذه اللغة الشريفة وصار نطاسياً في معرفة جواهرها السنتة، فهي لغة قوم تبارَوْا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيها قصَبَ الرهان. وأتساءل: ماذا يقول أصحاب نظرية التناوب والتعارض والتقارض في قول عبد اللَّه بن جعفر بن عمر بن الخطاب حين بلغه قدوم مصعب بن الزبير من العراق ومروره بالمدينة، ثم نزوله البيداء: " هل لك بنا فيه؟ فلا يُنجيه منا ما فعل ". لقد تزاحمت حروف المعاني في عبارته وتلاحقت لتشد السامع لمعرفة ما وراءها من معانٍ، وتدع للسياق التحكم في تحديد هُوية كل أداة لتُسفر الرؤية ويَضَح الغرض. أرأيت حفظك اللَّه ما في حديثه من التعريض دون التصريح والتليمح دون التكشيف؟! لعل ذلك أحلى وأدمث من أن يكون مكاشفة ومصارحة وجهراً. ولو سألنا القائل بالتناوب عن تفسير حروف ابن جعفر. لانكفأ مبهوتا لا يقطع فيها بيقين. إن إبدال حرف مكان حرف كثير الإيهام لمن يسمعه ولا حقيقة تحته؛ فقولهم: مِن بمعنى الباء، وعلى بمعنى إلى، وفي بمعنى عن، لا شيءَ وراءه وليس الأمر كما زعموا بل لكل حرف معناه وما اختير في سياقه إلا لغرض يؤديه. أما أنه استُعمل بمعنى بديله فخطأ لا يثبت عند أهل النظر. وما اعتاص عليهم فعنه السؤال وبه الاشتغال. قال المحققون من أهل العربية: إن حروف الجر لا تتعاقب، فهذا

الطبري في تفسير قوله تعالى: (خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) لا يصلح في موضع (إلى) غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها وهذا القول عندي أوْلى بالصواب لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أوْلى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم بها، ولـ (إلى) في كل موضع دخلت عليه من الكلام حكم، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها. أ. هـ. وقال البطليوسي: باب دخول بعض الصفات مكان بعض، أجازه قوم من النحويين، أكثرهم الكوفيون، ومنع منه قوم، أكثرهم البصريون، وفي القولين جميعا نظر. وقال رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي: وإذا أمكن في كل حرف يُتوهم خروجه عن أصله، وكونُه بمعنى آخر، أو زيادته، أن يبقى على أصل معناه الموضوع هو له، وُيضمن فعله المعذى به معنى من المعاني يستقيم به الكلام فهو الأوْلى بل الواجب. وقال الحسن بن قاسم المرادي: مذهب الكوفيين ومن وافقهم من أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، ومذهب البصريين إبقاء الحرف على موضوعه الأول إما بتأويل يقبله اللفظ أو تضمين الفعل معنى فعل آخر يتعدى بذلك الحرف، وما لا يمكن فيه ذلك فهو من وضع أحد الحرفين موضع الآخر على سبيل الشذوذ. وقال ابن هشام: مذهب البصريين أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عن

بعض بقياس ... وما أوهم ذلك عندهم إما مُؤّول تأويلا يقبله اللفظ ... وإما على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف وقال ابن هشام أيضا: على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف. وقال الدسوقي: ومذهب البصريين أن كل حرف له معنى حقيقي واحد فقط، وإنَّمَا كان التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف لأنه لا مجاز في الحرف استنادا إلى مفهومه، غير مستقل بنفسه، فإن ضُم إلى ما ينبغي ضمه كان حقيقة وإلا فهو مجاز في التركيب لا في المفرد. وجاء في حاشية الصبان على الأشموني: اعلم أن مذهب البصريين: أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض قياسا، كما لا تنوب حروف الجزم والنصب عن بعض، وما أوهم ذلك محمول على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف أو شذوذ النيابة، فالتجوز عندهم في غير الحرف أو في الحرف لكن على الشذوذ. وجوزه الكوفيون واختار بعض المتأخرين نيابة بعضها عن بعض قياسا كما في التصريح والمغني، وإن اقتضى كلام البعض خلافه فالتجوز عندهم في الحرف، قال في المغني: وهذا المذهب أقل تعسفاً. وقال ابن قيم الجوزية: وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال

فيُشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عُدِّي بـ (إلى) تضمَّن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، ومتى عُدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب، وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعريف والإلهام والبيان. وبسط المبرد رأيه في تناوب الحروف قال: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى، وذكر أن هذا كثير جداً بعد أن أورد طائفة من شوا هد القرآن والشعر، وكذلك فعل السيوطي، والزركشي، وعرض ابن الشجري باباً لقيام بعض الحروف مقام بعض، وكذلك ابن قُتيبة. وأمّا أبو حيان الأندلسي في بحره في مواضع كثيرة يقول: تضمين الأفعال أوْلى من تضمين الحروف. وقال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس. وقال أبو هلال العسكري: إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها ووقع كل واحد منهما بمعنى الآخر فأوجب ذلك أن يكون لفظان مختلفان لهما معنى واحد فأبى المحققون أن يقولوا بذلك، وقال به من لا يتحقق المعاني. ولهذا قال المبرد: الفرق بين أبصرته وبصرت به: فأبصرته يجوز أن يكون لمرة وأن يكون لأكثر، أما بصرت به فمعناه أنك صرت بصيرا بموضعه (فَبَصُرَتْ بِهِ

عَنْ جُنُبٍ)، ثم قال أبو هلال ومما يعرف به الفرق بين المعاني: اعتبار الحروف التي تُعدَّى بها الأفعال: أدخلته ودخلت به. ففي أدخلته جاز أن تكون معه وفي دخلت به فهو داخل معك وبسببك. وقال أبو بكر محمد بن عبد اللَّه المعروف بابن العربي المعافري الأشبيلي: وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقْيَس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال. أ. هـ. وذكر الزركشي: أن النحويين اختلفوا في أيهما أوْلى. فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف، وأنه واقع موقع غيره من الحروف أوْلى، وذهب آخرون إلى العكس، والأول مذهب الكوفيين. أ. هـ وبعد عرضنا لأقوال بعض الأئمة أقول: هل للحرف معنى قائم في نفسه أم معناه في غيره؟ وهل ينفرد بمعنى واحد أم يحمل عدة معانٍ؟ وإذا كانت له عدة معان فهل يحملها على الحقيقة أم على التضمين في فعله المتعدي به؟ * ذكر العزّ بن عبد السلام: أن (مَنْ) تضمَّنت معنى النفي في قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). معناه لا يرغب.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أظلم. (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) أي لا أحد ينصرني. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) أي لا أحد أصدق. * ومعنى الاستفهام في قوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ). (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ). وهو كثير في كتاب الله. * ومعنى الشرط في قوله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ). (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وهو كثير في كتاب الله.

* وأن (ما) فتضمنت معنى الشرط في قوله تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ). * ومعنى الاستفهام في قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2). (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى). (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ). انتهى قول العز بن عبد السلام. وقال المحققان شاكر وهارون في قول المرَّار بن مُنقذ: أملحُ الخلق إذا جردتها ... غير سِمطين عليها وسُؤُر لحسبت الشمس في جلبابها ... قد تَبدت من غمام مُنسفِر لحسبت جواب (إذا) بتضمينها معنى (لو) ولم نجد هذا الاستعمال فيما بين أيدينا من المصادر. أ. هـ. أقول: إنما جاز هذا المعنى في هذا السياق لا لشيء رجع إلى نفس (إذا) بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى (إذا) وهي مجيء اللام في حَسِب، وأكد أبو عبيدة على جواز التعاقب بقوله: ومن مجازات الأدوات اللواتي لهن معانٍ في مواضع شتى فتجيء الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك. وذكر الأخفش: تعاقُب معاني الأدوات، وأخذ الفراء عنه وذكر في كتابه معاني القرآن كثيرا من تعاقب هذه الحروف بعضها مكان بعض، فقد أفاد من سابقيه كيونس وأبي عمرو بن العلاء. وأخذ عن الأخفش كثيرون كالفراء

وابن قتيبة والمبرد والزجاجي وأبي علي الفارسي. وأخذ المفسرون من هذه المصادر كل حسب رؤيته ومشتهاه فهذه (أو) في قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا). قال الزمخشري معنى (أو) ولا تطع أحدهما. فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل ولا تطعهما جاز أن يُطيع أحدهما. وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أن النهي عن طاعتهما جميعا أنهى. وقال أبو السعود: (أو) للدلالة على أنهما سيّان في استحقاق العصيان والتقسيم: باعتبار ما يدعونه إليه. فإن تَرتُبَ النهي على الوصفين مُشعرٌ بكليهما له. وقال أبو حيان: النهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما. وقال أبو عبيدة: (أو) بمعنى الواو، وأما (أو) في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فهي بمعنى (بل) على مذهب الفراء وبمعنى الواو على مذهب قطرب.

وأما (أو) في قوله تعالى: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) قال الجمل: (أو) تضمنت معى الواو لقوله: (حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). وهذه (هل) في قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ). قال الزمخشري: هل بمعنى قد. وقال الجمل: ليست هل للاستفهام لأن الاستفهام محال على الله، وقال بعضهم إنها للاستفهام والجواب مقدر. وهذه (على) في قوله تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى). ذكر أبو حيان: قيل على بمعنى اللام وتقدير الخبر المحذوف كائن لمن اتبع الهدى ومثلها: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ). ذكر الجمل: أن (على) بمعنى اللام أي لأجل الأصنام - مفعول لأجله. أقول: تحتمل (ما) أو (مِنْ) أو (إذا) أو (هل) أو سواها أكثر من معنى كما ذكر شاكر وهارون في (إذا) معنى (لو) وكما وجدنا في (هل لك في) معنى ترغب وفي: (هل لك إلى) معنى أدعوك حتى إذا ظهر في النص مرجح يصرفها إلى أحد الاحتمالات المخصصة لها في مدلول معين، شارفتْه وتَلَوحت له واستغنت به عن سواه. أما التعاور فلا أرى له مساغا لأنه حَصْرٌ للحرف في منظور ضيق لينتهي به إلى حطب يابس.

ونستعرض الآن مجموعة من شواهد القائلين بالعاور والتناوب: - الباء بمعنا اللام (للتعليل) 1 - (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) 2 - (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) 3 - (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ) 4 - (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ) 5 - (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) 6 - (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) 7 - (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) الباء بمعنى مع اللمصاحبة) وتسمى باء الحال 1 - (قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ)

2 - (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) 3 - (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) 4 - (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) 5 - (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) 6 - (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) 7 - (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) 8 - (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) 9 - (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) 10 - (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)

11 - (أَسْرَى بِعَبْدِهِ) 12 - (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) 13 - (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) الباء بمعنى في (الظرفية) 1 - (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) 2 - (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) 3 - (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) 4 - (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) 5 - (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) 6 - (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) 7 - (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ) 8 - (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) 9 - (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) 10 - (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ)

11 - (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) 12 - (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) 13 - (نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) 14 - (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) 15 - (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ (18) الباء بمعنى عن (للمجاوزة) 1 - (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)

2 - (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) 3 - (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) 4 - (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) 5 - (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) 6 - (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ (18)

7 - (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) الباء بمعنى على (للاستعلاء): 1 - (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ) 2 - (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) 3 - (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ) 4 - (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) 5 - (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ) 6 - (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ) 7 - (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) الباء بمعنى مِن (للتبعيض): 1 - (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)

2 - (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) 3 - (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) الباء بمعنى إلى (للغاية): 1 - (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) 2 - (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ) الباء بمعنى العوض: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) الباء بمعنى المقابلة: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

الباء بمعنى التعجب: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) على بمعنى مع (للمصاحبة): 1 - (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) 2 - (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) 3 - (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) 4 - (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) على بمعنى اللام (للتعليل) 1 - (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)

2 - (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) 3 - (اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) 4 - (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) 5 - (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) 6 - (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) على بمعنى في (للظرفية): 1 - (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) 2 - (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) 3 - (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)

4 - (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) 5 - (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) على بمعنى الباء: 1 - (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ) 2 - (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) على بمعنى مِن (للابتداء): 1 - (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) 2 - (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) 3 - (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)

4 - (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) 5 - (بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) على بمعنى عن (للمجاوزة): (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) عن بمعنى على (للاستعلاء): 1 - (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) 2 - (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) عن بمعنى اللام (للتعليل): 1 - (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) 2 - (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ)

3 - (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) عن بمعنى بعد: 1 - (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) (40) 2 - (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) 3 - (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) عن بمعنى مِن: 1 - (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) 3 - (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا)

عن بمعنى الباء 1 - (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (3) 2 - (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) 3 - (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) اللام بمعنى إلى 1 - (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) 2 - (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) 3 - (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) 4 - (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ)

5 - (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (5) 6 - (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) 7 - (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) 8 - (يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) 9 - (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) 10 - (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) 11 - (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) اللام بمعنى على (للاستعلاء): 1 - (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ)

2 - (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (103) وفي (أسلم) وجهان: 1 - متعد: والمفعول محذوف. 2 - لازم: تضمن معنى خضع. 3 - (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) 4 - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) 5 - (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) 6 - (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) 7 - (دَعَانَا لِجَنْبِهِ) 8 - (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)

اللام بمعنى في (الظرفية): 1 - (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) 2 - (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) 3 - (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) 4 - (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) 5 - (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) 6 - (إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) ومثلها: (جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) 7 - (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)

اللام بمعنى عن (للمجاوزة): 1 - (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) 2 - (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ) 3 - (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا) اللام بمعنى الباء (للتبعيض): (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) مِن بمعنى اللام (للتعليل): 1 - (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) 2 - (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) 3 - (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ)

4 - (لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) 5 - (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) 6 - (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) مِن بمعنى على (للاستعلاء) 1 - (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ) 2 - (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) مِن بمعنى الباء (السببية): 1 - (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) 2 - (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

3 - (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) 4 - (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) 5 - (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) 6 - (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) 7 - (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (50) 8 - (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا) (14) مِن بمعنى في: 1 - (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) 2 - (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)

3 - (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) 4 - (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ) 5 - (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) 6 - (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) 7 - (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) 8 - (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) 9 - (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) 10 - (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) مِن بمعنى عن (للمجاوزة): 1 - (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) 2 - (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) 3 - (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) 4 - (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) 5 - (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) 6 - (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

في بمعنى مع (للمصاحبة): 1 - (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) مثلها (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (29) 2 - (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) 3 - (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) 4 - (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) 5 - (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) 6 - (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا (16) 7 - (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (19) 8 - (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (9) في بمعنى على (للاستعلاء): 1 - (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)

2 - (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) 3 - (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) 4 - (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) 5 - (عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا) 6 - (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) في بمعنى مِن (للغاية): 1 - (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) 2 - (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) ْ3 - (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) 4 - (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)

في بمعنى الباء (السببية): 1 - (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ) 2 - (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) 3 - (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) 4 - (وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) 5 - (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) 6 - (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (21) 7 - (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) 8 - (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) 9 - (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) 10 - (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) 11 - (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (9) 12 - (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)

في معنى عن: 1 - (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) 2 - (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا) في بمعنى اللام (للتعليل): 1 - (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) 2 - (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ) 3 - (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ) 4 - (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) 5 - (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) في بمعنى إلى: 1 - (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)

2 - (فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) 3 - (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) 4 - (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) إلى بمعنى مع 1 - (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) 2 - (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) 3 - (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)

4 - (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) 5 - (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) إلى بمعنى في (الظرفية): 1 - (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) 2 - (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) (18) 3 - (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) 4 - (وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (12) إلى بمعنى اللام: 1 - (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) 2 - (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (25) 3 - (وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ)

4 - (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) 5 - (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) 6 - (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) إلى بمعنى الباء: 1 - (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) 2 - (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى بمعنى على: 1 - (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ).

المبحث الثاني التضمين وزيادة الحروف وحذفها

المبحث الثاني التضمين وزيادة الحروف وحذفها (والمختار: أن ما أمكن تخريجه على غير الزيادة، لا يحكم عليه بالزيادة وتخريج كثير من هذه الشواهد ممكن على النضمين). المرادي. (وإذا زاد حرف الجر فيما هو غني عنه فذلك لأسباب ... أن يحدث بزيادة الحرف معنى لم يكن في الكلام ... وهذا النوع كثير يراه من منحه اللَّه طرفا من النظر، ولم يمر عليه معرضا عنه). ابن السيد البطليوسي. (وحذف الحروف ليس بالقياس، وذلك أنها دخلت الكلام لضرب من الاختصار، فلو ذهبت تحذفها لكنت مختصرا لها، واختصار المختصر إجحاف به). أبو علي الفارسي.

وحروف الجر تنقسم من طريق الزيادة ثلاثة أقسام قسم لا خلاف بين النحويين في أنه غير زائد. وقسم لا خلاف بين النحويين في أنه زائد وإن كان في ذلك خلاف عند أهل البيان. وقسم ثالث فيه خلاف. وإنما خصصنا الياء بالذكر لأن ابن قتيبة لم يذكر غيرها، فالباء التي لا يجوز أن يقال فيها إنها زائدة تسعة أنواع: * منها الباء التي لا يصل الفعل إلى معموله إلا بها كقولك: مررت بزيد وتسمى باء الإلصاق وباء التعدية. * ومنها الباء التي تدخل على الاسم المتوسط بين العامل ومعموله كقولك ضربت بالسوط زيدا. وكتبت بالقلم الكتاب، وشربت بالماء الدواء، وتُسمى باء الاستعانة، والفرق بينها وبين الأولى: أن الفعل في الأولى متعد إلى الاسم الذي باشرته بالباء من غير توسط بينهما، وفي الثانية يتوسط شيء آخر، وقد يقتصرون على أحد الاسمين، فيقولون: ضربت بالسوط، وكتبت بالقلم، ولا يذكرون المكتوب والمضروب، وقد يقولون: ضربت زيدا، ولا يذكرون اسم المتوسط الذي بواسطته باشر العمل معموله. * ومنها الباء التي تنوب مناب واو الحال، كقولهم جاء زيد بثيابه أي وعليه ثيابه. * ومنها الباء التي تأتي بعد السؤال: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا). فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب

* ومنها الباء التي تأتي بعد البدل والعوض، كقولهم: هذا بذاك. * ومنها الباء التي تأتي بمعنى القسم. * ومنها الباء التي تقع في التشبيه - لقيت به الأسد - ورأيت به القمر. * ومنها الباء التي تقع بعد ما ظاهره غير الذات وإنما المراد الذات ....................... ولم يشهد الهيجا بألوث معصم ....................... يشرب كأسا بكفِّ مَن بخلا * ومنها باء السبب: غلب تشدر بالدخول كأنها ... فجميع هذه الباءات لا تجوز زيادتها. أما الزائدة التي لا خلاف في زيادتها فكل باء دخلت على الفاعل في نحو: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) وما دخل منها على المبتدأ: بحسبك في القوم أن يعملوا ... ، وإذا لزم أن تكون زائدة لأن الفاعل لا يحتاج إلى واسطة بينه وبين فعله لشدة اتصاله والمبتدأ سبيله أن يكون مُعرّى من العوامل اللفظية. وأما الباء التي فيها خلاف فكل باء دخلت على معمول وعامله يمكن أن يتعدى إليه بنفسه من غير وساطة حرف بينهما. من ذلك قوله تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ). وقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). قال ابن يعيش: وتزاد الباء مع المفعول والذي يدل على زيادتها (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) لقوله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

وقال ابن جني: فالباء زائدة. وهكذا صار إلى ما صرفنا عنه وسوَّاً إلينا التمسك به. وقال المرادي: لا تلقوا مضمن: تفضوا، وقيل: حذف المفعول والباء السببية أي لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم كما تقول: لا تفسد حالك برأيك قاله المبرد. وقال البغوي: قيل الباء زائدة يريد ولا تلقوا أيديكم أي أنفسكم أي بما كسبتم إلى التهلكة، وقيل: الباء في موضعها وفيه حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة. (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وتزداد الباء في المفعول، ذكر ذلك ابن يعيش نقلا عن سيبويه وكذلك السيوطي والزركشي وذكر ابن جني: (بأيديكم) الباء زائدة وأنشد أبو زيد في النوادر: بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غني معز فزاد الباء في المبتدأ. أ. هـ وذكر البيضاوي: أن الباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس وقيل: لا تجعلوها (أي التهلكة). آخذة بأيديكم، ولا تلقوا بأيديكم إليها فحذف المفعول، وعدي الإلقاء بـ (إلى) لتضمنه معنى الإنهاء. أ. هـ. أقول: التضمين جرى في الفعل: (ألقى) بمعنى (رمى) وهما أخوان، الآية تريد أن تجعل الرمي في المهالك مسببا عما كسبته أيدي الناس المفرطين

في الشح عن الإنفاق في الغزو وتجهيز الغزاة فالباء على أصلها سببية. إذ ليس المراد النهي عن إلقاء اليد في المهالك، لأن أحدا من العقلاء لا يرمي نفسه، بل المراد تجنب الأسباب المفضية إلى المهالك، أي تنتهي أعمارهم إلى هذه النهاية الأسيفة بسبب ما جنته أيديهم من الشح والإمساك، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هي حرف الجر (الباء) لأن الفعل ألقى لا يتعدى بالباء، فالباء ليست زائدة وفعل ألقى تضمن معنى رمى والمتعدي بالباء والمفعول محذوف تقديره أنفسكم ولا ترموا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة. وما دام الشح والإمساك مُفضياً إلى المهالك فالنهي عن الأخذ بالأسباب نهي عن السبب وهو خير عاصم. ومن ذلك قوله تعالى: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ). قال ابن يعيش: وتزاد الباء مع المفعول، في قول المحققين من أصحابنا وتأويله: تُنبت ما تُنبته والدهن فيه فهو كقولك: خرج بثيابه ونحوه فيكون الدهن مفعولا والباء زائدة. وقال الزمخشري: تنبت وفيها الدهن، وقرئ: تنبت، وفيه وجهان: أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت وأنشد لزهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل والثاني: أن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن (الزيت)، وقرئ: تُنبت بضم التاء وحكمه حكم تَنبت وقرأ ابن مسعود: تُخرج الدهن وغيره تَخرج بالدهن، وفي حرف أُبي تثمر بالدهن، وعند بعضهم تنبت

بالدهان، وقال الجمل هي باء الإقحام. وقال الآلوسي: الباء للملابسة والمصاحبة مثلها في ذلك جاء بثياب، وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها، فإنه الملابس له في الحقيقة. وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك: ذهبت بزيد، كأنه قيل: تُنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتُحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال. وقيل الباء زائدة كما في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية. قال الخفاجي: ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان. أقول: تنبت تضمن معنى تنضح والمتعدي بالباء فهي ترشح بالزيت على هَيْنة وفي بطء كما تُرشح الأم ولدها باللبن أما زيادة الحروف فولها ظهرك ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ). قال الزمخشري: وقد تقع اللام مزيدة قَال تعالى: (رَدِفَ لَكُمْ). وجاء في اللسان: يجوز أن يكون أراد: ردفكم فزاد اللام ويجوز أن يكون ردف مما تعدى بحرف جر وبغير حرف جر. التهذيب قال: قرب لكم. وقال الفراء: دنا لكم وقد تكون اللام داخلة والمعنى ردفكم. وردفت

فلانا وردفت لفلان: صرت له رِدْفاً. الجوهري: يقال نزل بهم أمر فردف لهم آخر أعظم منه. وقال الزمخشري: فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم، وأزف لكم، ومعناها تبعكم، ولحقكم. وقال الجمل: وفي هذه اللام أوجه: أظهرها: أن رَدِف ضُمِّن معنى فعل يتعدى باللام أي دنا وقرب. أقول: إن سياق الآية يشير إلى قرب العذاب لهم لاستهزائهم، ودنوه منهم لتغطرسهم، فتضمين ردف معنى دنا وأزف يثير في القلوب الخوف والقلق من شبح العذاب فهو وراءهم ورديف لهم كما يكون الرديف للراكب، ولولا هذه اللام لما ارتفع الفعل في الإعجاز وعن طريق التضمين إلى مشارفة النظم البديع للمعنى المسبل وراء سِتار الغيب يتلوحه العاقل على قيد خطوات ليتهيأ له ويستعد في كل لحظة، وأما عسى ففي وعيد اللَّه تدل على صدق الأمر وجِدِّه ولا مجال للشك بعده. ومن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى). قال ابن يعيش: الباء زائدة: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ). أقول: يعلمِ هنا بمعنى يوقن ويصدق ويؤمن، وهذا يتعدى بالباء، قال تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أما سقوط الباء في قوله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ

أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فقياسي إذ يسقط حرف الجر مع المصدر المؤول ولا ريب أن زيادة الحروف تُحدث في العبارة معنى جديدا كما قال ابن السيد: فإمعان النظر عن كنه معانيها يبلغنا تعدد وجوه إفادتها، وإلطاف النظر فيها يكشف عن ما استودعه اللَّه من أسرارها، وطريقة عرضها حين تختلف من تركيب لآخر، يُظهر سر إعجازها ففي قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) يدعي الكوفيون زيادتها ولا يُثبته البصريون لأنه عندهم على حذف الجواب: إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال ... طابت نفوسهم بصدقِ وَعد ربِهم. وقولنا: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) نابت (ما) عن (حقا ويقينا). و (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) نابت (الباء) عن (الإلصاق والمباشرة) و (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ) نابت (مِنْ) عن (البعضية). و (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) نابت (ما) عن (التوكيد). فالحروف هذه اختصار لكلمات، فإذا حكمنا عليها بالزيادة فقد أفسدنا المعنى الذي أفادته، فقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ) أي بعضهم فإذا حذفنا (مِنْ) لكونها زائدة فقد صارت الأولاد والأزواج جميعا عدوا لنا. أرأيت كيف فسد المعنى بدعوى الزيادة؟! علينا إذاً أن نتجنب إطلاق لفظ زائدة في كتاب اللَّه فإن الزائد قد يُفهم منه أن لا معنى له وكتاب اللَّه منزه عن ذلك إنما تنكشف البراعة عند معرفة

وجه التأويل، وما جاءت هذه الحروف إلا لفوائد ومعانٍ تخصها لتكسب المعنى نبلاً، وتظهر فيه مزية من الجهة التي هي أصح لتأديته، وأخص به وأكشف عنه، وأبهر في صناعته. ومثل هذا يعرفه البياني الذي خالط كلام الفصحاء وعرف مواقع استعمالهم وذاق حلاوة ألفاظهم، وأما النحوي الجافي فعن ذلك بمنقطع الثرى. التحويليون وهم أصحاب الاتجاه العقلي يرون أن النظر في المعنى ملازم للنظر في الشكل والتركيب، ولا يرتضون الوقوف عند الوصف المحض الذي يراه الوصفيون من علماء اللغة وهم أصحاب الاتجاه النقلي وأن اللغة توقيفية من اللَّه سبحانه، بل يتعداه إلى تفسير الظواهر اللغوية تفسيرا عقليا، يدرسون الصوت والنظم والدلالة بأنواعها، لتتصل اللغة بالفكر مثلما اتصلت سابقا بالمنطق والفقه وعلم الكلام، ويشير هؤلاء إلى أن حروف المعاني تدخل في النظم، ولا تدل على معنى في العمق، إنما تؤدي في التركيب لونا من الزخرف أو إيقاعا في التنغيم الصوتي أو فائدة في التركيب كالتوكيد أو قوة الربط أو الإنابة عما وراءها يقول سيبويه: ليس زيدٌ ببخيل ولا جباناً. الباء دخلت على شيء، لو لم تدخل عليه لم يُخل بالمعنى ولم يُحْتج إليها. ألا تراهم يقولون: حسبك هذا وبحسبك هذا، فلم تغير الباء معنى، وجرى هذا مجراه قبل أن تدخل الباء. أ. هـ أي دخول الباء كخروجها، فدخولها لتوكيد المعنى وقوة الربط. أقول: إن دخول الباء على بخيل نفت عنه أدنى درجات البخل وعدم دخولها على جبان لاحتمال بعض الجبن فيه أما البخل فمنتف عنه أصلا. ويقول ابن جني: إذا قلت ليس زيد بقائم فقد نابت الباء عن (حقا)

و (ألبتَّةَ) و (غير ذي شك) وإذا قلت: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) فكأنك قلت: فبنقضهم ميثاقهم فعلنا كذا حقا أو يقينا وإذا قلت: أمسكت بالحبل: فقد نابت الباء عن قولك: أمسكت مباشرا له وملاصقة يدي له. وإذا أكلت من الطعام فقد نابت (مِنْ) عن البعض وكذلك، بقية ما لم نسمه فإذا كانت هذه الحروف نوائب عما هو أكثر منها لم يجز من بعد ذا أن نتخرق عليها فننتهكها ونجحف بها. وأختم حديثي عن دعوى الزيادة بأن لهذه اللغة أصولا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال ابن جني وسيبوبه. فأقول: ما دام الحرف بعض الفعل من حيث كان مُعديا له وموصلاً، فهو جزء منه، أو كالجزء لقوة اتصاله به وشدة امتزاجه، فهو يعتده كالبعض له، فكيف ندعي زيادته؟! هذه اللغة شهدت بحكمتها العقول، وتناصرت إليها أغراض ذوي التحصيل بوجه يقبله القياس، وتنقاد إليه دواعي النظر والإنصاف، فما خفي عنا فيها فلا نخِفُّ إلى نقضه، مما ثَبتَ اللَّه أطنابه وأحصف بالحكمة أسبابه، بل نتهم نظرنا فيه، ولا نسرع إلى إعطاء اليد بفتح بابه، ونتأتى له ما استطعنا، حتى نبلغ حاجتنا، ويفتح اللَّه لنا مغاليقه، فنفقه الغرض من ذكر هذه الحروف بقوة الباصرة وملاطفة التاول ودوام التأمّل وما ادعى زيادتها إلا مَن حمل هذه اللغة على ظاهرها، وصار إلى احتذاء رسومها، أما من تمكن، فيها وتركح في وجوهها ونواحيها، فقد جعل في هذه الحروف تحصينا لسلامتها، وتزاحما لأغراضها، وإثراء لمعانيها.

أسباب حذف حروف المعاني

أسباب حذف حروف المعاني العرب قد تحذف حروف الجر من أشياء هي محتاجة إليها، وتزيدها في أشياء هي غنية عنها فإذا حذفوا حرف الجر مما هو محتاج إليه، فذلك لأسباب ثلاثة: أحدها: أن يكثر استعمال الشيء، ويفهم الغرض منه، فيحذفون حرف الجر تخفيفا. والثاني: أن يحمل الشيء على شيء آخر هو في معناه، ليتداخل اللفظان كما تداخل المعنيان كقولهم استغفر اللَّه ذنبي، حين كان بمعنى أستوهبه إياه. والثالث: أن يضطر إلى ذلك الشاعر: تمرون الديار ولم تعوجوا ... سلامكم علي إذاً حرام وإذا زاد حرف الجر فيما هو غني عنه فذلك لأسباب أربعة: أحدها: تأكيد المعنى وتقوية عمل العامل، وذلك بمنزلة من كان معه سيف صقيل فزاده صقلا وهو غنيٌ عنه. والثاني الحمل على المعنى، ليتداخل اللفظان كتداخل المعنيين، نضرب بالسيف ونرجو بالفرج فعُدّي الرجاء بالباء حين كان بمعنى الطمع. والثالث: أن يضطر الشاعر إلى الزيادة لإقامة وزنه والرابع: أن يحدث بزيادة حرف معنى لم يكن في الكلام، وهذا أظرف الأنواع الأربعة وألطفها مأخذا وأخفاها صنعة، ومن أجل هذا النوع أراد الذين أنكروا هذا الباب، أن يجعلوا لكل لفظ معنى غير الآخر، فضاق عليهم المسلك، وصاروا إلى التعسف، وهذا النوع كثير في الكلام، يراه من منحه اللَّه طرفا من النظر، ولم يمر عليه مُعرضا عنه، فمن ذلك قولهم شكرت زيدا، وشكرت لزيد، يتوهم كثير من أهل هذه الصناعة أن دخول اللام ههنا

كخروجها، كما توهم ابن قتيبة ويعقوب، ومن كتابه نقل ابن قتيبة ما ضمنه هذا الباب وليس كذلك، لأنك إذا قلت شكرت زيدا، فالفعل متعد إلى مفعول واحد، وإذا قلت شكرت لزيد صار بدخول اللام متعديا إلى مفعولين لأن المعنى: شكرت لزيد فعله وإنما يترك ذكر الفعل اختصارا ويدلك على ذلك ظهور المفعول في قول الشاعر: شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... وما ضاع معروف يكافئه شكر كان الشكر له فصار هنا لآلائه وبلائه. ومن هذا النوع قولهم كلت الطعام ووزنت الدراهم فيعدونها إلى مفعول واحد ثم يُدخلون اللام فيعدونها إلى مفعولين، فيقولون كلت الطعام لزيد، ووزنت الدراهم لعمرو، وإذا قالوا كلت لزيد ووزنت لعمرو فإنما يتركون ذكر المكيل والموزون اختصارا. وكذلك إذا قالوا: كلت زيدا ووزنت عمرا، وحذفوا حرف الجر والمفعول الثاني اختصارا وثقة بفهم السامع. وذكر ابن درستويه: أن نصحت زيدا ونصحت لزيد من هذا الباب، وأن اللام فإنما تدخله لتُعديه إلى مفعول آخر وأنهم إذا قالوا نصحت لزيد فإنما يريدون نصحت لزيد رأي أو مشورتي فيترك ذكر المفعول اختصارا. وذكر في هذا الباب قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) قال معناه يخوفكم بأوليانه وقال الزمخشري: يخوفكم أولياءَه. ومن حذف حرف العطف ما أنشده ابن الأعرابي: وكيف لا أبكي على علاتي ... صبائحي غبائقي قيلاتي

ومن حذف الباء ما قاله رؤبة إذا سئل كيف أصبحت فيقول: خير عافاك الله. ومن حذف واو القسم ما حكاه سيبويه: اللَّهِ لا أفعل. ومن أبيات الكتاب: من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها ... والشر بالشر عند اللَّه مثلان أي فاللَّه يشكرها حذف الفاء الرابطة لجواب الشرط. وحذف همزة الاستفهام في قول الكُميت: .............................. ولا لعبأ مني وذو الشيب يلعب؟ وقول ابن أبي ربيعة: ثم قالوا تحبها قلت بهرا .............................. أي أتحبها؟

الفصل الرابع التضمين وصلته بالفعل ومشتقاته

الفصل الرابع التضمين وصلته بالفعل ومشتقاته (وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال؛ وجهلت النحوية هذا، فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض، فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل، وهو أوسع وأقيس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال). ابن العربي.

المبحث الأول الفعل ومكانته في الجملة

المبحث الأول الفعل ومكانته في الجملة الفعل في كل لغة راقية هو مصدر التعبير عن أفكار المتحدثين بها، يصور النشاط والحركة وكل ما تموج به الحياة من فكر ووجدان، واللغات البدائية أكثر ما تعتمد على الأسماء، وتستعين بقدر قليل من الأفعال. وحين يرتفع مستوى تفكيرها، وتستعين بإضافة ألفاظ إلى هذه الأفعال، تُنوع دلالتها، وتُعدد معانيها كالظروف والحروف. فالبطاقة الشخصية لكل فعل تحتوي على: بنيته، وصيغته، تعديا ولزوما، وكذلك في اشتقاقه وتصريفه، وفيما يرافقه من حروف المعاني، ومستوى الجماعة التي تستخدمه، والدلالات التي تسلطها عليه، والظروف التي تطرأ عليه، نعم؛ ظفرت الأفعال باهتمام العلماء، علماء اللغة والنحو والصرف، وكان لها نصيب وافر من هذه الدراسات، وكذلك حروف المعاني ذات الدلالة الوظيفية للكشف عن هوية الأفعال. فالفعل لا يتم معناه منفصلا عن معموله لأنه مفتقر إليه ومقترن بما يحتاج إلى تمام معناه. وكان لعلماء الأندلس قصب السبق في هذه الدراسة، وقد ألفت كتب في

الأفعال وكانت أشبه بالرسائل، وكتب حوت فصولا خاصة بالأفعال، وكتب خصصت بالأفعال، والفعل كما هو معروف لازم أو متعدٍ. وأسباب تعدي اللازم أصالة ثمانية: الهمزة، والتضعيف، وزيادة الهمزة، والسين، والتاء، وزيادة ألف المفاعلة، وزيادة حرف الجر، وحذف حرف الجر توسعا، وتحويل اللازم إلى باب نصر لقصد المغالبة، وأخيرا: التضمين. والحق أن تعدية الفعل سماعية فما سُمعت تعديته بحرف لا يجوز تعديته بغيره، وما لم تُسمع تعديته لا يجوز أن يُعدى بهذه الأسباب إلا على وجه من التضمين، وأسباب لزوم الفعل المتعدي أصالة خمسة. تحويل المتعدي إلى فَعُلَ بضم العين بقصد التعجب والمبالغة، وضعف العامل لتأخيره، وصيرورته مطاوعا، والضرورة، وأخيرا التضمين.

المطلب الأول: التضمين يجعل اللازم متعديا والمتعدي لازما:

والتضمين في الفعل موضع شريف، أكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه، والمنفعة به كبيرة، والاستناد إليه مُجْدٍ، وهو مَعلَم من معالم سَداد عقول أصحابه، دل على فضيلة لغتهم، وأن في طباعهم قبولا لها. فالتضمين النحوي إذاً سبب من أسباب تعدي الفعل ولزومه وذلك، بأن نشرب فعلا لازما أو أحد مشتقاته معنى فعل متعد ليتعدى تعديته: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) قد ضمن تعزموا معنى تنووا فعدي تعديته. أو أن نُشرِب فعلا متعديا أو أحد مشتقاته معنى فعل لازم ليصير لازما مثله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ضمن (يخالف) معنى (يخرج) فصار إلى اللزوم. ويختص التضمين عن غيره من المعديات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة ولذلك عدي (ألوت) إلى مفعولين بقصر الهمزة بمعنى (قصرت) بعدما كان قاصرا (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) لما ضمن معنى (لا أمنعك). وعدي (أخبر وخبر وحدث وأنبأ ونبأ) إلى ثلاثة مفاعيل لما ضمن معنى (أعلم وأرى) بعدما كان متعديا لواحد بنفسه وإلى الآخر بالباء (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) المطلب الأول: التضمين يجعل اللازم متعديا والمتعدي لازما: إذا ضمن اللازم معنى المتعدي تكون تعديته قرينة للتضمين (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) تضمن (استبق) معنى (ابتدر).

وهذه طائفة من الأفعال اللازمة جعلها التضمين متعدية: - (سَفِهَ نَفْسَهُ) تضمن (سفه) معنى خاف أو امتهن أو أهلك. (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ) (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) قعد تضمن معنى لزم. (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) تضمن (عزم على) معنى نوى. رحبتكم الدار - تضمن معنى وسعتكم. طلع القمر اليمن - تضمن معنى بلغ. سمع اللَّه لمن حمده - تضمن معنى استجاب. فطلع ورحب لازم عداه التضمين. وسمع متعدٍ بنفسه فبالتضمين صار لازما. وهذه طائفة من الأفعال المتعدية لمفعول جعلها التضمين لازمة: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) تضمن معنى تسهو أو تغفل أو تنبو عنهم. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) تضمن معنى يحيدون عن أمره. (أَذَاعُوا بِهِ) تضمن معنى أفشَوا به. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) تضمن معنى بارك لي في ذريتي. (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) تضمن معنى يُصغون.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) قبل: (مِنْ) زائدة يعتزلون نسانهم. وضمن آلى امتنع فعدي بمن قال ابن قيم الجوزية: قولنا استغفر زيد ربه ذنبه فيه ثلاثة أوجه: أحدها هذا. والثاني: استغفر زيد ربه من ذنبه. والثالث: استغفر زيد ربه لذنبه. وهذا موضع يحتاج إلى تدقيق نظر، وهل الأصل حرف الجر وسقوطه مضمن أم الأصل سقوطه وتعديه بنفسه وبالحرف مضمن؟ قال السهيلي: الأصل فيه حرف الجر وأن يكون الذنب نفسه مفعولا بـ استغفر غير متعد بحرف الجر، لأنه من غفرت الشيء إذا غطيته وسترته، مع أن الاسم الأول هو فاعل بالحقيقة وهو الغافر. ثم أورد على نفسه سؤالا فقال: فإن قيل: فإن كان سقوط حرف الجر هو الأصل فيلزمكم أن تكون (مِنْ) زائدة كما قال الكسائي. وقد قال سيبويه والزجاج: إن الأصل حرف الجر ثم حذف فنصب الفعل. وأجاب: بأن سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه نحو غفر. وأما استغفر ففي ضِمن الكلام ما لا بد منه من حرف الجر لأنك لا تطلب غفرا مجردا من معنى التوبة والخروج من الذنب، وإنما تريد بالاستغفار خروجا من الذنب وتطهيرا منه فلزمت (مِن) في هذا الكلام لهذا المعنى، فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ، فإن حذفتها تعدى الفعل فنصب وكان بمنزلة: أمرتك الخير، فإن قيل: فما معنى قولكم في نحو قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قلنا: هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والإخراج من الذنب، فدخلت (مِنْ) لتؤذن بهذا المعنى

ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيث يذكر الفاعل والمفعول الذي هو الذنب نحو قوله: (لكم) لأنه المنقذ المخرج من الذنوب بالإيمان. ولو قلت: يغفر من ذنوبكم دون أن يذكر الاسم المجرور، لم يحسن إلا على معنى التبعيض، لأن الفعل الذي كان في ضمن الكلام وهو الإنقاذ، قد ذهب بذهاب الاسم الذي هو واقع عليه. فإن قلت: فقد قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) وفي سورة الصف: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فما الحكمة في سقوطها هنا؟ وما الفرق؟ قلت: هذا إخبار عن المؤمنين الذين قد سبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بإيمانهم، ثم وُعِدوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب وهي غير مُحبطة كإحباط الكفر المهلك للكافر، فلم يتضمن الغفران معنى الاستنقاذ، إذ ليس ثَم إحاطة من الذنب بالذنب. وإنما يتضمن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب لأن الحسنات يذهبن السيئات. بخلاف الآيتين المتقدمتين، فإنهما خطاب للمشركين، وأمرٌ لهم بما يُنقذهم ويُخلصهم مما أحاط بهم من الذنوب وهو الكفر. ففي ضمن ذلك الإعلام والإشارة بأنهم واقعون في مهلكة قد أحاطت بهم، وألا ينقذهم منها إلا المغفرة المتضمنة للإنقاذ الذي هو أخص من الإبطال والإذهاب. وأما المؤمنون فقد أُنقذوا، وأما قوله تعالى: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) فهي في موضع (مِنْ) التي للتبعيض لأن الآية في سياق

المطلب الثاني: يجعل المتعدي بنفسه متعديا بحرف الجر:

ثواب الصدقة فإنه قال: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) والصدقة لا تبطل جميع الذنوب. أرأيت ما للسياق من دور كبير في توجيه المعنى وتفسير النص من خلال موقع الأداة؟! المطلب الثاني: يجعل المتعدي بنفسه متعديا بحرف الجر: 1 - اركبوها: (ارْكَبُوا فِيهَا) تضمن معنى دخل. 2 - جحدوا ربهم: (جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) تضمن معنى كفروا. 3 - يخالفون أمره: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) تضمن معنى حاد عن أمره. 4 - تبديه: (لَتُبْدِي بِهِ) تضمن معنى: تصرح به. 5 - أصلح لي ذريتي: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) تضمن معنى بارك لي. 6 - أنعمتهم: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تضمن معنى تفضلت عليهم. 7 - ألم تر الذين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) تضمن معنى تنظر أو تلتفت. 8 - أذاعوه: (أَذَاعُوا بِهِ) تضمن معنى تحدثوا به.

المطلب الثالث *: التضمين يجعل المتعدي بحرف الجر متعديا بنفسه

9 - قضينا بني إسرائيل: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) تضمن معنى أوحينا إلى. 10 - يجحدون نعمة الله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) تضمن معنى يكفرون. 11 - يعبؤكم: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) تضمن معنى يكترث بكم. 12 - ردفكم بعض ... (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) تضمن معنى زلف. 13 - تلقون إليهم المودة: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تتضمن معنى تتقربون إليهم بالمودة. المطلب الثالث: التضمين يجعل المتعدي بحرف الجر متعديا بنفسه (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا) تضمن معنى نخل وماز. ومنه (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي كفروا بربهم على تضمين جحدوا ربهم. (اخترت) أصله أن يتعدى بحرف الجر (مِنْ) لأنه يتضمن إخراج شيء من شيء. وجاء محذوفا في الآية لتضمن الفعل معنى فعل متعد كأنه نخل قومه وميزهم، وسَبَرَهم، ونحو ذلك، (فمن) هنا واللَّه أعلم أسقطت كما سقطت من (امرتك الخير) أي ألزمتك وكلفتك، لأن الأمر إلزام وتكليف.

ومنه (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تضمن معنى نوَوا. ومنه (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) تضمن معنى جهل نفسه. ومنه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) و (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) تضمن الاستباق معنى القصد. ومنه (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) تضمن (تم) معنى (بلغ). ومنه (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) تضمن البطر معنى الفساد. ومنه (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ومنه (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ومنه (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ). وقال معناه يخوفكم بأوليائه. وقرأ بعضهم يخوفكم بأوليائه وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين وإليه ذهب الزجاج وأبو علي الفارسي ويؤيده فلا تخافوهم. وأما المتخلفون عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (فأولياؤه) هو المفعول الأول والمفعول الثاني: إما متروك أو محذوف للعلم به أي يوقعهم في الخوف أو يخوفهم من أبي سفيان وأصحابه وعلى هذا يعود الضمير إلى الناس أي لا تخافوا الناس وتقعدوا عن القتال، فمن ذلك قولهم شكرت زيدا وشكرت لزيد. يتوهم كثير من أهل هذه الصناعة أن دخول اللام كخروجها كما توهم ابن قتيبة ويعقوب، وليس كذلك لأنك إذا

قلت: شكرت زيدا فالفعل متعد لمفعول واحد، وإذا قلت شكرت لزيد صار بدخول اللام متعديا إلى مفعولين، لأن المعنى شكرت لزيد فعله، وإنما يُترك ذكر الفعل اختصارا، ويدلك على ذلك ظهور المفعول في قول الشاعر: شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم وما ضاع معروف يكافئة شكر ومن هذا النوع قولهم: كلت الطعام ووزنت الدراهم، فيعدونها إلى مفعول واحد ثم يدخلون اللام فيعدونهما إلى مفعولين، كلت الطعام لزيد ووزنت الدراهم لعمرو، وإذا قال: كلت لزيد ووزنت لعمرو فإنما يتركون ذكر المكيل والموزون اختصارا، وكذلك إذا قالوا: كلت زيدا ووزنت عمروا، حذفوا حرف الجر والمفعول الثاني اختصارا، وثقة بفهم السامع، وذكر ابن درستويه أن نصحت زيدا ونصحت لزيد من هذا الباب، وأن اللام إنما تدخله لتعديه إلى مفعول آخر، وأنهم إذا قالوا؛ نصحت زيدا فإنما يريدون نصحت لزيد رأيي أو مشورتي، فيترك ذكر المفعول اختصارا كما يتركون ذكره في قولهم: شكرت لزيد ومن هذا الباب قوله سبحانه (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ). وقال معناه يخوفكم بأوليائه، يريد أنه مثل قولهم: خوفت زيدا الأمر وخوفته بالأمر فالمخوفون على ما قاله هم المؤمنون. والأولياء هم الكفار وهم المُخَوفُ منهم وقد يجوز أن يكون الأولياء هم المخوفين دون المؤمنين، ويكون المعنى إن الشيطان يخوف الكفار لأنهم يطيعونه، وأما المؤمنون فلا سلطان له عليهم (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) فليس هذا تقدير حرف محذوف. ومنه (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) أي في معيشتها تضمن معنى ترفت.

ومنه (يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) أي بالسيئات تضمن معنى يحيكون ويدبرون. ومنه (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي بايعوهم كيلا ووزنا. وأما قوله سبحانه: (اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) فإنما دخلت (على) لتؤذن أن الكيل على البائع للمشتري. ودخلت التاء في اكتال لأن افتعل في هذا الباب كله للآخذ، لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذن بمعنى زائد على معنى الكلمة، لأن الآخذ للشيء كالمبتاع والمكتال، والمشتري ونحو ذلك ... يدخل فعله من التناول والاجترار إلى نفسه والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعل المعطي والمبايع، ولهذا قال سبحانه: (الَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) يعني من السيئات لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى، والحسنة تُنال بهبة اللَّه من غير واسطة شهوة ولا إغراء عدو، فهذا الفرق بينهما على ما قاله السهيلي، وفيه فرق أحسن من هذا: وهو أن الاكتساب يستعدي التعمّل والمحاولة والمعاناة فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمّله، وأما الكسب فيحصل بأدنى ملابسة حتى بالهم بالحسنة ونحوه. فخص الشر بالاكتساب والخير بأعم منه ففي هذا مطابقة للحديث الشريف: " إذا همَّ عبد بحسنة فاكتبوها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها ". وأما حديث الواسطة وعدمها فضعيف لأن الخير أيضا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق فهذا في مقابلة وسائط الشر فالفرق ما ذكرناه واللَّه أعلم. وأما (سمع اللَّه لمن حمده) فقال السهيلي: مفعول سمع محذوف

المطلب الرابع *: التضمين يجعل الفعل المتعدي بحرف متعديا بآخر

لأن السمع متعلق الأقوال والأصوات دون غيرها فاللام على بابها إلا أنها تؤذن معنى زائداً، وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهو الاستجابة (لمن حمده) وهذا مثل قوله سبحانه: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ). المطلب الرابع: التضمين يجعل الفعل المتعدي بحرف متعديا بآخر وحين أمسَّت العربُ الفعل بحرف لا يألفه، ولا يأنس به، فقد ابتغَوْا الإيجاز والإعجاز في تضمينه، فلا يكون معناه في هذه الحال مصرحا به مكشوفا عن وجهه، ولكن مدلولا عليه بفعل مضمن فيه، من طريق يخفى ومسلك يدق، وبذلك يكون ألطف لمكانه وأعلى لشأنه، وفيه من الحسن والرونق، والمزية والوصف ما لا يكون مع التصريح والتكشيف. وأسوق هذه النماذج على سبيل المثال: (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) يعني تهوي لهم، تضمن معنى تميل. (أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) يعني عليها عاكفون، تضمن معنى قذس. (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) أي على عبادته، تضمن معنى اثبت لعبادته. (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى) نجيناه من، تضمن معنى أسلمناه. (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي على القوم، تضمن معنى عصمناه وأجرناه ومنعناه. (لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي فقير إلى ما أنزلت، تضمن معنى [مُعتفِّفٍ].

المطلب الخامس التضمين يجعل الفعل متعديا مرة ولازما أخرى *، حسب تأويلنا له وتوجيهنا لمعناه

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي من ذنبك، تضمن معنى: تأسف. (خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) أي مع بعض، تضمن معنى انضوى. (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) تنقمون علينا، تضمن معنى تكرهون. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) أي على عبادته، تضمن معنى اثبت. (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا) (اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) تضمن معنى فَضَّل. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ) يعني يستمعون له، تضمن معنى عني به واهتم. (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) تضمن معنى الحمد والثناء. المطلب الخامس التضمين يجعل الفعل متعديا مرة ولازما أخرى، حسب تأويلنا له وتوجيهنا لمعناه قَالَ تَعَالَى: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) قرئ في السبع: برفع ونصب السبيل. وبالرفع استبان: لازم مضمن معنى (ظهر ووضح) وبها قرأ العشر ما عدا نافع. وبالنصب استبان: متعد مضمن معنى (استوضح) تستوضح يا رسول اللَّه سبيلهم، بها قرأ نافع. وقَالَ تَعَالَى: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) و (اهْبِطُوا

مِصْرًا) فالفعل هبط يتعدى بنفسه تارة وفي مفردات الراغب: هبط المرض لحم العليل: حط عنه، وبحرف الجر تارة هبط من بلد إلى بلد ويكون لازماً أخرى. وقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) (أن يضرب) مفعول به أو منصوب على نزع الخافض، لأن الفعل يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى. وقَالَ تَعَالَى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) تارة بحرف الجر كما مر، وتارة بنفسه (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). وقَالَ تَعَالَى: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) اختص يحتمل أن يكون لازما أي: ينفرد، أو متعديا ومعناها: يفرد. وقَالَ تَعَالَى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) دخل من حقه أن يتعدى بـ في أو إلى لكنه اتسع فيه فأُوصل بنفسه إلى المفعول كما قال العكبري. وقَالَ تَعَالَى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي). تعدى (ادخلي) أولا بـ (في) وثانيا بدونها لأنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعدت إليه بـ (في) نحو دخلت في الأمر، دخلت في غمار الناس، ومنه (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي)، وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير حرف الجر، ومنه (وَادْخُلِي جَنَّتِي) فأما دخلت البيت فإن البيت مفعول، تقول:

البيتَ دخلتُه. فإن قلت: دخلت فيه، قيل: هذا كقوله: عبد اللَّه نصحت له ونصحته. ألا ترى أن (دخلت) إنما عمل فعلته وأوصلته إلى الدار، لا يمتنع منه مثل ما كان من الدار تقول؛ دخلت المسجد. قَالَ تَعَالَى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) فهو في التعدي كقولك: عمرت الدار، وأصلحت الدار. قال سيبويه: وقد قال بعضهم: ذهبت الشام شبهه بالمبهم، إذا كان مكانا يقع عليه المكان والمذهب. وهذا شاذ لأنه ليس في (ذهب) دليل على الشام وفيه دليل على المذهب والمكان، ومثل ذهبت الشام، دخلت البيت، وفي المقتضب: قال سعيد بن سعيد الفارقي؛ فأما دخلت فإنها عند سيبويه لا تتعدى وإن قولهم: دخلت البيت إنما هو على حذف حرف الجر كأنه أراد: دخلت إلى البيت وفي البيت، وقال سيبويه: وحذف حرف الجر تخفيفا لما كثر استعماله إذا لم يؤدِّ التخفيف إلى لبس وإشكال ولم يطرق على فساد ومحال، وقال أيضا: وما حذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير ومثاله أمرتك الخير أراد: أمرتك بالخير. حذف حرف الجر فيه دليل آخر وهو أنا نقول: دخلت في الأمر ودخلت في السلم وما جرى مجراه، ولا يجوز حذف حرف الجر وإنَّمَا يحذف في الظروف، فلو كان متعديا لجاز أن يتعدى إلى هذا بغير حرف وفعل (نادى) يأتي لازما ويأتي متعديا فاللازم (إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا

المطلب السادس التضمين يجعل الفعل المتعدي لمفعول متعديا لمفعولين

يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) ويأتي متعديا (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا). المطلب السادس التضمين يجعل الفعل المتعدي لمفعول متعديا لمفعولين ضمن كتب معنى أقسم والقرينة هي الجواب: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) كتب أو قضى أو حكم تضمن معنى أقسم لذا تعدى لمفعولين: أقسم اللَّه كاتبا لأغلبن. ضمن أمات معنى ألبث قَالَ تَعَالَى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي ألبثه اللَّه مائة عام مماتاً. وفِعْل متعد لمفعول عداه لمفعولين أو ثلاثة: قَالَ تَعَالَى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ). والتضمين ينقل الفعل إلى أكثر من درجة، فعدى (ألوت) بقصر الهمزة بمعنى قصرت إلى مفعولين بعدما كان قاصرا على واحد في قولك: لا ألوك نصحا ولا ألوك جهدا حينما ضمن معنى لا أمنعك ومنه قوله سبحانه: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) قال الزمخشري: تعدى آلى إلى مفعولين على التضمين وجعله أبو حيان متعديا بحرف الجر: ألوت في الأمر و (خبالا) منصوب على التمييز أو الحال وفي النهر الماد: الأحسن تخريجه على التضمين. وعدي: أخبر وخبر وحدث وأنبأ ونبأ إلى ثلاثة، لما ضمنت معنى أعلم وأرى بعدما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بالجار نحو (أَنْبِئْهُمْ

بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) لأن (أرأيتم) إذا ضمنت معنى أخبروني تعدت إلى مفعولين، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية. وقَالَ تَعَالَى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) في رضي وجهان الأول متعد لواحد وهو الإسلام ودينا حال. والثاني: مضمن معنى صير وجعل فيتعدى لاثنين: الأول: الإسلام، والثاني: دينا. جعل يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد وبمعنى صير فيتعدى لاثنين، ويكون من أفعال المقاربة فيدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها في قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ). قال ابن هشام: ويختص التضمين عن غيره من المعديات بأنه ينقل الفعل إلى أكثر من درجة ولذلك عدي (ألوت) بقصر الهمزة بمعنى (قصرت) إلى مفعولين بعدما كان قاصرا وذلك في قولهم: لا ألوك نصحا ولا ألوك جهدا لما ضمن معنى لا أمنعك ومنه قوله تعالى: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا). وعدي أخبر وخبَّر وحدَّث وأنبأ ونبأ إلى ثلاثة لما ضُمنت معنى أعلم وأرى، بعدما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بالجار، نحو قوله تعالى: (أَنبِئهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) وقوله تعالى: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ). قَالَ تَعَالَى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) (سبع) مفعول ثاني لـ قضاهن لأنه ضمن معنى صيرهن بقضائه سبع سماوات.

وقَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ضمن يُكفروه معنى يُحرموا ثوابه، ولهذا عدي لاثنين: الأول؛ نائب فاعل، والثاني: هاء يكفروه. وقَالَ تَعَالَى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) درجات مفعول به ثانٍ وضمن نرفع معنى نعطي من نشاء درجات. وقَالَ تَعَالَى: (فَظَلَمُوا بِهَا) تعدى الفعل بالباء على التضمين، بمعنى كفروا بها، وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها، أو بسبب الناس إذ صدوهم عن الإيمان. وقَالَ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) قيل: ضمن معنى ألزمنا فتعدى لاثنين الثاني إحسانا وقيل: مصدر أوصاه ووضاه بمعنى واحد أي أنهم قالوا: وصَّى على المبالغة والتكثير. وقَالَ تَعَالَى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) زوّج يتعدى إلى مفعولين وعدي إلى الثاني بالباء لتضمنه معنى قرناهم. وقَالَ تَعَالَى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا). يجوز في (أجرا) أن يكون مفعولا به على تضمين فضل معنى منح. وقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أجاز أبو البقاء العكبري أن يكون قوله: (مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) مفعولا به على تضمين الفعل معنى (أعطيناهم)

قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي أعطيناهم مكان السيئة الحسنة وهو قول البيضاوي وفي الكلام حُذِفَ المفعول الأول. وقَالَ تَعَالَى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (خلقه) يجوز أن يكون مفعولا ثانيا لـ أحسن على تضمينه معنى أعطى. وقَالَ تَعَالَى: (فَظَلَمُوا بِهَا) تعدى الفعل بالباء على سبيل التضمين يمعنى كفروا بها، وإمَّا أن تكون الباء سببية أي ظلموا بسببها الناس حيث صدوهم عن الإيمان. وقَالَ تَعَالَى: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) فقوله بآياتنا يتعلق بـ (يظلمون) لتضمنه معنى يكذبون أو لأنها بمعنى يجحدون. وقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ). مفعول يظلم محذوف أي (أحدا) ومثقال: مصدر، وقيل ضمن معنى ما ينصب مفعولين فانتصب مثقال على أنه مفعول ثانٍ والأول محذوف، والتقدير: لا يغصب أو لا يبخس أحدا مثقال ذرة، والبخس في الثمن فرع من الظلم. وقَالَ تَعَالَى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ). درجاتِ ظرف أو مفعول ثانٍ ويحتاج هذا القول إلى تضمين (نرفع) معنى ما يتعدى إلى اثنين، أي

نعطي من نشاء درجات وقَالَ تَعَالَى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ضمن يبلو معنى يعلم فعداه تعديته إلى مفعولين والذي علقه عن المفعول الثاني جملة الاستفهام: أيكم. وقَالَ تَعَالَى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (سمع) إن دخلت على مسموع تعدت لواحد: سمعت كلام زيد وإن دخلت على غير مسموع فتتعدى لاثنين عند الفارسي، الثاني يدل على صوت، وتتعدى عند غيره لواحد. قَالَ تَعَالَى: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). ومن الأفعال المتضمنة معنى التصيير (فجَّر). وجعلنا الأرض كأنها عيون تتفجر وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض وأعربه بعضهم مفعولا ثانيا كأنه ضمن وفجرنا أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا. ويضمن معنى الفعل الناسخ فيتعدى إلى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر ويشيع في أفعال الصيرورة قَالَ تَعَالَى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) أي وجعلنا عليكم الغمام فيكون (عليكم) مفعولا ثانيا.

وقَالَ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) أي فيصيره أضعافا. وقَالَ تَعَالَى: (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) أي تتخذون الجبال بيوتاً ومثل هذا كثير: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) - (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا) - (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) - (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) - (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) - (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) الأصل في نبأ وأنبأ أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما وإلى الثاني بحرف الجر، ويجوز حذفه فنقول: نبات به ونبانيه فإذا ضمن معنى أعلم تعدى إلى ثلاثة مفاعيل: ويختص التضمين عن غيره من المعديات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة، عدى أخبر وخبَّر وحدَّث ونبأ إلى ثلاثة مفاعيل لما ضمنت معنى أعلم وأرى بعدما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بالجار نحو (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) قال أبو حيان: والأصل في هذا أن يصل إلى ثاني معموليه باللام (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أو بـ (إلى) (لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ثم يُتسع فيه فيتعدى إلى ثاني معموليه بنفسه (اهْدِنَا

المطلب السابع: يجعل المتعدي لمفعولين متعديا لواحد

الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال الأخفش: وأهل الحجاز يقولون هديته الطريقَ أي عرفته وذكر في هذا الباب قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) وقال معناه: يخوفكم بأوليانه. وقَال تعالى: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) ترك ضمن صير أو جعل. وقَالَ تَعَالَى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال الجمل: مقاما يجوز أن يكون مفعولا به ثانيا لـ يبعثك على تضمينه معنى يعطيك. المطلب السابع: يجعل المتعدي لمفعولين متعديا لواحد قَالَ تَعَالَى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) تضمن (قفينا) معنى (جئنا) كما قال الجمل. والأصل يقضي أن يتعدى إلى مفعولين: قفيناهم عيسى. و (علم) من أفعال اليقين بمعنى (اعتقد) يتعدى إلى مفعولين قال تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) فإن تضمن معنى (عرف) تعدى لواحد لقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) أي لا تعرفون شيئا. وكذلك (الفى) بمعنى (علم واعتقد)، تقول: ألفيت جوابك صحيحا فإن

المطلب الثامن: وتضمين فعل الظن معنى فعل اليقين في الأمور المحققة

تضمن معنى (ظفر) تعدى لواحد قَال تعالى: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ). ومثله (ظن) بمعنى (علم وأيقن) قَالَ تَعَالَى: (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) فإن تضمن معنى الاتهام تعدى لواحد قال تعالى: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)، أي بمُتهم كما قال الرازي. المطلب الثامن: وتضمين فعل الظن معنى فعل اليقين في الأمور المحققة قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) و (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ). قال الراغب: الظن متردد بين اليقين والشك فمتى رُئي إلى اليقين أقرب استعمل مع أنَّ المشددة ومتى رُئي إلى الشك أقرب استعمل معه أنْ المخففة نحو: ظننت أنْ يخرج. وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) لأمرين: 1 - أحدهما للتنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالنسبة إلى علمهم في الآخرة كالظن في جنب العلم. 2 - أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين المعنيين بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا).

المطلب التاسع: تضمين فعل معنى آخر

المطلب التاسع: تضمين فعل معنى آخر 1 - تضمين (قال) معنى (ادعى) أو ذكر يتعدى إلى مفعول صريح قال تعالى: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ). ذكر العكبري أن (مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) مفعول به لـ قال المتضمن معنى ادعى أو ذكر. (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) في قراءة شاذة لعيسى بن عمر بفتح همزة إن فتكون جملة أن مع اسمها وخبرها مفعول (قال) المضمن معنى ذكر. 2 - تضمين كتب أو أذِن أو استجاب معنى (قال). قَالَ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بكسر همزة إن على قراءة السبع من غير نافع، بتضمين (كتب) معنى (قال). وقَالَ تَعَالَى: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بكسر همزة إن على قراءة الأعمش ونصب لعنة على تضمين (أذن) معنى (قال). وقَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) بكسر همزة إن على قراءة عيسى بن عمر - وهي شاذة - وتضمين (استجاب) معنى (قال). 3 - تضمين (دعا) معنى (صيَّر) قَالَ تَعَالَى: (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ) وهذا المطلب وسيع لا حد له.

المطلب العاشر: تضمن الفعل الناقص معنى الفعل التام

فالوقوف على المعنى الحرفي من أسباب القصور في الفهم لأنه يُهمل المعنى الدلالي والذي فيه المعنى الاجتماعي وحين يعدل الحكيم سبحانه من لفظ إلى لفظ فلنتنبَّه على أسبابه، ويتجلى لنا وجه الحكمة في اختياره، فلا تأتيك المعاني مُصرحاً بها مكشوفاً عن وجهها بل من وراء حجاب لتكون أبهى وألطف فلا يكاد يحيط بمدلول معنى اللفظ وإدراك مطلبه من لم يألف مذاهب هذه اللغة الشريفة، انظر قوله سبحانه: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) الجزء الثاني من هذا الكتاب. المطلب العاشر: تضمن الفعل الناقص معنى الفعل التام برح وزال وفتئ وانفك. هذه أفعال ناقصة شريطة أن يتقدمها نفي أو نهي أو دعاء كما في قوله تعالى: (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ). أما في قوله تعالى: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فهذه تامة لأنها تضمنت معنى فارق. والأرض هنا مفعول به كما قال أبو حيان. وبرح تكون تامة بمعنى غادر وبمعنى ظهر ومنه: برح الخفاء، أي ظهر، انتصبت الأرض على أنه مفعول به ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها، والأرض المنصوبة مبتدأ وخبر.

المبحث الثاني التضمين في المشتق

المبحث الثاني التضمين في المشتق قال الزركشي: إن التضمين يكون في الأفعال والأسماء والحروف: ففي الأسماء: قَال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) فضمن التوبة معنى العفو والصفح. وقَالَ تَعَالَى: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) ضمن النصرة معنى الولاء أو التوجه والقصد. وقَالَ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) فضمن الرفث معنى الإفضاء. وفي الأفعال: قَالَ تَعَالَى - (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي لألزمن أو لأملكن. وقَالَ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) ضمن يؤلون معنى يمتنعون من وطئهن بالألية.

وأورد الزركشي تنبيهين: الأول: أن يراعى المحذوف لا المذكور فيراعى في الرفث الإفضاء. وقال التفتازاني: ولا اختصاص للتضمين بالفعل بل يجري في الاسم: قَال تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) لا يجوز تعلق الجار والمجرور بلفظة (الله) لكونه اسما لا صفة بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي ضمنه اسم اللَّه تعالى (معبود) كما في قولك هو حاتم بن طيء أي جياد، واقتصار السعد والسيد على حصره في الأفعال جار مجرى التمثيل لا التقييد، ودعوى حصره في الأفعال لا دليل عليه قَالَ تَعَالَى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) متعلق الجار والمجرور بمغضوب. وقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ) الجار والمجرور متعلقان بـ إله لأنه بمعنى معبود - اسم مفعول -. وقَالَ تَعَالَى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) نعلق في الدنيا بـ خري لأنها تؤول بمشتق (مذلة). وقَالَ تَعَالَى: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يتعلق الجار والمجرور بـ ذنب لتأويله بمشتق - تبعة - وقَالَ تَعَالَى: (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) أعمى أي (ضال). وقَال تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) مكنوفا برأفتي بك، وكلاءتي لك.

وقَالَ تَعَالَى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) أي قوانا فاليد معناها القوة وتأتي بمعنى النعمة له علي يد وقَالَ تَعَالَى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) قليل أي متضائل. وقَال تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). ذكر الزمخشري أن الجار والمجرور متعلقان بـ أذلة لتضمنها معنى الحنو والعطف أي عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل. وقَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) (حفي) يتعدى بالباء أي حفي بها، وعليه فمتعلقه محذوف على أن (عن) تتعلق بـ يسئلونك، ويجوز أن يكون مضمنا معنى ما يعدى بـ (عَنْ) أو أن تكون عن بمعنى الباء. وقَالَ تَعَالَى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بكسر همزة إن وهي قراءة الحسن والأعرج. وتضمن (أذان) معنى القول على مذهب الكوفيين أو على إضمار القول على مذهب البصريين، وقَال تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) نقول: رأفت به ولا نقول: رحمت به. ولكن لما وافقه في المعنى تنزل منزلته في التعدية

وقَالَ تَعَالَى: (إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) عُدِّي نقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. ويحتمل أنه فقير من الدنيا ذكره الزمخشري. وقَالَ تَعَالَى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) قيل المتاع هنا نفقة العدة فتضمن معنى الإنفاق وتعلق به الجار والمجرور قاله أبو حيان في البحر. وقَالَ تَعَالَى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ). حقيق تضمن معنى حريص. وقال تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) اللَّه تضمن معنى المعبود. وقَالَ تَعَالَى: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) بقدرته وقوته. وقَالَ تَعَالَى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) عملته قُوانا. وقَالَ تَعَالَى: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) فهل لك تضمنت معنى أدعوك. وبقي التضمين في الحروف فلا أرى حاجة للوقوف عليه، لأنه قول مدفوع لا رجوع إليه.

وقد أصدر مجمع اللغة العربية القرار التالي: التضمين: أن يؤدي فعل أو ما في معناه مؤدى فعل آخر أو ما في معناه فيعطى حكمه في التعدية واللزوم. ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي بشروط ثلاثة: الأول: تحقق المناسبة بين الفعلين أو ما في معناهما. الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر ويؤمن معها اللبس. الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي. ويوصي المجمع ألا يُلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي. وختاما أقول: الانتفاع بالتضمين ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية.

القسم الثاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فهذا هو القسم الثاني من كتابنا (التضمين النحوي في القرآن الكريم) تناولت فيه (270) آية من كتاب اللَّه استعرضت في كل آية أقوال المفسرين ثم أختمها بما أرانيه اللَّه سبحانه. أسأله تعالى السداد في الرأي والنصيحة من الزلل.

(أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)

قَالَ تَعَالَى: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ). فعل (أتى) يتعدى بنفسه ويتعدى بحرف، ويجيء لازما، ويختلف معناه حسب سياقه، فمن عزله عن تركيبه الذي ورد فيه، ووقف على مدلوله اللغوي منفردا، وانصرف عن تأثيره في جواره وتأثره، وأغفل معاني الأسلوب ومغازي التركيب، منصرفا عن ديباجته غير مكترث بعبارته، فعندها تندرس بصماته، وتضيع على المتفرس ملامح وجهه، فكيف عند رسومه الميتة نطلب تفجير ماء الحياة؟! فالتركيب يعطيه شخصيته، ويكشف عن مراده. ففي مجيئه لازما: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) أي دنا واقترب. (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) أي يظهر. أو يخرج وفي تعديته: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي تعطيه. (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) أي يؤدونها. (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ) أي تلوطون. (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) و (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي تمارسون. (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) أي هذمه. (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) أي ادخلوها. (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا) أي يفاجئهم. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أي يستقبله.

وهكذا يتلفت لفظ (أتى) على مسرح هذه التراكيب وفي مناحيها ليطلب لنفسه المعنى الذي يناسبه ويستسيغه، ويُجلي عن خفي معناه. لنستعرض بعض أقوال المفسرين: قوله تعالى: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ): تضمن إتيان السحر معنى اتباعه كما ذكر الجلالين أو حضوره كما ذكر الزمخشري أو قبوله كما ذكر الطبري، والبروسوي. اقول: إن فقدان الشعور بالمسؤولية يجعل حياة الأمة فارغة مريضة، تسيطر عليها روح الاستهتار، فتلهو في مواقع الجد، وتهزل في مواطن الخطر، يصفون القرآن بالسحر والشعر وأضغاث أحلام، فيقول الظالمون منهم: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ). إنها صورة شائهة تستحيل فيها الحياة إلى حالة من الانحلال لا تصلح لأداء واجب أو قيام بتكليف، يلجؤون إلى مقاومة تأثير الرسول بأنه بشر فكيف تؤمنون لبشر؟ وإنما جاء به السحر فكيف تتبعونه أو تقبلونه وفيكم عيون تبصر؟! وهكذا من طلب المعنى من وراء اللفظ معزولا عن نظمه وحصر (الإتيان) بمعنى (المجيء) وقصره على معناه المعجمي، كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته وفتح أبواب الشَّين على نفسه، وإنَّمَا اللفظ في العربية طبيعة تعمل في طبيعة، وليست ألفاظا عمياء تتوجه بطبيعة غير مدركة، وحين خفي على بعضهم هذا، قالوا؛ الإتيان معناه المجيء وحسب، ولعمري إنه في اللغة كما ذكروا غير أنه في هذا الموضع لا يُراد به ما ذكروا. نعم تختلف دلالة اللفظ حسب سياقه الذي ينتظم فيه، وموقعه والقرينة التي توجه مساره، فتضمين (أتى) معنى (اتبع) كما أشار الجلالين، أو معنى

(حضر) كما ذكر الزمخشري وأبو حيان تكشف عن بعض المراد، ولكن لا تجلي عنه، وإنما القصد في الإتيان: القبول كما قال الطبري، والآلوسي يعللون أثر القرآن المزلزل في نفوسهم بشتى العلل حائرين. أتقبلون السحر وترضوْنه وأنتم أصحاب عقول؟ فالذي جاءكم به إنما هو بشر فكيف تأتون السحر أي تقبلونه وتتبعونه وتعتقدونه؟ فتضمين الإتيان معنى القبول والاتباع والاعتقاد يكشف عن حقيقة هؤلاء الظالمين المنحلين العابثين بالقيم. كلما جاءهم من القرآن جديد تلقوه باللهو والاستهتار، واستمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم، فرغت من القداسة فانتهت إلى التفاهة، تلهو بالمقدسات ولا تضطلع بواجبات. إنها صور بشرية تتردد في كل زمان، مريضة لا هدف ولا قِوام. ويبقى على اللسان سؤال: لم قال (تأتون) بدلا من (تقبلون)؟ وأجيب: اللفظ في كتاب اللَّه مشع فلو قال: تقبلون السحر لحصر المعنى في قبوله لا غير، وإنما تريد الآية أن يكون القبول واحداً من دلالات الفعل كما مر: تقبلونه، وتتبعونه، وتعتقدونه، و ... فكيف تصرفت الحال فالاتساع فاشٍ في مناحي القول فيه، وللعرب ألفاظ متشعبة في دلالتها تقضي بها حوائجها. ثم كيف تأتي أمرا ما تحضر مجلسه وتُقبل عليه، إن لم تكن على قناعة به وقبول؟! فجمع التضمين المعنيين الإقبال عليه ... وقبوله ... ، وفاز بالحسنيين. وإذا السؤال مع النَّوال بَذَلته ... أعطاكه سَلِساً بغير مَطالِ * * *

(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه (83)

قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (1). ذكر الطبري عن مجاهد: لقنَّاها إبراهيم وبصرناه إياها وعرفناه على قومه. وذكر أبو السعود: علمناه إياها، ومثله البروسوي: أرشدناه وعلمناه وكذلك الجلالين: أرشدناه لها، وقال أبو البقاء نقله الجمل: آتيناها إبراهيم مستعلية على قومه قاهرة لها. وقال الآلوسي: آتينا تضمن معنى الغلبة ويتعلق به (على قومه). وقال أبو حيان: ويجوز أن يكون مع موضع الحال وحذف المضاف أي آتيناها إبراهيم مستعلية على حجج قومه قاهرة لها. أقول: لعل تضمين الإتيان معنى التزويد والتسويد معا أي الحجة التي زودناه إياها فسودناه على قومه ليدحض بها حجتهم أقرب للسياق، سياق الحجج والبراهين، فغالب أو مغلوب. فتضمين (آتى) معنى زود وسود أدنى إلى نفحات مدلول النص، جَعَلَت إبراهيم يسود بهذا الزاد على قومه ويكشف عن وهن ما هم عليه فـ (آتيناها) وما أومأت إليه وعقدت غرضها عليه من قوة الحجة؛ جعلت إبراهيم ينهزم الباطلُ أمامه: قوة ليس معها ضعف، ثقة ليس معها تردد، أمن ليس معه خوف، واطمئنان ليس معه قلق ... يعلو بهذه

(حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)

العقيدة، ويسود منتصرا على قومه بقوة حجته ومعه من اللَّه ظهير. لقد سقطت حجتهم وعلت حجته - فـ (على) هذه والتي لا يتعدى بها فعل (آتى) كشفت عن التماس إبراهيم عليه السلام سبيل الحجج والبراهين في معركة الصراع مع الباطل، فجاء الإتيان - وهو هبة ومنحة - مكافأة له على اجتهاده ولولاها لبقي الإتيان بعيدا عن معنى التزويد والتسويد. إنه التضمين بمائه وصقاله، وتلامح أنحائه، فمن أعرض عنه لجفاء طبع فيه فقد حُرِمَ لُطفَ شفافيته. وألتمس الفَهم جَهدي به ... وأجعلُ ظني به مُحسِنا * * * قَالَ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18). فعل (أتى) يتعدى بنفسه كأن يقال: أتيتك أمس. كما يتعدى بـ (إلى) ومعناه الوصول إلى المطلوب: أتيت إلى المنزل. فإذا تعدى بـ (على) فقد توجه الإتيان بحرف الاستعلاء من فوق وأريد به قطع الوادي وبلوغ آخره كما قال الزمخشري وزاد أبو حيان قول ابن عطية: والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة ولذلك تهيأ حطم النمل بنزولهم في الوادي. ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح فأحست بنزولهم. وزاد الآلوسي على قولهما: أن الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك، وإلا لم يكن للتحذير من

الحطم وجه. والظاهر أنهم أتوا عليه مشاة، كما يحتمل أنهم كانوا في الهواء فأرادوا أن ينزلوا فأحست ملكة النمل بنزولهم فأنذرتهم. وقال الجمل: إن (أتى) يستعمل متعديا بنفسه أو بـ (إلى) والجواب أنه ضمن معنى (مر). أقول: فتضمين (أتى) معنى (قطع وأنفذ ومر) يجانفه الصواب، ويوقعنا في إلباس. إذ لا معنى لقول مليكة النمل لأتباعها: ادخلوا مساكنكم بعد أن قطع سليمان عليه السلام الوادي مع جنوده وعبره أو اجتازه وانتهى منه. ولا ما قال الجمل (أتوا) معنى (مروا) في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ)؛ وإنما تضمن (أتى) معنى (أشفى وأشرف) وهذا يتعدى بـ (على) وعندها يصير لقولها فائدة ومسوغ لصدور الأوامر حرصا على المصلحة، وحفظا للأرواح من أن تُحطم وحتى إذا خشيت على حطم قلوبهن من رؤية ملكه العظيم، يبقى التضمين قائماً في معنى (أشرفوا) والإشراف سبيل الإتيان وأول مراحله وبهذا قد أفدنا من المعنيين جميعا. ويزيد وضوحا قوله سبحانه: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي أشرفوا على القرية في طريقهم إلى الشام وأَشفَوا عليها، وهذا مما يستدل به على معناه وينقاد على وتيرته. إذا اشتبهت على اللفظ المعاني ... يُخبِّر عن دلالته البصيرُ * * *

(وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) وقال: (فكلا أخذنا بذنبه)

قَالَ تَعَالَى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) وقال: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ). والأخذ واسع إهابه فحين تعدى بالباء في الأعراف (بأحسنها) ضمنه الطبري معنى العمل وجعل أبو حيان الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها وهنا تعدى بالباء (بذنبه) فضمنه أبو حيان والجمل معنى العقوبة وكلا عاقبناه بذنبه. قال الطبري: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها. عن ابن عباس: (بأحسنها) أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟ قيل: لا، ولكن كان فيها أمر ونهي فأمرهم أن يعملوا بما أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه. وذكر أبو حيان: قوله بأحسنها ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو، والانتصار والصبر. وقيل: أحسنها الفرائض وحسنها المباح. ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها، كقوله: * سود المحاجر لا يقرأن بالسور * والوجه الأول أحسن، وقال الآلوسي: بأحسنها أي أحسنها فالباء زائدة، كما في قوله: * سود المحاجر لا يقرأن بالسور * ويحتمل أن تكون الباء أصلية وهو الظاهر، وحينئذٍ فهي إما متعلقة بـ (يأخذوا) بتضمينه معنى (يعملوا) أو هو من الأخذ بمعنى السيرة: سار سيرتهم وتخلق بخلائقهم، وإمَّا متعلقة بمحذوف وقع حالاً.

أقول: لعل تضمين (أخذ) معنى (فاز وظفر) والمتعديان بالباء أعون على استشفاف الغرض مما يأنس لصحته السياق، وتستجيب له أوضاع اللغة، فلا زيادة ولا حذف ولا تأويل ويكون المعنى: وأمر قومك يظفروا بأحسنها. ولعل حسنها ما يؤخذ بقوة وعزيمة لأنه الأصلح لحالهم، فقد تعرض بنو إسرائيل لصنوف الإرهاب من طواغيت مصر وعبودية فراعنتها، فأفسدهم طول الذل والخنوع، فاحتاجوا معه إلى هذا التوجيه الرباني من شد العزيمة - (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) - لتربية الطبيعة الرخوة بل والمنحرفة، ولينشؤوا على الجد والاستقامة فلا يهربون من تكاليف العقيدة الشاقة ولا يأخذون بالرخص. والسؤال: لم جاء التعبير بالأخذ بدلا من الفوز والظفر؟ وأجيب: (الأخذ) لا يحصل إلا عن تصميم وعزيمة واجتهاد وبذل طاقة ومشقة. وأما (الفوز والظفر) فقد يحصل بالتوفيق منحة من غير اجتهاد أو عمل. فالتضمين جمع الحسنيين: العزيمة والاجتهاد مع توفيق من اللَّه وإلطاف. والتضمين قل ما يأتي صريحاً وإنما يجيء من طريق تخفى ومسلك يدق، ولهذا تجد أكثر الناس يضعف عن احتماله لدقته ولطفه، ولو قال سبحانه: (يظفروا) بدلا من (يأخذوا) لضاع علينا معنى بذل الطاقة للحصول على المطلب، ولو قال يأخذوا أحسنها لغاب عنا معنى الفوز والظفر ... إنه التضمين يجعل في اللفظ رعشات بيان من نور المادة اللغوية يكشف المستور وينير السبيل، وتتسع به الآفاق. * * *

(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا)

قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) (أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) تضمن معنى (تُدعَوا) كما ذكر الطبري والعز وأبو السعود والجمل والبيضاوي وقال القرطبي: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا وإلا فالدعوة نفسها لا تكون إذنا كافيا في الدخول لأنه حرام. وإنما جاز الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح، وعاد التحريم إلى أصله ا. هـ. وأورد ذلك الآلوسي وزاد عليه: ويجوز في (إلى طعام) أن يكون قد تنازع فيه الفعلان: تدخل ويؤذن. أقول: وظاهر الأمر أن تضمين (أذن) معنى (دعا) استدل به المفسرون من قول اللَّه تعالى: (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) وإذا كان الأمر كما قالوا: لا تدخلوا إلا أن تدعوا إلى طعام فما معنى الاستدراك (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)؟ إنه إذا من فضول القول وإنما تضمن الإذن معنى السماح والمتعدي باللام وإلى، والمعنى: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يسمح لكم إلى طعام. والمستضاف يستأذن المضيف ليأذن له ويصبح الاستدراك عندئذ (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ) كالتنيه على الخبيء ليدرك، والدفين ليستخرج. أي إذا وجهت إليكم دعوة فادخلوا، ولا داعي للإذن ما دامت تحمل معناه على الوجه

(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)

الأكمل والأضوأ، فالدعوة عامة والداخل ليس بحاجة إلى إذن ما دام الباب مفتوحا للمدعوين يدخلون أفواجا ويخرجون جماعات جاء الاستدراك بـ (لكن) لتوقيف الإذن ولمعنى السماح - إلا أن يؤذن لكم - أرأيت إلى حكمة اختيار (لكن) وإعجازها؟! إنها الحروف ... وإنها أسرار الإعجاز والصنعة. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (2) الإرادة نزوع النفس إلى شيء ما والسعي في طلبه. أو هي القصد والطلب قال الطبري: يرد فيه إلحاداً بظلم وأدخلت الباء كما في: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) وذهب أبو حيان إدى تضمين يرد معنى (يلتبس) فيعدى بالباء. وعلق الجزاء (نُذِقْهُ) على الإرادة، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة، وهذا قول ابن مسعود وجماعة. وضمنه ابن القيم معنى (يهم) والهم أبلغ من الإرادة، فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة، ومفعول (يرد) كما أشار الزمخشري متروك ليتناول كل متناول، وكأنَّه قال: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب أليم، وخبر (إن) محذوف لدلالة جواب الشرط عليه. وذهب

البيضاوي والآلوسي إلى أن الباء سببية (بِظُلْمٍ) أي ملحدا بسبب الظلم. وفي الجلالين بإلحاد: الباء زائدة أي في المفعول: إلحادا، وكذلك الزركشي. أقول: من الملاحظ في سياق الآية التهديد الرعيب ... بيت اللَّه الحرام الذي جعله اللَّه دار أمان يستوي المقيم فيه والطارئ عليه تضاعف فيه السيئات حتى شتم الخادم. منطقة محرمة، ودار أمان للمسلمين، لا يُنفَّر صيدها ولا يُقطع شجرُها ولا تُبوَّبُ دورُها، مفتوحة لكل قادم من عاكف وباد، من مقيم فيه وطارئ عليه لا يمنع عنه أحد. الآية إذاً تغير: من أراد أن ينحرف عن هذا النهج، مجرد الإرادة والنية فله عذاب عظيم، فكيف بـ (مَن) ألحد وظلم، وهذا سبب سُكنى عبد اللَّه بن عباس الطائف، ولعل تضمين أراد معنى طمع به، يستنيم إليه السياق ويهش له، فالطمع نزوع النفس إلى شيء تشتهيه وترجوه. وتبقى الشهوة ويبقى الرجاء انفعالا نفسيا لا وجود له في الواقع. بخلاف الإرادة فإن فيها سعياً لتحقيق ما ترغب، أي ومن يطمع في مكة بالعدول عن الحق، بسبب ظلمه، عادلاً ظالماً، نذقه من عذاب أليم. ويبقى التضمين مصدر إثراء لهذه اللغة الشريفة لأنه أفاد المعنيين جميعا (إرادته والطمع به)، فمن تناكره حرم فائدته ومن استرفده وجده في عونه آخذاً بيده إلى إدراك مطلوبه. * * *

(فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه)

قَالَ تَعَالَى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ) قال الزركشي: استعمل (أراد) في معنى مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة ... ولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي الذي هو الإرادة ألبتَّةَ. وقال الزمخشري: الإرادة: المداناة والمشارفة. وقال الآلوسي: إسناد الإرادة إلى السقوط من المجاز. اقول: تضمن (أراد) معنى (أوشك وقارب وشارف). فجمع المعنيين الحقيقي والمجازي بالرمز والإيماء من طريق يخفى ومسلك يدق؛ لا يأتيك مصرحا بذكره مكشوفا عن وجهه، مفصحا عن غرضه. ولو أفصح وقال: جدارا يكاد يسقط أو شارف السقوط، لما كان في مساغ ما جاء عليه لأن صرف اللفظ إلى المجاز يقتضي نسخ الحقيقة، فكان حمله على المشترك اللفظي أولى، بل أوجب، إذا ثبت بقيام الدليل على أن كلا منهما مراد. لقد منح التضمين الإرادة معنىً فوق معناها، وأرسل فيها وَهَجًا من طاقته فأزكاها متعة حين صرفها إلى المقاربة والمشارفة. إنه التضمين وهذا من جنى ثمراته. فالحسنُ في كل لفظ منه ... ما ليس يَنفد فبعضُه قد تبدَّى ... وبعضُه يتولَّد * * *

(واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها (82)

قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) أقبل لا يتعدى بـ (في)، قَالَ تَعَالَى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وقال سبحانه: (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ) وحين تعدى بغير حرفه المعتاد كان لا بد من حمله على التضمين. قال البيضاوي: أي أصحاب العير التي توجهنا فيهم. ومثله قال البروسوي، فضمن أقبل معنى (وجه) والمتعدي بـ (في) كما في اللسان: وجهته في حاجتي. أقول: لعل الإقبال يتضمن في سياق الآية معنى (السلوك)، ويكون معنى الآية: واسأل أصحاب العير أو القافلة التي سلكنا فيها. أما في الذاريات: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) فالإقبال في هذا السياق يحمل معنى (الشروع): شرعت في الصياح. أو كما قال أبو السعود: في صيحة من الصرير. أو كما قال الزمخشري: فجاءت صارَّة وجهها وإنما جاء الإقبال بدل الشروع ليكون باعثا على استحضار الخاطر فيما بدا عليها من استغراب، وما وقع في نفسها من استحسان. فإذا سأل سائل بعد هذا لم جاء التعبير بلفظ الإقبال في سورة يوسف بدل السلوك؟! أقول: كان سلوكهم في أصحاب العير في القافلة في غرض الإقبال على أبيهم. ومن أجل هذا استغنى عن المعلول

(وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم (2)

بذكر العلة للعلم بغرضه وسفور مراده فجمع التضمين المعنيين حين تعدى الفعل بغير حرفه، الإقبال في العير - أي السلوك في القافلة - للإقبال على أبيهم طمعاً في الإيجاز ورغبة في الإعجاز. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أجاز ابن قتيبة والطوسي والطبرسي والرماني أن تكون (إلى) بمعنى (مع) وذهب ابن جرير الطبري إلى تضمين (الأكل) معنى (الخلط). على حين ضمنها أبو حيان معنى الضم، وزاد ابن جزي على الضم معنى الجمع و (إلى) بمعنى (مع)، وتساءل الزمخشري: حرم عليهم أكل مال اليتيم وحده فلم ورد النهي عن أكله معها؟ وأجاب: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أكل أموال اليتامى بما رزقهم من حلال، كان القبح أبلغ والذم أحق. وقال القرطبي: قالت طائفة من المتأخرين: إن (إلى) بمعنى (مع) وليس بجيد، وقال الحذاق: (إلى) على بابها والفعل يتضمن الإضافة والضم بعد هذا العرض. أقول: إن تضمين الأكل معنى الجمع والخلط والضم لا يفي بالغرض لأن قصود الأوصياء من أموال اليتامى هو السطو عليها وليس مجرد الجمع

للتخزين أو الضم للمباهاة، ولهذا لابد من تضمين الفعل ما يكشف عن الغرض للإبانة عن المطلوب. المنهج الإسلامي يطهر المجتمع المسلم من رواسب الجاهلية المضيعة لحقوق الضعفاء فيكفل حق اليتيم عن طريق التحذير المخيف بلغة النهي مرة (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) ومرة بإعلان النتيجة (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) فليس الإيمان مجرد مشاعر، ولكنه نظام منبثق عن منهج. فلا إيمان لمن لم يخضع لهذا النظام، ويتلقى من هذا المنهج. نعم لا تفلح إلا التقوى لأنها تتكفل الرقابة على الضمير فتجعل للتشريع قيمته، ولعل تضمين (أكل) معنى (أحال وصرف) يفي بهذه الحاجة ومعناه: لا تصرفوا ولا تحيلوا أموالهم إلى أموالكم فتجعلوها في موطن الريب والشبهة لعارض شرٍّ حملكم على سلبها (أكلها)، بل اصرفوها عنها لتتقوا الشبهات، ومن يتق الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، واستعمل لفظ الأكل لأن العرب تأنف من اللف فهي صورة منفرة تُسوِّئُ إلينا أن نأكل مما طالت إليه أيدينا من حلال وحرام، فصَرفُ مالِ اليتم إلى ماله سبيل لأكلها واستهلاكها، فهو في الأكل مدفوع بشهوة الطعام وهو في إحالتها وصرفها إلى ماله مدفوع بشهوة السلب والنهب، وكلا المعنيين في التضمين لأنسه بسفور مراده يبعث على استحضار الخاطر وإرهاف الفكر. * * *

(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)

قَال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) يقول العز بن عبد السلام: ضمن يأكلون في بطونهم معنى يحتوون أو يُلقون أو يطرحون أو يُدخلون لأن الأكل لا يقع في البطون وإنما في الأفواه. أقول: من أكثر الأوصياء تؤكل أموال اليتامى رغم احتياطات قضاة الشرع ورقابة الهيئات الحكومية. كلا ... لا يفلح فيها إلا التقوى، وهي وحدها تتكفل برقابة الضمير الذي لا يستقيم إلا عندما يحس أن اللَّه مطلع عليه وأن اللَّه معه. فإن قلت: لماذا سمى سلْب أموال اليتامى ونهبها أكلا؟ أكان لجأ إلى المجاز لضيق الحقيقة؟! ... كلا بل لأن العرب تأنف من كثرة الأكل وتنسب البطنة إلى البهائم وهي أقبح الملاذ، ولذلك أطلق على سلب مال اليتيم لفظ الأكل لينفر النفوس بمقتضى الفطرة، ومثلها (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا) و (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) ولفظ البطون إنما جره الأكل للتأكيد على شناعة جريمة المعتدين على أموال الأيتام، فجعل في هذه البطون نارا. فضمن الأكل معنى النبذ إنما ينبذون في بطونهم نارا فالتضمين أعان على استكمال قبح صورة الأكل، وكأنَّه شيء ينفر منه الطبع وتتقزز منه النفس فتنبذه أو تلقيه أو تطرحه، وأين يُرمى وُينبذ؟ في البطون ... وكأنَّها مجامع القمامات أو محرقة للنفايات. إنها الألفاظ جُعلت مصايد وأشراكا لاصطياد المعنى المطلوب وتحصيله.

(للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر)

أرأيت كيف يبعث إلطاف النظر في الفعل حين يتعدى بغير حرفه على الكشف عن غرضه؟! إنه التضمين ... وإنه غور من العربية بطين، ومذهب نازح فسيح. * * * قَالَ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) قال الزركشي: أي يمتنعون من وطء نسائهم بالحَلف. وذهب أبو حيان إلى أن (آلى) لا يتعدى بـ (مِن) فقيل: (مِنْ) بمعنى (على) وقيل بمعنى (في) ويكون ذلك على حذف مضاف أي على ترك وطء نسائهم أو في ترك وطء نسائهم. وقيل: (مِنْ) زائدة والتقدير يؤلون أن يعتزلوا نساءهم، وقيل: يتعلق بمحذوف. وقال الراغب: الإيلاء: الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه وصار في الشرع: الحلف المانع من جماع الزوجة. أقول: الإيلاء لازم لا يتعدى، وإنما تعدى هنا ب (مِنْ) لتضمنه معنى الامتناع بالحلف وامتنع يتعدى بمن. ولو سألت لم جاء التعير بلفظ الإيلاء بدل الامتناع؟ لأجبت: لوجود معنى الحلف المانع من المعاشرة الزوجية. فإن كان علاجا موقوتا للزوجة المتكبرة على زوجها لإذلاله فقد جاء التحديد بأربعة أشهر لمواجهة هذه المشكلات في الحياة الزوجية بألا يزيد على الأربعة وإلا صار إيذاء للزوجة وإضرارا بها في الهجران، وتمزيقا لأوصال العشرة الزوجية في تحطيم الأسرة، لقد رفع اللَّه هذه الرابطة إلى مستوى العبادة وأراد لها الاستقرار. الزواج في الإسلام عبادة، نعم عبادة في المباشرة والإنسال، في الطلاق والانفصال، في العدة والرجعة، في النفقة والمتعة، في الإمساك

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم)

بمعروف والتسريح بإحسان، في الرضاع والفصال، في الإيلاء والهجران ... في ... وفي ... وفي. وفي أجواء هذه العبادة لا يُغفل التشريع فطرة الإنسان وضروراته لأنه يتعامل مع بشر، لهم مشاعر وعواطف وطبائع تدفعهم إلى الإيلاء، إلى الامتناع عن المعاشرة، ولم يحرم الإيلاء، لأنه قد يكون علاجا، ولكن جعل له حدا أقصاه أربعة أشهر، لئلا يدع للرجل ما يريد من إعنات زوجته وإيذائها حين تبقى معلقة، فإذا استنفذ التشريع جميع وسائل الإصلاح لاستنقاذ هذه المؤسسة من الانهيار، جاء الطلاق علاجا واقيا. أرأيت كيف ضُمن الإيلاء معنى الامتناع عن طريق الحرف (مِنْ) والذي كشف لنا الغامض وبين ما تضمنته مطاوي هذه الحروف من أسرار؟!. * * * قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (1). لا يألونكم: لا يمنعونكم شرا ولا فسادا ليفيد معنى المنع وترك التقصير في المنع قاله العز، وقال الزمخشري: تعدى هنا إلى مفعولين على التضمين أي لا أمنعك نصحا ولا أنقصك، على حين جعله أبو حيان يتعدى إلى واحد بحرف الجر، نحو ما ألوت في الأمر، أي ما قصرت فيه، قيل: انتصب خبالا على التمييز المنقول من المفعول، وقيل: مصدر في موضع الحال.

وفي النهر الماد: الأحسن تخريجه على التضمين أي لا يمنعونكم فسادا، وقال البيضاوي: الأُلُؤُ: التقصير، لا يقصرون في الفساد وأصله أن يتعدى بالحرف وعدي إلى مفعولين على تضمين معنى المنع أو النقص. أما ابن الأنباري فقال: ويختص التضمين عن غيره من المعديات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة ولذلك عدي ألوت بقصر الهمزة إلى مفعولين بعدما كان قاصرا وذلك في قولهم: لا ألوك نصحا ولا ألوك جهداً لمّا ضُمن معنى لا أمنعك ومنه (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) والخبال تقطيع الأيدي والأرجل. ومثله العُكبري. أقول: صورة ناطقة للغيظ الكظيم، والشر الدفين، واضحة الملامح تكشف عن دخيلتهم بفعل قاصر ألَوْت في الأمر عداه العليم إلى مفعولين لا يمنعونكم سوءا (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) ليفضحَ كل خالجة من أهل الكتاب في إعنات المسلمين والكَيد والدس لهم ونَثر الشوك في كل سبيل ... فهل ينخدع بعدها المسلمون فيمنحونهم الود أو الثقة أو الولاء؟!. الفعل قاصر فلماذا عدَّاه الجليل؟ ليكون المسلم حصيفا عاقلا فلا يفضي إليهم بالمودة، أو يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة أو يتخذ منهم بطانة ليجعلهم أمناء على مصالحه، ولم يَرِد هذا التحذير مقصورا على فترة

تاريخية معنية، لا ... ولكنها حقيقة مكشوفة نجدها في واقعنا اليوم بشكل ملموس حين تبلغ بنا الهزيمة الروحية إلى أن نجاملهم على حساب عقيدتنا بل نطيعهم، فنلقى العنت الذي يتمنونه لنا، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا فنضعف ونستخذي. أجل ... لقد شارفَنا هذا المعنى وتَلوحَ لنا بعضه من حيث إن الحال والتمييز فضلة قد يُستغنى عنهما، أما المفعول فعمدة لا يصح معنى الفعل بدونه، ثم لم جاء العليم سبحانه بالفعل القاصر (أَلَو) ثم عداه، ولم يأت بالفعل المتعدي (منع) وهو في معناه؟ وأجيب: إن نفيَ الألؤ عنهم إثباتٌ لضده فيهم، فهم لا يفتُرون ولا يضعفون ولا يُقصرون في إيذاء حَمَلة لواء الدعوة وأصحاب العقيدة، بل يجتهدون في إيذائهم. أما (منع) ففيه موقف سلبي لهذه البطانة فلو وجدوا أذى موجها إلى المؤمنين أو مكيدة تدبر لهم، حالوا دون وصولها إليهم، فالتضمين فتح كلا السبيلين على المؤمنين من هذه العصابة المجرمة - أهل الكتاب: يهودا كانوا أو نصارى. فإن تباعد عنك شيء من أسرار هذه اللغة، فصُره إليك بالتأتي وحسن التأويل، لأنه دقيق المسلك يُسفر عن وجهه عند الفحص عن كنهه. إنه التضمين .. فيه من الأسرار كل مَظِنةٍ ... بالأُنس تبسُطُ أوجُه الجُلَّاسِ * * *

(ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله)

قَال تعالى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) معناه ولا تُقروا وتعترفوا إلا لمن تبع دينكم، حكاه العز، قيل: اللام زائدة كما في قوله تعالى: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) والأجود لدى أبي حيان عدم الزيادة، وضمن يؤمنوا معنى يُقروا ويعترفوا. قال أبو علي: وقد تتعدى (آمن) باللام (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ). وقيل: آمن له أي به كقوله تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ). أي به كما قال القرطبي. وقال أبو السعود: أي تقروا بتصديق قلبي، ومثله البروسوي. وقال الطبري: تصدقوا. وقال صاحب الجلالين تقروا وتعترفوا. وقال بعضهم: إن لم تذعنوا لي وكابرتم مقتضى العقل فكونوا بمعزل مني فاعتزال الباطل واجب. أقول: لعل تضمين (تؤمنوا) معنى (تذعنوا) أو معنى (تطمئنوا) والمتعدي باللام أولى من (اعترف) كما قال أبو حيان، أو صدق أو زيادة اللام، أو إبدال اللام بالباء، كما ذكر القرطبي، فلا نأمن الشناعة لمكانه. فقولهم مدفوع ولا رجوع إليه. إن للصهيونية والصليبية عملاء في شتى بقاع الأرض وفي صور متعددة من صحفيين وكتاب وشعراء ورؤساء، وباحثين منتمين للإسلام، وبعضهم من علماء الشريعة يشوهون الحقائق ويحرفون النصوص.

كل عميل من هؤلاء على تفاهم مع الأصيل الكافر في الإجهاز على هذا الدين، يأمن بعضهم لبعض، ويذعن ويطئمن و ... لما يفضي إليه مما يبيته لتحطيم عقيدة هذه الأمة المسلمة. فاللَّه ينهانا عن الإذعان لهم، وهذا الإذعان والاطمئنان أشد خطرا من الإقرار أو الاعتراف باللسان، وعملاء الصهيونية والصليبية متفاهمون فيما بينهم على الإجهاز على هذا الدين في كل وسيلة وفي أقرب فرصة. أرأيت إلى هذه اللام كيف كشفت عن خطر الاطمئنان والإذعان والطاعة للكافر؟! ويؤيد ما ذهبت إليه قوله تعالى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) وقوله تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) تضمن آمن معنى استسلم واطمأن والمتعدي باللام فللتعبير القرآني دلالته وإيحاؤه، فلا اطئمنان ولا ائتمان ولا ثقة ولا تعامل إلا أن يكون من أتباع دين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ولو جاء التعبير بالإذعان بدل الإيمان لضيقنا واسعا، فالإذعان معناه الطاعة وحسب، وفي الإيمان معنى الأمن والأمانة والطمأنينة والطاعة والثقة والراحة، وهكذا كان اختيار الإيمان أفصح عن المراد وألصق بمعنى الولاء والبراء. فالتضمين طريقه متلئبة، والتأمل فيها يوضحها، ويمكنك منها فعض عليه بالنواجذ. * كذُباب السيفِ ما مَسَّ قَطَع * * * *

(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)

قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) قال الزمخشري: فإن قلت: لم عُدي فعل الإيمان بالباء إلى اللَّه تعالى وباللام إلى المؤمنين؟ قلت: لأنه قصد التصديق باللَّه الذي هو نقيض الكفر. وقصد الاستماع للمؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده فعدي باللام. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ). وقال أبو حيان: وتعدية يؤمن أولا بالباء وثانيا باللام، قال ابن قتيبة: هما زائدتان. وقال ابن عطية: يؤمن باللَّه يصدق ويؤمن للمؤمنين يصدق واللام زائدة. وقال البيضاوي: ويؤمن للمؤمنين: يصدقهم لما علم من خلوصهم، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم، وإيمان الأمان. ومثله ذكر أبو السعود. وقال الجمل: وقوله يؤمن للمؤمنين أي يسلم ويرضى لهم، وفي الكرخي أنه عُديَ الإيمان إلى اللَّه بالباء لتضمنه معنى التصديق، ولموافقة ضده وهو الكفر في قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) وعداه للمؤمنين باللام لتضمنه معنى الانقياد والتسليم، وموافقة لكثير من الآيات (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا).

(الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)

و (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) و (أَنُؤْمِنُ لَكَ). أقول: جاء فعل الإيمان متعديا بالباء فتضمن معنى التصديق، وتعدى باللام فتضمن معنى الرضى والتسليم والإذعان لأن إيمانهم يعصمهم من الكذب والرياء، فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقبل ما يقولونه ويسلم لهم راضيا لما يسمعه منهم، إنه الرحمة المهداة وإنه الإيمان، وإنه الرضا والتسليم. أرأيت إلى تعدية الأفعال بحروف المعاني في هذه اللغة الشريفة كيف تبدي لك محاسنها، لتتأملها بالبشر والإيناس من خلال تركيبها في دقة المسلك ولطف المأخذ على وجه مستطاب، حين جمعت معنى التصديق إلى الرضا والتسليم والإذعان وأبلغ اللفظ ما تعددت وجوه إفادته. * * * قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (5). قال العز بن عبد السلام: يقرون بالغيب لإفادة معنى التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومثله: (آمَنُوا بِاللَّهِ) معناه صدقوا وحدانية اللَّه وأقروا بها. ضمن آمن معنى أقر فعداه تعديته فصار متضمنا لتصديق الجنان وإقرار اللسان.

وذكر أبو حيان: الإيمان: التصديق. وما أنت بمؤمن لنا أصله من الأمن والأمانة ومعناه الطمأنينة. آمنه: صدقه. وآمن به: وثق به والهمزة للصيرورة كأعشب أو للطواعية كأكب. وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدي بالباء وقال الزمخشري: أما تعديته بالباء فلتضمنه معنى أقر أو اعترف أي يعترفون ويثقون بأنه الحق أقول: المؤمن يتميز بهذه العقيدة: تصديق بالغيب وإقرار، ويقين بالآخرة يصدقه الجنان، وإدراك بأن المناهج والأجهزة والنظم في هذا الدين امتداد للمشاعر والحواس، إنه الشمول بوحدة المشاعر الإيجابية والمناهج المتكاملة، وبهذا يصون المؤمن طاقته الفكرية عن الانشغال بغير ما خلقت له، فما خلقت إلا لتعمل وتنتج وتبدع. الإيمان بالغيب هو العقبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز ما تدركه حواسه ... نقلة بعيدة لحقيقة الوجود، وما وراء الوجود. وإن وراء الكون حقيقة أكبر من هذا الوجود ... حقيقة الذات الإلهية لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول؛ فمحاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود محاولة فاشلة، بل عابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لهذا المجال إنه التضمين ... * بصير بمعرفة المقام خبير * يخلع على اللفظ (يؤمنون) مشاعر ندية، يترجمها عنه هذا الشمول من: تصديق ... وإقرار ... ويقين ... وإدراك، ولكنها تنبعث من وحدة العقيدة. * * *

(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل

قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (1). الباء تفيد الاستعلاء كـ على أي عليه بدليل: (إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) هذا ما ذهب إليه السيوطي أما أبو حيان: فيرى الباء في (بقنطار) وفي (بدينار) للإلصاق وقيل: بمعنى (على)، إذ الأصل أن يتعدى بـ (على) كما قال سبحانه: (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ). وقيل الباء بمعنى (في) أي في حفظ قنطار وفي حفظ دينار. وقال الموزعي: الباء بمعنى (على) بدليل قوله تعالى: (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) وقول الشاعر: أربٌّ يبول الثُّعلُبان برأسه ... لقد ذَل مَن بالت عليه الثعالب ويرى الجمل: في هذه الباء ثلاثة أوجه: إحداها: أنها على أصلها من الإلصاق وفيه قلق. وثانيها: أنها بمعنى (في) ولا بد من حذف مضاف أي في حفظ دينار. وثالثها: أنها بمعنى (على) وقد عدي بها كثيرا. وقال الرازي: يقال أمنته بكذا وعلى كذا. فمعنى الباء: إلصاق

الأمانة، ومعنى على: استعلاء الأمانة. وقيل أمنتك بدينار: وثقت بك فيه، وأمنتك عليه جعلتك أمينا عليه وحافظا له. أقول: ميزان اللَّه واحد وعند أهل الكتاب وخاصة يهود موازين، فهم يجعلون للتعامل مقاييس، فالأمانة هي بين يهود فقط، أما غيرهم من الأميين يعنى العرب وسواهم فلا حرج عليهم في أكل أموالهم والتدليس عليهم واستغلالهم. فـ (تأمن) تضمن معنى (تبلو وتختبر) وهذا يتعدى بالباء. وفي تضمينه هذا أنك وضعته موضع التجربة والاختبار: فيكون موضع الثقة حين يؤديه إليك، كما يكون خائنا فلا يؤديه إليك، والأمانة تنكشف لنا بالتعامل أي بالابتلاء والاختبار. فهما وسيلة من وسائل كشفها ومعرفتها، فكان الباء جاءت منبهة ألا نضع الثقة في أحد إلا بعد تجربة واختبار، والآية تضع قانونا للتعامل التجاري موجزا في هذه العبارة: لا وثوق إلا بعد تجربة ولا أمن إلا بعد اختبار. والتضمين في الفعل أكشف لسفور المعنى وأنصع من إجرائه في الحرف، ولو أخذنا بتضمين الحروف لغفلنا عن جوهر البيان وخفاياه. ولو جاء التعبير بتبلو وتختبر بدلا من تأمن لاحتبس في منظور ضيق. وإنما الأمانة يسرح فيها النظر إلى غير نهاية. فالتضمين جمع المعنيين: الأمانة مع الاختبار فأغنى وأثرى. فاستعن به واستروح إليه لتُجيد الغَوصَ في لُجج المعاني. * * *

(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (27)

قَال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1). تستأنسوا مضمن معنى تستأذنوا لفيدهما جميعا هذا ما قاله العز بن عبد السلام أما البيضاوي والجمل: فذهبا إلى أن: (تستأنس) أي تستأذن من الاستئناس بمعنى الاستعلام من أنس الشيء إذا أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف: هل يراد دخوله أو لا يؤذن له؟ أو من الاستئناس الذي هو خلاف الإيحاش، فإن المستأذن مستوحش ألا يؤذن له، فإذا أذن له استأنس. أو تتعرفوا: هل ثَم إنسان من الإنس؟ أقول: ولعل التضمين هنا في منتهى اللطف في الأسلوب الذي يأتي به الطارق، حتى يقع الأنس في نفوس أصحاب البيت، استعدادا لاستقباله، وهذا من معاني صيغة استفعل. وللناس ظروف في بيوتهم تخفى على ضيوفهم، وضرورات ما ينبغي للطارقين أن يُحرجوهم. فجاء التعبير (تستأنسوا) ولم يأت (تستأذنوا). ومن صور الاستئناس أن يسمع من أهل البيت متكلما، فإن صمتوا لظروف خاصة بهم فليرجع، أو يقال له بصريح العبارة: ارجع فليرجع فذلك أزكى لنفسه. أرأيت إلى فضل التضمين كيف استودعت أحضانه من نور المادة اللغوية

(ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا

ما حوته مطاوي اللفظ من أسرار وما فيها من انتشار وامتداد لا تراها في غير هذه اللغة الشريفة، حتى لا يكاد يحيط بمدلول معانيها، وإدراك مطالبها من لم يألف مذاهبهم؟! نعم ... العرب تتلطف بعذوبة ألفاظها لقضاء حوائجها، لأنها تتعامل مع نفوس بشرية تهدف إلى إثارة كوامن الخير فيها. * * * قَالَ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (1). (عن) بمعنى (على) كما يرى السيوطي والموزعي. أما أبو حيان: فيرى أن بخل يتعدى بـ (على) وعن وكأنما إذا عُدي بـ عن ضُمن معنى الإمساك، وكذلك الزمخشري: بخل عليه وعنه، ومثله ضننت. وأورد الجمل: ما أورده أبو السعود والسمين: بخل وضن يتعديان بـ على تارة وبـ عن أخرى، والأجود أن يكونا حال تعديهما بـ (عَنْ) مضمنين معنى الإمساك. أما صديق حسن خان فقال: الأجود في تعديهما بـ (عَنْ) مضمنتين معنى

الإمساك وأمسك يتعدى بـ (عَنْ) كما في الحديث الشريف. أقول: البخل يكون بالمال إذا منع العبد حق اللَّه فيه. وحين دُعي المسلمون للبذل في سبيل اللَّه ونصرة الدين وجهاد العدو، أمسك البعض عن البذل. فالآية ترسم صورة لواقع الجماعة المسلمة في البذل والشح. فالأشحاء يمسكون عن الإنفاق لنصرة الدين وحماية العرض والذود عن الذمار. إنهم يمسكون عن أنفسهم ويحرمونها بأيديهم فـ (عن) هنا أدت دورا في تصوير هذا المعنى ما كانت لتؤديه (على) لأن معنى الإمساك إنما أوحت به (عن) وشهدت بفضل سفور مراده الآية ترسم صورة لواقع الجماعة المسلمة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فمنهم من يبخل وهذا يعني أن هناك من لا يبخل، وقد سجل القرآن خوارق في البذل حين جاد الصديق بكل ما يملك. وما يبذله المؤمن في نصرة دينه إنما هو رصيد له حين يُحشر الناس حفاة عراة ليس لهم إلا هذا الرصيد. وما ينفقه المؤمن إنما هو من مال اللَّه ومن فضله، واللَّه يسترد هبته إذا شاء، ويستبدل من شاء لهذا الفضل (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). واللَّه قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس لخطره فقال: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أما (على) فقد جاءت في سياق الحرص على الزوجة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) لإفادة معنى عدم التخلي عنها، وفي إمساك المطر أي انقطاعه، والإمساك عن التلبية أي التوقف عنها، والإمساك عن الكلام أي

(وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10)

السكوت. والإمساك هو المنع عموماً (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). وهكذا فاللفظ قبل دخوله في النظم يختلف عن معناه بعد دخوله في التأليف وملاءمته لجيرانه ومؤانسته لإخوانه، وللحروف التي تعدى بها، فدخوله في النظم يُفَتق عن أكمامه ليجني قطوف ثماره. إنه التضمين ... وإنه زهر الخزامى والندى والياسمين. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (2). قال العز بن عبد السلام: ضمن تبدي معنى تصرح فعدي بالباء وكذلك الزمخشري، ومثله الجمل وأورد قول السمين: الباء زائدة وقيل: سببية، والمفعول محذوف أي القول. وقال الزركشي: ضمن لتبدي به معنى تخبر به أو لتعلن، ليفيد الإظهار معنى الإخبار لأن الخبر قد يقع سراً غير ظاهر، ومثله ابن قيم الجوزية. أقول: إن أمرها بدا في ملامح وجهها وفي سرعة إقبالها عليه، وعرض نفسها لإرضاعه؛ ولكن بُدوها بدون الجهر به لا برهان لهم عليها ولا دليل، فالبُدو: ما كان بغير قصد، نقول: بدا الصبح وبدت الشمس وبدا لي في الأمر شيء، والجهر يقتضي رفع الصوت لإظهار المراد عن قصد، ثم جاء متعديا بالباء لتبدي به وهو يتعدى بنفسه (تبديه) لماذا؟ ليتضمن معنى التصريح

(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58)

والجهر والمتعدي بالباء. وحتى التضمين جاء في سياق الاحتراز بفعل المقاربة (كادت) ثم (لولا) امتناع لوجود، فلولا أن اللَّه ربط على قلبها بالصبر لجهرت به وصرحت بل كادت ... ولكن اللَّه ربط لسانها وكأنما كان قلبها على لسانها فربطه ربنا بالصبر. فهل تكون الباء زائدة وهي التي كشفت هذه اللطيفة من وراء التضمين؟ فلا تأنس لأول خاطر يبدو لك قبل إحكامه وإنعام النظر فيه، وتفظن لهذه الحروف إذا دُفعت في مسالكها لتُريك من أسرار الفروق بين أفعالها المتعدية بها في كتاب الله ما تُسفم لعظمة الصنعة فيه مما يملأ الطرف ويعجز عنه الوصف. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (2). جاء في مفردات الراغب: البطر: دَهَش يعتري الإنسان من سوء احتمال الندمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها (معيشتها) منصوب على التمييز عند الكوفيين، أو مشبه بالمفعول عند بعضهم، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعدٍ أي (خسرت معيشتها)، على مذهب أكثر البصريين، أو على إسقاط (في) على مذهب الأخفش، أو على الظرف على

تقدير: أيام معيشتها كقولك: جئتك خفوقَ النجم على قول الزجاج، هذا ما يراه أبو حيان أما الزمخشري فقال: (معيشتها) إما بحذف الجار وإيصال الفعل كقوله سبحانه (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) وإما عدى الظرف: زيد ظني مقيم؛ أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها. وإما بتضمين بطرت معنى كفرت وغمطت. وقيل البطر: سوء احتمال الغنى وهو ألا يحفظ حق اللَّه فيه. أقول: من النواميس التي لا تتخلف أن الترف مدعاة للفسق (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا). والتضمين أولى من إسقاط حرف الجر أو النصب على الظرفية أو حذف مضاف، لأنه أشيع وأسير لامتداد معناه في المضمن والمضمن فيه، وهو أحسن من معنى فذ. وتضمين (بطرت) معنى (غوت وأترفت) وكلاهما متعدٍ أسفرُ لوجه المعنى من خسرت أو كفرت كما جاء في الكشاف فالغواية والترف هما ما يُظاهر السياق على تصويرهما في هذه الآية والآيات اللاحقة من أجل التوقّي من فواقرهما المُبيرة، ولسلامة المجتمع المسلم من شرّهما، فهما سبب هلاك القرى التي يرونها شاخصة تروي مصارع أهلها الداثرين، خاوية تحكي قصة البطرين المترفين، لم تُسكَن من بعدهم، فلْيحذر المسلمون من كفر النعم ونزول النقم. ولو سأل سائل: لم آثر التعبير القرآني الفعل اللازم على الفعل المتعدي؟ لقلت: لو جاء التعبير بالغواية لضاع علينا سببها، فقد يكون

(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)

إبليس، أو الهوى، أو الجهل أو الترف والبطر ..... أما إيثاره البطر فقد دل على أن سبب الهلاك كان هو الترف والبطر وحسب، فَصرْف النعمة إلى غير وجهها وعدم القيام بحقها جعل الغواية من نتائجه، فجمع التضمين المعنيين على وجه مُستطاب، وأسلوب مُستملَح. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (1). جوز الزمخشري نصب (مقاما) على الظرف، على تضمين يبعثك معنى يُقيمك ومثله حكاه الزركشي، وأبو حيان. وقال الجمل: (مقاما) يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمنه معنى (يعطيك) أو على تضمين الفعل المذكور ذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام أو يقيمك في مقام محمود باعثا، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن: نبعث بمعنى نقيم. تقول: أقيم من قبره وبُعث من قبره. أقول: ولعل الأنهضَ بالمراد والأضوغ في الدلالة تضمينه معنى (منح) فالتهجد مِنْحة ربانية، عسى أن يمنحك به ربك المقام المحمود، مقام الشفاعة، يُعليك ويرفعك بها. ولو سألت لم جاء بلفظ البعث إن كان المراد منح الرفعة والعلو؟ لقلت: قد ينصرف العلو إلى الدنيا فاللَّه أعطاه مكانة في

(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2)

الدنيا لم يمنحها لأحد من رسله مما يُكتب وُينشر عن سيرته العطرة، ولكن المراد علو الأخرة، فلذلك جاء بلفظ البعث، فجمع التضمين المعنيين: أحدهما مدلولا عليه بالتعريض والتلميح لتبدو محاسنه والآخر بالتصريح مَنْبهةَ على غرضه، فتعدى إلى مفعولين، وهكذا ألقى التضمين النورَ في المادة اللغوية فحلِيت به وأنِقتْ له، لِتَتَزَاحَمَ الأغراض على جهاته حسب انتظامه في سياقه وتسليكه في عبارته، فاعتاده كلما مسَّت بك الحاجة إليه فهو مما يستعان به ويفزع إليه. * * * قَالَ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (2). وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (3). فإن قلت: كيف تعلق قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) بفعل البلوى؟ قلت: من حيث تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلم أيكم أحسن عملا. فإن قلت: أتسمي هذا تعليقا؟ قلت: لا إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. هذا ما رآه الزمخشري. أما أبو حيان فيقول: أصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقا، فيقولون في الفعل إذا عدي لاثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة

استفهامية، أو بلام الابتداء، أو بحرف النفي، كانت الجملة معلقة عنها الفعل، وكانت في موضع نصب كما لو علقت في موضع المفعولين. وقال الجمل: الجملة (أيكم أحسن) في محل نصب سدت مسد مفعولي نبلو لأنه في معنى نعلم، وعلق بأي الاستفهامية عن العمل. وقال في سورة الملك: وجملة (أيكم أحسن) مفعول ثانٍ ليجلوكم لما في البلوى من معنى العلم. أقول: إذاً تضمن (ابتلى) معنى (علم أو رأى) فعدي لمفعولين والسؤال: لم جاء التعبير ليبلوكم ولم يأت ليراكم؟ فأُجيب: الرؤية: هي إدراك المرئي المحسن من المسيء. أما الابتلاء: فهو سَبْر النفس وفَليها بعد تكليفها لكشف حالها في الطاعة أو المعصية، فلا تغفل ولا تلهو ولا يدعها تطمئن أو تستريح، فإذا استيقظ القلب حذر وتوقى. فأعْطي المضمن حكما من أحكام المضمن فيه وهو الرؤية القلبية وفيها معنى الكشف، يرتاد آفاق الكون وخفايا الغيب، لترى يد اللَّه تبعث اليقظة من وراء الابتلاء لإظهار المكنون في علم اللَّه من سلوك البشر وما يستحقون من الجزاء، وهذا أمر هذه سبيله أحببنا استيفاءه تأنسا به، وما خلق الموت والحياة إلا لهذه الرؤية الكاشفة عن سريرة المبتلى. * وفي سَبْر القلوبِ عيونُ * * * *

(وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (1). ذكر الجمل: اللام في لإبراهيم غير زائدة فتكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها. ومن فسَّر بوأنا بـ أنزلنا قال: إنها زائدة، وبه قال أكثر المعربين. وفي القرطبي: قيل: بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي أريناه أصله لِيبنيه، وقد كان درس بالطوفان وغيره، وقيل: جعلنا لابراهيم مبوأ. وفسر الجلالين بوأنا بـ (بينَّا) لأجل أن ينصب المفعول الذي هو مكان البيت وفسره أيضاب (أمرنا) لأجل أن تكون (أن) مفسرة لبوأنا والذي فيه معنى القول دون حروفه. وقال الرازي: (وَإِذْ بَوَّأْنَا) أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعبادة. أقول: ولعل تضمينه معنى (خار) أسوغ للسياق لأن اللَّه اختار لإبراهيم مكان البيت واصطفاه من بين أنبيائه - وخار يتعدى باللام - والغرض من إقامة البيت منذ اللحظة الأولى هو (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) إنه التوحيد الخالص فهو بيت اللَّه وحده دون سواه، يطهره للطائفين والقائمين والركع السجود ولهؤلاء أنشأ البيت، فإذا فرغ من إقامته على قاعدة التوحيد الخالص كُلِّف بأن يُؤذن في الناس بالحج، فاللَّه خار له هذا المكان ليقيم البيت على أصله قبل الطوفان. فالذين حكموا بزيادة اللام - وهم أكثر المعربين

(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55)

- انصرفوا عن ديباجته، ولم يكترثوا بعبارته ولا للسياق الذي ينتظم فيه، ويشفع بشرح أحواله، ولا للقرينة التي وجهت مساره، ونبهت على أسبابه لقد وقفوا على اللفظ منفردا فعدلوا عن الصواب. ويبقى للحرف دوره في إدراك المطلب والإبانة عن الغرض، وللسياق حكمه في توجيه المعنى، والدلالة على القصد. ثم لِمَ جاء التعبير "بوأنا لإبراهيم " ولم يأت اخترنا لإبراهيم؟ لو قال اخترنا لضاع علينا معنى النزول ولو قال بوأنا إبراهيم لضاع علينا معنى الاختيار. فتعدية الفعل بغير حرفه جمعت المعنيين النزول والاختيار. إنه التضمين ... مَسْهوٌّ عنه، لا يكاد يحاط به. تراه في غاية السهولة حين ينكشف ويتضح، ولكن ما أشد صعوبته حين يستتر فلا يستبين. يا ليته تبدو أسرّةُ وجههِ ... يا صاحِ مَن يكُ مثلُه لم يُجهلِ * * * قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (1). الفعل (استبان) يكون لازما ويكون متعديا، قال الزمخشري: يكون لازما فيتضمن معنى (ظهر ووضح) ويكون السبيل مرفوعاً، وبه قرأ العشر ما عدا نافعاً. ويكون متعديا فيتضمن معنى (استوضح)، ويكون السبيل منصوباً، وبه قرأ نافع وتبعه على قراءته أبو حيان والبيضاوي، وقال الآلوسي: قرأ نافع بالتاء (تستبين) ونصب السبيل أي تستوضح يا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبيل المجرمين لتعاملهم بما يليق بهم. وأخلص بعد هذا إلى أن أشق ما تعانيه الحركات الإسلامية اليوم هو

الغَبشَ والغموض في مدلول الوحدانية والشرك وفي مدلول الجاهلية والإسلام. وأشق ما نعانيه أصحاب مبدأ: استبانة الطريق، وكشف الإلباس فيما اختلط على الناس والترجيم الذي يوقع في الشك مَن ضَعُف نظره وقل علمه. إن المياعة في المنهج ومعرفة السبيل أضاعت الكثير ولا تزال. فعلى الدعاة إلى اللَّه أن يستوضحوا مخططات المجرمين ويجدُّوا في معرفتها والبحث عنها ويُبينوها لأتباعهم وشعوبهم كي لا تتكرر المأساة عند اجتياز العقبة وندخل في التيه مرة بعد مرة. أقول: نحن اليوم في حاجة إلى أن نضمن استبان المعنيين معا (وضح واستوضح) أي إلى القراءتين معا الرفع والنصب لتتضح لنا سبيلُ المجرمين، ولنُوضح نحن دعاة الإسلام سبيلَها لمن لم تتضح له من المسلمين. نفصل الآيات فلا ندع ريبة في بيان الباطل وكشفه ليستقر في نفوس المؤمنين، إن الذين يعاونونهم إنما هم المجرمون في وضوح وعن يقين. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف المنهج لأن أي غبَش أو شُبهةٍ في موقف المجرمين تنعكس سوءا على المؤمنين فالطريقان مفترقان فلا بد من الاستبانة والوضوح. كل حركة إسلامية يجب أن تتعرف سبيل المجرمين في عالم الواقع لا في عالم النظريات لئلا تلتبس الملامح، وكل من لم يشهد بمفهوم الوحدانية كائناً من كان اسمه ولقبه، لم يدخل في الإسلام. فأشق ما نعانيه هو اختلاط الشارات والعناوين. أعداؤنا اليوم يعكفون على توسيع الالتباس وتعميقه وتلبيسه لندخل في التيه، ويصبح مرجع الحكم في أمر الإسلام والكفر لعرف الناس واصطلاحهم لا إلى قول اللَّه ورسوله. أجل ... يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة هذه العقبة كي تنطلق طاقاتهم فلا يعوقها غبَش ولا يعيبها لَبس، وأن تبدأ دعوتهم إلى اللَّه باستبانة سبيل المجرمين فلا تأخذهم في كلمة الحق هوادة ولا مداهنة، ولا خشية ولا

(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)

خوف، وألا يقعدهم عنها أو يثبطهم صيحة مرجف أو لومة خائر ... وأن يحتملوا متاعب هذا المقام الزلخ والطريق اللاحبة، لأنهم على مفرق طريق: سبيلِ المؤمنين وسبيلِ المجرمين. إنه التضمين ... لا يزال يفتر عن بديعة ... ويفضي إلى لطيفة. * * * قَال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). الاتباع: الاقتداء، أو الموالاة. ذهب أبو حيان وتبعه العكبري: إلى تضمين تبع معنى انحرف فعدي بـ (عَنْ)، وقال أبو البقاء في (عَمَّا جَاءَكَ) في موضع حال أي عادلا عما جاءك ولم يضمن (تبع) معنى ما تعدى بـ عن. وهذا ليس بجيد لأن (عن) حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالا من الجثة، كما لا يصلح أن يكون خبرا، وإذا كان ناقصا فإنه يتعدى بكون مقيد، والكون المقيد لا يجوز حذفه، أو تضمين (تتبع) معنى (تتزحزح وتنحرف) كما ذكر الجمل. وكذلك ضمنه الزمخشري: معنى انحرف: لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم. أقول: لقد تضمن النهي عن الاتباع معنى الصرف. لأنه يفي بالمراد وأدنى للسياق، فأمر تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يصرف أهواءهم ويردها عما جاءه من

الحق لئلا يختلط باطلهم بحقه، فقد جعل اللَّه لأهل الحق شرعة ومنهاجا، ولأهل الباطل شرعتهم ومنهاجهم، ولا لقاء بينهما - (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6). عرضت يهود على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تؤمن له إذا تصالح معها على التسامح في أحكام خاصة كحكم الرجم. وتنزل هذه الآية لتقطع الطريق على كل رغبة في الاتباع أو حتى في التساهل في أمر دينه وشريعته لما يسمونه: وحدة الصف، وتأليف القلوب، والتطويع، ووحدة الأديان ... إن شريعة اللَّه أغلى من أن تلتبس بالأهواء، وأبقى من أن يُضحى بحكم من أحكامها مسايرة لرغبة حاكم، أو رغبة في تأليف قلوب فرقة أو مذهب أو طائفة، أو ميلا إلى التساهل في بعض الأمور التي تبدو ليست من أساسيات الشريعة. فاللَّه قطع الطريق على هؤلاء جميعا حفظا لدينه بالحرف (عن) الذي أفاد معنى الصرف، صرف هؤلاء جميعا عن شرعه الحكيم، وردهم عن منهجه القويم، خشية أن يضل. ولو جاء الأمر بالصرف لانحصر في منظور ضيق لا يخرج عنه، ولضاع معنى النهي عن الاتباع والولاء، وهو منزلق الدعوات والدعاة. فالتضمين جمع فأوعى في تحصين المعنى وتشريفه، والإبانة عنه وتصويره. ولو لجأنا إلى تقدير حال محذوفة - وهو بخالف أصول النحو - لذهبت الأنَسَة التي فيه والحسن الذي حواه، وتضمين (تبع) وهو متعد معنى (انحرف) كما مر وهو لازم يُضيِّق واسعا بحذف المفعول. إنه التضمين ... وإنه كنز دفين، من صبر عليه ذاق لذة الاستمتاع به. * * *

(فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78)

قَالَ تَعَالَى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) (1) روى البروسوي: أتبعه إتباعا إذا طلب الثاني اللحوق بالأول. وتبعه تبعاً: إذا: مرّ به ومضى معه. وذكر المالقي: أن الباء بمعنى مع، وكذلك المرادي، والسيوطي، وأورد الجمل: في تفسير الباء وجوهاً: أحدها: أن تكون الباء للحال وذلك أن (أتبع) متعد لاثنين حذف ثانيهما والتقدير: أتبعهم فرعون عقابه. وقدره الشيخ رؤساءه وحشمه والأول أحسن. الثاني: الباء زائدة في المفعول الثاني، فأتبعهم فرعون جنوده كقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). وأتبع قد جاء متعديا لاثنين مصرحا بهما (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ). والثالث: أنها المعدية، على أن أتبع قد يتعدى لواحد بمعنى تبع ويجوز على هذا الواحد أن تكون الباء للحال أيضا، بل هو الأظهر. وقال أبو السعود: تبعهم ومعه جنوده وقيل: أتبعهم فرعون نفسه فحذف المفعول الثاني وقيل: الباء زائدة. أقول: ولعل تضمين (أتبع) معنى (ألحق). فألحقهم فرعون بجنوده

(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66)

أسوغ من الزيادة في الحروف أو إبدالها، وليس إتباع فرعون بني إسرائيل إلا طلبا في اللحوق بهم للإجهاز عليهم فجمع التضمين المعنيين من غير إكراه ولا إغصاب. وحاز أسباب الإيجاز ونال سبيل الإعجاز، فاخلُدْ إليه وتعللْ به. والعدول من لفظ إلى آخر يستضيء به المعنى ويتنبه على أسبابه. وفيه جمال خاطره وسِناد رأيه، وإقامة برهانه. ويأتي السياق فيما أصاب فرعون وجنوده مجملا من غير تفصيل، ليكون وقعه في النفوس شاملا ومهولا. لقد تولت يد القدرة إدارة المعركة، بعد أن استعلن الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) دون لجلجة ولا خوف ... وهنا تدخلت يد القدرة لإعلان النصر ... (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ). إنه التضمين لا حذف ولا تقدير، ولكنه ملاطفة التأول، وفضل تأملٍ فيما أوحى إليه فِعْله وساغ من معانيه. * كالمسك في نَشْره وفي عَبَقِه * * * * قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (3). قال الآلوسي: كان استئذانه عليه السلام في اتباعه له مشروطا بالتعليم، والشرط مفهوم من (على) فقد قال الأصوليون: إن (على) تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها، وذكر السرخسي: أنه معنى

حقيقي لها، لكن النحاة لم يتعرضوا له، وقد تردد السبكي في وروده، والحق أنه استعمال صحيح يشهد به الكتاب، حقيقة أو مجازا. ولا ينافي انفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل قبله، كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف حال: هل أتبعك باذلا تعليمك إياي؟ أقول: لقد تضمن الاتباع هنا معنى الطاعة، والطاعة مشروطة بالتعليم، والشرط مستفاد من الحرف (على) وقد أغفل النحاة هذا المعنى، وهو مثبت في كتاب اللَّه في الآية هذه وآيات أخر، وفي لغة العرب. فإذا مر بنا فعل ومعه حرف لا يألفه، ولا يأنس به، فلنحتكم إلى عِلل هذه اللغة الشريفة ولنترافعْ إلى طبيعة الصنعة فيها، وعندها نلقى في التضمين عونا على تجاوز العقبة، ففيه من الإيجاز ما جمع الاتباع والطاعة وهما من لوازم طلب العلم، ثم أتبعها بالصبر وهو من صفات طالب العلم، وأكدها بعدم العصيان قال تعالى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا). وهذا تناهٍ في البيان بهذا الأدب اللائق بنبي يستفهم ولا يجزم، يعجز عن وصفه اللسان. وأبلغ بيان ما سافر فيه النظر. ولعل التأتي بين الألفاظ وملاءمة ذات بينها لإقرار التناسب هو سرُّها وجوهرها وتلك هي الصناعة الفنية: تتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتستدرك النقص فتتمه، وتكشف الجمال فتظهره. * * *

(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ). (ترك) متعدٍ إلى واحد لأنه بمعنى التخلية، ولو ضُمن معنى صيَّر لتعدى إلى اثنين ثانيهما وراء ظهوركم. قاله الجمل: أي صيرتم ما منحناكموه من المال والخول وراء ظهوركم. وضمنه الراغب: جعلتم ما منحناكموه وراء ظهوركم. وقال الآلوسي: وهو متضمن للتوبيخ، أي شُغلتم به عن الآخرة، فما قدمتم منه شيئا لأنفسكم. أقول: مشهد رعيب، مرهوبة إيحاءاته يهز القلوب، جاؤوا ربهم كما ولدتهم أمهاتهم، عراة حفاة غُرلاً فأين إذاً المال والخول والأهل والولد والعز والسلطان؟! ندَّ كلُّ شيء وتفرق كل أحد، لقد تركوه خلفهم، وجعلوه وراء ظهورهم فصار حسراتٍ عليهم. (ترك) الذي بمعنى (ودع) والمتعدي لواحد صار هنا في هذا السياق من أفعال التحويل (رد) متعدٍ لاثنين: ورَدَدْتم ما خولناكم وراء ظهوركم، وهكذا يجعل التضمين الفعل المتعدي لمفعول واحد متعديا إلى اثنين، ليكون أذهب في مسارح النظر، يأخذ الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه، فيروق ماؤه وُيؤنس بوجهه. وهذا باب واسع يدعوك إلى الأنس به، ويكون تعريجك عليه مرقاة إلى تدبره، وله في القلب منافذ لأشعته الروحانية تتساقط منها معانيه. وهذا البيان بريد الفؤاد ... لسان المقال على درَرِه * * *

(قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك)

قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) (1). (ترك) لا يتعدى بـ (عَنْ)، فذهب أكثر المفسرين - كالزمخشري وأبي السعود - إلى تعليق الصلة بحال محذوفة وقدروها (صادرين) وضمنها بعضهم (معرضين) وذكر السيوطى، والجمل: أن (عن) بمعنى (اللام) وتبعهم في ذلك الآلوسي فقال: عن قولك: بسبب قولك المجرد عن البينة، فعن للتعليل كما في قوله تعالى: (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) وإليه أشار ابن عطية في المحرر الوجيز. أقول: واللجوء إلى التقدير فيه استثقال لنفور الحس عنه، سواء كان التقدير صادرين أو معرضين أو غير ذلك وتضمين (عن) معنى (الباء) أو اللام غير محتفل به. ولعل التضمين في الفعل ينجينا من المسلك الوعر. وتضمين (ترك) معنى (نحّى) ئؤدي الغرض، وينسجم مع السياق، ويذهب في استحسانه. فما نحن بمنحّي آلهتنا عن زعمك الذي زعمت في توحيد الربوبية والألوهية، ولا بمخالفيها عما أفصح به لسانك فكيف بتركها؟!

نعم ترك عبادتها بعيد كل البعد عن تصورهم لأسباب: منها: قولهم: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ). ومنها: أنها عندهم في مجال التقديس، ولذلك أصابت هوداً بالمس والجنون لأنه تعرض لها بسوء كما زعموا. ومنها: أن الذي يصدر عن قولك يكون معجبا برأيك، محترِمًا لك، أما هؤلاء فيسخرون. تنحيتها إذاً أمرٌ محتمل إن أتيتهم ببينة، وليس مع هود معجزة ولا بينة حسية وما جاءت (عن) إلا لتجمع التنحية والترك معا تحت إطار التضمين لتكشف عن خبيئة نفوسهم، واجتلاء المدخل إلى قلوبهم، فالانحراف والمخالفة والحيدان والزيغان والتنحية عن تقديسها غير مريح فكيف بتركها. لقد عتَوْا عن أمر ربهم واختاروا الوثنية على التوحيد والدينونة لأصنام بشرية أو حجرية على الدينونة لله وحده، وكذبوا هودا وسخروا منه، فما هم بخارجين عن تقديسها لمجرد أقواله. فأْبَه لحروف المعاني ولا تجفُ عليها لتكشف لك عن سرها، سائغا مأنوساً مُتقبَّلاً. * * *

(واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)

قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (1). (على) قدرها الطبري بمعنى (في)، وأما الطبرسي فقدرها بمعنى (في) و (بالباء): في زمن سليمان، أو بملك سليمان وذهب الجمل إلى تضمين تتلو معنى تفتري وتكذب. وذهب الآلوسي: إلى أن تتلو: معناه تتبع أو تقرأ. و (على ملك) متعلق بـ تتلو وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه. أو (الملك) مجاز عن (العهد). و (على) بمعنى (في) وقد صرح في التسهيل بمجيئها للظرفية، لأن الملك وكذا العهد لا يصلح مقروءا عليه. ومن الأصحاب من أنكر مجيء على بمعنى في وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول (يعني تفتري). أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه من آلات ملكه فالكلام على حد: قرأت على المنبر. وقال الزركشي: تتلو الشياطين على ملك سليمان أي في زمن ملك سليمان (الظرفية) ومثله الموزعي وأما ابن السيد البطليوسي فضمن تتلو معنى تتقول وتفتري فعداه تعديته ويمكن أن تكون (على) إنما استعملت هاهنا لأن معناه أنهم تقولوا على ملك سليمان ما لم يكن فيه. كما يقال: تقولت عليه ما لم يقل. ونص الفراء على أن (في) تصلح مكان (على). أقول: ولعل ما ذهب إليه السيد البطليوسي في تضمين تتلوا معنى

تفتري وتتقول على عهد سليمان هو الأدنى لما عليه السياق، ينقولون عليه ما لم يقله افتراءَ عليه، ولا مساغ لتناوب الحروف وتعاورها: (على) بمعنى (في) أو (الباء) أو سواه. فمن أصر فليأخذْ في غير هذه الصناعة. ماذا كان من أهل الكتاب بعد نبذهم له وراء ظهورهم؟ هل لاذوا بما هو خير منه؟ كلا بل اتبعوا ما تفتريه الشياطين على عهد سليمان، يضللون الناس به من دعاوى مكذوبة على لسانهم، أنه كان ساحرا وأنه سخر ما سخّر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه، فنفى القرآن عنه بأنه كان ساحرا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) فجعل السحر واستخدامه كفرا، وأثبته للشياطين، (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يتلونه: من تلا الشيءُ الشيءَ إذا تبعه، فالفِرية تتبع الفرية إلى النهاية، فهي سلسلة متتالية من افتراءات الشياطين، وليست قولة تقولوها على لسانه - صلاة اللَّه عليه - من أجل هذا جاء التعبير بالتلاوة بدلا من التقول والافتراء. أرأيت إلى التضمين والغرض الذي جيء به من أجله في تنوير ما أعتم! إنه انتزل الحقيقة من الحياة في أسلوب لإظهارها للحياة في أسلوب أوفى وأوضح! فمن نزُر حظه منه فلا سبيل إلى تحصيله إلا بالتأمل والغوص وطول النظر. * * *

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). قال الجمل: قوله عليكم متعلق بـ أتممت ولا يجوز تعلقه بـ نعمتي، وإن كان فعله (أنعم) يتعدى بـ (على) لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله إلا أن ينوب منابه، ومثله قال الآلوسي. وقال العكبري: عليكم يتعلق بـ أتممت، فإن شئت جعلته للتبيين أي: أتممت أعني عليكم. (تَمَّ) يتعدى باللام قال تعالى: (أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) وقال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ). أقول: ولعل تضمين أتم - والذي لا يتعدى بـ (على) في مثل هذا المساق - معنى (أسبغ) والمتعدي بـ (على) أفاد معنى الشمول الوارد في قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً). ما ظهر لكم من جليلها وما خفي عنكم من أسرارها. فجمع التضمين - والذي كشف عنه الحرف على - معنى الإتمام من النعم المعنوية، والإسباغ من النعم الحسية فجمع الخير كله فأوعى. أجل ... نِعَمُ اللَّه رفعتنا عن سفح الجاهلية بانحرافاتها وأصنامها إلى أفق التوحيد الشفيف الرفيع، وحررتنا من سلطان الكهانة والخرافة والزعامة والسيادة فأتم نعمه وأسبغها علينا ظاهرة فيما أدركنا من أوضاع الجاهليات

القديمة والحديثة، وباطنة فيما لم ندركها بعد. نعم (أَكْمَلْتُ) فلا نقص يستدعي أن يكمله أحد من المخرفين ولا ظروف طارئة أو مستجدة تستدعي التطوير من ماكر أو خبيث، فأحكامه وتشريعاته ستبقى إلى قيام الساعة. (وَأَتْمَمْتُ) فلا داعي إلى المزيد وأسبغت فلا مجال للتضييق والتعسير. فمن تزيد في هذا الدين من مبتدع أو متنطع فقد زعم أن في هذا الدين نقصاً فجاء ليتمه، ومن ضيَّق وعسَّر فقد جاء التشريع ينقذه من ضيق الحس المحدود، يسبغ عليه نعمه بسعة المنهج ورُحْب النظام، ورضيت لكم هذه النعمة ونعمتي هذه - نعمة الإسلام - لا يدركها إلا من ذاق ويلات الجاهلية الحديثة والخبيثة في تصوراتها الاعتقادية ومناهجها الضالة المضلة، في تمزقها وخوائها وضياعها وحيرتها ... والرضا لنا بهذه النعمة - نعمة الإسلام - المحفوظة في الكتاب والسنة ودوامها باق على هذه الأمة لزيمٌ لها ما تمسكت بدينها إلى قيام الساعة. فارعَ هذه الحروف حق رعايتها مع إنعام الفحص عنها لتعطيك ثمارها. بقي سؤال: ما الفرق بين الإتمام والإسباغ؟ ولمَ اختير الأول؟ الإسباغ معناه التوسعة وضده التضييق فالإسلام سمح والشريعة ميسرة لا عنَتَ ولا مشقة ولا تضييق لعلمه سبحانه بضعف الإنسان فهذا الدين بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته. أما الإتمام فضده النقص، ولذلك اختاره؛ فجمع التضمين المعنيين الإتمام والإسباغ وفاز بالحسنيين ليرتعَ المتنزه في خمائله متذوقاً من عبير جناته. * * *

(إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم (4)

قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (4) قال أبو حيان: وتعدى (أتموا) بـ (إلى) لتضمنه معنى (فأدوا) أي فادوه إليهم تاما كاملا، ومثله قال البروسوي. وسبقهم إلى ذلك الزمخشري. أقول: ورد الاستثناء في جماعة من بني بكر - هم بنو خزيمة - لم ينقضوا المسلمين شيئا مما عاهدوهم عليه، ولم يُعينوا عليهم عدوا فكان هذا وفاء لهم وإبقاء على عهدهم إلى نهايته، رغم حاجة موقف المجتمع المسلم في ذلك الوقت إلى تحرير الجزيرة من الشرك لأن أعداء الإسلام: الروم والفرس تنبهوا لخطره. اللَّه جعل إتمام العهد والذي خرج عن دائرته اللغوية يتضمن معنى الأداء وهو عبادة له وتقوى يحبها (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). وهذه قاعدة من قواعد الأخلاق الكبرى في الإسلام. ليست قاعدة منفعة ولا مصلحة، شأن يهود وكثير من الملل والنحل؛ وليست قاعدة من قواعد المصطلحات السياسية والمرتكزة على العرف أو القانون الدولي. إنها قاعدة تُنشىء مجتمعا دوليا تزول منه التناقضات ولا يهدده شبح الحرب ويرتفع بالبشرية إلى مستوى إنساني كريم. لقد أفادت (إلى) هذه معنى (الأداء) في فعل أتموا كاملا غير ناقص، ولو جاء التعبير أدوا إليهم عهدهم لخفي عنا معنى الإتمام، فالأداء لا يفيد التمام والكمال، ولو جاء الإتمام متعديا باللام لخفي عنا معنى الأداء.

(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة)

أفرأيت إلى أمر هذه الحروف حين تدخل على فعل لا يألفها ولا تأنس به كيف تُفصح عن سر صنعته البيانية فتجني منه ثمرة معناه مع تشريفه وبيان الغرض من إعجازه!! إنه التضمين ... ثم يجلو الجمالَ حرفٌ مبين ... في جُملةٍ ضياؤها منشور * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ). قال الآلوسي: وجوز أن تكون (مِنْ) بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله. إلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي، وليس ببعيد. وذكر أبو حيان: من جعل (مِنْ) بمعنى (اللام) أي لأنفسهم كما تقول: فعلت ذلك كسرا لشهوتي أي فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له. قال الشعبي: فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان لأنها إذا ثبتت على صعوبة الإنفاق انقادت وذلت، وإذا كان التثبيت مسندا إليهم كانت (مِنْ) في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر وتكون للتبعيض. مثلها: هز من عطفه وحرك من نشاطه، وإن كان التثبيت مسندا إلى أنفسهم كانت (مِنْ) في موضع نصب متعلقة بصفة محذوفة للمصدر تقديرها: كائنا من أنفسهم، والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل اللَّه ليس له محرك إلا هي فهي الباعثة له على ذلك والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها. قال الشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح وابن زيد: (تيقنا) أي أن نفوسهم متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق. قال قتادة أيضا (احتسابا) من

أنفسهم، وقال الشعبي والضحاك والكلبي: (تصديقا) يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم. وقال ابن جبير وأبو مالك: (تحقيقاً) في دينهم. وقال ابن كيسان: (إخلاصاً وتوطيداً لأنفسهم على طاعة اللَّه). وقال الزجاج: (مقرين) حين ينفقون أنها مما يثيب اللَّه عليها. وقال الشعبي: (عزما)، وقال يمان: (بصيرة). أقول: مؤمن عمّر الإيمان قلبه فتندى ببشاشته، ينفق ماله ابتغاء رضى مولاه وخوفا من نفسه. لا داعي إذا إلى جعل (مِنْ) بمعنى (اللام) ولا إلى حملها على معنى التبعيض، ولا إلى تعليقها بصفة محذوفة ولا ... ولا .. ، وإنَّمَا تضمن (التثبيت) معنى (الخوف) والمتعدي بـ (مِن) التثبيت على الإنفاق لتطهير النفس من الخوف، من الشح، وتعميق يقينها بالمنعم، وتوثيق صلتها بالواهب المتفضل. فلو جاء التثبيت متعديا باللام لضاع علينا معنى الخوف من الوقوع في الشح، ولو جاءت الآية: خوفا من أنفسهم من أن تشح أو تبخل لضاع علينا معنى التثبيت. فهذه اللام جمعت: خوف النفس من الشح، وتثبيتها على الطاعة، وهذا من جواهر التضمين أغنى فأثرى. فلا تعطِ يدك بتقارض الحروف، لأنه كثير الإيهام لمن يسمعه ولا حقيقة تحته بل انظر إلى أفعالها كي لا تفسد الإمتاع بها والاستملاح لها. الكلمة في التضمين حبلى، والرغبة في ولادتها تكثير سواد المعاني يطلبها حسب أغراضه، ولسد حاجاته. * * *

(يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)

قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ). اثاقل عن الشيء وتثاقل: تباطأ، ويتعدى بـ (على) ففي الحديث: " فثقل عليهم متاعهم ... ما ثقل علي ". اثاقلتم: معناه ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها. قاله أبو حيان والجمل وكذلك الأستاذ سعيد الأفغاني، وقال الزمخشري: لما ضمن الفعل معنى الميل عداه بـ (إلى)، وقرئ: أَثاقَلْتُم؟ بفتح الهمزة على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ أقول: ولعل الإخلاد أولى من الميل (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) السياق إذا يبدأ بعتاب المؤمنين ما لكم إذا قيل؟. أرضيتم؟ ثم ينتهي بالتهديد الرعيب والعذاب الشديد: إلا تنفروا يعذبكم ... ويستبدل ... ولا تضروه، لمن هذا العتاب؟ إنه للمتثاقلين عن النفير، لمن في عقيدته دخل، أو دخن، أو وهن، (اثاقلتم) ثقيلة في نطقها على اللسان تمثل الجسد الثقيل المسترخي اللاصق بالأرض، كلما رفعته روحه للتحليق جذبته جواذب الأرض ليخلد إليها، ومن أجل هذه الصيغة وموسيقاها آثره العليم الخبير وقدمه على (ركن) و (أخلد)، فالتضمين شارك في تصوير المشهد لهذا الجسد الغائص في الطين ومتاع الدنيا القليل حين جمع المعنيين الإخلاد والركون مع التثاقل، أما تضمين (أثاقل) معنى (مال) فلا يغني في رسم هذه الصورة ولا يشخص حقيقة المشهد لما في الميل من الليونة، وما في أعطافه من النعومة واللدونة تستهوي ضعيف النظر فتصرفه عن التحديق في جرس اللفظ (افاعلتم) وإيقاعه وخطر معناه، إنه النفير العام في غزوة تبوك فهذا هرقل ملك الروم مع ما ضم إليه من

(يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة)

لخم، - وجذام، وعاملة، وغسان ... من قبائل العرب، وكان وقتها حين طابت الظلال وأينعت الثمار وحبب إلى الناس المقام، فلهذه العوامل مع شدة الحر أثرها في التثاقل، فالجِرْس الموسيقي في الفعل المضمن ترفعه الرافعات فيسقط من ثقله وغلوه واشتطاطه، فجاذبية الجسد وما في إيمان صاحبه من وهن، تقاوم رفرفة الروح وانطلاقها إلى جنات الخلود ... عدن للخلوص من فناء الجسد. ولعل الركون والاسترخاء والإخلاد وما احتبس في منظوره من ظل الرهبة وهول العاقبة، يقضي بتقدمه على سواه لأنه أعون على استشفاف دخيلة النفوص وسفور المشاعر في تهديد المتثاقلين بعاقبة العذاب الشديد: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) فهل بعد هذا كله نقول: ملتم؟؟! ... إنه التضمين ... جمع فأوعى، واختزن من المشاعر ما جلَّى. أخفى لنا التضمين كل دلالةٍ ... بلطائفِ مثلِ النجومِ مُثولِ * * * قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً). قال أبو حيان: أصل ثقل أن يتعدى بـ (على)، تقول ثقل علي هذا الأمر، فإما أن يدعى بأن (في) بمعنى (على) أو يضمن ثقلت معنى فعل يتعدى بفي. قال الزمخشري: شق عليه خفاؤها وثقل عليه، أو ثقلت فيها، لأن أهلها

يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها، أو لأن كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها. وذكر القرطبي: خفي علمها على أهل السماوات والأرض، وكل ما خفي علي فهو ثقيل، وذكر ابن جريج والسدي: عظم وقعها على أهل السماوات والأرض. وقال قتادة: لا تطيقها السماوات والأرض لعظمها فالسماء تنشق، والنجوم تتناثر. والبحار تنضب. وقيل: ثقلت المسألة عنها. ويرى البيضاوي: أنها عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها. وأردف الجمل قوله: في السماوات يجوز فيه وجهان: أن تكون (في) بمعنى (على) أي على أهل السماوات أو نفس السماوات للانشقاق والزلزلة، والثاني أنها على بابها من الظرفية، والمعنى حصل ثقلها، وهو شدتها، والمراد أنها ثقلت وشقت على العالم العلوي والسفلي، وعبارة أبي السعود: أنها كبرت وثقلت على أهلها من الملائكة والثقلين فالمراد الثقل المعنوي لا المادي فقد تضمن (ثقل) معنى (عظم قدرها وخطرها في السماوات والأرض). أقول: بات حس المسلم في عالم الآخرة أعمق من دنياه، وبهذا صلح لقيادة البشرية، وأما غير المسلم فيسأل عن الساعة سؤال استنكار، فيلفته القرآن من السؤال عن موعدها إلى الاهتمام بخطرها، والتهيئ والاستعداد لها ما دام في الوقت متسع وفي العمر بقية، قبل أن تفجأه ساعته ولا ينفع عندها الندم. فالثقل تضمن معنى الخطر: جلت وعظمت في عالم الأرض وفي عالم السماء فليستعن بالله من رغب في فهم أوضاع هذه اللغة الشريفة كيف تحي ما اشتملت عليه أسرارها في مداليل ألفاظها وأحنائها، وملاءمة ذات

(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله)

بينها، مما يضعف الكثير عن احتماله لغموضه ولطفه فالسؤال عن موعدها مصروف إلى الاهتمام بحقيقتها، إلى الشعور بهولها وخطرها وضخامتها. يصرف أنظارهم إلى شأنها العظيم، وعبئها الثقيل. إنه التضمين ... وإنه روضة تتنفس على القلب بعبير الياسمين. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ). جاء في معجم الأفعال جحده حقه وجحد بحقه: أنكره مع علمه به. أصل جحد أن يتعدى بنفسه لكنه أجري مجرى كفر فعدي بالباء لأنه ضمن معنى كفر، كما عدي كفر بنفسه في قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ)، إجراء له مجرى جحد، وقيل كفر كشكر يُعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، ذهب إلى هذا العز وأبو حيان والعكبري والجمل. وقال الآلوسي: وعدي جحد بالباء حملا له على كفر لأنه المراد، أو بتضمينه معناه، كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدى بنفسه. قال سلمة بن الخرشب الأنماري: أثنِ عليها بالذي هي أهله ... ولا تكفرنها لا فلاح لكافر.

(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)

أقول: وإذا كان الجحود معناه الإنكار وضده الإقرار، والكفر معناه التغطية والستر، فقد جمع التضمين كلا المعنيين وما اشتملا عليه من علائق الصنعة وخصائص الحكمة. ما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة؟! ... جحدوا آياتٍ ... وعصوا رسله ... أليست الرسالة واحدة؟ فمن عصى رسوله فقد عصى الرسل جميعا. وجمعُ الرسولِ هنا مقصود لتضخيم الجريمة وإبراز شناعتها، ومن أنكر آية عن علم فقد كفر. أرأيت كم احتوت مطاوي اللفظ في التضمين من انتشار وامتداد، يصوغه سبحانه على طريقة يُصيب به مواقع الشعور!! * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) قال العز: لا يجرمنكم معناه: لا يحملنكم على الجريمة؛ لإفادة المعنيين. قال الجمل: ضمن يجرمنكم معنى يحملنكم، ومن ثم عداه بـ (على) أو يكسبنكم وهما متقاربان، وذكر الزمخشري: عدي يجرمنكم بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدى به كأنه قيل: ولا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل لكم من مَثُلة أو قذف أو قتل أو نقض عهد. وقال الآلوسي: لا يجرمنكم: لا

يحملنكم كما فسره قتادة ونقل عن ثعلب والكسائي. وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم و (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى والتعدي إلى مفعول واثنين يقال: جرم ذنبا: كسبه: وجرمته ذنبا: كسبته إياه. خلا أن جرم يستعمل غالبا في كَسْبِ ما لا خير فيه وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كما يقال: أكسبه ذنبا وعليه قراءة عبد اللَّه (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) بضم الياء. أقول: تضمن (جرم) معنى (حمل) والمتعدي بـ (على) قال الشاعر: ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا فلا تحملنكم البغضاء على الجور والعسف والجريمة، فالعدل المطلق لا يميل مع الود ولا مع الكره. هو العدل المنبثق من العقيدة والبعيد عن المؤثرات الخارجية. لقد نهاهم عن الاعتداء على من صدوهم عن المسجد الحرام، والآن يحملهم على العدل مع المشنوئين المبغوضين، وهو تكليف أصعب وأشق من سابقه. ليربيهم على ضبط النفس ويكون سلوكهم منسجما مع مبادئ عقيدتهم ذات السلطان على الضمائر والنفوس. وإذا كان المراد هو حملهم على العدل حتى مع المشنوئين، وإن بالغوا في إيحاشهم، فلماذا جاء التعبير بفعل (جرم) بدلا من (حمل)؟ لعله أراد أن يشعرهم بالوقوع في الجريمة متى استجابوا لعاطفة وُدّ أو كُره. فيكون ما اختاره أوقع في النفس من رسيله وأبلغ في تربيتها من حميله. ثم استأنف فقال: (اعدلوا) ثم ذكر علة الأمر بالعدل فقال: (هُوَ أَقرَبُ

(ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى)

لِلتَّقوَى) وفيه تنبيه لوجوب العدل مع الكفار، فكيف مع المؤمنين؟ إنه العدل المطلق، وإنه من حكيم حميد ... ذلك هو التضمين الكنز الثمين فمن غض من نفاسته فلضيق أفقه وخَيسِ خاطره. * * * قَال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). قال السيوطي: اللام بمعنى إلى وكذلك أبو حيان وابن هشام وابن عقيل والأزهري والأشموني والموزعي وقال الجمل عن ابن عباس: إلى وقت معين. وذكر الآلوسي: يجري لغاية مضروبة، ينقطع دونها سيرُهُ فاللام بمعنى إلى، وحكى الزركشي أنها بمعنى إلى وذكر لها دليلا من قوله ثعالى: (وَيُؤَخِركمْ إِلَى أَجَلى مُسَمّى). أقول: لعل فعل (يجري) تضمن معنى (يتوجه) فإن قيل: لم استبدل الجريان بالتوجه؟ أقول: لما وراء الجريان من المبتغى والمطلب فإن سألت:

ما الصلة بين الفعلين المضمن والمضمن فيه؟ أقول: صلة الوسيلة بالغاية، فكل جار وله في جريه وجهة فهو يطلبها، وكاية يبغي لها. مع الاستعلاء المنظور (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ). ومع الاستعلاء المطلق في الغيب (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) استواء يليق بجلاله سبحانه، يأتي التسخير (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). ونرى معه الحكمة والتدبير (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). أي كل يتوجه في جريانه لغاية مسماة ويبغي لمبتغاه. الأجرام الهائلة والأفلاك السابحة في الفضاء، كلٌ يتوجه لأَجَلِهِ الذي أُجِّل له، وأَمَده المُقدر له لا يتعداه قال ابن عباس: للشمس (مائة وثمانون) منزلا، كل يوم لها منزل ذلك في ستة أشهر، وللقمر (ثمانية وعشرون) منزلا في كل شهر، فالله قدر لكل كوكب سيرا خاصا ووجهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء فسبحانه وتعالى يدبر الأمر، يُفصل الآيات. أما التعاور في الحروف فولِّ وجهك عنه لا شيء تحته ولا خير من ورائه فإن دعتك ثقتك بنفسك إلى الإصرار على إبدال حرف بحرف تنتحله وتدعيه فخذ في غير هذه الصناعة. إنه التضمين في الفعل وإنه كثوب الحسناء على الحسناء لا يزيد مرتديه إلا أن ينطلق لسانه بجمال معانيه فلا يملك إلا أن ينتشيَ ويطرب. يرِق نسيمه من كل وجه ... ويعبق بالأريج المِسك طيبا * * *

(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا)

قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا). ذكر الزمخشري والجمل: تجزي ضمن معنى تقضي أو تغني. وذكر الآلوسي: لا تنوب عنها ولا تحتمل عما أصابها. (لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ) والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة. قال السيوطي: (عن) معناها البدل. وقرأ أبو السمَّال: لا تجزئ: من أجزأ عنه إذا أغنى عنه. فهو لازم و (شيئا) مفعول مطلق. أقول: مشهد عاصف وخطير كما يرسمه التعبير القرآني، مشهد مرهوب انقطعت فيه أواصر الرحم والنسب، من والد وولد، وقريب وحبيب وسند. غربة نفسية موحشة وهائلة، مقطوعة عن كل أحد، عاجزة عن كل شيء، ليس لها إلا ما قدمت من عمل. ويختتم المشهد: بأن وعد اللَّه حق. ويقطف الثمرة: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). فتضمين (تجزي) معنى (تُغني) أو (تنوب)، إقرار لمبدأ التبعة الفردية القائم على العدل المطلق، يوقظ الضمير ويشحذ الهمم للعمل، فلا شفاعة يؤمئذ ولا فدية إلا التقوى، وما تقدمه من صالح العمل، وكلا الفعلين المضمن والمضمن فيه يصدر من مشكاة واحدة.

(يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو)

ولو جاء التعبير القرآني ولا مولود عن والده لظهر المراد، ولكن إعادة الجزاء (هُوَ جَازٍ) فيه زيادة تقربر وبيان وَوِكادة رسوخٍ في التشهير بالإعلان عن مبدأ المسؤولية الفردية، لتكون الحجة على صاحبها أنور وأبهر وأقوى وأقهر. وحين يتعدى الفعل بالباء فإنه يتضمن معنى المكافأة. وهكذا يتضمن الجزاء: معنى الغَنَاء، أو معنى المناب، أو معنى المكافأة حسب سياقه والحرف المتعدي به، فوقوع الفعل في سياقه الذي يستدعيه يفتح عن رصيده المذخور وإيحائه المتجدد، ولا يكاد يحيط بمدلول معاني الأفعال في هذه اللغة الشريفة وإدراك مطالبها مَن لم يألف مذاهب أصحابها. كل فعل زهرة، وكل زهرة ابتسامة تحتها سر دفين ... * * * قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ). لوقتها: أي في وقتها ذكره القرطبي. وذكر البيضاوي: أنه لا يُظهر أمرها في وقتها إلا هو، واللام للتاقيت كاللام في (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ).

وذكر الجمل: أنه لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها إلا هو بالذات. قال الآلوسي: اختلف في اللام، فقيل هي بمعنى (في) وقال ابن جني: بمعنى (عند) وقال الرضي: هي المفيدة للاختصاص، وهو على ثلاثة أضرب: يختص الفعل بالزمان لوقوعه فيه: كتبته لغرة شعبان، ووقوعه بعده: كتبته لخمس خلون من رجب، ووقوعه قبله: كتبته لليلة بقيت من رمضان. وحكى السيوطي: لوقتها أي في وقتها أو إلى وقتها. وقال الزركشي: لوقتها أي في وقتها ومثله: ابن هشام، والأشموني، وأبو حيان، والسيوطي. والأصل في كل حرف ألا يدل إلا على ما وضع له كما قال ابن الأنباري. وقال الرازي: التجلية: إظهار الشيء، والمعنى لا يظهرها في وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو. اقول: ولعل تضمين (جلَّى) معنى (أبدى) وضده (أخفى) والمتعدي باللام - لا يبديها لوقتها ويظهرها إلا هو - يفي بالغرض ونتحامى به تجشم الكلفة، ومشقة التأويل، وهل التجلية إلا كشف الستار عن المغيب ليبدو

(فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه)

ويظهر؟ وإنما تنكشف البراعة في صياغة هذه الحروف عند معرفة وجه التأويل في تضمين أفعالها المتعدية بها. ففي التجلية إزاحة الستر المسدل أمام باب الغيب الموصد وفي (جلَّى) تعمُّل وتكلُّف لخُطى الكشْف عن قصدٍ لغرض البدوِّ وما فيه من الإظهار، وتبقى اللام على أصلها ليست بمعنى (في) ولا معنى (إلى) ولا عند و ... ويبقى للتجلية ما ليس للبدوِّ في إدراك المطلب وقضاء الحاجة، والإبانة عن الغرض، وللسياق حكمه في توجيه المعنى والدلالة على القصد فجمع التضمين المعنيين في قضاء الحوائج فكان في بهاء صورته ودقة لمحاته رطبا جنيا لمشتهيه. أما الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على قربه من ربه فهو (بَشَر) أمام عالم الغيب (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) فكيف يوجهون إليه هذا السؤال؟!. فاللَّه يلفتهم عن السؤال عن موعدها إلى الاهتمام بهولها وخطرها. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ). كيف؟ للتهويل وتعظيم يومِ لا حيلة في دفعه أو التخلص منه. قال الفراء ومثله السيوطي والآلوسي ليوم: أي في يوم. وذكر الرازي: لم يقل في يوم لأن المراد: لجزاء أو لحساب يوم

فحذف المضاف ودلت اللام عليه. قال الفراء: اللام لفعل مضمر، إذا قلت: جمعتهم ليوم الخميس كان المعنى جمعتهم لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت: جمعتهم في يوم الخميس لم تضمر فعلا، وجمعهم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب. أقول: ولعل (جمع) هنا تضمن معنى (أحصى) والمتعدي باللام، أحصاهم ليوم الحساب، لجزاء يوم لا ريب في وقوعه، فلا يفلت منهم أحدا، سؤال يُلقى ويترك بلا جواب، كيف؟ تهديد رعيب للجميع وبدون استثناء، يشفق القلب أن يتعرض له، ويبقى للحرف دوره في إدراك المطلب والإبانة عن الغرض، وللسياق حكمه في توجيه المعنى والدلالة على القصد. أما في الحديث: " ما سمعت النبي جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك "، فالسياق هنا يتضمن معنى (قرن) وهكذا تتزاحم الأغراض على جهاته: من (أحصى) إلى (ضم) إلى (قرن) إلى (أنهى) إلى (تشدد) إلى (لبس) إلى (بنى) حسب انتظامه في شاقه وتسليكه في عبارته وتلوح دلالات الفعل من وراء التضمين كأنها نثرة من النجوم الزهر يأتلقن من الجمال، وهذا باب واسع يحتاج إلى فَضلِ تأمل فتأنس به ليكون تعريجنا عليه مَرقاة إلى تدبره، أما التناوب في الحروف: ليوم، أي في يوم، فيكفيه فقرأ ألا يلد معاني جديدة فوق معناه. * * *

(الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)

قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ). (إلى) على بابها معناها الغاية ويكون الجمع في القبور، أو على تضمين (يجمع) معنى (يحشر) ويتعدى بـ (إلى) أو بمعنى (في) أو (مع). ذكر ذلك الزمخشري وأبو حيان، وذكر الرازي: ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة أو ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم. وحكى أبو السعود أنه قيل: (إلى) بمعنى (في)، وذكر ذلك الأشموني، والسيوطي، وابن هشام، والمرادي. أقول: وقد يتضمن معنى ضم في سياق آخر. ففي الحديث: " حتى إذا قضى رسول اللَّه مقالته جمعتها إلى صدري "، وقد يتضمن معنى أنهى أو ألقى أو أتم أو ساق. وهكذا تبقى (إلى) على أصلها ليست بمعنى (في) أو (مع) وإنما جرى التضمين في الفعل. ويتلوّن المعنى حسب السياق، فيكون بمعنى الحشر والمتعدي بـ (إلى) (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)، أو الضم كما جاء في الحديث، أو السوق أو غير ذلك. ولعل الحشر أو السوق هنا أولى من سواه.

(إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32

فتعريد من خشي اقتحام لجج هذه اللغة الشريفة، وتحاميه سبيل التنقيب عن أوضاعها، ينأى به عن تقصي عللها وتتبع مسالكها وإدراك مطالبها. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (2). قال الزمخشري: أحببت مضمن معنى فعل يتعدى بـ (عَنْ)، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربي. وذكر الهمذاني في كتاب التبيان: أن أحببت بمعنى لزمت. وقال ابن أبي حاتم: عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قوله: (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يقول: من ذكر ربي. وذكر أبو حيان: وانتصب حب الخير على المفعول به لتضمن (أحببت) معنى (آثرت) قاله الفراء. وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي. وقيل: عدي بـ (عَنْ) فضمن معنى أنبت أو جعلته منيبا عن ذكر ربي. وقال السيوطي: أحببت: أي (أردت) وضمن معنى (آثرت) فعدي بـ (عن). وقال الرازي: التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن، وسليمان عليه

السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وقال: إنني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما لأمر اللَّه وتقوية دينه، وهو المراد بقوله: عن ذكر ربي، ثم إنه أمر بإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم أمر بردها فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض: تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو. قال الطبري: أحببت حب الخير: أي أحببت حبا للخير ثم أضيف الحب إلى الخير، وعنى بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب تسمي الخيل: الخير، وتسمي المال: الخير، أحببت حب الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته، وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر. حب الخير: مفعول به لأحببت المتضمن معنى (آثرت) قاله الفراء، وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي أي أحببت الخيل كحب الخير أي حبا كحب الخير، وقيل: عدي بـ (عَنْ) لأنه تضمن معنى فعل يتعدى بـ (عَنْ) أي أنبت حب الخير، عن ذكر ربي أو جعلت حب الخير منيبا عن ذكر ربي. وذهب أبو الفتح الهمذاني إلى أن (أحببت) بمعنى (لزمت). وقالت فرقة: أحببت: سقطت إلى الأرض، مأخوذة من أحب البعير: إذا عيي وسقط أي عييت عن ذكر ربي حكاه أبو حيان ووافقه العكبري والزمخشري والجمل، وكذلك حكاه الرماني عن أبي عبيدة، وأورد البيضاوي: أصل أحببت أن يعدى بـ (على) لأنه بمعنى آثرت، لكن لما أنيب مناب أنبت عدي تعديته، وقيل: هو بمعنى تقاعدت من قوله: * مثل بعير السوء إذ أحبا * أي برك. وحب الخير مفعول له، والخير المال الكثير والمراد به الخيل

" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ". وأورد الآلوسي: أن الإحباب: الإيثار على ما نقل عن الفراء فهو مما يتعدى بـ (على) لكن عدي هنا بـ (عَنْ) لتضمينه معنى الإنابة، وحب الخير مفعول به أي آثرت حب الخير منيبا له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثرا له. وروى الزركشي: أنه قيل (عن) على بابها منصرفا عن ذكر ربي، فعن متعلقة باعتبار معنى التضمين أي تثبطت عن ذكر ربي وعلى هذا فحب الخير مفعول لأجله. وقال الجمل: فيها أوجه: أحببت: آثرت، وتكون (عن) بمعنى (على). أحببت: أنبت فلذلك تعدى بـ (عَنْ)، أحببت: لزمت - أجبت (من أحب البعير إذا برك من الإعياء) أي قعدت عن ذكر ربي. فحب الخير مفعول لأجله وعبارة الكرخي (أردت) أشار إلى أن أحببت مضمن معنى فعل يتعدى بـ (عَنْ) أي أردت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربي. أقول: أسلوب كتاب اللَّه الكريم يصيب بألفاظه مواقع الشعور، ويكشف ما تحتها من ظاهرها الملتبس، يلتمس المقيد فيطلقه، ويتشوف إلى الجمال فيظهره، أطلق الخير على الخيل ليستهوي إليها النفوس " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ". وجاء لفظ الحب بصيغتين: صيغة الفعل ليفيد الحدوث والتجدد فيستولي

على قلوب من أحب الجهاد في كل عصر إلى قيام الساعة، وفي صيغة المصدر ليفيد الثبوت فلا تتحول عنه القلوب العاشقة للفداء فتميل إلى الدنيا. وهاهو سليمان عليه السلام - القائد العسكري - يستعرض خيوله التي أحب فيها الصفون والجَودة، وحبه لها كان تفسيرا لحقيقة وجوده، فيصل ما وراء الحياة بما له صلة بالحياة. أجل حبه لها صادر عن ذكر ربه فماذا وراء ذكر ربه؟ اللفظ المفرد في كتاب الله يتحول إلى قصة، واللمحة السريعة تكشف عن حقيقة، وتلك طريقة القرآن الكريم: يضع في اللفظ إشعاعا يضيء، يديره على طريقة يثير بها مكامن الخيال لتأخذ النفس منه ما تشاء وتترك. وهكذا تبقى كل حقيقة: كالإيمان، والخير، وذكر الله، مع كثرة صورها الموحية بحاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان مبدعة. فذكر ربه هو العمل بكتابه، وهو طاعته في جهاد عدوه، وهو الإعداد للمَهمَّة الضخمة لمواجهته، وهو استعراض ما لديه من قوى عسكرية لمنازلته، وكل ذلك لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وإزالة دولة الباطل هي المبتغى، ويكون الباطل دوما ذليلا زهوقا. ولن يفهم القرآن إلا من يتحرك في مثل حركته عليه السلام في مواجهة الباطل لتقرير حاكمية الله في الأرض ومطاردة كل حاكمية معتدية مغتصبة. ويستمر العرض العسكري لخيوله عليه السلام فقد أمر الرائضين بإعدائها وتسييرها، وتبقى الأبصار معلقة بالمشهد المعروض والأعصاب مشدودة حتى توارت بالحجاب، غابت عن بصره، وعندها قال: ردوها عليَّ، لماذا؟ كأنها شبت في نفسه شبابا، وكَسَبَت روحه قوة، وصنعت في أعصابه صناعة فريدة، فراح يباركها، ويمسح على أعناقها وسوقها لاختبار أصالتها فلما كشف ذلك

مجرورها بحال محذوفة وتقدير هذه الحال يحتاج منا إلى فضل تأمل صالحا أن يدخل في أكثر من مقام، ومع كل مقام يختلف المعنى المصاحب له، فإن كان حبه لخيوله لهوى شخصي، أو لشهوة، أو لدنيا، أو لسلطة، أو رياسة فتقدير الحال (صارفا)، وإن كان حبه لها لطاعة أو عبادة أو جهاد أو نشر دعوة فتقدير الحال (صادرا)، والقرائن كلها تثير إلى التزامه بطاعة ربه وذلك: 1 - حبه لها كحبه للخير فكيف تصرفه عن الخير؟!. 2 - في استعراضه العسكري كان قائما في طاعة، مشغولا بعبادة فكيف تشغله عن ذكر ربه؟! 3 - الخيل من وسائل جهاده المبارك فكيف يعقرها؟! 4 - لا ورود لذكر الشمس في النص أصلا وهل يملك جنده أن يردوها عليه إن صح ما جاء على ألسنة كثير من المفسرين؟ لا شمس إذاً تغيب ولا صلاة تفوت ولا خيول تعقر وإنما هي إسرائيليات يستنكرها العقل والنقل. تدسَّت إلى بعض كتب التفاسير لتتلف وسائل الجهاد المبارك مما يتنافى مع عصمة الأنبياء، بل مع حكمة العقلاء. وإلى اليوم تلاحق يهود كل جهاد ينهض لتقضي عليه أو تفتنَّ في

(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17)

تشويهه: تطرف ... عنف ... إرهاب ... خروج عن طاعة ولي الأمر. كما تنفق الكثير الكثير رغم شحها للقضاء عليه. أما فتنة سليمان عليه السلام واستغفاره من ذنبه، فلسهوه عن تعليق قسمه بمشيئة ربه ففي الحديث الصحيح للبخاري: يقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللَّه ولم يقل إن شاء اللَّه والذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللَّه لجاهدوا في سبيل اللَّه فرسانا أجمعين ". وبعدُ ... إن لم تكن وسائل الجهاد فلا تنتظر الجهاد. وإن لم تكن نفوس مهيأة للاستشهاد فلا تنتظر النصر. وإن لم تكن معارك النصر فلا تنتظر قيام دولة الإسلام. وإن لم تسطع شمس الإسلام فلن يقوم للحق في هذا الوجود كيان. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). قال البروسوي: حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء ما يحبه، واقتضى تعديته بـ (على) معنى (الإيثار والاختيار) أي تضمن الإيثار. واختيار الضلالة هو من عمى البصيرة. وقال صاحب الكشف في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة اللَّه هي المؤثرة فإن المحبة ليست اختيارية باتفاق؛ وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية. أ. هـ

وقال أبو حيان: فاستحبوا العمى على الهدى: أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. وقال ابن عطية: فاستحبوا: عبارة عن تكسبهم في العمل، يدلك على ذلك قوله: (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وقال تاج الدين الحنفي ما قاله أبو حيان: أي اختاروا ... وقال الزمخشري: استحبوا أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. ومثله قال الرازي. أقول: ولعل تضمين (استحب) معنى (اصطفى) أسوغ من (اختار وآثر). لأن في الاصطفاء استقصاء ونخل مع الإيثار. فهؤلاء بعد اهتدائهم بآية الناقة ارتدوا إلى الضلال واستحبوا العمى، اصطفوه من أسوأ الموجود لانتكاس قلوبهم فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. أشد أنواع العمى هو الضلال بعد الهدى، والعمى بعد الاستبصار، وبذلك استحقوا صاعقة العذاب، وأي عذاب؟ عذاب الخزي والهون مما يليق مع استكبارهم. واختيار لفظ (استحب) بدلاً من (اصطفى) لأنه مدفوع بهوى النفس، ودليل على انطفاء نور القلب، وشاهد على تسلط الهوى عليه وإغلاق كل نافذة للتفكير لئلا تسترشد بضياء الحق وهذا من أشد العمى وأقبحه. ثم إن للتضمين مقاصد في اختيار اللفظ، وأسرارا في انتقاء العبارة يتوصل إليها بالفحص عنها والتأمل فيها وخيرها ما سافر فيها النظر. * * *

(الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا)

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا). ذكر العز بن عبد السلام: تضمن يستحبون معنى يختارون ويؤثرون الحياة الدنيا على ثواب الآخرة. وأورد الآلوسي: يستحبون أي يختارونها عليها، فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره. فالسين للطلب، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم، ولاعتبار التجوز عُدي الفعل بـ (على). ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب. والفعل مضمن معنى الاختيار، والتعدية بـ (على) هي لذلك. وذكر الزمخشري، وردده أبو حيان: أن الاستحباب هو الإيثار والاختيار وهو استفعال من المحبة لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخرة. أقول: لقد تضمن (الاستحباب) معنى (الإيثار والتفضيل) وهذا معناه: فقدوا التوازن بين الحياتين، وتعطل إدراكهم عن فهم كل من الحياتين على الحقيقة، فانتهى بهم إلى تقويم فاسد حين آثروا الفانية على الباقية يلتمسون الدنيا من غير وجهها لأن نعمة اللَّه لا تلتمس إلا بطاعته. وحين يفضل بعض الناس دنياهم على أخراهم، ويؤثرونها بالحب، عندها يبغونها عوجاء لا استقامة فيها ولا عدالة، فيصدون عن الهدى والحق،

(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88)

وعندها كذلك يبطشون ويظلمون وينشرون الفساد في الأرض ويستأثرون بالكسب الحرام، وعندها أيضا يصدون عن سبيل اللَّه من آمن يبغونها عوجاء. فلولا (على) هذه ما ظفرنا بهذه اللطيفة من وراء التضمين. * * * قَال تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (1). وحبط العمل على أضرب: أحدها أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامة. ذكر القرطبي في معنى الحبوط: البطلان والفساد. وقال البروسوي: حَبِط: بطل وذهب. وقال الآلوسي: تضمن (حبط) معنى (سقط وبطل) أي سقط عنهم ثواب أعمالهم أو زال عنهم مع فضلهم وعلو شأنهم. سبب ذلك أن أصحابها لم يقصدوا فيها وجه الله. فلو أشرك هذا الرهط من الرسل المهديين المصطفين في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي فإن مصيرهم حبوط العمل والهلك، كمصير الدابة ترعى نبتا مسموما فتنتفخ فتموت. لأن الحَبَطَ: انتفاخ بطن الدابة من كثرة الأكل. وقال الزمخشري: ولو أشركوا مع فضلهم وتقدمهم لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كما قَالَ تَعَالَى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). أقول: فتضمين (حبط) معنى (هلك) المتعدي بـ (عَنْ) (هَلَكَ عَنِّي

(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ... أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4)

سُلْطَانِيَهْ) أي هلكت عني حجتي كما قال مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك أولى من سقط وبطل وزال، مراعاة للسياق وذهابا في جهات النظر، فجمع التضمين موت الدابة في حبوط بطنها من السُّمية، وهلاك العمل لعدم خلوص النية في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي. فهُدى اللَّه محصور في مصدر وحيد وهو وَحدَه يستمد منه ويحتكم إليه، وهو ما جاء عن طريق الرسل فمن حاد عن هذه الطريق فأشرك في المعتقد أو في العبادة أو في التلقي لهلك كل عمل يعمله، وضاع أجره سدى مهما بذل فيه من مجهود. نعم هلك أجر عمله كما تهلك الدابة ترعى نبتا مسموما فتنتفخ فتموت. موضوع الشرك صورة مُدرَكة يعرضه لنا سبحانه في صورة محسوسة مبصرة شائنة كريهة، ليكون أشد تأثيرا في النفوس وأبلغ. وإن للعرب ألفاظا لا يكاد يحيط بمدلولها ويدرك مطالها من لم يألف مذاهبهم. * * * قَالَ تَعَالَى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ... أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (2). ذكر ابن منظور: يجوز أن يضمن (حسب) معنى (قدر) فيتعدى إلى واحد. وقال الآلوسي: الظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن (أَن يَسْبِقُونَا) ساد مسدهما وجوز الزمخشري أن يضمن معنى التقدير فيكون

متعديا لواحد و (أَن يَسْبِقُونَا) هو ذلك الواحد و (أم) منقطعة ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول. وتعقبه أبو حيان: بأن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة إليه. وقال الرازي: حكمهم في غاية السوء والرداءة، فالإمهال لا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شُغْلُ من يخاف الفَوْت وحكم الشرع خلاف ما قالوه. وقال الجمل: (أم) منقطعة فتقدر بـ (بل وهمزة الاستفهام). أ. هـ السمين و (بل) التي في ضمنها للإضراب. والهمزة التي ضمنها للاستفهام التوبيخي. فالكلام انتقال للتوبيخ الأول على حسبانهم بلوغ الدرجات من غير مشاق بمجرد الإيمان، إلى توبيخ أشد وهو حسبانهم أن يفوتوا عذاب اللَّه ويفروا منه فلا ننتقم منهم. وقال أبو السعود: و (أم) منقطعة وما فيها من معنى (بل) للإضراب والانتقال إلى التوبيخ بإنكار ما هو أبطل من الحسبان الأول. وهو حسبانهم ألا يجاوزوا بسيئاتهم، وهم إن لم يُحدِّثوا أنفسهم بذلك، لكن إصرارهم على المعاصي نزلوا منزلة من يطمح في ذلك. أقول: (حسب) إن كان من باب (ظن) فلا تضمين في الفعل، وإن كان بمعنى (قدر) والمتعدي لمفعول واحد هو المصدر المؤول - أن يسبقونا - فقد ولج باب التضمين وهذا ما أُرجحه لأن إصدار حكمهم - ساء ما يحكمون - مبني على تقدير وتدبير وتفكير منهم، وليس مجرد ظن فقط. فكيف يُقدِّرُ مفسدٌ

(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)

أنه يفلت من العقوبة - أن يسبقونا؟! - فكما أن الابتلاء سنة لامتحان الصادق والكاذب، كذلك أخذ المسيء بإساءته سنة لا تتخلف لامتحان القلوب، وتمحيص الصفوف، ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ". ويستكمل المعنى بالصورة الندية للقلوب المؤمنة، صورة الراجي المشتاق إلى لقاء اللَّه بأنه السميع وأنه العليم. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (2). قال الطبري: اللام بمعنى إلى أي فإساءتها راجعة إليها ومثل ذلك قال الزركشي. وعند الزمخشري: أنها للاختصاص، فالإحسان والإساءة مختص بأنفسكم لا يتعداه إلى غيركم. وتعقبه الآلوسي: بأنه مخالف لما في الآثار من تعدي ضرر الإساءة إلى غير المذنب، اللهم إلا أن يقال: إن ضرر بني إسرائيل لم يتعدَّهم، وفيه تكلف لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا. وقيل: اللام للنفع كالأولى ولكن على سبيل التهكم ولذا قيل: إن تكرير الإحسان

إشارة تغليبية. وجاء عن علي كرم اللَّه وجهه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد ولا أسات إليه، وتلا هذه الآية. وذكر الجمل وأبو حيان: أن (لها) بمعنى (عليها). أقول: أحسن يتعدى بـ (إلى) فإذا تعدى بغيرها فيحمل على التضمين ولا أرى وجها لتناوب الحروف (اللام) بمعنى (إلى) أو (على) أو الاختصاص أو الاستحقاق أو ... فلنا منجاة من هذه المخاضة بتضمين (أحسن) معنى (قَدَّمَ) من قدم من خير وإحسان فلنفسه يرتد إحسانه، ومن (أساء) أي ومن (جرم) فلنفسه من السيئات يرتد جرْمُه، ويُحمل نفسه ما لا تطيق مما يثقلها ويتدافع بها. فالآية تقرر قاعدة ثابتة لا تتغير على مر العصور، قاعدة جزاء العمل - كل فرد مسؤول عن نفسه - له ثمار عمله أحسن أو أساء إن قدمتم قدّمتم لأنفسكم من إحسان. أو جرمتم من شر فلأنفسكم، وسنة اللَّه ماضية في خلقه لا تتخلف. ويبقى التضمين مصدر إثراء لهذه اللغة الشريفة تسري أحكامها في أحنائه وحواشيه على سعة أبعاده ومداليله. * * *

(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7)

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (1). ذكر القرطبي: ويجوز أن يكون (خلقه) مفعولا ثانياً لـ أحسن على تضمينه معنى (أعطى) وذكر الآلوسي: وقيل هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى. أعطى سبحانه كل شيء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل. وقيل: (خلْقه) المفعول الأول، (وكل شيء) المفعول الثاني على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفراء، أو التعريف كما قاله أبو البقاء والمعنى ألهم أو عرَّف خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه فيؤول إلى قوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) واختار أبو علي في الحجة ما ذكره سيبويه في الكتاب أنه مفعول مطلق لـ أحسن من معناه. وفي الجلالين: بفتح اللام (خلقه) فعل ماض: صفة وبسكونها (خلْقه) بدل اشتمال. أقول: في ظل مشهد النشأة الأولى نلمح هذا الفيض من الفضل العظيم الذي أودع كل شيء خصائصه وصفاته ووظائفه واستعداداته. من الذرة إلى أكبر الأجرام، ومن الخلية إلى أعقد الأجسام، يتجلى الإحسان والإنعام. كل شيء في هذا الوجود مزود بخصائص تؤهله لأداء دروه من إنسان أو حيوان أو فَلَك سابح في الكائنات، متقن الصنع، بديع التكوين، باد فيه الإحسان والإتقان، وما منحه من التناسق والكمال. وها نحن نتملَّى آيات الإحسان والإتقان في كل ما نبصر ونسمع ونحس وندرك في رحلتنا على هذا الكوكب من جمال الصانع الحكيم فيما صنع وأباع ومنح. إن عنصر الإحسان مقصود في هذه الآية ليتضمن (ما وهب ومنح) من

(وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن)

إتقان الصنعة وحُسْنِها (فيما صنع وسوَّى وأبدع) فيرقى إلى حد الجمال والكمال: جمال الصورة وكمال التكوين في كل ما خلق مع تناسق الكل في هذا الوجود. تلفتنا الآية في كل ما حواه التضمين من هذه اللطائف إلى الاستمتاع بها ليتتبع القلب اليقظ مواطن الحسن والجمال في هذا الوجود. ولا يدرك القلب هذا النعيم إلا حين يستيقظ من الإلْفَة، ويبصر بنور اللَّه الأشياء كما أبدعها الصانع، فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع، فيزيد شعوره بجمال ما يرى ويحس. إن هذا الوجود جميل، وإن جماله لا ينفد، هذه الفراشة ... هذه الوردة ... هذه النجمة ... تلك الغيوم ... في هذا الوجود متناسقة لا عوج فيها ولا فطور. يلفتنا كتاب ربنا إليها لنتملاها وهو يقول: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ليوقظ القلب فيتتبع مواطن الحسن والجمال في هذا الوجود. إنه التضمين كلما زدته فكراً زادني معنى، أتعرف أسراره ليفتح القلب على لطائفَ من هذه اللغة الشريفة. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) (2). أحسن يتعدى بـ (إلى). قال: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ). وقد يتعدى بالباء (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ولا يتعدق الجار والمجرور بـ إحسانا لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ذكر ذلك أبو حيان والعكبري: وقد يكون ضمن (أحسن) معنى (لطف). وقيل: المفعول محذوف أي (صنعه).

قال السيوطي: أحسن بي: أي (إليَّ) أفاد معنى الغاية. أ. هـ. وذكر الزمخشري: يقال أحسن إليه وبه وكذلك أساء إليه وبه. قال زهير: * إذا قوم بأنفسهم أساؤوا * وأساء في تعديته مثل أحسن. وقال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلَّت وفي الحديث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن ". وقال الآلوسي: حمله بعضهم على تضمين أحسن معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف، والمعروف في الاستعمال تعديه بالباء، وبه صرح في الأساس وعليه المعول (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) وفي الحديث الشريف قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله ". وقيل الباء بمعنى إلى. وقيل المفعول محذوف. أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين. وفرق الزركشي بين الحرفين وأكد أن الباء أليق بيوسف لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد الغاية التي صار إليها. أقول: إذا كان الفعل أحسن يتعدى بالباء فلا تضمين. وما دام الخلاف قائما فتضمينه معنى (لطف) المتعدي بالباء كما مر يستنيم إليه السياق، فاللطف فرع من الإحسان، والإحسان أعم منه وأشمل.

(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا (11)

وفي قول يوسف عليه السلام غاية الأدب وكمال الاعتراف بالجميل حين عبر (بالباء) بدلا من (إلى) لأن ألطاف اللَّه مسَّته فما كان أشد بها أُنْسه، إنها زهور تفوح بالعطر حين لصقت به محاسنه، فلم يجعل محاسن اللَّه وألطافه خارجة عنه، بعيدة منه، تصل إليه بـ (إلى) كما جاء في قوله تعالى: (كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) مخاطبا قارون بلسان قومه أن يحسن إلى الناس كما أحسن اللَّه إليه. وأي إحسان أعز وأشرف من الجاه والسلطان! ومن كمال أدبه لم يذكر الجب مراعاة لمشاعر إخوته. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) (1). قال النحاة: الجملة الخبرية إذا خلت من فائدة الخبر أفادت معنى التعجب إذا اقتضى المقام ذلك. وعليه يكون؛ قد أحسن: أي ما أحسن رزقهم وما أعظمه. قال الزمخشري: فيه معنى التعجب والتعظيم. وقال الجمل: أي رزقا عظيما عجيبا فيه تعجب وتعظيم لما رُزقوا من الثواب. قال البروسوي: ولا يبعد أن يكون (له) بمعنى (إليه). أ. هـ. أي على مذهب أهل الكوفة في تضمين الحروف. أقول: الأوْلى أن نضمن (أحسن) معنى (أعد) والمتعدي باللام. فهو

(له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

سبحانه فوق نعمة الذكر والنور والهداية والصلاح، وعدهم بأحسن الرزق فأعده لهم وهيأه. فجمع التضمين من وراء اللام إعداد الرزق وتحسين أصنافه وأنواعه على اختلاف جهاته وسما به من واقعه المادي إلى المجال الروحي في تصور المؤمن: رزق الروح بالتفريد. تتفرد بحبه، فلا تعشق معه سواه. ورزق القلب بالتجريد. ورزق اللسان بالتوحيد. وبهذه اللمسة يُنشئ في قلب المؤمن ألا يتعلق بدنياه ولا بأحد سوى الله، ويكون ذلك من تكامل السعادات النفسية، وتعاظم الدرجات الروحانية تُلوِّح وتُبشِّر ... إنه التضمين وإنها اللام جاءت لتصوير المعنى وتشريفه بالإعداد له والتهيئة لصاحبه إعزازا لمقامه وتكريما لمنزلته ويبقى أثر التلميح على النفس غير التصريح والتكشيف. * * * قَالَ تَعَالَى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (1). قال أبو حيان: والظاهر أن (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) متعلق بـ يحفظونه. قيل: (مِنْ) للسبب كقولك: كسوته من عري، ويكون معناها ومعنى الباء سواء. يحفظونه بأمر اللَّه وبإذنه، قال ابن جريج: يحفظون عليه عمله، وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله، وقرأ علي وابن عباس وعكرمة وزيد وجعفر يحفظونه بأمر اللَّه يؤيد السببية.

وقال الزمخشري: يحفظونه من أجل أمر الله، أي: اللَّه أمرهم بحفظه. وقيل بحفظه من بأس اللَّه ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له أن يمهله رجاء أن يتوب. ويصير المعنى إلى التضمين أي: يدعون له بالحفظ من نقمات اللَّه رجاء توبته. وزاد الجمل يحفظون عمله بإذن اللَّه فحذف المضاف وهو (عمل) وتقديره: يحفظونه بأمر الله وإعانته. وقال البروسوي: يحفظونه من المضار التي أمر اللَّه بالحفظ منها. وقال الزركشي: روى الأخفش عن يونس أن (مِنْ) بمعنى (الباء). ومثله قال ابن قتيبة. وقال الرازي: نقلا عن الفراء: فيه تقديم وتأخير، له معقبات من أمر اللَّه. أقول: إذا كان اللَّه قد أمر الملائكة بحفظ العبد كما ذكر الزمخشري وغيره، فلماذا يخشى المذنب من ذنبه ومعه من يحفظه؟ أو يدعو له بالحفظ من عذاب الله؟ ولعل تعليق (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) بالفعل يحفظونه هو الذي دفعهم إلى ركوب المسلك الحزن، ووكلهم إلى تشتيت ملامح الصورة للمشهد الكوني الكبير، وتفريطهم هذا أوقعهم في حَيْس الخاطر وألجأهم إلى دعوى التناوب والتعاور، (مِنْ) بمعنى الباء. في جو من تظليل الصورة وعدم تسليط الضوء عليها عن قصد وعمد، وفي مشهد تحيط به الضبابية متلفع بالخفاء تخيم عليه الرهبة، نرقب علم اللَّه المحيط بكل شيء، خفياً لا تراه العيون، وراء السر المستخفي بالليل وخلف

المعقبات من أمر الله، لا يعلم كنه طبيعتها إلا الله، يتعقبوننا في كل خاطرة وخالجة في الصغيرة والكبيرة، من بين أيدينا ومن خلفنا، يُحصون علينا النَّفَس فنحن معهم كالكتاب المفتوح لا تخفى عليهم منا خافية، يحفظون كل شيء عنا جملة وتفصيلا، فكل تعبير أو تحبير، وكل همسة أو نبْسة مستوعبة في صدورهم يحفظونها عن ظهر قلب. فأحدنا كالمتهم المستراب في سياسة نفسه، لا يمشي خطوة إلا بين جواسيس تحصي عليه حتى أسباب النية وتجمع منه حتى نزوات النفس وتترجم عنه حتى معاني النظر. معقبات من أمر الله، ما هذا الأمر؟ ما شأنه؟ ما طبيعته؟ ما صفته؟ لو شاء اللَّه البيان لبين وفضل، ولكن مشيئته اقتضت أن تبقى الصورة غائمة لتوحي بالرهبة، بالوجل، بالإشفاق، ونبقى في حذر عند كل تصرف، ومن له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذه الضبابية بالكشف والتفصيل. معقبات ... خامرني منها شيء لذَّ بنفسي لست أحسن وصفه، معقبات من أمره وكفى ... هل هي مخابرات في جهاز سري صدرت عن أمر ملكي ولها مهمات خاصة؟ أوليس التعقيب بعيدا عن معنى الحفظ أي الرعاية والكلاءة؟ فالمعقب من شأنه المتابعة والملاحظة والملاحقة المستمرة لإنجاز ما كلف به من أوامر ومهام، بعيدا كل البعد عن معنى الكلاءة والرعاية والحفظ والذي لا يساعد السياق عليه. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء عنده من أسر ومن جهر، من استخفى بالليل أو سرب بالنهار، ما لهم من دونه من وال، وكل شيء عنده بمقدار، يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق. في هذا الجو من الرهب والخوف وعالم الأسرار يأتي ذكر المعقبات ويأتي بعدها (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). فالحفظ هو حفظ الاستظهار ضد النسيان لا حفظ الحراسة

(يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إن

والرعاية، معقبات ... وللعرب في ألفاظها دلالات تقضي بها حوائجها وأغراضها لا يعرفها سواهم، وصار السياق؛ له معقبات من أمر اللَّه من بين يديه ومن خلفه، يحفظونه، ولكن هذا السياق لا ينسجم مع الإيقاع الموسيقي للفاصلة القرآنية فلا بد من تقديم (يحفظونه) على الجار والمجرور (من أمر الله). معقبات ... يحفظون كل شيء عنه: أعماله، تصرفاته، حركاته، سكناته، نظراته، همساته. يحصون عليه أنفاسه، يراقبون ما يحدثه من تغيير في نفسه ومشاعره وواقعه فيغير اللَّه ما به وفق ما غير ما بنفسه. ميزان دقيق وحاسوب ذري فلا مجال للشك، ولا مجال للعبث. لا وجود للتضمين في الآية إذاً ولا داعي إلى تأويلات تصرفنا عن المورد العذب إلى ظنون يستولي التكلف على جملتها وتفصيلها. فلا تعجل بظن قبل علم ... فعند العلم تنقطع الظنون كلون الشهد مشتبها وليسست ... تُخبِّر عن مذاقته العيون * * * قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (1). حفي به حفوا وحفاوة: بالغ في إكرامه وتلطف به فهو حاف وحفي، وأحفى في السؤال: ألحف. وذكر الراغب: الإحفاء: الإلحاح في المطالبة أو البحث عن تعرف

الحال (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا). وقال أبو حيان: (عنها) متعلق بـ يسألونك، وصلة حفي محذوفة أي بها. أو متعلق بـ حفي على جهة التضمين، والتقدير: كأنَّك كاشف بحفاوتك عنها. أو (عن) بمعنى الباء، وذكر مثل ذلك العكبري والجمل. وقال الزمخشري: كأنَّك بليغ في السؤال عنها لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه ورصُن، وأحفى في المسألة إذا ألحف، وحفي بفلان وتحفى به: بالغ في البِرِّ به. وقرأ ابن مسعود كأنَّك حفي بها. وقيل إن قريشا سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الساعة، فقيل: يسألونك عنها كأنَّك حفي تتحفى بهم فتخصهم بتعليم وقتها لأجل قرابتهم. وأجاز أبو عبيدة أن تكون (عن) موضع الباء وبهذا قال ابن قتيبة. وشاهده: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) أي بالهوى وأيد الطبري تعاقب (عن) والباء هنا وأَولَ حفي بلطيف. وقال البيضاوي: حفي: فعيل من حفي عن الشيء إذا سأل عنه، فإن من بَالغَ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه به، ولذلك عُدي بـ عن، وقيل: هو صلة يسألونك. وقال الآلوسي: وهو يتعدى بالباء لكونه متضمنا لمعنى بليغ في السؤال عنها حتى أحكمت علمها. حفي عنها أي مبالغ في العلم بها. ذكر بعضهم أن الحفاوة في الأصل: الاستقصاء في الأمر للاعتناء به، قال الأعشى:

فإن تسألوا عني فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا عُدي الوصف بـ (عن) اعتبارا لأصل معناه وهو السؤال والبحث، وقيل لأنه ضمن معنى الكشف ولولا ذلك لعدي بالباء. أقول: لعل تعليق (عنها) بـ يسألونك أرجح من سواه وصلة (حفي) محذوفة كما أشار أبو حيان وأحرى من أن يزل في معرةِ التعاور والتناوب: عنها أي بها أو تضمين (حفي) معنى (كاشف أو ملحف أو مبالغ) ... ، وما جاءت (كأنك) إلا على وجه من الاستخفاف بظنهم فيه حين حَسِبوه على علم بها أو مهتما بالبحث عن التعرف على حالها، ولم يدركوا أن أمر الغيب بيد اللَّه لا يُطلع على غيبه أحدا، ولم يدركوا كذلك أدب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع ربه في أمر الغيب، وفي مقام العبودية. ولعل تأخير صلة يسألونك إنما كان لمجرد التنغيم الصوتي ومراعاة للتناسق الفني في الإيقاع الموسيقي ثم لا يكون تقديم أو تأخير إلا لفائدة، فتأخير صلة يسألونك فيه توبيخ للسائلين عن سؤالهم لأنهم يستخفون بها أو بالمسؤول عنها أو بهما معا، فهو صلوات اللَّه عليه لا يعرفها ولا يشغل نفسه بمعرفتها ما دامت من اختصاص مولاه الجليل، وقد أخفاها عن خلقه. هذا في تأخير الصلة وأما في حذفها من حفي فأفصحُ من ذكرها، ولن تجد في الإثبات بلاغة كالذي في الحذف. وهل ذهب ظنهم به عند سؤاله عنها إلا إلى اهتمامه بها؟! فلا سبيل إلى هذه اللطيفة إلا بحذف الصلة وترك ذكرها. وهكذا يكون الحذف مع التقديم والتأخير سبيلا إلى لطائف ممتعة. فلا تضمين إذا في الآية. وكذلك في بيت الأعشى لا تضمين وإنَّمَا فيه تقديم وتأخير. فيا رب سائل عن الأعشى حفي به ... * * *

(الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم)

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) (1). ضمن (يحشرون) معنى (يساقون) فعدي تعديته أي بـ (إلى)، ذكره السيوطي. وقال الجمل: يسحبون. وجمع صديق خان المعنيين فقال: يجمعون مسوقين إلى جهنم. وذكر البيضاوي: مقلوبين على وجوههم وذكر الحديث: قال صلوات اللَّه عليه: " يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ... وصنفاً على وجوههم ". وقال أبو حيان: يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه. ومثله قال الرازي. أقول: حشر يتعدى بنفسه وبـ عن وبـ إلى ولا يتعدى بـ (على)، فإذا تعدى بها نجعله مترددا في مسارح النظر كيما يجد قرينة له تُخصصه في معنى معين. ولعل تخصيصه بمعنى (جرَّ) تنزله أفرع منازله، ففي الحديث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وتجرون على وجوهكم ". ولا يخفى ما في الجر على الوجوه من الإهانة والمذلة والمشأمة! فالمشهد معكوس كانقلاب مقاييسهم في منطقهم العقيم مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجداله في الباطل، فانقلاب صورتهم تليق بانقلاب تصورهم، وتأبِّيهم على الحق، واستكبارهم عليه. فهم وراء فساد النظم والأوضاع. تتنفس شهواتهم في جوها العفن كالديدان، لا يعيشون إلا في مستنقع آسن، فطبيعي أن يأتي

(والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)

مشهد الجر على الوجوه موشحاً في كُدرة لفظه وبَذاذة سَمْته ليكون مُؤذناً لإذلال كبريائهم وزلزلة كيانهم. إنه التضمين، يُبدع إبداعه حين يلوح في إعجاز من البيان عن غضبه وسخطه ... فكيف لو صرح؟!. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (1). ذهب ابن كثير وأبو حيان: إلى تضمين (حافظون) معنى (ممسكون أو قاصرون) وتكلف الزمخشري وجوها: (عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) في موضع حال: إلا وَالِينَ على أزواجهم أو قوامين عليهن، من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها، ونظيرة: فلان على البصرة أي واليا عليها أو تعلق بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم. أ. هـ. وذكر السمين في الصلة على أزواجهم أربعة وجوه نقلها عنه الجمل أحدها: أنه متعلق بـ (حافظون) على تضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بـ (على) قال تعالى: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)، الثاني: أن (على) بمعنى (مِنْ) أي إلا من أزواجهم كما جاءت (مِنْ) بمعنى (على) (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ) وإليه ذهب الفراء، والثالث: أن يكون في موضع نصب على الحال قال الزمخشري

أي إلا والين أو قوامين عليهم من قولك كان فلان على فلانة فمات عنها. الرابع: أن يتعلق بمحذوف يدل عليه؛ غير ملومين قال الزمخشري؛ وكأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم .. ونقل بعضها الآلوسي وزاد عليها. وذكر العكبري: أن على أزواجهم لا يجوز تعلقها بـ ملومين لأمرين: الأول: ما (بعد) أن لا يعمل فيما قبلها والثاني: المضاف إليه لا يعمل فيما قبله. ويرى الفراء وتبعه ابن مالك بأن (على) بمعنى (مِنْ) كما استعملت (من) بمعنى (على) في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ). أقول: لعل تضمين (حافظون) معنى (خافون) فإنما يفيد الستر والحفظ الذي أومأ إليه السياق والمتعدي باللام وصلة (عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) متعلقة بملومين الذي يتعدى بـ (على). حفظ القلب بحفظ الجوارح من فتنة التطلع لغير الحلال، وطهارة البيت هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع ومحضن الطفولة من الفساد الناشئ عن كشف العورات لينشأ الناشئة في طهارة وأمن وستر. فهم يخفون لفروجهم فلا يكشفونها إلا على أزواجهم أو ما ملكته أيمانهم فهم غير ملومين من كشفها عليهن، وبذلك تتوثق العلاقة بين المضمن والمضمن فيه، ويتوثق الحفظ مع ستر العورة وخفيتها ولا يخالف أوضاع اللغة ولا ينافرها ولا يحتاج معها إلى

(وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105)

تأويل، ولا إبدال حرف مكان حرف ويبقى التضمين سرا لطيفا من أسرار هذه اللغة الشريفة وفيها حياؤها ووقارها، شبابها وعاطفتها. فتزلَّف إليها لتتقمَّمها وتستضيء بمعانيها. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (2). ذكر العز بن عبد السلام: (حقيق) ضمن معنى (حريص) ليفيد أنه محقوق يقول الحق وحريص عليه وكذلك ابن قيم الجوزية. أما الزمخشري: فقد عدد وجوه القرآن فيها وقال: فيه أربع قراءات مشهورة (حَقِيقٌ عَلَى) قراءة نافع. و (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ) وهي قراءة عبد اللَّه و (حقيق بأن لا أقول) وهي قراءة أبي وفي المشهورة إشكال ولا تخلو من وجوه: أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس قال أحمد: القلب يستعمل في اللغة على وجهين: أحدهما: قلب الحقيقة إلى المجاز لوجه من المبالغة كقوله: * وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر * ومعناه: تشقى الضياطرة بالرماح، قال أبو حيان: وأصحابنا يخصون

القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ننزه القراءة عنه. الثاني: أن ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقا عليه، كان هو حقيقا على قول الحق أي لازما له. والثالث: أن يضمن (حقيق) معنى (حريص) كما ضمن هيجني معنى ذكرني. والرابع: وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام ولا سيما وقد قال له فرعون: كذبت. حين قال: إني رسول من رب العالمين فيقول: أنا حقيق على قول الحق. أي: واجب عليَّ قول الحق، أن أكون أنا قائله والقائم به. وقد أشار الآلوسي إلى أن (حقيق) صفة رسول، أو خبر بعد خبر. وقيل خبر مبتدأ محذوف أي: أنا حقيق وهو بمعنى جدير و (على) بمعنى (الباء) كما قال الفراء وعليه قول الهذلي وامرئ القيس و (على) تبقى على ظاهرها وهذا من قبيل تضمين الأسماء (حقيق) معنى (حريص) كما يتضمن الفعل معنى الفعل والمشتق معنى المشتق. وذكر السيوطي: (على أن) أي (بأن) وقال الفراء والطبري والطوسي: (على) بمعنى (الباء) وكذلك الموزعي.

وقال أبو حيان: قال قوم: ضمن (حقيق) معنى (حريص) وقال أبو الحسن والفراء والفارسي: (على) بمعنى (الباء) كما أن (الباء) بمعنى (على) في قوله: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ) أي على صراط ويشهد بهذا الوجه قراءة أُبي؛ (بأن لا أقول) قال الأخفش: وليس ذلك بالمطرد: لو قلت: ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز. أقول: الحرف لا يسلك مسلك التضمين لأن مفهومه غير مستقل بنفسه فمن قال (على) بمعنى (الباء) فتحاماه ولا تحفل به. وإلطاف النظر في مشتقه (حقيق) وهو من مبالغات اسم الفاعل يبعث على الكشف عما استودعه اللَّه فيه من أسرار كما يتفتح عن رصيده المذخور وإيحائه المتجدد فموسى عليه السلام يجد نفسه (أمينا على) تبليغ الحقيقة التي جاء بها هو وكل رسول قبله؛ حقيقة التوحيد والتي تقضي بزوال كل نظام غيرها. كما يجد نفسه (حريصا على) إعلان هذه الحقيقة في وجه الطاغوت وفي إعلانها تحرير الإنسان من الخضوع والتبعية والعبودية لغير الله. كما يرى نفسه ملزما بقول الحق، واجباً عليه أن يصرح بهذه الحقيقة وجوبا شرعيا، مهما كلفته من تبعات. وقد ملكت عليه جوارحه كلها فجمع التضمين الحرص والأمانة والإلزام والوجوب فأوعى، ونال بهذا مزية الإيجاز والإعجاز فأغنى. * * *

(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) أقول: لعل المراد من عدم الاستحياء هنا الكرم والفضيلة والتي تمنع من الوقوع فيما يعاب كما قال ابن جزي، وليس الذل والانكسار كما قال الجمل، ولا الترك اللازم للانقباض كما قال الآلوسي. فاللَّه من كرمه وفضله على عباده لا يمسك عن ضرب المثل بالبعوضة والنملة والعنكبوت لما فيها من حكمة، وما وراءها من بيان للناس وفائدة، فجاء تضمين (استحى) معنى (أمسك) والمتعدي بـ عن، و (أَنْ يَضْرِبَ) منصوب على نزع الخافض، ويبقى (أمسك) أسد من (امتنع) كما قال الآلوسي لأن الامتناع يوحي بحائل على اللَّه - حاشاه سبحانه أن يحول دونه حائل - جاء التضمين ليدل على جميل إحسان اللَّه على عباده بتفهيمهم وسائل الإيضاح هذه تبصيرا لهم وتنويرا. والعبرة في الصغير - بعوضة - كالعبرة في الكبير - السماوات والأرض -. لم جاء التعبير بلفظ الاستحياء ولم يرد بلفظ الإمساك؟ لعل في لفظ الاستحياء تطمينا لقلوب المؤمنين وإدخال الأنس إلى نفوسهم بأن ربهم حيي كريم يعرفهم على نفسه بصفاته ويضرب لهم الأمثال تطمينا لقلوبهم بما عرفوا من حكمته في كل ما يصدر عنه، ولا يعاب على ما مِنْ شأنه الاستحياء من ذكره وإغاظة لأعدائهم من منافقين ويهود ومشركين - حَمَلة التشكيك في المدينة المنورة - وإنهم لا يعرفون الأدب مع الخالق ولا

(يوم يحمى عليها في نار جهنم)

يرجون له الوقار في طرح السؤال: ماذا أراد اللَّه ... باشتمال علمه على المصلحة أو المفسدة كما قال الحسن البصري ويأتي الجواب صاعقة على رؤوسهم: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا). وكالندى على قلوب المؤمنين: (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا). وما كنا لنقف على هذه اللطائف السنية لولا التضمين، يزيل اللبس ويهدي السبيل، لائح كالنجم لا يغيب عن رائيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ). ذكر ابن هشام: فقد ضمن (يُحْمَى) معنى (يوقد) (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ). وقال الجمل: أحميتها أي أوقدت عليها لتحمى. وتساءل الزمخشري قائلا: فإن قلت هلا قيل: تحمى؟ قلت: إن النار يحمى عليها. أي يوقد، ذات حمى وحر شديد، ولو قيل: يوم تحمى لم يعط هذا المعنى. فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار لم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور أصله يوم تحمى النار عليها فلما حذفت النار قيل: يحمى عليها لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر بالتاء (تحمى) أ. هـ.

وجعل الآلوسي: الإحماء للنار مبالغة لأن النار في نفسها ذات حمى، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها ثم حذفت النار، وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه. وذهب الراغب: إلى أن الحمى: الحرارة المتولدة من الجواهر المحمية كالنار والشمس في نار حامية أي حارة. لم خص الذهب والفضة بالذكر؟ أقول: لا قيمة اليوم للأوراق النقدية في العملة المحلية لأي بلد إن لم يكن لها رصيد ذهبي فلا أقول أحميت على الفضة وإنما أقول أحميت الفضة فما اللطيفة فيها؟ أقول: المقصود أن يحمى على النار هذا الرصيد وأن يوقد على الأموال - من ذهب وفضة - نار ذات حمى وحر شديد لماذا؟ لتكوى بها جباههم ثم ماذا؟ ثم جنوبهم وأخيرا ظهورهم لأنهم بخلوا عن تجهيز الجند، وتلك اللطائف ذات الشفافية من المعاني الروحانية في هذه اللغة. هذا رجل من أهل الصفة من الصحابة حين مات وجدوا في ثيابه دينارا فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هذه كية من النار، كما وجدوا في إزار آخر دينارين فقال صلوات اللَّه عليه: هاتان كيتان. ها هي عملية إحماء الذهب والفضة قد تمت بعد أن أوقد عليها، ليبدأ بعدها العذاب الأليم للذين يكنزونها، ولا يُؤدُّون زكاتها. فلذة الكنز تنتهي إلى (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). وتبدأ بعدها عملية التذوق: بكي الجباه ... ثم كي الجُنوب ... وأخيرا كي الظهور، فإذا انتهى عذاب الجسد جاء بعده الترذيل والتأنيب. وصورة لمصائر مَنْ تَهيَّب من لقاء الروم في الحر الشديد، ومن بخِلَ في النفقة لتجهيز جش العسرة.

(وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (23)

فعل (حمي) لا يتعدى بـ (على) نقول: حميت الذهب أو سواه، فتضمين الإحماء هنا معنى الإيقاد فتعدى تعديته، قَالَ تَعَالَى: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) لماذا جاء الإحماء إذاً بدل الإلقاد لأن الإيقاد وسيلة الإحماء وأداته. والقرآن يتميز بإيجازه، فقد جمعت الآية كلا المعنيين الإيقاد والإحماء عن طريق الحرف (على) حين دخل على فعل لا يتعدى به، فتنبَّه لأمثاله لتظفر بمتناهٍ في حسنه وتجني ثمرة معناه. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (1) ذكر الزركشي: أخبتوا ضمن معنى (أنابوا) فعدي تعديته. وزاد عليه العز بن عبد السلام فقال: أخبتوا: تضمن معنى أنابوا وتابوا ليفيد أنه جمع بين التوبة والتواضع. أما الزمخشري: فقد أفاد أن أخبتوا يعنى اطمأنوا وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع، من الخبت: الأرض المطمئنة ومنه قولهم للشيء الدنيّ: الخبيت. ينفع الطيب القليل من الرزق ... ولا ينفع الكثير الخبيت التاء بدل الثاء، وذهب الآلوسي: إلى أن أصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه ومنه الخبيت الدني. ونقل القرطبي عن ابن عباس: أخبتوا: أنابوا، وعن قتادة: خشعوا

وخضعوا، وعن مقاتل: أخلصوا، وعن الحسن: الخشوع للمخافة الثابتة في القلب. وقال الجمل: فإذا قلت: أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه. وإذا قلت: أخبت له فمعناه خضع وخشع. أقول: الإخبات: الخشوع (متعدٍ باللام) - السياق يعرض صورة لصفة من صفات أصحاب الجنة وفي مشهد من مشاهد القيامة: الذين أخبتوا إلى ربهم. والإخبات يتعدى باللام فعداه ربنا بـ (إلى) ليتضمن معنى الركون والتواضع والاطمئنان من غير تشك ولا قلق، بل مع هدوء نفس وسكون قلب، وأمنٍ واستقرار، ورضىً وتسليمٍ لكل ما يأتي به الله. فقد جمع التضمين إلى المحسوس - وهو المنخفض من الأرض المطمئنة - كل المعاني النفسية التي ذكرتها فاستولى بذلك على الفضل وحاز بحسن الصنعة: الرياسة والنُّبل، وهذا من عناية العرب بألفاظها، وتَسانُدِها إلى سليقتها. ولو قال: أخبتوا لربهم لما خرج الفعل عن معنى الخضوع ولجفّ الثرى ويبس ما كان مخضرا. وهذه من وظائف التصوير الفني الذي يغلب على أسلوب كتاب اللَّه الكريم في تعبيره المعجز حين جمع التضمين إلى المحسوس: المعقول والمدرك، فنال روعة الفن، واستدعى إعجاز البيان. * * *

(فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79)

قَالَ تَعَالَى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (1). ذكر ابن جني: شبه الجملة إذا متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير. فهو لا يجيز تعليقه بفعل خرج. وخرج يتعدى بـ (مِن): (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا) تضمن معنى انسل. (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ) تضمن معنى برز. ويتعدى بالباء: خرج به أي أخرجه - فتضمن اللازم معنى المتعدي. ويتعدى بـ (عَنْ): خرج عن حقه لأخيه - تضمن معنى تنازل. ويتعدى بـ (على): خرج عليه - تضمن معنى نبذ طاعته. أقول: وهنا تعدى بـ (على) ولكنه تضمن معنى (ظهر) و (تطاول) و ... مشهد يتطاول فيه البغي معرضا عن النصح، مصرا على الفساد، مغترا بماله، متعاليا في زينته. مشهد يتشهاه المحرومون والمبهورون والمأخذون بحب الدنيا وفتنتها وزينتها، وأما (في زينته) فمتعلقة بحال محذوفة (متعاليا) كما رأيت ويستعلى آخرون بإيمانهم على المنصب والجاه والمال والزينة (وَقَالَ

(تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه)

الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ). وهكذا يبقى الفعل (خرج) مطلقا من غير قيد سانحا في مسارح النظر حتى يخصصه الحرف المتعدي به، والسياق الذي ورد فيه فيما هو أليق، وأوفق لمراده ويأخذ فيه الناظر إلى أنحائه ومصارفه فيما يتأتى له ولا يتعسفه. وللعرب في ألفاظها دلالات تقضي بها حوائجها وأغراضها. إنه التضمين يحدد مسار الفعل ويفتح للنص آفاقاً تعين على إدراك المزيد من احتمالاته، حروف المعاني تتحكم في توجيه معناه، فمن تفطن لها، تنكشف له أسرارها. * * * قَالَ تَعَالَى: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) قال السيوطي: أي في تسع آيات. وذكر أبو حيان: (في) بمعنى (مع) وقال الزجاج: (في) بمعنى (مِنْ) تقول: خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. والظاهر أن (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف تقديره: اذهب. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون: ألقِ عصاك، وأدخل يدك. في جملة تسع آيات أو إحدى عشرة، ثنتان منها اليد والعصا. فعلى الأول اليد والعصا داخلتان في التسع وعلى الثاني تكون (في) بمعنى (مع). وأورد الجمل: كذا فعل ابن عطية أعني أنه جعل (فِي تِسْعِ) متصلا

بـ ألقِ وأدخل إلا أنه جعل اليد والعصا من جملة التسع، وقال: تقديره يمهد له ذلك وينشره في تسع آيات، و (في تسع) في محل نصب متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير تخرج، وقد صرح بالمحذوف في سورة طه: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) وفي السمين: (في تسع) فيه أوجه: أحدها: أنها حال ثالثة من فاعل تخرج، الثاني: أنها متعلقة بمحذوف أي اذهب في تسع، والثالث: أن يتعلق بالقِ عصاك وأدخل يدك. أقول: ألحرف (في) على أصله ليس بمعنى (مع) ولا بمعنى (مِنْ). فالموقف في مواجهة الطغيان عصيب ولكنه واثق من النصر بعد المعجزة الأولى في عصاه وما يجهزه به مولاه الآن من (وَأَدْخِلْ يَدَكَ) لتعود بيضاء من غير سوء، وتعود آية شاخصة للعيان كشف له عن ثنتين وسيكشف لرسوله صلوات اللَّه عليه عن الباقيات في سورة الأعراف. فتضمين (تخرج) معنى (تعود) أسد وأحكم من تأويل حال محذوفة، أو تعليق الجار والمجرور بفعل محذوف تقديره يذهب أو ينشر أو يمهد أو ... وتضمين الحرف معنى الحرف يُذهب الأَنسَة التي في الفعل (تعود)، والحسن الذي حواه لأن الحرف لا يقوم معناه بنفسه، فكيف يتضمن معنى سواه؟! وها نحن في تضمين (تعود) نبصر إيجابية صفات اللَّه وفاعليتها في إعادة التكوين (بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) منارة تضيء للروح كلما أظلمت أو أعتمت

(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوع

فإذا بها ذَوْب روح يتندى من الرفيق الأعلى، فجمع التضمين المعجزتين: آية القدرة في العودة مع آية الإبدل في الخروج في لحظة واحدة ليكشف عن حقائق التأويل في أسرار التنزيل في الموكب الممتد في شعاب الزمن. وكذلك كبراء قريش كعاقبة فرعون يستقبلون القرآن مستيقنين أنه الحق، ولكنهم يجحدونه، لأنهم يحسون بالخطر على وجودهم ومصالحهم. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (1) يسأل الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه. قال: فما معنى اللام في خرَّ لذقنه ولوجهه؟ قلت جعل وجهه وذقنه للخرور واختصه به؛ لأن اللام للاختصاص. ويرى أبو حيان: وضع الجبهة على الأرض غاية الخرور ونهاية الخضوع وأول ما يلقى الأرض حالة السجود الذقن أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شي ببعض ما يلاقيه. ويرى الطبرسي: أن اللام بمعنى (على) نقلا عن ابن عباس وقتادة. وذكر الزركشي: أنها بمعنى (على). وذكر الجمل: للأذقان: أي الوجوه، واللام بمعنى (على) أو على بابها متعلقة بـ يخرون بمعنى (يذلون) وخصت الأذقان بالذكر لأن الذقن أول جزء من الوجه يقرب الأرض. وذكر الموزعي: اللام بمعنى (على).

أقول: وفي جو من الخشوع وفي حالة من الشعور ممن أوتوا العلم وهم يسمعون تلاوة من كتاب اللَّه المبين، لا يملكون معه أنفسهم فيذلون ويخضعون يخرون للأذقان سجدا. لا يسجدون وإنما يخرون سجدا. وتقصر الألسنة عن تصوير المشاعر وتضيق الألفاظ عن وصفها فتشاركها العيون المليئة بالدمع معبرة عما تكنه الصدور، وألسنتهم تلهج بالتسبيح، يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم هذا الحال خضوعاً وذلة وخشوعاً فوق خشوع اللب والقلب. وفي إطار هذه الحالات الشعورية الغامرة تختلط المشاعر فتختلط معها الحواس. واختيار اللام جاء لخدمة تصوير المشهد حين تضمن (يخرون للأذقان) معنى (يذلون ويخضعون) فما كان سجودهم عن وعي كامل منهم، فهم لا يسجدون وإنما يخرون للأذقان سجدا، وسرعة السقوط هذه تتفق مع سرعة النطق باللام المكسورة، ولا تتأتى لـ (على) في ثلاثة حروف آخرها مدّ يمتد فيه النفس، وغاية الخرور: السرعة لتحقيق معنى العبودية في لباس التذلل والخضوع، وفي تصاقب الخرور مع البكاء يخرون، يبكون، وتداني حالَيْهما يجعل (اللام) أظهر من (على) في سفور المعنى، وأنوه لبيان المقام، ألا ترى أن هذا المقام يقل معه الكلام ويحذف فيه أحناء المقال! إن في جِرس هذه الحروف وخفقات إيقاعها السارب في النفس دلالات على تركيبها المعجز في النظم. إنه التضمين وهذه ثمراته. * * *

(واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37)

قَالَ تَعَالَى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (1). ولا تدْعُني في شأن قومك، واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، فقد ضمن (خاطب) معنى (دعا) حكاه الزمخشري. وضمنه الآلوسي (راجع) فقال: لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم، وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل ولا تدعني فيهم، وأكد التعليل (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فلا سبيل إلى كفه. أقول: انتهى الإنذار، وانتهى وقت الجدل، فلا تحفل ولا تبتئس فقد تقرر مصيرهم وانتهى الأمر فيهم، ولعل تضمين (خاطب) معنى (آمر أو راجع): لا تراجعني فيهم، ولا تؤامري فيهم، أقيس لتعدّيه بالباء ويشهد السياق على صحته فنهيهُ عن مؤامرته في أمر الظالمين يقطع الطريق في استدفاع العذاب عنهم، والالتماس في شأنهم. واختيار الحكيم سبحانه لفظ (خاطب) دون سواه ليكون أعم وأشمل وليقطع لسان كل متحدث في شأنهم، سواء كان مراجعا أو مُؤامرا، أو داعيا، أو شافعا، أو ملتمسا، أو ...

(والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)

ويبقى التضمين مصدر إغناء للمعنى وإثراء فاشددْ عليه يدك للأَنسَة التي فيه، فهو كثير التَّوْق إلى جمع اللطائف، قوي المُنة في البحث عنها. * قد ناق في المجد ذويه * * * * قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (1). قال أبو السعود: يأتي الفعل لازما أو متعديا: اللازم متضمن معنى انفرد والمتعدي أفرد. فالفعل متعد وصيغة الافتعال للإنباء عن الاصطفاء، والفعل لازم و (مَن) فاعله، والضمير العائد إلى (مَن) محذوف مقدر أي ينفرد برحمته من يشاء. وقال الجمل: يستعمل متعدياً ولازماً فعلى الأول يخص وعلى الثاني يتميّز. وذكر أبو حيان: يحتمل أن يكون يختص لازما أي على تضمين ينفرد أو متعديا على تضمين يُفرد. أقول: السياق يُلوح بتعدي الفعل لما اختص اللَّه به محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين من فضله واصطفاهم لعلمه بأنهم أهل هذه الخصوصية وهذا الفضل، وأفردهم برحمة منه ليكونوا على حذر من أضاليل يهود، وما يُخفونه من حقد دفين على المؤمنين حسدا على ما اختاره الله لهم من تحويل القبلة من بيت المقدس - قبلة اليهود ومُصلَّاهم - إلى البيت الحرام.

ولو ضمنا (اختص) معنى (انفرد وفاز) على اللزوم لكان المعنى: ومن شاء من العباد أن ينفرد برحمة ذي الفضل العظيم فليس أعظم من هذه النعمة، نعمة الإسلام. وفي هذا التوجيه ما يستجيش في حس العبد وقلبه الشعور بعظيم فضل الله، وجزيل إحسانه أن يترك له باب الاختيار مفتوحا ليلجه متى شاء، ومن شاء ممن رضي باللَّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا. وحين يشي السياق بتعدد فُهومه، فقد دل على عُلو قدره وسَنا مرتبته: به فنون المعاني قد جُمعن فما ... تفتر من عجب إلا إلى عجب وتلك اللطائف الخفية في هذه اللغة الشريفة، تملأ الطرف ويعجز عنها الوصف أسْفَرَ عن محاسن وجهها التضمين في الكتاب المبين، فاستروح إليه وتعقل به كلما تاقت نفسك له أو مسّتْك الحاجة إليه. * * *

(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (1). ذكر العز: وتخشى مضمن معنى (تستحي الناس). عادة جاهلية متأصلة عميقة الجذور في المجتمع، رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مندوب لتقرير قاعدة جديدة (إحلال مطلقات الأدعياء) نزلت في زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها، لتحطيم الفوارق الجاهلية الموروثة، فزيدٌ من الموالي تبناه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وزوّجه زينب ابنة عمته ليبطل هذه العادة. ضريبة باهظة ما كان سواه صلوات اللَّه عليه قادرا على احتمالها، يواجه بها مجتمعه الكاره لها، ويتوجَّس من مواجهته بها ولم تكن الآيات قد نزلت بها بعد. وقال الراغب: الخشية: خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خُص العلماء بها (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقال الآلوسي: تخاف من اعتراضهم، وقيل: تستحي وقال البروسوي: إشفاقاً منه عليهم ورحمة بهم، وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة. أقول: لعل التضمين وقع من حيث صَرَف الخشيةَ إلى الناس، وإنما يُصرفُ إلى الناس الحياء. والخشية محصورة باللَّه عز وجل. فقد ضمن الخشية الحياء فعداه بنفسه والحياء يتعدى بحرف الجر (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ

(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (

الْحَقِّ). ولولا هذا الملحظ الشرعي في المشترك اللفظي (تخشى) والذي دل عليه وجه من التأويل ولا يستقيم المعنى بدونه، لما بدت لنا محاسن التضمين، وقد جاء مدلولا عليه بغيره، غير مكشوف عن وجهه، ذاهبا به مذهب التعريض والتلميح، فإيثار الخشية على الحياء كان توجيها منه سبحانه إلى عباده أن يصرفوا الخشية إليه وحده فهو مختص بها، واختصاصه بها ينفي ما عداه، فلا يجوز أن يشترك معه سواه، فللَّه عاقبة التضمين، يُذهب اللبس، ويُزيل العوائق، ويهدي السبيل. * به تُدفَع الجُلّى ويُجبَر الكسرُ * * * * قَالَ تَعَالَى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (2). قال الراغب: المخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. أ. هـ. وخالف يتعدى بنفسه وبـ إلى وحين عُدي بـ (عَنْ) تضمن معنى صدَّ أو أعرض. وإذا قال ابن عطية: (عن) هي لما عدا الشيء، أن يقع خلافهم بعد أمره، كما تقول: كان المطر عن ريح. فقد قال أبو عبيدة والأخفش: (عن) زائدة نقل ذلك أبو حيان. وذكر الزركشي ....................

والعكبري: تضمن يخالفون معنى يميلون أو يعرضون أو يعدلون أو ينحرفون أو يزيغون. وقال الزمخشري؛ يصدون وهم المنافقون فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالَف. وأما المخالف عنه: فهو اللَّه أو رسوله والمعنى عن طاعته ودينه. وذكر الموزعي: أن (عن) بمعنى (بعد). وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة والمعنى يخالفون بعد أمره كما قال امرؤ القيس في معلقته: وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل وذكر الآلوسي: أكثر استعمالها بدون (عن) فإذا ذكرت (عن) فعلى تضمين معنى الإعراض، وقيل: الخروج - يخرجون عن أمره - ونقل عن ابن الحاجب معنى التباعد والحَيَد أي يحيدون عن أمره بالمخالفة وهو أبلغ من يخالفون، وحذف المفعول لقبح حال المخالف وتعظيم أمر المخالَف عنه. وذكر الجمل: و (عن) إما لتضمينه معنى الإعراض أو حمله على معنى يصدونه عن أمره دون المؤمنين. مِن: خالفه عن الأمر: إذا صد عنه. أو تكون (عن) زا ئدة. أقول: تعبير التسلل يتمثل فيه الجبن عن المواجهة، وحقارة الشعور المرافق له في النفوس وأما (عن) بمعنى (بعد) فتحصيل حاصل، فهل تُعَد مخالفا قبل إصدار الأوامر؟! وأما ما ارتضاه أبو عبيدة والأخفش من زيادة عن فقد عَزُب عنهما غرضه لدقته ولُطفه، فلو أسقطنا الحرف لَتجافَى الفعل عن معناه وزال عنه أجمل ما فيه، ولن نُعيد إليه ما كان له من الحسن واللطف حتى نرد

عليه ما أسقطناه عنه. وقول الزمخشري: تضمَّن معنى (يصدون) وهم " المنافقون " فالسياق يدل على توجيه الخطاب لكل من كان حول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الخندق من منافقين ومرجفين ومثبطين ومؤمنين فتخصيص العموم غير وارد. وما ذهب إليه ابن الحاجب في تضمينه معنى (حاد) فقد كان في منتهى الفقاهة في تصوير الحالة النفسية للنماذج البشرية حول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والتحذير الرهيب من اللَّه أن تصيبهم فتنة في الدين أو الدنيا أو عذاب أليم في الآخرة، التحذير لا لمن خَالف الأوامر، أو صد، وإلا لقال: يخالفون أمره. وإنما لمن حاد عنها، والحيدان أدنى درجات المخالفة عن المنهج الرباني والسنة المطهرة. وبهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب، لأن اللَّه حذر من مخالفة أوامره ونواهيه في الحدود والآداب والأخلاق في سورة النور هذه وتوعد بالعقاب عليها بفتنة تختل فيها الموازين ويختلط الحق بالباطل ويشقى بنارها الجميع فإن كان التحذير هو من الحيدان فلم جاء التعبير بالمخالفة؟ أجيب: الحيدان قد يكون عن سهْوِ وغفلة، وهذا يرده إلى الصواب التنبيه. أما المخالفة فإنها تصدر عن تصميم وقصد وعدم مبالاة بالأوامر شأن المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بغير إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفي ذلك يكمن الخطر. تلك الآداب التي تنتظم بين أفراد الجماعة يستقيم أمرها بوقار قائدها وهيبته. وباستقرار هذه المشاعر في أعماق ضميرها تصبح قانونا نافذا في حياتها، وإلا

(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)

أصابتهم فتنة يختلط فيها الحق بالباطل ولا يتميز خير من شر. أرأيت إلى التضمين في توجيهه للمعاني عند تقرير حال أوضاع الحروف؟ وكيف تسري أحكامها في أحناء الجملة وحواشي التركيب؟!. وإنما يفطن له من دُفع في مسالكه وصدق القائل: * وتحت الرُغْوة اللبنُ الفصيح * * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (1). المعنى: لست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه. يقال: خالفني فلان إلى كذا، إذا قصده وأنا مولٍّ عنه، وخالفني عنه: إذا ولَّى عنه وأنا قاصده. حكى أبو حيان. ومثله الزمخشري فقال: يلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأل عن صاحبه فيقول: خالفني إلى الماء يريد أنه ذهب إليه واردا وأنت عنه صادراً. ومنه قوله سبحانه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى) يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم. تتعلق (إلى) بمحذوف: أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه. ولذلك قال بعضهم: فيه حذف يقتضيه (إلى) تقديره: وأميل إلى أو يبقى (أَنْ أُخَالِفَكُمْ) على ظاهر ما يفهم من المخالفة ويكون في موضع المفعول به لأريد وتقديره: مائلا إلى، أو يكون (أَنْ أُخَالِفَكُمْ) مفعولا لأجله وتتعلق (إلى) بقوله: وما

أريد بمعنى وما أقصد أي على التضمين، وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. وذكر الآلوسي: في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور، أي وأميل إلى ... ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة، ويكون أن وما بعدها في موضع مفعول به لأريد ويقدر: مائلا إلى ... أو يكون (أن) وما بعدها في موضع المفعول به و (إلى) متعلق بـ أريد، أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه. وأما أبو السعود فقال: ضمن (أريد) معنى (أقصد) فعداه بـ (إلى). أقول: شعيب عليه السلام يكرر نصحه للذين مردوا على الانحراف في السلوك والفساد في التعامل والاستغلال في الكسب في البخس والتطفيف، وهو تاجر مثلهم وقد رزقه اللَّه الرزق الحسن المبارك، فإذا نهاهم عن الغش في الميزان والمكيال فلا يمضي من خلفهم ليفعل ما نهاهم عنه من ألوان الفساد، فقد ضمن (أراد) معنى (قصد أو ابتغى) والمتعدي بـ (إلى) فصار المعنى وما أقصد ولا أبتغي إلى ما نهيتكم عن مخالفتكم إلى البخس في المكيال والتطفيف في الميزان لأحقق لنفسي نفعا، وبعض المخالفات لون من ألوان المخادعة والمداورة والمراوغة. الالتزام بالعقيدة والمسعى الطيب، والخلق القويم، إنما يُفوت الكسب الخبيث، يُضيع الفرص القذرة، معوضا عنها بالكسب الطيب والرزق الحلال. والمجتمع الصالح النظيف لا غَدْر فيه ولا غش ولا رَوَغان.

(وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم)

وجاهلية اليوم تتهم الذين يربطون العقيدة بالسلوك الشخصي والتعامل المادي، بالرجعية والتخلف، فما علاقة الدين بالربا والاقتصاد الحر؟! فلْيُروج بضاعته بأي أسلوب شاء (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)؟! هكذا سخر منه قومه كما يسخر اليوم الكفرة الفجرة: وهل يقوم اقتصاد على غير قواعدَ ربوية؟! نعوذ باللَّه من العمى بعد الإبصار. إنه التضمين ... وفي مطاويه من أسرار المعاني ما لا تراه في غير هذه اللغة الشريفة. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) (2). جاء في اللسان: خلا إليه مال إليه والميل العدول إلى الشيء والإقبال عليه. وفي مفردات الراغب: خلا به: سار معه في خلاء، وخلا إليه: انتهى إليه في خلوة. وفي معالم التنزيل: (إلى) بمعنى (الباء) وقيل بمعنى (مع). إذاً فعل (خلا) يتعدى بالباء والى ومع، إلا أن أبا حيان قال: إذا تعدى بالباء احتمل معنيين: أحدهما الانفراد والآخر السخرية، ولا يحتمل إلا معنى واحداً إذا تعدى بـ (إلى). وذلك بتضمينه معنى صرف أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم وفي الآية (76) في البقرة: [(وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)] قال: الأوْلى أن يضمن فعل خلا معنى فعل يتعدى بـ (إلى) أي: انضوى واستكان، لأن تضمين الأفعال أوْلى من تضمين الحروف. ونص ابن كثير: على تعاقبها مع

(مع) لكنه استحسن التضمين. أما الزمخشري: فجمع المعنيين السخرية والإنهاء فقال: أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها. وابن عاشور قال: خلا فعل قاصر ويعدى (بالباء واللام ومن ومع) بلا تضمين ويعدى بـ (إلى) على تضمين معنى آب وخلُص، ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه (افعل كذا وخلاك ذم). وذهب الرازي: إلى تضمينه معنى مضى ومنه (القرون الخالية) وضمنه الخازن معنى رجعوا و (إلى) بمعنى الباء أو مع، ونفى الطبري التعاقب هنا وجعل التضمين أصوب، وضمنه الشوكاني معنى ذهبوا وانصرفوا وضمنه الزركشي معنى انصرفوا وقال: التضمين أولى من معنى الباء أو مع. أقول: ولعلي أميل إلى تضمينه معنى (خَلُص) لأن خلوة المنافقين كانت في خلوصهم إلى شياطينهم عند إيابهم ومرجعهم إليهم، على حين لقاءاتهم بالمؤمنين لمحات عابرة وسريعة. نفهم هذا من سياق الآية (وَإِذَا لَقُوا) لقاءٌ عابر وسريع وأسلوب المنافقين أن يستتروا عن الأعين فهم بحاجة إلى خلوة، وجاء اللقاء بالمؤمنين في جملة فعلية ليفيد الحدوث الخاطف، ومع الشياطين في جملة اسمية لتفيد الثبوت والاستمرار. أو تضمين (خلا) معنى (أوى وسكن) أو (ضوى)

(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76)

لأنهم يلقون الراحة في الإيواء إليهم بدليل قولهم (إِنَّا مَعَكُم) فخُلوّهم إلى شياطينهم يجدون السكينة في معيتهم، ويبقى التضمين صاحب فضل بتأليق المعنى في صورة تستهوي القارئ الفطِن، وتستولي على النفس الزكية. فلولا (إلى) هذه لما انكشفت لنا خِسة المنافق وقذارة نفسه الدنية، بلقائه العابر والخاطف بالمؤمنين واستكانته وراحته وخلوصه إلى شياطين الإنس من الكافرين. المؤمن يتصرف في النور والمنافق حريص على العَتَمَة، يتصرف خفاءً لئلا يراه أحد يهْتبل خلوةَ لِيَضْوى إلى شياطينه يَخلُص إليهم، وتسكن روحه وتطمئن وبهذا يُخفى قبحه ويستر جريمته، لأن أحداً لا يرضى عن عمله ... أرأيت كم في (إلى) مع فعل (خلا) من إعجاز! إنه التضمين وإنه لكنز دفين، يومئ ولا يُبيح، يُلمح ولا يُصرح، يُكِنُ ولا يُعْلِن، يُخافت ولا يجهر. سلسل قليلا إنما ... سرعان ما يتمنَّعُ * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (2) حكى أبو حيان: الأوْلى أن يضمن فعل (خلا) معنى فعل يتعدى بـ (إلى) أي (انضوى واستكان) لأن تضمين الأفعال أوْلى من تضمين الحروف.

وقال القرطبي: لمَ وُصِلَتْ بإلى وعُرفُها أن توصل بالباء؟ قيل: خلَوْا هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا وقال قوم: (إلى) بمعنى (مع) وفيه ضعفٌ، وقال قوم: (إلى) بمعنى (الباء) وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وفي هامش الجمل: ضمن السيوطي (خلا) معنى (رجع). وقال عبد الفتاح الحموز: الفعل خلا يتعدى بـ (مع) ويجوز أن يُضمن معنى (انضوى). أقول:: فعل خلا يتعدى بالباء. خلا به: انفرد به. ولعل تضمين (خلا) معنى (ارتاح إليه وسكن) أقرب إلى السياق، فخُلوّهم إلى بعض يجدون السكينة والطمأنينة والارتياح، وفي خلواتهم هذه ما شئت من وسائل الكيد والفتنة، يُحذرنا اللَّه منها حين يكشفها لنا. وتلك جبلتهم وما نلقاه من شرورهم بل وما يلقاه العالم كله منهم من نقضٍ للمواثيق ونكول عن العهود، وجدالهم بالباطل وتحريفهم لنصوص كتابهم ومخالفة شريعتهم. وهاهم المسلمون اليوم يعانون من مكرهم ودسائسهم وعدوانهم ما عاناه أسلافهم من قبل. أين المسلمون الذين ينتفعون من هدي القرآن في ردّ كيد يهود ومكرهم؟ بل والقضاء عليهم ويهود اليوم يبذلون الكثير لصرف المسلمين عن كتابهم بكل الوسائل كي لا يكون مصدرا لقوتهم من جديد، وكل مُعادٍ للإسلام أو صارف عنه حتى ولو كان من بني جلدتنا تحت أي شعار كان: فهو يهودي أو من عملاء يهود وسيبقى يهود مستمتعين بنعمة الأمن ما دام المسلمون غافلين عن فريضة الجهاد، أو متثاقلين.

(واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا)

ويبقى الفضل في توجيه المعنى للحرف الذي لا يتعدى به فعله، فيتصرف في تضمينه وتوجيهه في مسارح النظر حَسْب ما يرشد إليه الدليلُ ويشهدُ على صحّته القياسُ والنظر. * له أنجمٌ في فنّة زُهْرُ * * * * قَالَ تَعَالَى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا) (1). ذكر ابن القيم: اخترت: أصله أن يتعدى بحرف الجر (مِنْ) لأنه يتضمن إخراج شيء من شيء، وجاء محذوفا في هذه الآية لتضمن الفعل معنى فعل غير متعدٍ كأنه (نخل قومه وميزهم) فمن هنا أسقط حرف الجر واللَّه أعلم كما أسقط في (أمرتك الخير) أي ألزمتك وكلفتك وذكر الزمخشري: من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل. وقال الآلوسي: اختار يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بـ (مِن) وقد حذفت هنا وأوصل الفعل، ونحوه قول الفرزدق: منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا هبت الرياح الزعازع - وسبعين رجلا - مفعول أول وأُخر عن الثاني لما مر مرارا. وذكر أبو حيان: أن اختار افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء وهو من الأفعال المتعدية إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر وهي مقصورة على السماع (اختار - استغفر - أمر - كنّى - زَوَّج - صدّق) ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل. اخترت زيدا الرجال. قال الشاعر:

اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم ... واعتل من كان يُرجى عنده السول وسبعين هو المفعول الأول وقومه هو الثاني وتقديره: من قومه. ومن أعرب قومه: المفعول الأول وسبعين بدلا منه فإعرابه فيه بُعد وتكلف. وإلا لقال: واختار سبعين رجلا من قومه. أقول: وتضمين اختار معنى (تخذ) يجعل القوم كلهم ممثلين في هؤلاء السبعين وهم شيوخهم وخيرتهم وخلاصتهم، ولم يجد موسى عليه السلام من يصلح للمَهمّة التي خرج إليها إلا هؤلاء السبعين، فاتخاذه لهم يغنيه عن سواهم. أما (نخل وميز) فيما اختاره ابن القيم من التضمين فيتعدى لمفعول واحد. ولو سأل سائل: لم جاء التعبير بلفظ اختار بدلا من تخذ؟ لأجبت: ليفيد معنى الخِيَرة في الاصطفاء والانتقاء. ثم من معاني (افتعل): الاجتهاد - كاكتسب: اجتهد في الكسب - ومعناه هنا أنه عليه السلام اجتهد في الانتقاء واختيار السبعين لتصلح هذه الخِيَرة حضور الميقات. فالتضمين جمع المعنيين. جاء التعبير القرآني اختار موسى قومه هكذا على العموم أي قومه جميعا ثم خصص فقال: سبعين، ليشير إلى أن هؤلاء السبعين هم القوم وهم الخلاصة ولا قيمة للعامّة ولا شأن للدهماء والرجراجة. أما كان إبراهيم يعدل أُمَّة؟ (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) فلو أعدنا (مِنْ) التي ادعى العديد سقوطها وانتصاب ما بعدها على نزع الخافض، لحرمتْنا من ارتشاف رحيق هذا البيان، وما فيه من خصائص الحكمة والإتقان، ولعشَت أعيننا عن سنَا إعجازه. إنه التضمين: هو كالهلال ملثماً ... والبدر حسناً إن سفر

(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)

ويلاه ما أحلاه إنْ ... كشفَ اللثامَ أو استتر فالقول بسقوط الحرف مرذول مُطّرح، ومقام زَلْخ، لا تُعطِ بيدك مع أول خاطر له، وكِلِ الحال إلى ملاطفة التأول وتأتَّ له ما استطعت. * * * قَالَ تَعَالَى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) (1) التدبير: التفكر في دبر الأمور والنظر في عاقبتها. أورد الجمل: (إلى) متعلقة بـ (يُدبر) لتضمنه معنى (يُنزل) أما الزمخشري: فقال: يدبر الأمر: يُنزله مدبرا من السماء إلى الأرض، والأمر: المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ونقل القرطبي عن ابن عباس قوله: ينزل القضاء والقدر، وقيل: ينزل الوحي مع جبريل، وقيل: إن العرش موضع التدبير وما دون العرش موضع التفصيل وما دون السماوات موضع التصريف. وقال البروسوي: إضافة التدبير إلى ذاته سبحانه إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره لا أثر له. والتدبير بالنسبة إليه تعالى هو التقدير وتهيئة الأسباب. وقال الآلوسي: والفعل مضمن معنى الإنزال، والجاران متعلقان به، و (مِنْ) ابتدائية و (إلى) انتهائية أي يدبره على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة مُنزلا له من السماء إلى الأرض. وقال ابن جُزي: يدبر أمر الدنيا بأسباب

سماوية نازلة آثارها إلى الأرض يراعي المصالح تفضلا وإحسانا، وقيل: يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك. أقول: من وحي التدبير وفي ظلال خلقه للسماوات والأرض وما بينهما، وفي الاستعلاء المطلق على هذا الخلق (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) يُطرح سؤال: أين الولي من دونه؟ أين الشفيع الخارج على سلطانه؟ ويأتي الجواب: لا أحد مخلوق عبثا ولا شيءَ متروك سُدى، إلا ويد التدبير ظاهرة في خلقه أفلا تتذكرون!. كل شيء حيثما امتد البصر متقن الصنع، بديع التكوين، يتجلى فيه الإتقان والتدبير. يرسم التعبير القرآني منظوراً شاملاً ضخماً من السماء إلى الأرض بكلمتين اثنتين: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يمنح المؤمن رصيدا ضخما من ذخائر الكمال والجمال ليتملى آيات الإحسان المنبثقة من جمال صَنُعة الخالق. ويعرض صفة الألوهية في صفحة الوجود والهيمنة على الكون في أوجز وأعجز تعبير: - يدبر الأمر - ومجال تدبيره أوسع وأشمل من السماء والأرض. هذا التدبير لامر السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من خلائق، لا يعلمها إلا هو، يتضمن: (التنزيل)، و (التقدير)، و (التنسيق)، و (التفصيل)، و (التصريف)، و ... وما تتسع له العبارة ... ذلك هو اللَّه (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وهذه صفات أُلوهيته: صفة الخلق، والتدبير، والقدير، والإحسان، والإنعام، والإتقان، و ... ولا يُدركُ قلب المؤمن هذه الآفاق إلا حين يستيقظ من ملالة الإلف والعادة، ويبصر بنور اللَّه جمال هذا الوجود وفق ما يريده له مبدعه، ووقتها يحس بالصلة بين المبدع وما أبدع، والمدبر وما صنع.

(فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي (30)

وللقارئ البصير أن يفهم من السياق بعد ذلك ما يكشف عن كنه العبارة (يُدَبِّرُ) ويتصور المقصود فيما تضمنته من رصيدها الزاخر وإيحائها المتجدد، أوسعْته عيون تطمح فيه لفضلٍ يرجع إليه، ويقضي بتفرده وصمديته. أجل ... الوقوف على المعنى الحرفي من أسباب القصور في الفهم لأنه يُهمل المعنى الدلالي والذي فيه المعنى الوظيفي والمعنى الاجتماعي و ... وهذا موضع متناهٍ في حُسنه، فأبَه له، وحاذِرْ ألا يستطيل نظرك إليه لِتشتفَّ من أنواره. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) (1). قال الزركشي: وتجيء (في) بمعنى (مع) نحو (فادخلي في عبادي) وذكر الجمل عن الكرخي مثل ذلك وقال أبوحيان: تعدى ادخلي أولا بـ (في) وثانيا بنفسه لأنه إذا كان المدخول في ظرف غير حقيقي تعدت إليه بـ (في) نحو: دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس. وإذا كان المدخول ظرفا حقيقا تعدت إليه بغير واسطة ومثله قال الجمل. وذكر الفارقي: فأما دخلت البيت فإن البيت مفعول تقول: البيتَ دخلتُه، فإن قلت: فقد أقول دخلت فيه - قيل: هذا كقولك عبد اللَّه نصحت له ونصحته. ألا ترى أن دخلت إنما هو عمل فعلته وأوصلته إلى الدار لا

يمتنع منه مثل ما كان من الدار، تقول: دخلت المسجد ودخلت البيت، قال اللَّه عز وجل: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فهو في التعدي كقولك: عمرت الدار وهدمت الدار. فأما دخلت فإنها عند سيبويه لا تتعدى، وإن قولهم: دخلت البيت إنما على حذف حرف الجر كأنه أراد دخلت إلى البيت أو في البيت، وحُذف حرف الجر. وفيه دليل آخر هو أن تقول: دخلت في الأمر ودخلت في السلم وما جرى مجراه، ولا يجوز حذف حرف الجر وإنما يحذف الظرف، فلو كان متعديا لجاز أن يتعدى إلى هذا بغير حرف. أ. هـ. أقول: يا أيتها النفس المطمئنة ... هكذا في روحانية وتكريم ... في ثناء وتطمين ... المطمئنة: المُخْبتة المنيبة ... ارجعي بعد غربة ... فادخلي في المختارين ... وادخلي جنة النعيم ... جنة الخلد الندية. لعل تضمين فادخلي في عبادي معنى: فاسلكي في عبادي واندمجي فيهم وانتظمي في سلكهم. يُعفينا من تضمين الحروف (في) بمعنى (مع) والسلوك هو الدخول فلمَ عدل عن السلوك إذاً؟ السلوك معناه المرافقة المؤقتة والعابرة أما الدخول فالمراد به الاستقرار والاندماج والمعايشة فالتضمين جمع المعنيين وفاز بالحسنيين، السلوك مع الأبرار، مع الاستقرار في دار الأخيار، دار النعيم المقيم ... بأنفاسها النديَّة والرضيَّة. * * *

(ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه)

قَالَ تَعَالَى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) (1). قال السيوطي: أي في حين غفلة ضمن (دخل) معنى (سلك) قال تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) وقال (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) قال الموزعي وابن عقيل وكذلك الأشموني والزركشي والأزهري وابن هشام والفراء والسيوطي: (على) بمعنى (في). وذكر الجمل: قوله على حين غفلة حالا من الفاعل أي مختلساً أو من المفعول. أ. هـ. كرخي. وقال الآلوسي: فالظاهر أن (على) بمعنى (في) قال الأعشى: - وصل على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان واللَّه فاحمدا - وقال الرازي: ودخلها يوما على حين غفلة من أهلها والأكثر وقت القيلولة في منتصف النهار. أقول: وهكذا يلجؤون إلى تضمين الحروف (على حين) بمعنى (في حين) ولو رجعنا إلى السياق في مورد الحرف لآنسَنا في الدلالة على معناه وأرشدنا إلى سر اختياره، لقد دخل موسى عليه السلام المدينة يتحين الغفلات من أهلها كي لا يشعر بدخوله أحد، فولوجه على ترقب، متحيناً

غفلة أهلها (فالدخول) تضمن معنى (الحلول والولوج) والمتعدي بـ (على) وهاهو زكريا عليه السلام يدخل المحراب (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) فدخوله بـ (على): دخول تفقد وتلطف وتشرف فتضمن معنى (الفتح) وهاهم إخوة يوسف يدخلون عليه: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ) و (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) فدخولهم بـ (على) دخول استرحام واستعطاف ومسغبة فتضمن معنى (استفتح وطلب النعمة) وهاهي الملائكة تدخل على إبراهيم عليه السلام: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا) فدخولهم عليه دخول تسليم وإقبال يبشرونه بغلام فتضمن معنى (إقبال وترحيب) ودخولهم على داود عليه السلام: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) كان دخول مفاجأة فتضمن معنى (هجم) عن طريق التمثيل في صورة خصمين بغى أحدهما على الآخر. وهاهي الملائكة تدخل على المؤمنين في جنات النعيم (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) فدخولهم عليهم دخول تبريك وتهنئة وترحيب وتسليم فهل نَحمِل معنى حرف على حرف كما

(قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)

فعل أصحاب التناوب إن اعتاص علينا معنى من معانيها وأحْزَن؟!. فلنعط لكل سياق حقه ومستحقه إن تأملته أعطاك مقادته، وإن تناكرته حرمت نفسك فائدته وسددت عليها باب الحظوة به. ويبقى الفعل مع حرفه المتعدي به (دخل على) في التضمين كالطاووس مَن أبطله من النحاة والمفسرين بحجة التعاور والتناوب في الحروف فقد حَصَّ ذَيْله فضاع أجمل ما فيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (1) ما تدعون إليه: ما تدعون إلى كشفه ذكره الزمخشري، وقال أبو حيان: دعا يتعدى إلى مفعول به دون حرت جر. قَالَ تَعَالَى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقال: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) ولا تقول: دعوت إلى اللَّه بمعنى دعوت اللَّه إلا بدعوى تضمين، ضمن يدعون معنى يلجؤون، كأنه قيل: فيكشف ما يلجؤون فيه بالدعاء إلى الله. أقول: يواجه السياق في هذه الآيات الفطرة حين تواجه الهول فيهزها ويوقظها - فتتعرى من كل رُكام، وتتجه في قرارتها إلى بارئها وحده تسأله النجاة (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) بحرف الإضراب، بل وبتقديم إياه لإفادة الحصر والقصر إنه جواب الفطرة وإن لم ينطق بها اللسان نسيت ما اذعته من الآلهة المزيفة (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) إنه

موقف الفطرة عند رؤية العذاب، إن معرفة الفطرة بربها هو حقيقتها التي فطرها بارئها عليها، وألوان الشرك طارئ عليها، بل وركام يَرين عليها، فإذا واجهت الهول الهائل تساقطت عنها القشور وتمزقت ثياب الزور. وقد تزول بصيحة حق تزلزلها، ولن يخلو كل عصر من مجدد يطلق هذه الصيحة على مر العصور. أفصحت الفاء عن الحقيقة وأن الكاشف هو اللَّه الذي تتوسلون إليه وتطلبون، فيكشف بعضه أو جميعه (إن شاء) وَفْق حكمته وتقديره، أو لم يستجب حسب علمه وتدبيره. فتضمن الدعاء معنى الضراعة والوسيلة. ولقد جاء الحرف (إلى) مع فعل (تدعون) وهو لا يألفه ولا يتعدى به عناية بما وراءه وتلويحا بغرضه، والإيماء دون التصريح أحلى وأدمث من أن يكون مكاشفة ومصارحة وجهرا. وقل ما يجيء التضمين صريحا وإنما يجيء من طريقٍ يخفى ومسلك يدق. وإذا كان ما تسالونه من حاجاتٍ وترفعون من مطالبَ هو جانب من جوانب الدعاء وطرف منه، فالجوانب الأخرى أهم وأقمن: كالرجاء والتوسل والتضرع والخضوع والتذلل. فصِلة الدعاء بالضراعة (تضرعون إليه) جزء من كل، عدل الحكيم سبحانه من لفظٍ إلى لفظ لنتنته على أسبابه، ويتجلى لنا وجه الحكمة في اختياره فيتفتح عن رصيده المذخور وإيحائه المتجدد. إنه التضمين .. من أي عطفيه التفت، وجد معاني مشرقة لا تغيب .. ثم إن دعا يتعدي بالياء: [(يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ)] فيتضمن معنى: استحضر. * * *

(دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10)

قَالَ تَعَالَى: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (1). ذكر أبو حيان: دمر الله عليهم أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وحكى الزمخشري: دمره: أهلكه: ودمر عليه: أهلك عليه ما يختص به، والمعنى دمر اللَّه عليهم: ما اختص بهم من أنفسهم وأموالاهم وأولادهم وكل ما كان لهم. وقال الجمل: المفعول محذوف أو ضمن (دمر) معنى (سخط). وذكر الآلوسي: جاءت المبالغة من حذف المفعول، وجعلته نسياً منسياً، والإتيان بكلمة الاستعلاء (على) وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه. وذكر البروسوي: قال الطيبي: كأن في دمر عليهم تضمين معنى (أطبق) فعدي بـ (على)، فإذا أطبق عليهم دماراً لم يخلص منهم أحد. أقول: إنه مشهد وإنها لفتة إلى مصارع الغابرين من الأمم يلوي أعناق الذين كفروا من العرب خاصة والعجم عامة ليشهدوا كيف دمر اللَّه كل شيء فوق رؤوسهم، وجعلهم تحت الأنقاض عبرة لمن أراد أن يعتبر. إن تعدد مدلول دمَّر عند المفسرين: سخط، وأفسد، وأهلك، وأوقع، وطبق، ليدلنا على ثراء التضمين وغناه. فالتدمير مضمن معنى الدمدمة، والإخناء، والقضاء على من عصاه ومعاقبته له وليس التدمير: أي الدمدمة وهي إرجاف الأرض بهم

(فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)

وإطباق العذاب عليهم وطحنهم وإهلاكهم إلا نتيجة من نتائج غضب اللَّه تعالى على الكفرة والمشركين. والحرف (على) في علوّه يذهب في إثراء الصورة كل مذهب في هوْل القضاء والإخناء، ووَسْم أغفاله ورسْم أشكاله وزمّ شوارده، فهل من مُعتبر!. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (1). قال السيوطي: أي به، أي بسببه. وذكر أبو حيان: يجوز أن تكون فيه للسببية (أي بمعنى الباء) يمثركم بسببه. وذكر الزمخشري: فهي أي في هذا التدبير بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، فإن قلت: وهلا قلت: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول. للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قَالَ تَعَالَى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). ومثله الرازي. وقال القرطبي: " يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ" أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيُنْشِئُكُمْ" فِيهِ" أَيْ فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ:" فِيهِ" بِمَعْنَى بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى" يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ" يُكَثِّركُمْ بِهِ، أَيْ يُكَثِّركُمْ يَجْعَلُكُمْ أَزْوَاجًا، أَيْ حَلَائِلُ، لِأَنَّهُنَّ سَبَبُ النَّسْلِ.

وقال ابن قتيبة: فيه: أي في الزوج: أي في بطون الإناث، وفيه: أي في الرحم لأن الرحم مؤنثة ولم يتقدم لها ذكر، وذكر أبو السعود: فيه: أي فيما ذكر من التدبير: أي جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد كالمنبع للبث والتكثير. أقول: إن الحرف (في) لا يتحمل التضمين لأن مفهومه غير مستقل بنفسه، وإنما جرى التضمين في الفعل ليبشّر بولادة معان أخر منها: البثّ، والخِصب (يبثكم ويُخصبكم). يوحي بهما ويحملان معناه فكان هذا الجعل والتدبير منه سبحانه سبباً من أسباب الخِصب والنماء والبث. ولعل اختيار (الذرء) دون (البثّ والخِصب) لما فيه من معنى الخلق والنشأة والإيجاد وما وراءه من معان، والخِصب من نتائجه. فنحن مع هذه الحروف نفتقر في تحصيل معانيها إلى الوقوف على أفعالها ومغازي تراكيبها مع التأمل والتدبر، لنفتح شيل التنقيب عن أوضاعها وأسرار معانيها من طريق تخفى ومسلك يدق. * فواحه تزكو كزهر الروض باكره المطر * * * *

(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء)

قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) (1). حكى العز: أي فلما تركوا ما أمروا به ... التجوّز بالتذكير عن الأمر. وقال الزمخشري: نسوا ما ذكروا به: تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرْهم. أي تضمن التذكير معنى الوعظ والنسيان معنى الترك. وأورد أبو حيان: (نسوا) تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس، استدرجناهم بتيسير طلباتهم الدنيوية. قال القرطبي: (نسوا) تركوا ما ذكروا به، وذلك لأن التارك للشيء إعراضا عنه قد صيَّره بمنزلة ما قد نسي. أقول: سياق الآيات من إصرارهم على ترك التضرع عند نزول العذاب ومن قسوة قلوبهم، ومن تزيين الشيطان لهم وحملهم على المعاصي، كل ذلك لَيدل على أنهم تركوا ماجاءهم من مواعظ وأوامر وراء ظهورهم عن إصرار وعمد لا عن نسيان وسهو وغفلة ومن أجل ذلك فتح اللَّه عليهم فتنة السراء وآتاهم من كل ما سألوه ثم أخذهم بعذابه فإذا هم مبلسون، فالتضمين جرى في التجوز بالنسيان عن الترك والإعراض، وبالتذكير عن الأمر لتنبيه قلوب المؤمنين من خطر ذلك المسلك، تعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية، فما عاد يستشعر وخزة من ضمير تفتح مغاليق قلبه وترد إليه وعيه. بقي سؤال: إذا كان نسيان ما ذكروا به مضمناً معنى تركهم عن عمد

وإصرار فلماذا جاء التعبير بلفظ النسيان ولم يأت بلفظ الترك؟ وجاء بلفظ التذكير بدلا من الأمر؟ والجواب: أولاً: نلاحظ المقابلة بين النسيان والتذكر في الآية وما فيه من جمال فني. ثانياً: - إن شأن المعرض عن أمر ذكرتَهُ به وأمرته كشأن الناسي في ظاهر الأمر كلاهما لم يأتِ من الأوامر والنواهي بشيء. ثالثاً: إن وصف المتمردين المعتدين على سلطان اللَّه بالنسيان، فيه تعطيل لأجهزة الاستقبال الفطرية فيهم، فلا يقظة من قلب ولا تَنبهَ من ضمير. رابعاً: ما رسمته الآية السابقة في وصف حالهم: قست قلوبهم ... لا يتضرعون إلى ربهم ... مصرون فلا يرجعون عما زينه الشيطان لهم من الإعراض والعناد ... بعد هذا الانحراف في الفطرة التي فسدت فلا يُرجى لها صلاح بعد كل هذا تصفهم الآية بالنسيان، إنه إذاً تعطيل للفطرة، واستهزاء بالأوامر الربانية، ومن أجل ذلك فتح عليهم كل باب مغلق، وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء لأن هذه قد تكون سبباً في عودته إلى صوابه. والتضمين لون من ألوان النشاط الفكري، وله صلة بعلم الدلالة حيث لا تأتيك معه المعاني مصرحاً بها مكشوفاً عن وجهها، بل مستورة من وراء حجاب لتكون أبهى وألطف. فاستروح إليه، واعتاده. واجعله منك في برهان لائح لِتسْطَعَ إشراقاته في نفسك. * * *

(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)

قَالَ تَعَالَى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (1). ذكر أبو حيان والزركشي: أذلة عدي بـ (على) وإن كان الأصل اللام لأنه ضمن معنى (الحنو والعطف). وحكى الزمخشري: أذلة جمع ذليل وأما ذلول فجمعه ذُلُل. ومن زعم إنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه لأن ذلولا لا يجمع على أذلة. فإن قيل فهلا قلت: أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف، كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه من التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ومثله قال الرازي، وقال الآلوسي: لكنه عدي بـ (على) لتضمنه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ولعل المراد بذلك أنه استعيرت (على) لمعنى اللام ليؤذن أنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى عَلَوهم بهذه الصفة، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو، يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع، لا يخفى ما فيه لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه. وقيل: عُديت الذلة ب (على) لأن العزة في قوله: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) عُدِّيت بها كما يقتضيه استعمالها وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة.

وقد صرحوا إنه يجوز فيها التقديم والتأخير، وقيل: لأن العزة تتعدى بـ (على) والذلة ضدها فعوملت معاملتها من حمل النقيض على النقيض كما يحمل النظير على النظير. أ. هـ. ومثله قال البروسوي. أقول: وإذا كان حُب اللَّهِ لعبدهِ لا نظيرَ له في مذاقات الحب ولا شبيه، فإن حُب العبدِ لربه ما استطاعت أن تصوره حتى فلتات ألسنة كبار المحبين وأقلام العارفين. والمفهوم من المحبة لله هي على حقيقتها، وهي غير القُربات والطاعات فيما ذهب إليها كثير من المفسرين. فقد نفاها الأعرابي عن نفسه، إذ ليس في جعبته منها شيء وأثبت حبه الخالص فقط حين سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الساعة فقال له: " وما أعددت لها؟ قال: حب اللَّه ورسوله، فقال صلوات ربي وسلاماته عليه: " المرء مع من أحب ". نعم الحب ... إنه الروح الشفيف ... اللطيف ... البهيج ... الندي ... البشوش ... لا يملك مذاقه إلا العارفون. ومن ذاق فقد عرف. اللَّه الجليل في ملكوته ... في عظمته ... يتفضل على عباده بالحب ... حبا يليق بجلاله، فأي قلم يملك التعبير عنه، بل أي عبارة تحيط بكنهه؟!. إن التصور الإسلامي يجعل العلاقة بين حقيقة العبودية والألوهية علاقة ندية ودودة وليست قسرية ولا قهرية رغم تنزيه الجليل المنعم المتفضل، ومن يملك أن يحيط بمداليلها وشعبها!. ولعل التضمين في (ذل) معنى (حدب، وعطف، وحن) المتعدي بـ (على)،

(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)

وليس المشاكلة اللفظية في تعدية الذلة بـ (على) مقابل تعدية العز بها، ولا من باب التقديم والتأخير، ولا من باب حمل النقيض على النقيض. وإنما معناه: فسوف يأتي اللَّه بقوم أحنة على المؤمنين، حَدِبين عليهم، مشفقين عاطفين. وآثر الأسلوب الحكيم أذلة على أحنة وأحدبة لإغراء المؤمنين بالاتصاف بها دون سواها لما فيها من نسيان الذات وغياب الأنا، مع اللين واليسر والسماحة والود. إنها أُخوة ترفع الحواجز وتزيل الكُلف وتُصفِّي النفوس، ذلة ليس فيها مَهانة، ذلة ليس معها حساسية بالذات تجعله عصياً على أخيه. أرأيت التضمين ما أذهبه في مسارح النظر! وغرضه الفحص عن حقائق التأويل، ليوقفنا على أسرار التنزيل فيزيل اللبْس - حين يتعدى الفعل بغير حرفه - مُفتقاً عن أكمام إعجازه جانياً من قطوف ثمراته. هل يشبه الإعجاز تغريد البلابل في السحر؟!. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1). حكى الزمخشري: في اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر لأنهما متعاقبتان وهو الذي اقتضى قوله: فعلوا الإذاعة، ليخرجها عن الباء المُعَاقِبة للهمزة وهو أبلغ من أذاعوه. وقال القرطبي: أفشوه وأظهروه قبل أن يقفوا على حقيقته لكن ما فائدة الباء إن جاءت مزيدة؟! قيل: الباء زائدة نقل ذلك

الجمل والعكبري، ولفظ قيل يدل على التضعيف والتمريض. وقال الآلوسي: أذاعوا به: أفشوه والباء مزيدة. وقال النسفي: الباء مزيدة. وقال الجمل: قيل: ضمن أذاع: تحدث فعداه تعديته. اقول: يا عجبا من سوء تصورات وكالات الأنباء وضعف مداركهم، فإن البوح بكل خبر يأتيهم والتحدث به، وإشاعته يدل على شخصية همجية، والقرآن يريد أن يعد شخصية المسلم إعداداً مخالفاً لمألوفه، شخصية حضارية تخضع لقيادة موحدة: تجمع وتحلل وتستنبط و ... فلا بَوْحَ ولا حديث ولا إفشاء إلا بإذن. نعم حين يصبح أمر الأمن أو الخوف حديث المجالس في القضايا الحربية فسوف يحدث خلخلة في الصف وبلبلة في النفوس الضعيفة، لا بد إذا من الوقوف على جليته وأن يُرَد إلى ذوي الاختصاص في تحليل الأخبار ليقف الذين يستنبطونه منهم على تحليله وتعليله ومعرفة مغزاه. ونبقى مع الفعل أذل في سوء مزاج من هذه الباء إن لم نفهم الغرض من تعديته بها. أما القول بزيادتها فلا حفل به ولا شأن له، ويتشنّع علينا تَحَفُلُهُ. ولعل تضمين الفعل يكشف عن غرضه، فتضمين (أذاع) معنى (باح أو تحدث) والمتعدي بالباء ينسجم مع السياق وإن كان يوحشنا بوجهه ولا

(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8)

تروقنا طلعته لما يحمل في حالتي (الأمن أو الخوف) من خطرٍ على صفوف المجاهدين، فكيف بنا مع إذاعة كل نبأ وإشاعته ونشره على الملأ، إنه سيحمل إذاً وِزْر ما أحدث من تصدع في الصف، وخلخلة في المعسكر، بل ما يحدثه من أثر مدمّر في نفوس المجاهدين خاصة والمسلمين عامة. فالتضمين جمع المعنيين: صرح بأخطرهما - الإذاعة - ليقطع الطريق على كل منافق أو معطّل، أو متشكك ألا يتجراً على إعلان خبر أو نشره، ووارى في جعبته أقلهما خطراً وهو البث والبَوْح بأي خبر يلهج به ضعيفٌ أو واهي العزيمة. بعض من المهاجرين ضعفت نفوسهم عن تكاليف القتال، فلا نستبعد أن نرى فيهم صفة الإذاعة - بأمر من الأمن أو الخوف - لأن هذه تدل على عدم الدربة على النظام ولا تدل على النفاق. فعلى الناظر في كتاب اللَّه أن يتجشم المشقة في إنعام النظر في هذه الحروف لمعرفة ما استودعه اللَّه في أفعالها المتعدية بها لأنها أدل على لطف المسلك، وأشهد للغرض، وأوفى بشرح العلة من وجه لا يفطن له إلا من أوتي النظر. * * * قَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (1). ذكر الآلوسي: خمسة وجوه في اللام. أحدها: أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها وزيدت لتأكيد

معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار والإرادة والقصد كما زيدت في: لا أبا لك. ثانيها: للتعليل ومفعول يريدون محذوف (يريدون الإطفاء). ثالثها: أن الفعل (يريدون) حال محل المصدر: مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة لإطفاء نظير - تسمع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه -. رابعها: أن اللام مصدرية بمعنى أن من غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة. خامسها: أن (يريدون) منزل منزلة اللازم لتاويله (يوقعون الإرادة) قيل: وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للإطفاء. أ. هـ. وذكر الزمخشري: وكان هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك. وإطفاء نور اللَّه بأفواههم تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم: هذا سحر. أقول: (يريدون) والإرادة شعور نفسي لا خطر فيه إن لم يظهر على السطح في قول أو عمل، كالحسد. لم تأت الآية (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ) وحَسب لأن الحسد متوفر لدى كثير من الناس بل جاءت (إِذَا حَسَدَ) أي إذا ظهر في صورة فعلية نحو محسوده. واللام في قوله (لِيُطْفِئُوا) مع مجرورها: (المصدر المؤول لإطفاء) متعلقان بفعل يريدون المتضمن معنى يسعون والمتعدي باللام الإرادة هي

النية، وتعديتها باللام تضمنت معنى السعي، والسعي عمل، فالتضمين جمع إلى الإرادة السعي أي إلى النية العمل، ولا يغني أحدهما عن الآخر في قبول العمل كما في قول اللَّه سبحانه: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فجمعت الآية الإرادة مع السعي. فيهود يسعون في حرب الإسلام والمسلمين في شتى الوسائل حربا مسعورة تجلت: 1 - بالاتهام (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ). 2 - بالدس والوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج. 3 - بالانضمام إلى الأعداء في غزوة الأحزاب. 4 - بالإشاعات الكاذبة في حديث الإفك: عبد اللَّه بن أُبي بن سلول. 5 - بالإسرائيليات المدسوسة في السيرة والتفسير. إنها صورة بائسة مضحكة، تدعونا إلى رثاء هؤلاء الأغبياء وهم يحاولون جادِّين مجتهدين لإطفاء نور الله، ورغم ما يرصدونه من حرب وكيد في كل بلد من ديار المسلمين، ما زال لهذا الدين دوره يؤديه مهما سعى أعداؤه المهازيل في التشكليك والتضليل، وله أهله لا يخافون في اللَّه أحدا. إنه التضمين يكشف عن وجه الإرادة فإذا هي المسعى الخبيث لإطفاء نور اللَّه حاشاه أن يُطفِئَ نورَه أحدٌ. أما ما جاء في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ ... ) فليست الإرادة هنا بمعنى الرغبة، وليست اللام كما ذكر

(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)

المفسرون زائدة أو للتوكيد أو للتعليل أو مصدرية أو ... وإنما يتعدى بها فعل يريد ومعناه هنا في سياق الآية (يقصد) ففي اللسان وفي معجم الأفعال للملياني: القصد: الاعتماد والأم. فقَصَد له. معناه: اعتمده وطلبه فقصدُ اللَّه هنا هو طلبه للتبيين والهداية. وفي قوله سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) قصْدُ اللَّه إزالة الحرج. وفي قوله سبحانه: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) قصْدُ الله: تطهيرُكُم وإتمام النعمة عليكم، وفي قوله سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فقصدُ اللَّه هنا إذهابُ الرجسِ عن أهل البيت وإبعادُه. فكيف تصرفت الحالُ فالتضمين فاشٍ في مناحي القول في هذه اللغة الشريفة فُشُواً لا يكاد يحاط به، وهو مسْهُو عنه لم يُنتصف منه. والله يكشف للمريد وجه الحقيقة ما استتر ... * * * فال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) (4). ذكر أبو حيان: الرؤية علمية وضمنت معنى ما يتعدى ب (إلى) فلذلك لم تنصب مفعولين كأنه قيل: ألم ينته علمك إلى كذا؟ قال الراغب: رأى يتعدى بنفسه دون الجار فإذا عُدي ب (إلى) اقتضى - أي تضمن - معنى النظر

المؤدي إلى الاعتبار نحو (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ). وقال الزجاج: ألم ينته علمك إلى خبر هؤلاء؟ وذكر الرضي: مضمن معنى الانتهاء. وقال الآلوسي: الرؤية إما بمعنى الإبصار مجازاً عن النظر، لأن النظر دون الإدراك، وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء، ولهذا تعدت ب (إلى) وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبَّه عليه قال امرؤ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا ولم تتطيب أقول: الرؤية هنا مجملة، والمراد منها التدبر والتفكر والاتعاظ، فسياق الآية لم يحدد شخصية هؤلاء الخارجين من يهود حذرا من الموت، لأن السياق سياق عبرة وعظة وتصحيح للتصور وبيان الحكمة الإلهية، فإن الحذر والفزع والخروج لن يرد عنهم قضاءً أو يحفظ حياة، فلو ثبتوا وصبروا لكان أولى بهم. فالرؤية مضمنة معنى النظر، والمتعدي بـ (إلى) وهو لا يحتاج إلى مفعول ولا مفعولين: ألم تنظر يا محمد .. ألم تتنبه إلى مصارع هؤلاء؟ ليلفت نظر المؤمنين إلى نتائج الممتَحنين. فمن تأمل التضمين وقد جمع مع الرؤية النظر، والاعتبار والتأمل والتفكر فقد وفَى الصنعة حقها، ورَبَا بها أفرعَ مَشارفها، وعرف منه وبه عنايته في تبيين المعنى وتأليق صورته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها، تجربة لا يذكر القرآن أصحابها ويعرضها في اختصار: خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر، وأدركهم

(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23)

قدر اللَّه الذي خرجوا حذرا منه (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)، وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها، قال مجاهد: لما أُحيوا بقيت رائحة النَّتَن موجودة في نسلهم إلى اليوم. فالمقصود تشجيع المؤمنين على القتال وإذا علم الإنسان أن فراره لا ينجيه هانت عليه مبارزة أعدائه وبذل روحه وماله وأتبعها الله بقوله (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهي تشجيع على القتال ما دام الفرار لا ينجي من القدر، قال الشاعر: في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة ... والمرء في الجبن لا ينجو من القدر وقال المتنبي: وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا فالرؤية تضمنت معنى الاتعاظ والنظر .. إنه التضمين. * يُثنى على فضله الأعجام والعربُ * * * * قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (3). قال أبو السعود: ألم تر: ألم تنظر فهو تعجب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكل من تتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم واختلافهم، إنما كان بعدما جاءهم العلم، وذهب الشوكاني وكثير من المفسرين إلى أن (ألم تر)

وقال أبو حيان: ألم تر: ألا تعجب من هؤلاء المدعوين إلى كتاب اللَّه أي في حال دعوتهم إلى كتاب اللَّه ليحكم بينهم!. أقول: (ترى) ضمن معنى (تنظر) فعدي بما يتعدى به. وكان الباعث عليه لفت النظر وأخذ العبرة أما الاستفهام فقد خرج إلى معنى التعجب. نعم سؤال استغراب وتعجب من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب والكتاب واحد في الحقيقة: أوتي يهود نصيبا منه - التوراة - وأوتي النصارى نصيبا منه - الإنجيل - وأوتي المسلمون الكتاب كله - القرآن - لأنه جمع أصول الدين كله - قرأ معناه جمع، قرأت الماء في الحوض جمعته - فليحذر المسلمون اليوم ولينظروا إلى مصير أهل الكتاب ليتعظوا من مواقفهم. والتعبير بالرؤية عن النظر أي التدبر أو الاعتبار أو ... - لا تنحصر في لفظ يُدْعَون إلى كتاب اللَّه ليحكم بينهم في شؤون حياتهم ومعاشهم ... فيتخلف فريق منهم وُيعرض عن تحكيم الشريعة: الأمر الذي تناقض مع دعوى أنهم من أهل الكتاب وأنهم مصدقون به. يُخرجون شريعة اللَّه من حياتهم ويدَّعون أنهم مؤمنون. وعجبي لا ينقضي من المسلمين اليوم حين يُعرِضون عن التحاكم إلى كتاب الله ويدَّعون أنهم مسلمون. بلاء لا يُقادَرُ قَفرُه، وغضبٌ ينتهي إلى شِقوتهم وطَرْدِهم من رحمة الله والعياذ بالله. * فما عُذرنا ألَّا يضيق بنا المصدرُ * * * *

(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72)

قَالَ تَعَالَى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (1). قال المبرد: في قوله: ردف لكم، معناها ردفكم، وذهب بعضهم إلى أن أصل ردف التعدي، بمعنى لحق وتبع، فاحتمل أن يكون مضمنا معنى اللام، قال أبو حيان: ولذلك فسره ابن عباس: يقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريب منه ضمن معناه أو زيدت اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه كما زيدت الباء في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال الزمخشري وقد عُدي بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها قال الشاعر: فلما ردفنا من عمير وصحبه ... تولى سِراعا والمنيةُ تُعْنِقُ أي دنوا من عمير وقيل: ردفه وردف له لغتان. وذكر العكبري مثل ذلك أي دَنَوْا من عمير. وذكر الزمخشري: قيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه هو عذاب يوم بدر، فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم. ومثله البيضاوي وذكر الجمل: وجوها أظهرها أن ردف ضمن معنى فعل يتعدى باللام أي دنا وقرب. وقال الآلوسي: أصل معنى ردف: تبع، والمراد به هنا لحق ووصل، وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح، وقيل: اللام داخلة على

المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه محذوف أي (ردف الخلق لأجلكم) ولا يخفى ضعفه. وقيل: إن الكلام تم عند (ردف) على أن فاعله ضمير يعود على الوعد، ثم استأنف بقوله تعالى: (لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) على أن (بعض) مبتدأ (لكم) متعلق بمحذوف وقع خبراً له ولا يخفى ما فيه من تفكيك للكلام، والخروج عن الظاهر لغير دل لفظي، ولا معنوي، والمعنى: قل عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتاً فوقتاً أ. هـ. أقول: شبح العذاب وراءهم كالرديف وراء الراكب، لا يدري أحدهم متى يكون، ولكنهم في غفلة سامدون ... أيستعجلونه؟! يا له من موقف ترتجف له القلوب ... العذاب من ورائهم، ولكنهم يستهزئون بالوعيد، ويستهينون بالعذاب يقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) هو؟ ويأتيهم جواب يشفي الغليل (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) وفي عسى هذا طمع وإشفاق ومعناه: عساكم زلف لكم بعضه في بدر! كما تمَول للراسب في الاختبار عساك نلت المراد! فتضمين ردف معنى (زلف وبدا) والمتعدي باللام يُبلغُنا المراد، لأنه يُبدي لهم دُنو العذاب ومُزدلفة، نفهم ذلك من جوابه (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ) فالرديف ما سيلحق بكفار قريش قي قبورهم من العذاب بعد قتلهم، والمزدَلَف ما تقدمهم من العذاب من سيوف المؤمنين والتنكيل بهم في بدر، والمعنيان مرادان المضمن والمضمن فيه، ما زَلف من عذاب التنكيل بهم وقتل زعمائهم، وما سيتبعهم من عذابٍ في قبورهم، والألفاظ على معانيها أدلة، وأبلغ القول ما تعددت وجوه

(فأرسل إلى هارون (13)

إفادته، فإن تأملته جلا عليك محاسنَه، وإن تناكرتَهُ، سد عليك باب الحُظوة به. فجمع التضمين بُدوه، ودُنُوه ومُزدَلَفه، وأغنى عن زيادة اللام أو حذف المفعول أو التعدي بمن أو جعل المتعدي لازما أو التعليق بمحذوف أو ... أو ... إنه التضمين يجلي الغامض ويصل إلى الخفي ويتنسم عبير البيان بالسهل الممتنع. فهو ينشر ما انطوى ... كالنور يهدي من عثر * * * قَالَ تَعَالَى: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) (1). قال الزمخشري: أرسل إلى جبريل واجعله أي هارون نبيا وآزرني به واشدد به عضدي. أ. هـ. وذكر القرطبي: أرسل إليه جبريل بالوحي وجعله رسولاً معي. موسى عليه السلام بعد أن أمره ربه (ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سأل ربه الرسالة لأخيه هارون لأنه أفصح منه، والداعية يحتاج إلى لسان وبيان وحجج ولأن لآل فرعون ذنبا عليه، فخاف أن يقتلوه فتنقطع دعوته أو تموت. ومفعول أرسل محذوف ذهب المفسرون إلى تقديره: جبريل. وليس بشيء. أقول: لعل تضمين (أرسلَ) معنى (أوحى) يفتح لنا منافذ على المعنى يساعدنا عليه السياق. ففعل أوحى يتعدى بـ إلى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)

و (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) و (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) و ... وموسى طلب من ربه أن يوحي إلى أخيه بالرسالة بلفظ (أرسلْ) أي أوحِ إليه بالرسالة: صيره رسولا. فجمع التضمين المعنيين الوحي والرسالة. ويأتي الجواب من ربه (كلا) بالردع تعقيبا على ما رغب فيه أو خاف منه: أخاف أن يكذبون ... ويضيق صدري ... ولا ينطلق لساني ... فأرسل إلى هارون ... فأخاف أن يقتلون. ويذهب جُل المفسرين إلي إيقاع لفظ كلا على آخر حديث موسى (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا) ويأتي التعقيب (فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وهل يرد التأكيد بالتثنية في هذه الأوامر لولا ما أفاده النص (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) من استجابة الدعاء؟!. سياق القصة يطوي المسافات والأبعاد والأزمان ويترك فجوات بين المشاهد، ليصل إلى المواقف الحية مباشرة، لقد استجاب اللَّه دعوة موسى عليه السلام فإذا هارون عليه السلام رسول مع أخيه (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ). أرأيت إلى حروف المعاني كيف سخرها التضمين في هذه اللغة الشريفة لتنهض بالمعنى إلى غايته وتكون مرقاة إلى تدبره! إنه التضمين: له غاية تُحيي القلوب ونظرة على كثرة الأغراض تهدي إلى الرشد * * *

(وارزقوهم فيها واكسوهم)

قَالَ تَعَالَى: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) (1). قال الزمخشري: اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها. وقال الرازي: قال فيها ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال. وذكر الآلوسي: جوز بعضهم أن تكون (في) بمعنى (من) التبعيضية. وقال أبو حيان: اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق، وقال فيها ولم يقل منها تنبيها على ما قاله عليه السلام: " ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة "، والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة. وقيل: في بمعنى من أي منها. أقول: فتضمين (رزق) معنى (اتجر) كان من وحي الحرف (في) وتوجيهه، حين تسلط عليه فعل لا يتعدى به. أما سياسة التناوب والتعاور: (في) بمعنى (من) فتستنكرها مصلحة اليتيم، ويستهجنها أهل النظر، إذ تفوت عليهم كثيرا من اللطائف. فالنص جاء حمايةً لمال اليتيم على أساس من التكافل الاجتماعي وحمايةً لمصلحته، فلا ينفق ما ورثه في سنوات معدودات ثم يمد يده إلى الناس أعطَوْه أو منعوه ... حماية اليتيم في حفظ ماله كانت بإنشاء تشريع يدير لليتيم أمواله في تجارة رابحة ويرعى مصالحه رعاية حسنة أمينة في نظام خاضع للرقابة الإلهية،

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

قال صلوات اللَّه عليه: " ألا من ولي يتيما له مال فلْيتجر فيه ". إنه التضمين خفقة تكشف عن حقيقة، ولمحة تحمل صورة تتفتح عن رصيدها المذخور وإيحائها المتجدد. * * * قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (2). يرى الزمخشري: بأن رضيته لكم يعني اخترته لكم. وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده. وقال الطبري: رضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده، دينا: يعني طاعة منكم لي. أما الجمل (5): فيرى أن في رضي وجهين: أحدهما: أنه متعدٍ لواحد وهو الإسلام، ودينا حال والثاني: مضمن معنى (صير وجعل) فيتعدى لاثنين أحدهما متعلق برضي والثاني متعلق بمحذوف حال من الإسلام لكنه قدم عليه. وقال الآلوسي: رضيت لكم: اخترته لكم من بين الأديان وقد نظر في الرضى معنى الاختيار ولذا عدي باللام. ومنهم من جعل الجار صفة لـ (دين) قدم عليه فانتصب حالا، و (الإسلام) و (دينا): مفعولا رضيَ إن ضُمن معنى صير، أو: دينا منصوب على الحالية من الإسلام، أو تمييز من لكم، والجملة مستأنفة معطوفة على أكملت، وإلا فإنه لم يرضَ لهم الإسلام قبل

ذلك اليوم دينا وليس كذلك. ويكرر أبو حيان قول الزمخشري وابن عطية. ويقول القرطبي: أعلمتكم برضاي به لكم دينا وقيل: رضيت عنكم، ويحتمل رضيت إسلامكم دينا باقيا. أقول: تضمين (الرضا) معنى (التصيير والجعل) غير سديد يتجافى عنه السياق، فما معنى أن يصير الإسلام دينا، وماذا كان قبل تصييره؟ وتضمين (رضي) معنى (اختار) لا يستقيم لأنه لا يتعدى إلى مفعولين وعندها يصبح الدين فضلة ما دام حالاً، ولعل تضمين (رضي) معنى (وهب) أسوغ وآنس وأحكم فهو يتعدى لمفعولين، فالمنعم أتم عليهم نعمه حين وهب لهم الإسلام دينا، فهذه الهبة الربانية من تمام النعمة وكمالها، وهي رمز الرضا وعنوان المحبة، إذ كيف يهب لهم هذا الدين وهو غير راضٍ لهم إياه؟! وهل يخصني أحد بهبة غالية نفيسة إلا إذا كان في منتهى الرضا عني! جاء النص من أن هذا الدين الذي وهبه لهذه الأمة قد ارتضاه بعد أن أتمه وأكمله. ولم يدع السياق أمر الطاعة والاتباع مجملاً، بل نص على وجوب الحكم بما أنزل نصاً، وإلا فهو الكفر ... والظلم ... والفسق. وما كان تعدي (رضي) باللام إلا صرفا لوهم السامع عن أن يقف عند حدود الرضا وحسب، بل من وراء الرضا هذه الجوهرة السنية والمنحة الإلهية والهبة الربانية ... إنها الإسلام العظيم وإنها الدين القويم. فاللَّه العليم الحكيم اختار لفظ (رضيت) وعداه باللام ليضمّ إلى عبير الهبة وشذاها، نسيم الرضا وألطافه فتروعنا بهجته، ويؤنسنا بوجهه، فتكون هذه الهبة الفوّاحة (الإسلام) ما تتمثّل به نفوسهم دينا قِيمًا وعقيدة ترسو في تصورهم ومنهجاً

(لسعيها راضية (9)

يتحكم في كل شؤون حياتهم الفردية والاجتماعية والدولية. يستحقون به رضا مولاهم. إنه التضمين ... على ضروب البيان ... لم يشتفِ بمثيل * * * قَالَ تَعَالَى: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) (1). قال الطبري: لعملها الذي عملت في الدنيا من طاعة ربها راضية وقيل: لثواب سعيها في الآخرة راضية. وقال البيضاوي: اللام بمعنى الباء أي وجوه راضية بسعيها أي بعملها حين رأت ثوابه. وذهب أبو حيان: إلى أنها راضية بعملها في الدنيا بالطاعة. وأما الآلوسي فقد قال: اللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا أي بسعيها راضية أي اللام بمعنى الباء، وقيل: وفي الكلام مضاف مقدر أي (لثواب سعيها راضية) وجوز اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة القَه راضية، وذكر الزمخشري: رضيت بعملها لَمّا رأتْ ما أداهم من كرامة أقول: إنه رضا يفيض من الوجوه، وينبثق من النفس ويتشعب في حناياها، واطمئنان للقلب بهذا الشعور، شعور الرضا، ولا أروح للقلب من رضا المولى الكريم، وجوه ناعمة بما وجدت، حامدة بما عملت لأنها وجدت عقباه، وأحست بالراحة والطمأنينة لما قدمته. فـ (رضي) تضمن معنى

(إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109)

(ارتاح وسكن واطمأن) فتعدى باللام، والرضا يكون في المحابِّ كما يكون في المكاره، أما الراحة والسكن والطمأنينة فلا تكون إلا في المحاب. فاللام ليست بمعنى الباء وهل يغني حرف عن حرف في تأدية المعنى الذي اختصه اللَّه واختار له من الحروف ما يُثريه ويُغنيه؟. وليست اللام للتعليل، وليس في الكلام مضاف مُقدَّر. نعم جاءت اللام مع الرضا لتفيد فوق الرضا معنى الاطمئنان والراحة. لقد جمع التضمين معنى الرضا إلى الراحة والسكينة والطمأنينة، ولا يتأتى هذا الثراء مع صرف الحرف إلى سواه ولا مع دعوى زيادته، وهذا نهج مأمومٌ عند عارفيه، ونظائره كثيرة فاشية، وليس أروح لقلب المؤمن من أن يطمئن إلى مسعاه ويرضى عاقبته ويستمتع بشعور الرضا عن عمله والاطمئنان له حين يرى رضوان اللَّه عنه، قد أشرقت له نفسه. إنه التضمين ... ورُبَّ طرف أفصح من لسان. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (4) ذكر القرطبي: أن رضي له قولا: أي رضي قوله. فجعل اللام زائدة.

وقال أبو حيان: (له) معناه (لأجله) وكذا في (رضي له) أي (لأجله) ويكون (مَن) للمشفوع له، أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلا شفاعة من أذن له. أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم. وذهب الزمخشري، والبيضاوي، والجمل، والآلوسي: إلى أن أذن له ورضي له: أي لأجله. أقول: والذي تطمئن إليه النفس هو أن (الرضا) تضمن معنى السمع ومعناه هنا القبول حين تعدى باللام. أما أن يكون الرضا لأجل قوله فما أراها منسجمة مع السياق. فاللَّه أذن له أن يشفع، ورضي له أن يقول، فالرضا حصل قبل أن يقول، وليس من أجل ما سوف يقول، فشفاعته هذه معلاة له، شاهدة بفضله، ورضوان اللَّه عنه، وقبوله شاهد على عُلو قدره في حضرة المليك حيث يغمر النفوسَ جلالُه، فتخشع له الأبصار، وتَعِقد الألسنةَ خشيتُه، ويُخيم الصمتُ الرهيب على الجميع، فالوجوه عانية، والألسنة تخافُتٌ والكلام بتحريك الشفاه همسٌ واستسرارٌ من هيبة الرحمن، فلا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن وقَبِلَ له أن يقول، وكتب له القبول. فجمع التضمين المعنيين: الرضا وما فيه من العذوبة مصرحا به،

(ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)

والقبول مدلولاً عليه بسياقه الشافع له؛ فأوحى بالغرضين وأثرى المعنى وأغناه وجمع شَعَاعه وأبدى عن مَكنونه. ولو جاء بغير هذه اللام لما خرج عن معنى فذ والذي هو الرضا وحسب. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) (1). ذهب الزمخشري وتبعه أبو حيان إلى أنْ تتهافت سائر الأنفس فيما تعرضت له أعز نفسٍ عند اللَّه من شدةٍ وهولٍ فضلا عن أن يضنُوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه صلوات اللَّه وسلامه عليه. وقال القرطبي: لا يرضون لأنفسهم بالخفض والركد ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في المشقة. يقال أرغبت عن كذا: أي ترفعت عنه؟ وذكر الجمل: أن الباء - بأنفسهم - للتعدية ويصح أن تكون للسببية أي بسبب صونها. ورغبت عنه أي أعرضت عنه. وذكر أبو السعود: في معنى (لا يرغبوا) أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصن عنه نفسه. بل يكابدون معه من الأهوال والخطوب. جاء الكلام في معنى النهي لان كان على صورة الخبر. وذكر أستاذنا سعيد الأفغاني: (يرغبوا) تضمن معنى (يبخلوا). أقول: تأنيب خفي لكنه موجع يستنكر مبدأ التخلف عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لمن يدعي صُحبته من الصفوة المختارة. فلا يحق لهم أن يُؤثروا أنفسهم عما يتحمله رسول اللَّه. ولا عذرَ لهم في أن يُشفقوا على أنفسهم عن مثل ما

(فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)

تعرضت له نفس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سبيل دعوته في الحر والبرد في الشدة والعسْر يواجه أعباء الدعوة ولأواءها. إنه النذير، وإنه النكير على مَن تخلف من أهل طيبة الطيبة ومَن حولها. السياق إذاً سياق استنكار على أهالي المدينة المنورة أن يؤثروا أنفسهم على رسول الله، وهم أصحاب هذه الدعوة وهم قاعدتها الصُلبة. أيشفقون على أنفسهم ورسول اللَّه يواجه تكاليف دعوة ربه؟! فالرغبة عن نفس نبيهم تضمنت الضنانة بأنفسهم عنه، ولذلك جاء التأنيب (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي لا يليق بهم أن يتخلفوا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يبخلوا بأنفسهم عنه. وهكذا يصير التضمين وسيلة كشفٍ عن خبايا النفوس، ليتفتح اللفظ عن رصيده حين يقع في السياق الذي يستدعيه فلا أزعج من أن يقال عن المتخلف: إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي تفتديه الأنفس. وهو يزعم أنه جندي من جنود الدعوة، وأنه يتأسى بقائده الحكيم. ويزعم أنه من جند ... طه ويرغب عن مرافقة الحبيب!! * * * قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (2). قال الطبري: فإذا فرغت من أمر الدنيا فاجعل رغبتك له فجعل (إلى) بمعنى (اللام). وقال الزمخشري: اجعل رغبتك إليه خصوصا وعنه نقل الجمل. وقال البيضاوي: فارغب بالسؤال ولا تسأل غيره. أقول: حين يتعدى الفعل رغب بـ إلى يتضمن معنى الضراعة ففي حديث

الدعاء: " رغبة ورهبة إليك ". قال النمر بن تولب: - ومتى تُصبك خصاصةْ فارجُ الفتى ... وإلى الذي يعطي الرغائب فارغب وتقول: إليك الرغباء ومنك النعماء فكأنما تضمنت الرغبة هنا معنى التضرع والتوجه والانصراف. نعم الرغبة في هذا السياق حين تعدت بـ (إلى) تضمنت معنى التفرغ من شواغل الأرض للتجرد إلى اللَّه وحده، والتطلع إلى مستودع الزاد فينهل، ومورد الأنس فيعبّ ما وسعه من نَهَلِ وعَبّ. وفي تضرعه هذا بين يديه ونصَبه، يمسح كل عناء أصابه أو مشقة أثقلت كاهله، فيخف حِمله وُيرفع عنه إصْره، ويُسرَّى عنه، وينشرح صدره، ويطمئن قلبه. والرغبة أخيرا معناها هنا التوجه والتطلع إلى منابع التيسير كلما تعسرت مسيرة دعوته، وكاده الماكرون للانحراف بمنهجه، أو عرقلة خطاه، أو .... أو ... أرأيت إلى هذه الحروف كم لها من أسرار خفية! لقد كانت (إلى) هذه صلة العسر باليسر، والمشقة بالراحة، والفناء بالبقاء، والعدم بالوجود. إنه التضمين وهذا من جنى ثمراته. أما من جعل إلى بمعنى اللام أو الباء فليس بشيء ولا حظ له في إدراك المطلب وما أبعد الصواب عنه. * * *

(إنا إلى ربنا راغبون (32)

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) (1). قال الطبري: راغبون في أن يُبدلنا من جنتينا خيراً منها أي تضمين إلى معنى في. وقال الرازي: طالبون منه الخير راجون لعفوه. وقال أبو حيان: أي طالبون إيصال الخير إلينا منه. وقال البيضاوي: عُدي بـ إلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنه معنى الرجوع ومثله قال الآلوسي: أقول: ولعل تضمين (راغبون) معنى (راجعون) يشي بجفاف الدلالة ويُبوس ظلالها، فليس رجوعهم إلى اللَّه كأيِّ رجوع ولكنه عودة مصحوبة بتوبة وندم واستسلام. فلا أكرم من هذه (الرغبة) ما دام معها سُمو المطلب وتجديد العهد وتبييض الصفحة. فتضمين (راغبون) معنى (ضارعون ومبتهلون) أذهبُ بها في الدلالة على إسلام الوجه والنفس والقلب لله عز وجل، مع ضراعة وابتهال وتوسل. هذا التوجه إلى الله هو هداية الفطرة إلى بارئها، وهو ثمرة الإيمان وضمان سعادة الإنسان. إنه ميلاد تحرر الضمير من عبودية النظم والأشخاص والأساطير والأوهام. أما تضمينها معنى (راجون) كما قال الرازي فلا يتعدى بـ إلى وما كنا لنقف على هذه الفوارد لو جاءت الآية: إنا إلى ربنا راجعون أو طالبون. ويبقى التضمين من محاسن هذه اللغة الشريفة نُدلي إليه مُستسقين كلّما جفَّ الثرى وأجدبت أقوال الُمعربين. * * *

(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)

قَالَ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (1). ذكر أبو حيان: عُدي الرفث بـ (إلى) وإن كان أصله الباء لتضمنه معنى (الإفضاء). وقد ذهب ابن جني وغيره كابن الشجري والزركشي إلى أنها في معنى الإفضاء. وأنت لا تقول رفثت إلى المرأة وإنما تقول: رفثت بها أو معها، ولكنه لما كان الرفث هنا بمعنى الإفضاء، وكنت تُعدي أفضيت بـ إلى، جئت بـ (إلى) مع الرفث إيذانا بأنه في معناه. أقول: الرفث: الإفحاش. وهو بالفرج: الجماع وباللسان: المواعدة للجماع، فتضمين الرفث وهو مقدمات المباشرة أو المباشرة ذاتها معنى الإفضاء والمتعدي بـ (إلى) يمنح العلاقة بين الزوجين لمسة إنسانية تترفع بها عن عالم الحيوان، لمسة حانية فيها من الرفق والنداوة والشفافية مثلما ما فيها من سمّو المشاعر. أما ما ذهب إليه ابن الجوزي: أن إلى بمعنى الباء فنُبُو عن فقاهة النظم وغضٌّ من نفاسته. وتحسُرُ (إلى) هذه عن مَسافر وجهها الجميل لتحكي ما اشتملت عليه المشاعر حين جمعت الرفث إلى الإفضاء فيما أحلّ اللَّه للزوجين في شهر الصيام، لتَنْأى بهما عن عُرام الجسد والحبيس في الرغبات المكبوتة في

(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)

اللحم والدم بعد أن تستتْبع خلفها معنى السِتْر يتدثر به كل من الزوجين (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ). ولتتصل بأُفق أرفع من الأرض، وبغاية أسمى من اللذة، تَرِقُّ وترقى إلى معارج عُليا للتربية والعطاء ... فيربط توجيه كل نشاط باللَّه عز وجل (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ). ومن هنا ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم لترقية البشرية والاستعلاء بها، وقيمة المنهج الإسلامي للتربية حين يربط كل نشاط وكل حركة باللَّه عز وجل. وحسب التضمين أنه جعل في لفظ الرفث نداوة يخضر بها ويرمي ظلاله، ولمسةً رفّافةً تنأى عن عُرام الجسد، تبتغي الإعفاف والإنجاب وتوقظ معنى الستر في هذا الحرف (إلى)، فجمع من صنوف البيان ما ذاع صيته على كل لسان. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). قرأ عاصم وحمزة والكسائي درجاتٍ بالتنوين وقرأ الباقون درجاتِ بالإضافة. ففي قراءة الأوائل وقع رفع الدرجات، على (مَن) لا على الدرجات. والرفع عند الباقين واقع على الدرجات. ليس لنا أن نرد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، فالقرآن نزل بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ كما قال صلوات اللَّه عليه. ذكر أبو حيان: درجات ظرف أو مفعول ثانٍ. ضمن نرفع معنى ما يتعدى

إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات، أما الصلة (على قومه) فعلقها الآلوسي بـ آتيناها لتضمنه معنى الغلبة. أقول: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) ألهمه اللَّه الحجة وأظهره على قومه، وبمقتضى حكمته منحه درجات عليَّة عَلَتْ بها حُجته وارتفع على قومه فكشف عن تفاهة تصورهم وزَيْف مُعتقدهم، وبمقتضى مشيئته خصَّه بهذه الدرجات من سائر خَلقه، إنه منطق المؤمن الواثق بربه، المدرك حقائق هذا الوجود، يجد اللَّه في نفسه وضميره، وخاطره، وفي الكون كله من حوله ... اللفظ يختلف معناه حسْب انتظامه في عبارته. أين معنى الرفع في قوله سبحانه: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) من معناه في قوله: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) و (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ). جاء الرفع للدرجات حين تعدى لمفعول واحد فهو سبحانه يزيده منها ما يشاء أما في التعدية لمفعولين فقد جاء الرفع لإبراهيم لا للدرجات تأليقا لمكانته وظهورا على قومه، فهي جائزة سنيّة، ومنحة ربانية، لا تفتح الأعين من أحلامها بل تفتح الأرواح على أحلامها. جاء الرفع إذاً متعديا لمفعولين في قراءة عاصم وحمزة والكسائي ليُهيئ لإبراهيم عليه السلام فرصة الظهور على قومه، وليخلع عليه مِنحة من فضل ربه، تظهر فيها مزيتة على قومه في الحجة التي ألهمه إياها فتعلو، ويدحض حجتهم فتهوي ويرتفع على قومه عقيدةً ومنزلة وحجة. فجمع التضمين المعنيين: المنحة والظهور ليكون أبلغ في إعجاز الآية الكريمة. ولو سألت: لم جاء التعبير ترفع بدل تمنح؟ أقول: وهل كل منح

(لتركبن طبقا عن طبق (19)

يستلزم الظهور والرفع؟! إبراهيم عليه السلام .. هذا النمط الفريد من البشر، صنع اللَّه به ما صنع من الخوارق حين آتاه الحجة، ليتعامل بمقضياتها مع قومه في وعي والتزام تأخذنا روعته .. * * * قَالَ تَعَالَى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) (1). قال السيوطي: عن بمعنى بعد وتساءل الزمخشري: فإن قلت فما محل (عن طبق)؟ قلت: صفة لـ طبق: طبقا مجاوزا عن طبق. أو حال من ضمير تركبن طبقا مجاوزين عن طبق. وقد ذهب الآلوسي: إلى أن المراد بالركوب الملاقاة أي لتلاقنَّ حالاً مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، وقيل طبقات في الشدة بعد الموت من مواطن القيامة وأهوالها. وقيل: الطبق عشرون عاما، وروى القرطبي عن عكرمة: حالا بعد حال، وعن سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة. وعن الحسن: رُخاء بعد شدة، وغنى بعد فقر، وصحة بعد سقم. أقول: السياق يصور الحالة النفسية في ركوب الأطباق، وينسقها مع إيقاع المشاهد الكونية في الآفاق. فالشفق الخاشع فيه معنى الوداع. والليل الحالك وفيه معنى الرهبة والخشية والجلال. والقمر الساحر يبدد نوره سُدْفة الليل البهيم، فيه معنى البهجة والأمل العريض. لمحات كونية رائعة تخاطب القلب وتهز المشاعر مُلوحة بالقسم. ويأتي جواب القسم .... لَتركبن. وأي ركوب هذا؟! إنه التعبير عن

المعاناة وما يلاقيه المسافر من مشقة الأسفار، وما يكشفه ركوبه عن سهول وجبال وآكام. بل وما يكشفه ركوبه من مجاهل النفس عن منازلَ وأحوالٍ كلما ارتقت منزلة سعت لأعلى منها، وكلما كشفت حقيقة جهدت لتدرك غيرها. ومن أحوال القلب عن تقلبات ومجاهدات ومكاشفات: من رقة بعد شدة ومطاوعة بعد إباء، واتصال بعد انقطاع، وقرب بعد ابتعاد. ومن أحوال الكون عما يأتي به الليل من ظلمة بعد نور، والقمر عن اكتمال بعد نقصان، ومن طوارق الليل والنهار، وعند الختام ما يكشفه من مواطن القيامة عن حال بعد حال. الألفاظ في هذا الكتاب المعجز موحية وخلفها سر دفين، تُلمّح بالغرض ولا تصرح. فالتضمين جرى في (تركبن) ومراده (تكشفن) المتعدي بـ عن وجاء الركوب على طرف من الملامحة لأنه وسيلة من وسائل الكشف كما أسلفت. وفيه من اللمحات والسبحات ما يستجيش في القلب أقصى المشاعر تناغيه وتناجيه. فجلَّى التضمين وجه الحكمة في اختيار هذا الفعل ... يستضيء به المعنى ويبدي لنا عن مكنونه. جاء التضمين في ركوب الأطباق ليكشف صفحة عن هذه الكائنات تِلْوُ صفحة، وطوية عن عالم النفس إثْر طوية، ولو جاء التعبير: لتكشفن لخلا من معنى العَنَت والمشقة الموجودة في الركوب. ويبقى التضمين مصدر إثراء وعطاء في كتاب اللَّه الكريم، إن فزعت إليه حليت به وأنِقْت له. وإن تحاميته

(وقال اركبوا فيها)

نَزُر منه حظك وتخلفتْ عنه مرتبتك، فمرتقاه صعب، ومسلكه شاق، ومطلبه عسير. * وظهر الأرض من دونه وعْرُ * وبعدُ إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا) (1). قال أبو حيان: عُدِّي اركبوا ب (في) لتضمنه معنى: صيروا فيها أو ادخلوا فيها، وقيل: (في) زائدة للتوكيد أي اركبوها. وقيل: اركبوا الماء فيها. ثم نقل عن بعض المحققين قولهم: الركوب: العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه، واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن، فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك. وقد فرَّق الجمل وفقل فقال: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا) لغير الإنس وقال: (ارْكَبُوا فِيهَا) للإنس. واستعماله كلمة (في) ليس لأجل أن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظُن فإن أظهر الروايات أنه جعل الوحوش ونظائرها في جوفها والأنعام في وسطها وركب ومَن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك، والسر فيه أن معنى الركوب: العلو على شيء له حركة إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة، ففي الأول: ركبت الفرس (وَالْخَيْلَ

وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) وفي الثاني: يلؤح بمحلية المفعول بكلمة (في) (رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) و (رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) وقد نقل الآلوسي هذه الأقوال وأضاف: قيل التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا. أ. هـ. ونقل الرازي قول الحوفي: ولفظة (في) في قوله (اركبوا فيها) لا يجوز أن تكون صلة الركوب لأنه يقال: ركبت السفينة، لا في السفينة بل الوجه أن يقال: مفعول اركبوا محذوف والتقدير: اركبوا في السفينة وأيضا: يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها، فلو قال اركبوها لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهرها. أقول: هذا نوح عليه السلام يقول للخِيَرة من قومه اركبوا فيها ... إنه التعبير عن الاستسلام للمشيئة الإلهية في الركوب والجريان والرسو ... فماذا يملك نوح في هذه اللُّجة الطاغية؟!. الموج كالجبال يطغى على الذرى والوديان ... إنه مشهد العاصفة المدمرة في الطبيعة الصامتة. الركوب هنا تضمن في سياق الآية معنى الحظ والمتعدي بـ في. فلْيحطوا فيها يتابعوه ولا يعصوه فيما أمر حيث لا عاصم ولا حامٍ ولا واقٍ من أمر اللَّه إلا من رحِم، فقد جمع التضمين الركوب مع المتابعة

(فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (12)

والاستسلام، مع عدم العصيان فيما أمرهم به عليه السلام فكان إلى الإيجاز أميل، وبه أعنى، وفيه أرغب. وهذا مما أهملته المعاجم أما ما قيل من زيادة (في) فمنسوب إلى سوء التأمل. وأما تضمين اركبوا معنى: صيروا أو ادخلوا أو انزلوا فمستكره. فترفق بهذه الحروف بالملاينة في التأويل والتلطف بحسن الصنعة لتنال منها مرامك وتأوي إلى سداد، وتؤول إلى ثقة. * * * قَالَ تَعَالَى (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ) (1). جاء في كتاب الأفعال: ركض ركضا: مشى، وفي الأمر: فعله ماشيا أو جالسا، والأرضَ ضربها برجله، والدابةَ استحثها، والطائر والفرسَ: أسرعا والصواب ركض الفرس. والجوهري: الركض: تحريك الرجل ومنه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ). وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو. وقال الفراء: (إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ) يهربون وينهزمون ويفرون. وقال الزجاج: يهربون من العذاب. وقال البروسوي: يهربون مسرعين راكضين دوابهم. ومثله البيضاوي فالفعل يتعدى بالباء وبفي ولا يتعدى بمن إلا على التضمين كما قال الفراء والزجاج أي يهربون وينهزمون منها وذكر الآلوسي: والركض كناية عن الهرب وجوّز أن يكون استعارة تبعية. أقول: (من) هذه هي التي آذنتنا بما تضمنه فعلها من معنى الهزيمة

(فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (63)

والفرار حين تعدى بغير حرفه المعتاد وحملناه على حقيقته من غير دل إلى المجاز. إنها صورة حسية تشخص حالتهم النفسية، وقد أظلمت عليهم نفوسهم، ودُمِّرت عليهم ديارهم، فهم من بأس النازلة وهولها يضطربون كالفئران في المصيدة، حركات عشوائية بلا تفكير ولا شعور، يطلبون سبيل النجاة. فالركض على سعته وتناشره، اغترق جميع مداليله. إنها الهزيمة من باس الله وعذابه، وإنه الدمار يحل بالقرى الظالم أهلها، وحسبوا أن الركض ينجيهم من العذاب، والهرب والفرار يخلصهم من الدمار، وأنهم أسرع من إدراكه لهم، ولكنها الغفلة. ثم تلسعهم لذعة التهكم المرير: (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ). وعندها يستحسرون .... يا ويلنا! إنا كنا ظالمين ..... ولات ساعة مَندم. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (3). رجّح العكبري: (غير تخسير) الأقوى في المعنى أن يكون (غير) هنا استثناء في المعنى وهو مفعول ثانٍ لتزيدونني أي: فما تزيدونني إلا تخسيرا. ويضعف أن تكون صفة لمحذوف في تزيدونني شيئا غير تخسير وهو ضد المعنى. أما أبو السعود فقال: (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي) إذاً باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني - إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه منه - غير تخسير أي تجعلونني خاسرا بإبطال أعمالي

وتعريضي لسخط اللَّه تعالى. وقد نقل الآلوسي عن ابن عطية قوله: المعنى فما تُعطونني فيما أقتضيه منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم. وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا. وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان. وقال الزمخشري: غير تخسير يعني: تخسرون أعمالي وتبطلونها أو غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران. أقول: أتدعونا أن نترك آلهة آبائنا إلى عبادة إله واحد؟ يا لخيبة الرجاء فيك يا صالح! ويجيبهم: ماذا يكون يا قوم إن قصرت في إبلاغكم دعوة ربي احتفاظا برجائكم فيَّ؟ إن مراعاته لرجائهم فيه، سيعطيه خسارة فوق خسارة، خسارة الوقوع في غضب اللَّه لتقصيره في تبليغهم دعوة ربه، وخسارة الحرمان من شرف الرسالة التي شرفه اللَّه بها. سيزيدونه إذاً خسارة الدنيا فوق خسارة الآخرة. وإنما غالب أمرهم، ومجموع غرضهم أن يكص عن دعوته إلى التوحيد. وعلى أسلوب من الملامحة لهذا الغرض جاء معنى الزيادة في خسارته، إذ ليس هو من الخسران في شيء حتى يزيدوه منه. إن الداعية إلى اللَّه يستعلي بإيمانه أمام قوى الجاهلية، يقف من أنظمتها وأجهزتها موقف المفاصلة، فلا مهادنة ولا ملاينة، فالتضمين جعل الفعل (زاد) والمتعدي لمفعول واحد متعديا لمفعولين وهو موحٍ جدا في هذا السياق لأنهم سيخسرون خسارتين: خسارة الدنيا فوق خسارة الآخرة. فمن غفل عن تضمين زاد، فقد بخسه حقه، وأبطل مزيته، وضيَّع خالصه ولُبّه. * * *

(فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125)

قَالَ تَعَالَى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (1). ذكر الزمخشري: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا مضموما إلى كفرهم. وتبعه الجمل فقال: ضمن الزيادة معنى الضم فلذلك عدي بـ (إلى)، وقيل: إلى بمعنى مع. ومثله قال الآلوسي: فزادتهم نفاقا مضموما إلى نفاقهم فالزيادة متضمنة معنى الضم ولذا عُديت بـ (إلى)، وقيل: إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه. ونحوه قال البيضاوي: فزادتهم كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها. وزاد البروسوي: فزادتهم رجسا أي كفرا بها مضموما إلى الكفر وعقائد باطلة، وأخلاقا ذميمة، والفرق بين الرجس والكفر أن الأول يُستقذر طبعا والثاني يُستقذر عقلا. أقول: وأما الذين في قلوبهم رجس من النفاق فأضافت إلى رجسهم ونفاقهم رجسا جديدا وماتوا وهم كافرون. لعل تضمين (زاد) معنى (ضيف أو أضاف) والمتعدي بـ (إلى) أوْلى من تضمين إلى معنى مع أو تضمين الزيادة

(وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68)

معنى الضم، وأن إضافة رجس جديد إلى رجس قديم وإسناده إليه استحواذ للنفاق والمرض على قلوبهم وتحكمه فيهم لانطفاء نور الفطرة في أفئدتهم: * قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد * وهكذا يجمع التضمين إلى معنى الزيادة ضيافة يستضيف بها رجسا إلى رجسهم ليكون أجفى في الطبع وأذهب في القُبح وأفحش في النظر. والفرق بين اللفظين الزيادة والإضافة ملحظه دقيق فالزيادة ما زاد عن الحد، فالمؤمنون بلغوا حدا رفيعا من الإيمان فجاء نزول هذه الآيات مَعْلاةً لهم ليزيدهم حبا وكرامة ورفعة فهم يستبشرون. وأما المنافقون فلا حد لنفاقهم وأمراض قلوبهم فأضافهم نزول هذه الآيات إلى أمراضهم مرضا استجد فيهم لم يكن فيمن سبقهم وإلى نفاقهم نفاقا لا يكاد يُحاط به لِتَناشُره وانبثاثه. دل عليه السؤال المريب: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) تفوح منه روائح عفنة من القلوب المريضة كشفها لنا علام الغيوب. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (2). ذكر الزمخشري: ليزدادون عند نزول القرآن لحسدهم، تماديا في الجحد وكفرا بآيات الله. وجعل الجمل: (طغيانا) المفعول الثاني. وفسّرها الآلوسي بقوله: أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على

كفرهم وقال: (كثيرا) مفعوله الأول و (طغيانا) مفعوله الثاني. وقال أبو حيان: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر، ثم نقل عن مقاتل قوله: وليزيدن بني النضير ما أنزل من ربك من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا. وقال ابن جني: ومدّ النهر ومددته، قال اللَّه عز وجل: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) وسرحت الماشية وسرحتها، وزاد الشيء وزدته، وخسف المكان وخسفه الله، ودلع لسانه ودلعته ..... فهذا كله شاذ على القياس وإن كان مضطردا في الاستعمال، إلا أن له عندي وجها لأجله جاز؛ وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه، فإنما الفعل منه شيء أعيره وأعطيه وأقدر عليه، فهو وإن كان فاعلا فإنه لما كان مُعانا مُقدرا صار كان فعله لغيره (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) إن الفعل لله وإن العبد مكتسبه لأنه قد كان فاعله في وقت فعله إياه إنما هو مُشاء إليه أو مُعان عليه. أقول: قل يا أهل ... النداء مقصود به مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه. إن إقامة التوراة والإنجيل مقتضاها الأول الدخول في الإسلام، واللَّه يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة ستزيدهم عنادا وطغيانا وكفرا ولكن لا بد من ذلك وما داموا معاندين ومصرين على الكفر فاللَّه يفضحهم: لستم على شيء ويخاطب رسوله ألا يأس عليهم لأنهم هلكى لا يُقيمون كتابهم - الإنجيل والتوراة - فالتضمين جعل الفعل (زاد) والمتعدي لمفعول واحد متعديا لمفعولين. وهذا من باب الحكمة في معاملة الطغاة، فالجزاء من جنس

(وزوجناهم بحور عين (54)

العمل، وتوجيه منه لرسوله صلوات اللَّه عليه، وقطع الطريق على التفكير في الملاينة معهم إذ لا بد من الصدع بالحق، وقد جاءت كلمة الحق حاسمة: (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). فهذه الزيادة منه سبحانه تليق بطغيانهم، فهم يستحفونها عن كفاءة عالية، بل ويستوجبها إصرارهم على كفرهم. إنه التضمين وإنه نسيج وحده. على ضروب البيان .. لم يَشتف بمثيل * * * قَالَ تَعَالَى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (1) ذكر الجمل: زوَّج يتعدى بنفسه إلى مفعولين وعدي للثاني بالباء لتضمنه معنى (قرناهم). وقال الآلوسي: ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء (زوجته بها) خطأ لا وجه له. وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: زوجناهم: أنكحناهم والمراد على ما قال أكثر من واحد: قرناهم. وقال أبو السعود: وزوجناهم: قرناهم بهن. ومثله قال البيضاوي ولذلك عدي بالباء. ووافقه البروسوي أيضا. ونقل عن صاحب المفردات قوله: ولم يجئ في القرآن زوجناهم حورا كما يقال: زوجته امرأة تنبيها أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة، قيل: ثم لا يكون العقد في الجنة لأن فائدته: الحِل، والجنة ليست بدار كلفة من تحريم أو تحليل. وذكر الخليل: أن الباء للإقحام ومعناه زوجناهم حورا عينا. وقال

الجوهري في صحاحه: تقول العرب زوجته امرأة، وتزوجت امرأة وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول اللَّه تعالى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم بهن. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة: في أزد شنوءة. أقول: لعل تضمين زوج معنى (أكرم ومتع) والمتعدي بالباء، أحلى جنى وأعذب، لأنه كالرمز والإيماء على المرتقى السامي فيُطلب والعزيز الخبيء فيُستخرج فالزواج في الجنة إمتاع وليس للمُكرَم إلا أن يترقى في منازل الإكرام ويعلو في مراتب المتعة حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع. فإمتاعه بحوراء بل بحور لا حَصَر لهن، حلقة في سلسلة صور التكريم في المشهد البهيج من النعيم المقيم. أما صرف الزواج للقِران والقرينة (فعولة بمعنى مفعولة) فمستوحش في مسالك الاستعمال يُعر معناه كُدرة لفظة، قال تعالى: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقال سبحانه: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) وقال: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) وقال جل جلاله: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) وقال: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) وقال: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ). فهل نستسيغ ما قاله أكثر المفسرين من تضمين الزواج في الجنة معنى القِران! فالباء هذه صرفت معنى الزواج إذاً إلى الإمتاع، وهل كان الزواج في

(لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)

جنة النعيم لغير المتعة، فصارت الباء كالمنبهة على تكريم أهل الجنة بالحور العين وليست مقحمة ولا زائدة ولا ... فجمع التضمين الحسنيين ودل على الغرضين فاشددْ يدك به ولا تَنْبُ عنه فالخيرُ في وجهه والفضل في سجاياه. * * * قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) (1). ذكر الزمخشري: تعدى السؤال إلى المفعول الثاني بـ (إلى) لتضمنه معنى الإضافة أما الآلوسي فقد قال: والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بـ (إلى) لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل: لقد ظلمك بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب، أو ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه. وقريبا منه قول ابن جزي: سؤال مصدر مضاف إلى المفعول وإنما تعدى بـ (إلى) لأنه تضمن معنى الضم والإضافة كأنه قال: بسؤال نعجتك مضافة أو مضمومة إلى نعاجه. أقول: إن تعدّي السؤال بـ (إلى) حملنا على تضمينه معنى (طلب) و (ابتعى) و (رغب) ولعل إلحاح صاحب التسع والتسعين نعجة على خليطه أن يكفل نعجته الوحيدة وذلك بضمها إلى نعاجه دليل بغيه وظلمه: (وَإِنَّ

كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أما إصدار الحكم من داود عليه السلام في القضية بكون الخصم ظالما بمجرد دعواه ومن غير بينة وقبل أن يسمع منه، فدليل على استثارته وتعجله. ثم أحس عليه السلام أنه سها عن طلب البينة وأنه تعجل، وأنه الابتلاء من اللَّه ... فاستغفر ربه وخرَّ راكعا وأناب. والتعقيب على القصة، يكشف عن طبيعة الفتنة، ويحدد المقصود من الابتلاء. (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) والهوى هو الانفعال وعدم التريث والتثبت والتبين. ولولا (إلى) والتي لا يتعدى بها فعل السؤال لما فهمنا معنى الضم والطلب والابتغاء والرغبة. ولو قال: لقد ظلمك بضم نعجتك لفسد المعنى لأنه لم يضمها ولا أضافها وإنما طلب إليه أن يضمها إليها: (أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) فتضمين السؤال معنى الطلب والابتغاء والرغبة - لقد ظلمك بابتغاء نعجتك إلى نعاجه - دل على شرف هذه اللغة بأن اللفظ لتناشره وانبثاثه غيرُ محصور في منظور ضيق لا يخرج عنه فهو من أي عِطفَيه التفت، يجد معنى فوق معناه. هو أوفق له وأملأ به، يعطي ... ثم يعطي عن ميزة وعلى بصيرة. * * *

الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا (59)

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (1). ذكر الزمخشري وجوها منها: - الباء في (به) صلة سل كقوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) أو سأل به: اعتنى به. - أو صلة (خبيرا). فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو فسل بسؤاله خبيرا. - أو تجعله حالا عن الهاء فسل عنه عالما بكل شيء. وفي الجمل: به متعلق بـ خبيرا وقدم عليه لرعاية الفاصلة القرآنية. وقال الملياني الأحمدي: خبر بالشيء: علمه بحقيقته وكنهه. وقال البطليوسي: إنما جاز استعمال الباء مكان عن بعد السؤال لأن السؤال عن الشيء إنما يكون عن عناية به واهتبال بأمره، فلمّا كان السؤال بمعنى العناية والاهتبال، عُدِّي بما يُعديان به. وأما قوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) فإنه يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون فاسأل عنه العلماء ذوي الخبر من خلقه، والثاني: أن يريد فاسأل بسؤالك إياه خبيرا، أي إذا سألته فقد سألت خبيرا عالما، كما تقول: لقيت بزيد الأسد أي لقيت الأسد بلقائي إياه، فالمسؤول في هذا الوجه هو اللَّه عز وجل، والباء على وجهها، والمسؤول في الوجه الأول غير اللَّه تعالى، والباء بمعنى عن. والقول الثاني عندي أجود وإن كان الأول غير بعيد. أ. هـ.

وذكر السيوطي: فاسأل به: المجاوزة كعن أي عنه بدليل (يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ) وقيل: استدع به خبيرا ضمن (فاعتن أو اهتم به)، لأن السؤال عن الشيء اعتناء به. ومثله قال ابن هشام والأشموني والزركشي والمرادي وذكر البيضاوي والآلوسي: ويجوز تضمين (سأل) معنى (فتش) فعدي بـ (عَنْ)، ويجوز تضمين سأل معنى اعتنى فيتعدى بالباء، والباء عند البصريين للسبب، ولا يجوز أن تكون بمعنى عن. وقال ابن هشام: فيه بُعد لأن المجرور لا يقتضي أن يكون مسؤولا عنه. وقال الرازي: فاسأل به خبيرا و (به) يعود إلى خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش والباء صلة الخبير. أقول: ويبقى المعنى منوطا بما أومأ إليه السياق وعقد السائل عليه الغرض. فمع السيطرة والاستعلاء (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الرحمة الشاملة (الرَّحْمَنُ). ومع الرحمة الدائمة الخبرة المطلقة (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) فاكتف به خبيرا لدى سؤالك عن أي أمر، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فالسائل إذا ظفر بخبير فليكتف به عن سؤال سواه. لأنه محيط بظواهر الأمور وبواطنها، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء اللَّه سبحانه. والعلاقة واضحة بين المضمن والمضمن فيه فالسائل إنما يكفيه الخبير، لأنه حين يسأل فإن لديه حاجة يسأل عمن يكفيه إياها، وهل يسأل إلا خبيراً (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا): فاكتفِ به خبيراً سبحانه. أو يكون الكلام من باب التجريد والباء ليست صلة ولكنها باء التجريد: سببية، والخبير هو اللَّه تعالى، فإذا سألته فقد سألت خبيراً عالماً.

(سأل سائل بعذاب واقع (1) للكافرين ليس له دافع (2) من الله ذي المعارج (3)

أما جعل الباء بمعنى عن، أو تضمين السؤال معنى التفتيش أو الاعتناء المتعدي بالباء، أو (به) صلة (الخبير) قُدمت، أو تجعله حالاً عن الهاء أو ... أو ... فأرجو السلامة من التورّط فيه، إذ كيف أسال عن الخالق أحداً من المخلوقين مهما بلغ به العلم؟!. إنه التضمين بألفاظه الجَزلة البادنة، فهي حبالى تستكمل حملها ... حتى تلد على يد طبيب صناع. * وجُل المعاني بالولادة تظهرُ * * * * قَالَ تَعَالَى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)). السؤال: استدعاء معرفة، أو ما يؤدي إليها. وسأل يتعدى بنفسه قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا). ويتعدى بـ عن قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) ويتعدى بـ (إلى) وقد تعدى هنا بالباء فلا بد من حمل المعنى على التضمين، وتضمين الباء معنى (عن) قال به مجموعة من المفسرين ولا شيء وراءه. وذهب الزمخشري إلى تضمين (سأل) معنى (دعا) فعُدي تعديته، كأنه قيل: دعا داعٍ بعذاب واقع من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ

آمِنِينَ). وعن قتادة: سأل سائل عن عذاب. على مَن ينزل وبمن يقع، وعلى هذا الوجه مُضمن معنى عني واهتم. ثم تساءل بم يتصل (للكافرين)؟ قلت: بعذاب أو بالفعل دعا أو بواقع. فإن قلت: من اللَّه بم يتصل؟ قلت: بواقع أو بدافع. وتبعه في ذلك أبو السعود. وزاد عليه أبو حيان بتضمين سأل سائل: بحث باحث. وضمن الآلوسي معنى الاهتمام والاعتناء. أقول: ألسؤال هو عن الحقيقة الكبرى والتي تتصدى السورة لإقرارها في النفوس، وهي من الحقائق العسيرة الإدراك عند المشركين، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة، وينكرونها أشد الإنكار. فالسائل يستعجل بوقوع العذاب، ومتى سيكون، وتقرر الآيات أنه قريب، وأن أحدا لا يملك دفْعه أو منْعه فالسؤال عنه من تعاسة السائل المستعجل. وأرى تضمين السؤال معنى (النَجَز والاستعجال) فهو أسيق من دعا كما ذكر الزمخشري ونقله عنه كثير من المفسرين، لأن السؤال إذا كان بمعنى الدعاء والطلب والمتعدي بالباء - قَالَ تَعَالَى: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) فلا فاندة هنا من الترادف ... فالكفار من باب التهكم والاستهزاء، يتحدون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويستنجزونه وعده بوقوع العذاب واستعجاله استنجز مستنجز بعذاب واقع، فحقيقة الآخرة تلقوها بدهش، وأنكروها بعنف، والعذاب واقع بهم لا محالة، لأنه حاصل بتقدير اللَّه عز وجل، وأن أحدا لا يمكنه دفعه. ْفالقرآن يواجه المستعجل بوقوع العذاب بسياط لاذعة تفتح الأعين على

(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)

الخطر الداهم القريب، ولولا الباء لانصرف السؤال إلى حقيقته وهو الاستفتاء وطلب المعرفة، ولخفي عنا غرض السائل المستنجز، فقد ضم إلى السؤال طلب العذاب واستعجاله برفع العقيرة تهكما وسخرية. والتضمين تعريض بالمعنى وتلويح به وهو أحلى من التصريح وأدمث. أما من قال بتضمين الباء معنى عن فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه، ومن قال بزيادتها، فالبيان المعجز غني عن زيادتها، وإنما تنكشف البراعة عند معرفة وجه التأويل لهذه الحروف بمعونة المقام ودلالة القرائن، وأنها جاءت لتُكسب المعنى غِنى وفُشُوا، ورفعة وسموا. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (1). ذكر الجمل: اللام بمعنى على وإنَّمَا عبر بها للمشاكلة، قال أبو البقاء: وهو الصحيح لأن اللام للاختصاص، والعامل مختص بجزاء عمله حسنة وسيئة، أو بمعنى على واللام للمشاكلة مثل: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ) و (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ). وهذه اللام تتعلق بمحذوف على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فلها الإساءة لا لغيرها كما أشار إليه المصنف. وقال الآلوسي: فلها أي فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب، فاللام بمعنى على كلما في قوله: * فخرَّ صريعا لليدين وللفم * وعبر بها لمشاكلة ما قبلها. وقال الطبري: هي بمعنى إلى، فإساءتها راجعة إليها. وقيل: إنها للاستحقاق كما في قوله تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وعند الزمخشري: أنها للاختصاص، وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدي ضرر الإساءة إلى غير المذنب. وقيل: للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم. أقول: أحسن وأساء يتعديان بـ (إلى) فإن تعديا بغيرها يَحسُن حملهما على التضمين. قَالَ تَعَالَى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ). وفي الحديث: " يا ربِّ أُسيءَ إليَّ ". فإذا تعدى (أساء) باللام فقد تضمن معنى (جَرَم). فمن جرم فلنفسه من السيئات يرتد قَسْمه وجَرْمه وكَسْبه، ويُحمِّل نفسه ما لا تُطيق مما يُثقلها ويتدافع بها. وإذا تعدى أحسن باللام تضمن معنى (جاد) جدت له بالمال جوداً ورجل مجواد. وفي الحديث: " تجودتها لك " أي تخيرت أجودها. وإذا تعدى أساء بـ (في) تضمن معنى (نكى). وفي الحديث: " أعوذ باللَّه أن أسوءك في عائشة ". وإذا تعدى بالباء تضمن معنى (تأذى) ففي التنزيل: (سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا). وهكذا يستضيء كل سياق بحرفه في استشفات معناه على طرف من المُلامحة، وتبقى الحال موكولة إلى ملاطفة التاؤل وسَعَة النظر. والانتفاع بها ليس إلى غاية، ولا وراءها من نهاية. والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من سياق اللفظ تبيانا * * *

(فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3)

قَالَ تَعَالَى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (1). قال الموزعي: واختلف أهل العلم في الباء فقيل: للمصاحبة وقيل: للاستعانة. وتساءل السهيلي: ما فائدة دخول الباء في: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ). ولم تدخل في: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). وأجاب: التسبيح قسمان: أحدهما: أن يُراد به التنزيه والذكر. والثاني: يُراد به الصلاة. وهي ذكر مع عمل، فإذا أردت التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر فلا تقول: سبحت بالله، وإذا أردت المتضمن لمعنى الصلاة أدخلت الباء فتقول: سبح باسم ربك وصل باسم ربك أي مفتتحا باسمه. وكذلك دخلت اللام في قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ). لأنه أراد السجود والطاعة (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). أما أبو حيان فقال في معناها: أي ملتبسا بحمده على هذه النعم التي خوَّلكها مِن نصرك على الأعداء وفتْحِك البلاد وإسلام الناس. وذهب ابن هشام ومن معه كابن عقيل والزركشي: إلى أن الباء للمصاحبة والحمد مضاف إلى المفعول أي فسبحْه حامدا له: نَزّهْهُ عما لا يليق به، وأثبتْ له ما يليق به. وقيل: الباء للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل: أي سبِّحه بما حِمد به نفسه، إذاً ليس كل تنزيه بمحمود، ألا ترى أن تسبيح المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات؟.

أقول: لكن تضمين التسبيح معنى الصلاة كما قال السهيلي، اضطره إلى الحذف والتأويل حين قال ملتبسا بحمده. فالتسبيح ليس محصورا في الصلاة والذكر بل يأتي بمعنى التوبة والإنابة والبراءة ويأتي بمعنى الحمد والشكر والثناء و .... التسبيح تظليل الصورة بتنزيهه عن الشريك والشبيه والمثيل، يُلقي ظله على النعم وأصناف المحامد، ليرق القلب فيلهج بحمده العميم الواسع ويستغفره من كل تقصير بحقه. فذِكْر الاستغفار إذاً لما يقع فيه الإنسان من تقصير وغفلة عن الاتصال بالملأ الأعلى لإدراك أسرار هذا الوجود وخالق الوجود، تحجبه طينته الأرضية عن جلال الخالق فيغفل عن تسبيحه وحمده، والتسبيح بمعنى البراءة (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) فالمسبح يتبرأ من حوله وقوته وعلمه وتدبيره إلى حول اللَّه وقوته وقدرته، وكل شيء بيده. والتسبيح بمعنى التوبة (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ). و (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ) فالتسبيح هنا: السرعة في الانقياد، والخفة في الطاعة. والتسبيح بحمده يتضمن صورا عديدة: أن يكون اللسان لَهِجا بذكره، غَرِيًّا بالثناء عليه، والقلبُ وَلُوعا بحمده، حَفِلا بمرضاته، مشغوفا بشكره، والفؤادَ مشغولا بتنزيهه. كل هذه الصور (أغرِ، والهج، واحفل، واشغَف بحمده) عرائس

(واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر)

تسبيحٍ من وراء التضمين تصرح بغرضه. وكثير يضعف عن احتماله لِخفائه ولطفه. رُبَّ طَرف مصرح ... عن ضميرٍ بما هَجَس * * * قَالَ تَعَالَى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) قال الزمخشري ومثله الرازي والجمل: تسابقا إلى الباب، على حذف الجار وإيصال الفعل كقوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) أو على تضمين استقبا معنى ابتدرا. وقال أبو حيان: وأصل (استبق) أن يتعدى بـ (إلى) فحذفت اتساعا. أقول: لعل تضمين استبقا الباب معنى (قصداه ويمماه) والمتعدي بنفسه. يجمع المعنيين: التسابق مع اليمِّ والقصد. ويبقى للتضمين مزية الكشف عن رصيد المعنى، فقَصْدُه البَاب مسرعا ليسبقها إنما كان لخروجه فائزا بنفسه. وتيممها الباب تسُابقه لإحكام إغلاقه، والفوزِ بحاجتها منه. صاحب الحاجة أعمى ... لا يرى إلا قضاها ولو قلنا بالحذف والإيصال لأجدب المعنى وجفَّ ماءُ بشاشته، فما كلُّ

(الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا)

حذفِ يشفع بشرح أحواله المحيطة به، فنضطر في معرفته أن نلجأ إلى سياقه، والسياق هدانا بمعونة المقام ودلالة القرائن إلى قصدهما من وراء الاستباق: فقصده لينجوَ ... شهد ببراءته أهلها حين قال العزيز: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) وقصدها لتظفر بمطلوبها فقدَّت قميصَه من دُبُر لترده عن الباب وتظفرَ بحاجتها. وهاهي تدرأ شناعة السقوط عن نفسها حين تلصق به ظاهر معزتها فتسأل زوجها العزيز (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا). وخشيت من عاقبة السؤال أن يؤدي إلى غير ما اعتزمته ونقضِ ما رامته، فقالت: (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) خوفاً عليه أن يبطش العزيز به، هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول. أما ما ذكره الزمخشري وغيره من الحذف والإيصال فلا يكشف عن غرضه، فما كل زهرِ يُنْبِتُ الروضَ طيبُ. * * * قَالَ تَعَالَى: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) (4). قال الزمخشري: استبقوا إليها غيركم. وقال أبو السعود: تسابقوا إليها بنزع الجار. وقال الجمل: بادروا إلى الطاعات. والخيرات منصوب بنزع الخافض.

اقول: يصرف الله المسلمين عن الانشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وأقاويل، يأمرهم بالعمل ويصرفهم عن الجدل. إنه الجِدّ ... تصغُر إلى جواره الأقاويل والأباطيل، والمراد من السباق المسارعة والعجلة، وهو غايته وثمرته، علَّه يفوز بجائزة المليك (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فتضمن (الاستباق) معنى (الابتدار) فعُدي تعديته: في الحديث: " فابتدرت أنا وعائشةُ الكوزةَ فبدرتُها ". وفي الحديث: " فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب ". وفي الحديث: " رأيت بضعة وثلاثبن ملكا ببتدرونها ". وقال الأعشى: وبدرت القول أن حييتها ... ثم أنشأت أُفدي وأُهن يتبادرون فناءَه ... قبل الشروق وبالأصائل وبهذا فاز التضمين بفضل المعنيين جميعا الاستباق مع الابتدار. والتضمين في كلام العرب فاش فُشوا في غاية الانتشار فهي تُعنى بألفاظها وتراعيها وتهذبُها لتُصيبَ منها أغراضَها. والمراد بالخيرات عمومها وصنوفها دون تخصيص، ولم ترتبط بمكان - أينما تكونوا - وارتبطت بالآخرة بعيدة عن المصالح الدنيوية والمآرب الذاتية - يأتِ بكم الله جميعا - فالسرعة السرعة ... والبِدار البِدار ما دمتَ في هذه

(ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66)

الدار، والآن الآن قبل أن لا يكون آن. كل خير زهرة، وكل زهرة ابتسامة، ترمي ظلالها المتلألئة وخلفها سِر دفين. فهل نجنح إلى ما ذهب إليه القائلون بنزع الخافض وهو جنوح عارٍ عن أي فائدة بيانية؟ أم نتحرى الكيس في الإجابة عن نزعها؟ فنضمن الفعل فعلا خالِفا له في وجوده، يحتفِل له ويُفيض فيه إشعاعا كأنه رعشات بيان من نور المادة اللغوية تجعل اللفظ ماءً سائغاً، يُثري معناه، ونفزع إليه عند غيابه لتحصيل الغرض الذي أريد منه، وجيء به من أجله. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (1). قال الزمخشري: لا يخلو أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل فاسبتقوا إلى الصراط، أو يضمن معنى ابتدروا، أو يُجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه، أو ينتصب على الظرف. وذكر أبو حيان ونقله الآلوسي: ذهب ابن الطرواة إلى أن الصراط من الظروف المكانية فيجوز انتصابها على الظرفية بخلاف ما صرح بها سيبويه إذ جعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد: - لدن بهزِّ الكفِّ يعسلُ متنه ... فيه كما عسل الطريقَ الثعلبُ أي في الطريق وقرأ الجمهور: [(فَاسْتَبَقُوا)] فعلا ماضيا معطوفا على طمسنا أو مفعولا به على تضمين استبقوا معنى بادروا

أقول: نخلص من خلال ما مر إلى تصورٍ لمشهد فيه سخرية من المكذبين الذين قالوا للمؤمنين: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). فهم الآن مطموسة أعينهم يقتحمون الصراط، يهجمون الصراط، يتزاحمون عليه يتخبطون كالعميان، يتساقطون (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أوليس التقحم هو الوقوع في أُهْوية من غير روية؟! تضمن استبق إذاً معنى (اقتحم) وهو يتعدى بنفسه ويصور مشهد المكذبين أحسن تصوير فلا داعي إلى الحذف والإيصال ولا إلى الإسقاط ولا إلى نصب الصراط على الظرفية. مشهد فيه من البلاء قَدْرَ ما فيه من السخرية والاستهزاء. سخرية بالمكذبين، واستهزاء بالمستهزئين حين قالوا: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فهم عميان ومع العمى يستبقون الصراط، يقتحمونه يتزاحمون على العبور، يتخبطون ويتساقطون حين يسارعون متنافسين فأنى يبصرون؟ إنهم في هذا المشهد في حال تثير السخرية والهزء، وطالما يصرفنا التضمين عن كثير من. التعقيد في العبارة والحذف والتأويل والتقديم والتأخير، فإذا نحن مع سهولة العبارة، وسلامة التركيب، ومع لطف المأخذ وجودة الصنعة لا حاجة إلى المجاز ما دام مفهومه مستقلا بنفسه. ثم إن التقحم والهجوم أعون على رسم المشهد لهؤلاء المطموسة أعينهم، مشهد فيه من السخرية لهؤلاء المستهزئين ما فيه، فهم مع العمى يتقحمون ويتساقطون عند الصراط في المعبر في جهنم. فإن شدَوتَ من طريف هذه اللغة التي لا يكاد يحاط بها، فبالملاطفة والإكثاب من غير إكراه ولا إغصاب. * * *

(نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61)

قَالَ تَعَالَى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) (1). السبق لغة: الفوات. قَالَ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبَ ... أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) قال الطبري: وما نحن بمسبوقين أيها الناس في أنفسكم وآجالكم، فمُفتات علينا فيها في الأمر الذي قدرناه لها من حياة أو موت، لا يتقدم ما أجلناه ولا يتأخر، فجعل (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) جملة معترضة. أ. هـ. وقال العز: ويأتي متعديا بـ (على) فيحمل على التضمين: وما نحن بمغلوبين، ولا يقال: سبق على كذا إلا مضمنا. وضمنه القرطبي وابن جزي والشوكاني: مغلوبين. وضمنه الجلالين: عاجزين وجعل (على) بمعنى (عن) لأن فعل عجز يتعدى بـ (عَنْ) فنضطر إلى تضمين الحروف أيضا وجوز الجمل: تعليق (على أن نبدل) بمسبوقين أو بـ قدرنا. وضمنه البروسوي: (قادرين) لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ونأتي بأشباهكم. أقول: أمر الخلق وأمر الموت واضح لا تعقيد فيه، وهو أضخم الحقائق الكونية يخاطب الفطرة. نحن قدرنا الموت لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة المتكاملة، وتقديرنا مبني على تبديل وتجديد في الأجيال لعمارة الأرض والخلافة فيها حتى تنتهي النشأة الأولى (الدنيا) وتبدأ

النشأة الآخرة وترسو السفينة في مقرها الأخير. وتأتي الجملة المعترضة كما أشار الطبري - وما نحن بمسبوقين - فلا نسبق في أمر الإماتة (قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وأمر التبديل (نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ) وأمر النشأة الآخرة (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) ولا يفلت من تقديرنا هذا أحد ولا يفوت تدبيرنا أحد. أمر النشأة الأولى والخلق والموت مألوف (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) إنها معجزة لا يدري البشر كنهها، فالخلية الأولى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) تصير خلقا لا يصدقها العقل لولا أنهم يشهدون وقوعها (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) هذه الخلية تنقسم إلى ملايين ... وكل مجموعة تُنشئ جانبا من المخلوق: العظام، العضلات، الأعصاب، الغدد ... وتتخصص كل طائفة منها بعمل لا تُخطئه ليكون الإنسان في أحسن تقويم تحت عين الخالق. اللَّه قدّر الموت كما قدر الحياة فإذا انتهى الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا جاءت النشأة الأخرى والتي لا يدري البشر عن عالمها المجهول شيئا (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ). نعم قدرنا الموت وما نحن بمسبوقين. وحين علقنا الصلة (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ) أي على تبديل أمثالكم بمسبوقين يكون توجيه المعنى بتضمين مسبوقين معنى (مُكدين) والمتعدي بـ (على) أي وما نحن بمُكدين على تبديل أمثالكم. نعم ... فما نحن بممتنع

(وهم لها سابقون)

علينا أمر التقدير والتدبير في النشأة والإعادة، ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئا إلا ووجه الحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه. والعلاقة بين المضمن والمضمن فيه أي: بين (نفي السبق والإكداء) هي: نفي المُعوقات ودَحض مَعرتها ويغنينا التضمين عن الحذف والتقدير والتأويل وتعاور الحروف وتناوبها، لأنه ألطف في الأذهان، وأسرع للخواطر، وأجمع لوجوه البيان. والثناءُ عليك قليلُ ... والكثير فيك يقل أما تضمين (مسبوقين) معنى (عاجزين) أو (مغلوبين) فصورة فجَّة غير لائقة بجلال اللَّه ووقاره. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (1). سبق يتعدى بـ (إلى) جاء في أساس البلاغة أن تعدية الفعل باللام تفيد المجاز أي لهم فيها سابقة. ذكر الزمخشري: لها سابقون: أي فاعلون السَّبْق لأجلها أو إياها سابقون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عُجلت لهم الدنيا. ومعنى (وهم لها) كمعنى: * أنت لها أحمد من بين البشر * وقال الجمل: نقلا عن السمين: اللام بمعنى إلى. يقال: سبقت له وإليه، وقُدم للفاصلة والاختصاص. وقيل: اللام للتعليل وتكون الجملة مؤكدة

لما قبلها فتفيد الثبوت بعدما دلت الأولى على التجدد. وفي أبي السعود: اللام لتقوية العامل، والمعنى يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، وهم لأجلها فاعلون السبق. وذكر الآلوسي: وهو إما مُنزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق، أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس. وجوز ألا يكون المراد بالخيرات: الطاعات. واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده. والمعنى يرغبون في الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو الجنة. أقول: ومن المعاني لفعل (سبق) قولهم: لفلان سابقة في هذا الأمر. فهؤلاء لهم سوابق في الخيرات، ولهم فيها أيادٍ سلفت فهي (الخيرات والمبرات) ليست جديدة عليهم فهم يمارسونها من قديم. ومن معاني سبق إذا وقفنا عند (هم لها): أنهم جديرون بالسبق في الخير بما لا حصر لصنوفه، وأنهم أهل له، ولهم فيه قدم راسخة. ويبقى لموقعية الحرف الدلالةُ على غرضه الذي أومأ إليه، وما اختير في سياقه إلا لغرض يُؤديه في مائه ورُوائه، فكِلِ الحالَ إلى مُلاطفة التأوّل، ولا تضع الأغلال في عنق اللام لتحصرها بالتعليل أو التقوية أو بمعنى إلى أو ... بل أطلق يدها مع (السابقين) في تنوع دلالاتها متوجهةً في كل تصور ترتاح لهذا التسابق نفوسُهم، فلها هوى فيه وانعطاف نحوه، لتنعم بالرضا وتفيض بصنوف الخير. إنه التضمين، يَلِدُ فيه اللفظ معاني جمة، لكل معنى طبيعة، تعلوها نَضْرة روحه.

(أولئك يسارعون في الخيرات)

تأملُ العين منها ... محاسناً ليس تنفدُ فبعضها قد تناهى ... وبعضها يتولَّدُ * * * قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (2). قال الزمخشري والرازي: فيها توجيهان: 1 - يرغبون في الطاعات يبادرونها. 2 - يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام. وكرر قولهما الجمل. ويرى الآلوسي: أن إيثار (في) على (إلى) للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ). متمكنون منها تمكن المظروف في ظرفه. أقول: لعل تضمين (يسارع) معنى (يسابق) و (يجدُّ): جَدَّ فلان في أمره إذا كان ذا مضاء، وفي الحديث: " إذا جدّ في السير " أي اهتم وأسرع فيه. أدنى للسياق، وألصق بالمراد من (رغب) لأن الرغبة لا تزال في حيز

(ما على المحسنين من سبيل ... إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء)

النية لم تتحول إلى عزيمة أو تنفيذ، أما الجد والتسابق فهو آثر في أنفسهم، تأهبوا له، ونشّموا فيه، ومارسوه ... فهم أوائل في فعل الخير، إنها اليقظة التي يُولدها الإيمان حين يستقر في القلب، ويتصل بالخالق. يدلنا على ممارستهم لها ما جاء في وصفهم (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) فلهم فيها يد سلفت يمارسونها من قبل وليست جديدة عليهم. ولو سأل سائل: ما داموا يمارسونها، لمَ جاء التعبير بالمسارعة؟ أقول: ليُضيف معنى الجد والمضي والاهتمام والسَّبْق في ممارستها والتنشيم فيها والتعجيل في أدائها. وليسست الممارسة التي تتساهل من ضعف، وتترخص من كسل. إنه التضمين ... * ربما أستفْتحُ بالتضمين مغاليقَ الكَلِم * * * * قَالَ تَعَالَى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ... إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) (1). قال أبو السعود: ليس عليهم إثم ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما السبيل في اللائمة والعقوبة على الذين ... ونقله الجمل. وقال أبو حيان: يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم وكان خبر السبيل هو (على الذين). أقول: ترك ربنا (السبيل) مفتوحا ليعدد شعابه، ويطلق مناحي القول فيه، فقد يكون سبيل المعاتبة أو المؤاخذة أو المضايقة أو الحرج أو الجُناح

أو الإثم ... فـ (على) أفادت استعلاء العقوبة بكل صنوفها على المتخلفين عن الغزو. فتضمين (السبيل) معنى (المأخذ). والمؤاخذة تعدت بـ (على) لتسلطها على الذنب واستعلائها على أصحابه (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) والمثوبة تعدت بـ (إلى) لتيسر أسبابها ووصول المتقين إليها. ثم المؤاخذة (مفاعلة) مشتقة تتعلق بها الصلة (على الذين) والمعنى: إنما مأخذ الإثم ومَخزاته وسوأتُهُ على الأغنياء الذين يجدون ما ينفقون في تجهيز أنفسهم للقتال، ثم يستأذنونك معتذرين عن الخروج معك، مبخَلة منهم ومَجبَنة. أفرأيت إلى الحرف كيف غير المعنى؟! فـ (على) دخلت على (السبيل) فأعطتها معنى الأذاة والإزْراء والشَيْن. و (إلى) دخلت على (السبيل) فاعطتها معنى النجاة والإطراء والزَيْن. فإن مررت بهذه الحروف فتشرف إليها مستشفاً لها، وارفق بها لتُوليك جانبها، وتُمطيك غاربها، ثم لا تقطع فيها برأي ليقوم لك العذر فيها، فيعلوَ فيه قولك ويعنو لصحته خصمُك. إنه التضمين ... يمنح اللفظ روحا ترفرف في جناحيه. الحسن في كل جنح ... من عارضيْه مُورَّد لا ينفد الحسن منه ... والقول فيه سينفد * * *

(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)

قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) (1). ضمن العز (أسرفوا) معنى (جنَوْا) وقال الآلوسي: أسرفوا على أنفسهم: أفرطوا في المعاصي، وضمنها معنى الجناية (جنوا) ليصح تعديه بـ على، والمضمّن لا يلزم أن يكون معناه حقيقيا. وقال الزمخشري: أسرفوا: جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغُلو فيها. وتبعه البيضاوي. ويرى صاحب الشهاب فيما نقله عنه الجمل: أن الإسراف مجاز لاستعمال المقيد - وهو الإفراط في صرف المال - في المطلق ثم تضمينه معنى الجناية ليصح تعديته بـ (على) والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا. والإسراف يتضمن معنى الإشراك بالله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) كما يتضمن معنى الإفراط في المعاصي (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ). أقول: ولعل تضمين (عَدَوْا) أدل على المراد من (جَنَوْا) لأن جنى على نفسه: أذنب ذنبا يؤاخذ عليه، أما عدا على نفسه: ظلمها وجاوز القَدْر في ظلمها فالعدوان مع سياق القنوط أوْلى من الجناية، فالإسراف على النفس

(يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12)

مطلق كما مر يشمل الإشراك والإفراط في أنواع المعاصي والعدوان عليها مقيد. ولعل استعمال الإسراف بدلا من العدوان أسوغ مع السياق (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) سياق الرحمة وفتح باب الأمل، فلا يقنطوا ولا ييأسوا ويبقى المسرف على نفسه [وَجِلاً] قلبُه بين اليأس مما حصدت يداه في ظلم نفسه، وبين الرجاء فيما عند الغفور الرحيم. يفتح لهم أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة ويدعوهم إلى الأوْبة إليه غير قانطين ولا يائسين، فمن أسرف في المعصية ولجَّ في الذنب وأَبَقَ عن الحمى وشرد عن الطريق، ليس بينه وبين الرحمة الندية وظلالها الرخية إلا التوبة، وإلا الأوبهَ إلى الباب المفتوح ليس عليه من يمنع، ولا يحتاج الوالج فيه إلى استئذان، ففضل التضمين أنه جمع المعنيين جميعا فالزمه لِشرفه واشدد يدَك به. لقد كان نسَّاجا يسد خصاصها ... بقول كطعم الشُّهد مازجة العَذْبُ * * * قَالَ تَعَالَى: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (1). ذكر الزركشي والسيوطي وابن هشام والمرادي: الباء بمعنى عن. وذهب الزمخشري: إلى أن السعداء يُؤتوْن صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين والأشقياء من وراء ظهورهم وشمائلهم، فجعل النور في الجهتين شعارا وآية. وقال أبو حيان: وقيل الباء (بمعنى) عن، وعبر

بالإيمان تشريفا لها. ويرى الجمل: أن بأيمانهم أي في جهة أيمانهم. وقيل: عن جميع جهاتهم، وخص اليمين لأنها أشرف الجهات. وقرأ أبو حَيْوة وسهل بن شعيب: بإيمانهم بكسر الألف، والباء سببية. وقال أبو البقاء: بإيمانهم استحقوه، الباء للاستحقاق وبإيمانهم يقال لهم بشراكم. أهـ. السمين الحلبي. وبأيمانهم أي عن أيمانهم قال ذلك الخازن. أقول: صورة وضيئة ومشهد من مشاهد التكريم. تضمين (يسعى) معنى (يُضيء) ويشع وهو يتعدى بالباء، ومعناه: نورهم يُضيء بين أيديهم كما يُضيء بأيمانهم، وقد صارت مشاعل لكل سُدْفة يُبددها، فليست الباء بمعنى (عن)، ولا في الجهة، ولا للسبب، ولا للإلصاق، ولا للاستحقاق، وإنما هي على أصلها، فليس ممشى النور بين أيديهم في هذا المشهد الجميل إلا شعارا لطيفا هادئا يفيض إشراقا من أرواحهم ويُضيء بأيمانهم ويغلب على طينتهم، لينير لهم الطريق. فمسعاه لأجل إضاءته، وإضاءته نتيجة لمسعاه. واختيار (سعى) بدلا من أضاء فيه إعزاز لهم وتكريم، فنورهم كالسُّعاة والخدم يمشي بين أيديهم وبأيمانهم يحمل المشاعل، فمشكاتها من حياة القلوب وكنوز البصائر، وتسمع بعدها من آيات التكريم تزلت لهم الملائكة أحلى البشائر: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ). ولولا التضمين في تعدية الفعل بغير حرفه لما انصرف لفظ السعي إلى معنى الإضاءة مضموما إلى مثيله (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، ذاهبا في مجاري استحسانه كل مذهب، وفي مواقع إتقانه وإحكامه كل موقع، يُضيء نورهم

(ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)

ويتألق إشعاعا. لطائف لا يحصرها عدد من وراء التضمين: لفظ يرتدي ثوبَ لفظٍ حين نتقصى فيه النظر بشاهده ودليله، أو بتأويله وتفسيره. فلو أن ركبا يمَّموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل بك الركبُ * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (1). قال أبو حيان والزمخشري والجمل والزجاج: (نفسه) تمييز عند الكوفيين أو شبه مفعول به أو مفعول به، لأن سفه يتعدى بنفسه أو ضُمن معنى (جهل) أو على إسقاط حرف الجر والصحيح أن (سفِه) على الكسر يتعدى بنفسه كما حكاه المبرد وثعلب، وأما على الضم (سفُه) فلازم. وذكر العز: ضمن (سفه) معنى (جهل) وذكر الزمخشري: وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه. وقيل معناه سفه في نفسه فحذف الجار كقولهم: زيد ظني مقيم. أي في ظني مقيم والوجه هو الأول. وذكر أبو حيان: وانتصاب نفسه على أنه تمييز على قول بعض الكوفيين وهو الفراء، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم أو مفعول به، إما لكونه سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعّف، وإما لكونه ضُمن معنى ما يتعدى، أي (جهل) وهو قول الزجاج وابن جني، أو (أهلك) وهو قول أبي عبيدة، أو على إسقاط حرف الجر وهو قول بعض البصريين، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره: سفه قوله نفسه حكاه مكي، أما التمييز فلا يجيزه البصريون لأنه معرفة وشرط التمييز

عندهم أن يكون نكرة وأما كونه مشبهاً بالمفعول فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ولا يجوز بالفعل أن تقول: زيد حَسَنٌ الوجهَ. ولا يجوز حسن الوجه ولا يحْسُنُ الوجهُ، وأما إسقاط حرف الجر وأصله من سفه في نفسه، فلا ينقاس، وأما كونه توكيداً وحُذف مؤكده ففيه خلاف، وأما التضمين فلا ينقاس، وأما نصبه على أن يكون مفعولا به ويكون الفعل يتعدى بنفسه فهو الذي نختاره لأن ثعلبا والمبرد حكياه: أن سفِه بكسر الفاء يتعدى كسفه. قال ابن عباس: معنى (سفه نفسه): خسر نفسه وقال أبو روق: عجز رأيه عن نفسه، وقال يمان: حمق رأيه، وقال الكلبي: قتل نفسه، وقال ابن بحر: جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل. وأما سفُه فمعناه صار سفيها مثل فقُه: صار فقيها. أ. هـ. وذكر الآلوسي: نفسه مفعول به، وأما سفُه بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء في الحديث: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس ". وقيل: إنه لازم أيضاً وتعدى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه أي (جهل نفسه) لخفة عقله وعدم تفكره، أو قيل: أن النصب بنزع الخافض أي في نفسه فلا ينافي اللزوم. أ. هـ. قال الزجاج: القول الجيد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل فالمعنى جهل نفسه أي لم يفكر في نفسه، فوضع سفه في موضع جهل وعُدي كما عدي. وفي الحديث الثابت المرفوع: حين سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الكبر فقال: (الكبر من سفه الحق)، أي جهل الحق فلا يراه حقاً. وفي حديث آخر: " ولكن البغي من سفه الحق ".

أقول: إنسان يُدعى إلى ملة إبراهيم عليه السلام، إلى الحنيفية السمحة، إلى الإسلام، وتتهيأ له فرصة الارتفاع ولكنه يهبط، يرغب عنها بمحض إرادته، ما أتعسه وما أشقاه! وما أبشعها من صورة وأسوأها من خاتمة، لقد سفه نفسه. النفس العزيزة وقد كرمها اللَّه حين نفخ فيها من روحه، يمتهنها صاحبها ويحتقرها فتخزى. وبهذا التوجيه في تضمين سفه معنى (امتهن واحتقر) يكون أدنى إلى مفهوم اللغة وأحكم في الدلالة على المراد، للتناسق مع الحالة النفسية التي يصورها، والنموذج البشري الذي يعرض له.، فالسَّفَه: خفة الحلم، أما المهانة: فضعف الرأي ومن عادة العرب أن يعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عِمارة لبينهما، وتتميماً للشبه الجامع لهما. فجمع التضمين السفاهة مع المهانة: وخفة الحلم مع الظلم فخزي في نفسه من معرته وأي ظلم لها أشد من الرغبة عن ملة إبراهيم عليه السلام عن الإسلام. إنه التضمين: اللمحة السريعة تكشف عن حقيقة، وهي أوسع من أن تنحصر في لفظ، وإلا لما كانت حقيقة، يكتسي فيها اللفظ إشعاعاً لتعميق معناه والإبانة عن صُوَرِه، فهو هنا - أي اللفظ - من مُبُدوء الكلام ومكروهه، أبدعته حماقة السفيه وفجوره وإلحاده، وبذلك عز مطلب التضمين وبعد شأوه ... بصير بعورات الكلام إذا التقى ... شريجان بين القوم حق وباطل * * *

(ولما سكت عن موسى الغضب)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) (1). ذكر الزمخشري: (سكت) تضمن معنى (انصرف عنه أو فتر) وقال أبو حيان: ولما طُفئ غضبه شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته. وذكر القرطبي: المراد لما كسرت ثورة غضبه عليه السلام، وقل غيظة ثم قال: وقرأ معاوية بن قرة، سكن بالنون وأصل السكوت: السكون والإمساك. وروى الطبري: ولما كفَّ موسى عن الغضب، وكذلك كل كافٍّ عن شيء ساكت عنه وإنَّمَا قيل: للساكت عن الكلام ساكت لكفِّه عنه. وقد ذُكر عن يونس الجرمي أنه قال: يقال سكت عنه الحزن. وقال الرازي: المراد بالسكوت السكون والزوال، ولا يجوز الصمت لأن سكت بمعنى سكن، وأما صمت فمعناه سدَّ فاه عن الكلام وذلك لا يجوز في الغضب. أقول: نُقْلة بعيدة ... موسى عليه السلام في الحضرة الإلهية، موقف تنقطع عن بلوغه الأطماع، وتنعقد عن وصفه الألسنة، ينتقل بإشراقاته إلى جو مترد بانتكاساته، فقد اتخذ قومه في غيبته من حُلتهم عجلا يعبدونه. محنة يصطلي موسى عليه السلام بنارها، وموقف يثير الغضب ويستولي على النفس فيندلع لسانه بالحِمَم وهل الغضب إلا شعور يتلبس بصاحبه فيفقده السيطرة على نفسه؟ بعد هذا الانفعال: 1 - يلقي الألواح وفيها الأوامر والنواهي، وفيها تكاليف الرسالة والخلافة.

2 - يأخذ برأس أخيه يجره إليه لقد تعسر معه ولم يتسهل، مشهد عاصف خطير كما رسمه التعبير القرآني ولكن العبد الصالح الطيب من رقةِ داخَلَتْهُ ورحمة، يمتص غضب أخيه: - أ - بندائه الرقيق الرفيق الناعم: يابن أم ... ب - وبكشفه لحقيقة الموقف: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي). ج - وفي خطابه لقومه: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) فالتضمين أشار إلى الخبيء من المشاعر ليُطلب، والدفين ليُستخرج، فقد تضمن (سكت) معنى (انفك أو كفَّ أو انصرف) وكلها تتعدى بـ عن فـ (عن) هذه كانت مفتاحنا إلى تنوير الموقف في تصوير الخفي عن مشاعره والمستور في حناياه. جاء السكوت كالرمز والإيماء، والإشارة في خفاء إلى ما كان عليه موسى سلام اللَّه عليه من انتفاخ سحره وهيجان حفيظته. ويسكن الغضب وينفك عنه الشعور المتلبسق بنفسه، ويكف عن إثارته والذي عقد لسان ثورته عن الكلام ويَصرفه عن كل فَعَال، عائدا كما كان. إنه التضمين (اجدى من الغيث) وهذه سبيله قل من يعتاده أو يشتغل به أو يبعث على إلطاف النظر فيه. * * *

(ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا (17)

قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) (1). ذكر الزمخشري: يسلكه أي يدخله والأصل يسلكه في عذاب كقوله سبحانه: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ومثله الرازي، فعدي إلى مفعولين إما بحذف الجار وإيصال الفعل كقوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) وإمَّا بتضمينه معنى يدخله. وحكى الجمل: سلك يتعدى للمفعول الثاني بـ (في) وعُدي هنا بنفسه لتضمنه معنى يدخله. وقال الآلوسي: يسلكه مضمن معنى يُدخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني (عذابا) بنفسه دون (في) أو هو من باب الحذف والإيصال. وفي اللسان: سلك المكان، وأسلكه إياه، وفيه، وعليه. وذكر الملياني: يسلكه تضمن معنى يكلفه. أقول: تعبير رهيب وصورة من العذاب توحي بالمشقة، والتي تزداد بازدياد صعوده. والرمز للمشقة بالتصعيد جاء في أكثر من سورة، فهي حقيقة ملموسة. ولعل تضمين سلك معنى (أرهق) أوْلى من أدخل أو كلّف

(نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى)

أو من باب الحذف والإيصال. التصعيد من أشق السير إرهاقاً يقطع صاحبه الحياة في قلق وكرب وضيق كأنما يصعد في السماء ففي التنزيل: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا). فَذِكرُ اللَّه والاستقامة على منهجه ينال بهما الغنى والوَفر، والإعراض عنهما يسلبه الرخاء والأمن، ويرهقه عذاباً صعداً ومَعيشة ضنكاً، ويبقى للتسليك إيقاعه في تصوير منظر الضُّر الملازم له، والإرهاق المصاحب له. ومن شرف التضمين أن يضم للمعنى المذكور معاني متنوعات، يُطرّزُ أثوابها السياق بمعونة المقام. * * * قَالَ تَعَالَى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) (2). ذكر الزمخشري: (به) في موضع الحال كما تقول: يستمعون بالهزء أي هازئين، أعلم بما به يستمعون. وذكر أبو حيان: قال الحوفي: لم يقل يستمعونه أو يستمعونك، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء فجاء بالباء ليُعلم أن الاستماع ليس المراد تفهم المسموع .. وقال أبو البقاء: الباء بمعنى اللام. وقال ابن عطيه: فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم ففضح اللَّه بهذه الآية سرهم. أ. هـ.

وذكر الرازي: نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والتكذيب. وذكر السمين والجمل: (به) الباء سببية والمعنى: ما يستمعون إليك بسبه وهو الهزء والتكذيب، أو الباء بمعنى اللام، والاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا مجنون أو مسحور. وذكر الآلوسي: (به) أي ملبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن. أقول: الباء على أصلها وتضمين استمع معنى (عُني به وشُغل به واهتم) وليس كما قال الجمل من تضمين الباء معنى اللام فهو: - أعني المستمع لهذا القرآن - عنٍ بسمو بيانه، ومبلغ إعجازه، مشغول اللب به، وهذه العناية سبيلها الاستماع (يَسْتَمِعُونَ) وكبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في التنزيل من سمو وإعجاز ولذلك لم يملكوا أنفسهم من الاستماع به وإليه مع مبلغ الاهتمام والتأثر والانبهار، على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها. أجل ... نحن أعلم بما يُعنَوْن به ويَشغلون أسماعهم به، وتدبر ما فيه ووعيه، فهم يجاهدون قلوبهم أَلا ترق، وعقولهم ألا تنساق وراءه، وفطرتهم ألا تتأثر به، وهم إذ يستمعون إليك ويصغون، يتناجون بما أصاب قلوبهم من سمو إعجازه ولَيانها للحق، بدليل قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) ثم يتآمرون على أن يحجزوا أنفسهم عن سماع ما خَلبَ عقولهم وقلبوهم ثم يعودون، وليس غريبا أن يذهب الجمل إلى جَعلِ

الباء سببا للهزء والتكذيب، لأنه نقل عن سواه، بل الغرابة أن يسلك الزمخشري هذا المسلك الوعر فيقول؛ (يستمعون بالهزء) هكذا مبهوتا بلا لحظٍ، محشوبا بلا صنعة، كيف والسياق يفهمنا من المنطوق ما ليس منطوقا، فالظالمون منهم، وسَمُوه بالسحر، وليس في السحر هزء ولا سخرية، وأما سوى الظالمين فقدروه (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) ولم يقل سخر وهزئ، ولكن غلبت عليهم شقوتهم حرصا على زعامتهم وما يستتبعها من مصالح. ولو كانوا ساخرين لما تحاجزوا عن سماعه وتعاهدوا مرات ومرات ثم يعودون. قال الأخنس بن شريق: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال يا أبا ثعلبة: واللَّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم أتى أبا جهل: فقال: يا أبا الحكم: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسَي رِهان قالوا: مِنَّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ لقد حجزوا أنفسهم عن هذا القرآن الذي خلب قلوبهم وألبابَهم وهددهم في امتيازاتهم، وكسر كبرياءهم. أقول لهؤلاء: إن الذين لا يجرؤون على قول ما يعتقدون فهم جبناء، تعوزهم الثقة بأنفسهم. أرأيت إلى هذه الباء وصلتها بالموقف (يَسْتَمِعُونَ بِهِ) كيف فتحت لنا بصائر؟! ما كانت لتَضَحَ لو قال: يستمعونه، مما استودعته فيها هذه اللغة الشريفة من أسرار الإتقان والصنعة، فإذا كان للباء كل هذا الشأن فلا بد أن يسافر الخاطر في صَيدها حتى يُكشف له عنها، ولو جاءت مع غير هذا الفعل وفي غير هذا السياق لعدمنا وجود هذه الدلالة فيها، فعلى الناظر في هذه الحروف أن يأخذ إلى أنحائها ومصارفها، ويتأتى لها ويلاطفها ولا يتعسّفَها، لتفتح عن كنوزها.

(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم)

بقي سؤال: إذا كان المراد انشغال الفكر والقلب بالقرآن فلم قال يستمعون؟ لو قال يهتمون به لضاعت علينا وسيلة الاهتمام وهي السمع إلا أن يقول: يهتمون بما يسمعونه من القرآن أو يشغلون به أسماعهم ما دامت معجزته صلوات اللَّه عليه سمعية وليست بصرية كموسى وعيسى. ولو قال يسمعونه بدلًا من يستمعون به لضاع علينا انشغال قلوبهم بسحر بيانه، والإعجاز البياني يقتضي الإيجاز. وتعدية الفعل بغير حرفه المألوف وفر لنا هذا الإعجاز عن طريق التضمين، فافزعْ إليه لتحلى نفسُك به، إنه الشَّهْدُ: من ذاق عرف. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (1). قال أبو حيان: ليست اللام زائدة بل ضمن معنى (تصغي وتميل) فعُدِّي باللام، وردد ذلك الجمل والعز والزركشي والآلوسي وذكر السهيلي للسمع معاني عدة: سمع الإدراك، وسمع الفهم، وسمع القبول، وسمع الاستجابة ...

أقول: صورة الزراية بهذا الفريق من الناس ذوي الهياكل الجميلة، والأشكال الوسيمة، والألسنة الزَرِبة، وخلابة المنطق، يستميلون سمعك فتنصت لقولهم. ولكن كل ذلك قشرة من التظاهر والمَلق والالتواء، تستر حقدهم الدفين وكفرهم الكنود، إنه النفاق وإنه الخوف من أن ينكشف ويفتضح. تَسِمُهم الآية بالخواء والطمس والجبن والفزع والحقد ... يتوجسون من كل حركة، من كل صوت، من كل هاتف يحسبونه عرفهم ووقف على حقيقتهم - هم العدو فاحذرهم - يعيشون مع رسول اللَّه صلى عليه وسلم عشر سنوات لا يُعرّفه اللَّه على أسمائهم إلا قُبيل وفاته، وإن كان يعرفهم في لحن القول - المداورة والالتواء - وفي سيماهم - الانفعالات والانطباعات - فتضمين (سمع) معنى (أنصتُ واستجاب) والمتعدي باللام يحكي خَلابة ألسنتهم، يستميلون المستمع لما يرتضيه من فصاحتهم فينصت لهم ويستجيب لكنهم أخشاب شجر لا شجر، أجل لا حياة رلا ثمر، لا خير في وجوههم، ولا فضل في سجاياهم. أرأيت إلى ما أفاض عليك التضمين من ماء بشاشته حين تعدى الفعل بغير حرفه وما استودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الإعجاز في الإيجاز .. ! * * *

(لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9)

قَال تعالى: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (1). قال الزركشي: يصغون. وذكر السيوطي والعاملي: وعدي السماع بـ إلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقال الزمخشري: فرق بين سمعت فلانا يتحدث وسمعت إليه يتحدث وسمعت حديثه، قلت: المتعدي بنفسه يفيد الإدراك، والمتعدي بـ (إلى) يفيد الإصغاء مع الإدراك، وقال أبو حيان: والمتعدي بـ (إلى) ضمن: لا ينتهون بالسمع إلى الملأ. وقال أبو السعود: لا يتطلبون السماع والإصغاء إليه. وقال البروسوي: التسمع وتعديته بـ (إلى) لتضمنه معنى الإصغاء، وقال الرازي: أصل يسمعون: يتسمعون، تقول العرب تسمعت إلى فلان، وسمعت فلانا، ولا يقولون سمعت إلى فلان. أقول: تناثرُ الكواكب في السماء أجمل مشهد تقع العين عليه، ولا تمل من طول النظر إليه، جاء جمال التكوين مع كمال الوظيفة، فلهذه الكواكب وظيفة أخرى، وأن منها شهبا ترجم الشياطين، تذودهم عن الارتقاء إلى الملأ الأعلى، ولئن خطف شيطان مارد خطفةً مما يدور في الملأ الأعلى تبعه شهاب فأحرقه. أجل ... لم ينف ربنا السمع عنهم بإزالته (جربت البعير: أزلت جربه) (يسمعون: يزيل سمعهم) بل أثبت عجزهم عنه رغم محاولتهم له (إِلَّا مَنْ خَطِفَ) وذلك بقوله (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ)، تقذفهم الشهب

(وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم ت

لدى كل محاولة يائسة في استراق السمع ليظفروا بأثارة من خبر. كما سلب فعل السمع من الدلالة على زمن مخصوص ليكون مبهما ومعلقا على أي وقت تجري فيه محاولة التسمع. وقرئ: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى)، وقرئ: (لَا يَسْمَعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى). وما ذهب إليه المفسرون من تضمين السمع معنى الإصغاء لا شيء من ورائه، ولكن لما أريد تضمين السمع معنى الرقي أو الارتقاء عداه العليم بـ (على) إشعارا أن الرقي وسيلة السمع في الوصول إلى مبتغاه، إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع، ولكن هيهات ... فكيف يفلت المرتقي من قذائفَ محرقةٍ تأتيه من كل جانب دحورا؟ إنه التضمين يأخذ بيدك لتستضيء به ولا مَعدِل لك عنه، تفزع إليه لتحصيل الغرض الذي أُريد منه، وجيء به من أجله. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (3). ذكر الزمخشري: لبلد ميت الأصل بلد ليس فيه حياة فأنزلنا به: بالبلد أو بالسحاب أو بالسَّوق.

وقال أبو حيان: اللام للتبليغ كما قلت لك وفرق بين سقت لك مالا، وسقت لأجلك مالا، فالأول معناه أوصلته لك، والثاني لا يلزم منه وصوله. وذكر الجمل: لبلد ميت: اللام للتبليغ كقولك: قلت لك. فأنزلنا به الضمير يعود لأقرب مذكور وهو بلد ميت، فلا بد أن تكون الباء ظرفية بمعنى أنزلنا في ذلك البلد. وقيل: يعود على السحاب. ثم في الباء وجهان أحدهما: بمعنى (مِنْ) أي: فأنزلنا من السحاب الماء، والثاني: سببية أي أنزلنا بسبب السحاب. وقيل: يعود على السَّوق فأنزلنا بسبب سوق السحاب. وهو ضعيف. فأخرجنا به: الخلاف في الهاء كالذي في قبلها. ويزيد عليه وجهاً آخر بالعود على الماء ولا ينبغي أن يُعَولَ عليه. أ. هـ السمين. وذكر الآلوسي: اللام لبلد: للتعليل أي لأجله ومنفعته وإحيائه وسقيه، وكذلك قال الرازي. ومثله قال الخليل بن أحمد الفراهيدي. وذكر صاحب التوضيح: اللام للانتهاء بمعنى إلى بلد. أقول: عرض سريع وخاطف لآثار الربوبية في هذا الكون، ونموذج من الرحمة: السحاب الثقال يسوقه الريح، ومعه المطر الهتون، والزرع المُفرع، والثمر النضيج .... آثار الفاعلية والتدبير والتقدير للملك الحكيم، والخالق الرازق، يُنشئ برحمته الأسباب، وكل ذلك يجري وَفقَ النواميس التي أودعها في الحياة وتركها تتحرك وَقق مشيئته. ثم ربط بين النشأة الأولى والنشأة الآخرة فمعجزته في الحياة واحدة ... (ساق) إذاً تضمن معنى (وجَّه) والمتعدي باللام وسياق الآية بتوجيه

الماء وإنزاله، وإخراج الثمرات به يحملنا على ترجيح التضمين لأن الفعل يتعدى بـ (إلى) (فسقناه إلى بلد ميت). والعلاقة بين المضمن والمضمن فيه لازمتة لأن من لوازم السَّوْق: التوجيه. وبهذا تنتفي العفوية أو المصادفة في كل ما يجري في الكون كما يدعي الخرَّاصون وتنتفي الجبرية الآلية كما يزعم الماديون بأن الكون آلة عمياء، فالتضمين يدع قلوبنا يقظة، كل شيء يتحرك حسب المشيئة الإلهية فنرى يد اللَّه الفاعلة وفق نواميسه الحكيمة. إذ ليس من خير يعمُّ الورى ... إلا يد الحكمة جلية فيه فاللام على أصلها ليس لتعليل ولا تبليغ ولا بمعنى (إلى)، ولا بمعنى (في) وإلا لكان فيها إلباس واستثقال. فاحفظ نفسك من تضمين الحروف ولا تسترسل إليه. فقلت تعاورا * واللَّهِ فُحْشا ... وتنكشف المزية للرشيد وإذا كان الفعل في سورة فاطر متعديا بـ (إلى) فلأن السياق مختلف. وأما أنزل فالباء على أصلها ليست بمعنى (مِن) ولا بمعنى (في) لأن الفعل يتعدى بالباء قَالَ تَعَالَى: (يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ). وفي الحديث: " أنزل بهم بلاء فلم يرفعه عنهم ". وهو بتخفيف الزاي وتشديدها قراءة سبعية، ونزول الماء بسبب السحب أمر بدهيٌّ. فجمع التضمين بهذه اللوم المعنيين. فهذه الحروف مفاتح أفعال لا تُدافَع أبوابُها إلا بمقدار ما تُدفَع. * * *

(أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37)

قَالَ تَعَالَى: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (1). قال الحوفي: (رَجُلًا): منصوب بـ (سَوَّاكَ) مفعول به ثانٍ أي جعلك رجلا فعدى سَوَّى إلى اثنين أي على التضمين: ذكره أبو حيان والجمل. وذكر الزمخشري ومثله البيضاوي: سَوَّاك رجلا: عدَّلك وكمَّلك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال، ومثله قال الآلوسي: عدَّلك وكمَّلك إنسانا ذكرا، ثم إنه يستعمل بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هاهنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه الحكمه. ونَصبُ (رجلا) على ما قال أبو حيان: على الحال محوج إلى التأويل، والتضمين لا يحتاج إلى تأويل. وقال أبو السعود: سَوَّاكَ رجلا: أي صيرك رجلا وبذلك عداه لمفعولين. وأما في قوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) فلم يتضمن معنى التصيير، ولذلك لم يتعد إلى مفعولين. أقول: ها هو صاحبه الفقير لا مال عنده ولا ثمر، لكنه معتز بربه، بعقيدته وإيمانه، يخاطب صاحبه المغرور، منكرا عليه بطره وكِبره، مذكرا إياه بمنشئه المهين من ماء وطين، وينذره عاقبة الكبرياء ... إنها عزة المؤمن، لا تعرف المداراة مع الأغنياء، ولا تبالي بأصحاب الجاه أو السلطان، ولا تجامل مع الأصحاب تجهر بالحق في أقسى

(عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) وقال *: (عينا يشرب بها المقربون (28)

الظروف: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)؟! فالتسوية هنا عائدة على النشأة (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وقد تضمنت معنى (الجعل والتصيير) فتعدت إلى مفعولين. ونصب (رجلا) على الحال جائز، وليس بالوجه، إنما الوجه تضمين سوَّى معنى صير المتعدي لمفعولين، فالتضمين جمع المعنيين: تسوية اللَّه إياه بالقدر والكيفية على ما اقتضت حكمته فيما يصان عن الإفراط والتفريط، وتصييره رجلا ولا كالرجال. وهكذا فاز التضمين بالحسنيين: فالوصية به والعمل عليه. جمع الخلتين حُسناً وقدْرا ... إن هذا من فعل من يتمرَّى * * * قَالَ تَعَالَى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) (2). وقال: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (3). قال العز والجمل والعكبري والزركشي وأبو حيان: الباء دالة على الإلصاق أو ضمن يشرب معنى يروى فعدي بالباء، وقيل: الباء زائدة. قال السيوطي: الباء للتبعيض) (مِنْ) أي يشرب منها. قال عنتره: * شربت بماء الدحرضين فأصبحت * أي من ماء. وقال الزركشي: وتأتي الباء زائدة مع المفعول كقوله:

عينا يشرب بها عباد الله. قال الطبري: يشرب بها: يروى بها وينتفع، وقيل: يشرب بها ويشربها بمعنى واحد. وقال النيسابوري: يشرب بها: (الباء) بمعنى (مع) مثل شربت الماء بالعسل. ومثله الرازي. وكذلك البروسوي. وقال ابن قيم الجوزية: إنهم يضمنون يشرب معنى يروى فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين: أحدهما بالتصريح والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري. وأن يقال: يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم. فإذا قال: يشرب منها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأملْه. أ. هـ. أقول: ما أشار إليه شمس الدين بن قيم الجوزية والزمخشري وغيره: في تضمين فعل (شرب) معنى (روي) مخدوش: فالري من الماء ونحوه لا يكون إلا عن ظمأ، وأهل الجنة لا يظمؤون، قَالَ تَعَالَى: (لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى). وإنَّمَا ينصرف معنى الشرب إلى التلذذ والاستمتاع والمتعدي بالباء، فجاءت الباء عناية بما وراءها ووصولا لإدراك مطلبها ولو جاءت الآية: عينا يتلذذ بها عباد اللَّه ويستمتع، لانصرف إلى إمتاع البصر في انفجار الماء من العين وتدفقها، أو إمتاع الجسد بالتحمم والابتراد، أو إمتاع السمع بخرير الماء لدى تدققه، أو إمتاع النفس بجمال المشهد الكلي يتفتح عن رصيده المذخور، وإيحائه المتجدد.

الآية تصرفنا إذاً إلى لذة الشرب على وجه الخصوص لأن التذوق أكثر الحواس استمتاعا، ولذّة الشعور به ترقى عن كل ما سواه. نعم والتذوق مسبب عن الشرب وهو من لوازمه، وهو الغاية المطلوبة منه وليس عارضا من عوارضه، والذائقة واللذة أخص من الشرب إذ يمتنع حصولها بدونه، وهي أثبت وأرسخ منه، فأثرها يبقى في القلب ويطول، والشرب عارض زائل. وهذا أمر غفل عنه كثير من المفسرين حين شغلتهم الوسيلة عن الغاية، فالتضمين جمع بينهما بقوته وسلطانه، فلم يدَعْنا نقف على طرف منهما ولا نأنس بالآخر إلا على استكراه. وأما قول السيوطي: الباء بمعنى (مِنْ) فليس بشيء، لقد وقف على الشرب لا يعدوه ولم يُنعم النظر في صورته والمشهد الذي جاء فيه، فخفي عنه غرضه لأنه يحصر معانيه في منظور ضيق، وتنتهي اللغة عنده إلى حطب يابس. فما معنى أن نجعل (الباء) بمعنى (مِنْ) والحرف لا يقوم معناه بنفسه وإنما إفادته متوقفة على تركيبه. فمن أصر فليأخذ في غير هذه الصناعة لأنه يُخرج العبارة من التي أريدت له ويُذهب استطابتها ويُفسد الإمتاع بها والاستملاح لها، ومن اعتاص عليه الغرض من مجيء هذه الباء ووجد المسلك إلى معرفتها عَسوفا فالتضمين يهديه السبيل، لا يُفثَج بحرُه ولا يُغَرَّض. ومعلوم أنه سبحانه، لا يُغيَّر حرفا بحرف أو يُبدَّل إلا ووجه الحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنّا أغراضه ومعانيه. نعم جاءت الباء مَنْبَهة على الخبيء ليُطلب، والدفين ليُستخرج. ولولاها لخَفيتْ عنا هذه اللطائف، فاحتسِ من شرابها بَرودا عذباً، وتحرَّ الكَيْس في الإجابة عن تناوبها أو دعوى زيادتها. لقد جلَّى التضمين وجه الحكمة في اختيار الفعل الذي يستضيءُ به المعنى ويتنبَّه على أسبابه. أجل في الشرب من الدلالة ما لا خفاء به، إنه للاستمتاع بهذه العين

(يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13)

وما فيها من لذة للشاربين، تُخامر عقول المتحابين، يتعاطاها المتواصلون يتبادلون كأسا (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ)، إنها لذوي الصبابة وأهل القُربى من المولى الجليل، شراب مصفى ختامه مسك هذا الرحيق يُفض ختامه ثم يمزج بماء التسنيم ليشرب به المقربون * فمشربه التسنيمُ ومقربه الأنْسُ * من كأس محبة ممزوجة بالكافور لإفادة برد اليقين فتستقر محبتهم وتستمر لذتهم: فشرابها كالشهد يُمتعُه ... ويقول مِن فرحٍ هَيَا رَبَّا * * * قَالَ تَعَالَى: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (3). ذكر العز والزركشي: ضُمن (لَا تُشْرِكْ) معنى (لا تعدل) أي لا تسوِّ باللَّه شيئاً. من العدل والتسوية. وتال ابن القيم: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) ضُمن معنى لا تعدل، والعدل: التسوية. أي لا تسوِّ باللَّه شيئا في العبادة والمحبة، فإنهم عبدوا الأصنام كعبادة اللَّه، وأحبوها كحب اللَّه، ولذلك قال الذين في النار (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وما سووهم

به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال أ. هـ .. وقال الرازي: الإشراك: وضع المعبودية في غير اللَّه ولا يجوز أن يكون غيره معبوداً أصلاً. أقول: يعرض لقمان حقيقة التوحيد بأسلوب وعظي. إنها نصيحة والد لولده فيها العطف ومعها الحنان بعيدة عن سوء الظن، مُبرأة من الشُبه، وعلى لسان من أوتي الحكمة وفصل الخطاب. نعم (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) بالجملة الفعلية ويعقل نهيه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) بالجملة الإسمية مؤكدة بمؤكدين: (إن) و (اللام) فتضمن الشرك هنا معنى التسوية والمتعدية بالباء. والتسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، وبين من لا نعمة منه ألبتَّةَ، لظلم عظيم. وفي قوله تعالى: (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) ضمن لا تشرك معنى لا تعدل. والعدل التسوية أيضاً يتعدى بالباء كما مر. وفعل أشرك يتعدى بـ في كما ذكر معجم الأفعال المتعدية بحرف: أشركه في الأمر: أدخله معه فيه (وشَرِكه أفصح). * * *

(وإنهم لفي شك منه مريب (110)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيب) (1). قال الجمل: شكِ منه أي من كتابك أي القرآن. وجوز أبو حيان والآلوسي: أن تكون منه بمعنى فيه. أقول: الفعل شك يتعدى بـ (في) فعداه بـ (مِن) لماذا؟ هل هم مرتابون ولنقص في الدليل؟ لا، ولكنه الهوى والحقد الدفين. إنه تلبيس الحق لإخفائه وكتمانه وتضييعه، فارتيابهم ظاهري شكلي لأنهم على يقين من الحق يشهدونه واضحا ولكنهم عن عمد وفي قصد وإصرار يختلفون فيما بينهم ليطمسوا آيات اللَّه ويحرفوها. وهذا ديدن يهود عليهم لعنة اللَّه على مدار التاريخ. لقد جعلوا ما ينبغي أن يكون مبدأ اليقين ومنشأه، مبدأ الشك ومنشأه فحقيق بهم ألا يغفُلوا عن الحقيقة التي جاء بها رسولهم وأن تعيش في ذاكرتهم، والذي أشار إلى معنى اليقين هو حرف الجر (مِنْ) والمتعدي به فعل اليقين، فتضمَّن الشك معنى اليقين فتعدى بـ (مِن)، وحَمْل النقيض على النقيض كحَمْل النظير على النظير معروف مشهور فلذلك ساغ أن ينوب عنه، إنهم لفي يقين منه ولكنها الضلالة التي وصفهم اللَّه بها واللعنة التي حلَّت عليهم، وَوَصْفُ اليقين بأنه مريب هو من باب السخرية بهم. ذلك هو التضمين يكشف الأسرار ويهتك الأستار إن تأهبت له، ونَشفت فيه، حَليتَ به، وإن تحاميته فذلك إليك وعاقبته عليك. * * *

(ويوم تشقق السماء بالغمام)

قَالَ تَعَالَى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) (1). قال السيوطي والزركشي وابن هشام والمرادي: بالغمام أي عنه. وكذلك الموزعي. وذكر السيوطي بالغمام أي معه. وأورد الجمل في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها للسببية: أي بسبب الغمام يعني بسبب طلوعه منها، الثاني: أنها للحال أي ملتبسة بالغمام. الثالث: بمعنى عن كقول اللَّه تعالى: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ)، والآلوسي: يكرر ما جاء من الوجوه الثلاث ويزيد: الفرق بين باء السببية وعن؛ أن انشق عن كذا: تفتح عنه. وانشق بكذا: أنه هو الشاق له وقال النابغة الذبياني: كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليلِ على مستأنس وحِدِ بنا أي عنا. أقول: المعول في التضمين عند أهل الحِذْق من أصحاب الصناعة هو على الفعل أما ما يجري في الحرف فغير معيجٍ عليه ولا مأبوه له، وعليه نضمن (تشقق) معنى (تفطر). وتبقى الباء على أصلها من غير ضرورة إلى تأويل أو توجيه. فالسماء تتفطر بالغمام (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) إنه الانقلاب الكوني في النهاية وإنه على الكافرين عسير. وبتداني المعنيين التشقق

(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل)

والتفطر تظهر مزية التضمين في الكشف عن سر هذه الحروف فتُكسب المعنى نفاسة والصورة حيوية وحركة. المشهد المزلزل الذي يهز القلوب بنبراته الشديدة وإيقاعاته القوية حين جمع التفطر إلى التشقق، ومن عادة العرب أن تعطي المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميما للشبه الجامع لهما كما قال ابن جني: فقد أخذ التشقق الباء من التفطر وأخذ هذا من رسيله معنى التفتح، وكلا الفعلين المضمن والمضمن فيه أو الآخذ والمأخوذ منه يشارك في رسم هول الرهبة تشمل الكون، وتأخذ بمجامع القلوب، انقلاب كوني كبير يشمل ما في السماء من كواكب ونجوم وأفلاك: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، والانفطار: الإنشاق طولا (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، والإنشاق يكون عرضاً، (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)، (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)، إلى آخر هذا الهول الرعيب ... والذي يُنبئُ بنهايةِ مروعةِ من الانفجارات الكونية، تصوره الآيات واقعاً مشهودا يدعو إلى الدهشة في تناسقه العجيب، ونيراته الحادة. وعلى الراتع في خمائل علم اللسان أن يتذوق من سَنا إعجازه. فسرى خيالك طائفا أفنانه ... يكفيك طيف ما يزالُ يعاودُ * * * قَالَ تَعَالَى: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) قال أبو حيان: أراد بالتقطيع والصلب: التمثيل، ولما كان الجذع مقرا للمصلوب، واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدّي بـ (في)،

وقيل: في بمعنى على. قاله الطبري: وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجذعا قال أبو السعود: (فيها) أي (عليها) وإيثار كلمة (في) للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا باستقرار المظروف في الظرف المشتمل عليه. وذكر الشوكاني: أي على جذوعها كقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي عليه ومنه قول سويد بن أبي كاهل: وهم صلبوا ... وذكر السيوطي: (في) بمعنى (على) تفيد الاستعلاء وأكد الزركشي: أن المصلوب لا يُجعل على رؤوس النخل، وإنما يُصلب في وسطها فكانت (في) أحسن من (على). ونص أبو عبيدة وابن قتيبة والفراء والآمدي: على أنها بمعنى (على). وأجاز الزجاج: اشتراك (في) و (على) في هذه الآية. وقال الزمخشري: شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قيل: في جذوع النخل. تضمين (أُصلبنكم) معنى (أَثوِينكم أو أُكِنكُم). والمتعدي بـ في

يُبقي الحرف على أصله، أما أن ينوب عن غيره فغير مُحتفل به، فهذه الحروف تهي عن حفظ أنفسها وتحمُّل خواصها، وعواني ذواتها، فكيف بها تتجشم احتمال سواها، وأما التضمين فقد جمع الصلب إلى معنى التثوية والإكنان لإفادة المعنيين جميعا. فإن قيل: لم جاء التعبير بالصلب؟ قلت: لأنه أراد القتلة المعروفة بالصلب على وجه الخصوص، فهو يهددهم أن يجعل جذوع النخل لحودهم وقبورهم، وبهذه الطريقة البشعة يعرض شناعة الصورة وما فيها من مَهانة وتسفّل وسقوط من الفجرة السفَلة. أما إبدال حرف من حرف، ففيه من خَيْس الخاطر ما يدعو إلى اطّراحه، وهو لضعفه إذا ناب منابه جنى عليه وتكاءده، ومعروف أن الصلب يكون على الجذوع وليس فيها فلمَ جاء فيها؟ إن الحرف (في) إنما جيء به لإفادة التثوية والأكنان، فتكون الجذوع قبورا وأضرحة لهذه الأشلاء المُمثل بها لا لتثبيتها وتسميرها ولا تكون مِشْجبا تتعلق عليها. ويبقى الحرف في وحي التضمين كالطاووس في تصوير المعنى، مَن أبطله من النحاة بحجة التعاور والتناوب فقد حص ذَيله فضاع أجمل ما فيه. إنه التهديد بالقوة الوحشية يعتمده الطغاة في كل زمن، ويُسلطونه على الأبدان في الصلب ليطول بهم المُقام في جذوع النخل وفي العراء فتأكل لحومَهم الطيرُ. إن الوحوش البشرية اليوم لا فرقَ عندهم بين إنسان يُخاطَب بالحجة

(قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81)

وحيوان يُنهَش بالناب. وما أهون الدنيا في حس المؤمن الموصول بالله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) يواجهون به الُملك والجاه والسلطان وقُوى الأرض الصغيرة والحقيرة، فيرتفعون على فتنة التمثيل والتمزيق بإيمانهم المستعلي على هذه الفتن، وعقيدتهم المنتصرة على أوهاق الجسد وجاذبية الأرض فكم كانت البشرية تخسر لو خسر هؤلاء أنفسهم في معركة العقيدة ... ما أتفه الحياة بلا عقيدة، وما أبشعها وأحطها حين يُسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد!. وإن مظهر التمثيل والتمزيق والصلب والتثوية والإكنان صغير هزيل في حساب المؤمنين، ويحسبه الجبارون المتسلطون على الأجساد عظيما. فلا تخلد إن مررت بهذه الحروف إلى الإجْبال وتُطفئ ما توحيه من معانٍ على الوجه الذي هو أضْوَأ لها وأنوه، والحجة فيها أنْور وأبهر، فاشحذْ البصر، وفتق النظر لمعرفة وجه الحكمة فيها. صفوة المعنى من الحرف أتى ... طبقْ تركبه بعد طبق * * * قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (2). ذكر العز والزركشي: لا يصلح: مضمن معنى (لا يرضى)، أو من مجاز المحذف أي لا يصلح عاقبة عمل المفسدين. وقال الآلوسي: لا يصلح: المراد منه عدم إثبات عمل المفسدين، لا جعل الفاسد صالحا، فلا

يثبته ولا يديمه بل يزيله ويمحقه، أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه. وذكر الزمخشري: لا يصلح: أي لا يثبته ولا يديمه. أقول: إن دوافع اللقاء في هذا المهرجان هي: إزالة خطر السحر عن معتقداتهم. أفصح عن هذا الدافع جواب موسى عليه السلام: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)، لدرء التهمة الموجهة إليه. وهو الواثق بربه أن يحق الحق ويبطل الباطل حين قال: (إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ). وهل يتوسم فيها أثارة من صلاح، وهي ما هي من الزيف والتخييل والوهم؟!. الفعل (يصلح) بصيغته في الماضي (أصلح) على وزن أفعل يفيد: مصادفة الشي على صفة من الصفات تقول: أحمدت سعيدا: صادفته محمودا وأكرمت عليا: وجدته كريما، وأبخلت زيدا: صادفته بخيلا. وعلى هذا فاللَّه لم يصادف صلاحا في عمل السحرة ولم يطالع فيها فلاحا ولم يلق فيها خيرا قط. ومن معاني (أفعل): التسمية. فنقول: أخطيت سميرا: سميته مخطئا وأصلحت عملك: سميته صالحا، وعليه نقول: (لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ): أي لا يسميه ربنا صالحا. وما ذهب إليه الزمخشري من عدم إثبات العمل ودوامه يوقعنا في إلباس، أما قول العز أو الزركشي: (لا يصلح) مضمن معنى (لا يرضى) فاستثقال يتحاماه السياق ويستولي الجفاء على جُملته. وأما قول الآلوسي: (لا يؤيد ولا يقوي) فرأي فطير ليس فيه استحكام علة. نخلص من هذا العزوف عن التضمين نأياً عن تجشم الكلفة فلا ذِكْرَ له،

(وأصلح لي في ذريتي)

ولا عَيْجَ به وإنَّمَا يكشف اللَّه زيف السحرة فلا يسمي عملهم صالحا لأنه لم يصادف فيه خيرا، وكيف يفلحون وقال فيهم: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) وكيف يفلحون وسماهم ربنا مفسدين؟! وإصرار المفسرين على التضمين ليس بحجة لأن مرجع ذلك إلى الاستنباط والفكرة وطريق المعرفة بها الروية ومستقاها سفْر الخاطر في صيدها حتى يكشف له عنها. فإذا كان كذلك، لزم ما رُمْته، وصح به ما قدمته. وإذا الأمورُ تشابهت ... لزمتُ بعضَ أصولها وإذا الوجوهُ تَشعَّبت ... أخذتُ خير فروعها * * * قَالَ تَعَالَى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) (3). ذكر أبو حيان والزمخشري والعكبري: سأل أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومَظِنّة له، كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتي فأوقعه فيهم، أو ضمن (أصلح) معنى (الطف) بي في ذريتي لأن أصلح يتعدى بنفسه كقوله: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) ولذلك احتيج قوله: (فِي ذُرِّيَّتِي) إلى التأويل. وقال الآلوسي: أصلح: نزل منزلة اللازم ثم عدي بـ (في) ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان

الظاهر: وأصلح لي ذريتي، وقيل: بـ (في) لتضمنه معنى (الطف) أي الطف بي في ذريتي والأول أحسن. أقول: لقد ضمن الزمخشري وغيره كما ذكرت فعل (أصلح) معنى (الطف أو هب) ولطف يتعدى بالباء لا باللام قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ). ولعل السياق يعدل بنا عن (الطف) إلى (بارك). والمتعدي باللام وبفي. لدلالة تضمنه على الغرض من الدعاء. فإذا دعا بنزول البركة، وحلَّتْ على الذرية فهذا ثمرة الإصلاح وغايته، إذ كيف يبارك اللَّه في ذرية غير صالحة، وكيف تكون موطنا للصلاح إن خلت من البركة؟! فجاء اللفظ كالتنبيه على الأخذ بالأسباب لتطلب، ويُجتَهد في تحصيلها. فإذا دعا بالبركة فقد دعا بتوفر أسبابها، وأعلاها وأجلها الصلاح. إن أمل المؤمن وقد ودَّع شطرا من عمره، وهو على أبواب شطر آخر، لا يدري منتهاه أن يبقى له عمل صالح من بعده، ويتحقق له ذلك لو بقي موصولا في ذريته، ولا أروح لقلبه من أن يرى في عقبه صالحا يدعو له بالبركة ويستكثر منها ويستزيد، وهي آثر عنده من كنوز الدنيا وزينتها ... أرأيت إلى التضمين في حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه، لعنايته بالمعنى، وتَحقيه به، وتزكيته، وتصويره إياه! - فاجزني بدعاء ... فانت للبِرِّ أهلُ - * * *

(واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65)

قَالَ تَعَالَى: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (1)؟! قال أبو حيان: عدي الفعل باللام على سبيل التضمين، أي اثبت بالصبر على عبادته، وأصله أن يتعدى بـ (على)، (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أ. هـ، ومثله البيضاوي. وقال الآلوسي: لا يلائم - كما في الكشف - فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بـ (على)، كما في قوله تعالى: (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيها فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز: اصطبر لقرنك: أي أثبت له فيما يورد عليك من شدّاته، وفي إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل. وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا عدي اصطبر بـ (على) التي هي صلته، كقوله (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)؟ قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يورد عليك من الشدائد، يريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تَهِن، ولا يَضِق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحي عليك مدة، وشماتة المشركين بك. أقول: اصطبر على وزن افتعل، ومن معاني هذه الصيغة: الاجتهاد والطلب. تقول: اكتسب: اجتهد في طلب الكسب، والاجتهاد في طلب الصبر هو السكينة والراحة والطمأنينة المتعدية باللام، وبذلك يؤدي الغرض

(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)

من العبادة، ويصل إلى المطلوب من السكن والسكينة وبرد اليقين. العبادة تكاليف ... فليرتفع في كل حركاته وسكناته ونياته إلى أفق العبادة الوضيء الشفيف، أفق المثول بين يدي المعبود، إنه لمنهج يحتاج إلى مصابرة لما فيه من مشقة ومكابدة ومعاناة. وبهذه اللام جمع إلى المصابرة سكينة النفس وراحة الضمير وطمأنينة القلب إذ ليس لهذا المعبود من نظير، فكيف لا تسكن النفوس إليه وترتاح القلوب بين يديه؟! إذا وجدت لهيب الضر في كبدي ... عمدت إلى صلاة الليل أبْتَرِدُ فإن صح ما رمته وثبت ما قدمته، كان الصبر (المضمن) الذي راضى نفسه فيه وشقت عليه تكاليفه، سبباً في راحة النفس وسكينتها (المضمن فيه) فالعلاقة بين المضمن والمضمن فيه سببية. وبهذا جمع التضمين شعَاع المعنى فصوره في مكابدة الجسد على أشق الأحوال، وفي سكينة النفس على أنزه الصفات، فوسم أغفاله، وأفاء فوارده. ففي الصبر إطفاءْ لنار صبابة ... هى في الضلوع مضطرم * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (1). قال أبو حيان: على العالمين يتعلق بـ (اصْطَفَى) وضمنه معنى (فضَّل) فعداه بـ (على) ولو لم يضمنه معنى فضل لعُدي بـ (مِن). ومثله قال الجمل

والآلوسي. وغيرهم. أقول: إن عملية الاصطفاء فيها اختيار أفضل الموجود فاصطفاء هؤلاء الأنبياء معناه اختيارهم على سواهم نتيجة الاصطفاء فلا مَنقبة ولا مَحمدة إلا وهم زيت مصباحها، ولا حسنة إلا وهم مفتاحها. فتضمين (اصطفى) معنى (اختار) والمتعدي بـ (على) أحرى بالقبول لموقعه من الفصاحة، ومراعاة للسياق. والصفوة هم الخِيَرة: قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ). وفي صيغة الافتعال ما ليس في التفعيل من الظلال ويبقى لى (على) هذه في علو قدر الرسل على سائر الخلق مزية الكشف عن التضمين الذي يُفزَع إليه ويُقتاس به كلما أوعرت بنا المسالك في الاهتداء إلى موطن الأسرار، فتدثَّر بمعانٍ بهيجة من الاختيار والاصطفاء والتفضيل من وراء التضمين ... وقد جُمعَ تحت دثاره كل معنى شريف يعطر بشَرَه، ولا يعُرُّ جوهره. كم فيهم من حاتم في الندى ... قد فاق في الفضل على حاتم * * *

(وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)

قَالَ تَعَالَى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (1). قال الآلوسي: ذكر النحاس: صنعت الفرس أحسنت القيام عليه وقال قتادة: تُصنع على عيني: تربى وتغذى على رعايتي وحفظي وإرادتي ومرأى مني، وهو اختيار أبي عبيدة وابن الأنباري. وزعم الواحدي أنه الصحيح، ويحتمل أن تكون لام (كي) سُكنت تخفيفا ولم يظهر فتح العين للإدغام. قال الخفاجي: وهذا حسن جدا. والعين مجاز مرسل أطلق السبب (العين) على المسبب (الرعاية). أقول: مقام رفيع ومرتبة عالية، قوى جبارة وطاغية تتربص بالرضيع فتضمن (صنع) معنى (أحال) والمتعدي بـ (على)، وهو أظهرُ للمعنى وأكشف للمراد من (ربَّى وغذَّى) فليست الصناعة تغذية وحسب. تقول: أحلت عليه الأمر جعلته مقصورا عليه في جميع شؤونه، فاللَّه أحال الرضيع على رعايته، وقصر أمر تَنشِئته على عنايته وحراسته وتحت بصره، فيربى على حالِ أمنٍ وظهورٍ من الرحمة والشفقة والليان، لا تحت خوف واستسرارٍ وطغيان. فلقد سبقت محبة اللَّه صناعته الفريدة على مدى حياة موسى حين أحاله على عينه، وقصره على رعايته وجعله تحت بصره لا يغيب عنه ليكون درعا تتكسر عليه سهام البغي والشر والعدوان. فجمع التضمين المعنيين: التربية في هذه الصناعة والإحالة. مقام رفيع لموسى عليه السلام كما قلت، وأرفع منه ما منحه لسيد الرسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا). إنه تعبير فريد في القرآن كله لم يُوجَّه إلى نبي

(فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك)

أو رسول غيره، فأي قلم يملك أن يترجم عن شفافيته؟! حتى اللغة تطرب من سعادتها حين حملت هذا المعنى تيَّاهة بفن من التصوير من البديع الخبير، فأصابت بألفاظها مواقع الشعور انتزعتْها في أسلوب، لتظهرها في أسلوب هو أوفى من سواه وأبدع ... يا له من تقدير ... لم يُحل نبيه على عينه حين أمره بالصبر كما أحال أخاه موسى من قبله، بل جعله في عينه، لا بل في أعينه فلا يغيب عن بصره ... وحسب أرباب البيان أن يتفيئوا هذه الظلال ويستنشقوا من خمائلها ... من زهرها ... من عبيرها ... متذوقين من سَنْا إعجازه على سعته وتناشره. رعشات بيان من نور المادة اللغوية تجعل اللفظ ينبوع نور يتفجر يخلع على معناه ألوانا بهيجة، تعجز الأقلام عن تصورها. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) (2). إبراهيم الخليل، الأواه الحليم - عليه السلام - يتشوف إلى السرِّ في إحياء الموتى! وليس التشوف هذا للبرهان أو تقوية للإيمان بل هو مذاق آخر، بل ليرى القدرة وهي تُعيد ما بدأت لتستروح بها نفسه ... ينشد الاطمئنان حين ينكشف المحجوب عنه، وإلا فالسر يعلو على البشر إدراكه، وإنما يشهدون آثاره. ويستجيب الحكيم لهذا التطلع (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).

ذكر الجمل: قرأ حمزة بكسر الصاد والباقون بضمها وتخفيف الراء. صاره يصيره ويصوره: قطّعه أو أماله. وذكر الزمخشري: قرأ ابن عباس بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء صرّه يُصِيّره إذا جمعه. ثم جزئهن على الجبال، ثم ادعهن ... وقال الآلوسي: قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد (فصِرهن)، والباقون بضمهما مع التخفيف (فصُرهن) من صاره يصوره ويصيره لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما، وقال الفراء: الضم مشترك بين المعنيين والكسر بمعنى القطع فقط، وهو عربي، وعن عكرمة أنه نبطي، وعن قتادة أنه حبشي، وعن وهب أنه رومي و (إليك) متعلق بـ خُذ باعتبار تضمنه معنى الضم. أقول: فصِرهن: على لغة النبطية بالكسر معناه: قطعهن ومزقهن. وعلى بقية اللغات (فصُرهن) بالضم: اجمعهن. فعلى لغة النبطية لا يتعدى الفعل بـ (إلى) ولا بدّ من تعليق الجار والمجرور بـ خُذ وبذلك يتضمن: (خذ إليك) معنى ازدلف إليك من الزلفى وهي القربى أي قرِّب إليك أربعة من الطير. وفي حديث الضحية قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " فطفقن يزدلفن إليه ". والمعنى: فقرب إليك أربعة من الطير فقطعهن أو مزقهن ثم ادعهن يأتينك سعيا. ولعل تضمين الأخذ معنى الازدلاف أولى في سياق الآية من الضم كما ذكر الآلوسي، أو التجزئة أو التقطيع كما ذكر آخرون. * * *

(وليضربن بخمرهن على جيوبهن)

قَالَ تَعَالَى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (1). قال أبو حيان: ضمّن يضربن معنى يُلقين ويضعن، فلذلك تعدى بـ (على)، كما تقول: ضربت بيدي على الحائط: إذا وضعتها عليه. ومثله الزمخشري. وقال الآلوسي: عُدِّي يضرب بـ (على) كما قال أبو حيان بتضمينه معنى الوضع والإلقاء وقيل: معنى الشد. وفي اللسان: ضرب بيده إلى كذا: أهوى. وضرب على يده: أمسك. أقول: لقد تضمن (ضرب) معنى (شدَّ) والشد على الشيء: المبالغة فيه. وشد الخمارِ على جيب القميص لتغطيته وستره. لماذا؟ وقد كانت في الجاهلية تمر بين الرجال مكشوفة الصدر إلى معاقد أثدائها .. ؟ فلماذا استبدل سبحانه الضرب بالشد والإدناء (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) والإرخاء والإلقاء؟ لقد جاء التعبير بالضرب لنقف مدهوشين من خطورة الحجاب تشع من حوله ظلال الفتنة: 1 - فلا تتعرض لبَّات الصدور ومرايا الفتنة للعيون الجائعة، أو تكون كمينا للنظرات الخاطفة. 2 - إغلاقاً لنوافذ الفتنة وأسباب الغواية لضعاف النفوس. 3 - استعلاءً على الرغبة في كشف المحاسن أو الرغبة في إطلاع غير المحارم على المفاتن.

4 - طهارةً للمشاعر من التلوّث، وصيانة للأعراض من الشبهات. 5 - ثم جاء التعبير بالضرب من دون الإدناء والإرخاء والشد والوضع والإلقاء لئلا يقع فيه إلباس، فربما يكون في غُلو الضرب وقسوته وجفاء طبعه ويبوس لفظه ما يصرفنا عن ماء رَسِيله وصِقاله وملاطفته ورِفقه، والسياق كما مر بنا ترفُّع عن الظنون الردية وأنَفَة عن الرضا بالدنية فمتى كانت الخفرات الناعمات المحتشمات يضربن؟!. وهكذا يشحن التضمين في لفظ (يضربن) الشعور النفسي بشحنة من فقه الواقع الحياتي وفي تناسق فني عجيب ليُمهد الطريق لإزالة كل غَبَش يُلقيه أهل الكفر والنفاق على العيون، أو دنسِ يلوثون به الفطرة البشرية في عالمنا المفتون. ويرتفع بالذوق الجمالي اللائق بالإنسان المكرم فوق كل مثال (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) قالت عائشة رضي اللَّه عنها ما رأيت أفضل من نساء الأنصار وأشد تصديقاً لكتاب اللَّه لما نزلت (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ). فما من امرأة إلا قامت إلى مرطها المرجل فاعتجرت به. فأصبحن وراء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. ارتفع الذوق الجمالي فصارت الحشمة هي الجمال في عالم الحس والخيال. * * *

(ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)

قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (1). ذكر العز: ضمن يضل (معنى) (يجني) وقدرها أبو عبيدة باللام: يضل لها أي لنفسه وهواه والضلال: الغي وأضل معناها أغوى. (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ): لأغوينهم. وقَالَ تَعَالَى: (أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا): أغوى منكم. فإذا تعدى بـ (عَنْ) تضمن معنى (حَرَف وعَدَل) ذكر الدامغاني: الضلال: الاستنزال عن الشيء. قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي يستنزلك عن طاعة الله. فهو استنزال مع انحراف وإذا تعدى بـ (في) تضمن معنى: تاه وغاب قَالَ تَعَالَى: (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ). أقول: وإذا تعدى بـ (على) تضمن معنى (جنى) كما قال العز أو جرم وأجرم. سر الضلال ومستودعه ستلقاه جناية وجريمة على صاحبه، وعلى هذا يكون المعنى: ومن غوى فإنما تجني غوايته على نفسه، ومن أجرم فإنما تنجرُّ عليه جريمته وتنسحب. (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنها التبعة الفردية والناموس الكوني المرتبط بقاعدة الجزاء بالعمل ولا يسأل حميم حميماً

(وما هو على الغيب بضنين (24)

(أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) و (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا). إنه التصوير الفني في تشخيص المعنى بصورة حسية، وإنه التضمين في التعبير عن غرضه واستشفاف معناه. كالزهر في نفحاته ... والغيث في جدواه * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (1) قال أبو حيان: النحويان وابن كثير: بظنين: أي متهم وهذا نظير الوصف السابق بـ (أمين) وقيل: بضعيف القوة على التبليغ من قولهم: بئر ظنون أي قليلة الماء. وكذا هو بالظاء في [مصحف] عبد اللَّه وباقي السبعة بالضاد أي بخيل يثح به لا يُبلغ ما قيل له ويبخل كما يفعل الكاهن. وذكر البروسوي: وقرئ بظنين على أنه فعيل بمعنى المفعول أي بمتهم، فهو ثقة في جميع ما يُخبر. والكفار لم يُبخلوه وإنما اتهموه، ونفي التهمة أوْلى من نفي البخل، ولأن البخيل يتعدى بالباء لا بـ (على). وزاد الآلوسي: والبخيل لا يتعدى بالباء إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه. وذكر الجمل قوله (على الغيب)، متعلق بظنين أو بضنين فـ (على) الأول بمعنى (في)، وعلى الثاني بمعنى الباء أي فلا يبخل به عليكم، بل يخبركم به ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين: أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل،

والآخر (على الغيب) فإن البخل لا يتعدى بـ (على) وإنما يتعدى بالباء أقول: لا سند لقول الجمل (على) بمعنى (في) ولا لقول عُضيمة: (على) بمعنى الباء، أو بمعنى (في) وإنما هي على أصلها، وما هو (بمتهَمٍ) لكنه (مؤتمن) والمتعدي بـ (على) فهذا من طريف هذه اللغة الشريفة جبريل الملقِي يحمل وُيبلغ، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - المتلقي: صاحبكم تعرفونه برجاحة عقله وصدقه، صاحبكم الذي لا تجهلونه: الأمين على الغيب، يحدثكم عن يقين. وقد أطلقتم عليه: الأمين والصادق، فإن لم يكن متهما فهو مؤتمن، فأين تذهبون بأقوالكم هذه فيما تزعمونه اليوم بأنه ساحر وشاعر ومجنون؟! فما هو على الغيب بضنين، إنما هو على الغيب مؤتمن. إنه الهوى والحقد الدفين يفضح ما في الصدور من مكنون ومستور. نعم .... موضوع السياق مغفول عنه، غير مأبوه له، ودليله غير مدفوع، شاهد على مَن ذهب إلى خلافه. * * *

(النساء فطلقوهن)

قَالَ تَعَالَى: (النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) (1). ذكر ابن العربي: لعدتهن قيل: المعنى في عهدتهن واللام تأتي بمعنى (في) قَالَ تَعَالَى: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) أي في حياتي وهذا فاسد حسب ما بيناه في رسالة الملجئة وإنَّمَا المعنى فطلقوهن لعدتهن التي تعتبر، واللام على أصلها. كما تقول: أفعل كذا لأجل كذا، ويكون مقصود الطلاق والاعتداد مآله الذي ينتهي إليه، وكذلك قوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) يعني حياة القيامة التي هي الحياة الحقيقية. وذكر ابن كثير: قال ابن عباس: لا يطلقها وهي حائض، وفي طهر قد جامعها فيه، وقال عكرمة: العدة: الطهر والقرء: الحيضة، ولا يطلقها وقد طاف عليها ولا يدري حبلى هي أم لا؟ وقال الزمخشري: إذا كانت العدة ظرفاً للطلاق وزمانه هو الطهر، فالطهر عدة إذاً، واللام فيها كاللام في قولك: لليلة بقيت من محرم. وذكر الجمل: أن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت وفي قراءة فطلقوهن من قبل عدتهن. وذكر الجلالين: لعدتهن: لأولها وقيل: مستقبلات لعدتهن. وروى الألوسي: أي لاستقبال عدتهن واللام للتوقيت نحو: كتبته لأربع ليال بقين من جمادى الأولى، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري. وروى القرطبي: قال الجرجاني: اللام بمعنى في كقوله تعالى: (لِأَوَّلِ

الْحَشْرِ) أي في أوله (لِعِدَّتِهِنَّ) أي في عهدتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن وذلك في حال الطهر أقول: والصواب إبقاء الحَرف على أصله فليست اللام في معنى في، وتضمين (الطلاق) معنى (التسريح) أول على الفرض واللام. على اتساع مراميها. محتسبة هنا في منظور لا تملك الخروح عنه هو: مآل الاعتداد للمعتدة أو (فاصبروهن لعدتهن) أي فامسكوهن في البيوت لعدتهن. فاصبر مما يتعدى باللام كما ترى وهو مما أهملته المعاجم. تضمن الطلاق إذاً التسريح أو معنى الصبر والإمساك. (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) وعقب على الطلاق في السورة بمعان كثيرة: كالأمر بالمعروف، والمسامحة والتراضي، وإيثار الجميل، والترغيب في الخير، ثم كرر التقوى والمراقبة للَّه عز وجل مرات ... نقف مدهوشين من هذا الاهتمام أمام حالة هدم لا حالة بناء .. ولأسرة

لا لدولة .. فما يعني هذا: لعل فيه دلالة على خطورة شأن الأسرة تشع منها المودة والرحمة وترف من حولها ظلال المحبة .. يتنزل عليها الندى .. يفوح منها العبير .. وفي كنفها تنسج وشائج الرحمة .. خيوط التكافل لتثبت الطفولة في رفيف من العطف والحنو في أطهر محضن. الطلاق ليس أمر أسرة أو أزواج بل أمر الأمة المسلمة كلها، ولا يؤاخذ فيه الأفراد الذين يرتكبونه وإنما الأمة التي تقع فيها هذه المخالفات. لقد ذاقت أمم وشعوب الوبال حين عتت عن منهج اللَّه. ذاقت فساداً وانحلالاً وفقراً وقحطاً وجوراً .. وهذا الدين نظام جاء لينشئ أمة فالجماعة كلها مسؤولة عنه وعن أحكامه. أسكنوهن .. ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن .. فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن .. لينفق ذو سعة .. سيجعل اللَّه بعد عسر يسرا .. لا عقابيل بغير علاج .. ولا قلاقل تثير الخوف، عالج القرآن الهواجس في القلب بالسماحة التيسير ... أبعد شبح الفقر إذا أنفق ووسع على زوجته، عالج ما أدى إلى الطلاق من غيظ وحنف ومشادة ومسحه بيد الرفق ونسم عليه من ينابيع المودة بلمسات التقوى. ولا تضاروهن .. نهى عن كل ألوان العنت وأوكله إلى التقوى، وعوضه في مسألة الرزق .. كل ذلك مما يدل على عظيم اهتمامه بشأن المرأة والتي يدخل منها المغرضون للنيل من الشريعة المحمدية بأنها لم تعط المرأة حق الرعاية والاهتمام. * * *

(ومطهرك من الذين كفروا)

قَالَ تَعَالَى: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (1). ذكر العز والزركشي: مضمن معنى (مُميّزك) من الذين كفروا. وقال الآلوسي: يحتمل أن يكون تطهيره بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته عما قصدوا من القتل. وذكر أبو حيان: جعل الذين كفروا دنساً ونجساً. فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير. وقال أبو السعود: ومطهرك من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم. وذكر الراغب: مطهرك: مخرجك من جملتهم ومُنزهك أن تفعل فعلهم. ومثله الزبيدي. أقول: ولعل تضمين (مطهرك) معنى (مُستخلصك) و (مُجْتبيك) و (مُنجيك)، أكشف للمعنى وأصح لتأديته، وأسفر عن وجهه من التمييز والتبعيد والإخراج. وما جاءت الطهارة إلا إيماءً إلى رجسهم ودنسهم. فاللَّه قد اصطفاه من مخالطتهم، واجتباه من سوء عشرتهم، للمزايا التي فيه وفي المصطفَيْن الأخيار من إخوانه. فلا يريبك ما توقمه بعضهم من لفظ (مطهرك) وإنما هو التضمين بعذوبته ومائه، جمع اللَّه قلبه للطهارة ونجاه من أرجاسهم ولأوائهم واستخْلصه من مخالطتهم والبقاء في مستنقعاتهم، فاللفظ في التضمين

(وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)

يتفتح عن رصيده المذخور وإيحائه المتجدد. بالتعريض والتلويح، والإيماء دون التصريح، وكيف تصرفت الحال في تضمين الطهارة فإنها تدرأ عنه شناعة دنس الكافرين ورجسِهم. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) (1). ذكر ابن الشجري: أي أظهركم عليهم. وذكر الجمل: مُظهرا لكم عليهم، فتعدية الفعل بـ (على) لتضمَّنه ما يتعدى به وهو الإظهار والإعلاء، أي أظهركم فصح تعديته بـ (على). وقال القرطبي: أظفركم مُظهرا لكم، فتعدية الفعل بـ (على) لتضمنه ما يتعدى به وهو الإظهار والإعلاء أي جعلكم ذوي غلبة وذكر الآلوسي: قال الزمخشري: الفرق بين الظفر على الشيء والظفر به من حيث الاستعلاء وهو كائن لأن المشركين اصطلحوا وهم مضطرون ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مختارون وفيه دغدغة لا تخفى. أقول: في الآية إشارة إلى الأربعين أو السبعين من المشركين الذين أرادوا أن ينالوا من معسكر المسلمين، فأسروا وسيقوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخلى سبيلهم وعفا عنهم. و (ظفر) يتعدى بنفسه وبالباء. نقول: ظفرت الشيءَ وظفرت به: فزت به ونلته. فإذا تعدى بـ (على) فقد تضمن معنى (الغلبة والاستيلاء والاستحواذ

(وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها)

والإظهار والإعلاء ... ) ومن معاني (أفعل): التمكين 0 أي مكنكم من الاستيلاء والاستحواذ على المشركين. وهو البصير بكل خاطرة وكل حركة وكل حادث وقع لكم، وهو يختار لكم عن علم وعلى بصيرة، ولن يضيعكم إذا استسلمتم له. بلا ترقد ولا تلفت موقنين أن الأمر كله له، وأن الخيرة فيما اختاره لكم، وأنكم مسيرون بقدرته ومشيثته، وأنه يريد بكم الخير (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ... لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ). وهكذا يكشف التضمين عن جانب من: - حكمة اللَّه المغيبة وراء تدبيره ... ليدخل اللَّه في رحمته من يشاء .... - وسبب اختيار اللفظ ليضيء به المعنى وينبّه على أسبابه. * * * قَال تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) (2). ذكر العز بن عبد السلام: أي فكفروا بها ظالمين، أي فكذبوا بها ظالمين. وقال القرطبي: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله. وذكر الآلوسي: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) بآياتنا متعلق بـ يظلمون لتضمنه معنى (يكذبون أو يجحدون). وكذلك أبو حيان. وقال الزمخشري: كذبوا.

أقول: تضمن (ظلم) معنى (خان وختل وخدع) وهذه تتعدى بالباء لأن نفوسهم الظالمة خدعتهم فالقرآن معجزة الإسلام الباقية إلى يوم القيامة يخاطب الفكر والقلب ويلبي الفطرة. أما المعجزة المادية فتقتصر على من يشاهدها. فثمود الذين طلبوا آية جاءتهم الناقة وفق طلبهم ولكنهم جحدوا بها فأوردوا أنفسهم موارد الهلكة تصديقا لوعد اللَّه بإهلاك المكذبين بعد مجيء الخوارق والمعجزات، وقد رأوا المعجزة الباهرة في الناقة المبصرة. لقد جمع التضمين الظلم إلى الجحد، والتكذيب إلى الخيانة والختْل والخدْع في هذه الباء، ظلموا أنفسهم فخسروها وجحدوا بآية مرئية فأنكروها، وكذبوا بآية حسية وختلوا وخدعوا وخانوا فاستحقوا وقوع العذاب. وبهذا جمع التضمين هذا الشتات فأوعى. إنه التضمين يكشف عن طبيعة الصنعة في هذه اللغة الشريفة، وعن الغرض من إبدال هذه الحروف، والإشعاع المنير الذي يستضيء به الفعل حين يمسه حرف لا يألفه ولا يأنس به فإذا له خيال مشبوب كأنما كسبت روحه قوة، وشبَّت في نفسه شبابا يزيد في معناه، ويتفتح عن رصيده المذخور، وإيحائه المُتجدد. * * *

(ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها)

قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا) (1). ذكر العز بن عبد السلام: أي فكذبوا بها ظالمين، فضمن (فظلموا) معنى (كذبوا أو معنى كفروا) لإفادة المعنيين. وقال القرطبي: فظلموا أي كفروا ولم يصدقوا. وقال الآلوسي: فظلموا بها والظلم يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدي تعديته أو بمعنى الكفر مجازا وتضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها. وقول بعضهم: إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها، ظاهر في التضمين. قال أبو حيان: وتعدية ظلموا بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها. وقال الأصم: ظلموا تلك النعم بأن استعانوا بها على معصية الله. أقول: العربية مرنة سمحاء يتسع اللفظ فيها لحاجات كثيرة. لقد تضمن (الظلم) معنى (الكفر) فعدي تعديته، والكفر من أقبح الظلم وأشنعه وأسلوب القرآن يكرر من كلمة الظلم ويضمنها معنى الكفر، والكفرة يظلمون الحقيقة الكبرى في هذا الوجود ... حقيقة التوحيد. يظلمون أنفسهم في رميها في موارد الهلكة في الدنيا والآخرة ... ويظلمون الناس في عبودية الأرباب والطواغيت ويخدعونهم ... وما تحرر الإنسان واستقام إلا في ظل عبوديته لله وحده. عقيدة، وعبادة، وشريعة.

(إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44)

كما يتضمن (الظلم) معنى (التكذيب) ... والكَذَبَة يفترون على اللَّه وعلى الناس ما شاؤوا ... لطمس الحقيقة وأي ظلم أفحش من طمس الحقيقة!! هكذا يجمع التضمين فوارد المعنى، فيعلو فيه قدره، وتسبق إلى الأنفس ثقته. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (1). ذكر الزمخشري: أي لا يُنقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم، من بعثة الرسل وإنزال الكتب ولكن يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب. وذكر ابن عباس: لا يُنقصهم من حسناتهم ولا يزيد على سيئاتهم. وقال الآلوسي: (شيئا) مفعول ثانٍ ليظلم بناء على أنه مضمن معنى (يُنقص). أقول: ولعل البخس أدنى إلى الظلم من النقص وأسوغ، فهل بخسهم ربهم حقهم في تبيين أسباب الهداية. لقد وفر لهم كل مقوماتها ... فلم يطمس جوارحهم لئلا تتعطل وظائفها، وأنزل لهم الكتاب، وبين لهم المنهج، وأرسل رسوله يبلغهم دعوته، فنفى تعالى بذلك الظلم عن نفسه. ولكنهم عطَّلوا حواسهم مختارين في تكذيبهم للحق، وعنادهم الصفيق للهدى، فارتكبوا أعظم القبائح بحق أنفسهم ومجتمعهم في تعطيل مداركهم، فليس بعد هذا وسيلة أخرى تنجح معهم بهذا الشمول وبهذه الدقة.

(ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9)

وهذه الآية تسرية عن قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألا يذهب حسراتٍ عليهم لأنه لم يُقصر في تبليغهم، وأن اللَّه لم يبخسهم أسباب هدايته. أرأيت كيف جعل التضمين المتعدي لمفعول متعدياً لمفعولين، فأضاف إلى الظلم البخس حين جعل فيه عصارة جديدة من ماء الحياة! لقد أمتعنا من حديثه تأنيساً بهذه اللفتات ومن حديث يزيدنا مِقةْ ... ما لحديث الموموق من ثمن ولو جاءت الآية (إن اللَّه لا يبخس الناس شيئا) لضاع علينا نفي الظلم. إنه التضمين جمع إلى نفي الظلم، نفيَ البخس، فكانت له الحُظْوة إلى الإيجاز والإعجاز، وفي عرض حقيقة من حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل. * حسب اللبيب بهذا الخير من هاد * * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) (1). ذكر العز: أي يُكذبون بها أو يكفرون بها ظالمين - على التضمين - وقال الآلوسي: بآياتنا متعلق بـ يظلمون وقُدم عليه بالفاصلة وعُدِّي الظلم بالباء لتضمَّنه معنى التكذيب أو الجحود. وقال أبو حيان: ويتعلق (بآياتنا) بقوله يظلمون، تضمن معنى يُكذبون أو لأنها بمعنى يجحدون، وجحد يتعدى بالباء قَالَ تَعَالَى: (وَجَحَدُوا بِهَا). أقول: ولعل يستخفون ويستهينون أظهر في تصوير موقفهم من

(يكفرون)، فالاستخفاف من أقبح الظلم وأشد الكفر لأنه استهانة بآيات الله، وأقوى صلة بخفة الموازين، وشناعةِ الخسران المهين. وما دام الوزن هو الحق فلا مغالطة مع الميزان، ولا تلبيس. لقد خسروا أنفسهم باستخفافهم بآيات ربهم، فماذا يبقى بعد أن تخِف موازينُه ويخسرَ الإنسان نفسه! فالتضمين جعل الظلم هنا يتسع إهابه لمعنى الاستخفاف غير محتبس في منظور ضيق حدده له السياق سياق الخسران، وانعقدت من ورائه مقابلة بين الخفة والاستخفاف، أفصحت عن صورة من صور الإعجاز نضرها لنا التضمين وفتق أكمامها فالجزاء من جنس العمل. لم ورد التعبير بالظلم ولم يرد بالاستخفاف؟. لو جاء - بآياتنا يستخفون - لغاب عنا معنى طمس الحقيقة، والذي ينضوي تحت كنف الظلم، فاستوفى بالظلم بيان السبب واستقصى شرح علته. فاللفظ في القرآن يمتاز بالتعبير عن أكثر من مدلول: يحمل معنى، ويومئ إلى معنى، ويستَتْبع معنى، مع التناسق العجيب بين هذه المداليل، فلا يُغني لفظ عن لفظٍ في موضعه، وكل مدلول يستوفي حظّه من الوضوح. وقليل من الناس اليوم قادرون على تذوق التعبير القرآني والاستمتاع بخصائصه الفنية لبُعدهم عن أساليبه وانصرافهم عن إعجازه. كل لفظ زهرة، وكل زهرة ابتسامة تحتها سرّ دفين. * * *

(وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) وقال: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم)

قَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (1). وقال: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) (2). قال الزمخشري: ضمن ظاهر معنى باعد. وقال الآلوسي: وعدي بـ (مِنْ) وهو يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد مما فيه معنى المجانبة والابتعاد. وقال الأزهري: خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تُركب إذا غُشيت فهو كناية تلويحية أقول: تضمين (ظاهر) معنى (باعد أو فصل) لا يترسم سبيل الظهار ولا يشارف معناه إلا على استكراه. ولعل تضمينه معنى (امتنع). يأنق له ويرتاح لاستعماله. فما جعل اللَّه أزواجكم اللائي تمتنعون منهن أمهاتكم ... فلا هي مطلقة فتتزوج سواه، ولا هي زوجة فتحل له. وفي هذا منتهى قسوة الجاهلية للمرأة، وسوء معاملتها، والاستبداد بها، وسَوْمِها العَنَت. لقد أوْلاها الإسلام ما يليق بها من العناية ورفع الخسف، فجعل الطهارة تحريما مؤقتا للوطء، كفارته: عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا. وسلمت الأسرة من التصدع والاضطراب والفوضى السائدة في الجاهلية كما سلمت من نزوات الرجال وعنجهيتهم فجمع التضمين المعنيين: الظِهار والامتناع. إنه التضمين، مسلكه يدق، والتلويح بالغرض أدمث من التصريح وأعذب.

(خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21)

- رُبَّ طرف مُصرح ... عن ضميرٍ بما هَجَس - * * * قَالَ تَعَالَى: (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) (1). قال الزمخشري: يجوز ألا ينتصب (سيرتها) على الظرف أي سنعيدها في سيرتها، أو يكون أعاد من عاده بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين. ووجه ثالث أن يكون (سنعيدها) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها، أي سنعيدها كما أنشأناها أولاً، ونصب سيرتها بفعل مُضمر أي تسير سيرتها يعني سنعيدها سائرة سيرتها الأولى: عصاً يتوكأ عليها. وقال أبو حيان: سيرتها بدل اشتمال من الضمير المنصوب في (سنعيدها). وقال أبو السعود: منصوب على نزع الخافض أي: إلى سيرتها، أو على الظرفية: سنعيدها في طريقتها، أو تقدير حال من المفعول: نعيدها عصا تسير سيرتها الأولى. وقال البيضاوي: انتصب على نزع الخافض، ويكرر مقالة من سبق. ومثله كرر الجمل والبر وسوي. أقول: المشهد يبرز القدرة في صورة بصرية - حية تسعى - وفي صورة غير مبصرة حين يسري الإيمان في قلوب الكفار فيُحييهم فإذا هم مؤمنون. ويتم التنسيق بين الخوف الذي ينتاب موسى عليه السلام وبين الطمأنينة التي يسكبها ربنا على قلبه، فيلتقط الحية وهي تسعى فترتد عصا من جديد، تتحول بقدرته سبحانه، كما يسلب الإيمان من قلوب بعض المؤمنين فإذا هم كافرون. لقد منحها الحياة فدبَّت وسعت لتشهد بقدرته ثم ردها سيرتها في سلب الحياة

(يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون (43)

لتشهد بقدرته أيضاً. وبهذا يغنينا التضمين في (رد) عن العديد من التأويلات النحوية في النصب على الظرفية أو نزع الخافض أو بدل الاشتمال أو المفعول بفعل محذوف ... مما يجفف منابع الجمال في النص والتي كشف فيها التضمين عن سر المعجزة في تعبيره المعجز - سنعيدها - سنردها سيرتها الأولى، وصور الرد وإعادة التكوين كثيرة لا تحصى، تُثري النصَّ بمعانٍ تجاوبت بها جنبات الوجود حين أنهى اللَّه إلى عبده أصول التوحيد وكلياته بقوله سنعيدها: سنردها لقد كشف عن سر المعجزة في نشأة التكوين وإعادته في هذه الكلمة، لأن إعادة التكوين كالتكوين أو أيسر منه، وكلا اللفظين (رد وأعاد) موْنس لأخيه لا يخرج عن فصيلته. ويبقى التضمين في هذه اللغة الشريفة مظهر وحي ومصدر إثراء كالزهر في نفحاته والطل في أندائه، أما لماذا آثر لفظ الإعادة على الرد؟ لعل في هذا الأخير ما ليس في عديله من ظهور المعجزة في التكوين وإعادة التكوين. * * * قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (2) قال الزمخشري: واللام (للرؤيا) إما أن تكون للبيان، وإما مقوية للعمل فقصد بها كما يقصد بها اسم الفاعل لانحطاطه عن الفعل في القوة، أو يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا.

وقال أبو حيان: واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه، فلو تأخر لم يحسن. بخلاف اسم الفاعل. ثم نقل عن الزمخشري ما أجازه من الوجوه المتكلفة. وذكر الجمل: للرؤيا فيه أوجه: أحدها: أن تكون اللام مزيدة، زيدت لتقدم المعمول، مقوية للعامل. الثاني: أن يضمن تعبرون: تُنتدبون لعبارة الرؤيا. الثالث: أن تكون (للرؤيا) خبر كنتم كما تقول: فلانا لهذا الأمر إذا كان متمكنا منه. أ. هـ. وقال الزجاج: هذه اللام أُدخلت على المفعول للتبيين وتسمى لام التعقيب لأنها عقبت الإضافة. وقال المرادي: اللام الزائدة مع المفعول به إذا ضعف بتأخيره فزيادتها مقيسة لأنها مقوية للعامل. وقال الزركشي: واللام للتعدية تعدي العامل إذا عجز، لأن الفعل يضعف بتقديم مفعوله عليه. وقال البروسوي: إن هذه اللام لم تذكر في بحث اللامات في كتب النحو ثم ذكر أقوال صاحب الجمل الآنفة. أقول: لعل تضمين عبَّر معنى (فِطن وبيَّن) والمتعديان باللام يصرفنا

عن وجوه متكلفة، ذهب إليها المفسرون، إلى الوجه الذي هو أضْوأ لها وأنْوَه. فالملك رأى رؤيا هالتْه، ولعله توهّم خطرها على عرشه، ولولا تحفيه بها لما استعبرها سأل الملأ من حوله من الحكماء والعلماء والكهنة عن من يجيد عبارتها، أو يبين له رموزها، لكنها أعضلت عليهم، فلم يكونوا لتأويلها بنحارير، ولا لرؤياه بعالمين، أو أنهم أحسُّوا بسوءٍ فيها يُصيبه فرغبوا عن مواجهته. ولو قيل: ما الصلة بين المضمن والمضمن فيه؟ لقلت: أليس التعبير للرؤيا هو تبيين لحقيقتها وما تؤول إليه؟ كذلك الفطانة هي الحذق والمهارة في توضيح غامضها وبيان جليتها. وهل يملك تعبير الرؤيا إلا فطِن؟ وهل يحسن العبور بها من شاطئ الغموض إلى الوضوح إلا الفَهِم؟ ثم هل ينتقل من صورتها النفسية الغامضة أو الشاحبة إلى صورتها الحسية المشرقة إلا مُبين! فليست اللام إذاً مبينة أو مقوية ولا زائدة وإنما هي صلة لفعل (بيّن وفطن) وليس تقديم الرؤيا على فعلها إلا لتوفير الإيقاع الرخيّ في الأداء التعبيري والجرس الموسيقي، فتنزّه في رياض التضمين لتجنيَ قُطوفا زكيّة وشهيَّة يخضرّ فيها اللفظ فيرمي ظلاله وثماره. هو التضمين لا يزالُ مُرتادا ... هي الرؤيا على شطيه أصنافا * * *

(وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8)

قَالَ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (1). قال الزمخشري: عتت ضمن معنى (أعرضت). وذكر القرطبي: عتت: عصت. وقال أبو حيان: عتت: أعرضت عن أمر ربها على سبيل العناد والتكبر. قال أستاذنا الأفغاني: ضمن عتت معنى انحرفت. وقال الآلوسي: وأوجب بعضهم أن يُضمن عتوا معنى التولي أي تولَّوا عن امتثال أمره عاتين. وقال ابن كثير: عتت عن أمر ربها: تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر اللَّه ومتابعة رسله. أقول: عتا يعتو عتوا وعِتياً: استكبر وتمرَّد وتجبر. فالفعل لازم لا يتعدى. وتعديته بـ (عَنْ) حملته على التضمين كما مر فالانحراف أو الإعراض أو التولي وكلها تتعدى بـ (عن). ولكني أوثر التولي على سواه لما فيه من التعالي عن اتباع أوامر اللَّه وعبادته واتباع رسله، ولما فيه من معنى (الصَّلَف) في يبوس لفظه وجفاء طبع صاحبه وعناده وكفره مما يدعونا إلى النبوِّ عنه والريبة منه والتقزز من صورته.

(قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم)

إنذار وتحذير ... فأمر الطلاق ليس أمر أسرة بل أمر الأمة كلها، عتوا عن أمر اللَّه لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه، وإنما تؤاخذ به الأمة التي تقع فيها المخالفة حين تنحرف عن نهج اللَّه وأوامره، تذوقه فسادا وانحلالا وفقرا وقحطا وظلما وجورا فلا طمأنينة فيها ولا استقرار. فهذا الدين منهج جاء لينشئ أمة مسلمة، فالأمة كلها مسؤولة عنه وعن أحكامه، وتبقى الحجة في تعدية الفعل بـ (عَنْ) أنْور وأبْهر فلولا (عن) لانتهت المادة اللغوية (لعتت) إلى جفاف لا نَسْمة من ورائها ولا إشراق. * * * قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (1). ذكر الجمل: تعدى استعجل بالباء من حيث تضمينه معنى المطالبة، وإلا فالذي في كتب اللغة أنه إنما يتعدى بنفسه. أقول: لا تضمين في الفعل لأنه يتعدى بالباء وليس كما قال الجمل ففي التنزيل: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ). وقَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). وقال: (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ).

(وما أعجلك عن قومك يا موسى (83)

وقال: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا). وقال: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ). وقال: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ). وقال: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ). وجاء في الحديث: " لولا تعجلوا بالبلية قبل نزولها ". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تعجلوا بنداء أساراكم ". وقال زهير بن أبي سلمى: فلا تحسبن يا ابن أزنمَ شحمة ... تعخلهاطاهٍ بشيٍّ مُلَهوج فالفعل إذاً يتعدى بالباء ولا تضمين فيه واللَّه أعلم. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (8). قال الآلوسي: والمراد بالتعجيل تقدمه عليه لا الإتيان قبل تمام الميعاد، خلافا لبعضهم، والاستفهام للإنكار، لأن العجلة نقيصة في نفسها فكيف من أولي العزم. واللائق بهم المزيد من الحزم. وقال البروسوي: أي شيء حملك على العجلة وأوجب سبقك منفردا عن قومك وهم النقباء السبعون، وأنه سبقهم شوقا إلى ميعاد اللَّه وأمرهم أن يتبعوه (وما أعجلك): سؤال انبساط كقوله: (وَمَا تِلْكَ

بِيَمِينِكَ) لا سؤال إنكار كما ظن أكثر المفسرين. وقال الرازي: وأما قوله (هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) فغير منطبق على سؤاله عن سبب العجلة. أقول: (أعْجلَ) لا يتعدى بـ (عَنْ) وإنما تضمن معنى (أَبْعد) فعجلتُهُ أبعدته عن قومه. فلما سئل عن سببها (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) وغير بعيدين عني، لقد غلب الشوق عليه إلى مناجاة ربه بعد أن ذاق حلاوتها من قبل فهو إليها مشتاق عجول. وقف في حضرة مولاه لا يعلم ما أحدثه القوم خلفه في أسفل الجبل. استعد لهذا اللقاء أربعين يوما ليتلقى الألواح وفيها التوجيه من ربه والذي يقيم عليه حياة بني إسرائيل بعد أن أنقذهم من ذل الفراعنة ليصوغ منهم أمة ذات رسالة. وما كاد يتركهم في رعاية أخيه هارون حتى ينهاروا أمام أول اختبار ... إنه العجل من الذهب أضلهم به السامري وهاهم يتبعون أول ناعق إلى الوثنية، إلى عبادة العجل. والعلاقة بين المضمن والمضمن فيه سببية، فعجلته سبب في بعد قومه عنه. فجمع التضمين مع العجلة معنى البعد والذي أوحى به الحرف (عن) وقد يحمل المعنى على نقيضه كما يحمل على نظيره: أي ما أبطأهم عنك؟ ويأتي جوابه: هم أولاء على أثري، وعجلت إليك ربي لترضى. إنه التضمين وإنه النور المبين. * * *

(أعجلتم أمر ربكم)

قَال تعالى: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) (1). العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته وهي مذمومة. والسرعة: عمل الشيء أول وقته وهي محمودة. قال الزمخشري وأبو حيان والآلوسي: يقال. عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه، ويضمّن معنى (سبق) فيعدى تعديته فيقال: عجلت الأمر. والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم. قال أبو السعود: أعجلتم أمر ربكم أي تركتموه غير تام على تضمين عجل معنى سبق. يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم مدتي وغيَّرتم بعدي كما غيَّرت الأمم بعد أنبيائها. أقول: يعود موسى عليه السلام من مناجاته لربه لا يدري ما أحدث قومه من بعده ومعه ألواح التوراة. وحين علم بجلية الأمر غضب أشد الغضب وبدا ذلك في قوله وفعله: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أسبقتم تعاليمه فعبدتم العجل قبل مجيء أوامره؟! أتعجلتم انتظار أمره وموعده وميقاته الذي وعدنيه أربعين ليلة ففعلتم ما فعلتم؟ وهكذا يكشف التضمين وفي نبرة من غضب موسى عليه السلام عن استباق قومه للأحداث وعدم انتظارهم في حفظ عهده وما وصاهم به. ولو كانت الآية - أعجلتم عن أمر ربكم - لانصرف إلى الاستعجال فقط دون الانتكاس الذي وقعوا فيه، وغضب له موسى أشد الغضب، لقد كانت النقلة بعيدة والمفاجأة قاسية أفقدته السيطرة على أعصابه فألقى الألواح وفيها كلام ربه ... تركهم على الهدى ليعود وهم يعبدون العجل.

(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا)

لقد استبقوا موعده وميقاته واستعجلوا قضاءه وعقابه، وما حذف الحرف (عن) إلا لغرض مخصوص فإذا بدهك في هذه اللغة موضع منه ليس في سليقته ونجره فتنبه عليه، وتأت له، ولاطفْه بالصنعة والتأمل فإن ذلك يُمكنك منه. * * * قَال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (1). عدا: فعل متعدٍ يقال: عداه إذا جاوزه ومنه قولهم: عدا طوره. وتعدّى بـ عن لتضمنه معنى نبا وعلا. قال الزمخشري: نبتْ عنه عينه وعلَتْ عنه: إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: فأي غرض في هذا التضمين وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك؟ قل: الغرض فيه إعطاء مجموع المعنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذّ. وقال أبو حيان والزركشي: ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم ونحوه قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ). أي لا تضموها إليها آكلين. وقال ابن كثير: قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة. وقال الآلوسي: قيل: إن (عدا) حقيقة معناه (تجاوز) كما صرح

الراغب. والتجاوز لا يتعدى بـ (عَنْ) إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين (عدا) معنى (نبا وعلا) في قولك: نَبَتْ عنه عينه، وعلت عنه إذا اقتحمته ولم تعلق به وهو الذي ذهب إليه الزمخشري. ثم قال: لم يقل ولا تعدهم عيناك أو لا تعلُ عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنييه وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ. ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. وقال السهيلي: ولا تعدُ أي لا تجاوزهم عيناك ولكنه أوصل إلى المفعول بـ (عَنْ) حملا على المعنى لأنك إذا تجاوزت الشيء وتعديته فقد انصرفت عنه فحمل (لا تعدُ) على (لا تنصرف) أي ضمن لا تعدُ معنى لا تنصرف. وبهذا اللفظ فسره الفراء. أقول: لعل تضمين (تعدو) معنى (تسهو أو تغفل) أكشف في تشخيص العلة من سواه لأن تحول الاهتمام عنهم إلى مظاهر الحياة الدنيا وزينتها فذلك هو الرسوب. احبس نفسك معهم ولا تسهُ عيناك عنهم فهؤلاء الفقراء: صهيب وبلال، سلمان وخبَّاب وعمار، هم القاعدة الصلبة وعلى مثلهم تقوم الدعوات.

فاصحبهم أنت للأخيار مفتقر ... ما قيمة العيش لولا هذه الزُّهُر لا تعد عيناك عنهم تبتغي عرضا ... من زينة الدنيا في خدها صَعَرُ واسلك سبيلهم عساك تدركهم ... تدعْ ذنوبا يُعفي خلفها الأثرُ اللَّه غايتهم، محمد قدوتهم، رابطة العقيدة وثقت بين قلوبهم. أما المال والجاه والنسب فقيم نفيسة في ميزان الجاهلية محاها الإسلام. لا تغفل عيناك عنهم ولا تطمع في إيمان من أصابهم رغد العيش وزينة الدنيا، يريدون أن يتجروا بدينهم في سوق الدعوات، ويحققوا في اعتناقه ما شاؤوا من أطماع، إنهم سَفَه لا وزن لهم ولا شأن في ميزان الإسلام. أما ما ذكره بعض المفسرين بتضمين تعدو معنى تنبو فالنبوُّ فيه كبرياء وصَلَف وهو عن السياق بعيد وهو عن خلق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبعد، وأما (تقتحم) فلا يتعدى بـ (عَنْ) فاضطره إلى الحذف والتأويل فضلا عن كدرة لفظه. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) فلا ملل ولا استعجال: يتوجهون إلى ربهم لا يتحولون ولا يبتغون إلا رضاه. ولو سأل سائل: لم اختار الخبير العليم (عدا)؟ فأقول: لِتعلق الغرض به وأنه ترجمة للغة العيون حين تسهو عن الجوهر وتتطلع إلى العَرَض: زينة الحياة الدنيا، فكأنه أليق بمعناه وأوفق لمراده. أما الانصراف فهو ترجمة لنزوات النفس حين تتحول من الآخرة إلى الأولى ومن الجوهر إلى العرض، وأما السهو والغفلة فهما ترجمة للقلب حين ينقطع عن الذين يريدون وجه الله، وصبر النفس مع هؤلاء يستدعي يقَظَة القلب ورقته، وهذا ما أنَّسَني باستحسانه ثم هو جنوح إلى المستخف وعدول عن المستثقل. * * *

(وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1). وانتصاب الطلاق إما على إسقاط حرف الجر لأن عزم يتعدى بـ (على). قال ابن دريد: عزمت عليك. أقسمت عليك: * عزمت على إقامة ذي صباح *. وقال العكبري: فلما حذف الحرف نصب. ويجوز حمل عزم على نوى فعداه بنفسه. وعزم بلغة هذيل: حقق. قال أبو حيان: يتضمن (عزم) معنى (نوى) فيتعدى إلى مفعول به، ومعنى العزم هنا: التصميم على الطلاق، ويظهر أن جواب الشرط محذوف تقديره: فليوقعوه أي الطلاق، وفي قوله في هذا التقسيم: فإن فاؤوا، وإن عزموا الطلاق، دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمعنى الأربعة الأشهر من غير قول، بل لابد من القول لقوله: عزموا، والعزم على فعل الشيء ليس فعلا للشيء، ويؤكده (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إذ لا يسمع إلا الأقوال، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه إذا قدرناه، فليوقعوه أي الطلاق فجاء سميع باعتبار الطلاق لأنه من باب المسموعات وهو جواب الشرط، ولا تدرك النيات إلا بالعلم، وتأخر هذا الوصف لمراعاة رؤوس الآي ولأن العلم أعم من السمع فمتعلقه أعم، ومتعلق السمع أخص. وأبعد من قال: فإن الله سميع لإيلائه لبعد انتظامه مع الشرط قبله. وفي حاشية الجمل: عزموا الطلاق أي عليه. نصب الطلاق على نزع الخافض لأن عزم يتعدى بـ (على). وقال الآلوسي: عزموا الطلاق: أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا وصمموا على الإيلاء. فإن اللَّه سميع (لإيلائهم) الذي صار منهم طلاقا بائنا بمعنى العدة (علم) بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم،

وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه الآية، فإنهم قالوا: الإيلاء من المرأة أن يقول: واللَّه لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا على التقييد في الأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق. وقال القرطبي: (عزموا) العزيمة: تتميم العقد على الشيء. يقال: عزم عليه عزما وعزيمة، والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله (وعزموا الطلاق) دليل على أنها لا تطلق بمعنى مدة أربعة أشهر كما قال مالك ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضاً فإنه قال: (سميع) يقتضي مسموع بعد المضي: وقال أبو حنيفة: سميع لإيلائه عليم بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة اشهر. فالمولي من امرأته ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فإن فاء وإلا طلق. قال القاضي ابن عربي: تقدير الآية عندنا: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن اللَّه غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن اللَّه سميع عليم تقديرها عندهم: فإن فاؤوا فيها فإن اللَّه غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة - يريد مدة التربص بها - فإن اللَّه سميع عليم. وقد يتضمن العزم معنى الإيقاع لأنه يستلزمه غالباً. أقول: وهذا احتمال متساوٍ ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه، وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا فذلك أَجَلٌ ضربه الله، وبانقضائه انقطعت العصمة وأبِينَتْ من غير خلاف، فلو نُسي الفيء وانتقضت المدة لوقع الطلاق. إنه التضمين ... فاقبله وأنت مطمئن إليه، فإنه أنفى للشبهة، وأمنع للشكِّ، وأدخل في اليقين. * * *

(ولا تعزموا عقدة النكاح)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) (1). ذكر الزمخشري: ولا تعزموا عقدة النكاح من عزم الأمر وعزم عليه وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أشد وأنهى. وقال أبو حيان: يتضمن تعزم معنى ما يتعدى بنفسه أي تنووا أو تصححوا أو تباشروا، وقيل: انتصب على المصدر. ومعنى تعزموا: تعقدوا، وقيل: انتصب على إسقاط (على) وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك، ولذلك قال ابن عطية: عزم العقدة: عقدها بالإشهاد والولي، وبلوغ الكتاب أجله: انقضاء العِدة وهذا النهي معناه التحريم فلو عقد عليها في العدة فسخ الحاكم النكاح. قال الراغب: العزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر. قال القرطبي: والمعنى لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة. قال النحاس: ويجوز أن يكون: ولا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد. حَرّم عقد النكاح أثناء العدة وأباح التعريض. وقال البروسوي: ولا تعزموا عقدة النكاح: لا تقصدوا قصدا جازما عقد (عقدة النكاح) وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي عن الشيء على وجه أبلغ. وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح ويكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده. أقول: يأتي التعبير القرآني في منتهى الدقة وغاية اللطف فلم يقل: لا

(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52)

تعزموا على عقدة النكاح: أي تنووها. بل قال: لا تعزموا عقدته؛ أي (تظهروها وتباشروها وتحققوها)، النية التي في القلب خافية لا حرج على صاحبها فيها ولا معها، وإنما الحرج وإنَّمَا المنهي عنه أن تظهر على السطح بصورة عزيمة تنشئ العقدة. جاء النهي عن الاقتراب من حدود الخطر في فترة العدة فضلا عن اجتيازه، فلم يقل (ولا تعقدوا) بل قال: (ولا تعزموا) والعزم على الفعل يتقدم الفعل، والعزم على عقدته يتقدم عقدته. فإذا جرى النهي عن العزم فالنهي عن العقد أنهى. ولعل السياق قبلها - لا تواعدوهن سراً - وبعدها - واعلموا أن اللَّه يعلم مافي أنفسكم فاحذروه - يؤنسنا بصحة ما عرضنا له، فاللَّه عليم بالمشاعر المستكنَّة والعلاقات الشديدة الحساسية بين الرجل والمرأة. يظاهر ما أثبتناه قوله تعالى في سورة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جد الجد ولزم فرض القتال فلو صدقوا اللَّه لكان خيرا لهم. * * * قَالَ تَعَالَى: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (2). وقال: (فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ). عكف يتعدى بـ (على) كقوله تعالى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ). فقيل: (لها) بمعنى (عليها) كما قيل في قوله تعالى: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أي فعليها. والظاهر أن اللام لام التعليل أي لتعظيمها. وصلة (عاكفون) محذوفة أي على عبادتها.

ذكر الزمخشري والعكبري: قيل: ضمن (عاكفون) معنى (عابدون) فعداه باللام. وقال: لم ينو لـ (عاكفون) محذوفا وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقولك: فاعلون العكوف لها، أو واقعون لها. وقال أبو حيان: عكف يتعدى بـ (على) فقيل (لها) هنا بمعنى (عليها). والظاهر أن اللام في (لها) لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة عاكفون محذوفة أي على عبادتها، وقيل: ضمن عاكفون معنى عابدين فعداها باللام. وقال الآلوسي: اللام في (لها) للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ). أو للتعليل فهي متعلقة بـ (عاكفون) وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بـ (على) كما في قوله: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) وقد نزل الوصف هنا منزلة اللزوم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف، واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة (عاكفون) محذوفة أي عاكفون على عبادتها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى (على) (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) وتتعلق حينئذٍ ب (عاكفون) على أنها للتعدية. وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حيئنذ كما قيل: دعامة لا معدية. وقيل: لا يبعد أن تكون للاختصاص، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً و (عاكفون) خبر بعد خبر. ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي رضي اللَّه عنه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم ... لأن يمس أحدكم جمرا خير له من أن يمسها، وفيه نظر. أقول: كلمة عاكفون تفيد الانكباب الدائم المستمر عليها والتعلق بها يشهد على ذلك الجملة الاسمية: (أنتم لها عاكفون)، وفي الشعراء: (فَنَظَلُّ

(وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا)

لَهَا عَاكِفِينَ) وكأنهم ... يعبدونها دلنا ظاهر جوابهم عليه (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)، فهو دليل عبادتهم لها تقليدا لآبائهم ووراثة عن أجدادهم فهم متحجرون عقليا لا يقوم لهم دليل على عبادتها يخلع عليها أية قداسة. وتعدي المشتق (عاكفون) باللام وهو يتعدى بـ (على) شاهد على تضمنه معنى الصلاة والتقديس لها والمتعديان باللام. فجمع التضمين معنى تعلق القلوب بها في انكبابهم الدائم عليها مع الصلاة والتقديس لها. ثم العكوف مطلق والصلاة والتقديس مقيدان وحمل المطلق على المقيد دليله غير مدفوع. وتبقى العربية مرنة تتسع لعديد من المداليل وتختزن الكثير من المشاعر والأفكار عن طريق التضمين. * * * قَال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) (3). ذكر أبو حيان والرازي والآلوسي: ليعلم أي ليَميزَ وليُظهرَ. وذكر الجمل: ولما ضمّن ليعلم معنى يظهر تعدى لمفعول واحد. أقول: التصور الإسلامي له من الشمول ما ليس لسواه. وهو يُقرّ بوجود الإرادة الفاعلة، ولكنها تجري في ناموس مرسوم ومشيئة مدبِّرة. فإرادة الإنسان

وحريته وتفكيره تقع موافقة لقدر اللَّه ومشيئته المحيطة بكل شيء في تناسق وتوازن. فإذا نزل به مصاب نتيجة خطأ ارتكبه، كانت النازلة هذه من وسائل التمحيص والإعداد والتربية. وبهذا التصور تطمئن قلوب المؤمنين وهم يواجهون قدر الله، ويتعاملون مع سننه الكونية، وأن اللَّه يفعل ما يريد بهم وبمن حولهم. (فالعلم) تضمن (الفرز والتمييز) فتعدى لواحد وَجَمَع التضمين المعنيين: العلم والفرز والكشف، علْم اللَّه الذي به يتم الفرز والتمييز والكشف. وما وقع في غزوة أحد لم ينته، فوراء المخالفة والألم تمييز المؤمنين من المنافقين، وتمحيص قلوب المؤمنين وكشف ما فيها من غَبَش، لأن الألم وسيلة من وسائل التربية والتمحيص. هذا الموقف المكشوف يحسون من ورائه أنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها اللَّه ما يشاء. فموقف عبد اللَّه بن سلول ومن معه كشفهم اللَّه في هذه الموقعة وميز المسلمين منهم فقد كان يرأس النفاق، فحرمه قدوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة ما كانوا يعدونه له من الرئاسة فيهم والذي جعلهم يرفضون الاستجابة إلى عبد اللَّه بن عمرو بن حرام وهو يقول لهم (تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) محتجين بأنهم لا يعلمون وجود قتالٍ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ). * * *

(وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)

قَال تعالى: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1). ذهب أبو حيان: إلى أن (مِنْ) متعلقة بـ يعلم على تضمين ما يتعدى بمن كأن المعنى: واللَّه يميز بعلمه المفسد من المصلح ... وذكر أبو السعود: العلم بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد و (مِنْ) لتضمينه معنى التمييز، وقد حمل المخالطة على المصاهرة ففيه وعد ووعيد، خلا أن في تقديم المفسد مزيدَ تهديدٍ وتأكيداً للوعيد. وذكر الآلوسي: تضمن (يعلم) معنى (يميز) ولذا عداه بمن. وكذلك أستاذنا سعيد الأفغاني. أقول: قواعد التكامل الاجتماعي حريصة على رعاية مصلحة اليتيم. وبعد أن سُمِحَ لأوصيائه بخلط طعامه وماله بطعامهم وأموالهم ليرفع عنهم العنت ما داموا أعضاء في أسرة كبيرة، ربط هذا السماح بعلمه وهدد بكشفه، وجعله ضمانا لتنفيذ تشريعه ما دام عارفاً بالنيات، عليما بالنفوس صالحها من فاسدها. فليست القضية في الشكل: يخلط أو لا يخلط، بل في نية الوصي وفي ثمرات عمله. نعم ... لما أريد (بالعلم) معنى (الكشف) و (الفرز) عدي بمن إيذانا أنه بمعناه وإشعارا بأن الوصي مكشوف أمره مفروز من سواه في فساده أو صلاحٍ قد ابتغاه عن طريق مؤاكلته أو مصاهرته لمن يرعاه.

(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)

وفي تسليط الأضواء على الوصي ليخرج اللَّه عمله هذا من العتمة إلى النور ومن التليمح إلى التصريح، فيه من التهديد بكشف حاله ما فيه. كما فيه من التربية بأن ضمانة تنفيذ التشريع لا تأتي من خارج النفس إن لم تنبثق من أعماق الضمير ويبقى في تضمين (الكشف) و (الفرز) ما يزيد على (التمييز) الذي يظل مستورا في علم المميز والفارز لا ينكشف لسواه. ولعل في هذا التضمين من التخويف مثل ما فيه من اليسر في تحري مصلحة اليتيم. فاليتامى أخوة للأوصياء وأعضاء أسرة واحدة، لا حرج في مخالطتهم ولا يكلف اللَّه الأوصياء عنتا ومشقة إن أرادوا الخير والصلاح لمصلحة اليتيم. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (1). قال القرطبي: تضمن (لنعلم) معنى (لنرى). قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: معنى لنعلم لنرى والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم. وقيل: لنميز أهل اليقين من أهل الشك ذكره الطبري عن ابن عباس. وذكر الجمل: إلا لنعلم أي وما جعلنا ذلك لشيء من الأشياء إلا لنمتحن الناس أي نعاملهم معاملة عن يمتحنهم فنعلم حينئذٍ. ثم قال: إلا ليظهر علمنا من يتبع الرسول من ... وقال الآلوسي: ضمن العلم معنى التمييز.

وكذلك قال الزمخشري، أو أريد به التمييز في الخارج ويؤيده تعديه بمن كالتمييز، وبه فسر ابن عباس رضي اللَّه عنهما وتشهد له قراءة اليُعلم) على البناء للمفعول. أقول: مرة أخرى يعود المفسرون ابن عباس والزمخشري وغيرهما إلى تضمين (علم) معنى (ماز) كما مر في سورة البقرة: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2). وتضمين (علم) معنى (فرز وكشف) والمتعدي بـ (مِن) يزيد الموقف وضوحا. فمعرفة السفهاء (يهود لعنهم الله) الذين أثاروا الفتنة في تحول القبلة، تحتاج إلى دخول اختبار. هذا الاختبار كان في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت العتيق، ليكون التلقي في حس - العصبة المؤمنة، من مصدر وحيد وفريد، مع الطاعة والتسليم دون نقاش. (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) اللَّه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ولكنه سبحانه، يريد أن يكشف المكنون فيما سيكون. يريد أن يفرز يهود والمنافقين ممن أطاعه واتبع رضوانه، فيأخذ كلا بما يستحق، ولكن ... بعد امتحان. (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ). أجل فتنة كبيرة ... فإذا كان الهدى فلا كبيرة، إنما هو السمع والطاعة، وإنما هو الاطمئنان والراحة مع الرضى وبرد اليقين، أما عن علاقة العلم بالفرز فأقول: العلم وسيلة من وسائله، وهكذا تنجلي في التضمين معانٍ خفية

(لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88)

من الفرز والكشف لا تتأتى لسواه فلا تتوهمه واشدد يدك به. فهو إذا تأملته من لطيف ما توارد في كتاب اللَّه وأصنعِهِ وآنقه. جوهر التضمين ما أنفَسَه! ... يكشف المعنى إذا المعنى انصفق * * * قَالَ تَعَالَى: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (2). ذكر العز: لتصيرنّ أو لتدخلنّ. قال الزركشي: ضمن تعودن معنى لتدخلنّ أو لتصيرنّ. وقال الزمخشري: العود يستدعي الرجوع إلى حال كان عليها قبل، ولكنه هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية تقول: (عاد لا يكلمني) والمعنى: أو لتصيرن كفارا مثلنا. وقال أبو حيان: وعاد لها استعمالان: أحدهما: أن تكون بمعنى صار، والثاني: بمعنى رجع إلى ما كان عليه. وقال الآلوسي: تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغوين وعلى ذلك قول الشاعر: فإن لم تكن الأيام تحسن مرة ... إليَّ فقد عادت لهن ذنوب ْفكأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا والجار والمجرور (في ملتنا) في موضع الحال ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العودة إليها كائنين في ملتنا ولا يخفى بعده وعُدِّي العود بـ (في) إيماءً إلى أن الملة بمنزلة الوعاء المحيط بهم.

أقول: ولعل تضمين (الثبوت والدخول) أوضح من الصيرورة والطاغوت وضع شعيبا بين أحد أمرين: الخروج (لَنُخْرِجَنَّكَ) والمراد به المطاردة والملاحقة للقضاء عليه أو: الثبوت لتثبتن في ملتنا ومراده الاندماج والذوبان، واختيار (لتعودن) بدلا من (تثبتت) إشارة إلى كراهيتهم أن يرجعوا إلى الملة الخاسرة، ملة الطاغوت التي نجاهم اللَّه منها، وها هو شعيب عليه السلام يستنكر ما يتهدده به الطغاة من إعادته مع من آمن إلى الملة التي نبذوها (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ) (2). فيواجه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة حين تخرج عن سلطانه وحيا بالتلويح دون التصريح (أَوْ لَتَعُودُنَّ) وذلك أقوى من أن يكون مكاشفة ومصارحة وجهرا عناية بما وراعه من المقاصد، وتوصلا إلى إدراك المطالب. إن تكاليف الخروج مهما عظمت أهون بكثير من تكاليف العبودية الفاحشة للطواغيت مهما رافقها من سلامة الأمن وتيسير الرزق لأنهما لجام يقود بهما الطاغوت كل من يتصور أنه ناح بدينه وعرضه تحت حكمه. أجل من ظن ذلك فهو واهم أو فاقد الإحساس، ومهما كانت تكاليف الغربة باهظة فهو الرابح حتى في ميزان الدنيا قبل ميزان الآخرة. فالجاهلية في

كل عصر لا تقبل من الرسل والدعاة أن ينفصلوا بتجمعهم وقيادتهم عنها، بل تفرض عليهم أن يعودوا ليثبتوا فيها بل ليدخلوا ويذوبوا في التجمع الجاهلي ويندمجوا فيه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) ويقول الذين لا يدركون خطر العودة أي خطر الثبوت فيهم والبقاء في تجمعهم بل خطر الاندماج في التجمع الجاهلي وفقدان شخصيتهم الإسلامية بحجة الضرورة يقولون: لندخل ولنثبت في ملتهم ونزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم. هكذا يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على الانفكاك منها. إن تميز المسلم بعقيدته لا بد من أن يتبعه تميز وتحيز في تجمعه وقيادته وولائه، وتَنْحِيته للأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطة، ولا خيار له في ذلك، لأن هذه المفاصلة من لوازم العمل الدعوي كما أشارت الآيات الكريمة، إن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في قاعدة أو جماعة أو حكومة لا تدين إلا لله ولا تعترف إلا بسلطانه ولا تُحَكِّم إلا شرعه، لها قيادتها ومنهجها المستمد من كتاب اللَّه وسنة نبيه، وتنبذ كل قانون أرضي ولو صدر عن هيئته أمم أو عصبة أمم ... إن وجود مثل هذه الجماعة أو القاعدة أو الحكومة يهدد طواغيت الأرض كافة فتفرض عليها المعركة فرضا ولو آثرت ألا تخوضها معها: لنخرجنك ... أو لتعودن ... ليس غير. إنه معلم من معالم هذا الدين واضح وجلي ولكن أكثر الناس يضعف عن احتماله لثقل تكاليفه: مطاردة وملاحقة وتضييق وتهديد في كل مكان ... يدع القصور ليعيش في الكهوف .. يأنس بما كان يستوحش منه ...

(إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان)

يطوي الليالي يقتات على كسرات ... يستبدل القسوة باللين والشظف بالنعيم والخوف بالأمن ... أرأيت كم أوحى الحرف (في) حين دخل على فعل لا يتعدى به فأطلق يده في توجيه دلالاته!!. إنه التضمين وهذا من جنى ثمراته. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ) (1). قال أبو حيان: سقطت الباء قياسا قبل (أن) - عهد إلينا بأن لا نؤمن - أو مفعول به على تضمين عهد معنى ألزم فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن. وقال الجمل: عهد إلينا: أمرنا وأوصانا وردّد ذلك الآلوسي والبروسوي. وقال العكبري: أن لا نؤمن: يجوز أن يكون في موضع جر على تقدير: بأن لا نؤمن لأن معنى عهد هو وصّى. ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حرف الجر المحذوف. ويجوز نصبه بعهد لأن معناه ألزم. أقول: هؤلاء يهود قتلة الأنبياء يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى يأتيهم بقربان وتهبط نار فتأكله، وما دام لم يفعل فهم على عهدهم مع اللَّه ملتزمون بالزبور كما يزعمون والباء تسقط قياسا قبل (أن) المصدرية. والعهد

(أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100)

هنا معناه الوصاة وهو أظهر لشناعة يهود وأكشف عن خستهم ولؤم طبيعتهم من تضمين عهد معنى (ألزم وأمر) لأنهم يريدون تبرير كفرهم بالرسالة المحمدية بقوة تدينهم وفرط عنايتهم بأوامر ربهم فاللَّه أمرهم وألزمهم (كذا) فلا يؤمنون لرسول حتى يأتيهم بمعجزة. أما تضميننا (الوصاة) فاحتمال التحلل منها ليس بالهين على المتقين ذوي البصيرة وهذه تتعدى بـ (إلى) والباء كما جاء في المعجم. ويبقى للسياق دوره في توجيه المعنى فيما دل عليه دليل وأرشد إليه نظر، في فضح كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر وافترائهم على الله، لا يصح الغفول عنه والغضُّ من نفاسته، فهو أنبه له وأذهب في كشف الستر عنه. * * * قَالَ تَعَالَى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (2). ذكر أبو حيان والآلوسي والعكبري: عهدا مفعول به على تضمين (عاهدوا) معنى (أعطوا). وقال الزمخشري: وقرئ (عوهدوا) واليهود موسومون بنقض العهود. والنبذ: الرمي بالذم. أقول: الأيدي النابذة للمواثيق ... مشهد حسي يصور تصرف يهود الأرعن، موسوما بالحماقة وسوء الأدب ليكشف عن جحودهم وحقدهم الدفين

للإسلام والإنسانية جميعا. إنه انحراف الفطرة لأن النفوس السليمة لا تملك إلا الإيمان مع وجود الحجة والبرهان. ومع كراهيتهم لسواهم لا يحفظ بعضهم عن بعض. فما أبرموا عهدا إلا نقضه فريق منهم. القرآن يكشف هذه السمة الوخيمة فيهم مع أنبيائهم ومع نبينا صلوات اللَّه عليهم أجمعين. فتضمين (عاهد) معنى (أبرم) أعون على ظهور مزية الصنعة البيانية في قراءة ابن عباس لما بين النقض والإبرام من المقابلة. وتضمين (عاهد) معنى أعطى (أكشف) عن المعنى الوظيفي، ويألفه السياق ويرتاح لاستعماله فهم لا يَثْبتون على عهد ولا يستمسكون بعُروة، بل لا يحفظ بعضهم عن بعض. بئس خَلة في يهود ما يقطعون على أنفسهم عهدا إلا نقضته فئة منهم، صورة قميئة صورة النبذ تشخص النزوة والهوى، وتحمل الحقد الدفين على الإنسانية، لا تثبت على عهد، ولا تجتمع على رأي، سمة النبذ ذات إشعاع، تكشف عن وضع نفسي منحط، فيه مراوغة والتواء، مثلما فيه خداع ونفاق. تعيش يهود في ظله الآثم، وتتنفس في جوِّه الحبيس على مر العصور، شهده السلف، ونشهده اليوم في عالمنا الإسلامي والغرب النصراني على سواء. وسيشهده الخلف إلى قيام الساعة. ولكن أين مَن يتعظ؟! ويبقى للسياق دوره في تلوّحُ المعنى واستشرافه، لتحديد مدلوله في الموضع الذي بات عليه، ودون قطع اليقين فيه. * * *

(أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين (22) وقال: (وغدوا على حرد قادرين (25)

قَالَ تَعَالَى: (أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) (1). وقال: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) (2). ويتساءل الزمخشري: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت: لما كان الغُدُو إليه ليصرموه ويقطعوه كان عدوا عليه، كما تقول: عدا عليهم العدو، ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم: يُغدى عليهم بالجَفْنة وُيراح: أي فأقبِلوا على حرثكم باكرين. ومثله أبو حيان والجمل أي ضمّنه معنى (أقبلوا). وذكر الآلوسي: ويجوز أن يكون من: غدا عليه إذا أغار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء، لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع. وضمنه أبو السعود: الإقبال أو الاستيلاء، ومثله البروسوي. ثم قال: وزاد بعضهم أنه يتعدى بـ (على) كما في القاموس: غدا عليه غُدواً وغُدوة. أقول: لا تضمين في الفعل لأنه يتعدى بـ (على) جاء في اللسان: غدا عليه غدوا وغُدوا بكر وغاداه وغدا عليه: باكره وهو المراد في الآية الكريمة. قال زهير: ولقد غدوت على القنيص بسابحٍ ... مثل الوَذيلة جُرشُع لَأمُ فهو يغدو على صيده باكراً بجواد خفيف كالفضة في صفائه وبريقه، ضخم الجنبين شديد وقال أيضا:

(فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه)

غدوت عليه غُدوة فوجدته ... قعودا لديه بالصريم عواذِلُه ويروى بكرت عليه غُدوة. وقال الأعشى الكبير: يروح فتى صِدقٍ ويغدو ... عليهم بمِلء جفان من سَديفِ يُدفق يغدو عليه ويروح: أي بكرة وعشياً بجفان مملوؤة من شحم السنام يتدفق من غير انقطاع والغدو على الضيوف بالجفان ليس فيه معنى الغارة ولا معنى الاستعلاء، وفي الحديث: " فغدا علينا حين أصبح ". فأي غارة في معنى الغدو في هذه الشواهد؟! وفي معجم الأفعال المتعدية بحرف غدا يغدو غدواً وغدوانا عليه: بكر ثم كثُر في الذهاب والانطلاق. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) (4). قال أبو حيان: قرأ الجمهور فاستغاثه أي طلب غوثه ونصره على القبطي وقرأ سيبويه والزعفراني بالعين المهملة والعون أي طلب الإعانة منه على القبطي. قال البروسوي: أي سأله أن يغيثه بالإعانة ولذلك عُدي بـ (على). وقال الآلوسي: ولتضمين الفعل معنى النصر عُدي بـ (على) وُيؤيده قوله تعالى: (اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) ويجوز أن تكون تعديته بـ (على) لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قُرئ: استعانه بالعين المهملة. اقول: لا تضمين في القراءة الشاذة لأن الإعانة تتعدى بـ (على) وأما في

(وبالأسحار هم يستغفرون (18) وقال: (والمستغفرين بالأسحار (17)

قراءة الجمهور فقد تضمنت الاستغاثة معنى النُصْرة كما ذكر الآلوسي، ونصر يتعدى بـ (على): (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، ويؤيده قوله تعالى: (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ). وهكذا يكون للسياق دوره في إيضاح المعنى فترفقْ به يُمطِك كاهله. بقي سؤال: لم استبدل العليم الاستغاثة بالنصرة؟ إنها الاستغاثة بموسى عليه السلام: واغواثاه ... واغواثاه ... في الموقف العصيب. فلو أغاثه على الذي من عدوه فكأنما نصره عليه. فجمعت (على) هذه المعنيين من وراء التضمين: الإغاثة والنصرة، وكانت أشد ملامحة لغرضه. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (3). وقال: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (4). ذكر الزركشي والجمل: (الباء) بمعنى (في). وقال الماوردي: وهو الوقت الذي أخر يعقوب الاستغفار لبنية حتى استغفر لهم فيه أي جعل الباء بمعنى (في). أقول: ولعل تضمين (استغفر) معنى (جار) أو (تهجد) أو

(رفَّ) والمتعدي بالباء أولى من تعاور الحروف. إنهم أيقاظ في جنح الليل متهجدون بالأسحار متوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يهجعون تخف بهم مكابدة السهر نشِطوا للقيام .... فهم يجأرون بأصفى الأوقات وأقربها إلى المولى عز وجل يطلبون قضاء الحاجات من محو الذنوب وستر العيوب وشفاء القلوب. فالأسحار حصون التائبين والمتهجدين، وملاذ المستغفرين وملجأ المنيبن، يلحون بالدعاء، فإن اللَّه ينزل عند السحر إلى السماء الدنيا يقول: هل من مستغفر فأغفر له. ويبقى الحرف في وحي التضمين كالسراج المنير، من أبطله بحجة التناوب والتعاور فقد أطفأ نوره وطمس بيانه، ومن محاسنه أنه جمع بوحي هذه الباء إلى الاستغفار التهجد للضراعة والاستغاثة. فإن أنت تأملته أعطاك مقادته وجلى عليك محاسنه، وإن تناكرته سدَدْت عليك باب الحُظْوة به، أما العلاقة بين الجؤار والاستغفار فجدّ وثيقة .. الاستغفار رجوع إلى السلامة، لدى محو السيئات، وعلاج الآفات، وزوال الكربات وفي هذا الرجوع أية فرحة ... إنها رفيف المني .. والغيث المغيث .. فيها ذلة وضراعة وابتهال ... * * *

(يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا)

قَالَ تَعَالَى: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا). وقال سبحانه: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا). وقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ). ذكر السيوطي والموزعي: (مِنْ) بمعنى (عن). وقال البروسوي: لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه، بل كنا ظالمين. وكيف يحمل الحرف معنى سواه؟ وغفل يتعدى بـ (عن). إذاً لماذا عداه بـ (مِن)؟ الغفلة سهو يعتري صاحبه من قلة التحفظ والتيقظ وضدها: النباهة. ونبَّه يتعدى بـ (مِن). أقول: العرب تحمل النظير على نظيره كما تحمله على نقيضه فتعدي الغفلة بما تعدي به المَنْبَهة. وسيبويه يستعمل هذا كثيرا في المصادر. في المشهد المعروض، الأبصار فيه شاخصة. والتفجع الأليم حين تنكشف الحقائق مرئية مبصرة بلا حجاب، إنهم كانوا في مَنْبَهة من هذا وعلى علم، بدليل قولهم: بل كنا ظالمين، فلو كانوا في غفلة عن مشهد هذه

الحقيقة لما نسبوا الظلم لأنفسهم، فاستعمال القرآن الغفلة مكان المنبهة هو للتهكم بهم والسخرية منهم، كما تقول للكسول يا مجتهد! وللجبان يا بطل. أما في القصص (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) جرت مجرى التفاؤل كما تقول العرب للديغ سليما، فأهل المدينة يرصدون تحرك موسى عليه السلام ليقتلوه أو يلقوا القبض عليه فهم في منبهة ويقظة ولكنه متستر متخف متفائل بربه يرجوه أن يكونوا في غفلة عنه فلا يشعروا بدخوله. وفي سورة ق: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) تضمنت الغفلة معنى الريبة، والمتعدية بـ (مِن)، لقد كنت في ريبة من هذا الموقف العصيب، وفي شك من هذه النهاية الأسيفة التي لم تكن تتوقعها، يشهد على ذلك قول قرينة (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) والمريب هو الشاك في اللَّه وفي دينه، فمنشأ الريبة هو الغفلة، والعلاقة بين الريبة والغفلة سببية، هكذا موجب القياس. فإلطاف النظر في لفظ (الغفلة) ومواقعها وأسيقتها، وتعديتها بغير حرفها فتح لنا بصائر: فضمناها معنى السخرية في موضع ومعنى التفاؤل في موضع ومعنى الريبة في موضع آخر. فإن كان ما ذهبنا إليه هو الراجح، كُفينا مؤونة شرحه لمزيد لُطفه. وللباحث ألا يقطع برأيه بعد إمعان الفحص عنه وإحكامه، لأنه أمر يرجع إلى الاستنباط والفكرة وليس فيه مرجعٌ أو قول ملة. إنه التضمين ... وإنه كنز ثمين. * * *

(يسألون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون (14)

قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (1). أصل معنى الفتنة، إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استُعمل في التعذيب والإحراق: وقال جُل المفسرين (يُفْتَنُونَ): يعذبون ويحرقون. قال الرازي: قيل يُحرقون والأولى (يُعرضون) عرض المجرب الذهب على النار، فكلمة (على) تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لكان بالنار أو في النار أليق لأن الفتنة هي التجربة. وذكر الزمخشري: يُحرقون ويُعذبون. ومنه الفتين وهي الحرَّة لأن حجارتها محرقة. وقال الجمل: عُدِّي يفتنون بـ (على) لتضمنه معنى يُعرضون وقيل: يُجبرون. أقول: آدم ونوح بشخصيهما وقع الاختيار عليهما، أما إبراهيم وعمران فالاصطفاء لهما ولذريتهما، فوراثة النبوة ليست وراثة عرق وإنما وراثة عقيدة. فالذين اصطفاهم اللَّه من عباده لحمل رسالته ودينه ليكونوا طلائع البعث على مدار التاريخ، هؤلاء المصطفون هم ذرية بعضهما من بعض. ولعل تضمين (يُفتنون) معنى (يُكبون) أعون على استكمال المشهد، فهم يُكبون على النار يذوقون طعم الفتنة فيها، وفي تضمين يُكبون والمتعدي

(فستبصر ويبصرون (5) بأيكم المفتون (6)

بـ على يتوافر مذاق الفتنة أكثر مما يتوافر في العرض كما قال الرازي. والسياق يعين على تصوير الموقف العصيب (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) وهذا العنف في المشهد يليق بالسهوة التي يعيش في غمرتها الخراصون، والذين يسألون أيان يوم الدين لا طلبا لمعرفته ولكن تكذيبا واستبعاداً لمجيئه. ويبقى التضمين غوراً بطينا في العربية، وفي حمل اللفظ على نسيبه ولازم معناه، لشرح أحواله المحيطة به، والكشف عن غموض ما خفي من صفحته يترجم عنه مذاقات الألم وطعومه حين يُكب على النار ليذوق مسَّ سقر. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (1) روى الطبري: قال البعض بأيكم المجنون كأنه وجه معنى (الباء) في قوله بأيكم إلى معنى (في) والتأويل في أي الفريقين المجنون، وقال آخرون: بأيكم المفتون، وكأن الذين قالوا هذا القول وجهوا المفتون إلى معنى الفتنة أو الفتون. وقال آخرون: معناه أيكم أوْلى بالشيطان فالباء على قول هؤلاء زيادة. وقال الزمخشري: فتن أي: محن بالجنون، ولأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن، والباء مزيدة أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي بأيكم الجنون كقوله تعالى: (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ). وذكر أبو حيان وتبعه الجمل: حصل الفتون واستقر وثبت بأيكم؟. وفي السمين ذكر أربعة أوجه:

1 - أن الباء مزيدة في المبتدأ والتقدير: أيكم المفتون. مزيدة كزيادتها في: بحسبك زيد. 2 - أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك: زيد بالبصرة أي فيها والمعنى: في أي فرقة وطائفة منكم المفتون. 3 - أنه على حذف مضاف: بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتكون الباء سببية. 4 - أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتون. وأشار الآلوسي: أن الباء للملابسة. وقال البروسوي: الباء للإلصاق نحو: به داء. أقول: قريش ولها المشيخة والرئاسة قبل البعثة، تحارب الدعوة بعنف وتقول في صاحبها قولتها الفاجرة الغبية خشية من زوال مكانتها القبلية، فكان أسلوبها في السخرية والاستهزاء للعُصبة المؤمنة على ضعفها وفقرها وققتها مؤذيا أشد الأذى للنفوس، ولو كانت نفس رسول كريم. فكان اللَّه يواسي ويسرِّي عن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن معه ويوصيهم بالصبر الجميل ويتولى الدفاع عنهم. فالمفتون هو الممسوس وهو مصدر، بأي الفريقين الصحق. وسيكشف النص عن حقيته فقد تضمن (فتن) معنى (مسَّ) والمتعدي بالباء ولعله أكشف في الدلالة عن المراد، يظاهرنا عليه السياق، ودعوى مَسِّهِ بالجنون صورة من

(واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)

صور الفتن كشف عنها عمرو بن هشام أبو جهل حين رمى قائد الدعوة بالجنون كما يفعل السُذج وهو يعلم بأنه في موضع الذؤابة من قومه، وعتبة حين جاء يساومه كتجار المبادئ يُدهنون لو يدهن، وهو أعلم الناس بمكانته، أما من ذهب إلى أن (الباء) بمعنى (في) فاطرحه ولا تعِجْ عليه ومن ادعى زيادتها نجيبه بقول المرادي: ما أمكن تخريجه على غير الزيادة لا يحكم عليه بالزيادة وتخريج كثير من هذه الشواهد ممكن على التضمين. أ. هـ. وأشرف وجوه التأويل ما كان أجلى لبيان المعنى وأظهر. وبه أوْلى وأجدر. فالتضمين مرقاة إلى تدبر المعنى عند غموض الحال ولطف المدخل. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ). قال العز بن عبد السلام: أي أن يصرفوك. وذكر الزمخشري: أن يفتنوك: أن يخدعوك فاتنين. وقال القرطبي: أن يفتنوك يُزيلوك عما كنت عليه، قاله الهروي وقيل: يصرفوك. وذكر أبو حيان: يخدعوك وتلك المقارنة في فتنته في زعمهم سببها: رجاؤهم أن يفتري على اللَّه غير ما أوحى اللَّه إليه، أو يضيف إلى اللَّه ما لم يُنزل عليه. أقول: إن زعماء قريش أدهى من أن يطلبوا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يترك ما جاءه من الحق، وما طمعوا في صرفه عن دعوته ولا إزالته عنها، ولا أن يفتري على اللَّه أو يزيد أو يُنقص فيما أوحى اللَّه إليه. ولكنهم كانوا يطلبون

(ففروا إلى الله)

منه بعض التنازلات ليتم بينهم وبينه لقاء. فتضمين (يفتنوك) معنى (يحرفوك أو يزحزحوك) وكلاهما متعدٍ بـ (عَنْ) أدنى للسياق وأنأى عن اللبس في تضمين يصرفونك ويزيلونك ويخدعونك، والانحراف وهو من صور الفتنة - في جزء يسير ينتهي إلى انحراف كبير، ولذلك جاء التحذير الرهيب من هذه الجزئية أو البعضية (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا) والتسليم أو التنازل من الداعية في جانب ولو ضئيل لأصحاب السلطة هزيمة روحية لا تغتفر. فترفق في اختيار ما طابق من اللفظ معناه وشهد لصحته مساقة واسْتتَبّ على مَنْهجه وأمِّه، ثم ما خفي عنك منه فلا تخِفَّ إلى نقْضِه، وإلا أوعرتْ بك سبُله وأشكل عليك تحرير القول فيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) (2). قال الزمخشري: فروا من معصيته وعقابه إلى طاعته وثوابه. وقال أبو حيان: جمعت لفظة (ففروا) بين التحذير والاستدعاء ويُنظر إلى هذا المعنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك "، قال ابن عطية: وهو تفسير حسن. وقال أبو السعود: اهربوا إلى الله. وقال الجمل: اذهبوا. ومعنى الفرار إلى اللَّه هو التخلص من الأوهاق والأثقال لأداء الوظيفة التي خلق العباد لها ومنحهم وجودهم لتأديتها، فحقيقة العبادة إذن تتمثل في أمرين:

الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. الثاني: هو التوجه إلى اللَّه والتجرد من كل شعور سواه، وبهذا يتحقق معنى العبادة والذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه. وعندها يكون قد فرَّ لله حقا، فرّ من أوهاق هذه الأرض وجواذبها ومغرياتها، وحقق غاية وجوده من الخلافة في الأرض لا لذاته هو ولا لذاتها ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ثم الفرار إلى اللَّه منها. أقول: (فرَّ) يتعدى بـ (مِن). فلمَ عدّاه الحكيم بـ (إلى)؟ هل ضمَّنه معنى لجأ واللجوء إلى كنف اللَّه ورحمته هو منجاة من عذابه كما جاء في الحديث الشريف، واللجوء أضوأ من الفرار أو الهروب وأنوه، لجفاء طبعٍ يوحشك في هذا، وليانٍ وحنوٍّ يُؤنسك في ذاك. والفرار صورة حسّية عجيبة لا يقوم مقامها في هذا السياق أي لفظ آخر، فهي تستحثنا على وجه السرعة إلى البَدار ما دُمنا في هذه الدار، والآن الآن قبل ألا يكون آن ... أن نفر من أين؟ من الهوى والنفس والدنيا الدنيّة ... وإلى أين؟ إلى اللَّه نلجأ بتوبة نصوح، ونتوجه بعمل صالح يزحزحنا من النار إلى الجنة. أرأيت كيف يُكسب التضمينُ اللفظَ نفاسة حين ضم إلى الفِرار اللجوء فجمع النقيضين في عروته، لعله يذهب بك في استحسان معناه ما يستولي على هوى نفسك. * * *

(إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)

قَال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (1). ذكر العز بن عبد السلام والزركشي: فرض أي أنزل ليفيد معنى معنى الإنزال. وقال الزمخشري: أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعني: الذي حقلك صعوبة هذا التكليف لرادك إلى معادٍ. وقَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ). فرض: وقَّت. وفرض رسول الله: سَنَّ. قاله الفيروزآبادي في القاموس المحيط وقال الآلوسي: فرض فيهن: ألزم نفسه. واستدل من (فيهن) أنه لا يجوز إلا في هذه الأشهر. كما قال ابن عباس وعطاء، إذ لو جاز في غيرهن كما ذهب إليه الأحناف لما كان في قوله فيهن فائدة. وعند الشافعي أن يصير محرما بعمرة. أقول: حين تعدى الفعل بـ (على) تضمن معنى (أوجب) فجمع وجوب التكليف وتيسيره وأوجب على رسوله تبليغه للناس. رغم مطاردة المشركين، ويسَّر عليه الدعوة بصبره على الأذى حيث نزلت عليه هذه الآية في الجحفة قريبا من مكة موطن الخطر وهو مُطارد من قومه وبلده الذي يعز عليه فراقه، موطن صباه ومهد ذكرياته لولا أن دعوته أعز عليه من بلده، متوجها إلى المدينة المنورة، نعم إنك اليوم مطارد وغدا منصور وعائد فاطمئن إلى وعد اللَّه الذي لا تستريب فيه. وحين تعدى الفعل بـ (في) تضمن معنى التوقيت فجمع مع التوقيت لوازم التكليف، وإنما الفرض من اللَّه الذي فرض الحج ركنا. فأنت إن ألزمت نفسك به نية وعملا، نويت وشرعت في أشهر الحج تكون قد فرضته على نفسك لهذا الموسم فصار مُلزِماً لك، فصرت ملتزما

(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له)

بالحج (في) هذا الموسم وإن كان في الأصل مندوباً، وهكذا كلما تعدى الفعل بحرف من حروف المعاني خصصه بمعنى فوق معناه وكشف لنا في صلته هذه عن أسرارِ استودعها الله في مبناه، مغفولا عنها غير مأبوهٍ لها لولا التضمين وهو وجْه من التأويل أظهر مزيتَهَا وأبهر في صناعتها؛ وإنَّمَا يغضُّ من نفاستها ضِيق الأفق وخَيْس الخاطر لدى نفرٍ من المعربين. * * * قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (1). ذكر الزركشي: ضمن فرض معنى أصفى. وقال قتادة: أحل. وقال الحسن: خصَّه به. وقال الضحاك: من الزيادة على أربع. وقال الزمخشري: فرض: أي قسم وأوجب من قولهم: فرض لفلان كذا ومنه فروض العسكر. سن اللَّه ذلك في الأنبياء الماضين فيما أباح لهم ووسَّع عليهم في باب النكاح وغيره، فكان لداوود 100 امرأة و 300 سُرَّيَّة، ولسليمان 300 امرأة و 700 سُرَّيَّة. وقال الآلوسي: قسم له وقدر. وقال الملياني الأحمدي: فرض له: أعطاه جعل له فريضة. وقال البروسوي: قسم اللَّه له وقدَّر. أقول: قدّر اللَّه لرسوله أن يتزوج بزينب ليبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء لتكون مَعْلاة له وشاهدة بفضله ولم يكن بد من نفاذ أمر الله، لا يحسب للناس حسابا فيما كلفه اللَّه به، فاللَّه هو الذي يفرض، وهو الذي يُقدر، وهو الذي يختار، وهو الذي يُسخر، وهو الذي يقضي حسب علمه ويُحلل ويُحرم حسب حكمته. واختار سبحانه لفظ (فرض) على سواه (قدَّر أو

أصفى أو أحل أو قضى أو سخر) لحكمة. فلا يكل الحال إلى مجال النظر ومسالك التأول، فيعتَسِف مُعْتَسِفٌ، أو يَهِم واهم بإخضاع اللغة في قَسْر وعَنَت إلى مزاجه أو اجتهاده. فحين يتعدى الفعل بأكثر من حرف، أجد نفسي دائم التنبيه والبحث عن اختلاف معانيه معها، فالفعل (فرض) حين تعدى باللام كان له عند أهل النظر موضع للنفس به مُسْكة. هو أعزم لها، وأجمل بها وأدل على حكمتها ... أجل فرض له في هذا السياق: (أحل له وأباح) ولا حاجة بعد ذلك إلى الإطالة: قدر وأصفى وقضى وسخر و ... أما في سورة التحريم (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). فقد تضمن (فرض لكم) معنى (شرع). قال الزمخشري: (فرض لكم) فيه معنيان: أحدهما: شرع لكم الاستثناء في أيمانكم. والثاني: شرع لكم تحلتها بالكفاءة. وقال الآلوسي: شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة ومثله أبو السعود. وقال الجمل: شرع لكم تحليلها أي الخروج منها والخلاص. وقال الماوردي: (فرض) فيه وجهان: أحدهما: بين اللَّه لكم المخرج من أيمانكم. الثاني: قدر اللَّه لكم الكفاءة في الحنث في أيمانكم. وقال البروسوي: الفرض هنا بمعنى الشرع والتبيين كما دل عليه (لكم) فإن (فرض). بمعنى (أوجب) إنما يتعدى بـ (على). * * *

(ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون)

قَالَ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (1). قال أبو حيان: والتفريط والتقصير حقه أن يتعدى بـ (في) (مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون (من شيء) في موضع المفعول به و (مِنْ) زائدة والمعنى ما أغفلنا وما تركنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الألوهية والتكاليف. ويَبْعد جَعل (مِنْ) هنا تبعيضية وإن قاله بعضهم. أ. هـ وذكر الجمل: يقال: فرَّط الشيء وضيقه وتركه، وفرط في الشيء لا من الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه. وذكر الآلوسي: التفريط: التقصير وأصله أن يتعدى بـ (في) وقد ضمن هنا معنى (أغفلنا وتركنا)، ف (من شيء) في موضع المفعول به و (من) زائدة للاستغراق ويبعد جعلها تبعيضية. وحكى القرطبي: ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره إما تفصيلا وإمَّا تأصيلا قال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). أقول: حين تعدى فرَّط بـ (مِنْ) جمع مع نفي التفريط الذي هو التقصير معنى السلامة من التضييع والخلوص من الإغفال والبرء من التقصير وهذه جميعاً تتعدى بـ (مِنْ). وحين نفى تعالى عن كتابه هذه المعاني، فقد أثبت ما يقابلها من استيعاب كتابه لكل أمر من الدين بالضرورة (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ليكون الانتفاع به ليس إلى غاية ولا وراءه من نهاية.

(حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق)

إذاً ما فرطنا في الكتاب من شيء معناه: سلمنا الكتاب من كل تفريط. وبرأناه من كل تقصير. وأخلصناه من كل تضييع. وباب التضمين لا يُفثج. ثم ما قيمة الخارقة المادية التي يطلبونها أمام الخارقة التي يرونها مع امتداد أبصارهم في دواب الأرض وطيور السماء. إن منهج القرآن يربط الفطرة بهذا الوجود ليفتح نوافذها، ويدع للكون أن يفعل فعله في الكائن البشري فيتلقى ويستجيب (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ). * * * قَالَ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ). ذكر الزركشي: عدَّاه لتضمَّنه معنى كشف الفزع عنه. وقال الزمخشري: فزع عن قلوبهم: كُشِف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم. وذكر القرطبي: قال ابن عباس: خُلِّي عن قلوبهم الفزع. قال قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. وقال مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة. وقال الآلوسي: أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور سطوع أنوار الإجابة والارتضاء من آفاق رحمة الملك الرفيع.

وقال الرازي: أزيل الفزع عنهم يقال: قرد البعير إذا أخذ منه القراد. ويقال لهذا تشديد السلب. وذكر البروسوي: التفزيع من الأضداد، فإنه انقباض ونفار يعتري الإنسان من شيء مخيف. وهو إزالة الخوف والفزع. أقول: ينتظر المشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال بالشفاعة، ويطول الترقب، وتعنو الوجوه للحي القيوم، تخشع القلوب للرحمن وتسكن الأصوات، ويمتد الزمن في الانتظار الطويل، ثم ... ثم يصدر الأمر من الجليل فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوع لهم. فإذا أفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم، وكشف رداء الهيبة الملقى عليهم، وسري عن قلوبهم قالوا للملائكة: ماذا قال ربكم وهو المتفرد بالعلو والكبرياء فيجيبون: قال الحق وأذِنَ في الشفاعة .. إنها الفرحة الغامرة في الإجابة الموجزة وفي المشهد الخاشع المذهل المرهوب ... فتضمين (التَسْرية) - سري عن قلوبهم - أذهب في الاستحسان من كَشْفِ الفزع كما قال مجاهد وغيره. أو خروج الفزع أو إزالته، لما في الكشف والخروج والإزالة من العموم المُستوحش، وما في التسرية من الخصوص المُستأنس مع عذوبة جرسه ورقة حواشيه وذَوْب روحه في زوال الهم وكشف الغم على هَيْنة وفي طُمأنينة نديَّة.

(وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة)

والذي يحكم في تفاضل هذه الأقوال هو حظها من الاستحسان. لقد جمع التضمين الفزع الذي استدعاه الموقف المذهل الرهيب قبل أن يأذن الجليل بالشفاعة مع التسرية التي جلت الهم وكشفت الغم عن الشافعين والمشفوع لهم بعد أن أذن الرحمن في الشفاعة. فهل لغير التضمين أن يُثْريَ في تنوع دلالة الفعل وإشراقاته، ما يوحيه للمتنزه في رياضه والراتع في خمائله!! سقانيَ بعد البَينِ بعضَ مودتي ... فلم تستطع نفسي سبيلا إلى الصبر * * * قَالَ تَعَالَى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً) (1). قال العكبري: وقيل أجرا مفعول به لأن (فضَّل) تضمّن معنى (أعطى) قيل بأجرٍ منصوب على نزع الخافض وذكر الجمل: أجرا في نصبه أربعة أوجه: أحدها: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله. الثاني: النصب على إسقاط الخافض. الثالث: النصب على أنه مفعول ثانٍ كأنه ضمن فضل معنى أعطى. الرابع: أنه حال من درجات. أ. هـ. السمين الحلبي. وذكر الآلوسي: أجرا مفعول به لتضمنه معنى (الإعطاء) وقيل: منصوب بنزع الخافض.

أقول: لعل تضمين (فضل) معنى (زاد) والمتعدي إلى (مفعولين وعلى) كما جاء في الحديث: " فلم أكن لأزيده على ما فرض اللَّه له شيئا " ليُنهض مُنته فيكون أوْلى بتقديمه، وليجمع إلى التفضيل الزيادة بل الفضل هو الزيادة السنية لمن بذل نفسه وماله في سبيل اللَّه أما الحرص والشح والخوف في مواجهة التكاليف فلا بد من معالجته، لينهض القَعَدة من السفح إلى المُرتقى السامق، ولينالوا هذا التفضيل ويحظوا بهذه الزيادة في التمجيد من درجات الأجر العظيم مع النبيين والصديقين. لم جاء التعبير بالتفضيل إذاً بدل الزيادة؟ لعل الغرض هو حَفْز الهمم على إدراك المطالب، ليأنف القَعَدة من انحطاط منازلهم، فالمفضول غير مأبوهٍ له ولا مُحتفَل به ولا يتعلق به غرض (والراضي بالدون دني) كما قال ابن الجوزي، وتبقى زيادة الأجر للمجاهدين على القَعَدة ناهضة بهم شاهدة بفضلهم. أما تضمينه العطاء كما ذكر البعض فلانتشار شؤونه وعدم دخول (على) عليه سوَّأ إلينا التمسك به فلا يُستدل به على غرضه وأما إسقاط الجار فاعدلْ عنه فمَسْلكه وعْر التَورُّد، وأما الحال فلا تتقدم على صاحبها. ويبقى التضمين كالمولود الجديد يحتاج إلى من يترجم عنه معاني النظر. * * *

(السماء منفطر به كان وعده مفعولا (18)

قَالَ تَعَالَى: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) (1). السماء على عظمتها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق. ذكر الزمخشري: الباء في (به) مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به. يعني تنفطر بشدة ذلك اليوم. ويجوز أن يراد: السماء مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعِظَمِهِ عليها وخشيتها من وقوعه. كقوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقال البروسوي: فالباء للسببية وهو الظاهر ويجوز أن تكون بمعنى (في) وإليه ذهب المكي في قوت القلوب حيث قال: حروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: الباء للآلة والاستعانة، قال بعضهم: وهذا لا يليق بجناب اللَّه تعالى. وذكر الجمل: متشققة بسبب هوله والباء في (به) سببية وجوز الزمخشري أن تكون للاستعانة. وفي القرطبي: أنها بمعنى (في). وحكى الهروي وأبو حيان: الباء بمعنى (في). وذكر الموزعي: أنها بمعنى (فيه) واستشهد بقول الأعشى. أقول: صورة الهول الأكبر تنشعب به السماء، ومن قبل وجفت له الأرض والجبال، كما شابت له الولدان، فالباء رسمت صورة الانشقاق كالفتيا التي تشعبت بالناس فجعلتهم شعبا، وكالهموم التي تشعبت بصاحبها فمزقته مزقا. منفطر إذاً تضمن معنى منشعب مشهد شاخص وصورة من الطبيعة

(إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)

الصامتة تكتسي مشاعر إنسانية حية حين قال منفطر ولم يقل منفطرة، السماء مثقلة بالهم الأكبر الذي شعبها فمزقها فالباء أضافت إلى المادي (الانفطار) المعنوي (الانشعاب) ففازت بالحسنيين فليست الباء للاستعانة ولا للسبب، ولا الباء بمعنى في وإنَّمَا الباء على أصلها. ويبقى التضمين في الفعل أنزه في شرف النظم وأظهر لمزية اختيار اللفظ المفصح عن موقف ... والمشارك في تكوين صورة ... من دعوى التناوب والعاور والذي لم نحل بطائل منه. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) (2). ذكر العز: ضمن تفعلوا معنى (تُسدوا أو تُوصلوا) لإفادة المعنيين. وكرر ذلك الجمل. وقال الزمخشري: وعُدِّي تفعلوا بـ (إلى) لأنه في معنى (تسدوا وتولوا). وروى الطبري: إلا أن توصلوا من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم وقال أبو حيان: وعُدِّي بـ (إلى) لأن المعنى: إلا أن توصلوا إلى أوليائكم. والكتاب: إما اللوح وإما القرآن. وقال البيضاوي: والمراد بفعل المعروف التوصية.

أقول: رد الإسلام نظام الإرث والديات إلى قرابة الدم والنسب، بعد أن أبطله في نظام الإخاء بين المهاجرين والأنصار حيث كان تدبيرا مؤقتا منه (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) وأولو الأرحام بعضهم أوْلى ببعض في كتاب اللَّه من المؤمنين والمهاجرين ولكن لا يمنع أن يوصي الولي بعد مماته أو يهب في حياته لوليه في الإخاء ما شاء (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا). وتضمين (فَعَل) معنى (أزلّ) والمتعدي بـ (إلى) أدنى إلى السياق وأَعْنى بمقام الأولياء من الإيصال والإعطاء، لما في أعطاف اللفظ من التواضع والصفاء مع اللدونة والعذوبة، تُفيض ماء البشر والبشاشة عليهم. وما جاءت (إلى) إلَّا مَنْبهة على فعل المعروف ليتسارع الناس إليه، ويخفّون إلى مُشارفته لإبقاء صِلات المودة الخالصة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء فيوصي الولي لوليه بعد مماته، أو يَهبَه في حياته ليبقى هذا النبع الفوَّار على أُهبة الفيضان كلما استدعت الضرورة الطارئة إليه في حياة مجتمع مسلم وليد. إلا أن ترثوا إلى أوليائكم معروفاً، ليبقى النبع يفيض ويتفجّر، وتبقى الحياة مشدودة إلى آفاق وسيعة. وآثر (تفعلوا) على (تُزلوا) لأن الثاني محصور في النعم المادية، أما الأول ففي اللسان والبنان، في المادي والمعنوي. أوليست اللغة وسيلة تساعد الفرد على تكييف سلوكه وضبطه بما يتفق مع توجيهات هذه الآيات البيّنات؟!

(فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (24)

وليس استحسان لفظ دون لفظ يرجع إلى جِرْسه، بل تقديمه موقوف على وجوه بيانه فيُخلي مكانه لأخيه حين يُصيب من الحقيقة قَدْر ما يكشف عن مُراده ويكون مرقاة إلى فهمه. إنه التضمين ... فالزمْه حتى تمهّر. فالعمل عليه. والوصية به ... * * * قَال تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (2). قال الزركشي: فقير: ضمن معنى (سائل) وقال الزمخشري: عدي فقير باللام لأنه ضمن معنى (سائل) وطالب يريد: فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليَّ من خير الدين. وذكر الآلوسي: إنني لأي شيء تنزل من خزائن كرمك إليَّ من خير جَل أو قَل فقير، أي محتاج. ومثله الجلالين: ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عُدِّي باللام، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية، وقيل: يجوز أن تكون للبيان. أقول: ولعل تضمين (فقير) معنى (حائج) أسوغ من سائل وطالب فهو يتعدى باللام وتضمين (أنزلت) معنى (سقت أو أنهيت) ينسجم مع السياق

ومع التعدية بـ (إلى). ولسان الحال يقول: اللهم ما أنهيت إليَّ وسقت من زينة الحياة أنا في حاجة له. ولعل اختيار لفظ (فقير) بدل (حائج أو محتاج) كان تحقيقا لمعنى الذل والافتقار إلى اللَّه والعبودية بين يديه نسمع معه همس المناجاة وعمق الاتصال برب المستضعفين مع مراعاة لإيقاع الفاصلة القرآنية وموسيقاها الرخية في امتداد صوته الخافت في شكوى حال الخائف الشريد الغريب العَزَب يلتمس الرحمة منه ثم يصمت ... وينصت إلى حديث تخفق له جوانحه وتشرق له نفسه، إنه ترجمة الدعاء، وإنه تفسير الرجاء وإنه لمنحة السماء (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) وجاءت دعوة أبيها علاجا: لأوضاعه الحياتية فتعتدل: (أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ). وأوضاعه النفسية فتسكن (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ). وأوضاعه المادية فتستقر: (تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ). ثم تتنزل عليه الرسالة ذات التكليف الضخم والمحتاج إلى زاد ضخم فتستفرغ همه لينطلق في خدمة دعوته ويبني أمة على أساس مكين (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ). إنه التضمين في سعة أفقه، ولُطف مُتسرَّبه ... بحر لا يُفْثج ولا يُغرَّض. * * *

(ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله)

قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) (1). قال الزمخشري: ويجوز أن يراد (ألقوا علينا). وقال أبو السعود: صُبوا أو الإفاضة: الإعطاء. وذكر البروسوي: مثله ونقل عن أبي حيان: والصحيح تضمين أفيضوا معنى ألقوا. وقال الجمل: بتضمين أفيضوا معنى ألقوا، وتضمين (أو) معنى (الواو) لقوله: (حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). أقول: أفاض لا يتعدى بـ (على) إلا على وجه من التضمين. ولعل تضمين (أفاض) معنى (أجرى أو صب أو أفرغ) أسد من تضمينه معنى (ألقى) كما قال: الجمل والزمخشري وغيره لأن الإلقاء إنما يكون في المتاع (أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ) و (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا). أو في المعاني النفسية و (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). ولا يكون في إنزال الماء والرزق. فأصحاب النار يسألون أهل الجنة أن يُفرغوا عليهم ثَمَدا من الماء يصبوه

(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)

أو يُجروا عليهم قليلا من الرزق، راجين متوددين أو مُصانعين مُستجْدين، في لمحات سريعة وخاطفة، فكان جواب أهل الجنة: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). الإفاضة من الماء أو الدمع ما كثر وزاد فلم يُطق حَبْسَه. استعراض حي ومشهد أخاذ للاستجداء المُخْزي بالقليل الفائض عن الحاجة (بالفضلات) .... وللجواب المر الأليم هكذا (بالتحريم). ولولا (على) هذه لما حلينا بهذه اللطائف فيما أومأت إليه في تصوير الحالة النفسية للنماذج البشرية التي عَرَض لها السياق من باب التضمين، من طريق يخفى ومسلك يدق. فاستروحْ إليه واعتاده كلما مسَّت الحاجة إليه. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ). ذكر الأشموني: (مِنْ) بمعنى (الباء) وذكر أبو حيان: قال أبو البقاء: من الدمع فيه وجهان: أحدهما: أن (مِن) لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع. الثاني: أن يكون حالا: تفيض مملوءة من الدمع ومعناها من أجل الذي عرفوه، وقيل: (مِنْ) بمعنى (الباء) أي بالدمع. وقال الزمخشري: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء حتى يَطْلُع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض موضع الامتلاء من إقامة المُسبب

مقام السبب. تسيل من الدمع من أجل البكاء. وذكر القرطبي: من الدمع: أي بالدمع وهو في موضع الحال. أقول: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ): (مِن) على أصلها، و (فاض) تضمن معنى (وَكَفَ) فأعين الذين سمعوا ما نزل على الرسول من الحق تفيض ... بل تكِف تعبيرا عن التأثر الشديد والعميق بمعرفة الحق فتحكي ما لا يحكيه اللسان بهذه الصورة الشاخصة بالدمع الهتون، غضَّ من نفاستها التعاور: (مِنْ) بمعنى (الباء). ثم ينطلقون وراء الشُحْنة الحبيسة من هذا التأثر قائلين: آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. فالوكف وقد خلَّف الفيض وراءه، سبقت مآقيه اللسان لتحكي الحالة النفسية التي كان عليها هؤلاء النفر من المؤمنين. فالذين جعلوا (من) بمعنى (الباء أو اللام أو لابتداء الغاية)، لم يُكلفوا أنفسهم مشقة البحث عما رسمه مشهد الدمع المُنهمر على الخدود في لفظ (وكف) تَروعك صورته وتبلغ حاجتَها إلى نفسك. ولو نشموا فيه وتَهيئوا له لبلغوا مُرادهم منه في معرفة وجه التأويل في صياغة هذه الحروف، وأنها ما جاءت إلا لتُظهر في السياق مزية هي أكثف عن غرضه وأبْهر في صناعته. إنه التضمين ... لم يُنْتصَف منه: وما أقبلت على توضيح معجزة إلا انصرفت بعجز عن تقصيها * * *

(وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25)

قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (1). قال الزركشي: (قَبِل) مضمن معنى (العفو والصفح)، وقال أبو عبيدة: بتعاقب عن ومن في هذه الآية وقدرها ابن قتيبة: من عباده. وحكى السيوطي: عن بمعنى من بدليل: (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) وذكر ذلك الموزعي. وقال البيضاوي: عداه بـ (عَنْ) لتضمنه معنى التجاوز. ولتضمَّنه معنى (الأخذ) يُعدى بمن. قبلته منه: أخذته. ولتضمنه معنى الإبانة والتفريق يُعدى بـ (عن). قبلته عنه: أزلته وأبنْته عنه. وذكر الجمل: والقَبول يُعدى إلى مفعول ثانٍ بمن. وبعن لتضمَّنه معنى الأخذ والإبانة. وقال الآلوسي: يقبل التوبة بالتجاوز عما تابوا عنه. والقبول يُعدى بعن لتضمَّنه معنى الإبانة. وبمن لتضمَّنه معنى الأخذ كقوله: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ). أي تُؤخذ. وقيل: القَبول مضمَّن هنا معنى التجاوز. والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف. وذكر البروسوي: عُدِّي القبول بـ (عَنْ) لتضمَّنه معنى التجاوز. وذكر أبو حيان وقبلته عنه: عزلته عنه وأبنته. أي يزيل الرجوع عن المعاصي، وذكر الرازي: قال الكشاف ومعنى قبلته عنه: أخذته وأثبته عنه.

أقول: لم جاء (يقبل التوبة) بدلا من (يتوب) وقد عطف عليه (ويعفو)؟ وما غرض (عن) والسياق يناسبه (مِن) (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)؟ لو جاء الفعل يتوب بدلا من يقبل التوبة لعدَّاه بـ (على) كما في الآية (فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ). إذاً ماذا يبقى لو قَبِل توبة التابئين، وعفا عن السيئات؟ وما معنى (عن)؟ الذي يتشوف إليه التائب هو الحصول على الرضا من التواب الرحيم. وتأتي (عن) لتُشارف الفعل (قَبِل) وتصانعه ليتخذها قرينة مُخَصصة له، وليتلوح من ورائه تضمن (القبول) معنى: (الرضى) وبتصاقب الفعلين وتداني حاليهما يستبشر الذين ينتظرون عطاءه غير المحدود من فَيْضه المذخور لعباده التائبين: إنه قبل توبة التائبين مع الرضا عنهم ... ثم عفا عن السيئات ... وهل يكون الرضى إلا بعد القبول؟ هكذا جمع التضمين بين الرضا والقبول بهذه العصا السحرية (عن). مراتب ثلاث كل واحدة تُنزل الغيث على القلوب القانطة، وتنشر الرحمة على الأفئدة اليابسة، لتُنبت الأمل وتُحيي الأنفس وتفتح أبواب السماء: لقد قَبِل توبة التائبين العائدين بعد ضلال أو ضياع أو شرود ... ثم ماذا؟ ثم رضيَ عنهم ... وهذا الرضا أندى من كل ما سواه. ثم عفا عن سيئاتهم وصفح ... ومحا ما سلف ... وهو العليم بما يفعلون.

(فتقبلها ربها بقبول حسن)

أي تعبير يقوم مقامه في إلقاء ما ألقى من ظلال الطمأنينة والراحة .... ثم عفا عما سلف. اللَّه أكبر .... فضل الله بلا حساب .... بلا حدود ... بلا قيود .... إنها أرقى درجات المنح والسخاء وبعدُ. فعلينا أن نطلب وجه التأويل في هذه الحروف لنعرف كيف المأخذ فيما يرد علينا منها في هذا النظم البديع، ونتحاشى سبيل من غضَّ من نفاستها حين رماها للتعاور والتناوب. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ). قال الزمخشري: فيه وجهان: الأول: اسم ما تقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يُسعط به ويلد، والثاني: أن يكون مصدرا على تقدير حذف المضاف بمعنى: فتقبلها بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص. ويجوز أن يكون بمعنى استقبلها، كـ تقصَّى بمعنى: استقصاه. قال البيضاوي: بقبول حسن أي: بذي قبول حسن أو تقبلها بمعنى استقبلها كـ تقصى وتعجل. أي فأخذها في أول أمرها. وقال الجمل: فتقبلها: صيغة التفعل ليست للتكلف كما هو أصلها بل بمعنى أصل الفعل كتعجب بمعنى عجب وقَبِلَها بمعنى رضيها مكان الذكر المنذور ولم يقبل أنثى قبلها. وفي الباء وجهان: أحدهما: أنها زائدة أي قبولا حسنا منصوب على المصدر بعد حذف الزوائد أي لو جاء على تقتل لقيل تقبُّلا. الوجه الثاني: أن الباء ليست زائدة والمراد بالقبول: ما تقبل به الشيء نحو السعوط لما يسعط به.

(أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة)

أقول: ما معنى أن تكون الباء زائدة؟ وإنما جرى التضمين في الفعل (تقبَّل) معنى (رعى أو راعى) والمتعدي بالباء فجمع إلى حسن القبول تمام الرعاية وكمال العناية الربانية. والعلاقة بين الرعاية والقبول وشيجة فرعاها ربها برعاية حسنة، إذ كيف يتقبلها بحسن القبول إذا لم يهيئ لها أسباب الرعاية؟ وقد جاء التصريح بها في قوله تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) وكانت رعاية اللَّه وعنايته بمريم ظاهرة حين يرى زكريا عندها كل ألوان الرزق فيضا من عند اللَّه لتنشأ مباركة مجدودة. أرأيت إلى شرف التضيمن كيف يبلِّغك الحاجة بالتلوّم على رياضة كل معنى معتاص عليك؟ من غير دعوى زيادة في الحروف ولا حمل صيغة على صيغة، ومعلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، لكنه أعجز البلغاء وقهر الفصحاء فلم ينقدح منهم زند، ولم يمض لهم حدٌّ. * * * قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) ذكر الأشموني: (عن) معناه (مِنْ) وكذلك الزركشي والسيوطي وابن هشام.

وقال الجمل: القبول هو الرضى بالعمل والإثابة عليه، فالقبول ليس قاصرا على أفضل وأحسن عباداتهم بل يعم كل طاعاتهم. فضمن القبول معنى الرضا فعداه بـ (عن). أقول: (عن) على أصلها وفعل تقبل الذي يتعدى بـ (مِن) عدَّاه ربنا بعن لماذا؟ ليتضمن معنى (حفي) فالله سبحانه يُخبر عن أولئك التائبين الراغبين في مرضاته الشاكرين لنعمائه أنه يتحفى ويتحرى عن أحسن أعمالهم وأفضلها فيتقبلها منهم، ليكونوا في أوائل الناجحين فالتضمين جمع المعنيين: التحفي والقبول ليفيدهما جميعا. فالمحاسب البصير يفرز بحاسوبه أحسن أعمالهم فإذا هي في ميزان الكريم تبلغ غاية ليس وراءها من نهاية. وأما سيئاتهم فيتجاوز عنها بلُطفه وكرمه حتى يُزيل عنهم التظني، وأين يجري عنهم التحري؟ في أصحاب الجنة وسكانها، فاللَّه يتحرى عنهم في أصحاب الجنة وفاءً بوعد الصدق الذي وُعِدوه في الدنيا، ولن يُخلف اللَّه وعده وهو جزاء إنعامه، ويرضى عنهم ويتقبل منهم أحسن ما عملوه ويتجاوز عن سيئاتهم. ولو ورد التعبير بلفظ القبول متعديا بـ (مِن) (يتقبل منهم) لضاع علينا التحفي ولكن (عن) هذه منحتنا تلك اللطيفة، نتحفى عنهم ونستقصي أحسن ما عملوه، أي نبالغ في السؤال عن أحسن أعمالهم، فنتقبلها منهم. يا اللَّه ما أكرم اللَّه ... إنها نسمات تتروح بعبير الزهر، وتتندى في نسيم السحر. فإن أمعنت النظر في أمثالها تَكاسَيت في البحث عنها وقطفت ثمارها.

(إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين)

أما الذين قالوا بالعدول من حرف إلى حرف كالأشموني وابن هشام والسيوطي والزركشي وسواهم، فما العلة التي سوغت لهم مجيء (عن) بدلا من (مِنْ)؟! وما فائدة التناوب؟. فاستَوحِش منه، ولا تأنس بخاطر يبدو لك فيه، فهو واهٍ ضعيفٌ ساقط لا وجه له. أرأيت كم وراء هذه الحروف من كنوز استودعتْها هذه اللغة الشريفة في أفعالها. دل عليها التضمين وأرشد إليها النظر!. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (1). ذكر العز: (قدرنا) معنى (علمنا) ليفيد التقدير والعلم جميعا. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله قدرنا، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمين فعل التقدير معنى العلم وكسرت همزة (إن) إجراء لفعل التقدير مجرى العلم والعلة في كسرها وجود اللام. فإن قلت: لم أسند الملائكة فعل التقدير لأنفسهم وهو لله؟ قلت: لما لهم من القرب والاختصاص بالله. وقال القرطبي: قدرنا أي قضينا وكتبنا. وكذلك البروسوي: حكمنا وقضينا. وقال أبو السعود: علق فعل التقدير بأفعال القلوب لتضمَّنه معنى (العلم) ويجوز حمله على معنى (قلنا) لأنه بمعنى القضاء. وقال أبو حيان: وكسرت (إن) إجراء لفعل التقدير مجرى العلم، إما لكونه بمعناه أو لترتبه

(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)

عليه. وأسند التقدير إليهم ولم يقولوا: قدر الله، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك: أمرنا بكذا والآمر هو الملك. وقال الجمل: قوله قدَّرنا ضمن معنى العلم ولذلك كسرت همزة (إن) وجاءت في خبرها اللام وإسناد التقدير للملائكة مجاز فهم رسل اللَّه ووسائط بينه وبين خلقه وإنما فعلوه بأمر الملك لاختصاصهم بأوامره وقربهم منه. وفعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم. أقول: إن تضمين (قدَّر) معنى (قضى أو حكم أو كتب) فهذا لا يكون إلا لله ولا يصح من أحد سواه. ومن معاني (فَعَّل) النسبة إلى الفعل كـ فهَّمته: نسبته إلى الفهم، وفسَّقته: نسبته للفسق وعليه يكون المعنى. نسب الملائكة التقدير لأنفسهم فيما حكم اللَّه به وبيان ما قضاه وكتبه، إنها من الهالكين لأنهم مأمورون من الله، فأسندوا التقدير لأنفسهم وهذا مسلك من هذه اللغة الشريفة أنُف، تعجب من وسيع مذاهبها وبديع أغوارها فيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ). قال العز (تقسطوا) معنى (تُحسنوا) لإفادة معنى العدل والإحسان جميعا. وقال الزمخشري: (تقسطوا) (تفضوا إليهم بالقسط ولا

تُعلموهم)، وناهيك بتوصية اللَّه المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين ويتحاموا ظلمهم مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم. وذكر الجمل: قوله تفضوا إنما فسر بذلك ليصح تعدية تمسطوا بـ (إلى) فضمّن (تمسطوا) معنى (تفضوا) فعُدِّي تعديته. وذكر الآلوسي: ولا تفضوا إليهم بالقسط، فالفعل مضمن معنى (الإفضاء) ولذا عُدِّي بـ (إلى). أقول: المسلم يعيش لعقيدة فلا جهاد في عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب ... ولكن لتكون عقيدته هي السائدة ومنهجها هو المطبق في الحياة. والإسلام لا تحمل عقيدته خصومة لأحد ولا يتطوع بالعدوان على أحد يحرص على استبقاء المودة في النفوس مع جميع الملل والنحل. ولا ييئس من محاسنة الجميع ومسالمتهم ما لم يقاتلوه في الدين أو يُخرجوه من دياره. وتلك هي شريعته الدولية: السلم: وتسلموا إليهم، لا يغيرها إلا وقوع العدوان عليهم، وضرورة رده، أو خوف الخيانة وهي تهديد بالعدوان أو الوقوف في وجه الدعوة حين يُمنع الدعاة من تبليغها. فنظام الإسلام يجمع الناس تحت لواء المحبة ولا ييئس حتى في حال الخصومة أن يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة والتحبب إلى النفوس فتنفتح لسماع الحق وتتجه هذا الاتجاه المستقيم. وأكد ذلك بحب اللَّه للمقسطين، وقبل ذلك قال سبحانه: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) وهذا الرجاء من اللَّه لا بد أنه سيكون، ولقد كان وفتحت مكة وأسلمت قريش وطُويت الثارات وتصافت

(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (22)

القلوب. ولعل تضمين (تقسطوا) معنى (توددوا وتحسنوا) أذهب بها في الدلالة على القصد وأكشف لها في إدراك ما وراءها من المطلب. فالقسط الملتبس بالإحسان يسوق إلى الود وهما من لوازم تأليف القلوب. وقد عطفه على البر ليكون له لزيما وعليه دليلا لتداني حالَيْهما فالعدل مُفضٍ إلى الودِّ وهو من أسبابه والتلويح بالمراد أحلى من التصريح وأدمث. أما الإفضاء كما ذكر الزمخشري والجمل والآلوسي فهو إزالة الفضاء للوصول إلى العدل وليس غير. ففيه من غموض المسرب ما لا يوصلنا إلى المراد إلا على استكراه. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (2). قال الزمخشري: من ذكر الله: من أجل ذكره أي إذا ذكر اللَّه عندهم أو آياته اشمأزوا وزادت قلوبهم قساوة كقوله تعالى: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) وقُرئ: عن ذكر الله. فإن قلت: ما الفرق بين (مِنْ) و (عن)؟ قلت: إذا قلت: قسا قلبه من ذكر اللَّه فالمعنى ما ذكرت من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر اللَّه فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر

وجفا عنه، ونظيره: سقاه من العَيمة أي من أجل عطشه. وسقاه عن العَيمة: إذا أرواه حتى أبعده عن العطش. وقال الرازي: إنه صار سبباً لمزيد القسوة، دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات. وذكر الجمل: أشار إلى أن (مِنْ) بمعنى (عن) وأن الذكر هو القرآن وأن في الكلام مضافا مقدرا وبعضهم جعل (مِنْ) تعليلية أي قست بسبب، ومن أجل ذكر الله، فإذا سمعوه نفروا وزادوا قسوة لفساد قلوبهم، والدواء النافع قد يكون داء لبعض المرضى. وقال الآلوسي: من ذكر اللَّه أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقُّه أن تلين له القلوب، أي إذا ذكر اللَّه تعالى عندهم أو آياته أشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة، وقُرئ (عن ذكر الله) والمتواتر أبلغ لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبيا عن قبوله من القاسي عنه بسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلا للإسلام دون القلب الذي فيه ما يدل على شدّته وإفراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلا عن القلب. ثم ذكر الفرق بمِن الضيق والقساوة، ولماذا أسنده إلى الله، ولماذا أسندها إلى القلوب؟ أقول: القلوب صنوف ... قلوب تطمئن إلى ذكر اللَّه (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تتلقاه بإشراق واستنارة، وتتفتح، فتنشرح له وتتندى به. وقلوب تستقبله في وجل وارتعاش، فتلين له الجلود وتسكن له القلوب.

(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين)

وقلوب عاسية قاسية، تشمئز من سماعه، فتنفر وتكتئب وتنقبض، تلقاه بغلظة وعتمة في جفاف وقسوة، فتضمين اسم الفاعل (قاسية) معنى (نافرة أو مشمئزة) أولى من تضمين الحروف: (مِنْ) معنى (عن)، يشهد لصحته شياعة استعماله في بابه، فالقسوة إنما تتولد من النفور، وليس الاشمئزاز وهو امتلاء القلب غيظا إلا من أسباب القسوة. قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي نفرت، وكلا النفور والاشمئزاز يتعدى بمن. هكذا تظهر مزية هذه الحروف حين تدخل على أفعال أو مشتقات لا تتعدى بها، ويعظم فضلها حين تسلط النظر على الخبيء فيستخرج، وعلى الدفين فيطلب إنها عرائس تزف إليك، يسافر فيها الطرف وقد عرف طريق الاستمتاع بها. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ). قال ابن عباس: قضينا: بيَّنا لبني إسرائيل. وذكر الزمخشري: قضينا: أوحينا إليهم وحيا مقضيا أي مقطوعا مبتوتا بأنهم يفسدون. ونقل ذلك عنه البيضاوي وحكى أبو حيان: قضى

يتعدى بنفسه (قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) ولما ضمن معنى الإيحاء تعدى بـ (إلى). وذكر البروسوي: قضى إليه: أنهاه وأبلغه. أي أعلمناهم وأوحينا وحيا جازما وبيّنا في الكتاب أي التوراة. فإن الإنزال والوحي إلى موسى إنزال ووحي إليهم. ونقل الجمل عن السمين: قضى يتعدى بنفسه (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) وإنما تعدى هنا بـ (إلى) لتضمنه معنى أنفذنا وأوحينا أي وأنفذ إليهم بالقضاء المحتوم. أ. هـ. السمين. وقال الجمل: قضى يتعدى بنفسه أو بـ (على) وإنما عداه بـ (إلى) لتضمنه معنى أوحينا ويجوز أن يكون لتفسدن جوابا لقوله (وقضينا) لأنه ضُمِّن معنى القسم ثم قال: المراد بالإيحاء: الإعلام والإخبار بما سيحل بهم، والموحى به محذوف أي بالفساد. أقول: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا ... ) في الأفق الساجي مع جو الإسراء اللطيف، وفي تظليل الصورة بالعتمة ... يأتي العروج في مقام العبودية كي لا تلتبس بمقام الألوهية كما فعل النصارى. رحلة تربط بين عقائد التوحيد من إبراهيم وإسماعيل إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كما تربط بين المقدسات من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ... قضينا ... ليس قضاءً قهرياً عليهم فاللَّه لا يقضي بالفساد حاشاه وإنما أوحى إلى بني إسرائيل في التوراة خبر ما كان وما سيكون بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين وسيسيطرون في الأرض المقدسة،

(والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء)

فالقضاء تضمن معنى الوحي وإنهاء الخبر إليهم وإعلامهم عما سيفعلونه وهو في علمه سبحانه من مآلهم الذي لم يكشف عنه الستار بعد. وأنهم كلما عَلَوْا نشروا الفساد في الأرض سلَّط اللَّه عليهم من يُدمرهم، وما دام القضاء بمعنى الوحي، فلم لم تأتِ الآية: وأوحينا إلى بني إسرائيل؟ لو قال: وأوحينا لضاع معنى القضاء والقدر. ولو قال: وقضينا (على) لضاع علينا معنى الوحي والإنباء. فالتضمين جمع المعنيين عن طريق الحرف (إلى) وأعلن عن وجوده بقوتين: قوة القضاء المبتوت من عالم الأزل، وقوة البيان والتبليغ فيما أوحى. فهل تأخذ البشرية اليوم حِذرها منهم مما ينشرون من ألوان الفساد بين العباد في شتى البلاد؟!. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ). ذكر الآلوسي: والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه عن الظلم، وقوله: لا يقضون بشيء تهكم بآلهتهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء. وقال القرطبي: يقضي: أي يُجازي. فتضمن القضاء معنى الجزاء. وحكى الزمخشري: قال: لعله تضمن يحكم. وذكر أبو حيان: لا يقضون بشيء: قَدْحٌ في أصنامهم وتهكم بهم.

وقال الطبري: فيجزي محسِنكُم بالإحسان والمسيءَ بالإساءة. أقول: مشهد من مشاهد القيامة يتفرد فيه الجليل بالمُلك والحكم والقضاء ... موقف خاشع ورهيب يوم هم بارزون لا يخفى على اللَّه منهم شيء. القلوب لدى الحناجر ... كاظمين ... لا شفيع ولا حميم، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. من المتفرد بالحكم والقضاء يوم الجزاء، يوم الفصل؟ اللَّه وحده الذي يحكم ... وبماذا؟ بالحق فقد تضمن القضاء معنى (الحكم) فتعدى بالباء. أجل يحكم بالحق عن علم وخبرة ... عن سمع وبصر ... لا يخفى عليه شيء حنى خائنة الأعين وخافية الصدور ... لا ظلم اليوم ذلك هو الحاكم المتفرد في ملكوته فأين الذين يحكمون من دونه؟. إن للتضمين غفيرة توجب له المزية، وتبلغ به مواقع الاستحسان، حين ضم في إهابه إلى القضاء معنى الحكم والجزاء. * * *

(وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66)

قَالَ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (1). ذكر الزمخشري: عدي قضينا بـ (إلى) لأنه ضُمِّن معنى أوحينا كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضيًّا مبتوتا وفسر (ذَلِكَ الْأَمْرَ) بقوله: (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ) وفي إبهامه تفخيم له وتعظيم. وذكر الجمل: قضينا ضَمن معنى أوحينا فعدي به وهو (إلى) و (ذلك) مفعول القضاء. و (الأمر) بدل منه أو عطف بيان. وذكر أبو السعود في قوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ): يقضي إليك وحيه: أي يتم وحيه. وذكر الآلوسي: قضى مضمن معنى أوحى ولذا عدي تعديته. وجعل المُضمّن حالا وهو أحد الوجهين المشهورين في التضمين. وذكر أبو حيان: ولما ضمن قضينا معنى أوحينا تعدت تعديتها بـ (إلى) أي: وأوحينا إلى لوط مقضيا مبتوتا والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من هلاك قومه، وأن دابر تفخيم للأمر وتعظيم له، وهو في موضع نصب على البدل أو على إسقاط الباء بأن دابر هؤلاء ... وذكر الشوكاني: قضينا إليه: أوحينا إليه ومثله البيضاوي. أقول: تضمين (قضى) معنى (أسرَّ) (وهو من الأضداد) يتعدى

(ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77)

بـ إلى جاء هنا بمعنى أخفى لينسجم مع السياق ومعناه: أسررنا إليه ذلك الأمر الخطير والقضاء المبرم: أن آخر القوم ودابرهم مقطوع مع الصبح وإذا انقطع آخرهم انقطع أولهم. قدم السياق هذه النتيجة ليُطلعه على خطورتها، فلا يلتفت أحد من أتباع لوط إلى الديار، ولا يبطئ أو يتلكأ في الخروج منها لئلا يصيبه ما سيصيبهم نتيجة شذوذهم الجنسي حين أحسُّوا بوجود شباب مردٍ، حسان الوجوه في بيت لوط ففرحوا بالصيد السمين في الفاحشة الشاذَّة المريضة. فقد أسر اللَّه سبحانه إلى لوط عليه السلام بما جرى به القضاء في إهلاك قومه مع الصبح ليسرع ومن آمن معه في الخروج سالمين. فصلة المضمّن بالمضمّن فيه أن تبليغ الحكم جرى بطريقة سرية. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (2). ذكر الزمخشري: مِن قضى عليه: إذا أماته (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) إذاً تضمن قضى معنى أجهز، وأجهز عليه أماته فحين تعدى بـ (على) أفاد معنى الموت وحين تعدى بـ (في) أفاد معنى الفصل والتمييز كما في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وقال أبو السعود: أي ليمتنا حتى نستريح وهو لا ينافي من إبلاسهم لأنه جؤار وتمنٍّ للموت. وذكر البيضاوي: يقضي علينا: من قضى عليه إذا أماته وهو لا ينافي إبلاسهم فإنه جُؤار.

أقول: أرأيت كيف اختلف معنى (قضى) عند دخول هذه الحروف عليه؟ وهو مما يُوافق أوضاع اللغة ولا يُنافرها (فقضى عليه) تضمن معنى (أجهز عليه) بدليل جواب مالك: إنكم ماكثون ودليل آخر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) وقوله تعالى: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) وقوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ). ففعل (القضاء) حين تعدى بالحروف أرأيت كيف اختلف معناه حسب الحرف المتعدي به؟! وكذلك حين جاء متعديا بنفسه اختلف معناه حسب أسيقته: ففي يوسف: 68: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) تضمَّن (قضى) معنى أنفذ، أو أظهر. وفي البقرة: 117: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تضمن معنى أراد. وفي الأحزاب: 23: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) تضمن معنى وفَّى نذره، حين استشهد. وفي الأحزاب: 36: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا) تضمن معنى ألزم. وفي طه: 72: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) تضمَّن معنى اصنع ما أنت صانع.

وفي فصلت: 12: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) تضمن معنى خلقهن. وفي القصص: 28: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) تضضن معنى وفَّيت. وفي البقرة: 200 (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) تضمن معنى أديتم. وفي عبس: 23 (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) تضمن معنى لم يقم بواجبه. وفي الحج: 29 (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) تضمن معنى يزيلوا وسخهم. وفي الأنفال: 42 (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) تضمن معنى أمضى. وهكذا حملنا ظاهر الفعل (قضى) على المحتمل المرجوح من معانيه بدليل يعضده السياق فيجعله راجحاً. والحمل على السياق في هذه اللغة يكاد يكون مغفولاً عنه غير مأبوه له لِدقته ولُطفه. وكثرة الحمول في العربية (أي التضمين) مذهب شريف يمرّ به الكثير ساهين عن فضله. فلا تعدُ عيناك عنه فتطفئ مصباحاً من مصابيح هذه اللغة الشريفة. * * *

(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)

قَال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). قال الرازي: قضاء اللَّه هو حكمه. وقال الجمل: أي إذا أراد أمراً. وقال الآلوسي: قضى يعني أمر. أقول: القضاء معناه الإلزام. إذا ألزم اللَّه ورسوله أحداً أمرا فإنه لا خِيَرة للمؤمنين في المأمور به فقد تضمَّن (الأمر) معنى (المأمور به). ولو تركنا النص على ظاهره بدون تضمين لصار المعنى: لا خِيَرة للمؤمنين في صفة اللَّه تعالى وهذا غير مفيد، وإذا تعذر حمله على نفس الأمر وجب حمله على المأمور به ويصير المعنى: إذا ألزم الله ورسوله المكلف أمراً فلا خيرة له في المأمور به وإذا انتفت الخيرة تعين الوجوب. وإلزام الأمر هو توجيهه على المكلف شاء أم أبى. وإلزام الأمر غير إلزام المأمور به. ومخالفة الأمر إخلال بمقتضاه، والتارك لأمر اللَّه مخالف يستحق العقوبة. فلفظ (القضاء) يتحمل معنى (الإرادة، والأمر، والحكم، والإلزام ... ) وغير ذلك من معان. ولعل الأمر والإلزام أدنى للسياق لقوله سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) فالعصيان إنما يكون بعد الأمر وليس بعد الإرادة أو الحكم أو ......

(فقضاهن سبع سماوات في يومين)

ونص الآية أعم من أن تكون له علاقة بإبطال التبني أو إحلال مطلقات الأدعياء أو زواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من زينب رضي اللَّه عنها بعد طلاقها من زيد مولاه وما أحدث من ضجة عند أعداء الإسلام. أجل لن يثمر الجهد الإنساني إلا حين يستقيم القلب على هدى الله، ويطمئن الضمير إلى قدر اللَّه الذي لا يتم أمر في هذا الوجود إلا بمقتضاه ووفق مشيئته. نعم الآية هنا أشمل وأوسع من ربطها بحادث خاص لأنها تقرر كلية من كليات التصور الإسلامي. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ). ذكر أبو حيان: أي صنعهن وأوجدهن. وقال القرطبي: أي أكملهن وفرغ منهن وقيل: أحكمهن. وقال أبو السعود: أي خلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة. وذكر الجمل والآلوسي: أي صيرها سبع سماوات لأنه ضمن معنى صيّرهن بقضائه سبع سماوات. وقال عبد الفتاح أحمد الحمز: من الأفعال المضمنة معنى التصيير: قضى. أقول: فالقضاء في هذا السياق اتسع إهابه فتضمَّن معاني عديدة من:

(إن الحكم إلا لله يقص الحق)

الحكمة، والكمال، والإيجاد، والخلق، والتكوين، والتصيير، والإتقان، والإبداع، وحسن الصنعة فقضاهن: صيَّرهن، وأتم تكوينهن - سبع سماوات - في يومين من أيام الله، كوَّن فيهما النجوم والسدم، فتعدى القضاء إلى مفعولين. ومن شرف هذه اللغة أن يتسع إهاب اللفظ فيها ليتضمن بالسبر والتأمل من وجوه التأويل ما يُبدي محاسنَه ويُظهر فضلَه. أما من قل حَفْلُهم بما وراءه، وما يحمل في جعبته، فبما أصابهم من خمود النفس وخَيْسِ الخاطر. * * * قَال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ). ذكر أبو حيان: قُرئ يقضي الحق: معنى يُنفذه. فعداه إلى مفعول به. وقيل: يقضي بمعنى يصنع، وقيل: حذف الباء أي بالحق. كل ما يصنعه فهو الحق. وقرأ مجاهد وابن جبير: يقضي بالحق. ولو قال: ينفذ الحق لكان أوْلى فإنفاذ الحكم من مستلزمات القضاء. وقال الرازي: يقضي: القضاء الحق أو يصنع الحق. وقال الجمل: وأما نصب الحق ففيه وجوه: الثاني: أنه ضمن يقضي معنى ينفذ فلذلك عدَّاه إلى المفعول به. والثالث: أن قضى بمعنى صنع غير مُعدى بنفسه. والرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي يقضي بالحق فلما حذف انتصب مجروره. وفي قراءة يقص الحق من قص الأثر أي تتبعه فالحق مفعول به

(وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما)

وذكر الآلوسي: إما صفة مصدر أي يقضي قضاء الحق، أو مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ، أو من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي: * مسرودتان قضاهما داود * وقال الزمخشري: يقضي القضاء الحق. أقول: الحكم لله وحده، يقص الحق، ويخبر به، ويفصل فيه، فهو من شأن الألوهية وحدها، ومن خصائصها أما الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فبشر، يوحى إليه، فيبلِّغ ويُنذِر. فهل بعد هذا من تنزيه لذاته سبحانه! لا تضمين إذاً في قراءة حفص (قص) ولا داعي إليه. وباقي القراء (يقضي الحق) تضمن معنى أنفذه أو صنعه أو أمضاه. إنه التضمين ... مفتاح سداد وذخيرة معاد. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا). قال أبو حيان: أجاز أبو البقاء أن يكون قطَّعنا بمعنى صيرنا، وأن ينتصب اثنتي عشرة على أنه مفعول ثانٍ بـ (قَطَّعْنَاهُمُ)، وجزم الحوفي: بأن اثنتي عشرة مفعول لـ (قَطَّعْنَاهُمُ) أي جعلناهم. وقال أبو السعود: (اثنتي عشرة) ثاني مفعولي قطَّع لتضمنه معنى التصيير، أو حال من مفعوله أي فرقناهم معدودين هذا العدد.

وقال الجمل: والظاهر أن قطعناهم متعد لواحد لأنه لم يضمن معنى ما يعدى لاثنين، فعلى هذا يكون اثنتي عشرة حالا من مفعول قطَّعناهم أي فرقناهم معدودين، وجوز أبو البقاء أن يكون قطَّعناهم متضمن معنى صيّرناهم، وأن اثنتي عشرة مفعول ثانٍ وجزم الحوفي بذلك. وذكر الآلوسي: قطع يقرأ مشدداً ومخففا، والأول هو المتواتر، ويتعدى لواحد، وقد يضمن معنى صيَّر فيتعدى لاثنين، فقوله: (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) حال أو مفعول ثانٍ أي فرقناهم معدودين بهذا العدد أو صيرناهم. إنها الرعاية الربانية تشمل موسى عليه السلام كما شملت قومه بعد أن عبدوا العجل، ثم كفروا عن خطيئتهم فتاب اللَّه عليهم فطلبوا رؤية اللَّه جهرة فأخذتهم الرجفة ثم أحياهم بدعاء موسى لهم، تتجلى هذه الرعاية في ردهم حسب فروعهم اثنتي عشرة أمة. ترجع كل أمة منها إلى حفيد من أحفاد جدهم يعقوب وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية، وجعل اللَّه لكل منهم عينا فلا يعتدي بعضهم على بعض حين ضرب موسى بعصاه الحجر، وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى من أفخر الطعام. ولكن الجبلة اليهودية ملتوية عن الاستقامة عصية عن الهدى، يأتيها الابتلاء فلا تصبر، لأن الصبر يحتاج إلى طبيعة ترتفع عن الأهواء والأطماع. فتضمين التقطيع معنى (الرد) والمتعدي لمفعولين يستنيم إليه السياق لأنه عودة بهم إلى أصولهم الاثنتي عشرة أمة ترجع كل واحدة إلى حفيد. أما تقدير حال محذوفة فمستثقل، وأما التصيير فغير وارد. فكم كانوا حتى أصارهم إلى هذا العدد؟!.

(فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (53)

والسؤال الآن: لم جاء التعبير بالتقطيع (وَقَطَّعْنَاهُمُ) بدلا من الرد؟ والجواب: لعل هذه الجبلة عصية عن الهدى كما جاء في ختام هذه الآية: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). وظلال التقطيع والتمزيق مستوحش يليق بظلمهم لأنفسهم بعد أن غَلّتْ نعمة اللَّه أيديهم فجاء ردهم إلى أصولهم بلفظ التقطيع والتمزيق، ليجمع التضمين المعنيين، ويتدثر بثوبين كل واحد ينبئ عن أخيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون). ذكر العكبري: أي تقطعوا في أمرهم. عدي تقطعوا بنفسه لأنه بمعنى قطَّعوا أي فرّقوا. ومثله الجمل. وقال الزمخشري: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيصير لهذا نصيب ولذاك نصيب تمثيل لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. وذكر الآلوسي: تقطع مضمن معنى الجَعْل فلذا تعدى إلى (أمرهم) بنفسه. وقال أبو البقاء: تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا. وقيل: عدي بنفسه لأنه بمعنى التمييز ولا يخفى على ذي تمييز.

(لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم)

أقول: من معاني تفعَّل: الاتخاذ: توسدت ثوبي: أي تخذته وسادة. وعليه تقطعوا أمرهم: اتخذوه قطعا. الزبور واحد فجعلوه زبرا كثيرة، وتصريم الذبيحة: تقيطع أشلائها مزقا ليخرج كل مقتطع بمِزْقة أو نصيب، ولا تخفى شناعة هذه الصورة، تحطُّ من قداسة كتابهم ودينهم، وتغضُّ من نفاسة معتقدهم. أحزاب لا تلتقي على منهج، وأوزاع لا تجتمع في سبيل، لغفلةٍ تغمر القلوب المنحرفة أو الضالة عن الحق لا تفكر في الخروج من التيه أغلقت أعينها عن كل شعاع منير، حين تخذت دينها مزقا، كل حزب بمزقته فرح، وعليه صار تضمين (تقطع) معنى (تَخِذ) والمتعدي إلى مفعولين. إنه التضمين تنال به الرغائب ولا يناله إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق وجرى فيها على عِرْق. * * * قَالَ تَعَالَى: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ). ذكر أبو حيان: الأولى أن يتضمن أقعدن معنى فعل متعدٍ (لألزمن) بقعودي صراطك المستقيم. وذكر القرطبي: لأقعدن لهم بالصد عنه وتزيين الباطل له. وقال الزركشي: أقعدن يجب تضمينه فعلا متعديا: ألزمن لك (أملكن).

وروى الشوكاني: أقعدن لهم: لأجهدن في إغوائهم حتى يفسدوا. وحكى أبو السعود: لأقعدن لآدم وذريته ترصدا لهم كما يقعد القطَّاع للقطع على السابلة. أقول: إخذ إبليس العهد على نفسه بأن يغوي ذرية من كان سببا في مأساته ولعنه وطرده من الجنة فقال: لأقعدن ... وصراط اللَّه المستقيم ليس حِسًّا بل معناه الإيمان والطاعة الموصلة إلى رضا الله، بل معناه الإسلام. والقعود ليس حِسًّا كذلك بل هو مشهد شاخص مُحَس مُبصَر يتضمن (الرصد والإلثاث والتنكير والتشويه) يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. تنوعت الأساليب واختلفت الصور ليأخذ أبناء آدم حذرهم من عدوهم. وحين أجيب إبليس إلى طلبه من الإنظار، وأخذ على نفسه العهد بإغواء من كان السبب في طرده، اقتضت مشيئة اللَّه أن يدع الكائن البشري للابتلاء، فيشق طريقه بنفسه بما رُكب في فطرته من استعداد للخير والشر يصطرعان ... وبما أمده من كتب على أيدي الرسل. نعم ترك لإبليس فرصة الإغواء كما ترك لأبناء آدم فرصة الاختيار. فتضمين (قعد) معنى (رصد) لأرصدن لهم صراطك - كما ذكر أبو السعود - مستوحى من قوله تعالى: (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). ولعل تنكيره أو تشويهه، لأنكرن وأشوهن، فلا يهتدي إليه أحد، نكون

(ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا)

قد جمعنا مع لَبْثه على الصراط ولزومه إياه وعدم بَرَاحه، معنى التجهيل لمَعالِمه من طريق تشويهه لصد سالكيه عنه بكل وسيلة يملكها. أوليس قعوده عليه ولزومه إياه وإلثاثه به تشويها له؟ وأنجع هذه الوسائل وأهمها أن يتسخط المؤمن عطاء ربه، ولهذا أتبعها بقوله (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) وليس هذا الداء بالهين ولا العلاج مُسعِفَاً، ولا السعي مُنجِحاً متى رام ذلك. والعلاقة بين المضمن والمضمن فيه سببية، فإلتأثه على صراط اللَّه المستقيم سبب في تنكيره وتشويهه، إنما يُرى اللعين في طرق الغواية والضلال والفساد. فاللام من جهة، وتعدية الفعل اللازم من جهة أخرى: أضاءتا لنا ما خفي علينا من هذه اللطائف. فول وجهك نحو التضمين لتبلغ منه حاجتك في جَنْي هذه الرقائق. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا). قال الزمخشري: لا تقعدوا موعدين وصادِّين عن سبيل الله. وذهب الأخفش: إلى أن الباء بمعنى (على) ولم يسنحسنه أبو علي بحجة أن الباء بمعنى (على) ليس بمقيس، هذا ما نسبه الطبرسي لأبي علي.

وقال الجمل: الباء يجوز أن تكون على حالها من الإلصاق أو المصاحبة أو تكون بمعنى (في). وحكى الآلوسي: أنهم كانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا. أقول: ليس المراد القعود المؤقت، وإنما المراد اللبث والثَّواء وطول المُقام. فالفعل قعد متضمن (تربَّص أو ثوى أو تأرَّض) وهذه جميعا تتعدى بالباء فشعيب يتوجه بدعواه إلى أهل مدين: يا قوم اعبدوا اللَّه ما لكم من إله غيره. ثم ينهاهم عن ... وعن ... والتربص بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل اللَّه من آمن به. فالسياق يشير إلى تربصهم بكل صراط وقطعهم لكل طريق على المؤمنين، ويتوعدونهم فيصدونهم عن السبيل. نعم سبيل الحق واحدة ولكن المناهج المتشعبة عنها كثيرة فأهل مدين يُلثون بكل صراط، ويتربصون بكل طريق، بكل شعبة من شعابها، يتوعدون المؤمنين ويصدونهم عن صراط اللَّه القويم ويريدونها عوجاء. دعاهم إلى التريث والتعايش بغير أذى حتى يحكم الله، ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان ممثل في جماعة مستقلة، لا تدين له بل تعلن الخروج عن سلطانه، ولذلك يفرض المعركة على سواه فرضا. فالباء على أصلها والتضمين أصاب من الدواة مدادها: القعود مع التأرُّض والإلثاث وطول المقام أما ما

(ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل)

توهمه بعضهم من إفادة الباء معنى المصاحبة أو الظرفية أو الإلصاق أو الاستعلاء فاحفظ نفسك منه، ولا تسترسل إليه إذ لا دليل معه عليه. إنه التضمين ... فاستفتح به ما استغلق عليك من دلالات هذه الأفعال. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ). ذكر أبو حيان: التضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين لأن قفوت يتعدى إلى واحد، أقول: قفوت زيدا أي تبعته فلو جاء على التعدية لكان: وقفينا من بعده الرسل، وكونه لم يجئْ كذلك: يَبْعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول ويكون المفعول الثاني محذوفا لكنه ضمنه معنى (جئنا)، وجئنا من بعده بالرسل يقفو بعضهم بعضا (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ). وذكر أبو حيان: على آثارهم متعلق بـ قفينا وبعيسى متعلق به أيضا. وهذا على سبيل التضمين أي ثم (جئنا) على آثارهم بعيسى بن مريم قافيا لهم. أقول: من معاني فعَّل التكثير، أي بكثرة الرسل يقفو بعضهم إثر بعض. وتضمين (قفى) معنى (الحق) والمتعدي بالباء: أدق من جئنا بالرسل، وليست التقفية إلا صورة من صور الإلحاق، فالعلاقة بين المضمن والمضمن

(فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6)

فيه عموم وخصوص، أما صلة التقفية بالمجيء فتبقى معها في سوء مزاج تبعث على مراجعتها وإعادة النظر فيها. أو تضمين (قفا) معنى (أردف) والمتعدي بالباء وأردفنا من بعده بالرسل. أو (عقب) وعقبنا من بعده بالرسل: أي والينا من بعده بالرسل وتبقى هذه اللغة الشريفة سمحاء اللفظ، فيها يَختزنُ العديدَ من الدلالات، ويتسعُ لتلبيةِ كثيرٍ من الحاجات فلا يطوي عن إحداها بِشْره هذا وإن إخضاع الحق للهوى الطارئ والنزوة المتقلبة متأصل عند يهود - لعنهم اللَّه - لهم هوى فيه وانعطاف نحوه، فقد آتاهم اللَّه الكتاب وألحقهم من بعد موسى بالرسل تترا، يقفو بعضهم بعضا، سلسلة لا تنقطع وكان آخرهم عيسى ابن مريم أيده بمعجزات باهرات فلما جاءهم بالحق استنكروه وكذبوه فبئست الخلة هذه، كشفت عن لؤمهم وخسة طبعهم وفسولته ودناءته، ثم عن قتلهم الأنبياء صلوات اللَّه عليهم. فالفضل لهذه الباء بعثتنا على المراجعة لفعل (قفا) وإلطاف النظر فيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ). ذكر العز وأبو حيان والزركشي والجمل: ضمن استقيموا معنى (وجِّهوا) فلذلك تعدى بـ (إلى): أي وجهوا استقامتكم إليه وارجعوا إلى

توحيده وقيل: ضمن معنى (فاذهبوا). وقال البيضاوي: استقام تتعدى بـ في. استقيموا في أفعالكم متوجهين إليه. وذكر الآلوسي: استووا في التوجه إليه على التوحيد الخالص من الشرك. وفي اللسان: ترك الشرك والتزام الطاعة أقول: إن تضمين استقام معنى (انقاد) أدنى إلى السياق وألصق به من (ذهب أو استوى أو وجّه) فانقاد إلى اللَّه معناها لزم الطاعة، واستقام على المنهج وقد عطف عليها ربنا الاستغفار وهو توبة من ذنب وأوبة إلى صواب. فمن انقاد إلى اللَّه فقد استقام على طريقه، والتزم بمنهج شريعته. فالعلاقة بين المضمن والمضمن فيه سبب ونتيجة، فمن أخذ بالأسباب بلغ المراد. وتنتهي الآية بالكشف عن شناعة جريمة الشرك، فالويل كل الويل للمشركين لقد اشترط التضيمن الاستقامة في السلوك: فما كل توجه إلى اللَّه يسلم من صور الشرك، ولا كل توجه إليه يكون خالصا من حظوظ النفس، ومن غلبة الهوى وصنوف الشرك. فهذه الحروف إنما جعلت سُلَّما إلى تحصيل المطلوب مما عَزُب من معاني أفعالها، ودق مسلكه، ونزح به غرضه، نتوصل إلى معرفتها بإلطاف النظر على وجه مستطاب.

(ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75)

ويبقى لفظ (استقيموا) والمتعدي بغير حرفه شاهدا على غرضه، يوجه الناظر فيه لمصارفه وأنحائه، فيسلك السهل واليسر، ويتقي الحَزْن والوَعْر، ومن دون ما اتقى متابٌ وإخباتٌ وعَبرةُ نادمِ. * * * قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (1). ذكر أبو حيان: بأن القول الكذب يفترونه على اللَّه بادعائهم أن ذلك في كتابهم ويتعلق (على الله) بـ (يقولون) بمعنى يفترون. قال الآلوسي: تضمن يقولون معنى يفترون وتعلق به الجار والمجرور (على الله) ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه. ولم يُجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره. أقول: ميزان اللَّه واحد وعند يهود موازين ... تلك صفتهم يزعمون أن دينهم يأمرهم بأكل أموال الأميين العرب فلا حرج على اليهودي أن يغش ويخدع ويدلس لسوى اليهود. (يقولون) تضمن معنى (يفترون) كما مر والافتراء أن تتقول على غيرك ما لم يقله، فلماذا جاء التعبير بلفظ القول ما دام يحمل معنى التقول والافتراء؟ لو قَالَ تَعَالَى: يتقولون أو يفترون لقيد الافتراء في سياق هذه الآية فقط

(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق)

أي يتقولون على اللَّه بأنه سمح لهم في التوراة بأكل أموال الأميين وخيانتهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ولكن بلفظ (يقولون) عمم كذبهم وأطلقه على كل أقوالهم في أي مجال كان فكل قول موسوم بالكذب والافتراء على الله. وهكذا كشف التضمين بالحرف (على) افتراءهم على اللَّه في أكل أموال المسلمين عربا وعجما، ووسمهم بفعل (يقولون) بالكذب المتأصل في نفوسهم على اللَّه وعلى المسلمين بل وعلى العالم أجمع بدليل قوله تعالى: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون أنهم كاذبون مفترون على الله، بأنه لم يجعل في التوراة في حقهم حرمة وقال نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند نزول هذه الآية: " كذب أعداء الله. ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ". فأبه لهذه الحروف تبلغ منها حاجتك. والحذر من يهود إخوان الشياطين وأحفاد القردة والخنازير. إذا فتح إبليس طريق الخروج من الجنة فهم قطعوا طريق العودة إليها، عليهم لعنة اللَّه إلى يوم الدين. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ). ذكر أبو البقاء: إن (ما) مفعول على تضمين قال معنى (ادعى). ومثله السمين الحلبي.

وقال الجمل: أقول بمعنى أدعي. أقول: يا لهذا العبد الصالح في مثل هذا الموقف الرهيب، ومن مثل هذه الفِرية التي شاعت وانتشرت على الألسنة! أهاهو يواجهها بالتبرئ المطلق (مَا يَكُونُ لِي) لا يحق، ولا يحوز، وما ينبغي، ولا يصح ... لم يقل: ما قلته .... بل ما يكون لي أن أقول. فقدم ناسخ القول عليه وفوض ذلك بالكلية إلى علم العليم المحيط بكل شيء، وهذا منتهى الأدب والتذلل بين يدي ذي الجلال لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد .... إنه جواب الراجف الواجف الخاشع المنيب إن كنت قلته فقد علمته وفي تنزيه اللَّه المطلق سبحانك وفي التبرئ الكامل الذي استشهد عليه بذات اللَّه إن كنت قلته فقد علمته -. لقد تضمن القول هنا معنى الادعاء: أن أقول أي أدَّعي. وكل ادعاء بحاجة إلى شاهد أو دليل لإثباته أو نفيه، ولقد نفى عليه السلام هذه الدعوى أو الفرية المنسوبة من قالة السوء على لسانه، بأنها ليست من حقه، ولا حتى في تصوره؛ وشاهده على براءته هو علام الغيوب (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي) وهذه شهادة لا تُرد ودليله على صدقه (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) فماذا بعد علم العليم الحكيم؟! ثم لا أجمل ولا ألطف من نفي العلم هنا (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) إلا أن الإقرار بالجهل أرق وألطف. إنه التضمين حمل (القول) فيه معنى (الادعاء) ليدل على إيجازه وإعجازه ويكشف عن ما استودعه فيه من أسراره.

(ولتكبروا الله على ما هداكم)

وتضمن (ما يكون) معنى: (ما يصح) و (ما يحق) و (ما يجوز) و ... لينفي الظِّنة عن نفسه. فإن أمضيت الحُكم فضعْ خاتمك عليه واشددْ يدك به، وإن قعدَ به فهمك فأعرِضْ عنه. ودعْه إلى سواك. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) (1). ذكر الزمخشري والعز: إن (كبَّر) عُدِّي بـ (على) لأنه تضمَّن معنى (الحمد). وقال ابن عباس: تكبروا: تعظموا. وروى الآلوسي: أن المراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا ولذلك عُدِّي بـ (على)، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية، ناسب أن يُعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا. وعن ابن عباس: أن التكبير عند إهلال شوال حتى يفرُغُوا من عيدهم. وقال أبو السعود: وتعدية فعل التكبير بـ (على) لتضمنه معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا اللَّه حامدين على ما هداكم والمعنى بالتكبير: تعظيمه تعالى بالحمد والثناء عليه. وأشار السيوطي: على ما هداكم أي لهدايته إياكم: (على) بمعنى

اللام. وكذلك الزركشي. والموزعي. وروى أبو حيان: قيل: التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان، وقال ابن عباس: هلال شوال. وقيل: التكبير المسنون في العيد. وقال سفيان: يوم الفطر. أقول: تضمن (التكبير) معنى (الحمد والثناء) فعُدي تعديته فما علاقة التكبير بالحمد؟ الصوم نعمة من نعم اللَّه يستحق منا الشكر والحمد والثناء، أما التكبير والتعظيم فمظهر من مظاهر الثناء على اللَّه المجيد. فالصائمون يشعرون بنعم اللَّه محسوسة ملموسة في استجابتهم لأوامره وفي استجابته لدعائهم (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) فليكبروا اللَّه الماجد ويحمدوه على هذه الدورة التربوية في مدرسة رمضان. وإذا كان التكبير صورة من صور الحمد والثناء، على اللَّه فتعظيم اللَّه وتمجيده لا يتم إلا بحسن الثناء عليه وفي الصلوات الإبراهيمية: الحمد مقرونٌ بالتمجيد والتعظيم (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وهل يليق حسن الثناء إلا بعظيم! وهل يستحق الحمد إلا الكبير الجليل! والتكبير في الحج تعظيم للجليل وتمجيد مقرون بالحمد (اللَّه أكبر ولله الحمد) فهو صورة من صور الثناء على الله، فمزية التضمين أنه جمع المعنيين

(قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون (66) مستكبرين به سامرا تهجرون (67) أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68) أم لم يعرفوا

جميعا ليجعل اللغة وسيلة تساعدنا بحسن الصنعة ولطف المأخذ على تكييف سلوكنا مع كتاب اللَّه وأوامره، ومؤسسة تربط النشاط اللغوي بقانون الغاية من الخَلق والتكوين. * * * قَالَ تَعَالَى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (1). ذكر أبو حيان: ضمن (مستكبرين) معنى (مكذبين) فعُدي بالباء، أو تكون الباء للسبب أي يحدث لكم بسبب استماعه استكبارٌ وعتو. وقيل: الباء تتلعق بـ (سامرا) أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، ومثله قال الآلوسي وقال الجمل: مستكبرين به: الجار والمجرور متعلق بقوله (مستكبرين) والباء سيية أوب (سامرا) والباء بمعنى (في) والضمير للبيت أو للحرم. وذكر القرطبي: الضمير في (به) عائد على الحرم أو المسجد أو مكة. يقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف، لنا أعظم الحقوق على الناس، قالت فرقة: الضمير يعود على القرآن. (سامرا): أي سمَّارا (تهجرون): تنطقون بالفاحشة أو تهجرون: تتكلمون بهوس وهذيان كما يفعل المريض.

أقول: في حال عود الضمير (به) على الحرم أو المسجد الحرام يكون تضمين (مستكبرين) معنى (معتزين) ولكن اعتزازهم هذا يبقى ملتوتا بكبرياء الجاهلية عن الإذعان للحق، موسوما بعمى البصر والبصيرة. يتخذون من الحرم عزة لانتسابهم إليه، ومن شخصية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مادة للسخرية والهزء وفاحش القول به في مجالسهم، يتناولونه بهوس كالمجانين. وفي حال عود الضمير (به) على القرآن يكون تضمين (مستكبرين) معنى (مستخفين) ومن معاني استفعل: اعتقاد صفةٍ فيه، نقول: استصوبه: اعتقد صوابه. والاستخفاف ضد الاستكبار. تقول: للجبان يا بطل! فهم يصرفونه عن حقيقته إلى فعل المردة والشياطين حيث كانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا ينفث على لسانه، وأن الرسول ساحر فهم يطلقون ألسنتهم بهَجْر القول وفحشه فيه، وهم حول أصنامهم يَسمرون. وليست جاهلية العرب قديماً إلا نموذجا لجاهلية اليوم، فما الشبهات التي تصد الناس اليوم عن الهدى؟ ما حجة المعرضين عن الإسلام اليوم؟ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) .. كلا بل أكثرهم للحق كارهون فهم لدناءتهم وسقوطهم يستخفون بكل داعية ويهزؤون، وتبقى حروف المعاني مفاتح كنوز للمعاني، ولولا الباء لما بَعَثَنا المشتق (مستكبرين) على المراجعة له وإلطاف النظر فيه. * * *

(ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم)

قَالَ تَعَالَى: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) (1). قال الطبري: كتب لكم: أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة. وقال ابن حميد عن ابن إسحاق: كتب لكم: وهب لكم. وقال السُدّي: أمر: أي أمركم اللَّه بها. وقال الزمخشري: كتب اللَّه لكم: قسمها لكم وسماها، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم. وقال الجمل: كتب لكم: أمركم بدخولها، وفي حاشيته للسيوطي: أمركم بدخولها وهي الشام. وقال أبو حيان: ومعنى كتبها لكم: قسمها وسماها أو خط في اللوح أنها لكم مسكن وقرار، والظاهر استعمال كتب في الفرض. وفي النهر المادّ: سماها لكم. أقول: لفظ (كتب) عند المفسرين جاء واسع الإهاب من كثرة دلالاته: (أثبت، أو خط في اللوح، أو وهب، أو أمر، أو قسم، أو سمَّى، أو فرض، أو ... ) وما أحب أن أضيق واسعا أو أتعسف في حده بمدلول بعينه، ليتنسم شذاه كل راغب في جَنْي الثمَر، ومجتهد في تحصيل الحِكم. إنه التضمين يَكِل حال اللفظ إلى سَعة النظر ومُلاطفة التأوّل، وأبلغ الكلام ما تعقدَتْ وجوه إفادته. والحصيف إذا شارف معنى لا يقطع فيه برأي إلا بعد إمعان الفحص عنه وتحرَّي الكَيْس فيه.

(كتب عليكم القصاص) وقال: (كتب عليكم الصيام) وقال: (كتب عليكم القتال)

ولكن إسرائيل هي إسرائيل!! الجبن ... والتمحّل .... والنكوص على الأعقاب .... ونقض المواثيق (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) فالجبلة مكشوفة بلا حجاب. ما دام الخطر ماثلا وقريبا منهم، لن يدخلوا حتى مع وعد اللَّه لهم بأنهم أصحاب هذه الأرض، وأن اللَّه قد كتبها لهم ومنحها إياهم فهي إذن يقين ولا مجال فيه للشك لأنها منحة السماء. ولكنهم يريدونها رخيصة بلا ثمن ولا جهد ولا جهاد. يريدونها نصرا عزيرا يتنزل عليهم من السماء. وهيهات ... وهيهات. إنها يهود ... وإنها لسَقَط المتاع، وإن عليها لعنة السماء. * * * قَال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ). وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ). وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ). ذكر العز بن عبد السلام: كتب: فرض وألزم. فضمن الكتاب معنى الفرض. وقال أبو حيان: أخبر تعالى: بكتب القصاص أولا وهو إزهاق الروح وإتلافها. وهو أشق التكاليف ثم بكتب الوصية وهو إخراج المال عديل الروح، ثم بكتب الصيام وهو منهك للبدن. أقول: (الكتب) كما سلف مضمن معنى (الفرض) فهو متعد بما تعدى

به، فإذا سأل سائل: ما معنى أن يجيء التعبير بالكتب ولم يَرِد بالفرض؟ أقول: لأن أحكام اللَّه أنزلها في كتابه وكتبها على عباده، فالكتابة تثبيت لأحكامه المفروضة على العباد والفرض قديم والكتابة محدثة ويأتي التعقيب بالتقوى بعد هذه الفروض الثلاث لماذا؟ لأن العمل بها موكول بالتقوى وشاهد عليها. وفي الحديث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قيدوا العلم بالكتاب ". وهكذا يكشف اللفظ في التضمين عن أبعاد مدلوله، حسب وضعه في سياقه مما استودعته فيه هذه اللغة الشريفة. إنَّ الصوم استعلاء على ضرورات الجسد وإيثار للآجلة على العاجلة. والقصاص استعلاء على العواطف وحظوظ النفس في القتل أو عند قبول الدية على حد سواء. والجهاد استعلاء بالبشرية كلها أن ترتفع على ذاتها، وتتمرس على طاعة ربها. وما جاءت (على) في الفروض الثلاثة إلا لتظهر فيها مزية من الجهة التي هي أصح لتأديتها، وأخص بها، وأكشف عنها، وأبهر في صناعها. ويبقى التضمين في الفعل تروعك بهجته ويؤنسك بوجهه. * * *

(كتب على نفسه الرحمة)

قَالَ تَعَالَى: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). قال الزمخشري: أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده. أما أبو حيان: فضمنها (أوجب) وقيل: (قضى وأنفذ)، وقيل (وعد)، وقيل: (أخبر). وضمنها الجمل: قضى وأوجب إيجاب تفضل، لا أنه مستحق عليه تعالى. أقول: حين تعدى الفعل (كتب) بغير حرفه، تكون هذه الحروف مفاتيح أقفالها، لا تُدافع أبوابها إلا بمقدار ما تُدفع. فلفظ الفعل مرتبط بعلم صاحب القلم حين كتب. موصول بصفاته حين سطَّر على نفسه، وخطَّه في كتابه فوق العرش: " رحمتي سبقت غضبي " وفي رواية: " غلبتْ " كما روى الشيخان. فمدلول اللفظ مرتبط بمراد صاحبه - ولا نهاية للإحاطة بمراده سبحانه - بل هو مفتاح كنوزه، ومن هنا لا أجنح إلى تقييده عند تضمينه لئلا أحدّه بحدود، أو أضع في يديه القيود، ليبقى مصدر إشعاع يسدّ حاجة كل ذي حاجة من المفسرين. وإنما أُشارفه على طَرَفِ من الُملامحة فأقول: كتبها بإرادته وأنفذها بمشيئته، وقضاها على نفسه لا يوجبها عليه موجب، ولم يقترحها عليه مُقترح، وإنما إرادته الطليقة وربوبيته السمحاء، تفضل البارئ أنْ جعل رحمته مكتوبة عليه، خطها هو على نفسه، وجعلها عهدا منه لعباده، بمحض إرادته ومطلق مشيئته، رحمة تملأ القلب بالرجاء، بالأمل، بالدهش، بالعجب، بالراحة والسرور.

(ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه)

حوت الجمال فلو ذهبت تزيدها ... في الرسم حُسناً ما استطعت مزيداً ثم تفضل عليهم أُخرى أن أبلغهم ما كتب. فمَنْ هم حتى تَبْلغ العناية بهم أن يُبلِّغهم ما جرت به إرادته وخطَّه قلمه في الملأ الأعلى! إنه منتهى التكريم لآدم وذريته. هذا البلاغ ياع القلب البشري في دَهَش، بل في أُنْس أنيس في رَوْح ورَيْحان، في كنف مطمئن ودود لطيف، يُتْرع القلبَ بحلاوة مذاقاته. إنه التضمين، وإنه كثوب الحسناء على الحسناء فيه أسرار من معاني مرتديه. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ). ذكر العز: أي إنما يجنيه على نفسه. وقال الزمخشري: يبقى على نفسه لا يتعداه إلى غيره. وقال أبو حيان: في لفظة (على) دلالة استعلاء الإثم واستيلائه وقهره له. وقال القرطبي: أي عاقبته عائدة عليه، والكسب ما يجريه الإنسان إلى نفسه نفعاً، أو يدفع عنه به ضرراً. وقال الآلوسي: فإنما يكسبه على نفسه بمشيئته لا يتعدى ضرره إلى غيرها، فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال.

وقال البروسوي: فإن رين الإثم يظهر في صفاء مرآة قلبه، يعميه عن رؤية الحق ويعميه عن سماعه. أقول؛ (كسب) يتعدى بنفسه فعداه تعالى بـ (على) لتضمنه معنى (جرَّ) فـ (على) هذه تحمل معنى استعلاء الإثم واستيلائه على صاحبه وقهره له وإبراز شناعته، وإفحاش صورته لتحاميه والعزوف عنه، ونفور الحس منه بعد أن تلوح خطره، والكسب معناه طلب الرزق. واختار تعالى لفظ كسب ليحصل للنفس تشوف إليه يبعث على طلبه والإقبال عليه والتنشيم فيه رغبة في مكسبته. ولكنه جاء متعديا إلى الإثم والعدوان (يكسب إثما) ليفاجئ الحس بغير ما كان آخذا فيه ومنصتا إليه ولو أحس الخائض في الإثم بما فيه من خسارة، لهرب من ظله، وفثأ شره عن نفسه، ولكنه حين يجترح الإثم ويرتكب المعصية إنما يلتذها لتزيين الشيطان لها، يحسبها مكسبة له، يحياها ويتنفس في جوها العفن وتنعدم في لغة الهوى ونزغات القلوب كلمة الفضيلة إذ الغاية إشباع اللذة وإرواء الغريزة. فلا تسقني سِرا إذا أمكن الجهر ... ولا خيرَ في اللذات مِن دونها سِتر فهو يرتكب المعاصي ويجاهر بها وتحلى نفسه بما استسرت منها. وما كان هذا الحسن في توجيه المعنى ليظهر لولا فضل التضمين، ثم في تنافر الضدين كسب وجز وجنى - المضمن والمضمن فيه غاية الإعجاز، يروض النفوس بالخوف وبالطمأنينة على مقومات جديدة للتصور الإسلامي: الخوف من عمله السيئ، والطمأنينة إلى أنه لا يحمل وزر غيره فليست هناك خطيئة

(ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (60)

موروثة كما تدعى الكنيسة ولا أحد من رجال الدين يكفر عنه خطاياه. إنه ميزان العدالة يقرر فردية التبعة، يحاسب المرء على ما اجترح، لا يتعداه إلى سواه: ومن يكسب إثما فإنما يجره على نفسه، إنه الميزان الذري وإنها محكمة السيئة والحسنة. * * * قَالَ تَعَالَى: (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ). ذكر أبو حيان والعكبري والجمل: أن الأصل يتعدى كفر بالباء، وعُدِّي بنفسه في الآية إجراء له مجرى جحد أقول: وأصل جحد أن يتعدى بنفسه وأُجري مجرى كفر فتعدى بالباء في قوله (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) فضمن جحد معنى كفر فتعدى بالباء كما ضمن كفر معنى جحد فتعدى بنفسه. الجحود بآيات اللَّه ومعصيته رسلَه، والدينونة للطواغيت، خروج من الإسلام إلى الشرك، لأن توحيد الربوبية هو توحيد الحاكمية الشاملة لكل شؤون الحياة، وحياة البشرية لا تصلح إلا بهذا التوحيد. أما العبادة بمفهوم تأدية الشعائر التعبدية فقط، فمفهوم حسير النظر، ناقص التكوين. و (عبد) معناه (دان وخضع وذلّ) فالعبودية هي الدينونة الشاملة لله وحده

في شؤون الدنيا والآخرة ... وعادٌ كفرت ربها حين جحدت هذه الدينونة. والدينونة لله وحده بلا شريك، ونبذُها لأحد من خلقه يفاصل المؤمنون بها المشركين، وهذه المفاصلة يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى، ولقد يبطئ الفصل وتكثر التضحيات، ولكن وعد اللَّه لا شك آتٍ، وعلى العصبة المسلمة أن تمضي في طريقها، مستيقنة أن سنة اللَّه جارية وأن العاقبة للتقوى. القرآن يتنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعه القلة المؤمنة، يريهم معالمه في مراحله جميعا، ويأخذ بأيديهم، وينقل خطاهم بموكب الدعوة على مدار التاريخ، وبات مأنوساً مألوفاً، لا موحشاً ولا مَخُوفاً، إنهم زمرة في موكب موصول، وليسوا مجموعة شاردة في تِيهٍ مقطوع، يمضون من نقطة البدء إلى الختام وفق سنة جارية. هذا القرآن لا يفتح أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به لتحقيق مدلوله في عالم الواقع، لا لمن يقرؤه للتبرك أو للدراسة والاستمتاع. إنه يتنزل ليكون مادة حركة وتوجيه، الذين يواجهون الجاهلية ويجاهدون البشرية الضالة ويكافحون الطاغوت هم وحدهم يفقهون هذا القرآن، ويتذوقون ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدونها ممثلة في أحداث ووقائع، فالبشرية اليوم لا تصلح ولا ترتفع إلا بهذا التوحيد. * * *

(وما يفعلوا من خير فلن يكفروه)

قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ). ذكر أبو حيان: كفر يتعدى إلى واحد، وهنا ضمن معنى حُرِم فعُدي إلى اثنين أي فلن تُحرموا ثوابه. وقال الجمل: جيء به على لفظ المبني للمفعول لتنزيهه عن إسناد الكفر إليه وتعديته إلى مفعولين الثاني: الهاء في (تكفروه) لتضمينه معنى الحرمان فكأنه قيل: فلن تُحرموه. أي تحرموا جزاءه. وذكر الزمخشري: لما جاء وصف اللَّه بالشكر - واللَّه شكور حليم - نفى عن نفسه نقيض ذلك. فإن قلت: لم عُدِّي إلى مفعولين وشكر وكفر يتعدى إلى واحد؟ قلت: ضمن معنى الحرمان، فلن تحرموه بمعنى فلن تحرموا جزاءه. وذكر الآلوسي: لن يحرموا ثوابه ولهذا تعدى إلى مفعولين. وقال البروسوي: ولا يجوز إضافة الكفران إلى اللَّه إذ ليس لأحد عليه نعمة حتى يكفرها، ولكن لما جعل الشكران مجازا عن وصول الثواب، جعل الكفران مجازا عن منعه ونقصه وعداه لمفعولين لأنه ضمنه معنى الحرمان كقوله تعالى: (فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ). أقول: ما دام الفعل (كفر) لازما وأريدت تعديته فلماذا لم يأتِ بلفظ (النقصان)؟ الكفر: سَتْر النعمة وحاشَ للَّه أن يستر عملا من أعمال الخير لعباده أو يجحده لكمال نزاهته سبحانه واستحالة صدور النقص عنه تعالى.

(قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا)

لو قال (لن ينقصوه) لكان معناه: يعطيهم إياه كاملا، ولكن قد يكون العطاء سرا من غير علانية، واللَّه يريد كشفه وظهوره على رؤوس الخلائق فنفى عنه السِتْر (كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، أما قول الزمخشري: يحرموه ففيه إيحاش، وحاش لله أن يحرم أحدا، فلفظ الحرمان فىِ هذا السياق مستوحش، وهو في مقام الذات العلية مستنكر. فكشف لنا التضمين عن سِر اختياره للفظة (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) مما استولى الخفاء على حَميله " يُحرموه " أو ينقصوه، وأبلغ القول ما تعددت وجوه إفادته، فلا تترسم سبيل من ضاق عليه مسلك هذه اللغة على سعتها وانبثاثها وتناشرها، فأزمَّ شواردها في قول مسترثٍّ، وتعبير غث. وأخيراً جاء التعبير بالبناء للمجهول جَريا على سَنَن الكبرياء في هذه اللغة الشريفة. * * * قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا). ذكر ابن منظور في اللسان: كِدت الرجل أكيده. والكيد: المكر والخبث وهو الاحتيال. وكاده: أراده بسوء. المكر احتيال في خفية، والكيد في الحروب حلال، والمكر في كل شأن حرام. المكر: الخديعة والاحتيال وفي الدعاء: " اللهم امكر لي ولا تمكر علي " أ. هـ. وقال الزمخشري: عُدي

يكيدوا باللام، فإن قلت: هلا قيل: فيكيدوك كما قيل: فكيدوني؟ قلت: ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمّن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف وذلك نحو: فيحتالوا لك. وقال أبو حيان: عُدِّي يكيد باللام وفي (فكيدوني) بنفسه فاحتمل أن يكون من باب شكر وشكر له. واحتمل أن يكون من باب التضمين، ضمن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، كأنه قيل: فيحتالوا لك بالكيد. والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين. وذكر الآلوسي: فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تتصدى لمدافعتها. وقال القرطبي: أي يحتالوا في هلاكك، واللام في (لك) تأكيد. وروى أبو السعود: قيل: إنما جيء باللام لتضمنه معنى الاحتيال المتعدي باللام ليفيد معنى المضمن والمضمن فيه للتأكيد، فيحتالوا لك ولإهلاكك حيلة وكيدا. أقول: إخوة يوسف عليه السلام جمعوا إلى الكيد - وهو الاحتيال في خفاء -: (الإساءة). ولعلم يعقوب بما تكنه صدور أولاده لأخيهم يوسف وما تُخفي قصدوهم قال له: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا) ليكون آكد في التخويف من إساءتهم له وأبلغ. فتضمين (كاد) معنى (أساء) يجمع إلى الكيد وهو إرادة السوء إيقاع الإساءة، فهم يحتالون في توجيه الأذى إليه، وإيقاعه في شَرَكِه مما زينه الشيطان لهم. أما الذين ضمَّنوا الكيد معنى الاحتيال فما أضافوا جديدا لأن الكيد معناه الاحتيال في خفاء كما جاء في لسان العرب، ولا يتعدى باللام. فزَمَّ التضمين شوارد خفيات النفوس فأوعى.

(الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2)

وما دامت اللغة وسيلة مساعدة على تكييف السلوك وضبطه، فقد لجأ يعقوب عليه السلام إلى التعريض دون التصريح، وعلى طرفٍ من المُلامحة، لئلا يفجأ حس يوسف بما عليه إخوته من إضمار السوء له مع الحسد والبغضاء فقال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) من قَتل أو تشريد أو إلقاء في الجب أو ... وإذاً فليأخذ حذره من كل حيلة. وأخيراً لم قال: فيكيدوا ولم يقل: فيسيئوا؟ الكيد كما قلت: إرادة السوء في خفاء، وأخوة يوسف كانوا من اللباقة وحسن المعاشرة ما يمنعهم من إظهار الإساءة لأخيهم فكيف يقول فيسيئوا! * * * قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (2). ذكر الزركشي: لا تقل (على) بمعنى (مِنْ) وإنَّمَا يضمن (اكتالوا) تحكموا في الاكتيال، كِلت لزيد ووزنت له: مفعولهما غير زيد لأن مطلوبهما ما يكال أو يوزن، فالأصل دخول اللام. ثم قد تحذف لزيادة فائدة لأن كيل الطعام ووزنه يتضمَّن معنى المبايعة والمقارضة مع حرف اللام. فإن قلت: كلت لزيد أخبرت بكيل الطعام خاصة. وإذا قلت: كلت زيدا فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل، كأنَّك قلت: بايعته بالكيل والوزن. قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي بايعوهم كيلا ووزنا وأما قوله اكتالوا على الناس فإنما دخلت (على) لتؤذن أن الكيل على البائع للمشتري. ودخلت التاء في (اكتالوا) لأن افتعل في هذا الباب كله للأخذ، فزيادة الحروف تؤذن بزيادة المعنى.

ذكر السيوطي: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) أي من الناس. وكذلك الموزعي. أقول: لا تضمين في الحروف وإنَّمَا التضمين في الفعل: جرى في الاكتيال حين اكتسى بثوب التسلط، أو الاستيلاء، كما ذكر أبو السعود في تفسيره، فلتسلطه على الناس، يستوفي حقه إذا اشترى، فلا خسران لحقه، ويبخس الناس حقهم إذا باع، فلا يقوى أحد على استيفاء حقه منه. فاللَّه يعلن الحرب على المطففين من كبار التجار، وذوي النفوذ في مكة، حين دعا عليهم: ويل للمطففين .... والدعاء من اللَّه قرار. والمطفف يستوفي حقه إذا اشترى ويطفف في الكيل وينقص الميزان إذا باع. يكتالون على الناس لا من الناس ... فكان لهم سلطاناً على الناس يستخدمون نفوذهم في التسلط: لا لاستيفاء حقهم بل لقسرِ الآخرين على قبول الجَور منهم. وإطلاق هذه الصرخة المدوية على الغبن والبخس والتطفيف بالحرب في البيئة المكية وهم سادتها وأصحاب السلطان فيها، والإسلام ما زال محاصرا ... لتدل عل أن هذا المنهج لا يقبل المساومة أو أنصاف الحلول. ولذلك قال العباس بن عبادة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس ... قالوا فما لنا يا رسول اللَّه قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه. الحديث. * * *

(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله)

قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ). قال الزمخشري: ما صح لرجل ولا امرأة من المؤمنين أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا. وذكر الجمل: وما كان أي ما صح وما استقام، وقيل: ما ينبغي لمؤمن .... ومثله الآلوسي وقَال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). قال الزمخشري: وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية. أقول: أهل المدينة وهم الصفوة المختارة والقاعدة الصلبة لهذه الدعوة، ومن حولهم من الأعراب وهم الحزام الأمني لها ينزل القرآن بالنكير على المتخلفين منهم، وهل أوجع من هذا التأنيب الخفي: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا) ولكنه أسلوب مهذب غاية التهذيب، رصين في منتهى الرصانة، في فعل الكون المنفي (ما كان) تضمنت معنى (الاستنكار) أو كما قال الزمخشري معنى (التقبيح والتوبيخ)، فهل كفعل الكون يتحمل ما يتحمله سواه! فهو على سعة إهابه وانتشار استعماله وكثرة دورانه يتضمَّن ما يستدعيه السياق من المعاني: فهو في سورة الأحزاب (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ) يتضمن: (ما يجوز، ما ينبغي، ما يليق، ما يحسن، ما

(إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)

يصح، ما يستقيم) وهي على تزاحم شؤونها وتعدد أغراضها مما يعين عليه المقام ويفزع إليه وينهض بحاله. أما في التوبة فهي صورةُ التأففِ المكظوم من هؤلاء المتخلفين من أهل المدينة ولا أوجع ولا أمرَّ من قوله إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولولا تصويره إياها لبقيت خافية علينا. فهل ترى كالتضمين أوفرَ غِنى وأوسع انتشارا من مَصَارِفه وأنحائه. فلتكن هذه الملاحظ الأنف مرقاةً له لمعرفة كنوزه. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا). ذكر العز: يلحدون في معنى يكذبون أو يميلون عن الصدق بأنها سحر أو شعر ومثلها (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) أي يكذبون في اشتقاق أسمائه: العُزى: من العزيز، واللات: من الله. وذكر الراغب: ألحد السهم الهدف: مال عن قصده. وقال الزمخشري: ألحد الحافر ولحد: مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقال أبو حيان: قال أبو مالك: يميلون عن آياتنا. وقال السدي: يعاندون رسلنا فيما جاؤوا به من البينات والآيات. وقال الجمل: يميلون عن الاستقامة بالطعن والتحريف والتأويل الباطل واللغو. وقال قتادة: يكذبون. وقال السدي: يعاندون ويشاقون. وقال ابن زيد: يشركون ويكذبون. وفي

الكرخي: لحد وألحد لغتان بمعنى: جار عن الحق وألحد: جادل ومارى. وذكر الآلوسي: يلحدون في آياتنا: أي ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام في غير موضعه. وقال قتادة: الإلحاد: التكذيب. وقال مجاهد: المكاء والصفير واللغو. أقول: تهديد مبطن ولكنه مخيف - لا يخفون علينا - مكشوفون بإلحادهم ومماراتهم في آياتنا، أفحسبوا أنهم يفلتون من الحساب؟!. ثم يأتي تهديد رعيب أشد منه: اعملوا ما شئتم من إلحادكم ومماراتكم إنه بما تعملون بصير، فقد ضمن فعل (ألحد) المتعدي بنفسه معنى (مارى) المتعدي بـ (في) قَالَ تَعَالَى: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ). فالممارة من التولية والمجادلة والشك والميل والانعطاف ... وليس الباعث عليها ظهور الحق وإنما التعجيز وإظهار الغلبة (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا) وما كان لهؤلاء الملحدين أن يفتضح امرهم وتنكشف سوءات نياتهم حين أوعرت بهم السبل في نقض ما جاء من الحق - لولا التضمين الذي أضاء ما خفي من أسرارهم، حين تعدى الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه. وتبقى معرة المماراةِ أزْرى على أصحابها من الإلحاد لخبث أسلوبهم في مقاومة الحق، وتناشر ألسنتهم في تَلْوِيتِهِ. * * *

(إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100)

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (1). قال الزمخشري: لطيف التدبير لأجله [رفيق]. وقال البيضاوي: لطيف التدبير له، إذ ما من صعب إلا ويتسهل. وذكر الجمل: ضمن لطيف معنى (مدبر) فعدّاه باللام - واللطيف هنا العالم بخفايا الأمور والمدبر لها. وقال ابن الأثير: اللطيف الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح. أقول: لعل تضمين (اللطيف) معنى (المدبر) يتجافى عنه السياق، إذ لسنا في مقام التدبير والتقدير والتصوير والإبداع ... ولكنا على بساط الود والرفق والإحسان والرحمة. ولعل تضمينه معنى (الودود) والمتعدي باللام، وما في الود من الحب والرحمة ما يستنيم إليه السياق وتستريح إليه النفس، فهو سبحانه ودود، جواد، مُنعم، متفضل، ... ويوسف عليه السلام وقد مسه الإحسان ولصق به (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل من الْجُبِّ لئلا يجرح مشاعر أخوته، يناله اللطف بالود له والرحمة والسعة في العيش والعز في السلطان واليقظة في القلب والسماحة في الخلق، فلا سلطان للشيطان عليه كما تسلط على إخوته فنزغ بينهم.

(لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)

ومن وراء اللطيف الودود يأتي التدبير والتقدير والحكمة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فيشمله بحكمته وتدبيره ويرعاه في كل مراحل حياته. وهكذا يغيب عنه في فرحة اللقاء بأهله الملك والسلطان والأهل والإخوان ليبقى قلبه وقد مسه اللطف موصولا بخالق الأكوان. ويذكر النعم على إخوته (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) فينطلق لسانه - بما يحس به قلبه من لطف اللَّه الخفي له ولأهله - في تسبيح مولاه فيلهج بالدعاء أن يحفظ له دينه حتى يتوفاه، وأن يلحقه بالصالحين من عباده. ثم إن العلاقة بين اللطيف والودود - المضمّن والمضمّن فيه - ذَوْب روحٍ يتندَّى من الرفيق الأعلى، ومن دونهما وشائج الإيناس، وحبال المودة والرحمة تبسط له ما شاء وما يشاء. * * * قَالَ تَعَالَى: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ). قال الزمخشري: الباء بالمودة إما زائدة مؤكدة للتعدي، مثلها (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بسبب المودة. وقال الجمل: الباء في المودة سببية، وقيل: زائدة في المفعول، وقيل: تلقون مفعوله محذوف.

وذكر الآلوسي: الباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). وكذلك الزركشي. وقيل: الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة، وأفضى يتعدى بالباء. وقيل: للسببية. والإلقاء مجاز عن الإرسال لأخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بسبب المودة بينكم. أقول: ليس في كتاب اللَّه حرف زائد، وليست المودة متاعا يُلقى إليهم، وإنما الباء على أصلها وما جاءت هنا إلا لتظهر في الصياغة مزية وتؤدي في المشهد المحسوس دورا ماتعا (فَأَلْقَى) تضمن معنى (تقرب) والتقرب بآصرة رحم أو معروف إلى عشيرته لتكون له عند القوم يد، فقد ألقى رسالته إلى قرابته ليتقرب إلى عشيرته فتكون له عندهم زلفى، ولو سألت عن سر استبدال تتقربون بتلقون لعلمت بأن لفظ (تلقون) يصور الحدث الذي جرت فيه الواقعة حين ألقى حاطب بن أبي بلتعة بالكتاب إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غزوهم، والذي يعزز هذا التوجيه سياق الآية: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ثم يكشف اللَّه ما استتر (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ) فالسورة تبدأ بالنهي عن موالاة الأعداء لتتم عملية المفاصلة بين رابطة الطين ورابطة الدين، إنه التنظيم الاجتماعي والسياسي في المجتمع المدني في واقع عملي من خلال ما جريات الأحداث وفي غمرتها تتم عملية التربية، فمن الناس من هو مثقل برواسب الماضي وجواذب الأرض يحتاج إلى تذكير وتخويف من عصبية الجنس والعشيرة والقرابة فلا يتقرب إليهم بمودة ولا منفعة

(رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق (15)

يبذلها ولا رحم ولا قرابة. وهكذا يسفر معنى التقرب بهذه الباء عن وجهه الجميل فلك لذة التمتع به، ومهره على من اجتهد في تحصيله. * * * قَالَ تَعَالَى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ). حكى أبو حيان: قال مقاتل: من أمره: أي بأمره، ويظهر أن (من) لابتداء الغاية. وذكر الشوكاني: من أمره: من قضائه. وذكر الآلوسي: أن (من أمره) قيل: بيان للروح، وعند ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء، فجعلت من ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا أو صفة: ناشئا من أمره. والذي فسر الروح بجبريل قال: (مِنْ) سببية: أي من أجل تبليغ أمره أقول: ذو العرش صاحب المقام الأسنى، والمستعلي على كل موجود، يلقي الروح - جبريل - على مَن يختاره من عباده لرسالته، ولغايةٍ هي: الإنذار بيوم الجزاء، يوم القضاء، يوم التلاق. فلعل الإلقاء هنا تضمن معنى (البعث) والمتعدي بـ (مِن) رفيع الدرجات يبعث جبريل عليه السلام من أمره على من يشاء ممن اصطفاه من خلقه لينذر ويبلغ. وجاء التعبير بالإلقاء بدلا من البعث لتظهر مزية الاستعلاء وتنكشف

صورة قدرة ذي الجلال، تغمر القلب مهابة وعظمة. وينطلق صوت الجليل في الصمت الرهيب (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ ولا مجيب سواه (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). فلا كبرياء لغيره ولا استعلاء لسواه. إن اختيار الألفاظ في النظم كاختيار الجواهر في العِقد الثمين، يعلو بها المعنى مرتقى تنقطع الأطماع دونه، والتضمين يبلغنا حاجة من هذا الجمال الفني تبعا للغرض الذي جيء به من أجله. نعم (بعث) تعدى بـ (إلى) حين أخذ دور الهداية، وخرج مُخرج الإرشاد (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) ثم هو يتعدى بـ (على) حين يأخذ دور التهديد الرعيب بوقوع العذاب الشديد (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) وقال: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ). جاء الفعل (يلقي) إذاً لينشئ في حس المؤمن تصورا لذي القدرة والجلال، العالي المقام في سياق النذارة (لينذر) وما كان آخذا فيه ومُنْصَبًّا إليه، ولولا (مِنْ) هذه لما استوقفنا فعل (ألقى) ليُبديَ لنا عن صفحته، وتحلى النفس بمعرفة السبب الذي جيء به من أجله في تنرله من علوه متناسقا في ظلاله مع جِرسه وإيقاعه (يلقي ... لينذر) يبعث جبريل على من يشاء من رسله لينذر أو يبلغ أو ... فلا يدفعك المَلال حين تعتاص عليك هذه الحروف إلى استكراه حالها فترميها للتناوب والتعاور، أو التعليق بمحذوف، أو ... وتصرفك عما استودعته فيها هذه اللغة الشريفة من خصائص الإتقان والصنعة وأسرار الإبداع والحكمة. * * *

(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). قال الزمخشري: الباء مزيدة مثلها: أعطى بيده للمنقاد. والمعنى: لا تُقْبِضُوا التهلكة أيديكم، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل بأيديكم: بأنفسكم. وقيل: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم كما يقال: أهلك نفسه بيده. وقال أبو حيان: بعد أن عرض لمعاني صيغة أفعل وأنها هنا للجَعْل على ما استقرأه علماء التصريف وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون الهمزة للتعدية كخرج وأخرجته. والثاني: أن تجعله على صفة، كاطردته أي وجدته طريدا وأحمدته وجدته محمودا. والثالث: أن تجعله صاحب شيء بوجه ما. و (ألقى) هي من القسم الثاني أي: لا تجعلوا أنفسكم لَقي إلى التهلكة فتهلك، وحام الزمخشري حول هذا المعنى فلم ينهض به. وقال البيضاوي: والباء مزيدة والمراد بالأيدي: الأنفس. ولا تلقوا بأيديكم إليها فحذف المفعول وعدى الإلقاء بـ (إلى) لتضمنه معنى الإنهاء. وقال الجمل: الباء مزيدة، مثلها: أعطى بيده للمنقاد. والمعنى: لا تُقْبِضُوا التهلكة أيديكم، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل: بأيديكم: بأنفسكم. وقيل: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم كما يقال: أهلك نفسه بيده. وذكر ابن يعيش نقلا عن سيبويه زيادة الباء في المفعول. وكذلك ذكرها السيوطي والزركشي. أقول: الآية توضح أن الوقوع في المهالك سببه الشح وترك النفقة في القتال وتجهيز الغزاة، أو الجبن عن بذل النفس في ساحات الجهاد، فتُمنى

الأمة بالهزيمة فتهلك، فإن انتهوا عما نهاهم اللَّه عنه بلغوا درجة الإحسان: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فالمعنى الأول: يجعلك تنفق في سبيل اللَّه ولا تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال، والمعنى الثاني؛ لا تُقدِم على القتال بلا إعداد كافٍ. فاللَّه يريد منا أن نزن الأمور وزناً يجعلنا: لا نترك الجهاد فيغلب علينا عدونا فنهلك، ولا نحب القتال لمجرد الرغبة فيه قبل التدريب فيه والاستعداد له. إنه التعبير ... لكنه مُشع أعطى أكثر من معنى وأشار إلى أكثر من مدلول. جاء النهي عن الوقوع في هذه المهالك بفعل (ألقى) والذي لا يتعدى بالباء، فقال بعضهم: هي زائدة زيدت في المفعول - وإن كانت غير مقيسة - وعبّر باليد عن النفس ولا تُلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقال بعضهم: إن المفعول في المعنى هو (بأيديكم) لكنه ضمن (ألقى) معنى (أفضى) فعبر بالنفس عن الأيدي، ألا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. ولعل تضمين (ألقى) معنى (رمى) والمتعدي بالباء يعفينا من القول بزيادة الباء فالبيان المعجز غني عن الزيادة: وقولهم الزيادة فاطرحه ... وتنكشف المزيةُ للسؤول وإنَّمَا تنكشف البراعة عند معرفة وجه التأويل في هذه الحروف، وما جاءت إلا لتكسب المعنى نُبلا وتظهر فيه مزية أخص به وأبهر في صناعته.

والمفعول محذوف (أنفسكم) وليس في الإثبات بلاغة كالتي في الحذف: فلا ترموا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم أي بما جنته أيديكم من الشح في النفقة في تجهيز الغزاة. وفي المثل: يداك أوكتا وفوك نفخك. وفي لفظ (الرمي) ما ليس في الإلقاء من المهانة والمشْأمة قَالَ تَعَالَى: (تَرْمِي بِشَرَرٍ) وقال: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ) وقال: (يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) وهذا الإيحاش مراد في سياق الشح بالمال والإمساك عن النفقة في تجهيز الغزاة، مقصود في عجز الأمة وهزيمتها حين تتخلف عن جهاد عدوها. ونحن مع التضمين لا نحتاج إلى ركوب المسلك الحَزْن بدعوى الزيادة - وهو منكور عند أهل النظر - ولا بدعاوى كثيرة تُعقد المعنى وتجفّف ثراه. والسؤال أخيراً لم جاء التعبير (بالإلقاء) بدل (الرمي)؟ نفس المؤمن مكرمة عند اللَّه عز وجل فلا يليق بها أن تُرمى. ففي الرمي من المهانة والبذاذة ما ليس في الإلقاء كما أسلفت قَالَ تَعَالَى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) وقال: (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) وقال: (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ) وقال: (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) ولذلك جاء النهي للمؤمنين بالإلقاء بدلا من الرمي. أفرأيت ما تؤديه هذه الحروف من فوائد وأسرار حين تصاحب فعلا، كيف تخرجه عن مألوفه فتخصصه أو تُقيده أو تُطلقه أو تخرج به عن معناه المعجمي حسب طريقة عرضها!! أجل ... ما دام الحرف بعض الفعل من حيث كان مُعديا له وموصلا، فهو جزء منه أو كالجزء لقوة اتصاله به، فكيف ندعي زيادته؟ واجتماع

(قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)

الأصلي والزائد ممتنع لا مستكره، كاجتماع البياض والسواد، نثبت بهذا تخلف علل النحويين عن المتكلمين. وبعد ... فلولا باء أيدي الأشحاء أو الجباء، لما انكشف لنا الرميُ في هذه التهلكة، فافزع إلى التضمين عسى أن تربأ بالصنعة البيانية أفرع مشارفها وتحصل على هذه اللطائف. * * * قَالَ تَعَالَى: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ). قال الزمخشري: لُمْتُنَّنِي فِيهِ: لم تتصورْنه بحق صورته، ولو تصورتنَّهُ لعذرتنني في الافتتان به. وذكر السيوطي: فيه أي لأجله ومثله قال الزركشي. وقال أبو حيان لعذرتنَّني في الافتتان به. قال القرطبي: لُمْتُنَّنِي فِيهِ: أي بحبه أي من تضمين الحروف. وقال الآلوسي: لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي عيرتنني في الافتتان فيه. أي من تضمين الأفعال. أقول: ألفضيحة كانت في مجتمعها أشيع وأسير من أن تزُمها في تعبير رقيق (لُمْتُنَّنِي) وصفت به نفسها لتخفف من شناعة موقفها المَشِين، فهي أرفع

شخصية نسائية في المجتمع، امرأة العزيز تراود أدنى شخصية منزلةً في مجتمعها .. مملوك .. خادم .. وتلك فضيحة مُزرية مَشينة، فجاء التعبير القرآني من الدقة ما جلَّى حقيقتها وكشف الحرف (فيه) ما عتَّمه قولها علينا. فالفعل (لام) يتعدى بـ (على) وما ذهب إليه الإتقان وغيره في تضمين (في) معنى (اللام) فأمر لا يثبت عند النظر، وكذلك القرطبي ضمن (في) معنى (الباء). فكيف يتحمل الحرف معنى سواه ومفهومه غير مستقل بنفسه؟ ونَكِل الحال إلى تضمين الفعل لسَعَةِ استعماله وانتشار مواقعه. فتضمين (لام) معنى (خزي) وهو يتعدى بـ (في) أحكم وأصنع، ومعناه لغة وقوعها في بلية فذلت وهانت وافتضحت وخزيت حين عرضت ما عرضت في مراودتها لفتاها - أي خادمها - ومكر النساء عظيم، فقد أطلقت الملامة (العذل) لتُخفي الخزي والفضيحة التي شاعت على ألسنتهن. لكن زلات اللسان (فيه) كشفت ما أرانيه التضمين من إخفاء نزواتها المكشوفة (لمتنني)، إنها اللغة العاطفية في مواجهتها لذوات القصور، وليست اللغة العقلية في إدراك الموقف الشائن. أخزيتنني فيه - فضحتنني -. ثم إن التذمر الجماعي منهن (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) كان من كونه مملوكا لا من الفعلة نفسها وقد تغير موقفهن حين مكرت بهن فأخرجته عليهن ليَلقين حين رأينه من الدَهَش والانبهار ما لقيت لقد عرضن أنفسهن عليه

بطريقة ما سكت عنها السياق وكشف عنها موقف يوسف عليه السلام (وَإِلَّا تَضرِف عَنِى كيدَهُنَ أَصْبُ إِلَتهنَ) ولم تر باسا من الجهر بنزوتها عندئذ أمامهن (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) مع الإصرار والإغراء والتهديد بالسجن (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ) فيناجي الفتى ربه (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) جميعا مشتركات (بهمسة أو بلفتة أو بحركة أو .... ) ليقع في حبالهن في لحظة ضعف مع الإغراء المستمر. ثم إن الآية لم تقف عند لحظة الهبوط في الجنس .. موقف امرأة العزيز ونساء القصر، وتترك اللوحة التصويرية بعيدة عن لحظة الارتقاء مقصورة على لون معين. بل منحتها قبسا يصلها بحقائق الوجود العليا (موقف يوسف عليه السلام) (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) هذه النظرة الشمولية لها أكبر الأثر في ارتفاع مستوى الفن، وتمنح الموقف الإحاطة بكل جوانب العواطف البشرية لترتقيَ بالفن إلى الشمولية الكونية. فإلطاف النظر في الفعل يبعث على الكشف عن أسراره مما لا سبيل للطاعن فيه. فأبه لهذه الحروف تبلُغْ منها حاجتك ولا تسلُكْ سبيل مَن أعتمت عليه فرمتْه إلى التعاور والتناوب. * * *

(ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)

قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ). اللين ضد الخشونة ومعناه: زوال الخشية والقشعريرة. ذكر أبو حيان: ضمن تلين معنى تطمئن. وقال الزمخشري: فإن قلت؛ ما وجه تعدية (لانَ) بـ (إلى)؟ قلت: ضمّن معنى فعلٍ متعدٍ بـ (إلى) كأنه قيل: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر اللَّه، ليِّنة غير منقبضة راجية غير خاشية. وروى الجمل: قيل: إلى بمعنى عند. وقال البروسوي: وتعدية اللين بـ (إلى) لتضمَّنه معنى السكون والاطمئنان، تسكن وتطمئن إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، راجية غير خاشعة أو تلين ساكنة مطمئنة على أن المتضمّن يقع حالا من المتضمّن. وقال البيضاوي: والتعدية بـ (إلى) لتضمين معنى السكون والاطمئنان، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. أقول: تقشعر ... ثم تلين ... صورة حية مشرقة وضيئة، شخصتها ألفاظ يسيرة في غاية الإعجاز. نعم ... الذين يخشَون ربهم في حذر ومراقبة واجفة، وحساسية مرهفة مما يسمعون من آيات الوعيد ... شفافية الروح تفتح بصائرهم للمعرفة المستنيرة، وتمنح قلوبهم نعمة الفهم وسرعة التلقي. تقشعر جلودهم لما يسمعون ثم ماذا؟ ثم تسكن وتهدأ. قلوبهم تخشى من وعيد اللَّه ثم تأنس وتطمئن إلى وعد الله، وتنشرح.

(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ (15)

ذلك هدى الله منحهم نور البصيرة فاستجابوا للهدى والنور. فتضمين (اللين) معنى (الأنس والاطمئنان والانئراح) والمتعدي بـ (إلى) أوْلى من تضمين (إلى) معنى (عند) وأسفر لعرائس الأنس تُزَف إلى تلك القلوب على تراتيل الذكر الحكيم. * * * قَالَ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ). ذكر السيوطي: الباء زائدة في المفعول. وذكر المرادي: أن زيادتها مع المفعول غير مقيسة مع كثرتها نحو (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ). وقال الزمخشري: فليمدد بسبب: مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق. ونقل الجمل: أي فليمدد إلى سقف بيته بحبل. أقول: سبق أن عرض ربنا سبحانه نموذجاً من الناس يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة، وكأنَّها صفقة تجارية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى

حَرْفٍ) نعم على حرف ... غير متمكن من عقيدته ولا متثبت في عبادته، قابلا للسقوط في كل لحظة عند مس الفتنة، يدعو ... حزبا ... عشيرة ... سلطة ... (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ويجسِّم هذه الحالة النفسية من الضيق حين ينزل بها الضر وهي على غير صلة بالله، فقدت كل رجاء بالفرج، كل نسمة رخية، كل نافذة مضيئة، وقد استبد بها الضيق، وثقل على صدرها الكرب، نعم يجسم هذه الحالة (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ). لعل (مد) تضمن معنى (توجه) والمتعدي بالباء وإلى، فجمع التضمين المد إلى التوجيه. وفعل مد في حركته القلقة والزعزعة النفسية المصاحبة للغيظ والضيق والقنوط حين ينزل الضر بالنفس، وهي على غير اتصال باللَّه عز وجل يرسم هذا الفعل مشهد امتداد حبل معلق في سقف بيته تعلق به، فليقطعه فيسقط أو يقطع نَفَسَهُ فيختنق. وحين تعدى الفعل بالباء تحول هذا المد إلى توجه بعصبة كافرة أو هيئة فاجرة أو حزب أو عشيرة. وكلها أسباب أرضية لا تملك نفعا ولا ضرا، ثم يكف - يقطع - عن هذا التوجه، فماذا تكون النتيجة؟ هل ينقذه تدبيره هذا مما يغيظه؟ لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضراء إلا في حمى العقيدة. وبهذا الحرف - الباء - ينقلب المنظور من واقع مادي ضيق مشهود، سقف وحبل إلى معنى أوسع، إلى هيئة أو عشيرة وهي الحماية الأرضية لأصحاب المبادئ المادية، لكنه لا يرتفع عن تراب الأرض

وعتمة الروح، فلا شفاء لقلبه ولا ذهاب لغيظه ما دام مرتبطا بالتراب والطين. فالتضمين جرى في الفعل - مد وقطع - والباء على أصلها أضاءت لنا ما استتر من أسرار هذه الحروف. فلا يذهب بك الخاطر إلى توهم زيادتها أو تناوبها، وتعرّف كيف المخرج مما يرد عليك منها على وجه من التأويل يزيل الشناعة عنها، وترتفع في معرفة إعجازها في النظم البديع عن التقليد وأنها تنزيل من حكيم حميد. أما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه فسببية، وهل مد هذا المشؤوم حبله إلا ليتوجه بقوى الأرض؟ ومن شؤمه أنه استعان بأسباب أرضية ولهذا: لا يرى ما تريه ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام معه في غير مرمى، ومُعن نفسك معه في غير جدوى. فمن استبد به الضيق، وثقل عليه الكرب، فليتوجه بطريقة أو بأسلوب إلى اللَّه لإزالة كربه ودفْعِ الضُرّ عنه، وكل سبيل غير هذه السبيل لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا مضاعفة الضيق وزيادة الكرب ثم يعجز في النهاية. فلْيستَبْقِ المكروب هذا الخيط من الأمل وليتوجه بهذا الحبل من الرجاء إلى السماء وليستهْدِ بهذه الشمعة المضيئة قبل أن يخنقه اليأس ويفوت الأوان. * * *

(ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36)

قَال تعالى: (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) (1). ذكر الراغب: المرية: التردد في الأمر وهو أخص من الشك (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ). والامتراء والمماراة: المحاجة فيما فيه مرية (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) وقَالَ تَعَالَى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) وقال: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ) وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحَلبِ. وجاء في قاموس القرآن فلا تمار فيهم يعني لا تجادل. وقال الطبري: كذبوا بإنذاره شكًّا منهم فيه. قال أهل التأويل: تماروا بالنذر لم يصدقوه. وذكر القرطبي: شكوا فيما أنذرهم الرسول وهو تفاعل من المرية، وقال الآلوسي: الفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي. وذكر البروسوي: ضمن معنى التكذيب فعدي. من المرية وأصله تماروا على وزن تفاعلوا. وأتساءل: لم عدل سبحانه عن التكذيب والمتعدي بالباء إلى (المماراة) والمتعدي بـ (في)؟ وهذه تحتمل التكذيب كما تحتمل المجادلة، وهي أقوى من الشك. لقد حذرهم لوط عليه السلام وأنذرهم عاقبة الشذوذ الملوث القدر حين راودوه عن ضيوفه من غير استحياء، ولا تحرّج من حرمة نبيهم. فشكوا في نذارته وارتابوا فيما بينهم، وجادلوا نبيهم فتدخلت يد القدرة (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) فكان العمى هو النذير.

(ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم (14)

والجواب: إن موقف قوم لوط من نبيهم عليه السلام غير مُوَحَّد فهم بين ممارٍ في نذارته مشكك، وبين مترددٍ مرتاب به مكذب، ولو أجمعوا على تكذيبه لجاء النص: فكذبوا بالنذر، ولكنهم في إقبال من أمر عدوانهم وإدبار، يجادل بعضهم بعضا يدلنا على ذلك صيغة (فاعل) التي تفيد المشاركة بين طرفين، ويتمارون في صحة ما يهددهم به. فالتضمين يشخص لنا الموقف بكل دقائقه النفسية من شك، ومحاجة، وجدل، وتكذيب بعد أن هاج سُعارهم الجنسي الشاذ للاعتداء على ضيوفه، وحَسِبوهم غِلمانا صِباحَ الوجوه. وما كنا لنجني هذه اللطائف لولا نباوة التضمين، حين كشف عن دخيلة نفوسهم مما خفي عنا من عوارضها، ولخص موقفهم فجمع: الشك مع المِراء مع التكذيب. فافزع إلى التضمين فمطمحه نبيل، وإن كان مسلكه غير يسير. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)). ذكر السيوطي: لمسكم فيه: أي لأجله. وقال أبو السعود: لمسكم فيما أفضتم فيه أي بسبب ما خضتم فيه. وذكر القرطبي: لمسكم فيه أي بسببه ومثله الجمل والآلوسي. أقول: مس ضمن معنى (أوقع) ولولا فضل اللَّه عليكم لأوقعكم فيما خضتم فيه عذاب عظيم والمس أول درجاته، لأنه أحب أن تشيع الفاحشة في

نفوس المؤمنين لتشيع بعد ذلك في واقعهم، فكان تعدّي الفعل بـ (في) وهو لا يتعدى بها إيذانا بوقوع العذاب، لكنه تعالى بلطفه بهم ورحمته، جعل المس مكانه، ليومئ به إلى قربه ودنوه إلطافا منه بهم وإحسانا إليهم، أما تضمين (في) معنى (اللام أو الباء) أو إنابة حرف عن حرف فاحفظ نفسك منه. كما يحتمل السياق تضمين (مس) معنى (غشي) والمس طرف الغشيان وجانبه، يُستدل به عليه وينقاد على وتيرته، ولولا ألطاف اللَّه الخفية لغشي الجماعة المسلمة كلها عذاب عظيم يتناسب مع الفرية، وقد مست المقدسات التي تقوم عليها الجماعة المؤمنة، ولأفلت الزمام واختلت المقاييس، فيما أفاضوا فيه أي (في اقتحام لُجَجِه) أيما إفاضه. لقد كشف حكم القذف عن شناعة الجرم وقد تناول ست النبوة الطاهر، عِرْضَ أكرمِ إنسانٍ على الله، وعرض أكرم إنسان على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرض صفوان الذي لم يشهد عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلا خيرا، ذلك حديث الإفك وقد شغل المسلمين شهرا كاملا. لقد جعل التضمين مس العذاب كالرمز والإيماء إلى اقتراب الضراء في بُطءٍ ومن ورائه غاشية من العذاب تأخذهم أجمعين، لولا فضل اللَّه العظيم على عباده المؤمنين. ولو وقفنا عند المس لا نتعداه لأجدب المعنى وجف علينا ثراه فتدسس إلى دفينٍ توارى تحته كأنه رعشات بيان تنتشر، أو ينبوع نور يتدفق، تتكشّف في أفقه معانٍ لا يحيط بها فكر ولا يمتد إليها النظر، إنه التضمين ... وإنه غاية الأمل. * * *

(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)

قَالَ تَعَالَى: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). ذكر الفيروزأبادي: مس يتعدى بالباء (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). وقال أبو السعود: لمسكم: لأصابكم لأجل ما أخذتم من فداء الأسرى. وروى السيوطي: (في) تفيد التعليل بمعنى (اللام) وكذلك قاله المرادي. وقال الآلوسي: لمسكم: أي لأصابكم لأجل أخذكم من الفداء عذاب عظيم. أقول: لقد سبق في قضاء اللَّه أن يغفر لأهل بدر. يقول رسول اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه: " فقد عُرِض علئ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ". فتضمين (مسَّ) معنى (ضارَّ). فالضر أخص في الدلالة على المعنى المراد. والسياق في الآية ينسق خطوات التعبير مع الحالة النفسية للنماذج البشرية التي عرض لها: (رسول اللَّه وأبو بكر يبكيان) فمنظر الضر، وهو عذاب لا يُقادر قَدْره من شدته، قريب كل القرب، يكاد يمسهم جميعا - أدنى من هذه الشجرة - لكن اللَّه نجاهم منه بقضاء سبق في علمه ألا يعاقب أحداً بخطإٍ في اجتهاد، وذكر المعلول ولم يتعرض لتفصيل العلة. ثم إن

(وامضوا حيث تؤمرون (65)

(ضارّ) يتعدى بـ (في) ومعنى الكلمة عند أرباب النظرية الاجتماعية للغة، مستفاد من تركيبها أي في استعمالها أو في الدور الذي تُؤديه من خلال سياقها. ولهذا وجدتني منصرفا إلى تَضمين (مس) معنى (ضارّ) ليكون أدلّ على المراد وأوثق بما نيط به من تصوير منظر الضراء المضرة في بطء وقرب تكاد تصيبهم أجمعين. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ). ذكرت المعاجم أن (مضى) قاصر لا يتعدى وعليه اضطر الآلوسي إلى تضمينه معنى (الحلول والتوطن) ليصبح متعديا ويصير صالحا لتعليق (حيث) به. وذكر الجمل قوله: (حيث تؤمرون) عدي (امضوا) إلى (حيث). كما قدره البيضاوي وامضوا إلى حيث أمركم اللَّه بالمضي إليه مصر أو الشام. وفي السمين: (حيث) على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة. أقول: لعل توافر شواهد موثوقة تجعلك تتحفظ من أقوال بعض المعربين والمفسرين، ففي قول الكلحبة العرني:

إذا نمضيهم عادت عليهم ... وقيدها الرماح فما تريم الفعل (تمضي) متعد بنفسه وهو مما أهملته المعاجم كما قال شاكر وهارون ومعناه: تُنفذهم هذه الفرس في القتال وتعود عليهم لتقتل بقيتهم فإذا أثقلْتها الجراح فلا تبرح ولا تريم. فمضى في الآية معناه: أنفذوا موضع نجاتكم كما أمر اللَّه - مصر أو الشام - فهو ليس بقاصر، وعليه تكون حيث مفعولا به ولا تضمين في الفعل. ولا داعي بعد ذلك أن نشغل أنفسنا بقول أبي حيان: إن (حيث) ظرف لا يتصرف فلا يكون فاعلا أو مفعولا أو مبتدأ ولا بقول الزمخشري: إن (حيث) مفعول به غير صريح لأنه من الظروف المبهمة. فما ذكره الآلوسي عن ابن هشام وقوعها مفعولا به فيما نقله عن الفارسي وخرّج عليه (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) يؤيد ما أثبتناه. واللَّه أمر لوطاً أن يسير بقومه، فمضى في مؤخرتهم لا يدع أحدا منهم منهم أن يلتفت أو يتلكأ أو يتخلف كي ينفذوا مكان نجاتهم كما أمرهم الله. فدابرهم مقطوع في الصباح ولا بد من اليقظة. (مضى) إذاً يأتي لازما كما يأتي متعديا وقد جاء هنا متعديا، ولا تضمين في الفعل. واللَّه تعالى أعلم. * * *

(وأمطرنا عليهم مطرا)

قَالَ تَعَالَى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) (1). قال الزمخشري: أرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا يعني الحجارة (فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ومثله قال البيضاوي. وذكر أبو حيان والجمل: ضمن أمطرنا معنى أرسلنا فلذلك عداه بـ (على) كقوله: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً). وذكر الآلوسي: وفرق بين مطر وأمطر ثم قال: ويقال: أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر. وحاصل الفرق كما في الكشف ملاحظة معنى الإصابة في الأول (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) أي مصيبنا والإرسال في الثاني. لهذا عُدِّي بـ (على). أقول: ولعل تضمين (أمطر) معنى (أرسل) والمتعدي بـ (على) يفيد معنى تسليط العذاب كما في قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وفي قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ) وفي قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) وفي قوله: (أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا). أما تضمينه معنى (أنزل) نفيه معنى الخير قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) ولهذا آثرنا (أرسل) على (أنزل) لأن السياق يشي

(ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم)

بالعذاب. واحتمال اللفظ للمعنى شيء، ودلالته عليه شيء آخر. فالمطلق للمقيدات غيرُ دال، والعام بالنسبة للأفراد دال. الجاهلية الحديثة تطارد الذين يتطهرون ... في أفكارهم وتصوراتهم لأنها ترحب بالدنسين القدرين، وجاءت الخاتمة بلا تفصيل (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) لأنها من الغابرين الدنسين. مطرا مهلكا فيه ما فيه من العواصف أرسله عليهم ليطهر الأرض من الدنَس الذي كانوا فيه والوحل الذي عاشوا فيه. وكل سوء بلغ الحد انتهى ... للمنتهى ومن الدمار دواء * * * قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ). أجاز أبو البقاء، وكذلك أبو حيان: أن يكون قوله: (مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) مفعولا به على تضمين الفعل معنى أعطيناكم. وذكر الجمل: قوله (مكناهم) عدَّاه بنفسه وقوله (نمكن لكم) عداه بالحرف والفرق بينهما: أن مكنه في كذا معناه أثبته فيه، وأما مكن له فمعناه جعل له مكانا. وقال: إذا ضمن مكنا معنى (أعطينا) كانت (ما) مفعولا به أي أعطيناهم مكانا ملتبسا ومصحوبا بالقوة والسعة. وقال أبو حيان: وتعدى مكن بنفسه وبحرف الجر والأكثر تعديته باللام - مكنا ليوسف في الأرض - وقال أبو عبيدة: مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان كنصحته ونصحت له.

أقول: هؤلاء المعرضون المكذبون إذاً تعوزهم الرغبة في الاستجابة، ويمسك بهم العناد في إعراضهم عن النظر في الأدلة والتدبر في مصارع الأجيال، فقد أعطاهم من أسباب القوة ما لم يُهيئ مثله لقريش. فالتمكين تم بمشيئة اللَّه ليبلوهم فيه أيؤدون حقه من العبودية له والتلقي منه وحده أم يجعلون من أنفسهم طواغيت؟ (أولم يروا) يلفت أنظارهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم - عاد بالأحقاف، وثمود بالحجر - يمرون على أطلالهم في رحلة الشتاء والصيف ويمرون بقرى لوط المخسوفة وبعضها منهم قريب. حقيقة ينساها البشر حين ينحرفون عن شرط الاستخلاف. (فالتمكين) حين تضمن معنى (المنح) تعدى إلى مفعولين، وحين تعدى باللام تضمَّن معنى التهيئة. منحناهم أسباب التثبيت والتمكين في الأرض، لم نُهيئ لكم مثله أنتم يا معشر قريش. ثم عصوْا ربهم فأخذناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم آخرين. حقيقة ينساها الناس حين يمكن لهم في الأرض وأنهم فيها مستخلفون .... إنه التضمين يمنح الفعل وجها مستطابا نستمتع به على قدر ما يحمل من دلالات في مسارح النظر. * فهو طَرف مُصرِح ... عن ضمير بما هَجَس * * * *

(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض)

قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (1). قال أبو السعود ومثله الآلوسي: يقال: مكنه فيه أي أثبته فيه، ومكن له فيه أي جعل له مكانا فيه. ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في مقام الآخر. والمراد في المكان: المكانة والمنزلة. وروى الجمل: مكن يتعدى بنفسه وباللام مكنه ومكن له. أقول: لم يتعرض أحد من المفسرين للفرق بينهما إلا فيما أشار إليه أبو السعود ثم قال: ويستعمل كل منهما في مقام الآخر. كيف يكون مكنه بمعنى مكن له؟! حين يتعدى الفعل بنفسه وبالحرف ... أجد نفسي دائم التنقير والبحث عن اختلاف المعنى بينهما. فالمتأمل لحال هذه اللغة الشريفة يجد فيها من الحكمة والدقة مع التعدي بهذه الحروف ما يملك عليه فكره، ولعل الفرق؛ أن (مكنا له) تضمن معنى (مهدنا له أسباب التمكين) بتعطيف قلب عزيز مصر عليه (وهيأنا له سبله) في إنزاله في قصره، حين قال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) والمثوى هو المبيت والمنزل. وأما (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) فقد حصل لهم التمكين واستقرت لهم دعائمه. وفي الأنعام تعريض بنقص التمكين لكم عمن سبقكم (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ).

(قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93)

فتضمين (مكن له) معناه (مهد له أسباب التمكين ويسرها). يؤدي غرض السياق في الآية من تهيئة أسباب التمكين وتيسيرها حين بدأت بشائرها في قلب الرجل عندما قال (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا). فاللَّه هيأ له وهو الشريد في أيدي النخاسين. مكانا في مصر - بيت العزيز - تمهيداً لتمكينه في الأرض. أرأيت إلى هذه اللام كيف منحت فعلها معنى التهيئة والتمهيد والتيسير والتسهيل. إنه التضمين غاية في البيان المعجز. وإنه القمر المنير واللسان المبين. ثم يأتي التعقيب: (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). آتاه اللَّه الحلم، وكان هذا جزاء إحسانه سلوكاً وعقيدة و ... (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). * * * قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) ذكر الزمخشري: (لا) زائدة هي للتأكيد كما في أول الأعراف وكذلك الجمل. وقال الرازي ومثله البروسوي: (لا) غير مزيدة و (منعك) مجاز عن (دعاك) والمعنى ما دعاك إلى ترك اتباعي.

وقال الآلوسي: قال علي بن عيسى: إن (لا) ليست زائدة والمعنى ما حملك على عدم الاتباع؟ فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مُقابله. أقول: ولعل تضمين (منع) معنى (أغرى) ألصق بالمعنى وأدنى للمراد فالمنع عن الشيء إغراء به. أي ما أغراك يا هارون بعدم اتباع أمري حين رأيتهم ضلوا يستنكر عليه مخالفته في تنفيذ أمره ويؤنبه على تركهم يعبدون العجل ولم يتدخل في إبطاله. لم جاء التعبير إذاً بالمنع بدل الحداء والإغراء؟ ظاهر الأمر أنه س امتنع عن اتباع أخيه وامتثال أمره، بدليل السؤال الموجه إليه: أفعصيت أمري؟!. لكن هارون - عليه السلام - لم يمتنع في الحقيقة عن اتباع أخيه، وإنما حرصه على وحدة الصف فلا ينشعب أو ينصدع، وعلى جمع الكلمة فلا تتفرق وتذهب ريحهم، هو الذي أغراه ودفعه إلى ذلك الموقف. هارون عليه السلام إذاً خشي أن يعالج الأمر بالعنف فيتفرق بنو إسرائيل شِيعا: منهم من يعبد العجل ومنهم من يتبع موسى عليه السلام. فيكون قد أحدث فيهم شرخا وخرج عن الطاعة، فوحدة الصف هي التي أغرته بهذا الموقف. فالحمل على التضمين منجاة من آفة الزيادة، لمن توهمه منها أو أرابه فيها، ومن زعم المجاز، فلا قرينة له فيه. ومن حكم بزيادتها فقد زهد بقيمتها أو أعرض عن تدبرها. ومن قال مؤكدة فماذا تؤكد؟ كتاب أحكمت آياته فلا مناص من التدسي إلى دفين توارى تحت نظم مفرداته لفهم معانيه والكشف عن مقاصده. * * *

(والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)

قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ). المكر: صرف الغير عقا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود: وذلك أن يتحرى فعلا جميلا، قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ومكر مذموم: وهو أن يصرف الغير عما يريده من الخير بحيلة أو يتحرى فعلا قبيحا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). ذكر ذلك الراغب الأصفهاني. وذكر أبو حيان والزمخشري والجمل: (مكر) لازم. والسيئات: نعت لمصدر محذوف أي المكرات السيئات أو ضمن يمكرون معنى يكسبون فنصب السيئات " مفعولا به ". وجوز الآلوسي أن يكون السيئات مفعولا على تضمين (يقصدون أو يكسبون). أقول: مكر: فعل لازم عدَّاه الحكيم سبحانه توصيلا إلى إدراك أنحائه ومراميه، وسياق الآيات يشي بتضمين معنى (يحيكون). إن الذين يدبرون السيئات يحيكون خيوطها طلبا للعزة الكاذبة والغلبة الموهومة، فإن مكرهم وتدبيرهم وحياكتهم سوف تنتهي إلى بوار وخسران، فليس طريق العزة صناعةَ سيئاتٍ، لإيذاء المؤمنين والمؤمنات. ولا عنادا يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل، ولا طغيانا فاجراً يضرب في عتو وجبروت يحارب اللَّه ورسوله، ولا اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذلّ للشهوة، ولا قوة عمياء تحقق عزة موهومة، لأن نهايته إلى بوار وإلى العذاب الشديد.

يوم كانت السيادة لقريش على سائر القبائل قال بعض مَن آمن (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) فجاء الجواب: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) وهذه الحقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين، وتعديل النهج والسلوك، وتعديل الوسائل والمناهج. ويكفي أن تستقر في القلب لتقف بك أمام الدنيا كلها عزيزا ثابتا لا تحني رأسك لمخلوق أو وضع أو حُكم أو دولة أو سلطان. لماذا؟ لأن العزة لله ولا يفوز بها أحد بغير رضاه. وأسباب العزة ووسائلها: العمل الطيب، والعمل الصالح فيُكرم صاحبهما ويُمنح العزة والاستعلاء. ولولا التضمين لما انجلت هذه المحاسن وانكشفت شواردها، إذ لو جاء الفعل لازما لصرفنا عن النظر إليه. وأما ما ذهب إليه المفسرون في تضمين الفعل معنى كسب في قوله تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ). فيومئ إلى الحالة النفسية التي يتلبس بها مرتكب السيئة. من لذته بها، يحيا معها ولها، يتنفس في جوها وتملأ عليه عالمه النفسي، أما المكر فالفرق لائح بين من يدبر المؤامرات لإيذاء المسلمين والمسلمات، وبين مرتكب الموبقات يَلتذها ويحيا لها ويظنها مكسبة. فالأول أخطر بكثير لأن حياكته على سواه، ومكسبة الثاني على نفسه لا يؤذي غيره، فمن لحظ هذا الفرق الدقيق بقلبه وأدرك هذا النظم البديع بلبه، عرف أن المكر هنا متضمن حياكة مؤامرات لا كسبَ لذةِ موبقات، وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد. * * *

(قال ما منعك ألا تسجد)

قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ). ذكر الزمخشري: أن (لا) صلة، فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل وتحقيقه. فإن قلت: لم سأله عن المانع وقد علم ما منعه؟ قلت: للتوبيخ. وقال أبو حيان: الظاهر أن (لا) زائدة تفيد التوكيد والتحقيق. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك، يدل على زيادتها قوله تعمالى: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ). وسقوطها في هذا دليل على زيادتها. وقيل: يقدر محذوف: ما منعك فأحوجك ألا تسجد. وقيل: ما منعك مَن أمرك، ومَن أمرك ألا تسجد. وقال القرطبي: قيل: (لا) زائدة، فإن المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد أو من دعاك إلى ألا تسجد. وقال الطبري: ما منعك من السجود فأحوجك أو فأخرجك أو فاضطرك إلى ألا تسجد له. أقول: في مشهد مثير واحتفال مَهيب يحشد له الجليل في الملأ الأعلى ملائكته وفيهم إبليس، وتشهده السماوات والأرض، يعلن فيه ميلاد الإنسان ويأمرهم بالسجود له زيادة في تكريمه. ويسجد لهذا المخلوق الجميع ما عدا إبليس إذ جعل لنفسه حقا فيما يرى في تنفيذ ما يتلقاه من الأوامر، فكشف عن طبيعته الشريرة والأصيلة وليست العارضة: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) تصوير يشخص الخلجات النفسية والمعاني العقلية. أما من ادعى زيادتها فمتسرع لم يتحرَّ الكيس

في دعواه ولم يسلك طريق المعرفة بها ليُكشفَ له عنها. ومن قال مؤكدة، فماذا تؤكد ثبوت المنع أم نفيه؟ أو قال للتحقيق، فماذا تحقق؟ ومن ادعى أن المنع مجاز عن الاضطرار، فقد رد عليه السكاكي: بأنه لا قرينة في هذا المجاز، وأنه من باب التضمين ما حملك على ألا تسجد، ولعل تضمين (منع) معنى (حدا) أظهر للمعنى في هذا السياق وأسْير، فما حداك على ألا تسجد، والعلاقة بين المنع والحدو وشيجة فكلاهما فيه حمل النفس على ما تكره من أمر السجود، وإلجاؤها إلى ما يؤدي بها إلى الهلاك في رفضها للأمر - إذ أمرتك - وقسرها وقهرها على طاعة مولاها. فالمنع في الأعراف جاء مصحوبا بظرف (إذ أمرتك) ومعناه: ما حداك على ألا تسجد حين أصدرت أمري إليك؟ فرفْض السجود هو بالتالي رفْض الأوامر. وتقرير حال أوضاع الحروف يوجهنا كيف تسري أحكامها في أحناء الآية فنحمل المعنى على التضمين لننجو من آفة زيادة الحروف. أما المنع في (ص) فليس فيه تضمين. بقي أن أقول: لم جاء التعبير بالمنع بدل الحداء؟ والجواب: لعله في لفظ ما (منعك) يسأله سبحانه عن الموانع وهي بمعناها اللغوي قسرية قهرية لا إرادية. وفي لفظ (ما حداك) يسأله عن الدوافع وهي طوعية إرادية. وفي اختيار الأولى بدل الثانية إيقاع له في الحرج وكشف عن الجريمة في أسلوب ساخر لاذع لأن أحدا لم يمنعه من السجود، وإنما امتنع بملء حريته وبكامل وعْيه، وبتصميم من إرادته. فأي جواب سَيُبَرِّرُ ما وقع فيه، وما أخذ به نفسه؟ لقد قال: أنا خير منه. " فأنا " الإبليسية هي الدافع له على التمرد والباعث له على التأبي عن الطاعة، وهي

(فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم)

السبب في عُتوّه وصلفه وكبريائه فإذا قَالَ تَعَالَى في الحديث الشريف: " الكبرياء ردائي من نازعني فيه قصمته ولا أبالي "، فقد قصمه بسبب منازعته إذ أخرجه فأهبطه. فاختيار (ما منعك) على حميله (ما حداك) فلأنه سُلَّمٌ إلى تحصيل المطلوب من زلات الألسن وما تخفي الصدور. فلو لم يكن تحصيل هذا المعنى إلا في نُبْل اللفظ ونَباوته لكان حجة على تقدمه. أما حذف (لا) في (ص) وإثباتها في (الأعراف) فلأن السؤال عن المنع في (ص) على حقيقته لا تضمين فيه، وجاء الجواب من المولى الجليل أستكبرت أم كنت من العالين؟ أما في (الأعراف) فتضمن سؤال المنع السؤال عن الدوافع فلا بد من (لا) النافية وإلا يفسد المعنى. جاء الحرف (لا) ليشارف معنى (الحداء) وقد تزاحمت الأغراض على جهاته، تفانيه لنَباوة محله فيزداد بها سفورا، وببديع نظمها تجليا وظهورا. * * * قَال تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). قال البيضاوي: أماته اللَّه مائة عام: ألبثه ميتا مائة عام أو أماته اللَّه فلبث ميتا مائة عام، ثم بعثه: ثم أحياه. وقال أبو السعود: أماته: ألبثه على الموت.

وذكر الآلوسي: فألبثه مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين، لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا يتعدى. أقول: صورة الخُواء (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) تنعكس في حس الشاك في أمر البعث فيسأل (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) ويأتيه الجواب في تجربة حسية: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) ويُسأل بعدها (كَمْ لَبِثْتَ) ويجيب: (يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). جواب محدود الإدراك لتجربة محدودة الوسائل. إن حقيقة الموت والحياة يُعنى بها القرآن أشدَّ العناية لتتعلق ضمائر المؤمنين باللَّه مباشرة. وهذا ما انتهى إليه السائل (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). إنه جواب الفطرة: تترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب. فالتضمين يكشف عن السر المكنون في دبيب الحياة في مشهد البلى والخواء في قوله: فأماته ... ثم بعثه. ألبثه ميتا ... ثم أحياه بتجرية عملية بعيدة عن المنطق العقلي والأسلوب الجدلي. فللَّه عاقبة التضمين! يجعل الفعل اللازم متعديا والمتعدي لازما، يغدو من البيان في حلل ويروح في حلل، دليله غير مدفوع، يحتاج إلى تأمل، ليُزيل القبْس، ويهدي السبيل، فارفقْ به يُمطك غاربُه، وإن تورطته أوعرتْ بك سُبُلُه. * * *

(هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221)

قَالَ تَعَالَى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ). ذكر أبو حيان: أن الجملة الاستفهامية في موضع نصب لـ (أُنَبِّئُكُمْ)، لأنه معلق بمعنى: أعلمكم، سدت مسد المفعول الثاني والثالث. الأصل في نبأ وأنبأ أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما وإلى ثان بحرف الجر، ويجوز حذفه فنقول: نبأت به ونبأنيه، فإذا ضمنت معنى (أعلم) تعدت إلى ثلاثة مفاعيل. ومجمل القول: يختص التضمين عن غيره من المعديات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة. عُدي أخبر وخبَّر وحدَّث ونبَّأ إلى ثلاثة، لما ضمن معنى أعلم وأرى، بعدما كان متعديا إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالجار نحو (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ). أقول: تضمن (نبَّأ) معنى (أعلم). إنما جيء به لغرض: لقد كان في العرب كهان يتنبؤون، يزعمون أن الجن تخبرهم، وفي الناس من يركن إلى نبوءاتهم ويصدقهم، يقولون عن القرآن شعر وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شاعر، يحارون في وصف ما أنزل وقد هز مشاعرهم وغلب على قلوبهم فلم يروا له نظيرا. فاللَّه ينبئهم بما أرابهم فيه كهنتهم، بل يعلمهم حقيقة هذا الدين وأنه يدعو إلى عقيدة ذات منهج، فلا يعيش على رؤى ولا يسير وراء أوهام، ولا يقنع بأحلام، ولا يتبع الهوى. فالغرض من التضمين هو توثيق النبأ، فما كل نبأ صحيح أما العلم فلا يكون إلا عن يقين. أرأيت لم اختار العليم الحكيم لفظ (نبأ) بدلا من (أعلم)؟!. إنه التضمين يكشف عن أسرار التنزيل، وإنها اللغة في إعجازها البياني،

(وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (20)

إن خفيت عنا اليوم فقد كانت بادية الصفحة للسلف إذ كانوا ألطف أذهانا وأسرع خواطر وأجرأ جنانا، وأذهب في الأنس بها والتورد لها. والأمر في هذا أظهر، وشواهده أسْير وأكثر. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ). قال الزمخشري: تنبت وفيها الدهن، وقُرئ تُنبت، وفيها وجهان: أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت وأنشد لزهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل والثاني: أن مفعوله محذوف: أي تُنبت زيتونها وفيه الزيت، وقُرىْ: تُنبَت بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم تُنبإ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو (تُنْبِت) وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر (تَنْبُت) وقرأ ابن مسعود: (تخرج الدهن وصبغٍ للآكلين) وغيره: تخرج بالدهن أي تثمر بالدهن وعن بعضهم: تنبت بالدهان. وقال الآلوسي: الباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك: جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من خبر الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها، فإنه الملابس له في الحقيقة. وجَوّزَ أن تكون الباء متعلقة بالفعل مُعدية له كما في قولك: ذهبت بزيد كأنه قيل: تُنبت الدهن بمعنى

تتضمنه وتحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال. وقيل: الباء زائدة كما في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية. قال الخفاجي: ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثانٍ. قال الزركشي: إن الباء زائدة ثم قال: في موقع آخر: واعلم أنه لكون الباء بمعنى الهمزة لا يُجمع بينهما، فإن قلت: كيف جاء تنبت بالدهن، والهمزة في أنبت للنقل؟ قلت: لهم في الانفصال عنه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الباء زائدة، والثاني: أنها باء الحال كأنه قال: تُنبت ثمرها وفيه الدهن. والثالث: أن نبت وأنبت بمعنى. وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: إن الباء مقحمة والمعنى: تُنبت الدهنَ. أقول: لمن تقحم الباء أو جعلها زائدة: لقد استسرفت فيما تجشمت، ولعل تضمين (تُنبت) معنى (تنضح) أقرب للسياق وأحكم، لأن نضح يتعدى بالباء وكان النَّضح يحكي حكاية وصول الزيت إلى ثمرة الزيتون يرشح به نَسْغها شيئاً بعد شيء، تختزنه في ثمراتها حتى تمتلئ به ثم يُعصر فيكون منه الدهن (الزيت) وإذا كان حمل الظاهر (تنبت) على المحتمل

(إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16)

(تنضح) لابد له من دليل يعضده ليجعله راجحا، فتعدية نضح بالباء قرينة مرجحة له، والسياق بعد هذا يشي بالنماء والعطاء على هَينة وفي بطءٍ على المدى، كما تُرشح الأم ولدها باللبن. وجمع التضمين المعنيين ليفيدهما جميعا: الإنبات والنضح. أما أن نجعل الباء زائدة فمسألة مَعيفة ومذهب على علاته ذميم، والتورد فيه وعْر المسلك ثم هو تضييع للحكمة من وجودها، فما جاءت إلا لتُكسب المعنى نُبْلا وتظهر في النظم مزية، فمن غفل عن سر بيانها وحسن صنعتها فليُمسكْ عن القول بزيادتها، فالبيان المعجز غني عن الزيادة. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا). الانتباذ: الاعتزال والانفراد، وقال البيضاوي: انتبذت متضمن معنى (أتت) وقال البروسوي: مكانا مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان. وقال أبو حيان: انتبذت: افتعل من نبذ ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت. وانتصب مكانا على الظرف أي في مكان. وقال السدي: لتَطهُر من حيضها. وقال غيره: لتتعبد. وقال الجمل: مكانا منصوب على الظرفية، ويصح أن يكون مفعولا به على تضمين انتبذت معنى أتت وفي السمين ما يؤيده: انتبذت مكانا:

اتخذته بمعزل بعيدا عن القوم. ووافقه أبو السعود: مكانا مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. أي انفردت منهم وأتت مكانا شرقيا. وذكر الرازي: انتبذت: تنحَّت يقال: جلس نبذة من الناس أي ناحية و (انتبذت) معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية المشرق. وذكر ابن عباس: انتبذت: انفردت وتنحَّت. أقول: النبذ: الرمي إلى بعيد أو الإلقاء أو الطرح استهانة به وإظهارا للاستغناء عنه قَالَ تَعَالَى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) وانتبذ - على وزن افتعل - من معاني هذه الصيغة الاتخاذ أو الطلب، فمريم اتخذت مرمى بعيدا في شرقي أهلها أو طلبت معزلا (شعورا بمهانتها) منبوذا انتحت فيه في الشرق من أهلها. وقلت (مرمى) لأن النبذ: الرمي إلى بعيد فقد تضمن (انتبذت) معنى (اعتزلت) أي تنحت. والذي أنَّسني بهذا المعنى وسوغ هذا التضمين صيغة انتبذت - افتعل: اعتزل - كما قلت، وما أدري من أين جاء المفسرون بتضمين الانتباذ معنى (المجيء). ويبقى التضمين كنزا من كنوز هذه اللغة نخلد إليه حين لا يثبت عند النظر سواه. فنأوي إلى سداد ونؤول إلى ثقة. * * *

(وإذ نتقنا الجبل فوقهم)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ). ذكر أبو حيان والعكبري: نتقنا: جذبنا بشدة، وفوقهم حال عاملها محذوف تقديره: نتقنا الجبل كائنا فوقه. وقال الحوفي وأبو البقاء: فوقهم ظرف لـ نتقنا، ولا يمكن ذلك إلا إن ضُمِّن نتقنا معنى فعل يمكن أن يعمل في (فوقهم) أي: رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ). وقال الزمخشري: نتقناه: قلعناه ورفعناه، ومنه نتق السقاء إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. وذكر الجمل: أن فوقهم فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بمحذوف حال من الجبل، والثاني: أنه ظرف لـ نتقنا قاله الحوفي وأبو البقاء ولا يمكن ذلك إلا أن يُضمن معنى فعل يمكن أن يعمل في فوقهم أي: رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) والنتق: قلع الشيء من موضعه والرمي به، وقيل: النتق: الجذب بشدة. وقال الفراء: هو الرفع، وقال ابن قتيبة: هو الزعزعة وقد عرفت أن فوقهم يجوز أن يكون منصوبا بنتق لأنه بمعنى رفع. أ. هـ. وفي لسان العرب: النتق: الزعزعة والهز والجذب والنفض. ونتق الشيء جذبه واقتلعه وقال الفراء: نتقنا أي رفعنا أقول: تضمين (نتق) هنا على اختلاف طعومه وألوانه وأشكاله من الرفع

(إلا آل لوط نجيناهم بسحر (34)

والجذب والقلع والزعزعة والنفض لدى المفسرين جعل اللازم متعديا ليكون معجزة في بني إسرائيل وآية للأمم، تشهد على انطماس نور البصيرة لهذه الملة - يهود - في نقض العهود ورد المواثيق. إنه الميثاق أخذه سبحانه على بني إسرائيل في ظرف لا يمكن أن يَنسَوْه أبدا. رفع الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، فأعطوه موثقهم في ظل هذه المعجزة المهولة خشية أن يسقط فوقهم. لكن يهود هي اليهود، نقضت الميثاق ونسيت العهد ولَجَّت في المعصية فحق عليها القول ... وما ربنا بظلام للعبيد. إنه التضمين وإنه البدر المنير يكشف الغامض ويُنير السبيل، ناهيك به ولا معدل بك عنه. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ). أورد الزركشي والسيوطي وابن هشام: الباء بمعنى (في) وكذلك الموزعي وذكر قول الأعشى: * ما بكاء الكبير بالأطلال * ذكر أبو السعود: بسحر: أي في سحر أي ملتبسين بسحر .. وقال الجمل: الباء بمعنى في أو هي للملابسة أي حال كونهم ملتبسين بسحر.

وحكى الآلوسي: بسحر: أي في سحر ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين. أقول: من جعل الباء بمعنى (في) أو جعلها للملابسة أو علقها بحال محذوفة فقد ركب السهل وآثر الراحة. ولعل تضمين (نجى) معنى (خلُص أو تدارك) والمتعدي بالباء نتشرت به إلى المراد بالإيماء والتانيس لنستخرج الخبيء من أغراضه، فاللَّه سبحانه أخلص نبيه لوطا وآله بخالصة النجاة من قومه، بحفظه، ولطفه، وإحسانه. وتداركه بعنايته وبرّه ورأفته في أشرف الأوقات وأطيب الساعات أخلصناهم بسحر. والعلاقة بين المضمّن والمضمّن فيه واضحة كما أرشد إليها النظر، فالنجاة قد تكون من غير نشوب أذى، فأما هنا فكانت بعد تسورهم جدار بيته والدخول عليه، ولولا استئذان جبريل ربه فبسط جناحيه فطمس أعينهم لأصابه منهم ما أصابه، ولكن اللَّه أخلصه بخالصة ... وتداركه بألطاف ... أرأيت إلى هذه الباء كيف منحت فعلها (خلُص) بصيرة تكشف الغامض وتُبصر الخفي مما نشِب به، ثم سلم منه؟! وفيها من لطف المأخذ ما تعجب منه وتأنق له. إنه التضمين يضُم عن النظم جناحاه ليكشفَ المستور، ويعرِّيَ الغامض، وينيرَ السبيل. * * *

(ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (71)

قَالَ تَعَالَى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ). قال أبو حيان: ضُمِّن معنى (أخرجناه) بنجاتنا إلى الأرض. ولذلك تعدى بـ (إلى)، ويحتمل أن يكون (إلى) متعلق بمحذوف أي منتهياً إلى الأرض فيكون في موضع الحال ولا تضمين في نجيناه. وقال البروسوي: مهاجرا إلى الأرض. وذكر الآلوسي: أنه قد ضمن نجيناه معنى أخرجناه فلذا عدي بـ (إلى) في قوله إلى الأرض التي باركنا فيها. وقيل: هي متعلقة بمحذوف وقع حالا أي منتهياً إلى الأرض فلا تضمين. وقيل: الصحيح الأول. أقول: هذا إبرهيم عليه السلام ينجيه ربه مع ابن أخيه لوط من مكيدة تدبر له وذهب المفسرون في (إلى) مذاهب فمنهم من علقها مع مجرورها بحال محذوفة (منتهياً أو مهاجرا) ومنهم من علقها بفعل نجيناه مضمنا معنى أخرجناه، وأخرجناه لفظ فيه استيحاش، يقع في النفس منه شيء، فقد يكون الإخراج مشوكاً أوعرت به السبل، أو فيه من استكراه الحال ما يؤدي. ولعل في تضمين (أسلمناه) والمتعدي بـ (إلى) ما يهب الأنس به ويصرف الوحشة عنه فهو إلى السياق أميل، وبه أعنى حيث أسلمه مولاه إلى الأرض الطيبة إلى الشام، سليما معافى محفوظا. ولهذا جاء التعبير القرآني في منتهى اللطف والإيناس حين قال عز من قائل: ونجيناه. والنجاة يسرح فيها الطرف على مد النظر تجوب الآفاق بكثرة المشاهد وتعدد الصور من المعجزات والآيات.

(تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا)

وما كنا بحاجة إلى البحث عن بديل لـ نجيناه لولا أن تسلط عليه حرف ليس له به صلة نسب ولا سابق معرفة. ولو سألتني: لم عداه العليم الخبير بـ (إلى) لقلت: إن وراءها ملحظاً شريفاً، فقد تكون النجاة بغير خروجه من العراق أو بإهلاك قومه أو بصرف مكيدتهم عنه أو بملك يحمله على أجنحته أو ... أو فجاء الحرف (إلى) جوابا عن كل خاطر يخطر على بال بأن النجاة كانت: أسلمناه إلى أرض طيبة مباركة إلى الشام برعاية منا وحفظ، لم يمسسه سوء. إنه التضمين يقف بنا على جواهر التفسير فيجري مجرى السَّحرِ لَطَفَاً وإن جلا عنه أكثر من ترى وَجَفَا. * * * قَالَ تَعَالَى: (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا). ذكر الزمخشري: أن البيوت منتصب على الحال. وذكر أبو حيان: وقيل: مفعول ثان على تضمين وتنحتون معنى تتخذون وقيل: مفعول بـ تنحتون والجبال نصب على إسقاط (مِنْ) أي من الجبال. وذكر الجمل: وفي السمين يجوز أن تنصب الجبال على إسقاط الخافض أي من الجبال كقوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) فيكون بيوتا مفعوله. ويجوز أن يضمن تنحتون معنى ما يتعدى لاثنين أي وتتخذون الجبال

بيوتا بالنحت أو تصيرونها بيوتا بالنحت. ويجوز أن تكون جبالا هو المفعول به وبيوتا حال مقدرة كقولك: خيط هذا الثوب جبة. (وبيوتا) وإن لم يكن مشتقا فإنه في معنى المشتق أي مسكونة. وذكر أبو السعود: وقيل انتصاب الجبال على إسقاط الجار أي من الجبال وانتصاب بيوتا على المفعولية. وذكر الآلوسي: انتصاب الجبال بنزع الخافض أي من الجبال ونصب بيوتا على المفعولية وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية. أقول: من زعم أن البيوت منصوب على الحال نقول له: الحال فضلة يستغنى عنه وعندها لا يتم معنى الآية، ومن ضمن تنحتون معنى تتخذون نقول له: لا داعي للتكرار ويغني عنه العطف بالواو، تتخذون من سهولها قصورا والجبال بيوتا. ولهذا تراني أفزع إلى التضمين لأستضيء وبه وأستعين، لِتعجبَ من أغراضٍ عدل إليها ومن أجلها. لقد تضمن (النحت) معنى (الكسوة) والمتعدي لمفعولين. وليست البيوت المنحوتة في الصخور على سفوح الجبال إلا كسوة للجبال تجملها، وليس نحت الجبال إلا إلباسا لها بزينةِ البيوت والانتفاع منها. أفرأيت كيف كسا التضمين (النحتَ) حُلةً بهية في مسارح النظر! ولو سأل سائل: لم استبدل تنحتون بـ تكسون؟ أقول: إنما ذكر سبحانه الأصل والسبب الذي قد يخفى علينا لبعده في الزمان عنا، فالنحت هو وسيلة إنشائها وهو السبب الذي له ومن أجله تمت صناعة البيوت وعمارتها. فتأملْه

(إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان)

لتأنسَ به وليكونَ لك حصة في تحصيله. ولو قال: تكسون الجبال بيوتا لما عرفنا خامتها ومادتها التي صُنعت منها وهي النحت. إنه التضمين جعل نحت الجبال كسوة لها في إيجازه. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ). ذكر الزجاجي: اللام معناها (إلى) وكذلك الزركشي والموزعي. وقال الزمخشري: مررت بهادِ يهدي للإسلام وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك. وقال الآلوسي وأبو السعود: المراد بالنداء الدعاء. أقول: ولعله يأتي لازما ومتعديا ففي اللازم يتضمن معنى (يدعو ويرشد) كما في قوله تعالى: (يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) فنداؤه مختص بالدعوة والإرشاد وفي قوله (نُودِيَ لِلصَّلَاةِ): أي دُعِي. وفي المتعدي يتضمن معنى (كلم): قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ). أو معنى (حاسب): قل تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا).

(وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209)

أو معنى (استغاث): قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ... ). فإذا شارفنا أحد هذه المعاني في مساقه أو تلوح لنا بعضها على وجهٍ من التأويل عند أهل النظر أثبتناه لنُبل قدره. ولعل إيثار (ينادي) على (يدعو) لينسجم مع السياق، فلفظ سمعنا يستدعي (ينادي) أما (يدعو) فقد تكون الدعوة عن طريق الكتب أو الصحف أو النشرات. وهكذا اللفظ في يد القدرة البيانية المعجزة، تديره على طريقة وتنتزعه في أسلوب لتُظهره للحياة على أدق وأجمل ما يكون. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ). قال أبو السعود: منذرون قيل: مذكرون. وقال الشوكاني: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال الطبري: إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا. أقول: لم يتعرض أحد من المفسرين لهذه اللام فيما وقفت عليه. وما قاله الشوكاني: إلا بعد الإنذار إليهم فالإنذار لا يتعدى بـ (إلى). وما ذكره أبو السعود من تضمين منذورن لها معنى: مذكرون، فهذا لا يتعدى باللام

(أنذر) يتعدى بنفسه وبالباء، فإذا تعدى باللام فقد تضمنت النِّذارة معنى النصح والتبيين، والمتعدي باللام وبذلك يجمع التضمين معنى النِّذارة مع النصيحة والبيان وهل يكون إنذار إلا ويسبقه بيان؟. ثم جاءت الذكرى بعد مصارع المنذرين. فالرسل تذكر بما سبق لها من بيان وتبيين، وإبلاغ وتحذير. فالإنذار وهو مقدمة الهلاك، شاءت رحمته ألا يهلك قرية حتى يبعث فيها رسولا. فالرسل ذكرى تنبه الغافلين وتوقظ النائمين، وما كنا ظالمين حين نوقع العذاب ونهلكهم أجمعين، لأنهم انحرفوا عن الفطرة، أُنذروا .... فأنى يبصرون! فما جاءت اللام مع النِّذراة إلا كالمنبهة على هذا المعنى الشريف (النصح) لتحصيله والإبانة عنه وتصويره. قال تعالى: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي أعذرت إليكم في النصيحة والتحذير. فكما أن النذارة تخويف وتحذير، كذلك النصيحة هنا إبلاغ وتبيين ومن ورائه التحذير الذي لا وَعْيَ عنه. فالمضمّن فيه أخذ معنى من معاني صاحبه المضمّن. والفضل في تصوير معنى البيان في الإنذار وتأليقه كان لهذه اللام حين أمست مشتقا لا يألفها ولا يأنس بها، ولولا تعديه بها لبقي ما انطوى عليه من النصح دفينا واستولى الخفاء على جملته. * * *

(ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50)

قَالَ تَعَالَى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). قال أبو السعود: فإن تعلُّق كلمة (مِنْ) بالإنذار مع كون صلته الباء بتضمينه معنى [الفرار]. يقال: فرَّ منه أي هرب، وفيه تأكيد لما قبله من الفرار من العقاب إليه تعالى لكن لا بطريق التكرير كما قيل: بل بالنهي عن سببه. أقول: أنذر يتعدى بنفسه وبالباء فحين تعدى بـ (مِن) فقد تضمَّن معنى (النجاة) فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منذر، نِذارته نجاة، والصلة (لكم) متعلقة بمبين والبيان أول سبيل النجاة وأخص أسبابها. وقول رسولنا الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " يعني أن النجاة منه إنما في الفرار إليه وهذا تأكيد لما أومأ إليه أبو السعود وعقد الغرض عليه قَالَ تَعَالَى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) فالرسول صلوات اللَّه عليه مُنج منه أي من عذابه بالتبيين لكل أسباب النجاة .. وهندسة الصوت في التنسيق الفني في القرآن الكريم أن يرد النظم في تقديم ما حقه التأخير ليحدث موجاتٍ صوتية توقع على أوتار القلب ترتيلا وتنغيما لا يحدثه أي ترتيب آخر. ولا يقع في وهم أحد أن يوازيه أو يدانيه في هذا النظم البديع فلو قلت: إني مبين لكم نذير منه، لأحدث اضطرابا في موسيقاه ونشاذا في تنغيمه الصوتي تضطرب معه النفس وتتأذى منه الأذن. فـ (مِنْ) هذه هي التي لوَّحت لنا بغرض النجاة ليستضيء به المنذرون ويتنبهوا على أسبابه. فاحرص على تحصيل أسرار هذه الحروف ليتسع بك التصرف فيها

(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5)

ولتجني منها لطائفها، وتستخرج أغراضها وقد تعددت وجوه إفادتها في مختلف أسيقتها، عَلَتْ باللغة أسمى مراتبها من قوة الفكر وصحة الأداء، مع سمو التعبير وجمال الصورة وهذا وجه من العربية لطيف مغفول عنه، فيه من حُسن الصنعة ما تأنَقُ له. * * * قَالَ تَعَالَى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). قال أبو حيان: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) متعلق بتنزل، و (مِن) للسبب أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. وقال ابن عباس وعكرمة والكلبي: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) متعلق بقوله: (سَلَامٌ هِيَ) أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام. وقال صاحب اللوائح: ولا يجوز أن يكون سلام التي هي المصدر عاملا فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر كما لا تتقدم الصلة على الموصول. أ. هـ وقال العكبري والجمل: (مِنْ) سببية. وقال البروسوي: من أجل كل أمر أو بكل أمر من الخير والبركة كقوله تعالى: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). وذكر الآلوسي: قال أبو حاتم: (مِنْ) بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر، وجعلت الباء للسببية. ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له: ملابستهم للأمر به فكانه قيل: تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة.

وروى الطبري: ومعنى العدول من لام التعليل إلى (مِنْ) أن السائل كأنه يقول: من أين جئتم؟ فيقولون: ما لكم وهذا السؤال ولكن قولوا لأي أمر جئتم. من كل أمر: أي من أجل كل مهم. أقول: الحذاق من أهل الصنعة يرفضون التضمين في الحرف - وانتهى القائلون به إلى أن (مِنْ) تضمَّن معنى الباء أو اللام يعني: السبب أو العلة أو الملابسة وكل هذا تفسير لمعنى الحرف لا أكثر. ويبقى السياق مبهوتا بلا لحظ. أما التضمين في الفعل فيعطي معنى في الملفوظ ومعنى في الملحوظ الُمقدر. ويبقى الحرف على أصله لا شأن له إلا في توجيه فعله. ليلة القدر وإحياءً لذكرى ما اشتملت عليه هذه الليلة في نزول أعظم كتاب على خير الخلق وأشرف الرسل، حضنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على إحيائها في كل عام، فهي وسيلة من وسائل التربية لاستحياء هذه المشاعر الموصولة بهذا الحدث الضخم، والذي أفاض النور على الوجود نور الوحي. ونور الملائكة، ونور آيات اللَّه تتنزل بها الملائكة الكرام تستأذن في النزول لتشارك في حفل تكريم المُنزل والمُنزل عليه، متدرجين فوجاً إثر فوج بين الأرض والملأ الأعلى إلى مطلع الفجر. وقيام هذه الليلة تثبيت لهذه المعاني في نفوس المؤمنين. ولا يُضيء مشاعل هذا المهرجان الكوني العظيم ولا يُحيي معانيه إلا القيام، فابتذالك جوارحك كلها في إعزازه فذاك غاية إكرامك له، وتناهيك في الحفل به لإحياء قلبك، لأن إدراك هذه المعاني ذهنيا لا يكفي في تحريك القلوب وإحياء المشاعر. سلام هي حتى مطلع الفجر ... سلام في الضمير، وسلام في البيت، وسلام في المجتمع، وسلام في العالم أجمع. فإذا غاب السلام انطمست الفرحة، وأنطفا النور، وحل الظلام، واندلعت النيران.

ومن خلال هذه الخطوط العريضة لهذا المشهد العظيم، نذهب إلى تضمين (تتنزل) معنى (تَحْبُر وتبتهج) وكلاهما يتعدى بـ (مِن) فالملائكة والروح تَحْبُر من لطائفَ لا يُحاط بها ولا يُدرك مداها، وتبتهج من كل أمر نزلت به من كتاب اللَّه على رسوله في هذه الليلة المباركة، من أوامرَ ونواهٍ وشرائعَ وأحكامٍ ومواعظَ وآداب في شؤون العباد صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، مُجملها ومُفصلها، أولها وأخرها، لأنه خير كله، وسلام كله، وسرور دائم كله. ولو جاء التعبير: تَخبُر الملائكة من كل أمر لضاع علينا أمر النزول، ولو جاء النزول متعديا بالباء لضاع علينا معنى الابتهاج والفرحة. فحروف المعاني إنما تستمد ضياءها من نور المادة اللغوية المصاحبة لها - الفعل أو مشتقه - فتحتاج إلى مزيد من التأمل، وليست حروفا موحشة مظلمة تتعاور وتتناوب. وكم كنت أعان الخاطر وأفانيه وأتودده على أن يكشف لي معنى (مِن) هذه، حتى تبرَّج النزول بثوب البهجة والسرور ليكشف عن بيان المُنزَّل المعجز، ورِكازِ نظْمه البديع. إنه التضمين ... من ذاق عرف. * * *

(من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله)

قَالَ تَعَالَى: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ). قال الزمخشري: إلى الله: صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة. كأنه قيل؛ من الذين يضيفون أنفسهم إلى اللَّه ينصرونني كما ينصرني. وأورد أبو حيان: أقوالا منها: إلى الله: أي مع الله، قاله السُدّي. وقال الحسن: في السبيل إلى الله. وقال أبو علي الفارسي: إلى الله: أي لله. كقوله: يهدي إلى الحق أي للحق. وقال ابن بحر: معي إلى الله. وقال أبو عبيدة: من أعواني في ذات الله. وذكر كثيرون أن (إلى) بمعنى (مع). أ. هـ. وقال المرادي: و (إلى) في هذا أبلغ من (مع) لأنك لو قلت: من ينصرني مع فلان، لم يدل على أن فلانا وحده ينصرك، ولا بد. بخلاف (إلى) فإن نصرة ما دخلت عليه محققة واقعة مجزوم بها إذ المعنى على التضمين: من يضيف نصرته إلى نصرة فلان. وحكى ابن عصفور عن الكوفيين وحكاه ابن هشام عنهم وعن كثير من البصريين أن (إلى) بمعنى (مع) وورد ذلك في: تأويل مشكل القرآن، والصاحبي، والأزهية، والبرهان، والمغني، والإتقان، ومعاني القرآن للفراء، وشرح اللمحة البدرية، ومنتخب قرة العيون، ومعترك الأقران، ومجمع البيان، والجنى الداني. أقول: ذكر المرادي: من نصيري مع فلان معناه أن فلانا وحده لا ينصرك بخلاف (إلى) فإن نصرة ما دخلت عليه محققة ومجزوم بها. أ. هـ، ولم يلتفت القائلون بتضمين الحروف إلى هذا الفارق الدقيق في توجيه المعنى بين الحرفين فجانَبَهم الصواب، ولو أخذوا بتضمين المشتق لتراجعوا عما قالوه.

وفي تضمين المشتق (نصير) معنى (مساند) والمتعدي بـ (إلى) منتهى الوضوح في المعنى وأكشف عن وجه التأويل وأنصع لجلاء الصورة: إذ لا بد لكل صاحب عقيدة من أنصار يحملون عِبأها ينهضون معه ويحامون عنه وُيبلغون دعوته فيَكِل إلى اللَّه أمره، ويعهد إليه شأنه، وُيسند إليه ظهره. وُيبدي الحواريون استعدادهم لنصرة دين اللَّه ومعاضدة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهم مساندوه إلى الله، واللَّه هو النصير وهو السند والظهير. فيتوجهون إلى ربهم قائلين: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). ومعناه عقدوا بيعة مع اللَّه على اتباع منهجه والاقتداء برسوله وتحقيق هذا المنهج وإيثار الموت في سبيله وهذا خير من حياةِ لا يتحقق في ظلها منهج الله. فشهادتهم خير من حياتهم، والشهادة في سبيل اللَّه أعز ما يحرص عليه المؤمن. فحين سأل من مسانديَّ إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فلْنُرِح أنفسنا من هذا المسلك العسوف الذي ألزمنا فيه النحاة وكثير من المفسرين بجدع الأنف: تضمين الحروف. وهو منكور عند أهل الحذق بالعربية، ليس له وزن ولا يقوم به دليل. * * *

(يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا)

قَالَ تَعَالَى: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا). فقال الزجاج: تضمن (نصر) معنى (عصم)، وقال الزبيدي: نجاه وخلصه. وجُل المفسرين يضمنون (النصر) معنى (المَنعَة). قال الطبري: ينصرنا: يدفع عنا. أقول: (نصر) يتعدى بـ (على) فعداه ربنا هنا بمن. ليتضمن معنى (أجار) فعذابه يتربص بهم في كل لحظة من ليل أو نهار، فجدير بهم أن يُحسوه ويبيتُوا على وجلٍ منه، ويحذروه ويتقوه. وعلى كل مؤمن أن يقف مع الحق أمام كل طاغية يُحذر وينصح مهما كانت النتائج ليُنقذَ نفسَه من غضب الله. إنه منطق الفطرة المؤمنة الجريئة: من ينصرنا؟ هكذا وكأنه واحد منهم حين يجعل نفسه فيهم عسى أن يهتموا بتحذيره، ثم يُخوفهم ويُحذرهم من بأس اللَّه الذي لا يُنجيهم منه ما هم فيه من مُلك وسلطان. ولعل سائلا يسأل: لم جاء التعبير بالنصر بدلا من الإجارة والإنقاذ والعصمة؟ والجواب: في لغة النصر لا بد من جبهتين: مهزوم ومنتصر. وفي لغة العصمة جبهة واحدة قَالَ تَعَالَى: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ). ألا ترى إلى اختلاف الحالين في الضعف والقوة! وهل يسمح الطاغية

(ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة)

لمؤمن آل فرعون وقد جاءه بأسلوب الناصح أن يُلغي وجوده وُيزيل سلطانه ونفوذه لو قال له: من يجيرنا من بأس اللَّه إن جاءنا - إنه إذاً أسلوب حكيم في مخاطبة الطغاة وإنه موضع حرج ومقام زَلْخ لا ترسو فيه قدم، تعجب من لُطف مدخله. إنها الصنعة البيانية تربأ بنا أفرع مشارفها. تولِّد يقظة النفس لتحقق فضائلها. وإنها لرعشات من نور الهداية على لسان مؤمن آل فرعون. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ). ذكر الجمل والآلوسي والأشموني والمرادي والسيوطي والزركشي: الباء بمعنى (في). وقال ابن عباس: ببدر: يوم بدر. أقول: لا يضق صدرك من هذه الباء ولا تسترسل في كذب الوهم فترميها إلى التناوب بل هي على أصلها، وإنما تضمن (نصر) معنى (أعز) والمتعدي بالباء فأسباب العزة حصلت بهذه البقعة على غير ميعاد بين

الفريقين، فالعَدد والعُدد، ونزول الملائكة، وطبيعة الأرض، ووجود الماء، وأمور ... فاللَّه وحده أعزكم ببدر وبيده النصر والهزيمة، واللَّه وحده يملك القوة والسلطان وله القهر والغلبة. ولو قيل: ما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه؟ أقول: العلاقة سببية فالنصر سبب من أسباب العز. ولو سألت: لم عدل سبحانه من (أعز) إلى (نصر)؟ أقول: أسباب العز كثيرة، والمراد: العز الحربي بخاصة وهو النصر ثم يتبعه ما يتبعه. ثم هذه المقابلة بين العز والذل أعزكم ببدر وأنتم أذلة لو تجشمْت كُلفة البحث عنها وتحاملت على نفسك لتناهيت إلى عجز ولم تبلغ حاجتك لولا الباء التي أوقفك عليها التضمين في الفعل. وكم مرّ عليها المفسرون دون استشفاف لمقاصدها السنية في نظمها البديع والتي لا تأتي إلا مع الأناة والصبر ولا تُبدي زينتها إلا لمُدلج، لأنهم وقعوا أسرى التناوب والتعاور والذي يخالف ما عليه أوضاع اللغة ويُنافرها. وبعد ... ليس من شأن الحرف أن يقول: إن الطريق لمظلم، بل يقول: ها أنذا بجوار فعلي مضيء. فاجتهد لتبلغ غور هذه اللغة الشريفة وتعجب من وسيع مذاهبها وتستضيء بأنوارها وتكشف أسرارها. إنه التضمين في لغة القرآن الكريم ... وتحير البلغاء في تفسيرها ... واستسلموا للعجز في تأويلها * * *

(ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). روى الطبري: لانتصر بعقوبة منه لهم وكفاكم ذلك كله. وذكر الزمخشري: (انتصر) تضمن معنى (انتقم) منهم ببعض أسباب الهُلك من خسف أو رجفة أو حاصب أو غرق أو موت جارف ولكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم، وليبلو الكافرين بالمؤمنين بما وجب لهم من العذاب. وروى القرطبي: أي أهلكهم بغير قتال. وذكر الراغب في مفرداته: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) إنما قال: فانتصر ولم يقل: انصر تنبيها أن ما يلحقني يلحقك حيث أني جئتهم بأمرك فإذا نصرتني فقد انتصرت لنفسك. وقال أبو السعود: انتصر منهم: انتقم منهم ببعض أسباب الهلكة والاستئصال. أقول: ولعل الذي ينتصرله السياق: تضمين (انتصر) معنى (انتقم أو أصاب منهم) وأنزل بهم ما شاء من أصناف البلاء والهلك من خسف أو غرق أو رجفة أو ... ولو شاء لأصاب منهم بغير هذه الأسباب جميعا ولكنه سبحانه يبتليكم ويرئيكم فما أشد مضض الابتلاء تستكد فيه وتدأب، فليس أكرم على المؤمن من إعزاز دين اللَّه ونُصرة الحق الذي يحيا به ليُعز وجهه

(ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء)

ويعلي قدره ويجاهد من أجله فاللَّه يريد أن يتم النصر على أيديكم أيها المؤمنون حين تفرُغُ نفوسكم من أعراض الدنيا وزخارفها ولم يعد في قلوبكم ما يشغَلُها عن رضوان الله. وإذا سأل سائل ما العلاقة بين (انتصر) و (أصاب ونقم)؟ فأقول: أليس إهلاك أعداء اللَّه نصراً لأولياء اللَّه وأحبابه؟ والسؤال الآخر: لم فضل (انتصر) على (نقم أو أصاب)؟ والجواب: إن الانتصار يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة وفيه ابتلاء واختبار وفتنة ولا شيء من ذلك في الانتقام والإصابة والاستئصال. ثم إن الانتصار أوقع في النفس من الإصابة وأذهب في الدلالة على القصد. فإن شئت أن تبحث عن أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز في اختيار حروف المعاني فلاطف النظر فيها فأفعالها تحتاج إلى فضل بيان، لتسمحَ لك بكل متأبٍّ عليك. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ). ذكر السيوطي والزركشي: (مِنْ) بمعنى (على). وأضاف أنه يضمن معنى: منعناه منهم بالنصر. قَال تعالى: (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ). وقال المرادي: على القوم: كذا قال الأخفش: والأحسن أن يضمن

الفعل معنى (منعناه بالنصر) من القوم: ضمن (ينصر) معنى (يجير ويمنع) وعُدِّي بـ (مِن) لتضمنه معنى نجيناه بـ نصرناه وعصمناه ومنعناه. وقال أستاذنا سعيد الأفغاني: أجرناه. وذكر أبو حيان والعكبري: عدي نصرناه بـ (مِن) لتضمنه معنى نجيناه بـ نصرنا أو عصمناه ومنعناه. وقال أبو عبيدة: (مِنْ) بمعنى (على). وقال الزمخشري: ونصرناه هو نصر الذي مطاوعه انتصر، وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه: أي اجعلهم منتصرين منه. وروى الآلوسي: نصرناه من: أي حميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه. وقيل: أي نصرناه عليهم ف (مِنْ) بمعنى (على). وقال بعضهم: إن النصر يتعدى بـ (على) و (مِنْ). ففي أساس البلاغة نصره اللَّه تعالى على عدوه ونصره من عدوه وفرق بينهما: بأن المتعدي بـ (على) يدل على مجرد الإعانة والمتعدي بـ (مِن) يدل على استتباع ذلك للانتقام من العدو والانتصار. وروى الجمل: نصرناه ضمن معنى (المنع) فعدي بمن. أقول: الأولى أن تبقى (مِنْ) على أصلها و (نصر) تضمن معنى (نجى وعصم ومنع وأجار). ونجاته من أيديهم نصر كبير له ولدعوته ودينه. ومن سنن الكون التي لا تتخلف أن يغلب الحق باطلهم. وأن يُهلك اللَّه

(وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)

الظالمين ويُنجي رسله وعباده المؤمنين قَالَ تَعَالَى: (فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وما توهمه بعض النحاة من تضمين الحروف فللمعربين آراء على خلاف الصواب. ولهذه اللغة أصول إن خفيت عن البعض فقد تنكشف لآخرين من ذوي التحصيل على وجه تقبله دواعي النظر وكما قال سيبويه: فما خفي عنا فلا تخفَّ إلى نقضه بل نتهم نظرنا فيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى). ذكر الزركشي وابن هشام والهروي والأشموني والموزعي والرماني: (عن) بمعنى (الباء). وقال الزمخشري: وليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه. وذكر الجمل: (عن) على بابها متعلق بـ ينطق مع نوع تضمين أي: وما يصدر نطقه عن هوى نفسه. وذكر القرطبي: قال قتادة: وما ينطق عن هواه، وقيل: عن الهوى أي بالهوى، قاله أبو عبيدة كقوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) أي عنه. قال النحاس؛ قول قتادة أوْلى وتكون (عن) على بابها أي ما يخرج نطقه عن رأيه وإنما هو بوحي من الله. وحكى الآلوسي: والنطق مضمّن معنى (الصدور) فعدي بـ (عَنْ) وقيل: هي بمعنى الباء وليس بذلك.

أقول: النطق هو الكلام وهو لا يتعدى بـ (عَنْ) وتضمين (عن) معنى الباء ليس بشيء وتضمين (نطق) معنى (صدر) كما جاء عند أغلب المفسرين لا يفي بالحاجة، فلا نقول صدر عن الهوى بل لا بد من ضم صدر إلى نطق والتأويل مستكره والأصل في التضمين: اللجوء إلى المستخف، والعدول عن المستثقل، فتضمين (نطق) معنى (أفصح) أخف وألطف وهو يتعدى بـ (عَنْ)، ففي اللسان: أفصح عن الشيء إذا كشفه وبتنه. والإفصاح أخص من النطق لأنه لا يكون إلا مع البيان ووضوح الدلالة. وما كان تعدّي نطق بـ (عَنْ) إلا لتخصيص العموم، فالنطق أعم وأسير قال تعالى: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) والإفصاح أخص وأبين في الدلالة على المراد قَالَ تَعَالَى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) فجمع التضمين النطق مع الإفصاح حين تعدى بغير حرفه تَحفِّيا بالمعنى وتوصلاً إلى إدراك المطلب. ووجه آخر في صرف المعنى يحتمله السياق: عُدِّي نطق بـ عن حملا على سكت. والعرب قد تحمل الشيء على نقيضه كما تحمله على نظيره فالأصل: وما ينطق بالهوى، فإذا لم ينطق بهواه فقد سكت وإذا سكت عن الهوى فقد نطق بالحق فيما يُبلِّغ عن مولاه، وسكت عن كل وهم باطل. إنه التضمين، وإنه غَوْر بطين، يحتاج مجتاحه إلى فقاهة في الصنعة ودُربة في وجوه التأويل. هاهو صلوات اللَّه عليه في الأفق الوضئ المرفرف بأجنحة النور في الملأ العلوي فهل يُفصح عن هوى نفس؟ إنما يفصح عن الحق وقوله الحق لأنه يتلقى من الحق.

(وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي)

كُشفت عنه الحجب، يسمع ويرى ويحفظ ما وعى عن تبُّتت وروْية ويقين، فـ (مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ). * * * قَالَ تَعَالَى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ذكر السيوطي: (مِنْ) بمعنى (الباء) وكذلك ابن هشام والزركشي. وذكر أبو حيان: قال السدي وقتادة: المعنى يُسارقون النظر لما كانوا فيه من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين وإنما ينظرون من بعضها فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدرا أي من نظر خفي. ويجوز أن يكون (مِنْ) بمعنى (الباء). وروى القرطبي: وقال يونس: (مِنْ) بمعنى (الباء) أي ينظرون بطرف خفي من الذل والخوف. وذكر الآلوسي: وقال ابن عباس: خفي: ذليل، وقيل: يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك نظر من طرف خفي وهو تأويل متكلف. وروى ابن مالك في التسهيل عن الأخفش أن يونس قال: إنها بمعنى الباء.

(صراط الذين أنعمت عليهم)

أقول: ولعل تضمين (نظر) معنى (غضَّ) المتعدي بـ (مِن) يكشف لنا عن سر استبدال الحرف، ويصرفنا عن القول بالتعاور والتناوب، ويصور لنا ذلهم يوم العرض فطرفهم كسير، مشفقون من ذل الموقف، غضيض طرفهم، خاشعون من الذل، مطرقون من الخوف مع اليأس مما ينتظرهم من ألوان العذاب الأليم ومن سوء المصير. كانوا هم الطغاة البغاة، فتهاوت كبرياؤهم، وانهارت قواهم من رؤية جهنم، خاشعين لا من حياء وخجل بل من ذلة وهوان. فـ (مِنْ) هذه هي التي صرفت النظر من معنى الحياء: ينظرون بطرف خفي، إلى الغضاضة، معنى الذل والهوان (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) يفضون صورة شاخصة قميئة، توحي باليأس والانهيار مع التطلع إلى أي بارقةٍ للخلاص، ساعةً تلاشى عندها الزمن كشف التضمين عن قباحتها في الطرف الغضيض الذليل الكسير والنظر الحسير. * * * قَالَ تَعَالَى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). قال أبو حيان: تضمَّن (أنعم) معنى (التفضيل). لأن الأصل أن يصل إلى المفعول بنفسه، وأنعمت عينَه: أي سررتها. وأنعم عليه: بالغ في التفضل عليه والهمزة في (أنعم) تجعل الشيء مصاحبا لما صيغ منه إلا أنه

ضمن معنى التفضل فعُدِّي بـ (على) وأصله التعدية بنفسه. أنعمته أي جعلته صاحب نعمة وهذه أحد معاني (أفعل). أقول: الله المتفضل على عباده، وهل تصدر النعم إلا عن صاحب فضل؟ ولا فضل أعظم من الهداية إلى الصراط المستقيم، ولا نعمة أسمى من نعمة هذا الدين الحنيف ترتفع فوق السحب. فمن شملتهم لم تبق نعمة بعدها إلا أصابتهم، وكانت معلاة لهم شاهدة بفضلهم. كفراشة تتواثب على النوَّار في روضة مزهرة. اهدنا معرفة الطريق الموصلة إليك مع الاستقامة عليها، فهذه الهداية ضمان السعادة وصراط المهتدين الواصلين. و (على) في جوارها للإنعام ومؤانستها له، يتعدى بها ولا يستغنى عنها، فمنها بدتْ محاسنه وحسرت عن وجه نعمته وفضله تملأ الطرف، وتغني عن الوصف. الفعل (أنعم) إذاً يتعدى بـ (على) كما جاء في قوله سبحانه: (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) وفي قوله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وفي قوله سبحانه: (قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) وفي قوله سبحانه: (أُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) وفي قوله سبحانه: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) وقوله سبحانه: (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) وغيرها كثير. وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أحب أهلي إلي من قد أنعم اللَّه عليه وأنعمتُ عليه أسامة بن زيد " وفي قوله صلوات اللَّه عليه: " ما أنعم اللَّه على

(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8)

عبد نعمة ... " وكثير غيره. فلا تضمين في الفعل إذاً لأنه يتعدى بنفسه كما يتعدى بـ (على). واللَّه تعالى أعلم. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). قال الزمخشري: ما نقموا منهم: ما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان. ومثله قال الجمل والآلوسي والبيضاوي وأبو حيان وأبو السعود والرازي والشوكاني و ... أقول: ليست النقمة مشاعر نفسية، تقف عند حدود العيب والإنكار كما ذكر الزمخشري والمفسرون، ولكن (النقمة) تضمَّنت معنى (المصيبة) والمتعدية بمن: أصابت منهم بإلقائهم في الأخدود وإحراقهم في النار، قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين فَتي سِني فِعلة تتقزّز النفس من شناعتها، ومشهد يملأ النفس بشحنة من الغضب على الفاعلين الملعونين. أما صورة المؤمنين فتملأ القلب بروعة الإيمان

(قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله)

المستعلي على الجسد، والعقيدة المتصرة على الحياة. كم كانت الخسارة فادحة لو حَرَص المؤمنون على حياتهم بلا عقيدة! كم كانت البشرية تنحظ لو سيطر الطغاة على الروح! لقد سمت عقيدتهم وهم يجدون مس النار في أجسادهم إلى المستوى الذي يُشرف أجيالهم على مر العصور. وكان الملائكة تطمع في سجدةِ تكريم لهم وإعزاز وإكبار، كما كانت لأبيهم يوم خُلق. فلولا (من) هذه لما انكشف لنا المستور من خسة الناقمين ولؤمهم، وما أصابوا من المؤمنين إلا لإيمانهم بالله، ولم يقل آمنوا بل قال: (يؤمنوا)، ليفيد الحدوث والتجدد على إيمانهم، فالطغاة يزاولون الجريمة ويشاهدون أطوار التعذيب في لذة ومتاع. ولو تراجع المؤمنون عن إيمانهم لما أوقعوا عليهم العذاب وأصابوا منهم ما أصابوه بالكيّ والشي. فهل نذهب بعد هذا إلى تضمين النقمة معنى العيب والإنكار؟! * * * قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ). الفصيحة حكاها ثعلب: نقم ينقم. والأخرى حكاها الكسائي: نقِم ينقَم. وذكر الزمخشري: وما تنقمون: كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإسلام.

وتساءل أبو حيان: هل تعيبون علينا أو تنكرون وتعدون ذنبا أو نقيصة ما لا يُنكر ولا يُعاب، وهو الإيمان بالكتب المنزلة، وفسّر (تنقمون) بتسخطون وتتكرّهون. وقال القرطبي: تنقمون: معناها؛ تسخطون، وقيل: تكرهون. وقيل: تُنكرون. يقال: نقمت على الرجل: عتبت عليه، ونقمته إذا كرهته. ويسأل الآلوسي: هل تنكرون وتعيبون منا؟. وقال العكبري؛ تنقمون منا: تكرهون منا. وأخلص إلى القول: سؤال تقريري لكشف العداوة يواجَه به أهل الكتاب، إنها مواجهة مخجلة، ناصبوا المسلمين فيها العِداء ورصدوا لهم، وحاربوهم. ثم هو بعد هذا سؤال استنكاري يستنكره المسلم الغيور لينفر من موالاتهم. حرب مشبوبة منذ ألف وأربعمائة عام، لم يخب أُوارها منذ أن قام للمسلمين كيان وأصبح لهم وجود. فتضمين (نقم) معنى (أصاب) أسد من أنكر وسخط وكره وعاب وعتب كما توهم المفسرون من هذه المشاعر النفسية. فإن ما ينزل بالمسلمين من المصائب وما يبتلون به من شرور أهل الكتاب يهود ونصارى شرقا وغربا لم ينقطع على مدار التاريخ. فاختار العليم الخبير لفظ تنقمون وعداه بمن ليكون المسلم على بصيرة من موقفه منهم، فلا تمييع ولا تلبيس ولا طمْس.

(يا نوح اهبط بسلام منا)

إنهم يُصيبون منا - يُنزلون بنا المصائب - وإنها الحرب السافرة، فشلت في الحروب الصليبية فجاءت في ثياب التبشير، وآخر الأمر في حمامات السلام. واليوم في قتل الأبرياء وتدمير المساجد والمنازل في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق والفلبين وفي كل مكان فلا خداع ولا تخدير. إنه الصراع مع العقيدة فلا أسواق ولا أموال ولا كذب. أما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه فعلاقة وشيجة. كل مصيبة (تُصيبون منا) تنزل بالمسلمين من أهل الكتاب يهودا كانوا أو نصارى فأسبابها ما يحملونه من نقمة وحقد على هذا الدين وعلى المتمسكين به، الجادين في عودته إلى الحياة ولو تعدى نقم بحرفه المعتاد، ما ظفرنا بوجه من التأويل يصرف عنا العيب والكراهية والاستنكار والسخط (وكل ذلك شعور نفسي لا رصيد له من الواقع). نعم تعدى (نقم) بـ (مِن) ليبصرنا بنار حرب ضروس تخطط لها مؤسسات يهودية صليبية، ويأخذ بأيدينا في إلطاف النظر كيف نواجههم ... وكيف نوجه ما يرد من معاني هذه الحروف في تأتٍّ وتأنٍّ دونما استعجال منا ولا إجبال. ويؤيدنا في هذا ما ورد في سورة البروج. * * * قَال تعالى: (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا). ذكر السيوطي وكذلك الموزعي: الباء للمصاحبة بدليل. قوله تعالى: (جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ). وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

وقال الزمخشري: بسلام: أي مسلما محفوظا من جهتنا أو مسلما عليك مقربا. ويرى أبو حيان: أن بسلام معناه مصحوبا بسلام. ومثله قال الآلوسي. وقال الجمل: متلبسا بسلام. قال المثقب العبدي: * يجتذب الآريّة بالمرود * أي مع المرود. وذهب الزركشي: إلى أن الباء بمعنى مع. وتبعه في ذلك المرادي والسيوطي والأشموني وابن هشام. أقول: هل الباء بمعنى مع أو بمعنى الملابسة أو المصاحبة أو الملامسة والحفظ أو ..... ؟ أم (هبط) تضمن معنى (حل) المتعدي بالباء؟ فاحلل بسلام من الله، دل على التكريم، وفيه نجاة من قومه، والبشرى بقبول توبته، والرضا والسلام من كل أذى، وقد يكون السلام بمعنى التسليم والتحية من اللَّه كما قرأ الكسائي، أو بركات من الرزق والنسل والذرية.

أما إذا تعدى بـ (مِن) فإنه يتضمن معنى (الخروج). في قوله تعالى: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) وقوله تعالى: (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وفي قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) تضمن الهبوط معنى السقوط وحين يتعدى بنفسه في قوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) فإنه يتضمن معنى (النزول). أرأيت كيف يتغير معنى (الهبوط) بتغير الحروف التي يتعدى بها؟! ولو توهمتَ آخذا بتعاور الحروف لحرمت نفسك من محاسن هذه الصنعة وسددت عليك باب الحظوة بها. ولو سأل سائل: لم اختار الهبوط على الحلول وهذه أندى ظلالًا؟ قلت: لو قال: احلل لضاع علينا معنى الهبوط أي النزول فليس معنى حلول السفينة هو نزول أهلها منها. ولو قال: (يا نوح اهبط): سينزل إلى أين؟ لا بد من قرار ودار سلام يحل بها، وإلا بقي مرتحلا ليس له مقام. فجمع التضمين الهبوط مع الحلول فأفادهما جميعا، وبذلك أسفر وجهه عن غرض تعدية الفعل بغير حرفه لدى الاستقراء له والبحث عن كنهه. فإياك والوقوف مع كثافة الذهن في التناوب والتعاور لأنها تدعوك لإنكار هذه اللطائف. * * *

(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)

قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا). ذكر أبو حيان: قال ابن عطية: الضمير يعود على الوقت والباء بمعنى في. وكذلك أبو السعود: ونافلة يجوز أن ينتصب بـ تهجد إذا تضمن معنى صل نافلة لك. قاله الحوفي. وقال الآلوسي: الضمير (به) يعود على القرآن والباء للظرفية أي فيه. أقول: (تهجد) تضمَّن معنى (تزود) وهذا يتعدى بالباء. والتنفل تطوع يتزود به المتنفل، ولا غنى للدعاة عن هذا الزاد إذا أرادوا النجاح لدعوتهم. هذا هو الزاد لهذا الطريق: التهجد للتزود بالقرآن، بالتقوى. القرآن روح الصلاة وقوامها ... فيه شفاء ... فيه رحمة ... فيه طمأنينة ... به الزاد كله. شفاء من آفات القلب، ونزغات الشيطان، وعصمة من الشطط والزلل، ونور يضيء الطريق للسالكين، وفيه علم الأولين والآخرين. اللَّه يوجه رسوله للاتصال به واستمداد العَون منه في أشرف الأوقات، في هدأة الليل، يكون لترتيل كلام اللَّه إيقاعُه في القلب وأثره في الحس، وعندها يتحرر القلب المتصل باللَّه من كل سلطان عداه، والمستمد منه ينقطع عن كل مددٍ سواه تلك هي أسرار الحروف لا يتلوح معناها إلا من خلال أسيقتها، فقد صرفت هذه الباءُ التهجدَ - وهو ترك الهجود - إلى معنى التزود - وهو طلب

(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم)

الزاد - وما معنى التهجد إن لم يكن لهذا الزاد؟! أما القول بالتناوب فمرجعه إلى تَرك التأمل، وخمود النفس، فمَن سلك هذا المسلك أعتم عليه السبيل. وضمن (يبعثك) معنى (يقيمك) قاله الزمخشري. * * * قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ). قال أبو حيان: وقيل أرض الله: أي المدينة (فتهاجروا فيها): فتخرجوا إليها. وذكر صاحب [فتح القدير]: المراد بالأرض: المدينة والأوْلى بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمراد بالأرض: كل بقعة تصلح للهجرة إليها. وذكر الزركشي وابن هشام وابن الجوزي: أن تهاجروا فيها أي: إليها. أقول: الحرف لا يشفع بشرح معناه إلا سياقه، أما التناوب في الحروف فاصرف وجهك عنه وادع إلى اطراحه. لم عدَّاه ربنا بـ (في) وهو يتعدى بـ (إلى)؟ إنها التربية بمعالجة النفس البشرية لمطاردة عامل الشح والضعف، ففي مشهد الاحتضار وما فيه من رهبة،

وحضور الملائكة وما لهم من رجفة تسألهم: فيم كنتم؟ ويجيب المحتضرون بكل مذلة: كنا مستضعفين في الأرض. ويأتي التأنيب: ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها؟! إذاً حرصهم على أموالهم ومصالحهم وثمراتهم أمسكهم في دار الكفر، وهناك دار إسلام، يجهر فيها بعقيدته ويأمن على دينه، والهجرة إليها مستطاعة، ولكنها ذات تكاليف، ولابد للمهاجر أن يتغلب على عوامل الضعف والحرص والشح والخوف ... فتضمين (تهاجروا) معنى (تضربوا) وهو المتعدي بـ (في) جمع إلى الهجرة جهاد النفس حين يضرب في الأرض العريضة والفسيحة ليُوفر فيها الأمن لعقيدته. ما أحوج المهاجر إلى ركوب الأخطار ... صابراً على ما يعانيه، وخوفا من معرة الرضا بالدنية (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وتصاونا من رذيلة القعود والتخلف مع المتخلفين أو التولي يوم الزحف. والقرآن لا يكشف عن أسراره إلا للسالكين إلى اللَّه السبيل يفوضون أمرهم لله في ثقة بالنصر بعد أن لجؤوا إليه، وعصر الخوارق لم ينتهِ من نوح عليه السلام إلى يومنا هذا فإذا خفيت عن البعض فلا تخفى عن الموصولين بالله. كما يتحمل السياق تضمين (هاجر) معنى (ساح) المتعدي بـ (في) ليجمع إلى الهجرة السياحة فينجو من الفتنة في دينه إلى دار يأمن فيها على عقيدته، وإن كانت تكاليف السياحة باهظة: يترك القرابات والصداقات والأموال والمصالح ويتعرض لمخاوف انقطاع الرزق، ومتاعب تحصيله وآلام الغربة

(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181)

ومخاطرها وتكاليفها وملاحقة الأعداء المتربصين به ... فالنص علاج لما يطرأ على النفس من ضعف أو شح أو تقصير في مواجهة التكاليف، تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس. فلا تخلد إلى رأي إلا بعد السَبْر والتأمل والإنعام والتصفح، فإن وجدت حجة مقطوعا بها صرت إليها واعتمدتها فتفطن لأسرار هذه الحروف في كتاب اللَّه لتسلّم لعظمة الصنعة فيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ). ذكر الفيروزابادي: هداه اللَّه الطريق وله وإليه. فهدى لا وجه له في تعديته بالباء. وروى الطبري في تفسيره: يهدون بالحق أي يستقيمون عليه ويعملون، وبه يعدلون وبالحق يعطون ويأخذون وينصفون من أنفسهم فلا يجورون. وقال الرازي: لا يخلو زمان عن من يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه. ومثله أبو حيان: البحر: 4/ 430. وذكر ابن كثير: يهدون بالحق: يقولونه ويدعون إليه، قال سعيد عن قتادة: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إذا قرأ هذه الآية: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ): هذه لكم، وقد أُعطي القوم بين أيديكم مثلها.

وذكر الآلوسي ومثله أبو السعود: يهدون الناس متلبسين بالحق، أو يهدونهم بكلمة الحق، وبالحق يحكمون في الحكومات. أقول: يا سبحان اللَّه أتنزوي هذه الأمة عن العمل الإيجابي في حمل أعباء دعوة الحق ومشقات الطريق في تبليغه ودعوة الآخرين إليه، هكذا في سلبية عجيبة وصورة نظرية باردة يقولونه ويستقيمون عليه! أما أن يكون الحق منهجا ينفذ في مناهج البشرية وتكون له القيادة والريادة. أما أن يصبح الإسلام ميزانا للحق تحتكم إليه الأمم وتنضبط به المناهج والتشريعات، وتوزن به التصرفات ... فهذا يحتاج إلى وقفة متانية عند الباء لمعرفة ما وراءها من أسرار إعجاز هذا الكتاب الكريم. (فهدى) تضمّن معنى (بصَّر أو عرَّف أو أمر) وكلها متعدية بالباء. والهداية والتبصير: المضمّن والمضمّن فيه يصدران من مشكاة واحدة ومن صفة هذه الأمة أن تبصِّر الأمم والشعوب بالحق وتعرفهم وتأمرهم باتباعه فهي إيجابية لا تقتصر على معرفة الحق بل تتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والأمر به قَالَ تَعَالَى: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) والحق أعم من المعروف وأشمل. وحسب المتعجلين في دراسة هذه الحروف أن يجعلوا من (يهدون): (يهتدون) من أجل تعدية الفعل بالباء، ولا عليهم بعد ذلك أن تضيع هذه الخصائص السنية، ومن أخص خصائصها الأمر ... والنهي.

(الحمد لله الذي هدانا لهذا)

لقد جمع التضمين الهداية إلى التبصير والتعريف، إلى إقامة العدل وتنفيذه والحكم به. فمن رام التعرف على أسرار هذه الحروف فلينعم النظر فيها مع الصبر والأناة، فلا تتلوح إلا لمُدلج لدقتها ولطفها مع سلامة الذوق وامتلاك الأداة. من غموض لوضوح ... لمعانٍ تستبين * * * قَال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا). قال الهروي: في هدى ثلاث لغات: هديته الطريق (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهديته إلى الطريق: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهديته للطريق: (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) وذكر ابن القيم ففعل هدى متى عُدي باللام تضمَّن التخصيص بالشيء المطلوب فأُتى باللام الدالة على الاختصاص والتبيين، فإذا قلت هديته لكذا، ففهم معنى ذكرته له وهيأته، ومتى عُدِّي بـ (إلى) تضمن معنى الإيصال إلى الغاية المطلوبة، وإذا تعدى بنفسه تضمَّن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعريف والإلهام والبيان، وقال الأخفش: وأهل الحجاز يقولون هديته الطريق أي عرفته، وهديته البيت بلَّغته، وحكى الزركشي والمالقي والفراء وابن الجوزي وابن قتيبة اللام بمعنى إلى، وذكر الزمخشري هدانا لهذا أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو

(اهدنا الصراط المستقيم)

الإيمان والعمل الصالح فضمن الهداية معنى التوفيق وقال الجمل: أي أرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وذكر أبو حيان الأصل أن يصل إلى معموليه باللام أو إلى ثم يتسع فيه فيعدى إلى ثاني معموليه بنفسه (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). أقول: من هذا العرض نلاحظ أن (هدى) يتعدى لأكثر من حرف ويتغير معناه حسب تعديه وحسب الأسيقة التي ينتظم فيها، ولعل تعديته باللام يفيد في سياق هذه الآية معنى (التوفيق). فأصحاب الجنة وصفهم - وعملوا الصالحات - ثم لعلمه بضعفهم قال تعالى: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ثم جاء حمدهم بعد هذا ليدل على توفيق اللَّه لهم بالعمل الصالح والذي أقلهم لدخول الجنة بدليل قوله تعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فحَفدهم له على توفيقه لهم بعمل صالح يدخلهم جنته ولولا توفيقه ما دخلوها. * * * قَالَ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). قال الزمخشري: هدى أصله يتعدى باللام أو بـ (إلى): (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وقال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقد عومل هنا معاملة (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) أي منصوب على نزع الخافض. وإما بتضمينه معنى أدخل، يقال: سلكه وأسلكه.

وذكر الطبري: اهدنا: ألهمنا الطريق الهادي. وإلهامه إياه هو توفيقه له. والهداية في كلام العرب معناها التوفيق (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يوفقهم ولا يشرح للحق صدورهم، والعرب تقول: هديت فلانا الطريق، وهديته للطريق، وهديته إلى الطريق: إذا أرشدته إليه وسددته له، وكل ذلك فاشٍ في منطقها، موجود في كلامها. وقال أبو حيان: الهداية: إرشاد وتبيين وإلهام ودعاء، والأصل أن يصل إلى ثاني معموليه بنفسه. وقال ابن عباس: أرشدنا للدين الذي ترضاه وهو الإسلام ويقال: ثبتنا عليه. وقال البروسوي: عرفنا ما في كل شيء من دلالته على ذاتك وصفاتك وأفعالك وإقبال بالكلية عليك والإعراض عما سواك. لقد جاءت الهداية كما رأينا بمعنى الإلهام والتوفيق والتعريف والإرشاد والتسديد وكلها لا تتعدى إلى الثاني بنفسها إلا ألهم. وقال بعضهم: انتصب الصراط على نزع الخافض. أقول: ولعل تضمين (هداه) معنى (سلكه) ونظمه مسالكه، يصور مفهوم الهداية هنا على أشرف أحوالها وأنوه صفاتها، إنها التسليك العملي لا القولي في صراط المنعَم عليهم. ومَن هؤلاء؟ إنهم (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ). فليست الهداية كما قالوا: رجاء أو التماسا أو تعريفا بل تسليكا. وأي

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)

فائدة من معرفة صراط الذين أنعمت عليهم إن لم يكن لنا من اللَّه تسليك؟ فأنزلت الهداية على حكم التسليك والتسيير على الصراط السوي في مسلك المهتدين، وهذا أكشف عن وجه المعنى، فالمتعدي بحرف اللام أو (إلى) يطلب الوصول إليها، أما المتعدي بنفسه فيطلب من اللَّه التسليك عليها وهو ثمرة الهداية وهو ضمان السعادة في الدارين. وللعارفين في هذا الباب ملاحظ ومباحث لا ترقى إليها إلا الخاصة. * * * قَال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). ذكر ابن القيم: ففعل الهداية متى عدي باللام تضمن (التخصيص بالشيء المطلوب)، فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين. وحكى الزركشي وكذلك المالقي والفراء والهروي وابن الجوزي وابن قتيبة: اللام بمعنى (إلى) بدليل قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وقال الزمخشري: هدانا: أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح. وقال الجمل: أي أرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه.

(وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم)

أقول: والحق أن تضمين الحروف لا حقيقة تحته. ولعل الهداية هنا تضمنت معنى (البيان والتبيين). فالقرآن إنما أنزل ليبين للناس أقوم السبل. فمن خصائصه التوضيح والتبيين لئلا يكون للناس على اللَّه حجة. ومن شرف هذه اللغة أن تجد ألفاظا عدة تؤول بمقتضى الصنعة إلى معنى واحد بالملاطفة والإكثاب. فالأفعال (بيَّن ووضَّح وأعلن) تتعدى باللام فالقرآن يوضح لأتباعه أقوم السبل في تفجير الطاقة الإنسانية للعمل والبناء ويبين لأتباعه أقوم المناهج والأنظمة في الحكم والاجتماع والتعامل الدولي ... ويعلن لأتباعه أقوم المشاعر في العلاقات الإنسانية، وصيانة حرماتها وحقوقها، فالقوامة مطلقة (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) فيمن يهديهي وفيما يهديهم في كل زمان ومكان. وكان اللام جاءت مع الفعل (هدى) لتفتح له منافذ، ليكون على ما ذكرناه شاهدا، سائغا شرابه، فسياقه يعطيه مذاقه ويمنحه جماله فهو محير ولكن الحسن كذلك. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ). ذكر الجمل: قوله بهادي العمي: ضمنه معنى الصرف فعداه بـ (عن). وفي السمين: عن ضلالتهم فيه وجهان: الأول: أنه متعلق بهادي وعدي بـ عن لتضمنه معنى تصرفهم. الثاني: متعلق بالعمي لأنك تقول: عمي عن كذا. ذكره أبو البقاء.

وقال الآلوسي: وعن متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف وجوز أبو البقاء أن تُعلق بالعمى الصادر عن ضلالتهم وفيه بُعد، وإيراد الجملة الاسمية - أنت بهادي - للمبالغة في نفي الهداية. وقال البروسوي: وعن متعلق بالهداية باعتبار تضمّنها معنى الصرف. والعمي جمع أعمى وهو افتقاد البصر تشبيها بـ (مَن) افتقد البصيرة (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِدَ). أقول: صورة حية لجمود القلب وبلادة الحس، تُصورهم بالموتى مرة، وفي هيئة الصم مرة، وفي هيئة العمي مرة أخرى، فهم لا يسمعون الهادي ولا يبصرونه، ماتت قلوبهم عميت أبصارهم فما للنذير فيهم حيلة ولا إلى قلوبهم سبيل، وإنَّمَا السبيل إلى القلوب القابلة للهدى والمستعدة للاستماع فإنها تؤمن وتستجيب. فتضمين (هادِ) معنى (رادٍّ) يستجيب له السياق ويستضيء به المعنى فما أنت بهادٍ وإنما أنت مُبلّغ، وما أنت برادِّ العمي عن ضلالتهم إلى فطرتهم وإنما أنت نذير، تُسمع من له قلب أو ألقى السمع. والسؤال: لم اختار المولى هدى بدلا من رد؟ والجواب: إنما بعث ليكون رسولَ هدايةٍ، فجمع التضمين المعنيين: الرد عن الضلالة، والهداية إلى الفطرة، إلى الإسلام، إلى الحق ... وهذا هو الغرض الذي أريد من (عن) وجيء بها من أجله، والذي هو من طبيعة الصنعة في هذه اللغة الشريفة. إنه التضمين وهذه ثمراته. ويبقى الرد أوضح في الاستدلال على المراد

(أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم)

من الصرف لأن هذا معناه الإبعاد عن الضلالة فقط، أما الرد فهو الرجوع إلى الأصل إلى الفطرة، إلى الإسلام. فإن كنت شارفت هذا المعنى أو ألمحت به أو تلوّح لك بعضه فاحمد اللَّه على نعمه وسلْه المزيد من فضله. * * * قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ). قال ابن عباس: يهدي: يتبين. وذكر القرطبي والجمل: يهدي: مضمن معنى يتبين. قال الزمخشري: وإنما عُدِّي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين وفاعله: أن لو نشاء. وقال ابن القيم: ففعل الهداية متى عُدِّي باللام تضمَّن التخصيص بالشيء المطلوب فأتي باللام الدالة على الاختصاص والتعيين والتبيين، فإذا قلت هديته لكذا فُهِمَ معنى ذكرته له وهيأته له ووضحته له. وقال الآلوسي: وتعدية فعل الهداية باللام لأنها بمعنى التبيين كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وهو كما قيل: إما بطريق المجاز أو التضمين. أقول:: القرآن طب القلوب ودواؤها، يعطيها جُرعة من الخوف والحذَر من بأس اللَّه حين تركن إلى الدنيا ومغريات الحياة، كما يمنحها الطمأنينة في

(وإنا على آثارهم مهتدون (22)

جوار اللَّه كي لا تنتهي إلى اليأس وُتصاب بالشلل فَزِعةَ من نزول العذاب، قَلِقة من الدمار في ليل أو نهار. القرآن في معالجته للنفوس يوقظ الحس بتجارب السابقين ومصارع المكذبين، لُيبقي القلوب في يقظة، متخلية من الأمن الكاذب أو الفزع القاتل، مُتحلية بالثقة بوعد اللَّه لعباده العاملين فسياق الآيات يفسر سنة اللَّه الجارية في خلقه والتي يشهد بها تاريخ القرى الخالية، ثم إن تشابك الأغراض الاجتماعية التي يؤديها اللفظ مع الأغراض اللغوية يقتضينا أن نوسع من مدى مداليله فتضمين (هدى) معنى (انجلى واتضح) يُنير الصورة ويُفصح عن المراد: أولم ينجل ويتضح للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء ... وما كان الغرض من لفظ يهدي إلا معالجة للمستهترين الغافلين أن يتعظوا بتجارب مَن سبقهم من الأمم ويهتدوا بهديهم. فالتضمين جمع المعنيين (الهدى مع التجلية، والكشف، والتوضيح) وفاز بالحسنيين. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ). ذكر الزمخشري: إنا ثابتون على دين آبائنا. ومثله قال الرازي. وذكر الآلوسي: تعدى هدى بـ (على) لتضمنه معنى الثبوت. وذكر القرطبي: مهتدون على آثارهم: أي نهتدي بهم فجعل على بمعنى الباء.

أقول: صورة مُزرية لقطيع يمضي على طريق لا يتعرف على مَعالمه. مَقُولة تنطلق من أفواههم تدعو إلى السخرية (مهتدون). الإسلام لا يُقر التقليد للآباء والأجداد، الإسلام تفتح في الضمير، وتحرّر في الفكر، مبني على إدراك سليم. لا يفتحون للرسل ولا للدعاة عيناً تبصر، ولا قلباً يحس، ولا عقلاً يستبين. بل أغلقوا قلوبهم وعقولهم وأبصارهم على دعوى متهافتة: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) بلا حجة ولا دليل (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فاللَّه يسخر منهم كيف تكون الهداية لهذا القطيع يمشي عل سَنَنٍ لا معالم لها؟ والذي كشف هذه السخرية حرف الجر (على) يتعدى به (مهتدون) فقد تضمَّن (الاهتداء) معنى (الاحتذاء)، ومعناه الاقتداء أي إنا على آثارهم محتذون، والاحتذاء سبيل الاهتداء وسبب من أسبابه ولكن لا على مثال الآباء والأجداد بل على مثال الرسل وورثة الأنبياء. لم جاء تعبيرهم بلفظ مهتدين بدلا من محتذين؟ إنه التبرير أو التسويغ إذاً ليُصوروا موقفهم على أشرف أحواله وأنزه صفاته (مهتدين) ولو قالوا: مقتدين أو محتذين. لكانت سُلَّما إلى الطعن عليهم، ولأقيمت عليهم الحجة، إذ كيف يعرف الهدى من يمشي بغير بصر ولا بصيرة، على طريقة تُؤم وُتقصد؟! إنه التضمين يأنق له السياق ويرتاح لاستعماله، ودليله سائغ غير مدفوع، إن ارتضيته أخذ بيديك وإنْ تجهمت له أخذ على يديك إلى أن تستضيء به، وتستمد التنبه على أسبابه. * * *

(وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25)

قَالَ تَعَالَى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا). ذكر الطبري: وأدخلت الباء كما يقال: زوجتك فلانة وبفلانة. وكما قال: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرج فيكون دخولها وخروجها بمعنى. لو أن المفسرين كانوا فسَّروه: وهزي إليك رطبا بجذع النخلة بمعنى على جذع النخلة وجها صحيحا، ولكني لست أحفظ عن أحد أنه فسَّره كذلك. وقال أبو السعود: الباء صلة للتأكيد كما في قوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهز بجذعها وقيل: متعلق بمحذوف حال: هزي إليك الرطب كائنا بجذعها. وذكر الجمل: يجوز أن تكون الباء زائدة كما في قوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ويجوز أن يكون المفعول الثاني محذوفا والجار والمجرور حال من المحذوف: رطبا كائنة بجذع النخلة. أقول: طفل وُلدَ الساعة يناديها من تحتها: (لا تحزني ... قد جعل ربك تحتك سريا) جرى للحظته من ينبوع في الجبل ونحسبها دهشت بل بُهتت ... ثم أفاقت، فاطمأنت إلى أن اللَّه لا يتركها ومعها حجتها: طفلها ينطق في المهد لا زيادة في الحروف ولا تناوب، ومن زعم أنها للتأكيد فماذا تؤكد؟

وأرى أنه لا تضمين في الفعل لأنه يتعدى بالباء وهزها لإسقاط الرطب كمولد عيسى من غير أب، وكإشارتها للصبي ليتكلم، معجزة بعد معجزة بعد معجزة. فكما أن الهز لا يصلح في جني الرطب، كذلك الصبي في المهدِ غير قادر على الإفصاح عن الغرض. ولعل الحكمة في اختيار الهز دون سواه هي الكشف عن المعجزة التي سُخرت لها وبالهز لا بغيره إيقاظ الضمير وتنبيه الروح في مريم للثبات على فضائلها النفسية، ولتحقيق الغاية الربانية: تشرف فلا تسقط، وتسود فلا تخضع، وتعتز فلا تذل، ولولا الهز لما كان منها اتخاذ سبب فالرازق هو اللَّه ولكنه أمرنا باتخاذ الأسباب سبحانه. * * *

(هلك عني سلطانيه (29)

قَالَ تَعَالَى: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (1). قال العز والزركشي: ضمن (هلك) معنى (زال وذهب) لتفيد المعنيين. وذكر الملياني: هلك: ضل أي ضلت عني حجتي. وأورد الزمخشري: قال ابن عباس: ضلت عني حجتي ومعناه بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا. والسلطان: الملك والتسلط على الناس. وروى الطبري: ذهبت عني حجتي وضلت. وعن ابن عباس: ضلت عن كل بينة فلم تغن عني شيئا. سمعت الضحاك: بينتي ضلت عني. أ. هـ. أقول: سيدلي يوم القيامة ببينته عند السؤال ويدافع عن نفسه بحجته وقد أعدها ونمقها، ولكنه في الموقف العصيب تموت الحجج وتفنى البينات. وإذا بصفحة ذهنه ممسوحة مما كتب فيها ... لم زالت وما الذي جعلها تشرد عنه؟ إنه الموقف عند مليك مقتدر. وإذا فسرنا السلطان بالملك والتسلط والجاه فقد ضل عنه وشرد في ذلك اليوم الرعيب وبقي فريدا ذليلا شريدا مخذولا. فتضمين (هلك) معنى (ضل وزال وشرد وولى وأدبر وأعرض ونأى) تخصيص للعموم وتقييد للمطلق والمعنيان: الهلاك والزوال مقصودان في سياق الآية فالزوال لاحق بالهلاك وقال له، ولم يسغ العدول عنه لدنوه من معناه وتعديته بـ (عَنْ)، ولولا دخول هذا الحرف على فعل لا يتعدى به لخفيت عنا هذه اللمحة؛ وأشرف الألفاظ ما تعددت وجوه معانيه. وفي لفظ الهلاك ما

(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)

ليس في لفظ: الزوال، والذهاب، والبطلان، ولا حتى الضلال. وإشاعة الرهبة فيما يحمله الهلاك من ظلال موحشة للحصول على الاستجابة، إنما يكون بتغذية الخيال بالصورة الحية والمشهد المشخص المتحرك. فلنقف عند هذه الحروف متمهلين لتبدي لنا ما ووري عنا من شواردها، فإن تمنَّعن عليك فصرهن إليك بالملاطفة والملاينة. * * * قَالَ تَعَالَى: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). ذكر الزركشي: هلك: أي زال. وقال الملياني: هلك: ضل. ويرى الآلوسي: إن عن لا يتعين كونها بمعنى (بعد) بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه ويمكن أن تكون (عن) بمعنى (على) كما في قوله تعالى: (فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ). أقول: هلك في سياق الآية يحتمل معنيين: القريب: وهو الموت وليس فيه تضمين. والبعيد: يتضمَّن معنى (الضلال) وكذلك الحياة ضمنها معنى (الإيمان) قَالَ تَعَالَى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا). ولعل المعنى الثاني أرجح لأن اللَّه في يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل، وظروف المعركة كلها بينات لا تُنكر ولا يرتاب فيها اثنان. إنها ليست فى قدرة مخلوق، وإنها من صنع الخالق. ولقد صرح المشركون لحليف

(فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)

لهم أراد أن يُمدهم: لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف، ولئن كنا نقاتل اللَّه كما يزعم محمد فما لأحد باللَّه من طاقة. فإذا هلكوا كفارا بعد هذا فإنما يهلكون (يضلون) عن بينة. ومن حيَّ مؤمنا منهم فإنما يحيى (يهتدي) عن بينة. فالهُلك والحياة تضمَّنتا معنى (الضلالة والهداية)، لأن المعركة بظروفها التي رافقتها كشفت عن بينة لا تُنكر، وتدبير ليس من تدبير البشر. فالتضمين في لفظ: إنما يكون للعناية بما وراءه فالهُلك يؤنسك حين يرد مع الكفرة العتاة، ويوحشك حين يتعرض له المؤمنون. أما حمل الهلاك هنا على معنى الموت فترجيم إن أشْرفتَ عليه ظنا جاءك السياق بخلافه نصا، إذ كيف تكون الحياة عن بينة إن لم تتضمن معنى (الهدى والإيمان)؟ والعرب إذا أعطت للفظ حُكما قابلت ذلك بإعطاء المأخوذ منه حُكما من أحكام صاحبه عِمارة لبينهما، وما هو في معناه محمول بتأويلٍ عليه، والأمر في هذا أظهر وشواهده أكثر وأسير. * * * قَال تعالى: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ). ذكر الزمخشري: تسرع وتطير نحوهم شوقاً، وهذا المعنى يتعدى باللام (هوت كف الوليد لها) وقرأ تهوى إليهم من هوى يهوى: إذا أحب. ضمن معنى تنزع فعدي تعديته. وذكر القرطبي: تهوي إليهم: تنزع. هوي نحوه إذا مال. وهوت الناقة هويا: عدت عدوا شديدا (وتهوي إليهم) مأخوذ منه. قوله تهوي إليهم: تحن إلى زيارة البيت. [وقرأ مجاهد: تَهْوَي إِلَيْهِمْ]: أي تهواهم وتجلهم.

وذهب أبو حيان: إلى أنه لما ضمن تهوي معنى تميل عداه بـ (إلى) وأصله أن يتعدى باللام ومثال ما في الآية قول الشاعر: تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن كأنجاسها ومثله قال الآلوسي: تسرع وتطير نحوهم شوقا فضمن تهوي معنى تميل فعداه بـ (إلى) وأصله أن يتعدى باللام. وقال العكبري: هوى: يتعدى بنفسه وهوي يتعدى بـ (إلى). فالقراءة الثانية عديت بـ (إلى) حملا على تميل. وذكر الزركشي: ضمن تهوي معنى تميل. أقول: لعل تضمين (تهوي) معنى (تطير) أعون على إبراز معالم الصورة من تسرع وتنزع وتميل. فإبراهيم عليه السلام يضرع فترتسم لدعائه المنيب الخاشع صورة لمواكب الحجيج، تطير قلوبهم شوقا إلى البيت العتيق في ذلك الوادي الجديب تهوي بهم جيادهم من كل صوب كأنها الطيور ترفرف بأجنحتها، تطير إلى جوار الله. لماذا؟ لتقيم ذريته الصلاة وتؤدي المناسك وتشكر [وتبتهل]. وما اختير الحرف (إلى) إلا ليكسب الفعل (هوي) نفاسة ونبلا في تصويره للحالة النفسية لقوافل الحجيج التي عرض لها، وهي تطير مسرعة إلى البيت العتيق، لبيك يا رب الحجيج لبيك ... لبيك ... * * *

(يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5)

قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا). ذكر الزمخشري: أوحى لها بمعنى (أوحى إليها). وكذلك الزركشي والموزعي: وعدي أوحى باللام لا بـ (إلى) وإن كان المشهور تعدتيها بـ (إلى) لمراعاة الفواصل. قال العجاج: أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت وقال أبو حيان: أوحى لها: أي إليها كما قال أبو عبيدة. وقيل: أوحى لها أي أمرها. قاله مجاهد. وقال السدي: أوحى لها: أي قال لها. وقيل: سخرها. وذكر القرطبي: أن اللام بمعنى إلى. أوحى إليها لأن المعروف تعدي الوحي بها كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ). لكن قد يتعدى باللام ولعل اختيارها لمراعاة الفواصل. وجوز أن تكون اللام للتعليل أو المنفعة لأن الأرض بتحديثها بعمل العصاة يحصل لها تشف منهم بفضحها إياهم بذكر قبائحهم. وقال الآلوسي: اللام على بابها من العلة والموحى إليه محذوف وهو الملائكة. وذكر الجمل: أن التعدية باللام لمراعاة الفاصلة القرآنية، وفي السمين في هذه اللام أوجه: أحدها: أنها بمعنى (إلى) وأوثرت على اللام مراعاة للفواصل. والثاني: أنها على أصلها وأوحى يتعدى باللام وبـ إلى. والثالث: أن اللام على بابها من العلة والموصل إليه محذوف وهو الملائكة والتقدير: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض.

أقول: (أوحى) هنا بمعنى (أذن) لها وسمح بالتحديث عما فعله العباد على ظهرها فاللام على أصلها والتضمين قائم في الفعل وهذا ما قاله ابن عباس: (أوحى لها: أذن لها). تلوّح هذا المعنى في نبل قدره ونباوة محله حين تعدى الفعل بغير حرفه. المشهد يرسم انفعالات الإنسان في مشهد القيامة الكبرى: ما لها ... مشدوه مأخوذ فزعا ورعبا. وإن اللغة لتضيق عن تفسير معنى الوحي هنا لأنه مذهل ومروع، فلا بد من إرسال الخيال ليتملى ما لا يطيقه البيان. الأرض تتحدث بعد أن أذن لها ربها بالحديث، تتحدث عما اقترفته الجوارح: السمع والبصر واللسان وسائر الأعضاء، وحتى عن أسرار الضمائر وما تخفيه الصدور. وهذه أدهى من كل داهية في ذلك الموقف. وفي الأثر: " من تاب توبة نصوحا أنسى اللَّه حافظيه وبقاع الأرض خطاياه ". وإنَّ مِنْ عمله ما يسقط منه لحم وجهه، وإن منها ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه، فكيف به على رؤوس الخلائق! فلا ييئس ولا ينخذل ويستمر في طلب التوبة. والندم اللذين لا حدود لهما ولا نهاية. فليست هذه اللام بمعنى إلى ولا اختيرت مراعاة لفاصلة، ولا توفيرا لوزن. وإنما قَطَّر فيها البصير المصور ماء البيان لنبصر من سرها ما استتر، فلا تجفُ على هذه الحروف. وما تباعد منها عنك رده بلطف الصنعة إلى ما استودعته هذه اللغة من كنوز في أفعالها. إنه التضمين وإنه لكنز ثمين. * * *

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)

قَالَ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ). قال أبو حيان: اللام ليوم القيامة بمعنى في. قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس خلون من الشهر ومنه بيت النابغة: ترسمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع وكذلك: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) أي في وقتها. وقيل: اللام للتعليل على حذف مضاف أي لحساب يوم القيامة. وذكر هذه الأوجه الشنقيطي. وقال الزركشي: اللام بمعنى في. وقال الآلوسي: ليوم القيامة بمعنى في يوم القيامة كما نص عليه ابن مالك وأنشد قول مسكين الدارمي: أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما قد مضى من قبل عاد وتبع وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة، أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستعجلونها. وقال غير واحد هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل يوم القيامة، وجعلها بعضهم للاختصاص. أقول: إن كانت اللام بمعنى (في) كما ذكر كثير من المفسرين فلماذا استبدلها الحكيم الخبير؟ ذلك ما أتحاماه لضعفه وإنما تضمن (وضع) معنى (نصب). والذي أنَّسني باختياره دون سواه ترشيح سياق الآية له، ثم تعدي

(ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا)

(نصب) باللام يما ترشد إليه الأحاديث الصحاح. وأمر آخر: إن وضع الموازين هو إشعار بنصبها يوم القيامة، وتمهيد له. فليبادر الغافلون المعرضون والمستهزئون المكذبون قبل أن يفجأهم النذير لأن الحساب توضع موازينه لتنصب، وما هذه الموازين إلا واحدة من نواميس الكون القائم على القسط والعدل، تشهد بالوحدانية والتي هي محور السورة. ثم ما جاء عن ابن عباس: " يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صبا "، إنه منتهى الرحمة بهؤلاء ... والتضمين في الفعل أبلغ لدلالته على معنى الفعلين كما قاله أهل هذه الصناعة، وأبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته فلا تركن إلى تناوب الحروف لتسلم من بوائق التعاور، وتُسَفم لعظمة الصانع في تضمين أفعالها. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا). ذكر أبو حيان: ضُمن (وصينا) معنى (ألزمنا) فتعدى لاثنين الثاني (إحسانا). وذكر الرازي وصاحب الجلالين: وصينا: أمرناه أن يحسن إليهما.

وقال البروسوي: أمرناه بأن يحسن بوالديه فحذف الفعل واقتصر على المصدر. وقال الآلوسي: وقيل منصوب (إحسانا) مفعول مطلق على تضمين وصينا معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا. وقيل: صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاءً ذا إحسانِ. وقيل: مفعول لأجله: أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما. يعلق (بوالديه) بوصيا ولا يتعلق بـ (إحسانا) لأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنَّمَا ب (إلى). أقول: الوصاة لغةً العهد. وعهد اللهِ هنا هو الإحسان بوالديه اعترافا لهما بالجميل وردًّا لبعض معروفهما وبذلك يتحرر من الأنا، من الذات، من الشهوات. ويرتفع إلى مستوى إنساني كريم، مستوى الإحسان. الوصية هنا صادرة من خالق الإنسان وموجهة للإنسان بصرف النظر عن عقيدته وعرقه وجنسه ولونه و ... تضمنت (الوصاة) هنا معنى (السؤال) بمعنى الطلب والمتعدي لمفعولين أولهما الإنسان وثانيهما الإحسان يسأل اللَّه الأبناء أن يكونوا في مستوى الإحسان، ودرجة الحسن هذه (بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) فوق درجة الإسلام والإيمان، فإذا نزل عن هذا المستوى السامق: مستوى سؤاله الإحسان بوالديه إلى الجبلة الطينية لتتضمن الوصاة معنى (الإلزام والأمر) كما جاء عند كثير من المفسرين فقد أخلد إلى الأرض. وفي تعليق شبه الجملة (بوالديه) بـ وصينا، يجعل معنى الإحسان في منظور ضيق وينطفئ نور المادة اللغوية للإحسان لتصبح حروفا جافة تنتهي إلى حطب يابس، لا ظل ولا ثمر ولا عطر ولا زهر.

نعم وصاة الإنسان بالإحسان وسيلة تربوية: سألناه وطالبناه إحسانا بوالديه. فالولاء واللين والوجه السمح يحتاج إلى قلب كبير. الوداعة والسكنية والكلمة الطيبة والصوت الخفيض والبسمة الحانية بحاجة إلى ممارسة طويلة. التذلل لا عن ضعف بل عن حب تفيض به النفس على الجوارح فإذا هو خفيض الجناح ... هذا التوازن لا يكون إلا بأن يأخذ التعليم طريقه إلى مسارب النفس ودروبها وأشواكها حتى تصل إلى درجة تخرج عن دائرة التربية والتعليم إلى ما هو أعلى ... إلى الإيمان ... إلى درجة الإحسان. وربط الجار والمجرور (بوالديه) بالإحسان أكشف لمزيّة المراد وأبهر من ربطها بـ (وصَّى) فالموصى بهما منوطان بالإحسان والإجلال والإلطاف، لا بالوصاة الخاوية من الظلال، ودليل آخر قول يوسف عليه السلام: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) فمن كمال عبوديته جاء بالباء لتفصح عما غمره به مولاه من الإحسان، يمسه، يرتديه، يتقلب في أعطافه. فالحرف عبَّر عن رصيد الجميل والإحسان المذخور في نفسه وقد وهم الآلوسي حين منع تعدي الإحسان بالباء ومنع قوم تقديم معمول المصدر عليه والصحيح أنه يجوز إذا كان ظرفا أو جاراً ومجروراً. وأخيرا أقول: الوصاة إشارة تُغني عن العبارة لمن هو في المستوى الإنساني الشفيف. وصلة الوصاة بالإحسان من أكبر غايات الأداء التربوي

(ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم)

للتعامل بين الأبناء والآباء، والتلميح بالوصاة يغني عن التصريح وهو السؤال والاستعطاء والطلب. فالإلزام يخرج عن الأريحية والطوعية إلى القسرية، واللَّه يريد أن يصدر الإحسان من ذات الإنسان راغبا غير مجبر ليحقق الأهداف التربوية المنشودة من وراء الوصاة. وفي هذا تكريم للأبناء أي تكريم. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ). الوعظ: زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. وذكر العز بن عبد السلام: أي يؤمرون. وروى أبو حيان: قيل الوعظ بمعنى الأمر أي فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه. وقال في ري الظمآن: ولو فعلوا ما يوصَوْن به. وذكر الرازي: لو شددنا التكليف على الناس نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون، وحينئذٍ يظهر كفرهم وعنادهم، فلما لم نفعل بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة فلْيقبلوها. وقال الآلوسي: يوعظون به أي يؤمرون به مقرون بالوعد والوعيد من متابعة الرسول والانقياد إلى حكمه.

أقول: (وعظ) لا يتعدى بالباء فماذا تضمَّن حين دخلت عليه؟ العون والتثبيت والأجر العظيم مّمن؟ من اللَّه .. ولمن؟ للذي ينهض بالتكاليف فلا يستهتر ولا يتسهين، مع العزيمة وإخلاص النية، والشروع فيما افترضه عليه مولاه في حدود قدرته وطاقته. تضمن (الوعظ) إذاً في سياق الآية معنى (التكليف) ولعله أسدُّ من الأمر. هذه التكاليف: عزائم ورخص. والأصل في التكليف العزيمة، والرخصة طارئة عليه. فمن عمد إلى جمع الرخص ليقول: إن الدين يسر، يتملق بذلك رضى المنحلين أو الطغاة أو الحاقدين فيستهتر ويستهين. فالدين ليس كذلك، ولكنه رخص وعزائم في حدود طاقة البشر (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وما جاءت الباء مع الفعل (وعظ) إلا لتضم إلى المواعظ التكاليف عن طريق التضمين وتنفي عن الدين أن يكون مجرد مواعظ تُرقق القلب وتذكر بالخير وتستنيم إلى الواقع، الواقع المنحل والفطر المتبلدة، فاللَّه الذي كلفهم أعلم بقدراتهم. ثم سياق الآية يوضح الرؤية ويتمم المعنى، فمجرد أنه فعل أي بدأ بما كُلف به، يتبعه العون من الله، ويتبعه التثبيت على المضي فيما أخذ به نفسه، ويستتبع الأجر العظيم من الله، وتتبعه الهداية إلى صراط اللَّه المستقيم. ولعل في اختيار لفظ (الوعظ) بدلا من (التكليف) دلالة على تكريم الإنسان ثم وروده بصيغة المضارع بدلا من الأمر

(وإذا الرسل أقتت (11) لأي يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13)

مع مجيء (لو) كان ذلك كله لإفادة (الحث). فالذي ينطلق للعمل عن طواعية ولمجرد سماعه للموعظة، أرقى درجة، وأسمى مكانة من الذي يعمل بتوجيهٍ من التكليف والأمر والقسر. فارعَ هذه الحروف حق رعايتها. ولاطفْها ولا تجفُ عنها. وافزع إليها إذا وقعت في إلباس من أقوال بعض المعربين، يجتلِ التضمين عن جوهرها. * * * قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ). قال العز: أي جمعت لوقت، فضمن (وقت) معنى (جمع) لإفادة المعنيين. وقال مجاهد والزجاج: التوقيت هو تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم. وقال الزمخشري: قرئ (أقتت) ووقتت بالتشديد والتخفيف فيهما، والأصل الواو ومعنى توقيت الرسل: تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم. وذكر القرطبي: أي جمعت لوقتها ليوم القيامة فالمعنى جعل لها وقتا وأجلا للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم. وقيل: أقتت: وعدت وأجلت. وقيل: أرسلت بضم الهمزة بأوقات معلومة على ما علمه اللَّه وأراد. وعن الحسن: (ووقتت) بواوين وهو (فوعلت) من الوقت أيضا مثل: عوهدت.

(أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (28)

وقرأ يحيى وأيوب وخالد: أقتت بالهمزة والتخفيف ومثله قال أبو حيان. وقال البيضاوي: بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره. أقول: صفارات الإنذار من الواحد القهار تهز المشاعر بهول النجوم وقد طمست، والسماء قد تشققت، والجبال قد نسفت ... إنه الهول الهائل والجلال المائل في مجلس الفصل، بمحضر من الرسل وقد تقدموا إلى الجليل في موعد مضروب وجدول مبرمج لعرض ما لديهم من حصيلة رسالاتهم إلى أممهم على تعاقب الأجيال. فالتوقيت هو الوقت المضروب لكل منهم في الجدول المعد لبرنامج ذلك اليوم العصيب. فتضمين (أقتت) معنى (أحينت) أي حان لهم بلوغ موعدها أنور وأوضح من إلباسها معنى جمعت ووعدت وأجلت وأرسلت ... فقد حان للرسل أن يبلغوا ما أرجئوا من أجله. ويبقى حال التضمين موكلا إلى ملاطفة التأول لرقة حواشيه. * * * قَالَ تَعَالَى: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ). قال ابن عباس: وكيل: شهيد. وذكر الزمخشري: الوكيل الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت عدِّي بـ (على) لذلك.

ونقل أبو حيان: عن قتادة: (وكيل) حفيظ وقال ابن الشجرة: رقيب. أما أبو حيان فقال: الوكيل: الشاهد فتعدى بـ (على). وذكر الجلالين: حفيظ أو شهيد. وفي لسان العرب: الوكيل: الكفيل. أقول: (وكل) الذي يتعدى بـ (إلى) تعدى هنا بـ (على) فماذا تضمن؟ لقد جمع التضمين مع الشهادة معنى (الوكالة) القائمة بين شعيب وبين موسى عليهما السلام في عقد الزواج. فقد وقع موسى العقد بعد أن رضي بالعرض - يؤجر نفسه ثماني حجج - أو يتم العشر. ولا بد لصحة العقد بين المتعاقدين من شاهد يشهد على إبرامه ووكيل يكل إليه أمره. وجاء التضمين من وراء (على) ليجمع مع الوكالة إليه الشهادةَ عليه فلو قال: واللَّه على ما نقول شهيد لاحتجنا إلى وكيل، ولو جاء الوكيل متعديا بـ (إلى) لاحتجنا إلى شهيد. فتعدية الوكيل بـ (على) جمعت الحسنيين فاللَّه سبحانه وكيل وشهيد وكفى باللَّه شهيدا وكفى باللَّه وكيلا. وهذا موضع شريف تأنق لحسن الصنعة فيه وتعجب منه، وأكثر الناس يغفُلُ عنه لغموضه ولطفه، موضع نحتاج فيه إلى فضل تأمل لتحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله، فتستضيءُ به من غموض وتستمد التنبه على أسبابه لمعالب تستبين. وتبقى حروف المعاني حباتِ جمانٍ في العقد النظيم لهذه اللغة الشريفة تشهد على إعجازها، ولُطف متسربها، فلم تأتِ الشهادة مصرحا بذكرها مكشوفا عنها، بل مدلولا عليها بالحرف، فنالت من شرف الإعجاز ما لا يكون لها لو صرحنا بها. * * *

(فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39)

قَالَ تَعَالَى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). في لسان العرب: الولاية معناها العزة والنُصرة والمَنعة. وذكر الجلالين: الباء بمعنى مع جنوده لأنهم له كالركن. وتولى معنى أعرض. وروى الطبري: معناها أدبر بقومه من جنده وأصحابه أي مع قومه. وقال قتادة: غلب على قومه. وقال مجاهد: بعضده وأصحابه. وقال الزمخشري: فازور وأعرض ونأى بجانبه. ومثله أبو حيان. وقال البروسوي: ثنى عِطفه فأعرض عن الإيمان به وازور. وذكر الآلوسي: فأعرض عن الإيمان بموسى، على أن ركنه جانب بدنه وعطفه. والتولي: كناية عن الإعراض والباء للتعدية لأنه ثنى عِطفه، أو للملابسة أو المصاحبة. وكونها للسببية غير وجيه. وقيل: تولى بقوته. أقول: من معاني صيغة (تفعَّل) الاتخاذ ومعناها هنا اتخذ وليا أي ناصرا ومعينا وعاصما. وعليه يكون (تولى) متضمَّنا معنى (اعتصم) بركنه. وركن فرعون: جنوده وأصحابه وقومه وقوته كما مرّ وليس هو جانب البدن والعطف، فرعون إذاً يعتصم بقومه وقوته وجنده متهماً موسى بالسحر والجنون. فرعون الطاغية في جنده وجبروته يأتيه موسى بحجته الساطعة وبرهانه القاطع

وهيبته المستمدة من ربه ... ماذا يكون موقف الطاغية؟ تولى بركنه. فهل نقول في مثل هذا الموقف العصيب: أدبر وأعرض وازورَّ كما ذكر بعض المفسرين ووَدَعَ موسى لشأنه. أم نقول: تمسك بجبروته واعتصم بقوة جنده وسلطانه وتبع موسى ليقضي عليه فكان من أمره ما كان؟ إن عَزَّ المسلك للوصول إلى المطلوب، فترسَّمْ في السياق السبيل. لقد كانت نتيجة الموقف النبذ باليم والغرق ... إنها نتيجة الطغيان والاعتزاز بالقوة والسلطان. فهل يبقى بعد هذا مقالة لقائل: الباء بمعنى مع أو هي للتعدية أو السببية أو ... ؟! ثم لم قال (تولى) بدل (اعتصم)؟ لعل التولي أكشف عن نفسية فرعون وما فيه من معنى العزة والمنعة. وكشف توليه عن كبريائه وصلَفه. أما الاعتصام ففيه من معنى الاستعانة بالآخرين ودخوله في عصمتهم ما يكشف عن ضعف المعتصم واستخزائه. ولا يكشف عن معنى اللفظ إلا سياقه بالتأتي ولطف الصنعة. جاءت الباء إذاً تعريضا بغرض التولي وإيماءً إلى الاعتصام من وجه لا يفطن له إلا صاحب صنعة، فإن وجدت منصرفا في اللفظ تستعين به على فهم الغرض، ووجها تسلك فيه لتحديد المطلب، وشِعاباً تظفر بمرقوم منها، تجتني من ورائها ثمرات، فبادر، فإن كتاب اللَّه لا تنقضي عجائبه. * * *

(فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97)

قَال تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا). قال القرطبي: بيَّناه بلسانك، وقيل: أنزلناه بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. وذكر الجمل: أنزلناه ميسرا بلسانك. وذكر الآلوسي: الباء بمعنى على، أو الباء على أصله وهو الإلصاق لتضمين يسرنا معنى أنزلنا. أي يسرناه منزلين له بلغتك. وقال الزمخشري: أنزلناه أي بِلُغَتِكَ وسهلناه وفصلناه. أقول: إن اللَّه مدح كتابه فقال: (عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لأن مدار الأمر على البيان والتبيين والإفهام والتفهيم، وكلما كان اللسان أبين كان أحمد رغبة منه في غاية الإفصاح بالحجة، والمبالغة في وضوح الدلالة، لتكون العقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع، وذكر خلابة ألسنتهم واستمالتهم الأسماع لحسن منطقهم فقال: (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) فالتضمين جرى في فعل (يسَّر) في معنى (بيَّن وأسهل) وهو يتعدى بالباء فإنما أسهلناه بلسانك

أي أسهلنا لسانك بهذه اللغة الشريفة تيسيرا على الناس لمعرفته وحفظه وصرفا عن الحزونة فلا يشق عليهم فهمه وبيانه. والغرض من التضمين أن يضم المعنيين: التيسير مع التبيين والتسهيل ليفيدهما جميعا، فلولا التضمين لما أسرع الخاطر لإلطاف النظر في هذه الباء التي أرابتنا في دخولها على فعل لا يتعدى بها. أما تضمين (يسرناه) معنى (أنزلناه)، فما علاقة التيسير بالإنزال؟ فتفطَّن لأسرار الحروف في هذه اللغة الشريفة والتي لا يكاد يحاط بها لتُسلم لعظمة (ذَلِكَ الْكِتَابُ) المستولي على الفضل، والحائز جميع أسباب البلاغة والنبل، متى ظفرت بصفاء القريحة وسلامة الذوق وصحة الطبع وامتلاك الأداة.

خاتمة

خاتمة وختاماً أقول: رحم الله قارئاً وقف عليه نتصدق على مؤلفه بدعوة صالحة يُثيبه اللَّه عليها، ويُجزل حظه منها. ليس في وسعي أن أقول: إن هذا البحث قد استوفى آيات التضمين في كتاب اللَّه الكريم، فما يزال الميدان رحباً للعديد من الدراسات وإني لأرجو أن يسهم بحثي المتواضع في الكشف عن آيات بينات في إعجاز القرآن الكريم. فمن عرف أوضاع اللغة عرف المغزى من كل حرف بالغاً من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه. ومجمل القول: لا زيادة في الحروف التي يتعدى بها الفعل أو مشتقه. وقولهم الزيادة فاطرحه ... وتنكشف المزية للمسؤول فلو أن القارئ الكريم [تتبع]، ثم ألطف النظر، وأكثر التدبر لعلم علم اليقين أنه لا زيادة للحروف في كتاب اللَّه الكريم ولا إسقاط، ولا تعاور، ولكنه التضمين في أفعالها. فلنتعرف حجة اللَّه في هذه الحروف لتكون أمهر وأبهر، وأقوى وأقهر، فلا شيء أحشد للذم على من ادعى تعاورها، ونعوذ باللَّه أن نسدي قولاً لا نعلمه ولو فعلنا لبقيت هذه الحروف مستورة واستمر السرار بأهلها واستولى الخفاء على جملتها.

وإذا اختلف المفسرون في الاستدلال على ظاهرة التضمين هل هي في الحرف أم في الفعل ومشتقاته؟ أقول: هل بنَوْا أدلتهم على السماع أم على القياس أم على الاستقراء؟ ومعلوم من الأصول التي تضبط الدليل النحوي: 1 - إذا تطرق إلى الدليل الاعتماد بطل به الاستدلال. 2 - من عدل عن الأصل افتقر إلى دليل. 3 - الاعتماد على ما لا نظير له من كلام العرب مردود وهكذا ... ولعلّ قارئاً يعتب عليَّ في عنوان الكتاب " التضمين النحوي " وأني ضيقت واسعاً حين قصدت التضمين على الدلالة النحوية، فهناك الدلالة المجازية والدلالة النفسية الذاتية، والدلالة الأسلوبية التي تختلف من كاتب لآخر، والدلالة الحقيقية و ...... فأعد القارئ الكريم بأني سأجعل العنوان في الطبعة الثانية إن مدَّ اللَّه في الأجل " ظاهرة التضمين في القرآن الكريم ". * * *

§1/1