التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف

علي علي صبح

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} والصلاة والسلام على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم، بعثه ربه بالحق هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله رحمة للعالمين، فكان -صلى الله عليه وسلم- دعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} .. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في سبيل الله حق جهاده، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه. وبعد ... فإن أفضل الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار، فقد تفضل الله عز وجل عليه، وعلى أمته خير أمة آخرجت للناس بالذكر الحكيم: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .. {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ

آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} .. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وتفضل عليه أيضًا بالهدي النبوي والحديث الشريف فخصه الله عز وجل من بين الأنبياء والمرسلين بخصائص كثيرة من بينها جوامع وبلاغة القول، قال -صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش" فكان حديثه هدًى ونورًا: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .. {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى..} . فهذان المصدران العظيمان القرآن الكريم والحديث الشريف هما: التشريع الإسلامي فهما دستور هذه الأمة. شرح الله تعالى بالقرآن صدر نبيه

-صلى الله عليه وسلم- ورفع ذكره وثبت به فؤاده، فإذا بين القرآن وتحدث عنه، فإنه يبين قيمه الخلقية والتشريعية في بيان أخاذ، وتصوير نبوي شريف، وذلك في أحاديثه النبوية والقدسية الشريفة، فما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، قال -صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي" اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه والتابعين الذين نهجوا نهجه وسلكوا طريقه فكانوا منارة للعالمين وهدى للسالكين رضي الله عنهم، أدعو الله عز وجل أن ينفع بهذا الكتاب: "التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف"1 وأن يكون شفيعًا لنا ولوالدينا وأهلينا يوم الدين إنه سميع قريب مجيب إنه نعم المولى ونعم النصير. في شوال 1422هـ الموافق يناير 2002م. علي علي صبح

_ 1 هذه الأحاديث الشريفة كانت حلقات قد أذيعت في إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة في برنامج يومي "بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم" الذي يقدمه الأستاذ الدكتور/ عبد الله الخولي نفع الله تعالى به وبأمثاله الكرام.

الفصل الأول: الإسلام والإيمان

الفصل الأول: الإسلام والإيمان الأعمال بالنيات: أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". منزلة النية ومكانتها السامية من الأعمال: منزلة النية من الأعمال والأقوال كمنزلة الروح والرأس من الجسد، فلا قيمة للأقوال والأعمال ولا ثواب عليها إلا إذا اقترنت بالنية، لتكون ابتغاء مرضاة الله عز وجل، كالشأن في الجسد يكون جثة هامدة، لا وزن له ولا حياة إلا بملازمة الروح له، فالروح هو حياة الجسد وحيويته وإنسانيته، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد على أن النية ابتغاء وجه الله عز وجل هي الأساس في قبول الأعمال والإثابة عليهما، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}

وغيرها: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ، {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} لذلك كان هذا الحديث من جوامع الكلم. قال الإمامان الشافعي وابن حنبل: هذا الحديث ثلث الإسلام، ينتظم أركانًا ثلاثة، عمل الجنان وهو القلب، وقول اللسان، وفعل الجوارح. التصوير الأدبي في الحديث: لمكانة النية من الأقوال والأفعال في تعبير بلاغي، يفوق بلاغة العرب، حتى صار هذا الحديث الشريف من جوامع الكلم، يجمع ثلث شريعة الإسلام في ألفاظ قليلة، ومن الصور البليغة قوله: "إنما الأعمال بالنيات" أسلوب قصر يقصر قبول الأقوال والأعمال والإثابة عنها ونفع صاحبها على النية وحدها؛ فهي أساس القبول وحده، فلا ينجو صاحبها إلا بها، كما يتضمن أسلوب القصر دعم الحكم بالحجة والدليل لتأكيده ونفي ما سواه، لأن المراد: لا تقبل الأعمال إلا بالنية، كما يتضمن أسلوب القصر هنا التعريض بكل من لا يعمل عملًا لغير وجه الله، فهو غير مقبول، ومن بينهم مهاجر أم قيس الذي هاجر إلى المدينة للزواج منها كما نص الحديث على ذلك فمن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ومن الصور الأدبية البليغة أيضًا قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فهو أسلوب قصر تضمن المعاني البليغة السابقة، إلا أنه زاد عليها بلاغة وقوة، جاءت من التكرار بصورة أخرى لتؤكد المعاني السابقة، وفي التكرار تأكيد وتقوية لما يهدف إليه الحديث الشريف، وفيه أيضًا ذلك التناسُق الموسيقي والإيقاعُ المتوازن في التصوير مما يثير الانتباه، ويوقظ الحسن والوجدان، ويحرك المشاعر، فتتفتح لقبوله منافذ الإدراك المختلفة في النفس، فتستقر فيها، وتزداد تصديقًا وإيمانًا بقيمها السامية.

ومن الصور البليغة أيضًا التعبير "بما الموصولة" في قوله: "ما نوى" لإفادة العموم والشمول لكل ما ينويه الإنسان من الخير أو الشر، قولًا أو فعلًا أو عملًا أو تقريرًا وغير ذلك، فالإنسان محاسب على كل ما يصدر عنه صغيرًا كان أو كبيرًا، مصداقًا لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} . ومن الصور الأدبية البليغة أيضًا، ما يفيد الإيضاح بعد الإبهام، ليزداد المراد من القيم السامية في الحديث الشريف تأكيدًا، وحثًّا على اتباعه وحرصًا على تنفيذه، وجاء الإبهام في قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ثم وضح الحديث الشريف هذا الإبهام والإجمال بالتفصيل في قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" والمراد بالهجرة ليس الانتقال من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فحسب، بل تشمل الهجرة من المعاصي والفواحش والمفاسد إلى الطاعات والطيبات والصالحات، وفي ذلك يرتقي التصوير البلاغي فيجعل من يهجر المعاصي إلى الطاعات، مثل من هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في الثواب والأجر سواء بسواء، لأن هذا هو الجهاد الأكبر الذي أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رجع من غزوة في سبيل الله، فقال: "هو جهاد النفس بالهجرة من المعاصي إلى الطاعات". ومن الصور الأدبية البليغة تكرار لفظ الجلالة ولفظ الرسول وإظهارهما، وكان يغني عنها الضمير الذي يعود على ما سبق، لتعظيم الهجرة وتعظيم المهاجر إليه وهو الله ورسوله في قوله: "فهجرته إلى الله

ورسوله"، بينما لم يكرر الاسم الظاهر في الهجرة إلى الدنيا أو المرأة ولم يظهرها، بل اكتفى بالضمير العائد عليها في قولها: "فهجرته إلى ما هاجر إليه"، للتحقير والتهوين من شأن هذه الهجرة، لأنها في غير ابتغاء وجه الله عز وجل وفي غير مرضاته، وكذلك مع الدنيا، لذلك قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". القيم التشريعية والأخلاقية في الحديث الشريف: 1- لا ثواب في القول والعمل إلا بالنية والإخلاص فيها، أما الغافل والناسي والمخطئ لا يحاسب على النية، كما أن الأفعال العادية لا تحتاج إلى نية كالجلوس والقيام والمشي في ذاته إلا إذا اقترن بما أمر الله تعالى به أو نهى عنه. 2- ما يتصل بالقلب والعاطفة والمشاعر لا يحتاج إلى نية كالخشية والخوف والتوبة والتصديق والمحبة وما أشبه ذلك. 3- معرفة الحكم وشروط الصحة في العبادة قبل التطبيق والعمل؛ لأن صحة العبادة تترتب على النية، فإذا انقطعت النية أثناء العبادة بطلت. 4- سجود التلاوة يحتاج إلى نية عند الجمهور لأنه عبادة. 5- يدخل في مفهوم الهجرة التاريخية الهجرة من المعاصي والمحرمات إلى الطاعات وأعمال الخيرات والسعي على المعيشة ليعف النفس عن السؤال، وتقوى على فعل الطاعات. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

حلاوة الإيمان

حلاوة الإيمان: أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار". التصوير البلاغي: المستمد من وحي المعاني الوضعية للأسلوب في هذا الحديث الشريف في صور أدبية متنوعة منها: كلمة "ثلاث" جاءت منكرة، تنوعت فيها مصادر الجمال، فتجد فيها الإبهام، والمراد به إثارة انتباه السامع، وتشويقه للبيان الكاشف في قوله بعد ذلك: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما".. إلخ، فتتمكن في النفس وتستقر في الأعماق، ليظل رصيدًا شعوريًا وزادًا روحيًا، يقاوم تقلبات الزمن وصراعات الحياة، وتجد فيها أيضًا معاني التعظيم والإكبار، أي فهي ثلاثة عظيمة الشأن، وقوية في صدق الإيمان وسعادة النفس، وتجد فيها كذلك معاني العموم والشمول، فهي ثلاث في العدد، لكن شاملة النفع، تعم جميع أنواع البر والطاعة لله عز وجل، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم، وكلمة "حلاوة الإيمان" تفيد التذوق الحسي والمعنوي، فأما الحلاوة الحسية فحقيقة واقعة في القلب السليم من أمراض الغفلة والهوى؛ فيتذوق طعم الإيمان ويتنعم به، كما يتذوق اللسان حلاوة العسل ولذة الحلاوة، وكما يتلذذ القلب بالطاعات، ويستعذب المشقات، ويُؤْثر ذلك على أغراض الدنيا ومتاعها الحسي الفاني، وأما الحلاوة المعنوية تكون في الاقتناع والرضا بشريعة الله؛ فيحب الطاعة وينفر من المعصية، فلا يجد في النفس حرجًا مما قضى الله، ولا يبحث عن علاج لمشكلاته في غير ما جاء به التشريع الإلهي،

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وتجد أسلوب القصر والتأكيد في قوله: "لا يحبه إلا لله" ليفيد قصر حب المرء على أن يكون لوجه الله وابتغاء مرضاته، فيلتزم فيه طاعته، ويكف عن معصيته، منزها عن المقاصد المادية والأغراض الدنيوية، قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: "لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء"، بل يقتصر حب المرء على أن يكون لله ولرسوله على سبيل التأكيد، فلا يتعداه إلى غير ذلك بحال، وكذلك وحي الكلمات في "أحَبَّ" بأفعل التفضيل. واختيار كلمة يُكْرَهُ ويُقْذَفُ، والظرفية بحرف الجر "في" وغيرها. التصوير الفني: في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من ألوان الخيال البديعة، تتخذ صورًا أدبية حية ومؤثرة في القلب والعقل والوجدان، وذلك في صورة "حلاوة الإيمان"، تقوم على الاستعارة بالكناية، حين شبِّه الإيمان بالحلاوة الحسية للعسل وغيره، بجامع ميل القلب وتمتعه باللذة والحب والرضا، معبرًا بالحلاوة كناية عن العسل والثمرة الطيبة من شجرة طيبة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} . وعبر بحرف الجر "في" بدلًا من "إلى" في قوله: "يعود في الكفر ويقذف في النار"؛ لأن الشأن في الفعلين هنا "يعود" و"يُقْذََف" يتعديان بحرف الجر "إلى"، لا "بفي" الظرفية التي جاءت هنا على سبيل الاستعارة، للدلالة على الاستقرار في أعماق النار، حين يتمكن الظرف من المظروف؛ ليكون ذلك أعظم تنفيرًا منهما، وأشد ترهيبًا من عواقبهما الوخيمة.

أما الصورة البيانية في تشبيه كراهية العودة إلى الكفر بكراهية القذف في النار، فهي تصور بشاعة الكفر وفظاعته، لأن الكفر أمر قد لا يهتم به الكافر لغفلته عن ضرره واستغراقه في لهوه، فالكفر ليس محسوسًا ولا مجسدًا تجسيدًا عينيًا يحذر منه العبد، ويخافه إلا إذا انغمس في عقاب محسوس، يعانيه في الدنيا كما يعاني لهيب النار، التي تحرقه ويتفحم بها جسده، وأنها في الآخرة ستكون أشد عذابًا وأنكى، لأن صفة المشبه به -وهو كراهية النار- أبلغ وأقوى في الحس من المشبه، وهو كراهية الكفر، ليدرك العبد فظاعة الكفر والنار، وبشاعة الضلال والعذاب فيهما، نعوذ بالله الرحمن الرحيم من شرهما معًا. القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- تربية المسلم على العزة والترفع والسمو، فإذا أحب لا يحب إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله، وإذا كره لا يكره إلا لله ورسوله، فتكون محبة الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في الطاعة أمرًا ونهيًا مقدمة على ما عداهما خالصة لوجهه الكريم لا من أجل نعمة عليه أو متاع الحياة الدنيا. 2- أن تكون محبة المؤمن للمؤمن خالصة في الله ولله تعالى لا لغرض أو مصلحة أو عرض من متاع الدنيا، وطمعًا في جاه أو سلطان، أو منصب أو مال. 3- أن يتحلى المؤمن بمكارم الأخلاق وكريم الشيم مترفعًا عن الرذائل والمكاره. 4- الإيمان الصادق يملأ القلب بالنعيم واللذة فيمقت الكفر، ويفزع منه كما يخشى العذاب الأليم ولهيب النار المحرقة. 5- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

كمال الإيمان

كمال الإيمان: أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" زاد مسلم: "فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". بلاغة التعبير بالإيمان دون غيره: أما أسرار روعة التصوير الأدبي والفني في إيثار بلاغة التعبير بالإيمان، دون غيره من مراحل الإسلام فتعود إلى: أن الإيمان هو مرحلة الكمال والصدق والإخلاص في العمل، ابتغاء مرضاة الله عز وجل، لا يشوبها الرياء أو التظاهر أو النفاق في مرحلة الإسلام حينًا، لأن المسلم قد يصلي ويصوم ويزكي في الظاهر، وليس لوجه الله عز وجل بعكس المؤمن، لأن الإيمان يزيد حتى يصل إلى أسمى درجاته وهو الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما جاء في حديث جبريل، حين سأل عن مراحله مُرتَّبة حسب تمامها وكمالها، فالإسلام أولًا ثم الإيمان ثم الإحسان، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . وعبر عن الإيمان أيضًا بأداة التعريف "أل"، لبلاغة الدلالة على مكملات الإيمان أي الإيمان الكامل، لأن أداة التعريف تفيد استغراق قيم الإيمان، وتشمل جميع مكملاته كما نقول: الرجل، أي الذي اكتملت صفات رجولته وقيمها، وكمال الإيمان يجمع بين مكملاته من الإقرار والتصديق والعمل والإخلاص؛ لذلك فسره الحديث بأن الإيمان بضع وستون شعبة، وجاءت زيادة مسلم في روايته لتوضح مكملاته أكثر في قوله: "أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"؛ فقد

حصرها كثير من العلماء ومنهم أبو حيان التوحيدي؛ فجعلوا هذه الشعب تتفرع إلى ثلاثة؛ أولًا: أعمال القلب وهي المعتقدات والنيات في أربع وعشرين خصلة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وما يتصل بالقبر، وبيوم القيامة والتوبة والخوف والرجاء وهكذا، ثانيًا: أعمال اللسان في سبع خصال: التلفظ بالشهادة، وتلاوة القرآن، والعلم، والدعاء، والذكر ... إلخ، ثالثًا: أعمال البدن في ثمان وثلاثين خصلة: كالتطهر والصلاة والصيام.. إلخ، ومجموعها تسع وستون خصلة كما قال القاضي عياض. بلاغة التعبير عن كمال الإيمان بقوله: "بضع وستون شعبة": ترجع روعة التصوير البلاغي في هذه الفقرة إلى أسرار فنية وجمالية منها: اختيار كلمة "بضع" دون غيرها مثل نيف، لدلالة بضع على العدد من ثلاثة إلى تسعة، بينما نيف، من واحد إلى ثلاثة غالبًا، وبإضافة التسع إلى الستين يكون المجموع تسعًا وستين؛ أي: سبعين قيمة إسلامية، هي التي تكمل الإيمان لأن كمال الأعداد سبعة، ومضاعفاتها سبعون وسبعمائة وسبعة آلاف، وهكذا فالسبعة هي نهاية العدد وكماله، وما بعده مكرر ومعطوف ومضاف إليه، لذلك كانت الأراضين سبعًا والسموات والأسبوع سبعًا، وكمال الاستغفار سبعين وهكذا، ومن هنا جاءت رواية أخرى لمسلم "بضع وسبعون شعبة" للدلالة على الغاية ونهاية الكثرة. ومنها التعبير بالبضع للدلالة على شرف قيم الإسلام وعزتها ونفاستها؛ لأن البضع هو أعز شيء يحافظ عليه الإنسان وأشرفه وأنفسه؛ فهو موطن الشرف والعزة والنفاسة، وهي من معاني البضع في اللغة العربية ومنها التعبير البلاغي بقوله: "شعبة"، فجاءت الصورة الأدبية على

سبيل التشبيه والتصوير الحسي؛ ليكون أقوى تأثيرًا وأسرع نفاذًا إلى القلب والنفس، فقد شُبه الإيمان ومكملاته بالشجرة الضخمة وشعبها، التي تحمل كل شعبة فروعًا وأوراقًا وأزهارًا وثمارًا، فشبه الإيمان بأصل الشجرة جذوعًا وسيقانًا، وشبه مكملات الإيمان بالسبعين شعبة، وما تحمل كل شعبة، وجاء هذا التشبيه التمثيلي البليغ على سبيل الاستعارة بالكناية؛ فحذف المشبه به وهو الشجرة وطوى ذكرها، وأثبت شعبها وفروعها وغيرها من مستلزمات الشجرة على سبيل المجاز والتخييل؛ لأن التصوير بالمحسنات من الواقع بالشجرة أبلغ تأثيرًا في النفس من تصوير الإيمان بالمعاني الذهنية المجردة. بلاغة التعبير بقوله: "والحياء شعبة من الإيمان": ذكر الحديث الشريف الحياء وخصه بالذكر دون غيره من السبعين، لأن الحياء يشمل جميع شعب الإيمان الثلاث، وما يتفرع عنها وهي أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن؛ لأن معنى الحياء هو الخلق السامي الذي يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، لذلك ورد في حديث آخر "الحياء خير كله" لأن الحياء من الله ألا يراك حيث نهاك؛ لأن الله يراقبك ويراك وهو المراد من الحديث الشريف: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وأخرج الترمذي قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "واستحيوا من الله حق الحياء" قالوا: إنا نستحي والحمد لله فقال: "ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" قال الطيبي: أفرد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كأنه يقول هذه شعبة واحدة من شعبة، فهل تُحْصَى شعبُه كلها

هيهات هيهات، أي كثيرة لا تحصى وتؤكد ذلك رواية مسلم: "أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- كمال الإيمان الذي ينجي صاحبه ويسعده يقوم على اتباع ما أمر الله تعالى به، واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه. 2- شعب الإيمان كثيرة ومتنوعة ما بين شعب عليا ووسطى ودنيا، فعلى المؤمن أن يحرص عليها. 3- الحياء أعظم شعب الإيمان، "فلا إيمان لمن لا حياء له"، والإيمان والحياء مقترنان". 4- الإيمان ينقص ويزيد، حتى يصل إلى قمته، وهو الإحسان وهو العروة الوثقى. 5- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الإيمان الكامل

الإيمان الكامل: أخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ عني هذه الكلمات؛ فيعملُ بهن أو يُعْلِمُ من يعمل بهن"؟ فقال أبو هريرة قلت: أنا يا رسول الله فأخذ بيده فعدَّ خمسًا فقال: "اتّقِ المحارم تكنْ أعبدَ الناس". وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس. وأحسنْ إلى جارك تكنْ مؤمنًا. وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكنْ مسلمًا. ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب". التصوير الأدبي في بلاغة التوازن بين الشرط والجزاء على سبيل اللزوم والجزم كما تستلزم المقدمةُ النتيجة على سبيل الإلزام والتحقيق، وخاصة إذا صدرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادق الأمين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وذلك في استخدام أسلوب الشرط والجزاء في الصور الأدبية الخمسة البليغة، التي وردت في الحديث الشريف على سبيل الجزم والتحقيق، وأعانت على ذلك روافد بلاغية أخرى وهي ورود فعل الشرط بصيغة الأمر مثل: اتق وارض.. إلخ ومعناها أيضًا الجزم والتحقيق، ودلالة جواب الشرط على الأمر وإن جاء على صيغة الفعل المضارع، مثل: تكن أعبد الناس، وتكن أغنى الناس" وهكذا، وكذلك انتقاء أفعال غزيرة القيم السامية، لا يقوى عليها غيرها مما يقوم مقامها، مثل كلمة "اتق" فهي تتضمن قيمًا سامية شريفة كثيرة، لا تدخل تحت الحصر ولا تغني عنها في ذلك كلمة: ابتعد أو تجنب، وكذلك اختيار كلمة "وارْضَ" فالرضا هو الغاية السامية من التقوى، وكذلك كلمة "أحْسِنْ" والإحسان قمة الإيمان قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وكذلك كلمة "أَحِبَّ" والنهي عن كثرة الضحك؛ لأن الإسراف فيه يميت القلب، فالإسلام يحث على التفاؤل والترويح عن النفس بالابتسامة والضحك ساعة بعد ساعة لكي لا تمل النفس، فإذا ملّت كلت وسئمت وتشاءمت، ولا طيرة ولا تشاؤم في الإسلام. التصوير الأدبي في بلاغة الإيقاع القوي، والموسيقى المتدفقة الهادرة، مما يتلاءم مع القيم السامية التي تحث عليها شريعة الإسلام في هذا الحديث الشريف؛ فتأمل الإيقاع الصوتي في الحروف والكلمات، فهو إيقاع قوي

جازم يُلْزِمُ المؤمن بالقيم، وهو واثق من عظيم الثواب وأفضل الجزاء، وذلك في الإيقاع الصوتي النابع من صيغ الأمر الكثيرة في "اتق وارض وأحسن وأحبَّ" وصيغة النهي في "ولا تكثر من الضحك" وكذلك الإيقاع الصوتي الجازم القوي الصادر من ترتب جملة الجواب والجزاء على الشرط في توازن واتزان مثل: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وهكذا في الصور البلاغية الخمسة، فكأنَّ الإنسان يضع بيده شيئًا هنا بينما يضع بيده الأخرى شيئًا هناك، في اتساق وتوازن واتزان، تلك هي الإيقاعات القوية التي تثير العقل والعاطفة، وتحرك الانتباه والمشاعر والأحاسيس. ثم تأمل الإيقاع الصوتي والتدفق الموسيقي في صيغ أفعل التفضيل، وذلك في هذه التقاسيم: "أعبد الناس" و"أغنى الناس" ثم ما يوحي به التقسيم الموسيقي في قوله: "تكن مؤمنًا" من التدفق في الإيقاع والجزم والقطع، مع أنه ورد في صيغة الفعل المضارع الذي يتراوح معناه بين الحال والاستقبال، ثم تأمل الموسيقى المتراخية الممتدة والإيقاع الهادي العميق في تصوير الحب وموت القلب النابعان من كثرة حروف اللين والتضعيف في الشدات، وأيضًا كلمة "مسلمًا" لتسلم النفس من العقد والعلل النفسية مما يتناسب مع قيم الحب التي تتسم بطبيعة العمق ودوام الصدق والإخلاص والسلامة، ومما يتلاءم أيضًا مع إحياء القلب وبعثه بعد جموده وموته من كثرة الضحك وتراخي عضلاته وامتدادها من التواصل فيه. القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- أن يتحول العلم إلى منهج وسلوك في الحياة؛ فيعمل الإنسان بما علم، حتى يعود عليه وعلى المسلمين بالسعادة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .

2- اتقاء المحارم واجتناب المحرمات هو أفضل العبادات؛ لأنه يمكن صاحبه من اتباع الأوامر؛ فيجمع بين ما أمر الله به وما نهى عنه؛ فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. 3- أفضل الناس وأغناهم من يعف نفسه، ويرضى بما قسم الله عز وجل له ويقنع بعطاء الله في كل شيء؛ فلا يظلم ربك أحدًا. 4- إذا كان مؤمنًا حقًا فعليه أن يحسن الجوار، ويعامل جيرانه بالحسنى وهم كما في قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} . 5- امتلاء القلب بالمحبة للناس بمثل ما تحبه لنفسك، حتى يشيع الأمن والتعاون والرخاء والترابط والوحدة، فتكون الأمة قوية عزيزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . 6- روحوا عن أنفسكم ساعة فساعة، حتى لا تكل النفس فتمل، ولا تكثروا من الضحك وتتمادوا فيه؛ فإن ذلك يميت القلب، فلا يحيا ولا يتجدد نشاطه إلا بالقليل ترويحًا عن النفس؛ فيقوى ويتجدد نشاطه من حين إلى آخر. 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

النخلة كالمسلم

النخلة كالمسلم: أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي"؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: "هي النخلة". بلاغة التصوير الأدبي في ضرب المثل: جاء الحديث الشريف على سبيل ضرب المثل من الواقع الذي يعيش فيه الإنسان؛ فقد جمع في المثل بين النخلة وما يتعلق بها من الثمار والجريد والليف، والساق ودوامِ الخضرةِ طوال العام، والإيواء إلى ظلها وقاية من الحر وحلاوة الثمر، وتستريح الأذنُ إلى حفيف السعفِ والجريد وغيرها مما هو مألوفٌ، وبين المسلم وما يصدر عنه من الطاعات وعمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلاهما يُشبِه الآخر في دوام الانتفاع وعمومه. لكن الشأن في ضرب الأمثال أن يكون المشبهُ به هو المحس في الواقع كالشجرة هنا، ويكون المشبهُ هو المسلم، حتى تتجسم المعاني المجردةُ في صورة محسوسةٍ تدرك بجميع الحواس، وهي شجرةُ النخيل، فهي هنا تقديرًا في موقع المشبه هنا؛ لأنها أقربُ إلى الفهم من المعاني المجردة في المسلم وهو المشبه. لكن روعة البلاغة في الحديث الشريف أنْ جاء التشبيهُ التمثيلي مقلوبًا، فكان المشبهُ هو النخلةُ المحسوسةُ، والمشبهُ به هو المسلمُ، للدلالة على أن المسلم أبلغُ في صفاته المعنوية والخلقية من النخلة المحسوسة للتصريح بأن المسلم أعزُّ عند الله وعند الناس، وأن النخلة مع أنها شبيهةٌ به في جميع منافعها إلا أن منافع المسلم أكثر منها؛ لاستكثاره من الخير والعمل الصالح والتمسك بالفضائل، والتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن القبيح والصفات الذميمة، علاوة على تميزه عن الخلائق بالعقل والتكليف. بلاغة التصوير الأدبي في العرض القصصي بأسلوب الحوار: حينما عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة رضي الله عنهم سؤالًا عن شجرةٍ لا يسقط

ورقها، وذكر لهم بعض خصائصها التي تلتقي فيها صفات المسلم، لكي يحرك العقل والمشاعر، وينمي الذكاء في النفس، ويتنافس المتلقي مع غيره في المهارات العقلية، لتعميق التجارب الإنسانية في الحياة، والكشف عن أعماق الخبرة والحنكة في فهم أسرار الواقع، مما دعا كل المستمعين أن يتسابقوا في عرض خبراتهم في الحياة، وإظهار ذكائهم وقدراتهم العقلية والفكرية، فانطلق كل واحد يفسرها حسب خبرته وتجاربه الفكرية والعلمية والواقعية في الحياة، ويذكر نوعًا من الأشجار الكثيرة التي انتشرت في البوادي، وتنوعت أشكالها وأنواعها في الصحراء والوديان وعلى الجبال، لكن هذه الإجابات المتنوعة ابتعدت عن المطلوب، ولم تتفق مع صفات الشجرة المطلوبة، التي رمز إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببعض صفاتها، حتى يحرك الأذهان وينمي الذكاء ويعمق التفكير، وابتعدوا جميعًا عن النخلة ورسول الله يتلقى الإجابات بصدر واسع وقلب مفتوح، ما عدا الراوي عبد الله بن عمر الذي خطر في باله وهداه تفكيره وذكاؤه وعمقُ تجربته هنا إلى أنها النخلةُ، فكاد أن ينطق ويعلن عما دار في عقله وخلده، ليسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإجابة الصحيحة، لكن حياءه منعه من أن يعلن ذلك، وحوله كبار الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم شيخ الإسلام أبو بكر الصديق، وأعدل أهل الأرض بعد رسول الله الكريم والده عمر بن الخطاب وغيرهما رضي الله عنهم هيبة منهم وتوقيرًا لهم، وخاصة وفي كل مرة يطرح هذا السؤال بصفات أخرى، ويتلقى الإجابة غير الصحيحة، ثم يزيدهم بعض الصفات لها، حتى تكون أكثر وضوحًا كما ورد في رواية: "إنها لا ينقطع ثمرها ولا يُعدم نيله ولا يبطل قطعها"، وفي رواية ثانية: "لا يسقط لها أبلمة - أي: خوصة - كما لا يسقط لمسلم دعوة"، وفي رواية رابعة:

"إن من الشجر ما بركته كبركة المسلم" فعجزوا، حتى قالوا: حدثنا عنها يا رسول الله، فقال مجيبًا عن السؤال بعد هذا الحوار القصصيَّ الشيق، الذي اشتركت فيه الشخصيات القصصية المختلفة، قال -صلى الله عليه وسلم: "إنها النخلة"، لأنها كالمسلم ينتفع بجميع أجزائها المتنوعة كالثمرة والجريدة والليف والخوص والعرجون حتى النوى في علف الدواب، والظلال، لأن المسلم كله خير، كما ورد في الحديث الشريف: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير". القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- الترغيب في اختبار الذكاء والتفكير، وتحريك العقل بالألغاز لظهور الشخصية وإبداء الرأي. 2- تقريب المعاني إلى العقل بالتصوير وضرب الأمثال. 3- الترغيب في الحياء، وتوقير الكبير، ومجالسة الكبار وأهل العلم والمنازل السامية. 4- النخلة أفضل أنواع الشجر لقلة تكاليفها، وعموم منافعها، وطيب ثمرتها. 5- المسلم متعدد المنافع كثير الفضائل، لا يقتصر خيره على نفسه، وإنما يتعداه إلى غيره من المسلمين، وإلى كل ما خلق الله عز وجل. 6- بالإضافة إلى ما ذكرته في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

بين المسلم والمهاجر

بين المسلم والمهاجر: أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "المسلم من سلم المسلمون" عبر الحديث الشريف بالمسلم وهو دون المؤمن في الظاهر، لأن بلاغة المقام ومقتضى الحال يُؤْثِر التعبير بالمسلم؛ لأنه جاء مقيدًا بما بعده وهو: من سلم المسلمون، فالذي لا يتعرض لأذى، بل للمحبة وتمني الخير، يكون مسلمًا كاملًا، أي مؤمنًا محسنًا في إيمانه، وهذه قمة البلاغة، لأن التعبير بالمؤمن لا يحتاج إلى قوله: "من سلم المسلمون" لعدة أمور: أولًا: حتى لا يوصف الحديث بالحشو والزيادة ورسول الله أبلغ العرب، ثانيًا: لأن بلاغة الحديث الشريف تقتضي التصريح بهذا القيد؛ لأنه أبلغ من الإضمار لما فيه من التصريح بالسلامة، ثالثًا: ليدخل في المسلمين كل الناس: المسلم والمؤمن والمحسن من باب أولى، وكذلك يدخل فيه غير المسلم؛ لأن من استأمنه جماعة المسلمين على أرضهم، أخذ حكم المسلمين من الأمن والسلامة؛ لذلك كان حرف "من" في موقعه من الحديث، قد بلغ الغاية في بلاغة التصوير الأدبي عن هؤلاء جميعًا، لما يفيده من العموم والشمول، فهو يشمل المؤمن والمسلم وغير المسلم في ديار المسلمين، وتلك هي بلاغة المصطفى -صلى الله عليه وسلم، التي تصور سماحة الإسلام وعدالته، ولا يخفى علينا أن التعبير بالمسلم يشمل الذكر والأنثى والصغير والكبير. بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "من لسانه ويده": أجمع علماء البلاغة على أن هذا الحديث من جوامع الكلم، التي اختص بها من بين الأنبياء جميعًا، لأن اقتصاره على اللسان واليد؛ في التصوير الأدبي لكل ما يقع من الإنسان؛ قولًا أو فعلًا بلغ القمة في بلاغة الإيجاز، فاللسان هو الذي يعبر عما في النفس، وهو أبلغ من التصوير بالقول، الذي لا يشمل خروج

اللسان من الفم استهزاء؛ فليس قولًا، ولأن الإنسان يحاسب على ما يصدر من اللسان، ولا يعاقب على نية الشر والأذى قبل ترجمتها باللسان، لذلك كان اللسانُ ملاك الأمور كلِّها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم معاذ -رضي الله عنه: "هل أدلك على ملاك الأمر كله"، قال معاذ: بلى يا رسول الله قال: "أمسك عليك هذا" وأشار إلى لسانه فقال معاذ: وهل نحن يا رسول الله مؤاخذون بما نتكلم، فقال: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم". وقدّم اللسان على اليد، لأن الأذى باللسان، يشمل من في الماضي والموجود في الحاضر، والحادث في المستقبل بعد ذلك. بخلاف اليد فالإيذاء بها خاص بالموجودين، اللهم إلا إذا كان عن طريق الكتابة فقط. وبلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في اقتصاره الإيذاء على اليد فقط، دون بقية الجوراح التي يحصل الأذى بها، لأن معظم الأفعال إنما يتحصل باليد في الغالب، إذ بها يكون البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع، لذلك قيل لكل عمل، وإن كان بغير اليد: "هذا مما عملته أو جنته أيديهم" وبلاغة التعبير باليد، يُدْخِلُ اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير الحق؛ لذلك كانت اليد تطلق على كل فعل ينسب إليها، قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وفي هذه الفقرة تعددت ألوان البلاغة، فأصبح الحديث الشريف كالروضة، ضمت ألوانًا وأنواعًا مختلفة، تناغمت فيها الأنواع وتناسقت بينهما الأشكال والألوان، ويظهر هذا التناسقُ بين الأنواع المختلفة، والتآلفُ بين الألوان المتنوعة، فيما أطلق عليه علماء البلاغة الجناس والطباق والمقابلة،

فأما الجناس فقد كان في اتحاد الألفاظ مع اختلاف المعاني، فكان بين لفظي المسلم وسَلِم، ولفظي: المهاجر وهجر، التي أشاعت ألوانًا من التناسق بين أنغام الحروف ونسقها الإيقاعي، مما يثير الانتباه، ويحرك العواطف والمشاعر، وأما الطباق فتجده بين المسلم والمهاجر، وبين سلم وهجر ونهى، وبين لسانه ويده، والتضادُّ بين معاني كل لفظين، يعطي تنويعًا وتلوينًا وتعميقًا للمعاني، حتى تتمكن من النفس أيما تمكن، وأما التقابل فكان بين هذين الفقرتين، بين: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" و"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" فالتقابل هنا بين الإيجاب والسلب وبين الأمر والنهي، يدل على أن الحديث الشريف جمع بين الأوامر والنواهي جميعها؛ لذلك كان من جوامع الكلم. انظر إلى بلاغة التصوير الفني بالمهاجر، وهي تدل على المشاركة على العكس من كلمة الهاجر وهو المراد في الأصل، للدلالة على أن الإنسان دائمًا في صراع بين الخير والشر، وبين النفس الأمارة بالسوء والنفس الطيبة، وكذلك بلاغة التصوير البلاغي باسم الموصول في "من هجر"، لأن الإنسانية تقتضي عموم ذلك بين الإنسان مسلمًا كان أو غير مسلم، وكذلك ما تفيده بلاغة العموم في قوله: " ما نهى الله عنه"؛ لأنه لا فرق بين المنهي عنه حقيرًا كان أو عظيمًا لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يطمئن من لم يهاجر من المسلمين بعد انقطاع الهجرة؛ بأن هجرة المعاصي تعد هجرة؛ فالمهاجر من هجر المعاصي. 2- كمال الإسلام لا يتحقق إلا بالأصول والفروع، وكل ما به كمال الإيمان. 3- الإيمان يزيد بالطاعات وعمل الخيرات، وينقص بالتقصير فيها. 4- الإسلام دين السلام والسماحة؛ فهو يحث على كف الأذى عن الناس جميعًا ونشر المحبة بينهم. 5- جمع الحديث الشريف بين المحافظة على حقوق الله تعالى وحقوق عباده. 6- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

بين المؤمن والفاجر

بين المؤمن والفاجر: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفَّأ بالبلاء، والفاجر كالأَرْزَةِ صمَّاءَ معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء". بلاغة التصوير الأدبي في ضرب الأمثال: من أبلغ الأساليب في هذا الحديث الشريف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرضه على سبيل ضرب الأمثال، فقال: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع" لأن بلاغة المثل ترجع إلى مقومات تسمو إلى أقوى الصور البلاغية وهي: 1- أن المثل يستمد عناصره من الواقع المحسوس كالزرع والريح والأرزة الصماء، فلا تدركُ بالعقل وحده، بل تشترك معه الحواس المختلفة، كالرؤية بالعين الباصرة، فترى سيقان الزرع وفروعه وأوراقه وأزهاره وثماره وحركته وألوانه، وتدركه بالسماع؛ فتسمع الأذن حفيف أوراق الزروع واصطكاك الريح بالأرزة الصماء وقصمها، وتدركه باللمس أيضًا لتشعر بالنعومة أو الخشونة، وبالشم لروائحه وبالتذوق لمطعوماته وغير ذلك مما يدرك بالحواس الكثيرة مع العقل. 2- أن المثل يعتمد في بلاغته

على الإيجاز لألفاظ لا تتجاوز المشبه والمشبه به، لكنها ثريةٌ بالمعاني والمشاعر والقيم الكثيرة، التي تختلف في تفسيرها من شخص إلى آخر، ومن وقت لآخر. 3- أن المثل يحول الفكرة إلى حكمة، يتمثل بها الناس في كل الأحوال والمقامات المختلفة، فَيُضْربُ به على حاله بلا تغيير مهما اختلفت مضاربُه، فأصبح هذا المثل في الحديث الشريف حكمة، يتمثل بها الحكماء في أقوالهم، قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . البلاغة في تصوير المؤمن بالخامة من الزرع: روعة التصوير الأدبي في بلاغة الحديث الشريف، تظهر حين صور النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن في صورة الخامة من الزرع، أي الطريُّ اللينُ الذي لا يتقصف، بل تستجيب للريح وتتماثل معه ذهابًا وإيابًا، فإذا اشتدت عليها كَفَأتها حتى تمر العاصفة، ثم تعود إلى ما كانت عليها من الاعتدال، وانظر إلى بلاغة لفظ الريح لا الرياح، لأن الريح لا تكون إلا في التمحيص والفتنة والعذاب، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} بينما الرياح تكون طيبات مبشرات بالخير، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . والبراعة في هذا التشبيه التمثيلي البليغ، حين شُبه بالخامة رِضا المؤمن بقضاء الله وقدره، ليتقبله بصدر رحب وقلب مفتوح، فلا يكفرُ ولا يسخطُ ولا يغضبُ ولا يتمرد، بل يتلقى ذلك صابرًا محتسبًا راضيًا، فيزداد إيمانًا على إيمانه، وتسمو منزلته عند ربه، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} مثله في هذا مثل الزرع الطري

اللين، الذي يتمايل مع الريح ذهابًا وإيابًا، حتى إذا مضت عاد إلى اعتداله، وكيف لا يرضى المؤمن، وهو عبده وعلى أرضه وتحت سمائه، قال الله تعالى في الحديث القدسي الشريف: "فمن لم يرض بقضائي فليخرج من تحت سمائي وليتخذ ربًا سواي" وقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . البلاغة في تصوير الفاجر بالأرزَة الصماء: وروعة التصوير الأدبي في بلاغة هذا الحديث الشريف، حين صور النبي -صلى الله عليه وسلم- الفاجر بصورة الأرزة الصُّلبة الصماء، فالريح لا تقصُمها ولا تحركها كالفاجر، لا يبتليه الله تعالى بالفتنة والتمحيص، بل يظل بمنجاة عن الابتلاء والاختبار؛ ليمهله الله عز وجل حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر؛ فيقصمه بشدة مثل شجرة الأرزة، تظل صامدة أمام عواصف الريح، حتى تأتيها عاصفة فتقصمُها مرة واحدة، لأن الله تعالى يملي للفاجر من التيسير في الدنيا، ليزداد عسرًا وشدة في استخراج روحه وهلاكه في الآخرة، وتظهر البلاغة حينما اختفى لفظ الريح مع الفاجر، لأنه لا يستحق أن يتعرض للابتلاء والتمحيص من الله تعالى، على العكس من عبده المؤمن، قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌْ} . القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- المؤمن سهل لين، وليس معاندًا قاسي القلب، فهو رقيق المشاعر يتعاطف مع غيره ويتعاون معه، ولا يضر أحدًا.

2- يستقبل المؤمن المقتدر حينما يتعرض لقدر الله تعالى وقضائه بالصبر والرضي، والاحتساب عند الله عز وجل بلا جزع أو سخط أو غضب أو اعتراض، لأنه يؤمن بالقدر خيره وشره. 3- والفاجر عنيف معاند قاسي القلب، لا يلين ولا يتعاطف مع الآخرين، وكلما تعرض للشدة ازداد عنفًا وعنادًا. 4- أن الله تعالى يملي للفاجر ويمهله، حتى إذا طغى وتجبر أخذه أخذ عزيز مقتدر، وعذبه عذابًا شديدًا يوم تشخص فيه الأبصار. 5- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

من أخطر صور النفاق: ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث

من أخطر صور النفاق: ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث: رُوِيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لا أخاف على أمتي مؤمنًا ولا مشركًا، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيُقْمِعُه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كلَّ منافق الجَنان، عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون" تعددت روايته. في هذا الحديث الشريف تصوير أدبي بليغ للنماذج البشرية في ثلاث صور بليغة؛ فأما الصورة الأولى: فلا يخاف منها النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من بعده وهي التعبير البلاغي عن المؤمن فقال: "فأما المؤمن فيمنعه إيمانه"، ليكون له حارسًا أمينًا وصادقًا على اللسان والقلب، في النية والقول والعمل، فلا يقول ما لا يفعل، ولا يظهر ما لا يخفي، ولا يتلون بألوان مختلفة، بل يخلص القلب واللسان والعمل لله وحده، فيعبر عنه بصدق وأمانة وإخلاص، لا يأتي هؤلاء بوجه، ولا هؤلاء بوجه، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وأما الصورة الثانية: التي لا

يخاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته منها، فهي التعبير البلاغي عن المشرك فقال: "وأما المشرك فيُقْمُعُه الله بشركه" لأن الله تعالى يتولى أمره؛ فيحاربه وينصر المسلمين عليه، ويخزيه فلا يستطيع أن يخدع المؤمن، لأن المؤمن يكون دائمًا على حذر منه، فلا يتمكن منه أبدًا في جميع الأحوال، لذلك قيل: عليك أن تخشى العدو مرة والصديق ألف مرة، وأما الصورة الثالثة التي يخاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته منها: فهي التعبير البلاغي عن منافق القلب عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون؛ فهو عذب اللسان، ناصع الفكرة، قوي الحجة، يقلب الحقائق، ويلفقُ الباطل، ويجعله في صورة الحق، ويُزِّور المسلمات، ويخلع عليها لباسًا غير لباسها الحقيقي، في أسلوب هادئ، يضفي على صاحبه ثوب الوقار والحكمة، في حديث عذب ولسان رطب، يعبر عن تجربة حياة، يفتلها من خبرة محنك بالدواهي والأحاييل، وذلك في أسلوب عصري، ممزوج بما يتفتح له العقل، وتقبل عليه النفس من مغريات الحياة، ومقتضيات الإنسان في مجتمعه الجديد، فهو يملك زمام الحيل، يرد بها كل اتهام، يسخر لها شباك الدُّهاة، ليصطاد بها صيده، ثم يصل به الزيف والضلال إلى أن يجعل الله تعالى شاهدًا على قوله، فيقول المنافق في ختام حديثه: الله يعلم أني صادق فيما أقول، أو أن الله شاهد على ما أقول، وغيرها من عبارات الافتراء والتلفيق، ولقد عبر الحديث الشريف عن التصوير القرآني لهذا النموذج البشري الخطير، يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} فإذا حقق مراده أفسد في الأرض بإيقاع العداوة بين الناس، فتنعدم الثقة، وتنتشر البغضاء، فيحاول تدمير المجتمع، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ

اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ؛ لذلك ورد في حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها يصور خصومته: "أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم" وعن أبي الدرداء فيما رواه ابن حنبل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كفى بك إثمًا ألا تزال مماريًا، وكفى له ظلمًا ألا تزال مخاصمًا، وكفى بك كذبًا ألا تزال محدثًا إلا حديثًا في ذات الله عز وجل"، وأحيانًا في المجتمع الذي تصدع بظاهرة النفاق، يلمع هذا النموذج البشري الخطير، فتتسلط عليه الأضواء زيادة في التعمية، ويتصدى لدعوة الإصلاح والتقويم، ويتصدر المجالس والاجتماعات، يدير الحوار الخادع، لا يبتغي من وراء ذلك إلا الشهرة وذيوع الصيت، ليصل إلى أغراضه من أقرب طريق، وفي أسرع وقت، وهؤلاء صورهم القرآن في أصح صورة، ليفضح أمرهم فتبور تجارتهم، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} . في هذه الأحاديث الشريفة التي عبرت عن المنافق الخطير كما ورد في القرآن الكريم، فحددت صفاته وأبزرت معالمه، لكنه مع ذلك لا يخفى على المؤمن؛ فيستعين على فضح أمره ببصيرته النافذة وذكائه وفطنته، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "المؤمن كيس فطن" فيفطن إلى تزييفه وتلفيقه

فيقرعه الحجة بالحجة، ويأخذ بيديه إلى الحق والحقيقة من أقرب طريق، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف: 1- تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته من المنافقين، فهم أخطر النماذج البشرية من الفاسقين والمشركين وأعداء الإسلام، لذلك توعدهم الله عز وجل بأشد أنواع العذاب: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} . 2- لا يخشى على المسلم من المؤمنين لأن المؤمن لا يؤذي أحدًا، ولأن إيمانه يمنعه من ذلك، فهو أمين يتقي الله ويخشاه، ويخاف عذابه "لا إيمان لمن لا أمانة له"، "لا يؤمن أحد حتى يأمن جاره بوائقه". 3- كما أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يخشى على المسلمين من المشركين بالله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بخزيهم وقمعهم؛ إنما يمهلهم ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولن يفلتوا من عذابه لا في الدنيا ولا في الآخرة. 4- حدد النبي -صلى الله عليه وسلم- صفات المنافقين حتى يحذرهم المسلمون، ووضح علامات النفاق ليفطنوا إليها، فيحذروهم، من هذه العلامات أن المنافق يظهر ما لا يخفيه، فتختلف أقواله وأفعاله عما يسره في قلبه، متخذًا في ذلك بيانًا خلابًا في بلاغة القول، وفنون الأحاديث وأساليب الخداع والدهاء؛ فيخدعهم بما يعرفون؛ لكنه يفعل ما ينكرون. 5- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الفصل الثاني: الوضوء والصلاة

الفصل الثاني: الوضوء والصلاة الوضوء يمحو الخطايا: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا، ما تقول ذلك يُبقي من درنه"؟ قالوا: لا يُبقي من درنه شيئًا، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا". التصوير البلاغي المستمد من المعاني الوضعية في اللغة العربية لهذا الحديث الشريف: تنوعت مصادره الجمالية، فالصورة الأولى: أوحت بها همزة الاستفهام "أرأيتم"؛ فقد أفادت معان كثيرة فوق المعنى الوضعي لها في اللغة، وهي الإجابة عن هذا السؤال منها: إثارة انتباه السامع لأهمية موضوع الصلاة والاستعداد لها بالطهارة والغسل، فهي عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، لأنها تربية بدنية وروحية وأخلاقية واجتماعية، ومنها: إفادة التقرير والثبوت، فليس المرادُ بالاستفهام الإجابة عن السؤال فحسب، بل المراد أيضًا أن هذه التربية البدنية، والقيم الخلقية والاجتماعية، أمر ثابت ومقرر، لمن أدى الصلاة بعد الاغتسال والوضوء خمس مرات في اليوم والليلة، ومنها: أن الاستفهام بالهمزة وهي حرف مفرد يفيد التحقيق والحق والحقيقة، فلا مجال هنا للتردد والظن، مما تضمته بنية "هل" من احتمال هذه الظنون، بمعنى أن من اغتسل خمسًا للصلوات المفروضة فجزاء فاعلها محو الذنوب حقًا وحتمًا لا مرد فيه، لأنه وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، وكذلك الأمر في الاستفهام الثاني في قوله: "ما تقول ذلك يُبقي من درنه؟ ". والصورة

الثانية: في تخصيص الفعل المضارع دون الماضي والأمر، في قوله: "يغتسل، ويبقي، ولا يبقي، ويمحو" للدلالة على تكرار الغسل وتجدده واستمراره، وما أجمل العموم في لفظ "يغسل" غير المقيد، وبلاغته العميقة في تنوع الغسل، ليشمل جميع البدن أو معظمه، أو الاقتصار على أعضاء الوضوء فقط، وللدلالة على طهارة تجدد الأوساح الحسية في البدن والثوب، والمعنوية من الطهارة النفسية والقلبية، فهو متجدد مع المرات الخمس، وللدلالة على استمرار محو الذنوب في يمحو بها الخطايا في العمر كله، لتجدد الغسل والصلاة المفروضة كل يوم، وكذلك الحال في الصور البلاغية المستمدة من وحي اللغة في "أرأيتم -ونهرًا- وكل يوم- ومن درنه- والصلوات الخمس- وبها الخطايا". التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من ألوان الخيال، يتخذ منها صورًا حسية مؤثرة في النفس والقلب والعقل والوجدان. سواء أكانت صورًا جزئية أو كلية، فأما الصور الجزئية فمنها: المجازُ المرسلُ في "يغتسل فيه"، فليس المرادُ أن يغتسل في امتداد النهر كلِّه، يَسْبَحُ فيه من أوله إلى آخره، بل المراد في جزء منه، لتوحي الكلية في النهر بشمول الجسد وكمال الطهارة، ومنها: الاستعارة المكنية في كل من "يبقى من درنه، ولا يبقى.." فهي تفيد بأن النهر له تأثير فاعل كالإنسان؛ لتنظيف الجسد وتطهيره، فيشتمل على البدن خمس مرات، حتى لا يبقى من درنه شيء، ومنها: صورة الاستعارة التصريحية في "يمحو بها الخطايا" "من درنه شيء"، ومنها: صورة الاستعارة التصريحية في "يمحو بها الخطايا" لأن الخطايا أمر معنوي، والمحو لا يكون إلا للحسي، فجاءت في صورة محسوسة للتأكيد على غفرانها كلها، سواء الصغائر منها أو الكبائر على الأرجح عند العلماء، ومنها: صورة التشبيه التمثيلي فقد شُبِّه الاغتسال خمس مرات؛ لإزالة الأوساخ الحسية والنفسية بأداء الصلوات الخمس،

يمحو بها الذنوب، للتأكيد على تشريع الغسل والصلوات معًا، فهما مرتبطان بطاعة الله ومرضاته. وأما الصورة الكلية البديعة فقد وردت في أقصوصة طريفة ومثيرة، نسج فيها الخيال أحداثًا حسية ومشاهد حية، لتحريك العاطفة وإثارة العقل وتنشيط الوجدان واشتياق القلب، فجاءت في صورة حكاية جرت في العادة، وقامت مشاهدها المتنوعة فيما بين منزل مقام على نهر واسع ومتجدد، بجوار منازل أخرى، يغتسل المقيمون فيها كل يوم خمس مرات، في كل مرة يزيل الأوساخ من البدن والثوب، ثم يتبعها بالصلوات الخمس، ويدور الحوار بين شخصيات القصة، الراوي الذي سمع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمتحدث والسائل والمجيب، والمستمعون وهم كثيرون، يفكرون في السؤال ويحاولون الإجابة، كل ذلك في أحداث محسوسة، ومشاهد حية ومتحركة في قصة قصيرة بليغة. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- الحث على أداء الصلوات في أوقاتها، والحرص عليها في مواقيتها الموزعة على اليوم، يجعل القلب دائمًا موصولًا بذكر الله وشكره معظم اليوم أو نصفه، تجدد نشاطه الروحي، والإيماني. 2- أثر الوضوء والصلاة معًا في طهارة المسلم ورشاقته ونظافته معنويًا ونفسيًا من الشواغل والذنوب، وحسيًا وجسديًا من الأوساخ والجراثيم والأمراض؛ ليظل المسلم قويًا ونشيطًا. 3- منزلة الصلاة بين غيرها من أركان الإسلام؛ فهي عماد الدين، تنهى عن الفحشاء والمنكر: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . وفي الحديث الشريف: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له". 4- مشروعية ضرب الأمثال لتقريب المعاني والقيم إلى العقول والقلوب وتحريك العواطف. 5- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الغر المحجلون

الغر المحجلون: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. بلاغة التصوير الأدبي: في التعبير عن تميز الأمة الإسلامية بين الأمم يوم القيامة على غيرها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} ، فامتازت شريعتها بالسماحة والتوسط والاعتدال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ، وهذا الفضل والتميز يرجع إلى روعة التصوير الأدبي من الحديث الشريف في قوله: "إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة"، فيقوم على صور بليغة متنوعة: 1- صورة التأكيد "بإن" فهي لا تقبل الجدل والحوار، فلا راد لحكم الله تعالى، ولا مجال لمنكر أو معترض، لأنه حكم وتقرير إلهي محمدي. 2- الصورة الفنية الصادرة من قوله: "أمتي"؛ فهي تدل على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين وسيد المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين وقائد الغر المحجلين، وهي الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة.

وكذل تدل إضافة ضميره -صلى الله عليه وسلم- إلى أمته على اعتزازه بها، وحبه لها وحرصه عليها قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . 3- الصورة الأدبية البليغة في قوله: "يدعون"؛ فهي تدل على أسرار جمالية كثيرة، وهي أن أمتنا أمة الدعوة للتوحيد والإسلام والسلام، وكذلك هي أمة معروفة مشهورة بين الأمم بصفاتها المتميزة الكثيرة، لأنهم يدعون بمعنى يعرفون بذلك، وكذلك عموم الفاعل في بناء الفعل للمجهول في "يدعون"، يدل على أن شهرتها ليست بين الأمم فحسب، بل شهرتها عامة تشمل الجن والإنس والملائكة، وكل ما يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه. بلاغة التصوير الفني في قوله: "غرًّا محجلين من آثار الوضوء" فقد تنوعت في هذه العبارة الأسرار البلاغية اللطيفة منها: 1- تشبيه النور الإلهي الذي يشمل الوجه والكفين والقدمين والجسد كله بالبياض الناصع في غرة الفرس الأسود وتحجيله، وذلك في صورة مستمدة من الواقع الذي يعيشه المسلم، ويتعامل معه صباحًا ومساءً؛ ليكون ذلك أكثر تأثيرًا في النفس وأعظم وضوحًا؛ فهي محسة من الواقع. 2- وفي هذه العبارة أيضًا توحي بصورة أخرى جاءت على سبيل الكناية، لتدل على أن الغرة والتحجيل في جبهة الفرس وقدمه ليست هي المرادة؛ بل المراد المعنى الكنائي البعيد وهو النور الإلهي الشامل الذي ينتشر في المحشر من الأمة المحمدية كلها، مما يشير الأمم كلها، وتتعجب من قوته وشدته، فيدفعهم ذلك للسؤال عنه، نتيجة لإسباغ

الوضوء والإحسان في صلاته، فهم لا يقتصرون على الأعضاء ونورهم يسعى بين أيديهم، قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وقال أيضا: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . بلاغة التصوير الأدبي في التعبير بقوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل"، والأسرار البلاغية الجميلة في هذه الصورة الفنية، تدل على إذكاء روح المنافسة والتسابق في إحسان الوضوء، والحرص عليه وعلى الصلاة عمود الدين، والإتقان في ذلك حتى يسبق كل واحد الآخر، في أن المنافسة والتسابق على الاستطاعة حسب وفرة المال والماء والوقت والجهد، مصداقًا لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، وهذا ما يوحي به التوازن والتعليق بين أسلوبي الشرط والجزاء، بمعنى أنه إذا توفر الشرط وهو: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته" وجب تحقيق الجزاء على سبيل الأمر والوجوب، وهو ما يدل عليه أسلوب الجزاء من الأمر في قوله: "فليفعل". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- فضل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على غيرها من الأمم فهي {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . 2- تتميز أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة كذلك بميزة أخرى تعرف بها بين الخلق كافة، وهي نور الغرة والتحجيل، وذلك من آثار الحرص على الوضوء والصلاة والمنافسة فيهما. 3- يستحب إسباغ الوضوء بالزيادة في غسل العضوين الواجب والمفروض، لأن ما يتم الواجب إلا به فهو واجب. 4- جواز مدح المسلم حين يعود عليه المدح بالخير، ويدفعه إلى الإقبال على العمل الصالح إلا إذا خشيت الفتنة والاغترار بنفسه. 5- تبشير أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بمرضاة الله عز وجل، وأنها أكثر الأمم عددًا؛ فقلما تجد مسلمًا لم يتوضأ للصلاة. 6- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

بعثتم ميسرين لا معسرين

بعثتم ميسرين لا معسرين: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام أعرابي في المسجد فبال، فتناوله الناس فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "دعوه وهريقوا على بوله سجْلًا من ماء أو ذَنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". بلاغة التصوير الأدبي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "قام أعرابي في المسجد فبال، فتناوله الناس" ترجع إلى أسرار جمالية متنوعة: فالتعبير بقوله: "قام أعرابي" فيه دلالة على أن الأعرابي كان قد أدى الصلاة في المسجد قبل البول، فلما ألحَت عليه الحاجة، اضطر أن يبول في المسجد، والضرورات تبيح المحظورات، فلم يقصد ذلك ابتداء، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى: "أن أعرابيًا دخل المسجد ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا؛ فقال النبي: "لقد تحجرت واسعًا" فلم يلبث أن بال في ناحية المسجد ... وفيه دلالة أيضًا على أن هناك فرقًا بين "الأعرابي" الذي يسكن في البادية فطبيعته الجفوة، وبين العربي الذي تحضر بأعراف المدنية، لذلك فلا غرابة من صنيع هذا الأعرابي، الذي لم يهيئ نفسه للصلاة والمكث في المسجد.

وفي ذكر المسجد بالألف واللام دلالة على أن هذا الحكم خاص بالمسجد المعد لذلك بالبناء، ولا يطلق على الخلاء بدون بناء لتعرضه للشمس والماء والهواء؛ لأن المسجد له حرمته وتعظيمه، وفي التعبير الفني بالفاء في قوله: "فتناوله الناس" التي وضعت للترتيب والتعقيب؛ دلالة على المسارعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في الحديث الشريف: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده.." إلخ. وتجد روعة التصوير البلاغي أيضًا حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "دعوه وهريقوا على بوله سَجْلًَا من ماء أو ذنوبًا من ماء" من خلال صور فنية متنوعة: 1- جمال التصوير الفني بالفاء في صورة: "فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "دعوه ... " إلخ يدل على شفافيته وسرعة بديهته في رد إنكارهم؛ وتوجيههم إلى الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى سماحة الإسلام في رفق ورعاية للضرورات البشرية. 2- وجاءت الصورة الفنية البليغة الثانية: "وهريقوا عليه سجْلا من ماء" لتؤكد سماحة الإسلام في الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فأمر المعترضين عليه أن يقوموا هم لا الأعرابي بأن يصبوا ماء على مكان البول؛ فهذا يكفي لطهارة المكان وترضية الأعرابي، وفيه دلالة أيضًا على أن الأرض التي لا تصل إليها الشمس لا تطهر إلا بالماء؛ لأن صب الماء عليها يبعد النجاسة عن سطحها، وفي قوله: "على بوله" دلالة على صب الماء من أعلى دون أن يقلب التراب ولا يأتي على كل جوانبه من أسفل. روعة التصوير الأدبي في قوله: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" تعتمد على أسرار بلاغية رائعة في صور فنية جميلة: منها

التصوير الفني لسماحة الإسلام ويسره بأسلوب القصر والتوكيد في قوله: "إنما بعثتم ميسرين"، وذلك في صورتين أدبيتين: الأولى التصوير الفني المؤكد بإنما، والثانية: التوكيد بقصر التيسير والسماحة على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى أن التيسير مقصور على أمتكم أنتم وحدكم لا على غيركم، وذلك في قوله: "إنما بعثتم ميسرين"، وفي هذا أيضًا توجيه للأمة كلها؛ ليبلغوا عنه في حضوره وفي غيابه، كما جاء في حديث آخر: "يسروا ولا تعسروا" وفي قوله: "هلك المتنطعون" أي المتشددون. وكذلك بلاغة التعبير في صورة النفي بعد الإثبات: "ولم تبعثوا معسرين" بعد قوله: "إنما بعثتم ميسرين"، وفي هذا التصوير الفني تأكيد على القيم الأخلاقية والتشريعية السابقة في سماحة الإسلام ويسره، لذلك كرر أسلوب النفي بعد الإثبات، لإثبات هذه القيم بالحجة والدليل، حتى يقتنع المتلقي بنفي العسر وهو النقيض لإثبات اليسر في الإسلام، على سبيل المبالغة بتصوير اليسر بصور متعددة كالرفق بالجاهل، وتقديم أخف الضررين، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وقال أيضًا: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- الأرض النجسة يطهرها الماء عند الفقهاء، وقد تطهر الأرض بالشمس والهواء عند بعضهم، أما في المسجد أو المنزل فلا بد من الماء لعدم التعرض للشمس، بالإضافة إلى حرمة المسجد وقداسته فيلزم فيه الماء. 2- الغسالة طاهرة لأنها تبعد النجاسة عن سطح الأرض. 3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الرفق بالجاهل في ذلك حتى يتعلم. 4- التحرز عن النجاسة، وأنها تزول عند زوال المانع؛ فإذا زالت بالماء أصبح مكانها طاهرًا. 5- تقديم أخف الضررين، فقد يضر الإنسان احتباس الماء إذا تأخر، مما يدل على سماحة الإسلام ويسره؛ وحرصه على سلامة الإنسان؛ بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

التيمم

التيمم: أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة". بلاغة التعبير النبوي الشريف "بخمس" ترجع إلى أن هذه الصيغة لها دلالات كثيرة، أولًا: أن التنكير في "خمسًا" يدل على التعظيم أي فهذه "خمس" عظيمة لا تكون إلا لعظيم، وليس هناك في البشر أعظم من محمد -صلى الله عليه وسلم- رسوله العظيم، وثانيًا: أن التنكير هنا أيضًا يدل على العموم والشمول، فيدخلُ في الخمس غيرها مما اختص الله به نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم، مما ورد في أحاديث أخرى، سواء دخل بعضها في مفهوم كل واحدة من الخمس مثل: "أعطيت مفاتيح الأرض، وجعلت أمتي خير الأمم"؛ فإنهما يدخلان في مفهوم الثانية في هذا الحديث، وهي: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" وهكذا، أو دخل في مفهوم العموم بصفة عامة، لأن ذكر

الخمس لا يتعارض مع ما ذكر في أحاديث أخرى، لأن الأحاديث تكمل بعضها بعضًا، ولكل موقف ما يتلائم معه، والبلاغة تقتضي عدم جمعها في حديث واحد، حتى لا يقع النسيان بين العدد الكثير. ثالثًا: أن هذه الخمسة غير مقصودة ومحددة بذاتها، فهي لا تنفي ما ورد في أحاديث أخرى، ولا تتعارض معها، فقد وردت عشرة، وقيل غير ذلك إلى ستين، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فكلما أوحى إليه بشيء ذكره في حديث وهكذا، وفي حديث أبي هريرة زاد خصلتين: "وأعطيت جوامع الكلم وختم بي النبيون"، وفي حديث آخر "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأعطيت هذه الآيات من سورة البقرة عن كنز تحت العرش"، وعند أحمد "أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم"، وعند البزاز: "غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فما دونه، وكان شيطاني كافرًا فأعانني الله تعالى عليه فأسلم" وغيرها. بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "وجعلت لي الأرض مسجدًا طهورًا" تعود إلى صور بلاغية متنوعة، منها: إيثار بناء الأفعال للمجهول لا للمعلوم في كل الأفعال، مثل "جُعلَت"، أُعطِيتُ، لم يُعطَهن -نصرت - حلت- ولم تُحل، ويُبعَث وبُعثت ... إلخ" فلم يأت لفظ الجلالة "الله" صريحًا، بل كان مضمرًا، وقام مقامه نائب الفاعل، فقال: "وجعلت لي الأرض" ولم يقل: "وجعل الله لي الأرض"؛ لأن المقام هنا مقام الفخر والعُجب بهذه الخصوصيات، التي اختص بها دون غيره، وحياء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأدبه وخلقه يمنعه، من أن يقع منه الفخر؛ مع ذكر لفظ الجلالة صريحًا وفي كل مرة، لذلك أكد نفي الفخر عنه صراحة في حديث آخر: "لا أقولهن فخرًا" لابن عباس رضي الله عنهما، ومنها: أسلوب القصر

والتأكيد في تقديم الجار والمجرور في قوله: "وجعلت لي الأرض" والأصل: وجعلت الأرض لي، لإفادة قصر ذلك على النبي وحده، فقد جعلت له الأرص خاصة من بين البشر، وأسلوب القصر يؤكد هذه الخصوصيات، ومنها: إفادة التخصيص بعد التعميم في قوله: "مسجدًا وطهورًا، فالتعبير "بالمسجد" نكرة يفيد شمول الأرض كلها بلا قيد ولا شرط، وهذا هو العموم، والتعبير "بالطهور" يفيد التقييد والتخصيص، فليس كل تراب الأرص صالحًا للتيمم، بل التراب الطاهر، وليس كل موقع في الأرض صالحًا للصلاة، بل الأرض الطاهرة التي يغلب على الظن بأنها طاهرة، إذن فالتخصيص هنا يقتضي تحقيق شروط وأركان الطهارة وصحة الصلاة. التصوير الأدبي في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في قوله: "فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" يعود إلى صور فنية بليغة منها: أسلوب الشرط والجزاء البليغ، الذي يقوم على التناسق الموسيقي المتوازن بين جملة الشرط، وهي: "أدركته الصلاة"، وبين جملة الجواب والجزاء في "فليصل"، وهذا النسق الموسيقي يشد الانتباه، ويثير المشاعر والوجدان؛ بالإضافة إلى ما يفيد من ترتب الجزاء على فعل الشرط، فيستحق المصلي الطائع سقوط الفريضة ومضاعفة الأجر عليها، وعبر بالرجل دون المرأة، لأنه مسئول عنها وقيّم عليها، يعلمها ما تعلم؛ فالزوج راع وهو مسئول عن رعيته، وكذلك بلاغة التعبير بإضافة الأمة إليه -صلى الله عليه وسلم- تشريفًا وتعظيمًا لها "أمتي" فهي خير أمة أخرجت للناس، والإضافة أيضًا تقتضي طاعة الله ورسوله فيما أمر ونهى، حتى ينالوا هذا الشرف العظيم، وبلاغة الأسلوب في قوله: "أدركته الصلاة" في نسبة الإدراك إلى الصلاة، ولم يقل: "أدرك المسلم الصلاة" لإفادة أن الصلاة وسائر التشريعات هي تلاحق المسلم الغفلان عن سعادته بين حين وآخر، وتسارع

بتوجيهه إلى إدراك الصلاة قبل فوات الأوان وحينئذ لا ينفع الندم، وهو ما يدل على عظمة التشريع الإسلامي وسماحته. وغاياته السامية من السعادة في الدنيا والآخرة، ذلك هو الفوز الكبير. التصوير الأدبي الجميل في بلاغة الأسلوب، الذي يدل على عموم الفاعل في صيغة الفعل المبني للمجهول في قوله: "نصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وبعثت إلى الناس عامة" ليشمل الفاعل الحقيقي الخالق. وهو الله عز وجل، وهو المنعم بهذه الميزات على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم؛ فهو وحده المختص بها، وكذلك يشمل سبب الاستحقاق لها، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- بما قدم من عمل وفضل لا يقوى عليه أحد غيره، وما بذله من جهد وتحمل لا ينهض به أحد سواه، مع رحمته بأمته وحبه لهم، فلم يدع على أعدائه كالأنبياء السابقين بالتدمير العام، لأن لكل نبي دعوة على قومه الضالين، وغيرها من الفضائل التي تجعله سببًا لما اختص به من هذه المميزات والنعم، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وقال أيضًا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقال أيضًا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . التصوير الفني في بلاغة التعبير وروعته في قوله: "نصرت بالرعب" فلم يقل: نصرت بالسيف والسلاح ولا بالقتل والعنف والتنكيل، كما يدعي ذلك أعداء الإسلام بأن الإسلام انتشر بحد السيف والقتال، وإنما سبب الأسباب في نشره والانتصار على أعدائه يرجع إلى ضعف نفوسهم؛ وفساد عقيدتهم وسوء سلوكهم وأخلاقهم، فتمتلئ قلوبهم بالرعب والخوف من المؤمنين، أهل الحق والعدل والخير، وغيرها من الصفات، التي

تجعلهم أقوياء أعزة، لا يخشون أحدًا إلا الله، فيصاب العدو بالضعف والجبن والرعب، لا عند ملاقاة المسلمين في ساحة القتال فحسب، بل قبل ذلك بزمن بعيد، ومسافات طويلة يقطعها المسلمون سيرًا في شهر، لكي يتمكن الأعداء من مراجعة أنفسهم، ويعودوا إلى رشدهم، فيعلنوا إسلامهم، ويتمسكوا بتعاليم الإسلام، ويرجعوا عن الظلم والعدوان، حتى لا يتعرضوا للجهاد لرفع الظلم والعدوان والفساد، فما أعظم سماحة الإسلام في الأمن والسلام؟ التصوير الأدبي الرائع في بلاغة التعبير عن السماحة واليسر في قوله: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، فهو يدل على كمال الشريعة الإسلامية، التي تلاءمت مع نضج العقل البشري واكتماله، وفي قوله: "بعثت إلى الناس عامة" كذلك ترى الروعة والجمال في الصورة الفنية الأولى؛ لأنها كناية عن السماحة واليسر في تعاليم الإسلام، فلم تقتصر الطهارة للعبادة على الماء فحسب؛ بل تصح بالتيمم بضرب الأرض بكفين، يمس بها وجهه وذراعيه، فيرتفع عنه الحدث الأصغر والأكبر، ويصير طاهرًا عند الله وعند الناس، وكذلك الصلاة لا تقتصر على المساجد المبنية فحسب، كالشأن في غيرها فلا تصح الصلاة إلا فيها، بل سماحة الإسلام ويسره تجعل الصلاة مقبولة في جميع بقاع الأرض، كما في قوله: "فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل". وكذلك تجد الروعة في الصورة الفنية في قوله: "وبعثت إلى الناس كافة" فهي كناية عن صلاحية الشريعة الإسلامية لجميع الناس، ولكل الأجيال والأزمان إلى قيام الساعة، لأن الإسلام اتفق مع طبيعة العقل البشري بعد نضوجه واكتماله، فقد بلغت النفس البشرية مبلغ الكمال في الوعي والعاطفة والوجدان، وتطابقت تعاليمُها مع مقتضيات حياته،

واتسعت لعقله ووجدانه، فلا تحتاج إلى تغيير من وقت لآخر، كالشأن في القوانين الوضعية، ولا تختص بجنس بشري دون آخر. كالشأن في رسالات المرسلين السابقين لأقوالهم، بل هي صالحة لكل الأجناس، وفي كل العصور إلى يوم القيامة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- رد فرية انتشار الإسلام بالسيف والقتل؛ بأن الله ألقى الرعب والخوف في نفوس أعدائه، وبما توج به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالهيبة والنصر. 2- عموم رسالة الإسلام للإنس والجن في مختلف البيئات والأزمان. 3- ثبوت الشفاعة العظمى لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. 4- فضل سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- على جميع الأنبياء والرسل وفضل أمته على غيرهم من الأمم. 5- صحة التيمم بتراب الأرض، التي تصح الصلاة عليها كالمساجد سواء بسواء، مما يدل على سماحة الإسلام ويسر تعاليمه. 6- التمتع بالغنائم وصحة تملكها، فقد أحلها الله سبحانه للأمة الإسلامية بعد أن كانت محرمة عند الأمم السابقة. 7- جواز التحدث بنعم الله عز وجل على عباده اعترافًا بفضله لا رياء وفخرًا أو تطاولًا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . 8- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

المؤمن لا ينجس

المؤمن لا ينجس: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخسنتُ منه فذهبت فاغتسلت، ثم جئت فقال: "أين كنت يا أبا هريرة"؟ قال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن توقير الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهابة له وحياء منه، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخسنت منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت" فقد دل هذا التصوير الأدبي البليغ على قيم أخلاقية وتشريعية سامية، منها حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته واهتمامه بهم، حتى وهو في الطريق، مما أثار انتباه أبي هريرة؛ فاختفى عنه حياء منه أن يلقاه وهو جنب، ومنها تلك الصورة الفنية التي تدل على المسارعة إلى الطهارة من الجنابة؛ من خلال الفاءات الثلاثة التي وضعت للترتيب والتعقيب السريع في قوله: "فانخسنت منه فذهبت فاغتسلت"، ثم القيم الخلقية والصحية في التريث بعد الاغتسال، حتى لا يتعرض المتطهر للأذى، من خلال التصوير الفني بـ "ثم جئت"، التي وضعت للتأني والتراخي، ثم تصوير شيمة الحياء عند الصحابة لحرصهم على تلقي الأحكام، وهم في أجمل وأكمل حال مهابة له وتوقيرًا، وحرصهم أيضًا على معرفة أحكام الشريعة فيما يقع لهم من أحوال، مما جعل أبا هريرة يعود بسرعة ليتلقى الحكم الشرعي، بعد ما آثار اختفاؤه انتباه النبي -صلى الله عليه وسلم. التصوير الفني في بلاغة التعبير عن السؤال لمعرفة دوافع اختفاء أبي هريرة في قوله: "أين كنت يا أبا هريرة"؟ فقال: "كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة" فكانت الصورة الأدبية الأولى تعبر عن إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- لاختفاء أبي هريرة، وليس السؤال عن صنيعه في قوله: "أين كنت"؟ وفيها أيضًا دلالة على أدب الرسول؛ لأنه لم يسأله عن سبب الاختفاء وإنما سأله عن مكانه، وتدل الصورة الفنية الثانية عن توقير النبي

لأصحابه؛ ومحبته لهم، حينما ناداه بكنيته "يا أبا هريرة"، وتدل الصورة الفنية الثالثة في "كرهت أن أجالسك"، على الاهتمام والحضور القلبي والعقلي، وعلى المشاركة الإيجابية في ذلك، لدلالة صيغة المشاركة والمفاعلة على التجاوب بين الحاضرين بكل طاقاتهم الفكرية والعاطفية والنفسية والعملية، وهذا يدل على صدق إيمانهم، وإيثار نبيهم بالمحبة لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، ولقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وفي الحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن التعجب من اختفاء أبي هريرة وجهله بالحكم الشرعي في قوله: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس"، وذلك في الصورة الأدبية الأولى: "سبحان الله"؛ فهي تدل على التعجب من حال أبي هريرة كيف يخفى عليه هذا الأمر، فطهارة المؤمن ينبغي أن تكون معروفة بالبداهة؛ فلا تخفى على أحد، فطهارة المؤمن ينبغي أن تكون معروفة بالبداهة؛ فلا تخفى على أحد، وكذلك تدل الصورة الفنية الثانية في "سبحان الله" على التنزيه والاستعظام لله عز وجل، والتقديس له سبحانه وتعالى عما يصفون، ثم الصورة الفنية الثالثة "إن المؤمن لا ينجس" التي تدل على أن طهارة المؤمن حيًا أو ميتًا أمر معروف ومقرر لا يجهله أحد، ولا يقبل الجدل أو الإنكار، لذلك جاء بمؤكدات، فعبر "بإنما" للتوكيد، وباسمية الجملة التي تدل على الثبات والدوام، الذي لا يقبل التغيير ولا التحويل، ثم بتسليط النفي على الخبر الذي تتم به الفائدة، ليكون كالدليل على الحكم المدعوم بالدليل القاطع فقال: "لا ينجس" لإفادة عموم الحكم بعدم النجاسة، لأن المؤمن في ذاته لا ينجس حيًا ولا ميتًا، أما إذا أصابته نجاسة من خارج جسده فعليه أن يتطهر منها

بالماء، وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فالمراد نجاسة العقيدة بالكفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- توقير الصحابة رضي الله عنهم للرسول -صلى الله عليه وسلم؛ فلا يلتقون معه إلا وهم على أكمل وجه، وأجمل صورة في عفة وطهارة وتوقير. 2- يستحب الإسراع برفع الجنابة بالغسل ولا مانع من جواز تأخير الغسل وقضاء بعض الحاجات قبل رفعها بلا حرج في ذلك. 3- حياء النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن أدبه، وجمال قوله، وبلاغة حديثه في تأليف قلوب المؤمنين، وإشاعة المودة بينهم، وللاهتمام بهم. 4- جواز تنبيه الإنسان لأموره بطريق غير مباشر دفعًا للحرج وتجملًا وأدبًا. 5- مفتاح العلم المسألة فيستحب السؤال عن أمر، ليعرف حكمه الشرعي والحقيقي، واستحباب مجالسة العلماء على طهر ونظافة وعفة ورشاقة. 6- ذكر الله تعالى وتسبيحه عند الدهشة، والتعجب تنزيهًا لله تعالى وتعظيمًا. 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الجمعة عيد المسلمين

الجمعة عيد المسلمين: أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبًا إن وجد". التصوير الأدبي لبلاغة الأسلوب النبوي الشريف في الاحتفاء بعيد المسلمين الأسبوعي يوم الجمعة المبارك؛ يعود إلى تنوع الصور البلاغية الجميلة، منها دلالة أداة التعريف، وهي "ال" في "الغسل" على الشمول والاستغراق؛ فيشمل تعميم الجسد كله بالماء الطاهر؛ وإزالة ما عليه من أوساخ حسية كالتراب والعرق والبول والغائط وغيرها من النجاسات، وما في الجسد من حدث معنوي كالجنابة أو الحيض أو النفاس وغيرها، وغسل ما على الجسد، من ملابس تشربت العرق والتراب والأوساخ، ليكون الثوب طاهرًا نظيفًا كالجسد تمامًا، لأنه ليس بمعقول أن يطهر الجسد ثم يعود إلى ثيابه المتسخة فيضطر أن يغتسل مرة أخرى، وهذا المعنى يتناقض مع الغرض من الحديث الشريف في الطهارة والنظافة؛ في الاحتفاء بعيد المسلمين الأسبوعي ومنها التنصيص على يوم الجمعة بالذات؛ لأن اليوم يتكرر مع بقية أيام الأسبوع؛ فيهمل المكرر ليتميز غيره؛ للدلالة على أن الغسل لا بد أن يكون لصلاة الجمعة، تبدأ من الفجر؛ فلا قيمة خلقية وتشريعية لها بعد صلاة الجمعة؛ ولا قبل الفجر؛ للمفارقة بلوازم الصلاة من السواك والطيب، ومنها قوله: "واجب" أي كالواجب تمامًا في الكيفية وكرم الأخلاق، ورعاية للذوق السامي والنظافة، وكمال الزينة وحفاظًا على الصحة ومقاومة المرض، وليس واجبًا في الحكم، بل سنة مؤكدة عند جمهور العلماء؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"، ومنها قوله: "على كل محتلم"، فيشمل البالغ العاقل رجلًا كان أو امرأة، ليخرج الصبي، فلا يتأكد في حقه لما رواه ابن حبان: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل". بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في التصوير الأدبي الرائع للاحتفاء

بالعيد الأسبوعي بكمال الزينة، وتمام مظاهر الجمال والحسن ابتهاجًا بالعيد، وذلك في صورة فنية بليغة، منها إيثار الفعل المضارع في قوله: "يستن" و"يمس" للدلالة على تكرار الاستنان بالسواك كثيرًا في اليوم وتجديده، واستمراره، وتكرار مس الطيب والمسك كثيرًا في اليوم، وتجديده واستمراره، وخاصة في يوم الجمعة عيد المسلمين، لدلالة صيغة المضارع في الوضع اللغوي على التجدد والحدوث والاستمرار، ومنها دلالة معنى الفعل "يستن" على تدليك الأسنان بالسواك أو غيره؛ لأن الأسنان مشتقة من سنّ واستنَ والاستنان وغيرها؛ فلا يلزم السواك في جميع الأحوال، ويصح غير السواك من الفرشاة مقترنًا بالمعجون، على العكس من السواك دون اعتماد على شيء، وما أشبه ذلك؛ لأن الفعل يدل على موضع الاستنان وليس السواك، وأما حديث السواك: "لولا أن أشق عليكم لأمرتكم بالسواك عند كل صلاة"؛ لأنه لم يوجد آنذاك إلا هو، والأمر مختلف بعد ذلك؛ فقد تنوعت أشكاله حسب التقدم الحضاري، الذي لا يتعارض مع حضارة الإسلام المتجددة، وإن كان السواك أفضل لاحتوائه على مواد تقتل البكتريا، ومنها الصورة البلاغية في التعبير عن التطيب بالرائحة الزكية في معنى الفعل "يمس" من الطيب أو المسك وما شابه ذلك من كل طيب كزيوت الورود والياسمين والفل وغيرها، والاقتصار على المس دون الدهان ولا السيلان؛ ولا الإغراق والشمول ولا الإسراف فيه، فإن ذلك يضر بالجلد، وربما تنشأ عنه أنواع من الحساسية، وغيرها من الأمراض الجلدية كما نبه إلى الطيب الحديث الشريف، لذلك يكفي مجردُ المس الرقيق واللطيف الخفيف، وتلك هي بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوامعُ كلمه التي تصور الإلهامات الربانية، يتميز بها من بين البشر جميعًا. "إن وُجد" أي الطيب دفعًا للحرج، لأنه لا يتيسر لكل الناس، بينما السواك ميسور ومتاح للجميع، حتى بالإصبع الخشنة، إن لم يجد.

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- صلاة الجمعة غير واجبة على الصبي غير البالغ. 2- غسل صلاة الجمعة بصفة عامة سنة مؤكدة، وواجب على الجنب وكل محتلم. 3- يستحب في العيد الأسبوعي للمسلمين لبس الجديد أو النظيف الطاهر، واستعمال الطيب والسواك. 4- يكفي من الطيب المس لا الإسراف والسيلان، حتى لا يضر الجلد. 5- المتابعة في الاستنان بالسواك أو غيره، ومس الطيب إن تيسر ذلك. 6- الاحتفاء بيوم الجمعة لتجديد الطاقة في الجسم والنفس؛ لأنه عيد للمسلمين. 7- كذلك الأمر فيما لو حضرت النساء صلاة الجمعة فعليهن من الغسل الواجب والمسنون. 8- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

من بنى مسجدا

من بنى مسجدًا: أخرج البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند قول الناس فيه حين بنى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة". التصوير الفني في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في قوله: "من بنى مسجدًا" حين تقول الناسُ على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، معترضين على تجديد المسجد النبويِّ وتوسيعه؛ فرد عليهم إنكارهم

واعتراضهم بالنص الصريح مدعومًا بالدليل الواضح حين قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بني مسجدًا ... " إلخ الحديث، وهذا يتفق مع قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ، إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أجمع العلماء على أن عمارة المساجد تكون بالبناء والتجديد والتوسعة والزيادة والتجميل والتعليم والذكر، بدليل الواو قبل الصلاة في الآية؛ فإنها تقتضي المغايرة أي أن العمارة غير الصلاة، التي هي سبب تعمير بيوت الله تعالى. وبلاغة التعبير بـ "مَنْ" تشمل كلَّ قادرٍ على المشاركة في البناء رجلًا أو امرأة صغيرًا أو كبيرًا، بنفسه وجهده أو بماله وأدواته، أو بقوله وحث الآخرين، كما يقتضي بناء المسجد كله أو بعضه، مهما قل حجمه، كما جاء في رواية ابن خزيمة عن جابر: "ولو كمفحص قطاة" بأن كانت الزيادة بمقدار مفحصها التي تضع بيضها فيه، وهذا ما يفيده التنكير في قوله: "مسجدًا" على أي هيئة من الهيئات السابقة. التصوير الأدبي في بلاغة الأسلوب في قوله: "يبتغي به وجه الله"، فصيغة الفعل "يبتغي" لها دلالتان، الأولى دلالة الوضع اللغوي، ومعناها الحب النابع من القلب لا من اللسان ولا من الجوارح، والثانية: دلالة المضارعة في الفعل على استمرار الحب وتجدده مع الأيام والعمر، وهذا ما يدل عليه المضارع، وفي تعلق الفعل -بمعنى الحب القلبي- إلى متعلقاته. "يبتغي به وجه الله" قمة البلاغة النبوية، في الدلالة على الإخلاص والصدق، لأنه الحبُّ القلبي الخالص لا لحاجة مادية ولا لغرض دنيوي أو

انفعال وقتي، بل يعتمد على قيم سامية فهو شكرٌ لله تعالى على نعمائه، وطاعة وعبادة وتقديس لذاته مصداقًا لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . التصوير الفني في بلاغة الحديث الشريف في قوله: "بنى الله له مثله في الجنة"، فقد اعتمد التعبير على النسق الإيقاعي الجميل، والتوازن الموسيقي الجذاب، مما يهز العاطفة، ويثير الوجدان، لأنه يصدر عن أنغام تصدر عن طرح المقدمات في قوله: "من بنى مسجدًا"، وهو أسلوب الشرط، الذي يؤدي إلى استلزام الحكم، وحتمية النتيجة، والقرار، في أسلوب الجواب والجزاء، في قوله: "بنى الله له مثله في الجنة"، وهذه صورة فنية تجمع بين العاطفة والفكرة، وتتلاحم فيها الخواطر بالوجدان، ليكون الحكم فيها ملزمًا وقاطعًا، وهو تبشير من يعمر مساجد الله تعالى بالجنة أولًا، ومضاعفة الأجر فيها ثانيًا، وبلاغة التعبير بالمثل في الآخرة، لا يقتصر على نظير ما بُني في الدنيا فقط، فإن دلالة المثل الوضعية في اللغة، تجاوز ذلك بكثير، لأن المثل في الحديث الشريف له معانٍ منها: المعنى اللغوي وهو النظير، وقد يتكرر، ولا يقتصر على مرة واحدة، ومنها: المعنى البلاغي، وهو إضافة "مثل" النكرة إلى ضمير الهاء، بمعنى العموم والشمول، ليدل على تعدد المثل، فلا يقتصر على مدة واحدة، ومنها: المعنى البلاغي، وهو إضافة "مثل" النكرة إلى ضمير الهاء، بمعنى العموم والشمول، ليدل على تعدد المثل، فلا يقتصر على مدة واحدة، ومنها: المعنى الاصطلاحي في الشريعة الإسلامية، وهو مضاعفة الطاعة والعمل الصالح إلى أكثر من عشرة أمثال كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- فضل بناء المساجد وتعميرها وتوسعتها والتجديد فيها.

2- المساجد بيوت الله في الأرض فهي أولى بالبناء والتعمير والتجديد. 3- حث المسلمين على تعمير المساجد وبنائها؛ فله مثلها في الجنة، ويضاعف الله تعالى لمن يشاء أضعافًا مضاعفة. 4- أن يكون التعمير والبناء ابتغاء مرضاة الله عز وجل لا رياء وتظاهرًا. 5- السير على سنن الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح والتابعين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الصلاة أحب الأعمال إلى الله تعالى

الصلاة أحب الأعمال إلى الله تعالى: أخرج البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قال: ثم أي قال: "بر الوالدين" قال: ثم أي، قال: "الجهاد في سبيل الله"، قال: حدثني بهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو استزدته لزادني". التصوير الأدبي في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في أحب الأعمال إلى الله عز وجل في قوله: "الصلاة على وقتها"؛ فجاء التعبير عن الصلاة بالألف واللام لإفادة أن هذه الصلاة هي المعهودة في الشريعة الإسلامية، بأركانها وشروطها وكيفيتها وهيئتها، وليست كأي صلاة، ولا بمعناها اللغوي فقط وهو الدعاء، وإنما هي بمفهومها في الاصطلاح الشرعي، وكذلك يفيد التعريف "بأل" أيضًا معنى الاستغراق في عدد فرائضها الخمس في أوقاتها المشروعة؛ في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وسننها المتنوعة حسب كل فريضة.

ثم بلاغة التصوير الفني في قوله: "على وقتها" للدلالة على معان سامية وقيم أخلاقية منها: ما تفيده من العلو والرفعة بعد الدخول في الصلاة، يرتقي فيها المصلي إلى الحضرة الربانية، ليخاطب الله عز وجل مباشرة، وأسمى ما يتمناه أن يكون كذلك، ومنها: طاعة الله عز وجل بأدائه الفرائض وهو أحب الأعمال إلى الله سبحانه، كما في الحديث القدسي الشريف: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ... " إلخ، ومنها خلق الالتزام والنظام والنظافة والطهارة والوحدة والمتابعة والتقدير، وغيرها من القيم الإسلامية، ومنها أنه قدم الصلاة على ما بعدها، لأنها عماد الدين، فعبادة الله تعالى ومحبته مقدمة على طاعة الوالدين كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} . التصوير الأدبي: في بلاغة التعبير عن أحب الأعمال في الإجابة على السؤال الثاني بقوله: "بر الوالدين"؛ فالقيمُ الأخلاقية هنا متنوعة، تشمل الطاعة في غير معصية، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} ، وهذا يقتضي الإيمان الكامل، معتمدًا على مقوماته التشريعية، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ، وكذلك يقتضي البر بذل المال عن محبة وإخلاص لا رياء لا لغرض دنيوي، بل لذوي القربى وأولاهم الوالدين وللمستحقين، وبذل النفس لتقويمها على الطاعة والعبادة والصبر كما في بقية آية البر السابقة في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .

التصوير الأدبي في التعبير عن إجابة السؤال الثالث عن أحب الأعمال إلى الله تعالى في قوله: "الجهاد في سبيل الله"، وبلاغة التعبير بالجهاد تدل على قيم أخلاقية سامية، وهي جهاد النفس في مقاومة هواها وشيطانها، وعلى الكسب الحلال لتقوى على طاعة الله، وتترفع عن الحرام وذل السؤال، وتصون العرض، وهذا الجهاد أفضل من بذل النفس في ساحة القتال، لأنه هو الجهاد الأكبر كما ورد في الأثر الصحيح، وقصة الرجل الذي رده النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صفوف المقاتلين في إحدى غزواته قائلًا له: "هل لك من والدين كبيرين"؟ قال نعم قال: "إذن ففيهما فجاهد". وكذلك بلاغة التصوير الفني في قوله: "في سبيل الله"، فهي تشمل قيمًا أخلاقية كثيرة، لا تقصر الجهاد على ساحة القتال فحسب، بل تشمل كل عمل خالص لوجه الله تعالى؛ فبذل الجهد والسعي في تحصيل المال المشروع وإنفاقه في وجوهه المشروعة، وعلى صاحبه ومن يعولهم وعلى المحتاجين، وفي مصارف الخير كالتعليم والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشروعات التي تعود على المسلمين والإسلام بالقوة والعزة والتقدم والرقي، كل ذلك في سبيل الله. وبلاغة الترتيب من هذه الأعمال الثلاثة جعلت أعمال الجهاد في سبيل الله السابقة في المرتبة الثالثة بعد الإيمان بالله وعبادته، وبعد بر الوالدين، لأن المرتبة الثالثة باطلة لا تنفع صاحبها بدونهما معًا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . القيم الخلقية والتشريعية في هذا الحديث الشريف: 1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على التزود بالعلم وبالسؤال، وهو مفتاحه، وعلينا أن نقتدي بهم في ذلك مع الاقتصاد في الأسئلة خوفًا من الملل.

2- تأدب الصحابة رضي الله عنهم في مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يدل على محبتهم له مما يجعلنا نقتدي بهم في ذلك. 3- الحث على أداء الصلاة في أفضل أوقاتها لأنها عماد الدين. 4- تعظيم الإحسان إلى الوالدين والبر بهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى. 5- تعظيم الجهاد بأنواعه المختلفة والترغيب فيه؛ لأنه من أحب الأعمال إليه. 6- تفاوت الأجر عند الله تعالى للأعمال الصالحة حسب منزلتها عند الله عز وجل. 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

وجبت شفاعتى

وجبت شفاعتي: أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة". بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في قوله -صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء" فقد جاء التعبير بـ "مَن"، ليدل على العاقل البالغ المكلف ذكرًا كان أو أنثى، وعبر بالقول للدلالة على التلفظ بالنداء قولًا مسموعًا، فلا يصح أن يجري على القلب سرًا، بل لا بد من الجهر والعلانية، وما أبلغ التعبير بالفعل المضارع لإفادة التكرار والتجدد والاستمرار، وما دام المؤمن مكلفًا لم يسقط عنه التكليف، فلا بد أن يردده حين يسمع النداء في اليوم والليلة

عشر مرات، خمسًا لأذان الفريضة وخمسًا لإقامتها، وبلاغة التعبير "بالنداء" في الدلالة على وجوب التلبية لأمرين، للمناجاة بهذا الدعاء المأثور، وللاستجابة بأداء الجماعة في بيوت الله التي يصدر منها النداء، لأن صيغة النداء تقتضي الاستجابة للمنادى وتلبية ندائه؛ لذلك ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب صلاة الجماعة للفريضة في المساجد، ولو من باب فرض الكفاية، إذا قام بها بعضهم سقط عن الباقين، وذهب آخرون إلى أنها سنة مؤكدة، ويؤكد الوجوب حديث مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما فقد ورد بصيغة فعل الأمر في قوله: "قولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي". التصوير الأدبي في التعبير بالمناجاة لله تعالى والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته"، وذلك في صور بلاغية متنوعة منها الأسلوب الإنشائي الذي يدل على النداء، ومناجاة الله عز وجل بلفظ الجلالة أي يا الله، وبلفظ الرب أي يا رب، فقد جمع الأسلوب الإنشائي بين الألوهية والربوبية، وهما أساس التوحيد وجوهر العقيدة الإسلامية، ومنها الأسلوب الخبري الذي يدل على التعظيم في اسم الإشارة "هذه"، وفي دلالة أداة التعريف على الاستغراق والكمال في "الدعوة التامة" و"الصلاة القائمة"، وتأكد هذا الاستغراق والكمال بوصف الدعوة بالتامة، ووصف الصلاة بالقائمة أي الباقية، قال الطيبي: الدعوة التامة من أول النداء إلى محمد رسول الله، والصلاة القائمة هي الحيعلة. ومنها الصورة البلاغية التي قامت على الأسلوب الإنشائي المثير، الذي تتفتح له منافذ الإدراك في النفس المتنوعة، فتتمكن قيمها الخلقية منها كل التمكن، لأنه قام على الإثارة والإقناع، وذلك في أسلوب الأمر

الذي يدل على الدعاء والمناجاة، لا على وجوب تنفيذ المطلوب، فالله وحده هو الآمر الناهي في قوله: "آت محمدًا الوسيلة وابعثه مقامًا محمودًا"، وما أبلغ التعبير بالوسيلة أي المنزلة العالية في الجنة التي لا تنبغي إلا له، والتعبير بالفضيلة أي المرتبة الزائدة على المخلوقين، ثم ما أروع التعبير بالتنكير في قوله: "مقامًا محمودًا" للدلالة على التعظيم بما يتلاءم مع منزلة الرسول العظيمة عند الله عز وجل، فمقامه يحمده الأولون والآخرون، وأكد هذا التعظيم فجاء الوصف بجملة اسمية، وهي "الذي وعدته" كما ورد في القرآن الكريم: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودا} ، وهو مقام الشفاعة العظمى. التصوير الأدبي في بلاغة أسلوب الشرط والجزاء في قوله: "من قال ... حلت له شفاعتي يوم القيامة" في صور فنية بليغة منها: ذلك التناسق الموسيقي في الإيقاع المتوازن بين جملة الشرط وهو "من قال حين يسمع النداء" إلخ، وبين جملة الجواب والجزاء في قوله: "حلت له شفاعتي"، فيحرك به المشاعر، ويهز الوجدان العامر بالإيمان الصادق، وبلاغة التعبير بقوله: "حلت له" بمعنى وجبت له الشفاعة، لأن التعبير بـ "حلت" أبلغ من "وجبت" فلا تجب الشفاعة للعباد على الله تعالى ولا على رسوله -صلى الله عليه وسلم، بل هي تفضل وزيادة لمن رضي الله عنهم، فيشفع لهم بعد أن يأذن الله له: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وإضافة الشفاعة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- تدل على أنها خاصة به من بين عباد الله وأنبيائه؛ فلا تكون لغيره كما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الخلق يطلبون الشفاعة من الرسل السابقين؛ فلا يملكون لأنفسهم شيئًا، ويدفعونهم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، وبلاغة التقييد بيوم القيامة للدلالة على أن الشفاعة خاصة بها ولا تكون لأحد في الدنيا.

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تشريع ترديد صيغة الأذان وقت الصلاة فنقول مثل ما يقول المؤذن. 2- مشروعية الصيغة التي تقال عقب الأذان كما وردت في هذا الحديث الشريف. 3- المأثور لمن استحق الوسيلة والفضيلة وهي أعلى منزلة في الجنة -صلى الله عليه وسلم. 4- من يحرص على ترديد الأذان والتعقيب عليه بهذا الدعاء المأثور استحق الشفاعة من الشفيع الحبيب -صلى الله عليه وسلم. 5- الحرص على أداء الصلاة في جماعة على خلاف بين الوجوب العيني أو الكفائي والسنة المؤكدة. 6- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الركوع قبل الصف

الركوع قبل الصف: أخرج البخاري عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى النبي وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "زادك الله حرصًا، ولا تعد" وفي رواية قال: "أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف"؟ فقال أبو بكرة: "أنا". بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في قوله -صلى الله عليه وسلم: "أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف"؟ فقال أبو بكرة: "أنا" ترجع إلى صور بلاغية متنوعة، فالصورة الأولى تعبر عن قيم خلقية وتشريعية مستمدة من هذا المشهد للصلاة، فالصورة الأولى قامت على الاستفهام في قوله: "أيكم"؛ وليس هنا على حقيقته وهو طلب الإجابة عن السؤال، لأن مقتضى

البلاغة أن يكون الاستفهام للإنكار؛ فالنبي يشعر بما حدث أثناء الصلاة بصرف النظر عمن وقع فيه منه الحدث؛ لأن الحكم الشرعي يتعلق بالفعل، لا بذات الشخص، فهو قيمة خلقية وتشريعية عامة للمسلمين؛ فقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي بكرة هذا الصنيع، بدليل أنه قال له بعد ذلك: "لا تعد" لمثل هذا، والصورة الثانية في قوله: "الذي ركع دون الصف" تدل على شعور النبي -صلى الله عليه وسلم- بما حدث من الركوع قبل الصف وأحس به، وإن لم يره بعينيه، ولم يعرف شخصية الراكع؛ فهو يحتاج إلى الرؤية، وهذا الإحساس والشعور المبهم، يصوره اسم الموصول "الذي" المبهم لأنه لا يدل على تحديد شخص بعينيه، والصورة الثالثة في قوله -صلى الله عليه وسلم: "ثم مشى إلى الصف"؛ فهي تصور قيمًا تشريعية، يدل عليها حرف العطف "ثم"؛ فهو يدل على التراخي والنهي عن السرعة، مما يدل على أن الاطمئنان في الركوع ضروري وركن من أركان الصلاة، بحيث لا تصح إلا به، وتدل على قيمة ثانية، وهي أن الحركة القليلة كالمشي لا تبطل الصلاة؛ لأنها خطوة أو خطوتان، وتدل على قيمة تشريعية ثالثة، وهي أن الركعة تحسب إلى الركوع لا بعد ذلك، وكذلك صلاة الجماعة عند بعض الفقهاء وإن كان الجمهور يرى قبيل التسليم ولو لحظة. التصوير الأدبي لبلاغة الأسلوب النبوي الشريف في قوله -صلى الله عليه وسلم: " زادك الله حرصًا ولا تعد" من خلال صور بلاغية نبوية اتصفت بما اختص به النبي -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلم من بين أنبياء الله عز وجل؛ فالتصوير الأدبي هنا؛ وإن كان موجزًا؛ لكنه يضم صورًا بلاغية، تحمل قيمًا أخلاقية وتشريعية كثيرة، وهي غنية بروافدها وعناصرها التصويرية، وذلك من الجملة الخبرية في قوله: "زادك الله حرصًا"؛ فهي تدل على الدعاء للصحابي الجليل، وهو الشأن في الجملة الإنشائية لا الخبرية؛ لكنها بلاغة الرسول

-صلى الله عليه وسلم، ومن الجمل الإنشائية، قوله: "ولا تعد"؛ فليس النهي هنا يدل على كراهية التحريم عند الجمهور، بل يدل على كراهة التنزيه، بدليل دعاء النبي للصحابي بزيادة حرصه، ولو كان للتحريم، لما دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم، وسبب كراهة التنزيه، حتى لا يتشبه في مشيه راكعًا بالبهائم، وذلك لا يليق بحال المصلي، وفي هذا أيضًا دلالة على قيم تشريعية أخرى، وهي ألا صلاة لمنفرد خلف الصف. أي صلاة تامة لما رواه ابن خزيمة "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" وهو رأي الجمهور، وإن ذهب أحمد وإسحاق وابن خزيمة إلى التحريم، وكذلك عدم المنافاة بين إقرار الرسول لفعل الصحابي، وبين تصويب الفعل، وأيضًا صحة النية حالة الخطأ مع صحة تصحيحه بعد ذلك، وعلى المأموم أن يتبع الإمام في الحالة التي هو عليها، وغيرها من القيم الخلقية والتشريعية، التي دلت عليها روافد التصوير الأدبي، وعناصره من الأساليب الخبرية والإنشائية السابقة، كما ظهر ذلك واضحًا من جوامع كلم النبي -صلى الله عليه وسلم. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- عدم المعارضة بين إقرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين تصحيح خطئه في الدخول إلى صلاة الجماعة بركوعه قبل الصف. 2- صحة النية حال الخطأ ودوامها بعد تصحيح الخطأ بعد ذلك. 3- على المأموم أن يتبع الإمام في الحالة التي هو عليها. 4- الحرص على صلاة الجماعة بدليل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكرة رضي الله عنه. 5- أن المداخلات الخارجية في الصلاة لا تبطلها، وخاصة ما يقع اضطرارًا؛ لكن على المصلي أن يسد منافذها حسب طاقته، كلما أمكن بالحضور مع أقوال الصلاة وأفعالها وأركانها وسننها وهيئتها. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

لا تخفروا الله في ذمته

لا تخفروا الله في ذمته: أخرج البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من صلي صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن المسلم الذي أدى الصلاة واستقبل القبلة، وأكل الذبيحة المشروعة؛ يعتمد على أسرار بلاغية، تضفي على الأسلوب النبوي الشريف الجمال والروعة، التي تهذب النفس البشرية بالقيم الأخلاقية والتشريعية السامية، تصور معالمها الصور الفنية المتنوعة هنا، فترى الصورة الفنية البليغة في قوله: "من صلى صلاتنا"؛ فعبر بـ "من" لتشمل الرجال والنساء في جميع الأحوال، ثم عبر عن الصلاة بالفعل "صلى" أي صلاها بالفعل، ولم يقل أداها أي أداة لا على سبيل التحقيق والإتقان، ولم يقل أقامها، فقد يقيم الإنسان الصلاة ولا يصليها كاملة، وأضيفت الصلاة إلى ضمير المشرع في "صلاتنا" لأن صلاة الإسلام تختلف عن صلاة الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية والمجوسية وغيرها؛ فقد دلت على الصلاة المشروعة التي شرعها الله ورسوله، وتحددت معالمها وهيئتها وأركانها وعددها والفريضة والمسنونة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وفي الحديث الشريف: "أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله"، وكذلك الصورة البليغة في قوله: "واستقبل قبلتنا"، فقد نص عليها الحديث الشريف، مع أنها داخلة في الصلاة، ليدل التصريح بالقبلة الواحدة على قيم أخلاقية أخرى، وهي الوحدة والترابط؛ لأن القبلة واحدة

والبيت الحرام واحد، والعقيدة واحدة، والعاطفة الإسلامية واحدة، ولأن الأمة كالجسد الواحد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} . وكذلك الصورة الفنية في قوله: "وأكل ذبيحتنا" بالإضافة إلى ضمير الجلالة ورسوله الكريم، للدلالة على أن اللحم لا بد أن يكون مشروعًا، وليس كأي لحم من حيث حله وجنسه ونوعه وشروطه وذكر اسم الله عليه، وليدل على الترابط والوحدة بين بني الإنسان، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . التصوير الأدبي في بلاغة التعبير بقوله: "فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله"، فاسم الإشارة هنا "وذلك المسلم" يدل على تعظيم من أدى هذه المناسك على النحو المشروع، فهو يستحق الثواب العظيم والرعاية من الله تعالى ورسوله الكريم في الدنيا والآخرة، ويستحق شرف المعاهدة مع الله ورسوله في وعدهما بالأمن والأمانة والحفظ والرعاية والأجر العظيم، والله لا يخلف الميعاد: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، وفي الحديث القدسي الشريف "من أدى الصلاة لوقتها وحافظ عليها، ولم يضيعها فله عليَّ عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يؤدها لوقتها ولم يحافظ عليها؛ فليس له علي عهد إن شئت عذبته، وإن شئت غفرت له" وأكد هنا العهد بتكرار الذمة مع الله ورسوله؛ لأنه كان يكفي الاقتصار على ذكرها مرة واحدة لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . التصوير الأدبي في بلاغة التعبير في قوله: "فلا تخفروا الله في ذمته"؛

فعبر الحديث الشريف "بفاء" السببية؛ للدلالة على حث المسلمين على الالتزام بالقيم الأخلاقية والتشريعية في هذا الحديث الشريف، فلا يصح بحال أن يكون المسلم سببًا في نقض العهد والأمان، الذي قطعه مع الله عز وجل ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفاء هنا وضعت للسببية في اللغة العربية، ثم أكد ذلك بصورة فنية أخرى حين عبر "بلا" الناهية، ليجمع بين الأمر كما ورد في هذا الحديث الشريف، والنهي عن الخيانة ونقض العهد في قوله: "فلا تخفروا" أي لا تخونوا أنفسكم بنقض العهد وخيانة الذمة لتدمير القيم السامية وكفران النعم الجليلة التي أنعم الله بها عليكم، كما لا تخونوا الله في ذمته وعهده، وأضاف الذمة إلى الله وحده هنا، للدلالة على الوعيد والعقاب الشديد من الله عز وجل وحده، فهو الذي يختص بالعذاب والعقاب قال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تعظيم شأن الصلاة؛ فهي عماد الدين، تنهى عن الفحشاء والمنكر. 2- تعظيم شأن القبلة وتعظيم حرمتها؛ لأنها رمز وحدة الأمة الإسلامية، ولا تصح الصلاة إلا باستقبالها. 3- ذكر الله تعالى في الذبيحة، ترفع عنها الحرمة؛ فيحل للمسلم أكلها؛ فلا يحل دمه لأحد. 4- من استقام على هذه الأعمال الثلاثة وعمل بها مخلصًا لله، فله عهد من الله تعالى وأمان ومن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن المؤمنين. 5- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

السكينة والوقار عند الصلاة

السكينة والوقار عند الصلاة: أخرج البخاري عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن نصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ سمع جلبة الرجال، فلما صلى قال: "ما شأنكم" -بالهمزة أي حالكم- حيث وقع منكم الجلبة؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: "فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". التصوير الأدبي في بلاغة الحديث الشريف: حين انتهى من الصلاة، بعد أن سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- جلبة في المسجد، توجه إليهم يسألهم مستنكرًا "ما شأنكم"؛ فأجابوه: أن سبب الهرج والمرج هو استعجال الصلاة خوفًا من فوات الجماعة وحرصًا على ثوابها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة"، وذلك في تصوير فني بليغ، جمع بين عناصر الجمال من إثارة الوجدان، وحرارة العاطفة، والإقناع العقلي بالنهي القاطع عن الجلبة والعجلة، لا على الحرص في صلاة الجماعة، في صورة فنية تعتمد على الأسلوب الإنشائي، ليصدر حكمًا قطعًا لا شك فيه، في تصوير بليغ للقيم التشريعية السامية، النابعة من "الفاء" التي تدل على الترتيب والتعقيب، ومن النهي القاطع "بلا" الناهية، الداخلة على الفعل المضارع "فلا تفعلوا" في تصوير أدبي يدل على الزجر والردع المستمر في جميع الأحوال، وكذلك تحريك العاطفة والوجدان والعقل بتصوير فني يعتمد على أسلوب الشرط والجزاء، في نسق إيقاعي متوازن، ليترتب الحكم والقرار في جملة الجواب: "فعليكم بالسكينة" على المقدمات في جملة الشرط السابقة "إذا أتيم الصلاة" بحيث يكون الحكم قاطعًا على سبيل التحقيق واليقين؛ فلا يقبل النقض ولا المخالفة، ثم أكد الحكم

باستعمال أداة شرط، وضعت للحقيقة والاستمرار الزماني في لغتنا الجميلة، وهي "إذا" للدلالة على قيم تشريعية أخرى، وهي التأكيد والحث على أداء الصلاة فريضة واجبة، وكذلك الترغيب في أدائها جماعة، والالتزام بالوقار والسكينة في بيت الله تعالى، وطاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وغيرها من القيم السامية. التصوير الفني لبلاغة الأسلوب في قوله: "فما أدركتم فصلوا"، يقوم على الروافد البليغة، فعبر بالفاء في قوله: "فما أدركتم" للدلالة على تفسير النهي عن الضجيج، وتوضيح الأمر في أداء الجماعة، والتزام الوقار والسكينة في قوله السابق: "فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة"، وهذا التفسير صادر عن "الفاء" الموضوعة للتفسير والتوضيح في بلاغة لغتنا الخصيبة، والمعنى فإذا فعلتم ذلك "فما أدركتم مع الإمام فصلوا معه، وما فاتكم فأتموا"، وكذلك بلاغة التعبير عن قيم الحرص على الصلاة والجماعة والسكينة بقوله: "أدركتم"؛ لأن الإدراك هنا يدل على عدم التكلف والمشقة، وألا يبذل جهدًا فوق الطاقة، فمهما قل المدرك فهو كاف في أداء الجماعة، لأن الأعمال بالنيات يضاعف عليها الأجر والثواب كما في الحديث: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ... "، ولقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} ، واعتمد الأسلوب البلاغي أيضًا على تحريك العاطفة وتعمير الوجدان بالأمن والإيمان، من خلال النسق الإيقاعي والموسيقى بين أسلوب الشرط في قوله: "فما أدركتم" وأسلوب الجزاء والجواب في قوله: "فصلوا"، لتصدر حكمًا مفروضًا، هو الصلاة حسب الطاقة في إدراك الجماعة من غير جلبة ولا عجلة في قوله: "فما أدركتم".

التصوير الأدبي في القول النبوي الشريف: "وما فاتكم فأتموا" فقد جمعت هذه العبارة الموجزة من روافد التصوير وعناصره ما يعبر عن قيم تشريعية كثيرة كالنسق الموسيقي بين الشرط والجزاء لتحريك العاطفة وتعمير العقل والوجدان، ليكون أكثر فهمًا وتحصيلًا واقتناعًا وإيمانًا، ثم عبر عن الغائب بلفظ يدل على العموم وهو "ما" ليتسع لأي مقدار من الفائت، مهما قل أو كثر، فهما سواء في تحقيق ثواب الجماعة، كما دل عليه جواب الشرط في قوله: "فأتموا"، بمعنى أكملوا الصلاة وحدكم. ولدلالة التمام على كمال الصلاة وثواب الجماعة، وفيه دلالة أيضًا على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته، وعلى المأموم أن يقرأ السورة بعد الفاتحة، لأنها أول الصلاة حتى لا يفوته ثوابه، قال أبو حنيفة بالجهر، واستحب الشافعي عدم الجهر، وفيه دلالة أيضًا على أن صلاة الجماعة تحصل بالركوع الأخير، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو بكرة -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى النبي وهو راكع قبل أن يصل إلى الصف؛ فذكر ذلك للنبي فقال: "زادك الله حرصًا ولا تعُد". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- الحرص على السكينة والوقار في الإتيان إلى الصلاة بلا جلبة أو صخب. 2- تنبه المصلي لما يحدث في المسجد من غير كلام وهو في الصلاة لا يفسد صلاته. 3- تعليم الإمام الأحكام للمأموم إذا وقعت منه مخالفة. 4- إدراك الجماعة يتم لمن أدرك أي جزء من الصلاة قبل التسليمة الأولى. 5- ذهب الجمهور إلى أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة كما في هذا الحديث، وقيل لا تحسب ركعة لفواته القيام وقراءة الفاتحة. 6- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

إذا نعس أحدكم

إذا نعس أحدكم: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه". التصوير البلاغي في هذه الصورة الأدبية: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب النوم" يرجع إلى أسرار بلاغية، تضفي جمالًا وسحرًا على الأساليب الفنية الآتية: 1- فالصورة الفنية في عبارة "إذا نعس" تدل على تحقق النعاس، ولا يكفي فيه مجرد الشك أو الخوف أو الترقب أو الإحساس أو التخمين أو الفرض أو الاحتمال؛ فإن ذلك كله لا يكون سببًا في انصراف المصلي عن صلاته بل يجب أن يتيقن من تغشي النعاس على سبيل اليقين فعلًا، فلا يستطيع أن يقاومه أو يدفعه، وهذا ما يفيده التصوير "بإذا"، التي تدل على اليقين بخلاف التعبير "بإن" التي تفيد الشك والاحتمال فيما لو قيل: "إن نعس أحدكم". 2- الصورة البليغة في قوله: "أحدكم وهو يصلي" تدل على أن هذا الحكم عام لا يختص بالرجال فحسب، فلم يقل: نعستم أو نعستنّ، وإنما عبر عن الجميع "بأحد" ليشمل الرجال والنساء والصغار والكبار والقوي والضعيف من باب التغليب، ثم انظر إلى الصورة الفنية الثالثة في قوله: "وهو يصلي"، جاءت في موقع الحال من الناعس؛ لتدل على أن هذا الحكم خاص بالمصلي وحده، لا ينطبق على كل ناعس، بل الحكم مقيد ومختص بالناعس في الصلاة. وتدل أيضًا، على أن الدعاء أثناء الصلاة بالخير أو الشر يكون أكثر

قبولًا واستجابة من الدعاء خارج الصلاة، لأنها تنقل المصلي إلى الحضرة الربانية، ليخاطب ربه مباشرة، بعد أن انقطع عما حوله بقوله الله أكبر من كل كبير، وأولى من غيره، مهما كانت منزلة المصلي قبل الصلاة وبعدها. 3- وكذلك الصورة الفنية في بلاغة التعبير بقوله: "فليرقد حتى يذهب عنه النوم" ترجع إلى أسرار جمالية نابعة من طرق الأسلوب العربي البليغ الذي يدل على التوازن، وترتب النتائج على المقدمات، في تصوير فني جذاب شيق غير جاف، بل يعتمد على إثارة العاطفة والشعور والوجدان بأسلوب الشرط في قوله: "إذا نعسك أحدكم" على سبيل التحقيق، وبين أسلوب الجزاء الذي صير النتيجة أمرًا حتميًا، فأصبح واجبًا لا بد من تنفيذه وتحقيقه وهو ألا يتم صلاته، بل يجب أن يتركها وينصرف عنها لوقت اليقظة، ليدل أسلوب الجزاء في قوله: "فليرقد" على الأمر والإلزام، ولا يكفي من النوم، غفوة أو غفوتان، بل لا بد من الراحة التامة، حتى يذهب عنه النوم وهذا ما يدل عليه التصوير الفني بقوله: "حتى" الغائية للصورة الفنية في قوله -صلى الله عليه وسلم: "حتى يذهب عنه النوم" أي لتحقيق الغاية من النوم المريح. وإنك لتعجب من هذا التصوير الأدبي الرائع في بلاغة التعبير عن عدم ضبط الإدراك؛ ليقطع المصلي الحضور الرباني مع الله سبحانه في الصلاة بسبب النعاس، وذلك في قوله: "فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر، فيسب نفسه" في تصوير فني تنوعت أساليبه البلاغية، التي تدل على سماحة الإسلام وحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ومحبته لهم ورحمته بهم، حتى لا يتعرضوا لما يضرهم، لذلك جاء التصوير الفني على سبيل التوكيد أولًا في قوله: "فإن أحدكم"؛ ليحثهم على اتباع ما أمرهم به بلا تردد أو إنكار، وثانيًا: تكرار التوكيد في صورة

فنية أخرى في التعبير "بإذا"، التي تدل على التحقيق واليقين، حتى لا يقطع المصلي الصلاة لمجرد احتمال، ثم جاءت الصورة الأدبية الثالثة، والبلاغية الرائعة، ليصدر عنها الحكم ويؤكد القرار والنتيجة على سبيل التصريح المباشر وهو أن المصلي الناعس لا يدري أيدعو لنفسه ويستغفر لها أم يدعو عليها؟ لأن دعاءه مقبول أثناء الحضور والمكاشفة مع الله عز وجل في الصلاة، فربما تكون لحظات إجابة، فينزل به الضرر، وهو لا يرضاه الله ورسوله لعباده المؤمنين القانتين إنها الرحمة بأمته، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- الخشوع في الصلاة يقتضي اليقظة التامة، والوعي التام وحضور القلب مع الله تعالى. 2- الأخذ بالحيطة ومراعاة الحذر في الصلاة، وفي كل أمور الحياة. 3- إطلاق الدعاء في الصلاة دون تقييد برواتب معينة، ولو كان استغفارًا. 4- التوقي من المكاره ومن فلتات اللسان، وغفلة الإدراك وقت العبادة للوقاية من الضرر. 5- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ورفع الضرر عنهم ورحمته بهم. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

التجوز في الصلاة شفقة

التجوز في الصلاة شفقة: أخرج البخاري عن أبي قتادة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأقوم في الصلاة؛ أريد أن أطوّل فيها؛ فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه". التصوير الأدبي في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف لأداء صلاة طويلة في قوله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها" اختار أساليب التوكيد المختلفة للدلالة على صدق نيته، والعمل على تنفيذ عزيمته فليس الأمر نية فحسب، بل تنفيذ وسلوك وعمل متكامل، جاء ذلك من صورة أدبية قوامها مؤكدات متنوعة منها: "إن" المشددة المؤكدة الناصبة للمبتدأ الرافعة للخبر، ومنها: اسمية الجملة التي تدل على الثبات والدوام، فالجملة اسمية مكونة من المبتدأ وهو الياء، وخبر والتقدير أنا لأقوم، ومنها: لام الابتداء التي دخلت على الخبر، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، بالإضافة إلى أنها توحي بالقسم الذي يزيد القيم الخلقية تأكيدًا والتقدير "إنني والله لأقوم"، ومنها أن طويلًا نابع من الإرادة والاختيار، وهي الميزان والمقياس الفاصل في التمييز بين الحسنات والسيئات والصالح والطالح، ومنها مجيء الحال هنا مؤولة من "أن المصدرية والفعل المزيد بالهمزة والتضعيف في "أطول"، وهي زيادات في المبنى تدل على زيادات في المعنى، وهو ما لا يتحقق في الحال الصريح فيما لو قيل: "الطويلة"، تلك بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- في التآخي بين معاني الكلمات، وهو النظم المجرد من صور الخيال، وما أروع التعبير هنا بقيام الصلاة؟ لا أدائها؛ لأن القيام يختص بالصلاة ولازم له، بينما الأداء عام لجميع الأعمال، ليتفق مع القرآن الكريم في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي أحسنوها بالكمال والدوام. بلاغة الأسلوب النبوي الشريف جاءت في صور أدبية مثيرة في قوله: "فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي" فالصورة الأولى في حرف الفاء، فهي فاء فصيحة، أفصحت عن جملة مقدرة، وهي: "يبكي الصبي فأسمع بكاءه" والبلاغة في تمام المعنى واستقصاء جوانبه المختلفة، وفيه دلالة على أن تلقي الأذن لأصوات خارجة عما يتصل بالصلاة لا تبطلها،

لأن التلقي بالأذن لا يمكن حجبه، وتقييد التجوز في الصلاة بالبكاء الصادر من صبي لا من كبير، لأن ذلك لا يقتضي التجوز الطارئ على الصلاة، لكن الشرع يأمر بالتخفيف فيها ابتداء لرعاية المريض والكبير وذا الحاجة، كما ورد في حديث شريف آخر، والصورة الثانية؛ في الفاء الثانية فهي تصور السرعة والملاحقة، لا التسويف ولا التأخير، حتى لا تتأذى أمه أو يقع التشويش في صلاتها، لأن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب السريع، على العكس من حرف العطف "ثم"، والصورة الثالثة، "أتجوز في صلاتي" من الاجتياز السريع والتخفيف، فيقال اجتاز الطريق أي قطعه بسرعة. "والصورة الرابعة" في بلاغة التعبير بحرف الجر "في" لتدل على التخفيف في أفعالها وأركانها وسننها الداخلة فيها، لا بتركها والانصراف عنها، كما يدل حرف "عن" على ذلك فيما لو قيل: "عن الصلاة"، فهي بمعنى المجاوزة أي يتجاوزها إلى فعل آخر غير الصلاة، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ، فهم يكذبون بالدين وهذا من لطف الله ورحمته بالمصلي، ولو كان التعبير هنا بحرف "في" لكان كل مصل مكذبًا بالدين، لأن أي صلاة لا تخلو من مداخلات ووساوس غريبة عن طبيعتها كما ورد في حديث شريف، حينما تسابق أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك، فلم يوفقا في نيل الجائزة منه -صلى الله عليه وسلم- بعد اعتراضهما على صحابي سأله عن ذلك، فأمره بمقاومة المداخلات كلما أمكن ذلك. حلاوة التصوير الأدبي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "كراهية أن أشق على أمه" يشعر بها القلب، وتثلج الصدر وتشرحه، وذلك من خلال حسن التعليل في كلمة "كراهية" المنصوبة على المفعولية لأجله، أي لأجل الكراهية التي تأباها النفس، وتنفر منها الأذواق السليمة والفطرة المستقيمة، وتتعارض مع رقة القلوب، وحنان الأمهات والآباء على أولادهن الصغار الضعاف،

لذلك جاءت الصورة البليغة التالية لتؤكد هذه القيم الخلقية السامية في قوله: "أن أشق على أمه" فالمشقة أمر لا يطاق، بل يتعارض مع تعاليم الشريعة السمحة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} ، {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وتتضاعف المشقة لو وقعت على الأم المفطورة على الحنان، والرقة والعطف على فلذة كبدها، لذلك أكد على البر بها أكثر من مرة، بينما الأب مرة واحدة حيث قال: "أمك ثم أمك، ثم أمك ثم أبوك" والمشقة على الأم أشد وأعظم من المشقة على غيرها، نعم فهو أبلغ العرب قاطبة -صلى الله عليه وسلم. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- رقة قلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ورحمته بالصغير والكبير والمريض وذي الحاجة. 2- إن إرادة اختصار الصلاة أو تطويلها لمثل هذا الأمر خلال الصلاة لا يبطلها. 3- جواز حضور النساء صلاة الجماعة في المسجد. 4- وكذلك جواز حضور الصبيان والأطفال واصطحابهم إلى المسجد في صلاة الجماعة. 5- سماحة الإسلام ويسره حتى في أركانه المفروضة. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الفصل الثالث: الصوم والحج

الفصل الثالث: الصوم والحج شهر عظيم مبارك: أخرج أحمد والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين استقبل شهر رمضان قال: "قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم". التصوير البلاغي في قوله: "قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامه" يعتمد على مصادر جمالية وأسرار بلاغية، تسمو بالأسلوب النبوي الشريف إلى قمة التأثير القلبي والوجداني، وإلى الإقناع العقلي والحسي والسلوكي، فقد عبر عن فضيلة شهر رمضان وتميزه عن غيره بقوله: "مبارك" بصيغة المفاعلة، لا بالبركة فحسب، للدلالة على أن العمل الصالح فيه يتفاعل ويتكاثر ويزداد، فالفريضة فيه بسبعين فريضة، والنافلة فيه تسمو إلى ثواب الفريضة، والمال فيه يتضاعف حتى لا تجد فيه فقيرًا أو معدمًا، والصدقة فيه تربو وتتكاثر، والجسد فيه يصح ويخلو من الأمراض والعلل حتى يقوى على طاعة الله، وعلى السعي والعمل "صوموا تصحوا" وفي الحديث الشريف: "من أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، ومن تطوع فيه بنافلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، فيه ليلة خير من ألف شهر"، وعبر الحديث الشريف عن الفريضة بالفعل المبني للمجهول "افترض"، ولم يقل: فرض الله عليكم صيامه، للدلالة على أن الفريضة ليست أمرًا فحسب، بل إن الإنسان في حاجة إلى الصيام؛ لتهذيب نفسه وإصلاح بدنه وطبه، فهو الذي

يستوجب الفريضة؛ لذلك كان الفاعل حكمًا هنا، وليست ليس الذات العلية، وإنما هو الصائم، لأن في الصيام مصلحته وسعادته، فالله غني عن عباده، فهم محتاجون إليه. التصوير البلاغي في قوله: "تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين"، فترجع الأسرار البلاغية فيه إلى عناصر جمالية تضفي على الأسلوب النبوي الشريف الروعة والجمال والقوة والتأثير والإقناع، منها: بناء الأفعال الثلاثة للمجهول لا للمعلوم في "تفتح، وتغلق، وتغل" للدلالة على عموم الفاعل؛ ليدل على أن الإخلاص في هذه الفريضة وكمالها، يكون هو السبب الرئيس في ذلك. فهو الذي يفتح أبواب الجنة، ويغلق أبواب جهنم، ويسد مجاري الشياطين في النفس، ويشمل عوالم أخرى تعلمها كالملائكة وخزنة الجنة وجهنم، وعوالم لا نعلمها يسخرها الله عز وجل لفتح الجنة وغلق جهنم وغل الشياطين، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، ويدل التصوير الأدبي أيضًا على أن جميع أبواب الجنة تفتح للصائم، وأولها باب الريان الخاص بالصائمين، فلا يدخل منه غيرهم، وتغلق دونه أيضًا جميع أبواب جهنم، وتغل جميع أنواع الشياطين، فلا يدخل منه غيرهم، وتغلق دونه أيضًا جميع أبواب جهنم، وتغل جميع أنواع الشياطين المختلفة من شياطين النفس من الأبالسة وشياطين الجن الشريرة؛ وشياطين النفس الذاتية، وهي الميل والهوى والشهوة، وفي الحديث الشريف: "لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفًا" فما بالك بالشهر كله، وبشهور رمضان العمر كله، اللهم بلغنا رمضان ولا تحرمنا أجره العظيم. التصوير الأدبي في بلاغة التعبير في قوله: "فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"؛ فالتنكير في "ليلة" للدلالة على تعظيم

منزلة ليلة القدر من حيث الكيف، فثواب العمل فيها يعدل ثواب ألف شهر، ومن ذا الذي يستطيع أن يقوم بالعمل المتواصل في ألف شهر. والخاسر هو من حرم ثوابها، لأنه لا يستطيع أن يحصل عليه في العمر كله؛ لأنه يعتريه النوم والغفلة في كل يوم وليلة، لذلك كان الحرمان من ذلك حرمانًا عظيمًا لا حصر له بلا حدود، لذلك تسلط الفعل على الخير مباشرة، وعبر "بالخير" مقرونًا بأل للتعريف للدلالة على الاستغراق والشمول لجميع أصناف الخير، وللدلالة على الخير المعهود والموعود من قبل الله عز وجل، والله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- الاحتفاء باستقبال شهر رمضان كل عام، وإعلان الفرحة والابتهاج به والاهتمام برؤية هلاله، وتهيئة النفس لصيامه وقيامه. 2- شهر رمضان شهر مبارك، يضاعف فيه كل شيء، حتى في الرزق والمال فالفريضة بسبعين فريضة، والنافلة بثواب الفريضة، حتى يكفر الله تعالى السنة التي قبل شهر رمضان المبارك. 3- جعل الله صيام رمضان فريضة وركنًا من أركان الإسلام كما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة. 4- في شهر الصيام تتفتح أبواب الجنة؛ لأن أوله رحمة، ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار. 5- تغلق فيه أبواب الجحيم؛ لأن الصائم يعتق رقبته من النار. 6- الصيام يوصد أبواب الشياطين، ويضيق مجاري العروق عند الصائم فتضيق الخناق على الشيطان. 7- بركة شهر رمضان ترجع إلى وجود ليلة القدر فيه، نزل فيها القرآن الكريم، لذلك كان أفضل الشهور. 8- من فاته صيام هذا الشهر، فقد حرم الخير كله؛ لأنه لا يعود في عمر الصائم مطلقًا. 9- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

شهر الصبر والمواساة

شهر الصبر والمواساة: أخرج أحمد والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يستقبل شهر رمضان، وهذا الحديث بقية الحديث السابق: "وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة فمن فطر صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير النبوي الشريف في قوله: "وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة"، يدل على أن رمضان المعظم شرعه الله عز وجل؛ ليغرس في الإنسان قوة الإرادة وصدق العزيمة، والثبات على الشدائد والنوازل والصبر عليها، لأن من يصبر على ضرورات الحياة من ترك الطعام والشراب، الذي يحفظه من الموت والهلاك، ويصبر على ذلك ثلاثين يومًا في كل عام، فإنه قادر على أن يصبر على الشهوات وليست ضرورية، وعن الكماليات وهي زائدة عن الضرورات، يمكن الاستغناء عنها بالضروري من الطعام والشراب، لأن من تسلح بغريزة الصبر التي

ينميها الصيام في النفس، يستطيع أن يتلقى النوازل والشدائد بصدر رحب، وأن يواصل السعي والعمل، وأن يطيع الله تعالى بالصبر والمرابطة والمصابرة، بإرادة قوية وعزيمة صادقة لكل أنشطة الحياة، وتأكدت هذه المعاني بصورة بلاغية أخرى، نبعت من أسلوب القصر والحصر، فقد قصر الحديث ثواب الجنة على الصبر "والصبر ثوابه الجنة" عن طريق تعريف المبتدأ والخبر، فالمبتدأ وهو "الصبر" معرف "بأل" وجملة الخبر وهي "ثوابه الجنة" جاءت معرفة في المبتدأ الثاني وخبره أيضًا، فالمبتدأ بالإضافة "ثوابه"، وخبره معرف "بأل"، كل هذه المعرفات تقصر الخبر على المبتدأ، وهو قصر ثواب الجنة على الصبر، وتأكيده فلا يبرح عنه، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وقال أيضًا: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . التصوير البلاغي في روعة الأسلوب النبوي الشريف لقوله: "وهو شهر المواساة فمن فطر صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار"، فقد عبر بصيغة المشاركة والمفاعلة في صورة "المواساة"، للدلالة على أن الصيام يغرس في النفس شيمة لازمة، يتفاعل بها المسلم مع المحتاجين والفقراء طوال العام، وفي عمره كله، لأن الله أجرى حقوقهم على أيديهم، فلا يصح أن يمنع حقهم في كل حين، بل يواصل الإنفاق عليهم مما يعين على نماء المال وزيادته، ثم دلالة المواساة الفعالة على معاني العطف والتراحم والتعاون والتكافل والتآخي والحب والمودة والعدل والمساواة والتواصل وغيرها، لذلك كان الأجر عظيمًا وشاملًا، فمن فطر صائمًا، وأعطى فقيرًا كفر الله عنه سيئاته كلها، بل أعتق رقبته من النار وجعله من أصحاب الجنة، وما أعظم هذا الثواب؟ ومن روعة التصوير الأدبي أن

الحديث الشريف أطلق النفقة والإفطار للدلالة على المساواة والعدالة بين الغني والوسيط في ماله، وبين من لا يملك شيئًا، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} حتى يتساوى الجميع في الثواب، ولا يحرم منه أحد، ما دامت نيته صادقة في ذلك، فقد يكون الإطعام والإفطار ثمرة أو مزقة لبن، أو يكون شربة ماء، وهذه يملكها الجميع، وقد تكون بالقول المعروف والكلمة الطيبة أو بالابتسامة وطلاقة الوجه وهذه أيضًا يملكها الغني والفقير على السواء، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} ، كما قد تكون الصدقة بترك المحرمات. روعة التصوير الأدبي في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف في قوله: "وكان له مثل الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم بشيء" فجاءت الصورة الأدبية على سبيل التشبيه التمثيلي، فقد أعطى لمن واسى الناس بالإفطار أو بالصدقة من الأجر مثل أجر المواسى، ثم أطلق الثواب، فليس المراد ثواب الطعام والصدقة فحسب، بل أكثر من ذلك وهو ثواب عمله الصالح كله؛ لأنه بهذا الطعام وبتلك الصدقة، قد أعانه على طاعة ربه، وعلى النفقة والسعي على أولاده، ليأخذ ثواب ذلك كله، أي ثواب طاعة الله تعالى والسعي على المعيشة ورعاية الأولاد وتربيتهم، وأكد الحديث الشريف تلك المعاني في قوله: "وكان له مثل أجره" ثم أكد هذا الشمول بعبارة بليغة أخرى وهي "من غير أن ينقص من أجر الصائم بشيء" كما جاء في حديث شريف آخر "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" تلك هي بلاغة المصطفى -صلى الله عليه وسلم. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تنوعت القيم الخلقية والتشريعية من خلال التصوير الأدبي والفني.

2- فريضة الصيام شهر كامل، وهو شهر رمضان في أيام معدودات؛ فمن شهد منكم الشهر فليصمه، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. 3- يربي الصيام في النفس خليقة الصبر، وما أحوج الإنسان إليها ليقاوم مشقات الحياة ونوازلها وقضاء الله تعالى وقدره. 4- يربي الصيام في النفس قوة الإرادة وصدق العزيمة، وبها يتخطى الحواجز والعقبات. 5- وليس أعظم عند الله ثوابًا من الصبر، فثوابه الجنة ورضوان الله عز وجل. 6- يترك الصيام في النفس قيمًا خلقية وتشريعية كثيرة، تعود على الأمة الإسلامية بالتقدم والرقي والمجد والعزة والقوة، والبذل والكرم والعطف والتراحم والتعاطف والتعاون والمحبة والتكامل والإنتاج والاستهلاك ورواج الأسواق والتجارة. 7- من اتصف بهذه القيم استحق أجرًا كبيرًا من تكفير السيئات وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجر الصائم لا ينقص من أجره بشيء. 8- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

الصيام جنه

الصيام جُنة: أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشرة أمثالها". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير لقوله: "الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمة فليقل إني صائم مرتين"؛ فقد تعددت مصادر الجمال في هذا التصوير الفني منها: التشبيه البليغ في جعل الصيام كالدرع الذي يقي من سهام العدو ويحفظ من القتل، لأن الشأن في الصيام بحدوده المشروعة يمنع صاحبه من الفحشاء والمنكر ويغرس فيه القيم الخلقية السامية في الدنيا، ليكون ذلك وقاية له من النار في الآخرة، وفي رواية أخرى للترمذي "جنة من النار"، وفي بلاغة التعبير بالصيام لا الصوم وبصيغة المفاعلة ليدل على صراع النفس مع هواها وشيطانها وشهواتها؛ ليخرج منتصرًا على كل ذلك، فائزًا بالأجر العظيم المضاعف، وكذلك صيغة المفاعلة والمشاكرة في بلاغة قوله: "قاتله أو شاتمه"؛ لأنها تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، فيحدث مدافعة من الصائم ليكف نفسه عن الوقوع في الشتم والسباب، وهو يدل على روعة التصوير الأدبي في ألفاظ الصيام والمشاتمة والمقاتلة، لدلالتها على المصابرة والمجاهدة والصراع، حتى يسمو إلى درجة الصبر كما في الحديث: "وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة" قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وكذلك بلاغة التعبير في قوله: "إني صائم مرتين" باللسان ليزجر النفس عن انتهاك المحرمات في الصيام، فيؤكد منع المشاتمة والمقاتلة، كما في حديث آخر عن أبي هريرة -رضي الله عنه: "ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد وجهل عليك فقل إني صائم إني صائم". بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم

أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته" يعود إلى كنايات تتعدد فيها المعاني، ليقف المتلقي عليها بعد لأي؛ لتقع من النفس موقع الماء البارد العذب من العطشان؛ ليزداد تمتعًا بالنعمة وامتنانًا بالشكر عليها، فالصورة البلاغية الأولى في قوله: "والذي نفسي بيده" كناية عن قدرة الله تعالى وعظمته وإحاطته بكل الكائنات، وفيها دلالة على عظيم أجر الصائم، والصورة البلاغية الثانية في قوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، كناية عن رضا الله تعالى عن الصائم، لأنه يعرف يوم القيامة بطيب رائحته كالمسك، بعد أن كانت في الدنيا متغيرة لخلو المعدة من الطعام من أثر الصيام، وفي رواية مسلم والنسائي: "أطيب عند الله يوم القيامة"، والصورة الفنية الثالثة في قوله: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، كناية عن الإخلاص في صيامه والتزام حدوده المشروعة بتنفيذ تعاليمه وكمالياته، واجتناب محرماته ومنهياته. التصوير الأدبي في بلاغة التعبير لقوله: "الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشرة أمثالها"، يعتمد على صورة فنية كناية عن أسمى أنواع الأمانات في: "الصيام لي"، لأن الصيام سر بين العبد وربه، فهو يعلم السر وأخفى، فلا يدخل فيه أدنى مظاهر الرياء من التمسك بالأمانة حتى لا يكتسب ثقة الناس، فيحملون عليه أمانات أخرى، والصورة الثانية في قوله: "وأنا أجزي به"، فهي كناية عن عظيم ذلك العطاء وضخامة الجزاء فالله تعالى هو المجازي وحده، وليس بعد ذلك من جزاء عظيم، والصورة الثالثة في قوله: "والحسنة بعشر أمثالها" جاءت في تعبير بلاغي لا يقتصر على العشرة فحسب، بل المراد مضاعفة ذلك إلى سبعين أو سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، لذلك جاءت رواية الموطأ: "إلى سبعمائة ضعف".

التصوير البلاغي المستمد من المعاني الموضوعة في اللغة لألفاظ الحديث، وأساليبه تعددت مصادرها الجمالية والبلاغية، فالصورة البليغة الأولى انتقلت من الإجمال إلى التفصيل، لتوضيح هذه القيم الخلقية السامية للصيام، ولتوكيدها أكثر لأهميتها، وحث المسلم على اتباعها والعمل بها، وذلك حينما أجمل في جعل الصيام جنة، أي وقاية من المعاصي وسترة من الأوزار والسيئات، لأنه يكسر حدة الشهوة ويضعفها، ويقوى هذا المعنى برواية أحمد والدارمي: "ما لم يخرقها بالغيبة"، أو وقاية من النار، لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، ويتأكد هذا المعنى برواية الترمذي "جنة من النار"، وهذا هو الإجمال، ثم تتأكد هذه القيم بالتصريح في أسلوب يجمع بين التفصيل والإيضاح، حين قال: "فلا يرفث ولا يجهل"، أي لا يفحش في الكلام، ولا يفعل فعل الجهال من الصياح والسخرية، والسفه والجهل والجدل، ثم يزداد تفصيلا في قوله: "وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين"، بمعنى إن امرؤ لاعنه وسابه أو ذمه وأساء إليه، فليقل بلسانه إني صائم، أي لا يمنعني صومي من الرد عليك، هذا إذا كان الصوم فريضة، ويقول في نفسه إذا كان الصوم تطوعًا دفعًا للرياء، حتى لا تنتهك حرمة الصيام لسمو منزلته عند الله، لقوله تعالى في الحديث القدسي: "الصيام لي وأنا أجزي به"، والصورة البلاغية الثانية جاءت عن طريق الإطناب بالقسم في قوله: "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم.. إلخ " لأن الشأن في القسم الإيجاز بقوله: "والله وبالله وتالله"، للدلالة على سمو الصيام وطيب رائحة الفم الكريهة عند الله تعالى، وإن كانت كريهة عند الناس، لأنه ترك طعامه وشرابه وشهوته ابتغاء مرضاة ربه، والصورة البلاغية الثالثة وردت بصيغة المفاعلة "قاتله أو شاتمه"، للدلالة على ما يحدث من الصراع الدائر بين

الطرفين، بدوافع هوى النفس وغواية الشيطان، وحب الانتصار على الغير، سواء من البادئ بالسباب والشتم، أو من المعارض الذي يدفع عن نفسه، ويرد عليه السباب، فعليه أن يقاوم ذلك بشدة، فيمسك لسانه ويغالب هواه، "فالشديد منكم من يملك نفسه عند الغضب" كما ورد في الحديث الشريف. التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من ألوان الخيال، يتخذ منها صورًا فنية جميلة، تأخذ بالعقول وتسيطر على القلب والعاطفة والوجدان، وذلك في الصورة القائمة على التشبيه الصريح حين شبه الصيام بالجنة، وهي الدرع الذي يحمي القاتل من ضربات العدو، فترتد عنه السهام وتنكسر حوله السيوف، وللدلالة على ما يشتمل عليه الصيام من المفاعلة والمشاركة ومقاومة هوى النفس والشيطان والشهوات والملذات فيمسك عن كل ذلك ابتغاء مرضاة ربه سبحانه وتعالى، لأنه يمنع نفسه من ضروريات الحياة وكمالياتها، حتى لا يرتد خاسرًا لقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" كما يحمي الدرع المتقي به من القتل والهلاك، كذلك الصيام يحمي صاحبه بقيمه السامية. والصورة البلاغية الثانية تكونت في التشبيه الضمني في قوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وهو من أنواع التشبيه البليغ، التي تزداد فيه المعاني البليغة عن التشبيه الصريح السابق، ومن بينها إقامة الدليل المقنع على هذه المعاني، لأن التشبيه الصريح في ذلك "رائحة الفم كالمسك"، ولكن التشبيه الضمني أكثر بلاغة لما يفيده من معان كثيرة، كما في صيغة "أفعل التفضيل" في أطيب، تدل على أطيب الروائح على الإطلاق، فهي عند الله أعظم مما عند الناس، وأن رائحة المسك

جزء يسير من خلوف فم الصائم، لدلالة "من" على البعضية ثم إتيان التشبيه الضمني في أسلوب غير صريح، مما يحتاج إلى تأمل وطول نظر، فإذا ما جاهدت النفس في الوصول إلى المعاني، كانت كالدليل على مفهومها وتأكيدًا لها، فتستقر في النفس وتكون أشد علوقًا بها، فلا تذهب عنها إلا بعد أمد بعيد، كذلك في بقية الصور البلاغية في هذا الحديث الشريف. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- اشتمل الحديث على قيم خلقية وتشريعية كثيرة ظهرت من خلال التصوير الأدبي والبلاغي، ومنها أيضًا: 2- الصيام يقي الصائم والمجتمع حوله من الشهوات واللهو والمعاصي والأوزار، ومن العلل والأمراض ومن هوى النفس وعبث الشياطين في الدنيا، أما في الآخرة فيقي الصائم من هول الموقف وشدة المحشر، فلا يصيبه الظمأ، كما يقيه من لفح الشمس ولهيب جهنم وعذابها، فيدخل من باب الريان، لا يدخل منه أحد إلا الصائمون. 3- الصيام يصون النفس من الرفث والفسوق والجهالة والملاعنة والمشاتمة فيحفظ لسانه وقلبه من كل ذلك؛ ليظل عفيفًا ظاهرًا مبرأ من الدنس والفحشاء والمنكر. 4- رائحة فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك في الدنيا والآخرة مما يدل على مرضاته عز وجل، ورضا الله سبحانه غاية قلما تدرك؛ فمن رضي عنه لا يسخط عليه أبدًا ولا يغضب. 5- الصيام سر بين العبد وربه؛ لأنه يغرس في النفس أسمى أنواع الأمانات المجردة من الدوافع والرياء والتظاهر والتفاعل مع ثناء الناس. 6- السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء، هذا بالنسبة لما تسجله الكتبة من الملائكة عن اليمين وعن الشمال عزين، أما الصيام فثوابه يختص الله عز وجل بجزائه وثوابه وهو أكرم الأكرمين؛ فلا يقتصر على العشرة، بل يضاعفه الله أضعافًا مضاعفة، لأنه بين العبد وربه، وهو شهر الصبر {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف

من لم يدع قول الزور

من لم يدع قول الزور: أخرج الجماعة غير مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "من لم يدع قول الزور والعمل به" ترجع إلى عناصر الجمال في دقة الأسلوب، من روافد الإمتاع والتأثير في الوجدان والنفس، والإقناع الشامل بالدليل الواضح والحجة الدامغة؛ فعبر بمن الشرطية لإفادة أمرين، أحدهما: أن "من" تدل على العموم فتشمل كل إنسان رجلًا أو امرأة، صائمًا أو غير صائم، حاكمًا أو محكومًا، في حقوق الله أو في حقوق العباد، صغيرًا أم كبيرًا، لأنه لم يقيد قول الزور وعمله بالرجل أو المرأة وبالصائم أو المفطر، ولا بالحاكم أو المحكوم، فأتى بلفظ يشمل هؤلاء جميعًا فلا فرق بين الرجل والمرأة، إلا أن الأخيرة في الشهادة يكون معها غيرها مقابل الرجل قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إلى قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ،

فلا فرق بين المفطر في رمضان وقائل الزور فيه فعقابهما شديد، لكن عقاب قائل الزور وهو صائم أشد لحرمة شهر رمضان المعظم، الذي يضاعف فيه الأجر، مما يقتضي بشاعة الذنب في الحرمان من ثواب العمل المضاعف، إلى سبعين ضعف والله يضاعف لمن يشاء، وكذلك فالعقاب أشد كما جاء في الحديث الشريف: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وثانيهما: عبر "بمن" وهي أداة تدل على الشرط التي تتضمن معنى الالتزام والإلزام باجتناب الزور، ولا مناص من ترتب الثواب على تركه، ولا مناص من العقاب لمن وقع منه، لأنه ترتب على فعل الشرط جواب الشرط وجزاؤه؛ فكان بمعنى الجزاء المتنوع حسب تركه أو فعله، لأن الجزاء من جنس العمل، كما يتضح من قوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" ويشمل جميع الحقوق، لأن قول الزور في حق الله أولى بالنهي عنه، لأنه يترتب عليه الكذب والافتراء والبهتان على الله ورسوله، ومن فعل ذلك فليتبوأ مقعده من النار، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلامِ} وكذلك ما يترتب عليه من ضياع حقوق العباد، فيعين على نشر الفساد والظلم قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وبلاغة التصوير الأدبي: في التعبير عن ترك الزور والعمل به بصورة فنية محسة حين صور الحديث الشريف التحريم والنهي -وهو معنى مجرد- بمحسوس في "لم يدع" أي لم يترك الشيء المجسم، لأن تأثير المحسوس في النفس يكون أقوى، ويكون أيضًا دليلًا ملموسًا ومرئيًا، لتجمع هذه الصور البليغة بين الإمتاع والتأثير والإقناع معًا، ثم كانت بلاغة التعبير في الجمع بين قول الزور والعمل به، ليستقصي كل أشكاله، في التحريم سواء

أكان قولًا مجردًا من الفعل، حتى لا تشيع الفاحشة بين الناس، أو فعلًا وسلوكًا، وهو أشد فحشًا وإفسادًا في الأرض؛ لذلك جاء التحذير الشديد منه في حديث آخر يجعله من أكبر الكبائر: "ألا وقول الزور" وجعل يكررها حتى تمنى الصحابة رضي الله عنهم أن يسكت النبي -صلى الله عليه وسلم. روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير لقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وأسباب الجمال فيه تعتمد على عناصر فنية بليغة، منها أن جواب الشرط هنا جاء في صورة النفي في قوله: "فليس"، للدلالة على النهي والتحريم لبشاعة الجرم والإفساد، وأنه لا فرق في مضاعفة الأجر بين ترك الطعام والشراب وبين ترك المنهيات حتى ولو سقطت الفريضة عن الصائم؛ فلا يستحق مرتكب المحرمات من مضاعفة الأجر، لذلك فالله غير محتاج إلى شيء من ذلك، وإنما الصائم هو الذي يحتاج، وجاءت أيضًا هذه الصورة الفنية على سبيل الكناية، حين نفى السبب وهو ترك الأكل والشرب، وأراد المسبب وهو الرد وعدم التفات الله تعالى له ولا قبوله، بل حذر من الزور وفعله، ثم ذلك التوازن بين الإيقاع الموسيقي في فعل الشرط والجزاء، مما يثير الانتباه ويوقظ الوجدان ويأخذ بمجامع القلب والعاطفة، حتى تستقر هذه القيم في النفس عن طريق منافذ الإدراك المختلفة، مما يتفق مع حديث آخر "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر". التصوير البلاغي: المستمد من المعاني الحقيقية، التي تواضع عليها علماء اللغة لألفاظ الحديث الشريف، وبلاغة أسلوبه، منها: بلاغة من الشرطية في صورة أدبية تفيد العموم، فلا فرق في تحريم الزور والعمل بين

الصائم والمفطر، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين الصغير والكبير، ولا بين المكلف والمميز غير المكلف، حتى يصير عادة له كما في حديث الصلاة: "أؤمروه لسبع واضربوه عليها لعشر"، ومنها الصورة البلاغية في "لم يدع" لا "لم يترك"؛ لأن من معانيها الوداعة والرفق والحب والميل القلبي، ولا يكون ذلك إلا عن إيمان وحب وإخلاص، ابتغاء مرضاة الله عز وجل، سواء في ترك الزور والعمل به، أو ترك الطعام والشراب، ومنها الصورة البليغة في التعبير "بحاجة" منكرة لإفادة التنويع، لأن الله تعالى غني عن عباده، لا يحتاج شيئًا مطلقًا صغيرًا كان أو كبيرًا، فجند الله تعالى كثير من غير الأناسي، يسبحون بحمده على الدوام كالملائكة لا يفترون، بل يسبح له كل ما في الكون: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، ومنها الصورة الفنية المستمدة من موسيقى التزاوج بين القول والعمل، وبين الطعام والشراب، لأن الإسلام عقيدة وعمل، وقول وسلوك، فكمال الصيام لا يتم إلا بترك المنهيات والمحرمات من الطعام والشراب، وقول الزور والعمل به وهو أقبح المنهيات لفظاعته. التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من الصور الخيالية، التي تحرك المشاعر والعاطفة، وتستقر في العقل والوجدان، منها ذلك التشخيص الحي في صورتين أدبيتين بليغتين، وذلك بتشخيص قول الزور والعمل به بشخص له إرادة في قول "يدع" فيتعامل بها مع الصائم، ويتفاعل معه فيقاومه بالترك أو بعدمه، فقد ينتصر أحدهما على الآخر في صراع ومقاومة، وكذلك صراع النفس وهواها مع قوام حياته من الطعام والشراب، فلا يستغنى عنه بحال، فهو من ضروريات الحياة وبدونهما يكون الهلاك والموت، ومنها الصورة البليغة في التوازن الموسيقي بين جملتي الشرط: وهي "من لم يدع قول الزور والعمل به" وبين جواب

الشرط وجزائه في قوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، فهذا النسق الإيقاعي الرتيب يثير النفس، وينبه الذهن، فتفتح له منافذ الإدراك، وتستقر معانيه في القلب والعقل معًا، وكذلك ما يفيده أسلوب الشرط والجزاء من حتمية النتيجة والقرار والحكم الفصل، الذي لا مرد فيه ولا شفاعة، بمعنى من لم يترك قول الزور فليس بصائم، ولا يقبل صومه بحال، فتتمكن هذه القيم الإسلامية من الصائم، وذلك من خلال التطابق بين قول الزور والعمل به، وكذلك بين طعامه وشرابه، ثم التقابل بين الجملتين الأولى: "قول الزور والعمل به". والثانية "يدع طعامه وشرابه" ليشكل صورة بليغة غنية بالألوان متنوعة المعاني المتطابقة والمتقابلة، فتؤكد ما تدل عليه من القيم الخلقية والتشريعية في أحكام الصيام المقبول والمثاب. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- ترك قول الزور والنهي عن العمل به وخاصة في الصيام فهو يضاعف فيه أجر الصيام، ويعظم فيه عقاب الزور. 2- الزور يحرم الصائم من ثوابه المضاعف. 3- يحث الإسلام المؤمن على التحقيق والتثبت في القول والعمل. 4- بشاعة الزور؛ لأنه يعين على أكل أموال الناس بالباطل، ويشيع الفتنة بين الناس، والفتنة أشد من القتل. 5- إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يقع في المستقبل بأن بعض الناس سيتخذون شهادة الزور حرفة وعملًا يرتزقون منها، كما يحدث في المحاكم حديثًا. 6- لا يقتصر مفهوم الصيام على الإمساك على الطعام والشراب، بل يتسع فيشمل ترك قول الزور والعمل به والفحشاء والمنكر. 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

من صام رمضان

من صام رمضان: أخرج أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير لقوله: "من صام رمضان" ترجع بلاغته إلى اختيار الكلمات، التي تؤدي المراد بدقة وشمول وعلى سبيل التحقيق، فعبر "بمن" دون غيرها لإفادة التكليف والتنويع؛ لأنها وضعت في اللغة العربية للعقلاء البالغين المكلفين، على العكس من "ما" فهي لغير العقلاء، لذلك وجب الصيام على الإنسان المكلف من بين المخلوقات، فقد خاطب الله تعالى المؤمنين بفرضية الصيام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وكذلك لإفادة الشمول والعموم، لأن "من" تشمل الرجل والمرأة والراعي والرعية، فهي تستوعب كل المكلفين من بني آدم، وكذلك لإفادة الالتزام والإلزام على سبيل الحتم والفرضية، فهي أداة شرط، يستوجب فعلها وهو "من صام رمضان" جواب الشرط وجزاؤه وهو: "غفر له ما تقدم من ذنبه"، وكذلك تجد بلاغة التصوير الفني في اختيار كلمتي "صوم رمضان"، للدلالة على أن شهر رمضان المعظم دون غيره هو المفضل من بين الشهور بالصيام، فقد ميزه الله تعالى بهذه الفضائل من بين غيره، منها الصيام ونزول القرآن الكريم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وفي الحديث الشريف حين استقبل هذا الشهر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لقد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر جعل صيامه فريضة وقيام ليله تطوعًا".

التصوير البلاغي في قوله: "من صام رمضان إيمانًا"، فعبر الحديث الشريف عن صيام رمضان وقيده بالإيمان، ليشكل صورة أدبية بليغة في كلمة واحدة، تجمع بين حروف منتقاة تمتاز في إيقاعها الموسيقي والصوتي بالسلاسة والعذوبة، والرقة والسيولة في حرفي اللين، وهما الألف والياء؛ فلم يجتمع فيها من حروف الشدة والجهارة والغلظة وغيرها مما يوحي بشدة الإيقاع وعنف موسيقى الحروف، وللدلالة على أن الصيام لا يقبل من الكافر مطلقًا، ولا يثاب عليه الفاسق، وإن سقط عنه الفرض، إن الأساس في قبول الأعمال هو الإيمان بالله ورسوله والطاعة لهما: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، ولم يخاطب الله تعالى الناس ولا الكفار ولا الفسقة وإنما خاطب المؤمنين المتقين بالصيام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . بلاغة التصوير الأدبي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان احتسابًا" ترجع إلى اختيار هذه الصيغة في حروفها ومبانيها الصوتية، وفي معاني الكلمة الوضعية في اللغة، لتنبني منها صورة أدبية رائعة على أكمل وجه، لتحقق الغاية منها في أجمل صورة، فتتلقاها الأذن؛ وتستقبلها الأحاسيس في إيقاع رتيب ونسق بديع، يجمع بين التآلف الموسيقي وبين أصوات الحروف الهامة الحاسبة التقديرية، فتستوعبها النفس وعيا وعمقًا، كما أن معاني الكلمة تدل على الحساب والتقدير والدقة والإخلاص، ولا تأتي فيها معاني العبثية ولا الأنانية ولا الذاتية ولا الرياء والمظهر، وتدل على أن الصيام يكون لحساب المرء عند الله ابتغاء مرضاته، لذلك كله كانت النتيجة في جواب الشرط لازمة وحتمية؛ ليستحق الصائم على هذين الأساسين -وهما الإيمان والاحتساب لله عز وجل- الغفران والثواب المضاعف فيدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، من باب يختص به الصائمون وحدهم، وهو باب الريان، فإذا دخلوا أغلق دونهم.

كما أفاد أسلوب الشرط أيضًا التوازن الموسيقي والتآلف الإيقاعي بين جملتي فعلي الشرط والجواب، ليثير انتباه القارئ، ويحرك عواطفه ومشاعره، فتستقر معاني الحديث وقيمه الخلقية، في أعماق النفس إيمانًا وتصديقًا وإخلاصًا، ابتغاء مرضاة الله عز وجل. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- صيام رمضان فريضة على العاقل البالغ المكلف. 2- صيام رمضان الذي يغفر الذنوب يقتصر على المؤمن لا الفاسق؛ لأن الصدق في الصيام والإخلاص فيه يتفق مع حقيقة الإيمان من الصدق واليقين والإخلاص. 3- إذا صام المؤمن شهر رمضان ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وهو يحتسبه لوجه الله تعالى غفر الله سبحانه له ما تقدم من ذنبه. 4- أن المؤمن الذي يحرص على صيام رمضان في حياته وطول عمره يكفر عنه سيئاته، ويرفع عنه أوزاره، ويلقى ربه عز وجل طاهرًا من الذنوب. 5- تفضيل شهر رمضان على بقية الشهور جميعًا لما خصه الله عز وجل من نزول القرآن الكريم دستور الحياة الكريمة والعزيزة للمؤمن وللإسلام. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

القرآن والصيام يشفعان

القرآن والصيام يشفعان: أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان". بلاغة التصوير الأدبي في الجمع بين الصيام والقرآن معًا، ترجع إلى عناصر جمالية في الأسلوب النبوي الشريف، منها فضل شهر رمضان المعظم على بقية شهور السنة؛ لأن رمضان المبارك يجمع بين فضيلتين: إحداهما فضيلة الصيام بمعنى مقاومة الصائم لهوى النفس وشيطانها. حتى تصفو روحه، وتتهذب نفسه، ويصح جسده، ويقوى بدنه. وثانيهما: فضيلة قراءة القرآن في شهر اختصه الله تعالى بنزول كتابه المقدس لهداية الناس بقيمة الأخلاقية، ومبادئه التشريعية والإنسانية، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ؛ ولهذا الفضل العظيم لهما بين الشهور والتشريعات السماوية استحق الشفاعة من أداهما ابتغاء مرضاة الله تعالى؛ فالصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، ومن ذلك أيضًا الدليل على أن الشفاعة أنواع، منها الشفاعة العظمى للنبي -صلى الله عليه وسلم، ومنها شفاعة الأعمال الصالحة ومنها شفاعة الصيام والقرآن، ومنها شفاعة العلماء والشهداء وغيرها قال تعالى: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه" وترجع روعة التصوير الفني إلى التشخيص وحيويته في الصيام، فقد شخص الصيام إنسانًا محاميًا يدافع عن الصائم يوم القيامة، ويذبُّ عنه عنف المحشر العسير ولفح النار ولهيبها، لينجو بصاحبه من الحساب الشديد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، واعتمد أيضًا على عناصر الإمتاع والتأثير وعلى أدلة

الإقناع، مما يعين على الاستجابة السريعة للشفاعة، فيقول الصيام: قد حرمته من ضروريات الحياة، وهي الطعام والشراب وكلاهما يحفظ النفس من الموت، ومن كماليات الحياة، وهي الحرمان من الشهوات والملذات، ومن منهيات الحياة ومحرماتها فلا يشهد الزور، ولا يقع منه اللغو ولا الغيبة والنميمة، ليلتزم بأخلاق الصيام وتعاليمه؛ لذلك جاءت آية استجابة الدعاء وقبول الشفاعة بين آيات الصيام قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . روعة التصوير البلاغي في قوله: "يقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه" فقد جاءت الصورة البلاغية أيضًا على سبيل التشخيص، حين كان التشخيص في القرآن خير مدافع لمن يقرؤه في ليل رمضان، ويعمل بقيمه وتشريعه في جميع الأحوال؛ فهو يستحق منه الدفاع والحماية، لينجو من عذاب القبر وعذاب القيامة في وقفة المحشر الرهيب، وشدة الحساب ولهيب جهنم، والحرمان من الجنة، ثم خص الصيام بالنهار لأنه مجاله من مطلع الفجر إلى مغرب الشمس قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} كما خص قراءة القرآن بالليل، لأن فيه أعظم العبادات وهي التهجد، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} ، وللدلالة أيضًا على أن نزول القرآن الكريم كان ليلًا أيضًا، وفي ليلة خير من ألف شهر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

القيم الخلقية والتشريعية للحديث الشريف: 1- ارتباط صيام رمضان بالقرآن الكريم دليل على أنهما متلازمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فنزول القرآن في شهر رمضان، رفع منزلة فريضة الصيام ومنزلة الشهر المبارك. 2- يشفع الصيام لصاحبه يوم القيامة، فأداء فريضة الصيام على وجهها المشروع من المشرع الحكيم بمثابة السماح له بالشفاعة لصاحبه وإعطائه الأمر بها {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . 3- كذلك القرآن الكريم يشفع لمن يحفظه أو يتلوه ويرتله، ويستقيم على أوامره ونواهيه. 4- أن الله سبحانه وتعالى خص الصيام بالنهار ورغب فيه، وخص التهجد والقيام بالليل وحث عليه، وفي الحديث الشريف "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". 5- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

النهى عن الوصال

النهي عن الوصال: أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين: "إنك تواصل يا رسول الله" قال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقين" فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال، فقال: "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل بهم حين أبوا أن ينتهوا، وفي رواية عنه قال لهم: "فاكلفوا من العمل ما تطيقون". التصوير البلاغي المستمد من حقائق المعاني الموضوعة في اللغة لألفاظ الحديث وأساليبه البليغة، التي تنوعت مصادرها البلاغية الجميلة، فالصورة الأولى تعبر عن كراهة وصال يومين أو أكثر في الصيام، سواء

أكان فرضًا أو كان نفلًا، فلا يأكل ولا يشرب، بل يظل صائمًا لا يفطر، وإن اختلف العلماء فيها بين كراهة التحريم أو التنزيه، فجاءت الألفاظ بمعانيها الحقيقية في تصوير أدبي رائع من خلال ما توحيه أداة الاستفهام "أيكم؟ "، لتدل على الإجابة منهم بقولهم: لسنا مثلك يا رسول الله، فأنت المصطفى من بين الخلق، والناس أتباعك وفرق بين المتبوع والتابع عند الله وعند خلقه، وتدل أيضًا على معاني التوبيخ والتقريع، لإنكارهم نهي أمته عن الوصال رحمة بهم، مما يستحقون عليه التوبيخ، والصورة البلاغية الثانية في التعبير بالبيات ليلًا، فمع إفادته الامتناع عما يفطر في الليل أو معظمه، لكن المراد منه أيضًا أن يظل مستمرًا في الوصال بين ليالي رمضان وأيامه، ممتنعًا عن المفطرات من الطعام والشراب والجماع على الأرجح، وإن قيل لا مانع من الجماع؛ لأنه يكون سببًا في الضعف لا في القوة، والصورة الثالثة فيما تفيده عبارة "لو تأخر لزدتكم" من صور حقيقية، تدل على التنكيل بهم، زيادة عما تفيده معاني هذه الألفاظ الموضوعة في اللغة، والصورة الرابعة في تصوير عدم التحمل بقوله: "ما تطيقون"، فليس المراد عدم القدرة فحسب، بل تدل على معنى آخر أن يتحمل ذلك بمعاناة شديدة، ليدل على نوع الحكم وهو الكراهة تحريمًا أو تنزيها، لا على التحريم المطلق، وغيرها من الصور البلاغية المستمدة من الأساليب الحقيقية لا البيانية ولا الخيالية. التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من الألوان الخيالية يتخذ منها الخيال صورًا فنية بديعة، تتفتح لها منافذ الإدراك جميعًا من النفس. فالصورة الفنية الأولى جاءت عن طريق مجاز الحذف، في دلالة "الواو" عن المحذوف في قوله: "وأيكم مثلي"، فهذه العبارة عطفت على محذوف تقديره "هذا شأني وأيكم مثلي" في بلاغة الحذف من الإيجاز، الذي

يحتاج إلى تأمل وطول نظر، حتى إذا ما انتهى إلى المراد استقر في النفس، في حالة من المتعة والجمال بعد المعاناة والمشقة في البحث عن المراد، والصورة الفنية الثانية في التوازن الموسيقي، الذي يشد الانتباه ويثير العواطف، ويعمر الوجدان عن طريق التعادل بين يطعمني "يسقيني"، والتضاد أيضًا بين معانيهما. والصورة الفنية الثالثة في التعبير بالاستعارة المكنية في قوله: "لو تأخر لزدتكم" فأصبح للشهر -وهو زمن- إرادة وتأثير فعلي كالإنسان، للدلالة على أن كل شيء في الكون إنسانًا أو غيره يسبح بحمد الله، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. ثم الصورة الرابعة في قوله: "فاكلفوا من العمل ما تطيقون" فهي كناية عن اختلاف الطاقات عند البشر، لدلالته على عدالة الله تعالى في الأجر والثواب من جميع الخلق، مهما اختلفوا في القوة والضعف والشباب والشيخوخة والصحة والمرض، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- جواز السؤال عن حكمة النهي أو حكمة الأمر. 2- جواز مراجعة المفتي في فتواه للتأكد من الحكم أو تقريره تقريرًا نهائيًا. 3- كان الصحابة رضي الله عنهم يراقبون أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم؛ ليقتدوا بها على مثالها وليكونوا أيضًا قدوة لهم "بأيهم اقتديتم اهتديتم". 4- النهي عن المبالغة في العبادة والتشدد على النفس؛ فالدين يسر لا عسر.

5- رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . 6- كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى والقدوة، يتميز بخصائص النبوة. 7- تساوي المكلفين في الأحكام الشرعية، لا فرق بين عربي وأعجمي. 8- قدرة الله عز وجل على إيجاد المسببات بدون سبب ظاهر إن الله على كل شيء قدير، يقول للشيء كن فيكون. 9- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

فمن رغب عن سنتي فليس مني

فمن رغب عن سنتي فليس مني: أخرج البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". التصوير البلاغي المستمد من المعاني الحقيقية، التي تواضع عليها علماء اللغة، لألفاظ الحديث الشريف وبلاغة أسلوبه، منها: بلاغة الاستفهام في قوله: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا" فليس المقصود منه الإجابة عن السؤال. وهو المعنى اللغوي للاستفهام، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد علم ما سألهم عنه، وما تقالوه من عبادتهم، لكن المراد نفي ما قالوه، ورفض ما

فهموه عن تعاليم الإسلام المسيرة، وإنكار ما سيفعلون من التشدد في العبادة، مستدلين بقولهم عنه: لقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فأنكر عليهم ذلك، ووضح لهم سماحة الإسلم ويسر شريعته، ومنها: ما توحيه كلمة "أما" من إشارتهم لما ينكره عليهم من الأمر الجلل، وتنبيههم إلى فظاعة قرارهم، وغلظة ما فرضوه على أنفسهم مما لا يطيقون "فالدين يسر لا عسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا"، وغيرها من القيم السامية، التي أوحى بها حرف التنبيه والاستفهام، في نسق أسلوبي ونظم بلاغي، وأكد هذه القيم بلفظ الجلالة، وما أعظمه؟! "إني وبلام الابتداء"، ومنها: أسلوب الحذف، وما يدل عليه من بلاغة الإيجاز، وهو أبلغ في النفس، فهو يحتاج إلى تأمل وطول نظر، فيكون أكثر إمتاعًا وأعظم تأثيرًا في قوله: "لكني أصوم وأفطر ... إلخ "، والتقدير يدل عليه السياق والنسق البلاغي، وهو: أنا وإن تميزت عنكم بذلك، لكني أنا وأنتم بالنسبة للعبودية سواء، فأنا أصوم وأفطر.. إلخ، ومنها إضافة السنة في "سنتي" ونفيها عنه "فليس مني"، إضافة إلى ضميره، للدلالة على طريقته في التشريع، والإعراض عن العمل بها، فالمراد ما جاء به عن ربه عز وجل من تشريع، يشتمل على الطاعة في أمر الله ونهيه. التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني، المستمد من الصور الخيالية كانت مؤثرة وممتعة، منها: الكناية البليغة في قوله: "أنتم قلتم كذا وكذا" فليس المراد ما يفيده اسم الإشارة، على ما سبق بيانه من العزائم الثلاث، لكن المراد إنكار هذه الأفعال الثلاثة والتجاوزات فيها؛ حتى كره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يذكرها، حتى لا يقررها، وإنما أهملها تمامًا، واكتفى

بالكناية، وهو أسلوب بلاغي، من أبلغ الصور الأدبية في الإمتاع والتأثير والإقناع، ومنها: التنوع في التقسيم الموسيقي الذي أداره الخيال، مما يضفي على الأسلوب الإيقاع الرتيب، والنسق الموسيقي المتتابع، مما يثير النفس ويمتعها، ويقنعها عن طريق المنافذ الأخرى، من العاطفة والوجدان والحواس المختلفة، وهو ما يفيده أيضًا التوازن الإيقاعي بين أسلوب الشرط، وأسلوب الجزاء، فتتفتح له منافذ الإدراك المختلفة، ليستقر الحكم في النفس، ويكون القرار الفصل الذي لا مرد فيه، وهو أن من أعرض عن شريعة الإسلام السمحة، بلا تشدد، أو تنطع فليس من المؤمنين، لأنه خرج عن طاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم، ومنها: الصورة الأدبية في الكناية البليغة، التي تعبر عن سماحة الإسلام في تشريعه التي يطيقها القوي والضعيف، ويسر تعاليمها لكي يقوى المسلم على طاعة إلى الأبد، فخير الأعمال القليل الدائم، وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء"، فليس المراد تلك المزاوجة فحسب، ولكن المراد سماحة الإسلام ويسره، لما ورد في الحديث الشريف "إن لربك عليك حقًا وإن لنفسك عليك حقًا وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تتبع أحوال أهل الكمال للسير على مناهجهم وطريقهم. 2- يجوز استكشاف هذه الأحوال من النساء إذا تعذرت عند الرجال. 3- من عزم على فعل الخير، وأراد إظهاره، فلا حرج من إعلانه دفعًا للرياء. 4- قد يتحول المباح والجائز بالنية إلى الكراهة. 5- الدين يتلاءم مع طبيعة البشر لأن الدين يسر لا عسر. 6- إزالة الشبهات عن المجتهدين، وإثبات الأحكام المحكمة والحكيمة.

7- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رفيقًا بأصحابه رضي الله عنهم ورحيمًا بأمته. 8- العلم بالله عز وجل ومعرفته حق المعرفة أعظم قدرًا من العبادات. 9- طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأوامره ونواهيه. 10- العودة إلى استعمال نعم الله تعالى، والتمتع بها بعد أن استبدلها بغليظ الحياة الخشنة، والتقشف في المأكل والملبس. 11- سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تشريع إلهي من الله عز وجل لأمته، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . 12- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.

الصيام كالجهاد

الصيام كالجهاد: أخرج البخاري عن أبي هريره رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها"، قالوا: يا رسول الله أفلا تبشر الناس؟ قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، آراه قال: وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة". التصوير البلاغي المستمد من حقائق المعاني الموضوعة في اللغة لألفاظ الحديث الشريف وأساليبه البليغة، فقد تنوعت مصادره البليغة، منها بلاغة أسلوب القصر، الذي يؤكد القول الفصل والقرار النهائي في ترتب الجزاء على الشرط في قوله: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام

رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة"، فتأكد هذا التقرير أكثر وأكثر بأسلوب القصر: "كان حقًا على الله أن يدخله الجنة" وطريقه التقديم لخبر كان على اسمها، ليطمئن من أدى ذلك، أن له حقًّا على الله تعالى أن يدخله الجنة من فضله، فلا يجب شيء على الله عز وجل، ومنها ما تفيده "أو" العاطفة، من صورة التسوية بين من قاتل في سبيل الله واستشهد، ومن مات في بيته بعد قيامه بالصلاة والصيام، فله أجر شهيد أيضًا في الجنة، وإن كانوا جميعًا يتفاضلون فيما بينهم حسب كثرة الأعمال الصالحة، لينال المكثر مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، ومن زاد فقد تميز بالفردوس الأوسط ثم الأعلى، ويؤكد ذلك ما ورد في حديث معاذ -رضي الله عنه- حين استسمح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر الناس بذلك؛ فرد عليه قائلًا: "ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة ... " إلخ الحديث، ومنها أسلوب القصر البليغ الذي يؤكد بأنهم لا ينفكون عن الجنة أبدًا، حين قدم خبر إن عن اسمها في قوله: "إن في الجنة مائة درجة"، مع إفادة التقديم من البشارة وسرعة إدخال السرور، وتقرير الجزاء منذ البداية لزيادة الأمن والطمأنينة، ثم يكون ما تلاه توضيحًا للجنة وتفسيرًا لها بمائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فيكون السرور أعظم والأمن أكثر، ليزداد الذين آمنوا إيمانًا مع إيمانهم، حتى لا ينتهي العمل إلى حد معين، بل يتفاضلون فيه بالزيادة المستمرة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني، المستمد من الألوان الخيالية، يتخذ منها صورًا أدبية بليغة، يغتذي منها الذوق، وتتهذب بقيمها النفوس الزكية، فالصورة الأولى جاءت في التشبيه الضمني البليغ، في قوله: "جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها"،

مما يحتاج إلى تأمل، وطول نظر في استخراج أركان التشبيه الصريحة، التي تقفز إلى العقل لأول وهلة، كالوقوف هنا على المشبه في قوله: "من أقام الصلاة وصام رمضان" والمشبه به في قوله: "قاتل في سبيل الله حتى استشهد"، أما التشبيه الضمنى فلا يتأتى إلا بعد تفكير طويل، وحينئذ يستقر في النفس، فيمتعها ويظل فيها زمنًا طويلًا أيضًا، كما أن الاقتصار على الصلاة والصيام للتكرار في الأداء في كل يوم وسنة، فهما واجبان على القوي والضعيف والغني والفقير، بينما الحج والزكاة لا تجب إلا على المستطيع، بيد أن الحج لا يجب إلا مرة في العمر، والزكاة على الغني فقط، على النقيض من الصلاة فهي في كل يوم، ومن الصيام فهو في كل سنة وعلى الغني والفقير، والصورة البليغة الثانية قامت على التشبيه الصريح الذي تجسدت أركانه في المشبه وهو: "ما بين الدرجتين في الجنة"، والمشبه به: "كما بين السماء والأرض"، ووجه الشبه وهو الاتساع وكثرة النعيم، فما بالك بما بين مائة درجة، إنه الفضل الأكبر، والصورة الأدبية الثالثة قامت على التوازن بين التقسيم الموسيقي في الفقرات الأربع، فالأولى: "إذا سألتم الله"، والثانية: "فاسألوه الفردوس"، والثالثة: "فإنه أوسط الجنة"، والرابعة: "أعلى الجنة"، فتجد جمال التنسيق والإيقاع في هذا التوازن الموسيقي، الذي أحكمه الخيال، فتنوعت أوتاره الشجية، التي تمتع النفس والذوق والعقل جميعًا، بالإضافة إلى ما أفادته "إذا" من التحقيق، وتأكيد الرجاء عند الله، فهو حقيقة عند الخالق لا كالرجاء عند المخلوق، كما في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فهم مفحلون إن شاء الله تعالى. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله بفضله أن يدخله الجنة.

2- وكذلك من جاهد في سبيل الله تعالى، كان حقًا على الله تعالى بفضله أن يدخله الجنة. 3- من يصوم رمضان، ويقيم الصلاة، ومات في أرض، كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى سواء بسواء في دخول الجنة. 4- بشر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أطاعه بالصيام والقيام، وبالجهاد في الدنيا بالجنة، كما بشر بعض الصحابة رضي الله عنهم بالجنة. 5-اتساع الجنة ورحابتها، تتعدد درجاتها بما يتلاءم كثرة الأعمال الصالحة والخيرات، حتى تصل إلى مائة درجة، دفعًا للتنافس فيها والسباق إلى فعلها. 6- بلغت عظمة الدرجة واتساعها ما بين السماء والأرض، فما بالك إذا تعددت الدرجات إلى مائة، ذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، ولا يظلم ربك أحدًا. 7- وأعظم هذه الجنات وتلك الدرجات هي الفردوس؛ فحث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته أن يسألوا الله عز وجل إياه، ويعملوا من أجله ويتسابقوا إليه فالفضل لمن سبق. 8- الفردوس درجات، من الفردوس أوسط الجنة ومنه أعلى الجنة. 9- حدد موقع الفردوس؛ فبين أن موقعه فوق عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة. 10- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الصيام والقيام كالحج

الصيام والقيام كالحج: أخرج النسائي وأحمد عن النضر بن شيبان قال: قلت لأبي سلمة بن عبد الرحمن: حدثني بشيء سمعته عن أبيك، وسمعه أبوك من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شهر رمضان فقال: نعم حدثني أبي فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". التصوير البلاغي: المستمد من المعاني الحقيقية، التي تواضع عليها علماء اللغة لألفاظ الحديث الشريف وبلاغة أسلوبه، جاء هنا في صور بليغة متنوعة، منها: تصوير صوم رمضان بصيغة الصيام لا الصوم، للدلالة على قيم خلقية كثيرة؛ تشمل جميع فضائل شهر رمضان، بما لا يحتويه لفظ الصوم، فالصوم بمعنى الإمساك عن الكلام، قال تعالى على لسان مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} أي إمساكًا عن الكلام، وقد يشمل الإمساك عن الطعام، بينما صيغة الصيام تدل على أكثر من ذلك بكثير، لأن صيغة الفعال والمفاعلة تدل على المشاركة والمجاهدة، والمثابرة والمقاومة والمغالبة والمنافسة، وغير ذلك مما يتضمن جهاد النفس، وانتصارها على هواها وشهواتها، وعلى الشيطان وإغراءاته، وعلى ذلك فصور الصيام بمدلولاتها اللغوية تحتوي على قيم صيام رمضان الخِلقية والخُلُقية، فأما القيم الخِلْقية كالجهاد والمقاومة والمغالبة بالجسد، تنشطه وتقويه وتجدد طاقاته، ليقوى على الطاعة والعمل، فيخرج الصائم من صيامه صحيح البدن قوي البنية، وفي الحديث الشريف: "صوموا تصحوا"، وفي آخر: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء"، وفي ثالث: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه وإن

كان ولا بد، فثلث لطعامه وثلث لشرابه ولثلث لنفسه"، وأما القيم الخُلُقية التي تحتويها صيغة الصيام، فتشمل الغاية السامية من هذه الفريضة، فمن قيمة المجاهدة والمقاومة والمغالبة والمشاركة والصبر، وقوة الإرادة والعزيمة والأمانة، بل أسمى أنواعها، والمحاسبة والمراقبة والعفة والعزة، وحسن المعاملة والمواساة والتعاون والتكافل، والكرم والاستثمار وكثرة الإنتاج ورواج الاستهلاك والأسواق وغيرها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- متأثرًا بمنهج القرآن في إيثار الصيام عن الصوم مع كل العبادات وفي رمضان، فجاءت هذه الغاية السامية في معظم الأحاديث بلفظ الصيام في القرآن الكريم، وقليل منها بالصوم، ليظل الفرق بين كلام الله المعجز وبين حديث أبلغ البشر على الإطلاق. ومنها صورة التأكيد للفريضة في صيام رمضان بمؤكدات وهي: "إن واسمية الجملة من المبتدأ والخبر، وما تدل عليه من الدوام والثبات، وذكر لفظ الجلالة "الله" وصور التنزيه له في قوله: "تبارك وتعالى" وإيثار لفظ الفرض الذي لا يترك مجالًا لاحتمال أي ركن من أركان الإسلام الخمسة، والتصريح بذكر رمضان أي مقصور عليه لا غيره من الشهور، ودلالة "عليكم" من الإلزام، لكي يتضح الفرق بين "لكم" في السنة و"عليكم" في الفريضة، ومنها الصورة البليغة في التعبير عن لفظ "السنة" المشددة وهي نافلة القيام وسنة التراويح في قوله: "وسننت لكم قيامه"، بفك إدغام لفظ السنة، كما في سننت من التسهيل والترويح والتجاوز، لا الإلزام والفريضة، حتى لا يكون القيام ملزمًا كالصيام، لذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه حين امتنع عن متابعة القيام معهم: "خشيت أن يفرض عليكم". أما التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من الصور الخيالية وغيرها، مما يدعو إلى التأمل وطول النظر، ويثير العاطفة ويوقظ

العقل، ويدعو إلى التفكير والتدبر، جاء في صور متنوعة، منها صورة التشبيه التمثيلي في قوله: "رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، قد شبه الصائم القائم في متابعة فعل الخيرات والحسنات في ثلاثين يومًا، وترك المنكرات وهجر المحرمات والمكروهات، حتى تجردت صفحاته من الأوزار واتسعت للحسنات والأنوار، فعاد الصائم إلى فطرته المستقيمة طاهرًأ بريئًا نقيًا صافيًا شبه ذلك كله بالطفل على فطرته، حين يولد طاهرًا بريئًا، لم تقع منه معصية مطلقًا، بل كان في بطن أمه على الفطرة الربانية المستقيمة بلا جريرة أو ذنب، مثل الحج المبرور فليس له جزاء إلا الجنة، ومنها التجسيم الفني البليغ للذنوب، وهو أمر معنوي لا حسي، حين يقاوم الصائم التخلص منها وهي تلح عليه وتغريه، فينزع جسده وكيانه منها، كما ينزع الجنين من الرحم الذي أحاط به وأطبق على كيانه، فكان الرحم يقاومه ويصر على أن يحيط به ويلازمه، ومنها التوازن الإيقاعي والتناسق الموسيقي الذي يثير العاطفة ويشد العقل، في المقابلات من الصور التعبيرية البليغة، كالطباق في "فَرَضَ وسَنَنْتُ" وبين "الصيام والقيام" وبين "صامه وقامه" وبين "إيمانًا واحتسابًا"، وكالمقابلة بين جملتي "فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه"، والتعادل الموسيقي بين جملتي الشرط "فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا"، وجملة الجواب والجزاء: "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" فتحرك موسيقاه العاطفة ويتفاعل معها العقل، حتى تتمكن فيه القيم الخلقية من النفس، وتستقر في أعماقها منهجًا قويمًا لا تبرح عنها، لتصير سلوكًا ساميًا، وعملًا صالحًا، بالإضافة إلى ما يفيده جواب الشرط من الحكم الفصل، والقرار الذي لا رجعة فيه بفضل الله عز وجل، وهو من صام وقام إيمانًا واحتسابًا استحق على سبيل الجزم واليقين التجرد من الذنوب والأوزار،

كالشأن في المولود بعد ولادته، فهو يولد على الفطرة التي فطره الله عليها، ذلك الدين القيم لا تبديل لخلق الله. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- أن الله تعالى فرض على المسلمين صيام شهر رمضان؛ فهو ركن من أركان الإسلام. 2- أما القيام فهو سنة سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- رحمة بأمته. 3- صيام شهر رمضان وقيامه لا يكفر الذنوب إلا إذا صدر عن مؤمن يحتسب ذلك عند الله عز وجل ابتغاء مرضاته. 4- من صام رمضان وقام ليله إيمانًا واحتسابًا كان ثوابه كالحج، يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. 5- لذلك كان الصيام والقيام في شهر رمضان إنصافًا للفقير وغير المستطيع لأداء فريضة الحج، حتى لا يحرم من ثواب الحج المبرور للمستطيع، ولا يظلم ربك أحدًا. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

اليد العليا

اليد العليا: أخرج البخاري عن حكيم بن خُزَامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله". التصوير البلاغي المستمد من المعاني الحقيقية، التي تواضع عليها علماء اللغة لألفاظ الحديث الشريف كثيرة ومتنوعة، وصوره البلاغية كثيرة ومتنوعة، منها الصورة البلاغية في أسلوب القصر، وبلاغة الحصر بين ركني الجملة، مقصرًا فضائل الخير على اليد المعهودة بالعليا، أي ذات

الطبيعة الخيرة، والموصوفة بأفضل المعالي، من اليد المعهودة بالدنو والتسفل والقبح، كل ذلك على سبيل التوكيد والحصر، حتى صار الخير مقصورًا على اليد العليا، لأنها دائمًا سامية وعفيفة وجادة وعاملة، لأن أفضل الجهاد جهاد النفس، وتكررت هذه الصورة الأدبية، ليؤكد هذه القيم الخلقية والتشريعية السامية، في قوله بأسلوب المفاضلة: "وخير الصدقة عن ظهر غنى"، ومنها: الصورة البليغة بأسلوب الأمر والجزم، ليدل على أنه الأفضل ولا خير في غيره ولا بديل عنه، حتى يتفق مع القيم الخلقية السابقة، وذلك في قوله: "وابدأ بمن تعول"، مع دلالة "من" على جميع من تجب عليه نفقتهم، من نفسه وزوجه وأولاده ووالديه وخادمه، لأن فعل الأمر يدل على الوجوب والفرض واللزوم، زاد النسائي: "أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك"، ويؤكد هذا أيضًا بصورة أدبية أخرى، تدل على الأم، لكنها بصيغة المضارعة المقرونة بالسين والتاء، التي تدل على الطلب في قوله: "يستعفف" أي يطلب العفة، وقوله: "يستغن" أي يطلب الغنى، ومنها الصورة الأدبية، التي تدل على العموم والشمول في التعبير، بـ "من" فطلب العفة والغنى واجب على الجميع لا فرق بين الكبير والصغير، والذكر والأنثى والقوي والضعيف، فقد قصر الله عز وجل العزة على ذاته العلية، وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} ، ثم ما أعظم التنكير في "غنى" فهو يدل على التعظيم والتكثير. التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني، المستمد من الصور الخيالية التي تثير النفس والعاطفة، ويعمر بها القلب والوجدان، ويتزود منها العقل والمعرفة، ومنها: الصورة الأدبية التي تستمد روافدها من كنايتين بليغتين، الأولى صورة اليد العليا، فهي كناية عن المنفق والمتصدق، وكثرة

البذل والعطاء، والترفع والعفة والكسب والعمل، والغنى والثراء والثانية صورة "اليد السفلى"، فهي كناية عن الشحاذة والسؤال، والسائل والمحتاج، والفقر والضعف والكسل والعجز وعدم الترفع، وغير ذلك مما لا يليق بالمؤمن القوي العفيف، ذي الهمة العالية في العبادة والعمل، ومنها: الصورة البليغة القائمة على الاستعارة في قوله: "عن ظهر غنى"، فقد شبه الغنى والثراء بالظهر، الذي يحمي الأحشاء والبطن في البدن من الضرر، بجامع الحماية والوقاية من الفقر والضعف، ومهانة ذل السؤال، فالغني يستظهر بغناه على النوائب والملمات، فيعينه على الإنفاق والصدقة، وقضاء فاقة المحتاج والفقير ومساعدة المساكين، ومنها: الصورة البليغة النابعة من مصادر الموسيقى في قوله: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله"، لما يفيده التوازن المتناسق بين جملتي الشرط والجزاء، كما يفيد المزاوجة بين الجملتين، للدلالة عن العفة وعن الغنى، وفي جملة الشرط والجزاء حتمية القرار، والقول الفصل الذي لا رجعة فيه، فمن طلب الغنى أغناه الله، ومن طلب العفه أعفه الله تعالى، إنما الأعمال بالنيات، كما في الحديث الشريف، قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} ، وفي الحديث الشريف إيجاز؛ فقد دل على معان كثيرة، وقيم خلقية وتشريعية متنوعة، من خلال ألفاظ محدودة، وتعبيرات قليلة دون المعاني والقيم المختلفة، وهذا هو ما اختص به النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين الخلق جميعًا بجوامع الكلم، فصار أبلغ العرب قاطبة كما قال: "بيد أني من قريش". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- الشأن في المسلم أن يكون قويًا عزيزًا ذا همة عالية؛ فلا يقبل منه الإسلام أن يكون ضعيفًا ذليلا حقيرًا، لا يمد يده لذل السؤال، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

2- أن خير النفقة والصدقة ما ينفقه المسلم على من يعوله، وعلى من تلزمه نفقتهم، أو يتصدق على ذوي الرحم والأقارب. 3- خير الصدقة ما كانت زائدة عن حاجته، وحاجة من يعوله، ومن تلزمه نفقتهم من زوجه وأولاده وخادمه ووالديه. 4- يحث الإسلام المسلم على أن يكون عفيف النفس، عالي اليد، طاهر القلب، عزيز الجانب، قويًا في عقله وفكره وبدنه. 5- يحث الإسلام المسلم على العمل والكسب والإنتاج، ليزداد غنى؛ فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ويسد حاجة المسلمين؛ فلا يحتاجون إلى أعدائهم من منتجات وسلع. 6- إن الله سبحانه وتعالى يعطي المسلم حسب نيته ومقاصده، فمن أراد العفة أعفه الله، ومن أراد الغنى أعانه على ذلك: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ... ". 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الحج وفطرة الله تعالى

الحج وفطرة الله تعالى: أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عمن أدى فريضة الحج في قوله -صلى الله عليه وسلم: "من حج" في تصوير فني يقوم على النسق الإيقاعي الجميل بين جملتي الشرط والجزاء، والانسجام الموسيقي في التوازن بينهما في: "من حج رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" مما يحرك المشاعر ويوقظ الوجدان؛ فيتلقى القلب والعقل والقيم الخلقية والتشريعية في شوق وحب، وتجاوب فاعل في

التصديق والعمل به منهجًا وسلوكًا، وجاءت الصور الفنية للحج مقيدة بعدم الرفث والفسوق، ليضفي على التصوير البلاغي قيمًا فنية وخلقية تعود إلى دلالات الألفاظ التصويرية؛ فتشمل "من" كل مسلم رجلًا أو امرأة، كهلًا أو شيخًا، أو شابًا، فلا بد أن يتصف الجميع بالعقل، على العكس من "ما"، التي تشمل العقلاء وغيرهم، والمميز وغير المميز، والمكلف وغير المكلف، وآثر التعبير بقوله: "حج" دون "أدى" لأن الأداء قد يكون قاصرًا، أو رياء وسمعة أو يطلق على بعض المناسك دون غيرها، كل ذلك يعد أداء، لكن المصطلح الشرعي للفظ "الحج" يشمل مشاعره تامة كاملة في إيمان صادق وإخلاص في الأداء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، لذلك جاء العنصر الثالث وهو أن يكون لله عز وجل لا للشهرة أو الرياء، ولا طمعًا في متاع الحياة الدنيا، ولا لمجرد إسقاط الفريضة عنه فقط، بل يكون أداء الحج طاعة لله سبحانه، وإيمانًا به وبرسوله، وخوفًا من عذابه وطمعًا في رحمته وجنته، وتكفيرًا لسيئاته وأوزاره، وتصديقًا لشريعته، التي جاءت لتحقيق السعادة للبشرية جمعاء، وفي الحديث الشريف: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ... إلخ ". وبلاغة التصوير الأدبي في قوله: "فلم يرفث ولم يفسق" يقوم على عناصر جمالية في التعبير، لأن مشاعر الحج طاعة وعبادة وتقديسًا لله عز وجل، لا يتفق مع المدلول اللغوي للرفث والفسوق؛ فالرفث معناه الفحش والجماع، وهو يتعارض مع قداسة مشاعر الحج، ولا يتناسب مع الجانب الروحي فيها؛ فهو يتنافى مع الشهوات والملذات المادية، فلها مجال آخر غير الحج، وفي الحديث الشريف: "إن لربك عليك حقًا وإن لنفسك عليك حقًا وإن لأهلك عليك حقًا فأعط كل ذي حق حقه" وكذلك الفسوق، وهو بمعنى الخروج عن طاعة الله تعالى، والتمرد على مشاعر

الحج المقدسة الطاهرة، بارتكاب المعاصي والموبقات المهلكات، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ، وما أروع الإيقاع الموسيقي، والنسق الرتيب بين المقطعين المتلائمين وهما "لم يرفث" و "لم يفسق" مما يهز العاطفة، ويثير المشاعر، ويعمر الوجدان بالإيمان الصادق ابتغاء مرضاة الله عز وجل. التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن التطهر من الذنوب والأوزار من النجس والرجس عن البدن، ومن الشيطان والهوى عن العاطفة والعقل، وذلك في صورة فنية تقوم بلاغتها على عناصر تصويرية جميلة، فعبر الحديث الشريف بالفعل "رجع" بمعنى عاد إلى الفطرة الطاهرة المستقيمة التي تقوم على الطاعة لله عز وجل، والصفاء الروحي وطهارته في إيمان صادق واستقامة، وتأكدت هذه الفطرة في تصوير حالة الإنسان يوم مولده حين خرج من بطن أمه إلى الحياة على الفطرة المستقيمة؛ والطهارة والنقاء من كل أوزار الحياة، فهي موصولة ببارئها وخالقها، لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وهي موصولة بوالديه بالإحسان إليهما، والبر بهما، ومقرونًا بعطاء الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وتلاءمت هذه العناصر الجمالية في لوحة فنية، تقوم أبعادها على التشبيه البليغ، الذي يتلاءم طرفاه مع الفطرة السليمة والطهارة الربانية، والصفاء الروحي وسلامة الجسد، وبراءته من هوى النفس ودنس المردة من الإنس والجن، من خلال تشبيه حالة الإنسان في حجه المبرور وهو كبير بحالته يوم ولدته أمه على الفطرة طاهرًا نقيًا، وفي الحديث الشريف: "تابعوا بين

الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بالإضافة إلى ما ذكر في بلاغة الحديث الشريف وتصويره النبوي من قيم خلقية وتشريعية فيشمل كذلك ما يأتي: 2- فريضة الحج ركن من أركان الإسلام. 3- النهي عن الرفث والفسوق في الحج. 4- الحج المبرور يكفر السيئات ويطهر النفس من الذنوب. 5- الحج يعيد النفس إلى الفطرة المستقيمة كالطفل ساعة ولادته.

العمرة إلى العمرة والحج المبرور

العمرة إلى العمرة والحج المبرور: أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". بلاغة التصوير الفني في التعبير الشريف عن تكفير العمرة لما قبلها من السيئات، وذلك في صورة متنوعة، فجاءت العمرة معرفة "بأل"، لتفيد التعريف، والعهد، والاستغراق، فالتعريف بمعنى العمرة المعروفة في تعاليم شريعة الإسلام سنة مؤكدة عند الأحناف والمالكية لحديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: "لا وأن تعتمروا أفضل" وفريضة عند الشافعية وأحمد بن حنبل لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لأنها معطوفة على الحج وهو فرض، والأرجح أنها سنة مؤكدة، والعهد بمعنى العمرة المعهودة بأركانها من الإحرام مع النية والطواف حول الكعبة سبعًا، والسعي بين الصفا والمروة سبعًا،

والحلق أو التقصير، والمعروفة بسننها المختلفة كالاغتسال قبل الإحرام ودعاء الطواف والملتزم وتقبيل الحجر الأسود، وركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم، والشرب من ماء زمزم وغيرها، وتفيد الاستغراق بمعنى استغراق جميع الأركان والمشاعر والمناسك والواجبات والسنن، حتى تكون كاملة تامة، وكذلك جاءت "إلى" بمعنى "مع" أي العمرة مع العمرة كفارة لما بينهما، وفي هذه الصورة الفنية التي تكررت فيها العمرة، تحث على متابعة العمرة من حين لآخر، للحرص على تكفير السيئات تباعًا، كما أنها تفيد القصر والتأكيد، أي قصر التكفير على التتابع بين العمرات وتأكيده، لتعظيم الثواب الجزيل والأجر العظيم، فقد قصر الحديث الشريف تكفير السيئات على أداء العمرة بعد العمرة، أو قصر التكفير على السيئات التي كانت قبل أداء العمرة وإن طالت المدة قبلها، وكذلك تجد الصورة الأدبية في صيغة المبالغة في "كفارة" بالتشديد، تدل على محو جميع السيئات الصغائر والكبائر غير حقوق العباد في أرجح الأقوال عند العلماء، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فلا تبقي منها بقية، فالإبهام في دلالة "ما" اللغوية، تدل على هذا العموم والشمول لكل السيئات صغيرة كانت أم كبيرة، أما حقوق العباد ومظالمهم لا بد من ردها إلى أصحابها، أخرج ابن ماجة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جزاء الحج جهاد والعمرة تطوع". روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الحج المبرور في قوله: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" في صور أدبية بليغة متنوعة، فالصورة الفنية في مفهوم "الحج" "بأل" التي تفيد التعريف والعهد والاستغراق، أي الحج المعروف في تعاليم الشريعة الإسلامية ركنًا من الأركان الخمسة، التي بني عليها الإسلام؛ فلا يتحقق الإسلام إلا بالتصديق بها، ولا تسقط عن المستطيع إلا بعد أدائها بنفسه أو ورثته من

بعده من تركته أو من غير، وكذلك الحج المعهود بأركانه، وهي النية والإحرام من الميقات والطواف والسعي والوقوف بعرفة والحلق والتقصير، وبواجباته من المبيت بمزدلفة والمشعر الحرام ورمي الجمرات والمبيت بمنى، وطواف الوداع، والحج المعهود بسننه الكثيرة، وباجتناب محرماته وممنوعاته، والمعهود بنسكه من الهدي والأضحية وغيرها، ويفيد التعريف الاستغراق والشمول، فلا يكون تامًا إلا باستغراقه لجميع الأركان والواجبات والسنن والبعد عن المحرمات والممنوعات، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . والصورة الأدبية الثانية جاءت بلاغتها في اسمية الجملة، التي تقصر الخبر على المبتدأ الموصوف بصفة المبرور، فلا يتجاوزه إلى المتصف بالرياء والتظاهر والمخالط للرفث والفسوق والجدال والمعاصي، أما الصورة البليغة الثالثة في قوله: "ليس له جزاء إلا الجنة" فقد جاءت على سبيل القصر أيضًا والتأكيد بالنفي والاستثناء بمعنى أن الجنة مقصورة على جزاء الحج المبرور، لا يتجاوزه إلى المأزور غير المأجور تأكيدًا وتعظيمًا لثوابه الجزيل، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بالإضافة إلى ما ذكره في التصوير النبوي للحديث الشريف للقيم الخلقية والتشريعية نذكر ما يلي: 2- الحث على أداء العمرة وتكرارها كلما أمكن ذلك. 3- متابعة العمرات تكفر ما بينهما من السيئات والأوزار. 4- الحث على أداء فريضة الحج. 5- الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.

الحج مرة واحدة

الحج مرة واحدة: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أَكُل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها: ثلاثًا، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم، لو جبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن فريضة الحج بالعناصر البلاغية التي لا تدع مجالًا للإنكار أو التردد؛ ليكون الحكم قاطعًا والأمر حاسمًا، وذلك في قوله: "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا"؛ فأكد الفرضية "بإن" المشددة المؤكدة، وبذكر لفظ الجلالة على سبيل القصر والتأكيد، مقدمًا الجار والمجرور: "عليكم" على المفعول به: "الحج"، بمعنى قصر كتابة الحج وفرضيته على عباده على سبيل الوجوب، وأكد الفرضية بلفظ الفعل الماضي، على سبيل الجزم واليقين والتحقيق، متأثرًا ببلاغة القرآن الكريم في تصوير فريضة الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وكذلك وجوب الكتابة في آية الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} ثم أكد الفرضية بصورتين بليغتين، الأولى: جاءت في حرف "الفاء" التي تدل على الترتيب والتعقيب، فهي لا تعطي فرصة للتأخير أو التردد، بل سرعة التنفيذ على سبيل الإنجاز والسرعة، والثانية في التعبير بفعل الأمر "حجوا" الذي يدل على الإلزام والقطع بلا تردد أو مراجعة.

التصوير الفني في بلاغة التعبير في الرد على سؤال الرجل حين قال: أكل عام يا رسول الله؟ فكانت الإجابة دقيقة وعميقة، لا تتعارض مع أمر الله عز وجل بوجوب فريضة الحج مرة واحدة في العمر، كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وذلك في صور فنية متنوعة، فالصورة الأولى ليست تعبيرًا ولا كلامًا بل سكونًا وصمتًا، على الرغم من إعادة السؤال ثلاث مرات، فقد أجمع علماء البلاغة على أن الصمت قد يكون أبلغ من الكلام حسب المقام، والصمت هنا يدل على إنكار السؤال وعدم الرضا عنه، والصورة الثانية في بلاغة التعبير في قوله: "لو قلت: نعم"، التي تدل على تعليق الامتناع على ممنوع، وللإشارة إلى أن "لو" تفتح باب الشيطان؛ فيجب علينا أن نغلق منافذه بعدم استعمالها، والصورة الثالثة في قوله: "لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم"؛ فأصحبت الفريضة متكررة، مما لا يطيقه المكلف كل عام كما في الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما: "يا أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن جابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" رواه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم، ويدل منطوقها على صورة أخرى يوحي بها المفهوم بمعنى "لو قلت: لا" لأدى ذلك إلى حرمان المستطيع من ثواب التطوع بالحج، فقد حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على متابعة الحج والعمرة كما في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة". روعة التصوير الأدبي في بلاغة النهي عن كثرة السؤال والتشدد والتنطع كما في الحديث الشريف: "إن الدين يسر، فلن يشاد الدين أحد

إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" وفي آخر: "هلك المتنطعون"، وذلك في صور بليغة؛ فبلاغة الصورة الأولى في إيجازها وعمق معانيها وسمو قيمها في قوله: "ذروي ما تركتم"، تحث الناس على عدم إثارة الأسئلة والتنطع فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، وعليهم أن يذروه مع ربه ما دام الوحي لم ينزل بشيء، حتى لا ينزل بأمر لا يطيقونه. والصورة البليغة الثانية تصور أسباب التشدد في الديانات للرسل السابقين، مثل تشدد اليهود مع موسى عليه السلام في ذبح البقرة، حتى عزت عليهم فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" والصورة الثالثة تعبر عن تعليم الصحابة -رضي الله عنهم- الأسلوب الأمثل في تعلم الشريعة في قوله: "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"؛ فعبر بإذا مرتين عن ذلك، لإفادة الجزم واليقين، وعن طريق الأمر والنهي من قبل الله عز وجل ورسوله، لا عن طريق كثرة السؤال والاختلاف، بل عن طريق أداء هذه الأوامر على قدر استطاعتهم، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعن طريق النهي عنها، فيتركونه بلا مناقشة أو تأويل أو جدال، فربما يؤدي ذلك إلى نزول وحي قد يضعف التكليف فوق طاقتهم. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في هذا الحديث الشريف نذكر ما يلي: 2- كتب الله عز وجل على المسلمين فريضة الحج ركنًا من أركان الإسلام مرة واحدة في العمر. 3- كراهية الرسول -صلى الله عليه وسلم- للسؤال عن أمر لم يذكره، بل يجب عدم إثارة الأسئلة بلا داع، ويلتزم بما أمر الله تعالى ورسوله. 4- كراهة كثرة السؤال فيما لم يذكر قبل ذلك. 5- رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته والتخفيف عليهم والتيسير لهم. 6- اتباع ما أمر به علي قدر الطاقة واجتناب ما نهى عنه على سبيل الجزم.

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة: أخرج ابن حبان وابن خزيمة والبزاز ويعلى عن جابر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة" فقال رجل: هن أفضل من عدتهن جهادًا في سبيل الله؟ قال: "هن أفضل من عدتهن جهادًا في سبيل الله، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم ير أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة". بلاغة التعبير بالأفضلية في الحديث الشريف في قوله -صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة"، بما فيها يوم عرفة، فهي عند الله من الجهاد في سبيل الله لأنها من أفضل أيام السنة، وبلغ التصوير الفني قمته حين اقتصرت على المفاضلة بين أيام السنة لا بين شهورها، لأن رمضان أفضل شهورها على الإطلاق، ثم ما أروع التقييد بالتنصيص على لفظ الجلالة "عند الله" الكريم ذي الفضل العظيم، والله لا يخلف الميعاد، ثم تأكدت الأفضلية بتفضيل يوم عرفة على بقية العشر، في صور بلاغية أخرى في قوله: "وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة" لأن من فاته

الوقوف بعرفة في اليوم التاسع وليلة العاشر؛ فقد فاته الحج، للأحاديث الشريفة: "الحج عرفة"، "من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك" ووضح الحديث الشريف أسباب الأفضلية: "ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاءوني شعثًا غبرًا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة". بلاغة التصوير الفني في التعبير عن مباهاة الله بالحجيج في يوم عرفة بصورة فنية بلغت القمة في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف، فعبر عن قرب الله عز وجل، وسرعة استجابته لهم، وقبول مناسك الحج ومشاعره، مع أنه موجود في كل الوجود، بنزوله إلى السماء الدنيا؛ فيباهي بهم الملائكة وغيرهم من العوالم الأخرى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} معجبًا بعباده وهو يقول: "انظروا إلى عبادي" بإضافة عبوديتهم إليه، وهو أعظم تشريف للحجيج فقد رضي عنهم، وكذلك بلاغة التصوير الفني بالكناية عن اشتغالهم بمشاعر الحج صادقين في إتقان مناسكهم مخلصين، غير مهتمين بمظاهر الحياة والتفاخر بمتاع الحياة الدنيا، حتى طالت شعورهم وأظافرهم، واغبرت بالتراب والعرق أبدانهم وملابس إحرامهم، فلا يؤبه لهم وقد ضحوا في ذلك بأوطانهم وأهليهم وأصدقائهم، ومضحين بدماء النسك، وذبائح الهدي والأضحية كما في الحديث الشريف: "جاءوني شعثًا غبرًا ضاحين"، وكذلك بلاغة التصوير لقدوم الحجيج من كل حدب وصوب على سبيل الكناية المعجزة، التي اقتبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- من التصوير القرآني المعجز في سورة الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ، وليس من كل فج بعيد، لأن العمق يدل على كروية الأرض حيث تكون

الكعبة في وسط الأرض وأعلاها وهي القمة، وما حولها من جميع الجهات دونها ومنخفض عنها في عمق رأسي، لا بعد أفقي، ويظهر انسجام بلاغته مع بلاغة القرآن، واتساقه مع فطرته التي فطره الله عليها، فحينما تعجب الصحابة من بلاغته فرد عليهم قائلًا: "وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن شدة عقاب الله عز وجل وشدة عذابه، مع تقديم رحمته التي وسعت كل شيء، في قوله -صلى الله عليه وسلم: "يرجون رحمتي ولم يروا عذابي"، فقدم الرحمة على العذاب، مما جعل الحجيج يستحقون المغفرة والرضوان من الله عز وجل، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات وقد كادت الشمس أن تثوب، فقال: "يا بلال أنصت لي الناس"، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس فقال: "يا معشر الناس أتاني جبريل عليه السلام آنفًا، فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر الحرام، وضمن عنهم التبعات"، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: يا رسول الله، هذه لنا خاصة؟ قال: "هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة"، فقال عمر -رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب. وعبر مع الرحمة بالرجاء، وهو حاصل ومتوقع من الرحمن الرحيم وسعت رحمته كل شيء، وعبر مع العذاب بعدم الرؤية "ولم يروا عذابي" للدلالة على رفع العذاب عن الحجيج، وأن الله لا يرضى لعباده الكفر ولا العذاب، فهو منفي عنهم "بلم" الجازمة، وأن المغفرة والرحمة وجبت لهم كما ورد في الأحاديث الشريفة: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، "ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة".

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم الخلقية والتشريعية في هذا الحديث الشريف نذكر ما يلي: 2- فضل العشر الأوائل من أيام ذي الحجة على أيام السنة، لا على الشهور إلا يوم عرفة فهو أفضلها جميعًا وعلى مثلها في الجهاد. 3- يكثر عتق الرقاب من النار في يوم عرفة، ويباهي الله تعالى ملائكته في السماء بذلك، وكذلك أهل الأرض. 4- الترغيب في الإقبال على الأعمال الصالحات والخيرات صيامًا وقيامًا وطاعة وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وصدقة وغيرها في هذه العشر.

قضاء الحج

قضاء الحج: أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا لله؛ فالله أحق بالوفاء". بلاغة التصوير الأدبي في الإجابة عن السؤال، التي اتسمت بلاغته بالإيجاز، والذي قل لفظه، وبلغ الغاية في معناه، بحيث لا يبقى منه بقية، فكانت الإجابة في صورتين بليغتين الأولى في قوله: "نعم"، تدل على وجوب الفريضة بالإيجاز الحاسم على نحو يراد منها، فقد وجب الحج على أمك التي نذرت على نفسها الحج بنذرها، والصورة البلاغية الثانية جاءت أيضًا في صورة الإيجاز الحاسم على سبيل الأمر للمرأة السائلة؛ بأن تحج عن أمها، بحيث إذا لم تفعل تعد آثمة، ما دامت قد تحققت شروط

الاستطاعة المشروعة، وذلك في الأمر الذي يدل على الوجوب "حجي عنها"، أي: حجي أنت عن أمك، ولقد أضفى الحوار القصصي بين الراوي وامرأة من جهينة التي وجهت السؤال وتلقت الإجابة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- الشخصية الرئيسية في الحوار، أضفى ذلك على التصوير الأدبي الحيوية والحركة والجدة والتشويق مما يؤدي إلى مشاركة المتلقي الإيجابية في هذا الحوار القوي المثير. روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن صورة محسة من الواقع في قوله: "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته"؟ تستنطق السائلة وتقتنع بها؛ لأن الدين لا بد من أدائه في الواقع على سبيل الوجوب، دون تقصير في أدائه كاملًا غير منقوص، وعند حلول الأجل بلا تسويف أو تأخير، وذلك من خلال صورتين؛ الأولى: تقوم على الاستفهام بالألف مرتين "أرأيت -أكنت" فهو يفيد غايتين: الاستفهام الإنكاري على السائلة، فكيف تنكر ذلك وهو أمر واضح مألوف لا يخفى على أحد في معاملة الناس، ولا يختلف مع الواقع المتعارف عليه، والغاية الثانية في الاستفهام التقريري، لأن قضاء الدين أمر مقرر وحقيقي، قررته العقول والفطرة المستقيمة، وقضت به الأحكام في المرافعات والقضايا، والصورة البليغة الثانية في التعبير بحرف "لو"، الذي يدل على عدم تحقيق الجواب لعدم تحقق الوقوع بمعنى النفي، لكن بلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- استخدمتها على النقيض من معناها المتعارف عليها، وخاصة وهي تفتح باب الشيطان؛ فصارت "لو" تدل على الإيجاب وتحقق الوقوع، لتسلط الاستفهام الإنكاري عليها، لأن نفي النفي إثبات، فكان المراد نفي إنكار قضاء الدين، لأن الدين يجب قضاؤه، قال تعالى في أداء الدين قبل توزيع التركة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .

التصوير الأدبي في بلاغة التعبير بأحقية الله تعالى بوجوب القضاء له؛ لأن الله تعالى هو الخالق المبدع، والرازق المعطي، إليه يرجع كل شيء وله كل شيء، وذلك في قوله: "اقضوا الله فالله أحق بالقضاء"؛ فجاء القضاء بصيغة الأمر الجازم على سبيل الوجوب والإلزم مخاطبًا جميع المسلمين بواو الجماعة، لا المرأة السائلة فحسب، ليكون تشريعًا عامًا لا خاصًا بها، فقد روى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: "أحججت عن نفسك"؟ قال: لا، قال: "فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" هذه هي الصورة الأولى. وأما الصورة الثانية جاءت بالتصريح بذكر لفظ الجلالة "الله" عز وجل لإفادة أمرين جليلين؛ أولهما: المهابة من الله عز وجل والخشية من ذاته العلية، والتقديس لجلالته بالألوهية والربوبية فيعبده حق عبادته، ويلبي أوامره طاعة وخشوعًا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} ، وثانيهما: الخوف من عقابه، وتوقي عذابه، فالله شديد العقاب، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} لمن نذر أن يحج ومات لم يحج، أما أداء فريضة الحج، التي وجبت على المستطيع في حياته؛ فالأداء أولى، وتجب على الورثة في تركته، وإن لم يوص، لأنها دين الله عز وجل، أخرج الجماعة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن امرة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم".

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بالإضافة إلى ما سبق من القيم في التصوير النبوي الشريف، نذكر ما يلي: 2- وجوب أداء النذر ولو بعد الموت؛ فهو على الوريث. 3- يصح أداء الحج عن الميت، الذي لم يؤد الفريضة؛ فتسقط عنه، وينال ثوابها الجزيل، فهو حج مبرور. 4- قضاء الدين واجب الأداء، ولا يرفع عنه عذابه إلا بعفو الدائن عن المدين. 5- دين الله عز وجل في العبادات وغيرها أحق بالأداء لأنه الخالق المبدع المتفضل. 6- إن الإسلام كرم المرأة، ورفع مكانتها، وأعلى من شأنها، بما لا يقل عن شأن الرجل.

من خطبة الوداع

من خطبة الوداع: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب بين الحجيج في حجة الوداع؛ فبعد أن حمد الله وأثنى عليه وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أما بعد فيا أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد". بلاغة الخطبة من بلاغة القرآن الكريم، فقد صدرت عن أفصح العربية قاطبة، انتهت إليه قمة البلاغة بنزوله عليه، وقراءته على مكث، وهو المثل الأعلى في البلاغة، معجز في تصويره القرآني، وفي تشريعه وأخباره وقصصه، خصه ربه بالوحي، يستعجل قراءته لشغفه بسحره.

وانسجامه مع بلاغته، واتساقه مع فطرته، فينهاه ربه عن العجلة، لأن القرآن الكريم موصول بقلبه إيمانًا وحفظًا، قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . لهذا لا ينفك أسلوب صفي الله وخليله في هذه الخطبة عن روح القرآن الكريم، وبلاغته في لفظ عذب رقيق جزل، واتساق نظم في أحسن موقع، وسلاسة فحوى وسهولة مخرج، في أسلوب صاف سهل ممتع، يحفل بالحكم البديعة والمعاني الغزيرة، التي لا تصدر إلا عن نفس شريفة عزيزة، حازت شرف القرآن، وعزت بخطاب الله عز وجل؛ لذلك تعجب منه أصحابه قائلين: ما وجدنا أفصح منك، قال: "وما يمنعني وإنما أنزل القرآن عليَّ بلسان عربي مبين، وأنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد". لذلك تجد في هذه الخطبة منهج القرآن الكريم، وروحه وقيمه الخلقية، فمعانيه شريفة وأخلاقه سامية في أسلوب عفيف بليغ، وعبارات رشيقة سامية، وتصوير أدبي أخاذ بالقلوب، تتفتح له منافذ التلقي في الإنسان انبهارًا وخضوعًا واقتناعًا؛ لأنه أوتي جوامع الكلم. بلاغة الأسلوب في التعبير الإنشائي عن القيم الخلقية في هذه الفقرة، فقد خاطب بالأسلوب الإنشائي المتنوع المتلقي خطابًا مباشرًا، يثير انتباهه ويحرك عواطفه ويستثيره، فيتلقاه عن إيمان صادق وعاطفة حارة، ووجدان حي متيقظ، وعقل مفتوح مستوعب، فقد جمع بين النداء المقرون بأداة التنبيه فقال: "يا أيها الناس" مرات، مرة في صدر الفقرة، ومرة أخرى في وسطها "بالياء" لتأكيد الصورة البلاغية، وفي نهايتها

كان النداء بالهمزة مقرونًا بلا "ألا هل بلغت"؛ ليجمع بين النداء والحث على العمل بما يقول، ثم ختمها بالنداء الجليل بمخاطبة الله عز وجل على سبيل الدعاء، والإقرار بما يجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو أمته الإسلامية، فختمها بقوله: "اللهم اشهد"، ومن أساليب الإنشاء أيضًا الأمر في قوله: "اسمعوا"؛ ليثير به المستمع، فتتفتح فيه منافذ الإدراك من العاطفة والوجدان والمشاعر والخواطر، وخاطبهم بصيغة الأمر، للدلالة على وجوب السمع والعمل بما يسمعون، ليتحول الأمر إلى منهج وسلوك، فلا تسفك الدماء ولا تنتهك الأعراض، ولا يعتدى على الحقوق بالباطل ظلمًا وغصبًا؛ ليسود الحق والعدل والخير والأمن والحب، ثم ينتقل إلى الترجي في قوله: "لعلي لا ألقاكم"، في أسلوب لا يدل على طمع في استبقاء حياته وحرص عليها؛ فهو يحتمل اللقاء وعدمه؛ لأنه ربط الرجاء بعدم اللقاء، فعبرت الصورة الفنية عن رؤية الغيب بنور البصيرة، حتى شعر الصحابة رضي الله عنهم أيضًا برحيله؛ فبكوا وأطلقوا عليها: "خطبة الوداع". بلاغة الأسلوب في التعبير الخبري عن القيم الخلقية على سبيل التقرير والثبات، فاستخدم الحديث الشريف عناصره، التي تقرر الحفاظ على الدين والنفس والعرض والمال على سبيل الوجوب والثبات، والتنفيذ والسلوك الإسلامي القويم؛ فجاء بموكدات كثيرة "إن -أبين لكم- فإني لا أدري"، ثم التأكيد بالواقع المحس دليلًا دامغًا، لا يقبل الجدل، في "يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، مع التأكيد على التعظيم في اسم الإشارة، التي تكرر تأكيدًا لتعظيم التقرير لهذه التشريعات المحرمة، مثل حرمة هذا اليوم والشهر والبلد الحرام في صورة فنية تقوم على التشريع البليغ، مستمدًا عناصره من الواقع المحس، والمشاهد الحية النافذة إمتاعًا

وتأثيرًا وإقناعًا، فهذا يوم عظيم الحرمة، وشهر عظيم الحرمة، وبلد عظيم الحرمة، وازداد تعظيمًا وتحريمًا وتقديسًا بإضافتها إلى المخاطبين، وهو يخاطبهم ويحرك مشاعرهم في "يومكم وشهركم وبلدكم"؛ ليحث المسلمين على تقديسها والحفاظ عليها، وأداء مناسكها والعمل بها والدفاع عنها، لأنه دفاع وحماية للعقيدة والنفس والحقوق وأوطان الأمة الإسلامية -صلى الله عليه وسلم. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي الشريف نذكر ما يلي: 2- مشروعية خطبة يوم عرفة للحجيج للوعظ والتذكير والتوجيه، وذكر المناسك والشكر لله عز وجل على مننه الكثيرة، وأعظمها في ذلك اليوم مشهد يوم عرفة. 3- تهيئة نفوس المسلمين إلى تمام شريعة الإسلام، ونهاية الوحي، والتحاقه بالرفيق، حتى لا تأخذهم المفاجأة بتركهم. 4- فظاعة سفك دماء المسلمين، والعدوان عليهم وظلمهم، وأكل أموالهم بالباطل. 5- حرمة يوم عرفة، وأشهر الحج، والبلد الحرام مكة المكرمة، وعظيم علو منزلتها عند الله عز وجل والثواب الجزيل للعبادة فيها. 6- إشهاد الناس جميعًا والمشاعر والمناسك ويوم عرفة ومواقيت الحج والبلد الحرام على تبليغهم شريعة الإسلام.

أربع أعجبنني

أربع أعجبنني: أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وقد غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثنتى عشرة غزوة قال: أربع سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعجبنني وآنفنني: "ألا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم يومين، الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين، بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد الأقصى". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير بأسلوب القصر والتأكيد، للدلالة على عظيم الحظر لها، ولا يصح التجاوز إلى غيرها مطلقًا، وذلك في صورتين بليغتين، الأولى في قوله: "ألا تسافر امرأة مسيرة شهر ليس معها زوجها أو ذو محرم"، فقد اتخذ الحديث الشريف أسلوب القصر والحصر، لا يتجاوز إلى غيره، حين قصر على الزوج وذي المحارم فقط المرافقة للزوجة في سفرها، فلا يتجاوزه إلى الأجانب الذين تحل لهم زواجها، لما في ذلك من خطر شديد على المرأة المسافرة سفرًا بعيدًا يستغرق يومين، حتى لا يخدش شرفها ولا يهدر دمها، لضعفها وقلة حيلتها، لأنها موطن الفتنة والطمع، فكان الإسلام حريصًا عليها في الحفاظ على نفسها وعرضها ومالها، وكذلك أسلوب القصر في السفر إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فقد اقتصر إنشاء السفر والرحلة عليها فقط، فلا يصح تخصيص السفر لغيرها، للدلالة على عظيم حرمتها وسمو منزلتها عند الله، وعظيم الأجر والثواب، فجاء أسلوب القصر والتأكيد في قوله: "ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجدي ومسجد الأقصى". التصوير الأدبي في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف، الذي يعتمد على عناصر بلاغته الجميلة، منها تسليط النفي على النكرة وهي صيام، مضافة ليومي الفطر والأضحى، وتخصيصًا للدلالة على تحريم الصوم في عيدي الفطر والأضحى، فقد هيأهما الله تعالى يتمتعون فيهما، وهم

فرحين مبتهجين بالأكل والشرب والمرح، بعد صيام شهر كامل في عيد الفطر، ويتمتعون أيضًا بعد فريضة الحج المقدسة بالأطعمة الفاخرة والنسك من الأضاحي في عيد الأضحى، وكذلك التعبير بتسليط النفي على النكرة المقيدة بصلاة الصبح والعصر فقط، حتى الشروق والغروب؛ فلا توجد هنا صلاة مشروعة، فكان المراد صلاة النافلة والتطوع التي ينشئها المتطوع من عنده، وذلك لمخالفة الكفار الذين يسجدون للشمس وقت الشروق والغروب صباحًا ومساءً، لإخلاص العبادة والتقديس لله وحده لا شريك له. التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن المساجد الثلاثة، التي تشد إليها الرحال سفرًا وتعظيمًا لها، ولا يصح ذلك لغيرها، سواء أكانت مساجد أو غيرها على وجه التقديس والعبادة، كما جاء في الحديث الشريف: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى"؛ فقد جاء التفصيل بعد الإجمال في ثلاثة، وأخذ يفصلها بذكر أسمائها وبترتيبها على قدر مكانتها عند الله تعالى وعند المسلمين، وعلى فظاعة حرمتها، وسمو منزلتها، وعظيم ثواب الطاعة والعمل والعبادة فيها، فالصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة كما في الحديث الشريف: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة كما في الحديث الشريف "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في هذا"، أي: المسجد النبوي، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة كما في الحديث الشريف: "والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة"، وتأمل بلاغة إضافة المسجد إلى الحرام، فهي تعظيم لحرمته وتقديس لمكانته: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} ، ثم بلاغة إضافة مسجد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في "مسجدي"، وجاءت إضافة

المسجد إلى الأقصى متأخرة، لأن في تشريفه وتعظيمه بعد هذين المسجدين العظيمين منزلة وتعظيمًا، وفي هذا تصريح واضح بالحفاظ على هذه المساجد المحرمة على أهل الضلال والكفر، فيجب الحفاظ عليهما والدفاع عنها والجهاد في سبيلها، وتطهير المسجد الأقصى من رجس اليهود وغدرهم وتحريره من قتلة الأنبياء وغلاظ القلوب والأكباد، فهم لا يرعون في الله إلَّا ولا ذمة. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تحريم سفر المرأة سفرًا طويلًا بدون محرم سواء زوجها أو ذو محرم. 2- تحريم صوم يومي عيد الفطر وعيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة. 3- النهي عن صلاة النافلة والتطوع بعد صلاة العصر حتى الغروب وبعد صلاة الصبح حتى شروق الشمس وارتفاعها قدر رمح. 4- فضل المساجد الثلاثة على غيرها. 5- حرمة الزيارة لغيرها من المساجد الأخرى قصدًا للزيارة. 6- تفضيل بعض الأمكنة بعضها على بعض كالشأن في بعض الأزمنة مثل ليلة القدر وعيدي الفطر والأضحى ويوم عرفة والعشر الأواخر من رمضان والأوائل من ذي الحجة وليلة النصف من شعبان وشهر رمضان. 7- حث المسلمين على الصلاة في المساجد الثلاثة لكي يحافظوا عليها ويدافعوا أعداء الإسلام عنها. 8- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الحج من المال الطيب لا الخبيث

الحج من المال الطيب لا الخبيث: أخرج أحمد والطبراني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا خرج الحاج حاجًا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السما: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مأجور". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الحج المبرور غير المأزور، وذلك في الصورة الكلية الأولى، فقد كانت ثرية بالعناصر البليغة، والتي نبعت عن الواقع المحس، في قصة مثيرة لعواطف الإنسانية، التي يعمر بها الوجدان الحي بالإيمان الصادق، والإخلاص في العمل ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فالحاج بهذه الصفة يجاهد في إعداد نفقات الحج وزاده وراحلته من سعي حلال، ومصدر طيب، "فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" حديث شريف، ويمضي في طريقه الآمن، حتى يؤدي مشاعر الحج المقدسة الطاهرة، يردد التلبية وهو محرم، فتتفتح له أبواب السموات بالرحمة والرضوان، من كل من فيها وما فيها بالدعاء له، والنداء ملبين معه، مبشرين له بالقبول والسعد، قائلين له: زادك حلال وراحلتك حلال، وحجك مبرور لا مأزور، كل ذلك تدل عليه عناصر التصوير البليغ، الذي عبر عن وصفه "بالحاج" ووصف عبادته ونسكه بكونه حاجًا، ووصف نفقاته وراحلته بالطيب لا الخبيث، ثم تصوير التلبية كاملة هنا "لبيك اللهم لبيك"، وقبولها بترديدها واقترانها "بالسعد" والرضا، ووصف الزاد والراحلة بالحلال، وتقرير الجائزة الكبرى: "حجك مبرور غير مأزور"، إنها قيم خلقية وتشريعية سامية، ترغب عباد الله عز وجل في نيل هذا الشرف العظيم للحصول على أعلى جائزة من أكرم الأكرمين، قال تعالى: {وبشر المحسنين} ، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ... } إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الحج المأزور غير المأجور، وذلك في الصورة الكلية المقابلة للصورة الأولى، في إيقاع موسيقي ناشز تنفر منه الأذواق والآذان، غنية بالعناصر الفنية البليغة، التي تثير الاشمئزاز في النفس، وينفر منها الوجدان العامر بالإيمان بالله الخالص، فكل عنصر هنا يدل على النقيض من الصورة الأولى؛ فقد أخْفِيَ الفاعل وأضمِرَ ذكره صراحة، وكذلك صفته وهي "الحاج وحاجًا" كما في الصورة الأولى؛ لأنه هنا لا يستحق الذكر تحقيرًا له وإنكارًا لصنيعه ولنفقته وسعيه للحج، فقال: "إذا خرج"، بلا ذكر لذاته ولا لصفته، ثم صور هنا النفقة والزاد والراحلة بالخبيث والحرام ترهيبًا وتنفيرًا، فهو يقابل الطيب الحلال هناك ترغيبًا وتبشيرًا، ثم جاءت صفة التلبية هنا غير كاملة لمجرد الرمز فقط، مجردة من شرف النداء ولفظ الجلالة، ومن شرف تكرارها ولذتها الروحية "لبيك" فقط، لأنه لا يستحق شرف طهارة النسك وسموه، كما لا يستحق ثوابه الجزيل، ومكافأته الكبرى، ثم تصوير الدعاء عليه لا له، بأن الله تعالى لم يجب حجته إجابة بعد إجابة، بل رفضها رفضًا بعد رفض؛ فهو لا يستحق الرحمة والرضوان في قوله: "لا لبيك ولا سعديك"، ثم صورة النقيض في الزاد والنفقة، فزاده حرام ونفقته حرام، ثم تصوير إعلان القرار الحاسم والنتيجة الحتمية للمقدمات السابقة في نهاية التصوير الأدبي الرائع: "وحجك مأزور غير مأجور" في إيقاع متوازن بين الصورتين، ونسق موسيقي ناشز في أصوات الحروف والكلمات، تتناقض آلاته وأوتاره، لتعزف لحنين متنافرين في لوحتين فنيتين متعارضتين، تحمل كل منهما قيمًا فنية جميلة ومثيرة، تثير في النفس عاطفة قوية متدفقة، تقبل على اللوحة الأولى حبًا وعشقًا ورغبة ومنهجًا وسلوكًا قويمًا، وتشمئز من الثانية نكرانًا ونفورًا وخوفًا ورهبة،

لتقيم على أنقاضها منهجًا وسلوكًا قويمًا، وما أعظم إعجاز القرآن حين يصورهما معًا في قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} إلى قوله تعالى: {إِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- نفقات الحج من الزاد ووسائل السفر المختلفة والإقامة، أن تكون مالًا حلالًا طيبًا، لا حرامًا خبيثًا وفيه شبهة. 2- من مناسك الحج ومفاتيحها: "لبيك اللهم لبيك..". 3- مؤنة الحج الحلال ونفقاته الطيبة تجعله حجًا مبرورًا مقبولًا غير مأزور. 4- نفقات الحج الحرام ومؤنته الخبيثة لا تتفتح له أبواب؛ فترتد عليه المناسك غير مقبولٍ وتجعله مأزورًا غير مقبول ولا مأجور. 5- يحث الإسلام على الكسب الطيب والمال الحلال؛ فهو يطيب البدن والعمل، ويجلب الأجر والثواب. 6- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

الفصل الرابع: حسن المعاملة

الفصل الرابع: حسن المعاملة الحلال والحرام والشبهات: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي عبد الله النعمان بن بشير، رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 1. التصوير الأدبي والبلاغي للحلال والحرام والشبهات بالتعبير البليغ عن التمييز بين الثلاثة، ترغيبًا في الحلال، وتحذيرًا وترهيبًا من الحرام والشبهات، وذلك في أروع صورة أدبية، بلغت القمة في البلاغة البشرية، حتى صارت من جوامع الكلم، التي اختص بها خاتم النبيين، فأعمال المسلم وأقواله لا تتجاوز ثلاثة محاور: حلال واضح يؤدى، وحرام واضح منهي عنه، ومشتبه فيه بين بين، أي بين الحلال والحرام، لا يدري الإنسان هل هو حلال؟ فيؤدى أو حرام فيتقى؛ فالأفضل فيه، أن يتقى حذرًا من أن

_ 1 من معاني الكلمات في الحديث الشريف: "الشبهات والمشتبهات" تشابه بعض الأشياء لبعض، اتقى الشيء: تحفظ منه وحذر منه حتى يتجنب عذابه، استبرأ: حصل على البراءة، العرض: موضع الذم من الإنسان، الحمى: ما يحميه الإنسان ويدافع عنه، يرتع: ترعى الماشية كيف شاءت في خصب وسعة، محارم: الحرمة التي لا يحل هتكها، مضغة: القطعة من اللحمة بمقدار ما يمضغ وهي القلب وهو ما به الحياة في الجسم.

يغريه من الوقوع في الحرام، فأخرجه في صورة أدبية بليغة استمد عناصرها من الواقع، وروافدها من البيئة التي يخالطها الإنسان ويعرفها الناس، فالراعي الذي يرعى غنمه في مرعى قريب من حقل خصيب، يحميه صاحبه ويحافظ عليه، فلا يأمن منه على غنمه، مهما كان حذرًا وشديد الحراسة، أن تتسلل للحقل المحمي، فترعى منه، وتعرضه للمؤاخذة والعقاب، لذلك كان من الأفضل له، أن يختار له مرعى بعيدًا عن هذا الحقل والحمى، وكذلك المسلم، ينبغي أن يبتعد عن الشبهات في القول أو الفعل، حتى لا ينتهي الأمر به إلى التردي في الحرام، فيهلك، واتخذ الحديث الشريف هذه الصورة البليغة: أولًا: التأكيد بإنَّ المؤكدة في أمر الحلال وأمر الحرام فقال: "إن الحلال بين والحرام بين"، وتأكيد ثان في الإخبار عنهما باختيار لفظ "بين" من البيان وهو البلاغة، وتأكيد ثالث بالشدة على الياء في "بيّن" ليزداد المعنى ثراء، وهو أبلغ من التعبير بالوضوح، إذا قيل الحلال واضح، فقد آثر القرآن البيان في قوله: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، ثم تأكيد رابع في التكرار لكلمة بيّن، ليقوى الترغيب ويزداد الإقبال. ثانيًا: تصوير الابتعاد عن الشبهات بالتقوى، وهي الغاية من الإيمان وأعلى مراتبه، وبالبراءة في "استبرأ" وهي الطهر والعفاف، والنجاة والفوز العظيم، والشرف العزيز الغالي، والأصالة والعراقة؛ لأن العرب تكني عن براءة العرض بالشرف وعراقة النسب الأصيل. ثالثًا: تصوير المتقي للشبهات بالراعي في تشبيه تمثيلي بليغ، فهي وإن استعملت في رعي الماشية والأغنام؛ إلا أنها تحمل معنى المسئولية والحاكم والقائم على أمور الناس والأحياء؛ مصداقًا للحديث الشريف

"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، مما يدل على خطورة الشبهات واهتمام الإسلام بها، فالنار من مستصغر الشرر، واستمد روافد التشبيه التمثيلي وعناصره، مما يألفه الإنسان في حياته اليومية في الحقل والمرعى والحمى والأنعام والخير والانتفاع، ليستقر المعنى في النفس، ويكون كالدليل الواقعي والحسى من المحسوسات، وهي أقوى من الدليل العقلي والفكري. رابعًا: ينتهي الحديث الشريف بالقول الفصل والقرار الختامي والنهائي، حين يتناول في صور أدبية بليغة، ذلك بالتعبير البلاغي عن مصدر الحلال والحرام والشبهة الرئيسية، وهو القلب، فإليه يرجع الأمر كله، إن صلح القلب صلح سائر العمل، وإن فسد القلب فسد سائر العمل، في قوله: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " لأنه هو موطن الإيمان الحق من التصديق واليقين والإخلاص، والأمن والأمان والعقيدة والاعتقاد، فهو الذي يدير حركة الإنسان كله في أقواله وأفعاله، قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ، سأل النواس بن سمعان النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وما في الصدر هو القلب. القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- بين الإسلام الحلال والحرام بيانًا شافيًا وصريحًا، لا يحتاج إلى تأويل؛ لأن الحلال تقبله النفس، والحرام تأباه وتنفر منه. 2- أما الشبهات فالحكم فيه غير واضح، لا يدري الإنسان هل هو حلال أم حرام.

3- حث الإسلام على الترغيب والترهيب من الحرام، واتقاء الشبهات حتى لا تكون مزلقًا ومنحدرًا للوقوع في الحرام والمحذور. 4- جواز ضرب الأمثال لتوضيح الأحكام وتجسيدها، حتى تستقر في النفوس والقلوب، وتعيها العقول بالدليل الحسي. 5- القلب في الإنسان هو الفيصل بين الصلاح والفساد له، إن صلح القلب استقام صاحبه، وإن فسد أضل صاحبه. 6- القلب موطن الصدق والإخلاص واليقين، يرشد العقل ويهديه إلى الصواب، لأن العقل وحده قد يضل أو يجهل، حين لا يصلح القلب، بل يفسد؛ فيضل الإنسان، ولا يهتدي. بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي للحديث الشريف.

سفينة النجاة في الدنيا والآخرة

سفينة النجاة في الدنيا والآخرة: أخرج البخاري وأحمد والترمذي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"مثلُ القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا". روعة التصوير الفني في هذا الحديث الشريف؛ لأنه اتخذ أسلوبًا قصصيًا، يقوم على التشبيه التمثيلي، في صورة كلية متلاحمة الأجزاء والروافد والعناصر، تتنامى فيها الأحداث، وتتصاعد في وحدة عضوية، تتميز هنا بأسلوب الحوار والقصص، تستمد شخصياتها ومشاهدها وعناصرها في الواقع المحسوس، فقد شُبه الذي يطيع الله فيما أمر ونهى

ويتقي حدوده فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والذي لا يعمل بذلك، شبِّها بفريقين اقتسموا سفينة تمخر عباب البحر، وقد استقرت فرقة في أعلاها، والأخرى في أسفلها، فإن عطش من هم في أسفلها؛ فأرادوا أن يخرقوا خرقًا في نصيبهم، حتى لا يؤذوا من في أعلاها، فإن تركوهم والخرق، غرقوا جميعًا، وإن منعوهم من الخرق، وتعاونوا معهم، وأفسحوا لهم مكانًا في سماحة، نجوا جميعًا، وأنت ترى أن العناصر الواقعية هي السفية وركابها، وما تحتوي من آلات ومعدات، والبحر وما يضم من كائنات وعوالم وما فيه، من تيارات وأمواج وعواصف ومياه، وما حدث من صراع ومساهمة واقتراع، وغير ذلك من مظاهر الطبيعة والحياة. التصوير الأدبي حيويًا ورائعًا في بلاغة التعبير عن الحياة والمجتمع فيها بالسفية، التي تمخر عباب الماء، في بحر متلاطم الأمواج والعواصف، فهي ليست قصرًا شامخًا مستقرًا على أرض ثابتة في البر، وإنما هي ألواح من الخشب، تطفو فوق سطح الماء في بحر عميق، ينتابه بين حين وآخر ريح عاصفة وأمواج هائجة متلاطمة، تتصدع لها أركان السفينة، وتتحطم جوانبها المختلفة، فيغرق من فيها جميعًا، تلك هي الحياة الغرورة كالمسرح تختفي وراء أستاره الفتن والأحداث، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . وجاءت أيضًا صورة المجتمع الإنساني بالسفينة، التي تجمع بين البَرِّ والفاجر، والصالح والطالح، وأهل الخير والحق والجمال، مع أهل الشر والباطل والسوء، فالإنسانية في صراع دائم بين الخير والشر على سبيل الفتنة والاختبار، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .

وأما روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن القضاء والقدر، فقد شُبه قدرُ الإنسان وحظُّه من متاع الحياة الدنيا بتقدير الله عز وجل وحده، بصورة الاقتراع والاستهام على أعلى السفينة أو أسفلها، لأن الإنسان في ذلك لا يملك اختيار أحدهما بل الله وحده يقدر الأقدار، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وأما روعة التصوير الفني في بلاغة التعبير عن انتصار الخير، واجتياز الفتنة، ومقاومة الأنانية والفساد والتدمير، وذلك في صورة حية شاخصة، تستمد عناصرها من الصراع العنيف بين الفريقين على ضروروات الحياة، من الشرب لدفع العطش والهلاك؛ فإذا أحس الفريق الأسفل بالعطش، أرادوا أن يخرقوا خرقًا في أسفل السفية؛ فإذا تركهم الفريق الأعلى وما أرادوا غرقوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، وأفسحوا لهم أن يشربوا من أعلى السفينة متعاونين جميعًا، نجوا كلهم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وأما روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين صور الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر بصورة إيجابية فعالة لا سلبية مدمرة في صورة بليغة رشيقة، عندما أراد من في أسفلها أن يخرقوا خرقا؛ ليشربوا بقاء على حياتهم، فيأمرهم من في أعلاها بالمعروف وينهونهم عن المنكر، لينجوا جميعًا، كما ورد في الحديث الشريف: "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا"، مصداقًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والمعنى كما فسره أبو بكر -رضي الله عنه: أي عليكم المجتمع المسلم الذي تعيشون فيه، وليس عليكم غيركم من المجتمعات الضالة من غير المسلمين، فلا يضرونكم متى اهتديتم أنتم وعملتم بشريعة الله عز وجل.

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- يجب على الجار أن يصبر على جاره، إذا خشي أحدهما وقوع الضرر بالآخر، وإن وقع الضرر عليه، وجب رفعه عنه. 2- جواز إجراء القرعة في القسمة بين المشتركين. 3- جوز ضرب المثل لتوضيح المعنى بالواقع المحسوس. 4- جواز تجسيد المعاني وتوضيحه عن طريق ضرب الأمثال من الواقع المحسوس. 5- ترك النهي عن المنكر يستوجب عقاب الجميع، فيشمل التارك للنهي، والواقع في الحرام والمحظور، لأن الله تعالى يعاقبهم، الأول برضاه وسكوته وعدم إنكاره، والثاني بوقوعه في المحظور. 6- الحث على التعاون والتكافل والصبر ورعاية المصلحة العامة. 7- بالإضافة إلى ذكر القيم في التصوير النبوي للحديث الشريف.

الإسلام يسر لا عسر

الإسلام يسر لا عسر: أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". الإسلام دين التوازن بين المادية والروحية وبين الإفراط والتفريط؛ لا يطغى أحدهما على الآخر، بل توسط بين المادية والروحية، وجمع بينهما في توازن واتزان، فلم يبالغ في الجانب المادي كشريعة موسى عليه السلام، التي تتناسب مع طبيعة اليهود آنذاك، ولم يبالغ في الروحية إلى حد الرهبنة في شريعة عيسى عليه السلام، وإنما خاطب العقل والقلب معًا بعد اكتماله بشريعة الإسلام، فلا تقبل المبالغة فيهما؛ فحث على العمل والكسب وجمع المادة، وجعلها عبادة روحية، ما دامت ابتغاء مرضاة الله تعالى، لذلك كانت شريعته عامة كاملة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا} . قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} . التصوير الأدبي في التعبير البلاغي عن سماحة الإسلام ويسره: أولًا: طابق بين اليسر والإسلام، فالإسلام هو اليسر، واليسر هو الإسلام؛ فلا فرق بينهما، ولم يقل الإسلام كاليسر أو من اليسر، فهي عبارة بليغة جعلت الإسلام هو اليسر نفسه وذاته، لا ينفك عنه، فلا يقبل المبالغة في الدين، ولا التفريط في العمل بتعاليمه وأوامره، والتخلي عن الترفق الذي حث عليه، وإهمال السماحة التي تعم شعائره ومناسكه، وترك الرخص التي شرعها الله رحمة بعباده، وما أشبه ذلك مما يتنافى مع طبيعة الإسلام الميسورة، وسماحة هديه السهلة، فقد رغب كثيرًا في ذلك، فالله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. ثانيًا: أكد على أن الإسلام يسر في تصويره البلاغي الرائع، حين عرضه في صورة أدبية أخاذة، على سبيل القصر والتأكيد، مشفوعًا بالدليل والحجة الدامغة، ليحسم الأمر، لا تبقى منه ثغرة لمعترض أو منكر، فيقتنع بالبرهان الحسى في التصوير البلاغي بالنفي والاستثناء، وبالدليل العقلي الناتج عما أثبته الاستثناء بعد النفي، ومن أقوى الأدلة الإثبات بعد النفي، وذلك في هذه الصورة الأدبية البليغة، على سبيل القصر والتأكيد بالنفي والاستثناء في قوله: "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" لأن المشادة هي المغالبة والمبالغة والتزمت والتنطع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" أي المتشددون.

ثالثًا: صور سماحة الإسلام ويسره في صورة أدبية أخرى، وفي تعبير بليغ مؤثر، يدل على التوسط والاعتدال، مصداقًا لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} والتوسط والاعتدال سبيل المقاربة والكمال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "فسددوا وقاربوا"، أي توسطوا، بلا مبالغة أو غلو وتعمق، فإذا كان المسلم اليوم صحيحًا فغدًا يكون مريضًا، وإذا كان شابًا فغدا يكون كهلًا، وهو أكثر عونًا على دوام الثواب، فخير الأعمال القليل الدائم، وكذلك تأكدت هذه الصورة الأدبية البليغة، بالحكم عليهم على سبيل الأمر والاستحقاق، فقال: "وأبشروا" أي أن الثواب والأجر حتمي لا محالة؛ لذلك أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على عبد الله بن عمرو بن العاص قوله متشددًا: "والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت" فقال له: "فإنك لا تدري لعلك يطول بك العمر"، قال عبد الله: فشددت على نفسي فشدد علي، ووددت أني قبلت رخصة النبي، وحديث الثلاثة الذين تقالوا عبادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معروف؛ فقال: "هذه سنتي؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني". رابعًا: صور سماحة الإسلام ويسره في صورة أدبية بليغة، تؤاذر ما سبق من بلاغة القول، تقريرًا وتأكيدًا فقال: "واستعينوا بالغدوة والروحة" أي بأول النهار وآخره "وشيء من الدلجة": وجزء يسير من الليل، فجاء بهذه الصورة المحسة والتعبير الأدبي، المستمد من الواقع أول النهار عند طلوع الشمس، وساعة الأصيل عند غروب الشمس، وآخر الليل وقت السكون والسحر، لتكون من قبيل ضرب الأمثال ووقع الحكمة، وبلاغة الأمثال والحكمة أقرتها العقول والأذواق البليغة، فهي التيجان على جبين الفكر البشري، لتحث على اغتنام أوقات النشاط قيامًا بالطاعات، لأن الغدوة والروحة والسحر ينشط فيها الإنسان مسافرًا أو مقيمًا، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ

لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال النبي مقررًا قول سلمان الفارسي -رضي الله عنه: "إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- سماحة الإسلام ولينه فالدين يسر لا عسر. 2- العمل بالرخص الشرعية لرفع الحرج عن النفس في وقت الحاجة والعذر. 3- النهي عن المبالغة والتشدد في العبادة، فخير الأعمال أدومها وإن قل. 4- كراهية الإسلام للملل والسأم. 5- أداء الأعمال في أوقات النشاط، وتفضيل الراحة في أوقات القيلولة وإعطاء الجسم حقه من التمتع بنعم الله عز وجل. 6- الحث على التبكير وقيام جزء من الليل للتهجد فيه. 7- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.

إن الخير لا يأتي إلا بالخير

إن الخير لا يأتي إلا بالخير: جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وجلسنا حوله فقال: "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها"، فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ قال: فسكت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقيل: ما شأنك تكلم رسول الله لا يكلمك، قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء أي "العرق"، وقال: "أين السائل؟ - وكأنه حمده - إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم - الحبط داء يصيب البطن من كثرة أكل الكلأ، أو يلم، أي: ما يقرب من هذا الداء - إلا آكلة الخضر،

فإنها إن أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت ثم رتعت، وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم، هو لمن أعطى منه المسكين وابن السبيل، وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شاهدًا يوم القيامة". المعادلة الصعبة في الحديث الشريف: جاءت في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها" حين تقبل الدنيا على الناس بالخير والمال الوفير، والعقارات وأرصدة البنوك وغيرها من متاع الغرور وزينة الدنيا وفتنتها، لذلك تعجب السائل من خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الخير لأمته، فقال معترضًا: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فسكت عن الإجابة، لأنها معادلة صعبة تحتاج إلى وحي من الله في ميزان دقيق، يكشف الغموض في هذا التناقض في الظاهر، ليكون مقياسًا إلهيًا، وميزانًا عادلًا في التعامل مع الخير وزينة الحياة الدنيا، ليأتي بالخير والثواب العظيم حتى لا يكون وبالًا على صاحبه يجلب له الشر والعقاب. التصوير الأدبي في التعبير البلاغي عن ميزان المعادلة الصعبة وذلك على النحو التالي: أولًا: لا بد للرسول أن يخرج المستمعين من حيرتهم التي أحاطت بهم، حتى قال بعضهم: ما شأنك تكلم رسول الله لا يكلمك، وانتظروا الإجابة حين علموا أن الوحي ينزل عليه، فكان أول شيء يبدد هذه الحيرة أن تكون الإجابة قاطعة بالحكم النهائي قبل أن يعرض المقدمات، فقال -صلى الله عليه وسلم- في بلاغة ونصاعة حجة مؤكدًا قوله بمؤكدات هي "إنّ"، وأسلوب القصر بالنفي والاستثناء فقال: "إن الخير لا يأتي إلا بالخير" وقبل ذلك سأل عن السائل بطريقة أوحت إلى الحاضرين بأنه يشكره على سؤاله، ويثني كثيرًا على مداخلته فقال: "أين السائل"؟ قال الراوي: وكأنه حمده.

ثانيًا: هذا المقياس قضية فكرية مجردة عميقة، يقف العقل أمامها في حيرة وطول نظر وروية، تحتاج من البليغ وخاصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبلغ العرب قاطبة -أن يعرضها في صورة أدبية تقربها من العقول، وتتفتح لها منافذ الإدراك في النفس من العقل والعاطفة والوجدان والإحساس والمشاعر لتستقر في وضوح بيان، وحجة دامغة، وبرهان حسي قاطع؛ لذلك اختار لها صورًا واقعية من البيئة المحسة، تجمع بين عناصر الربيع والبقل والنبات والحيوان والرعي والماشية والخضر والكلأ والشمس والحبط وما أشبه ذلك. ثالثًا: صور الرسول -صلى الله عليه وسلم- المال الحرام، والكسب المنهي عنه سواء عن طريق تحصيله أو الإسراف فيه، أو كنزه أو عدم إخراج حق المجتمع فيه، صور ذلك في صورة محسة واقعية بليغة، وذلك حينما ينبت فصل الربيع نباتًا غير صالح للمرعى، يقتل الماشية أو يكاد، وهو الحبط وما يقرب من ذلك فإذا أكلته الماشية ماتت لساعتها أو مرضت، وكادت أن تموت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم". رابعًا: صور الرسول -صلى الله عليه وسلم- المال الحلال والكسب المرغوب فيه، سواء بالتحصيل أو بالاعتدال في إنفاقه، واستخراج حقوق المجتمع منه، أو باستغلاله فيما يعود على الأمة بالخير، صور ذلك في صورة واقعية محسة بليغة، وذلك حينما ينبت الربيع كلًأ ومرعى خضرًا حلوًا، تأكل منه الماشية وترعى فيه، فتزداد نموًا وتربو الحما، فتنعم بالعافية وتستقبل الشمس، متمتعة، بحلاوة الأكل وجمال الطبيعة الساحرة، ودفء الشمس الواقي لها من المرض والعلل، فقال: "إلا آكلة الخضر فإنها إن أكلت امتدت خاصرتها واستقبلت عين الشمس ... " إلخ. خامسًا: ثم استنتج من تلك الصورة المحسة البليغة مقدمات الحكم والنتيجة الدامغة، حين مدح المال ومصادر الخير فقال: "ونعم صاحب المسلم"، موضحًا هذه النعم وتلك الخيرات، إذا أعطى منه للفقير حقه،

وابن السبيل ولكل ذي حق حقه، عند ذلك لا يأتي الخير إلا بالخير، ثم يقرر حقيقة أخرى عندما يأتي الشر من الخير، إذا حصل عليه صاحبه من حقه، وينفقه في غير حقه، فيستخدمه في غير حله، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون وبالأعلى صاحبه، ويأتي عليه شاهدًا يوم القيامة، مصداقًا لقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} إلخ السورة" وقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: " من اكتسب فيها مالًا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه، وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالًا من غير حقه، وأنفقه في غير حقه أحله الله دار الهوان". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تحذير الأمر من فتنة المال حين تقبل الدنيا عليها في تسخيره فيما أمر الله به، ولا يستخدم فيما نهى الله عنه. 2- صدق ما تنبأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من انتشار الإسلام في الشرق والغرب في الفرس وفي الروم: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} . 3- النهي عن الكسب الحرام والاستيلاء على المال بغير وجه حق، فلابد أن يكون مصدره طيبًا لا خبيثًا. 4- الحث على إنفاق المال الحلال والكسب الطيب في حقه وعلى من تجب نفقته، وما يجب عليه في ماله من حق السائل والمحروم، ثم يستخدم ما بقي منه في سبيل الله باستغلاله فيما يعود على الناس بالخير والاستغناء لا في التدمير ولا في الظلم والاعتداء. 5- النهي عن الإسراف في المال وإنفاقه فيما ليس ضروريًا مما يغضب الله عز وجل، ويحاسب المسرف عليه مع أنه صاحبه، جمعه من حلال، لكنه أنفقه في غير حقه وهو الإسراف فيه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} .

6- المال فتنة وزينة واختبار، لا ينجو صاحبه من بلائه وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة إلا إذا جمعه من حقه، وأنفقه في حقه ووجهه؛ فإن فعل ذلك ذهب عنه شره، وكرمه الله بخيره وثوابه؛ فأصبح من الشاكرين. 7- هذا الحديث لوحة فنية رائعة اتخذت عناصرها من الطبيعة والواقع بخيال هادف، وفي هذا تشريع للأدباء أن يندمجوا مع الطبيعة والواقع بخيالهم في شعرهم وفنونهم الأدبية من قصة ومسرحية وغيرها مما يجمع بين القيم الخلقية والقيم الفنية. 8- بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من القيم في الحديث الشريف.

واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا

واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا: أخرج البخاري عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مثلُ المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". الوحدة العضوية في بلاغة التصوير الأدبي لهذا الحديث الشريف: تظهر بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترتيبه بين الصفات والأعمال الإنسانية ترتيبًا واقعيًا في نمو وتصاعد مطرد، بحيث تترتب الصفات والأفعال بعضها على بعض مثل تسلسل المشاهد وتناميها في الرواية والقصة، فقد ترتب التواد على التراحم وتنامى عنه وزاد عليه في الصفات والأعمال، وترتب التعاطف على التواد وتنامى عنه وزاد عليه في الصفات والأعمال، فانظر إلى هذا التنامي والتصاعد في البنية الفنية للحديث الشريف، حين بُدئ بأدنى الصفات والأعمال وهو التراحم، فيرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإسلام ونسبه، لا بسبب آخر، فالتراحم هو المرحلة الأولى التي لا بد أن تتحقق قبل المرحلة الثانية، وهي التواد التي تترتب على التراحم، بل تزيد عليها بصفات وأعمال كثيرة هي صلة الرحم والتزاور والتهادي، وما أشبه

ذلك مما يدخل في التواد بعد التراحم، فإذا تحقق التواد بين الأسرة فيما بينها، وبين الأسر بعضها مع بعضها الآخر، تتنامى بعد تلك الصفات والأعمال والقيم الخلقية الأعلى من التراحم والتواد، وهي الغاية السامية التي ينشدها الإسلام من التعاطف والتعاون والوحدة والاعتصام بحبل الله جميعًا، وهي الصفات والأعمال الثالثة في قوله: "وتعاطفهم" وهذا التنامي بين القيم السامية في التصوير الفني والبلاغي يعد من أرقى أساليب البلاغة النبوية الشريفة. روعة التصوير الفني في بلاغة التعبير بصيغ المفاعلة في هذا الحديث الشريف، التي تدل على المشاركة والإيجابية والتفاعل بين جميع المسلمين، بحيث يشترك الجميع في هذه الصفات وتلك الأعمال والقيم، فلا بد أن يحدث التراحم والتواد والتعاطف من الجميع دون اقتصار على فرد أو مجموعة دون الأخرى، وذلك في بلاغة التعبير والتصوير الفني بصيغة التفاعل، في قوله -صلى الله عليه وسلم: "في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم"، متأثرًا ببلاغة القرآن الكريم وإعجازه البياني في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، كما في حديث آخر: "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كلَّه، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله". روعة التصوير الفني في بلاغة التشبيه التمثيلي، حين شبه المؤمنون على التمثيل في هذه الصفات، وتلك القيم الخلقية السامية في التراحم والتواد والتعاطف، فلا يستغني أحدهم عن الآخر، بل كل واحد منهم يكمل الآخر، ويحتاج إليه ولا يستغني عنه، حتى تستقيم الحياة فتقوى، وتتحقق لها العزة والكرامة والمجد، مثلهم في هذا البناء القوي الكامل الجميل مثل الجسد الواحد القوي الصحيح الجميل التي اتسقت فيه

الأعضاء وتكاملت، وأخذت موقعها من النسق الجميل والقوي في تحقيق غايته من الحياة الكريمة والقوية والعزيزة، فإذا كان عضو من أعضاء الجسد قد أصابه ضعف أو مرض أو اعتلال أو كسر، كان بالضرورة لبقيته أن يتألم فتشاركه التعب والسهر، مما يؤدي إلى تزايد المرض وسريان الحمى في الجسد كله، وما أروع تقديم السهر وعدم النوم قبل الحمى؛ لأنها مترتبة على الأرق، وهذا هو شأن المؤمنين إذا تراحموا وتودّوا وتعاطفوا واعتصموا بحبل الله جميعًا، فصاروا أمة قوية عزيزة الجانب، يهابها الناس، ويحسبون لها ألف حساب كالجسد القوي الصحيح، الذي يقوى على مقاومة المرض والضعف والهوان، وإن اختفت هذه القيم وانعدمت، تفرق المؤمنون واختلفوا، ومزقتهم العداوة والبغضاء، فانهارت قوتهم وضعفت شوكتهم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- إذا تحققت قيم التراحم والتواد والتعاطف في المسلم أصبح مؤمنًا فاستحق صفة الإيمان، وهو يزيد وينقص حتى يصل إلى درجة الإحسان. 2- حث الحديث الشريف على التراحم بين المسلمين فيرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإسلام ونسبه. 3- كما حث على المودة، وذلك بصلة الرحم بالتزاور والتهادي، والتواصل بين ذوي الرحم وبين الإخوة في الإسلام. 4- كما حث على التعاطف والتعاون والتكافل بين المسلمين جميعًا؛ لأنهم أمة واحدة كالجسد الواحد. 5- ويحث أيضًا على وحدة الأمة الإسلامية والاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم؛ فتتحطم أمامها التيارات المدمرة من التمزق والتفرق والتنازع. 6- يقوم الحديث الشريف في تصويره النبوي وبلاغة تعبيره على وحدة فنية وموضوعية وعضوية، ترابطت فيها القيم الخلقية والفنية في نمو واطراد، بحيث لو قدمت قيمة على أخرى لاختل البناء الفني والعضوي من التراحم ثم التواد، ثم التعاطف، ولابد أن تكون الحمى نتيجة للتعب ومرض الجسم الذي اعتل بالأرق وعدم النوم ومسبباته المختلفة. 7- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي للحديث الشريف

الأمن والسلام

الأمن والسلام: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وزاد الطبراني: "ويلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة". الوحدة العضوية في بلاغة التصوير الأدبي لهذا الحديث الشريف: تظهر هذه الوحدة في بلاغة الترتيب بين هذه الصفات والأعمال البشرية ترتيبًا واقعيًا في تصاعد ونمو مطرد كالأحداث والمشاهد في القصة، يترتب فيها الحدث الثاني على الأول، والثالث على الثاني وهكذا، وهو ما يسمى في النقد الأدبي بالوحدة العضوية، فانظر إلى هذا الاضطراد والنمو المتصاعد حين بُدئ الحديث بالنهي عن التقاطع في "لا تقاطعوا"، وهو الجفاء والتفرق مما يشتت الوحدة ويمزق الترابط والتآخي، وهذا المشهد بدوره يؤدي إلى مشهد أعلى فيه وأشد وهو عدم التدابر في "ولا تدابروا" لأن فعل التدابر يزداد عن التقاطع بأفعال مذمومة ومحرمة أخرى؛ مِن الافتراء على الغير بالبهتان والغيبة والنميمة، وهذا المشهد الثاني يتنافى ويتصاعد ليترتب عليه المشهد الثالث، وهو عدم التباغض في "ولا

تباغضوا" فيتعاطى المرء زيادة على ما سبق أسباب البغض وهي الشتم والسباب والخصومة والضرب، ثم يترتب على المشهد الثالث -زيادة على ما سبق- المشهد الرابع وهو عدم التحاسد في "ولا تحاسدوا" وهو من أكبر الكبائر، فيزداد على التباغض بالحسد، وهو كراهية الخير للآخرين، وتمني زوال النعمة عن الغير، وهكذا تجد البلاغة النبوية في هذه الوحدة العضوية بين مشاهد الحديث الشريف حتى أصبحت هذه المشاهد في مواقعها، كمواقع الأعضاء في جسد الإنسان فالعين والسمع والأنف واليد وغيرها كل في مكان يكون وحدة عضوية في جسد الإنسان السوي في أحسن صورة؛ فتبارك الله أحسن الخالقين. روعة التصوير الفني في بلاغة التعبير بصيغ المفاعلة في الحديث الشريف وذلك في قوله: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا" فعدم التقاطع والتدابر والتباغض والتحاسد وغيرها من الصيغ العربية على وزن التفاعل تدل على المشاركة والصراع والتفاعل بين الطرفين مما تصور حقيقة المنهي عنه والمحرم فيؤدي إلى تشتيت الأمة وتدمير قوتها، فلو كانت هذه الأفعال من جانب واحد لما حدث هذا الضرر، لأن الآخر قد لا يبادله الصنيع فيعفو عنه، ويتعامل معه بالحسنى؛ فلا يحدث الضرر والمحرم، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهو ما أشار إليه الحديث الشريف بأن يكونوا عباد الله إخوانًا، فلا يتمادوا في الخصومة فوق الثلاث، وأن خيرهما من يبدأ بالسلام والمحبة فيسبق غيره إلى الجنة، جاء في حديث آخر: "ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا إن كان ظالمًا فلينهه، فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره". روعة التصوير الفني في بلاغة ختام الحديث؛ ليكون قرارًا نهائيًا لا مردَّ فيه، وحكمًا فاصلًا غير منقوص، وهذا القرار والحكم هو الأخوة بين

الناس، فهم جميعًا ينتسبون إلى مصدر واحد، يلتقون فيه على عبودية الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وإذا كان ولا بد من المخاصمة؛ فلا يصح أن تتجاوز الثلاثة أيام في غير معصية الله سبحانه، وغير ذلك مما يدل عليه الحديث الشريف من القيم السامية والنافعة في تلك الصور البلاغية الرائعة التي وردت فيه، وفيما زاده الطبراني. روعة التصوير الفني في بلاغة الحث على المسارعة بالصلح والسلام وتبادل المودة والمحبة، وجاء في تصوير فني درامي، فيه جذب وشد وإعراض وإقبال، ومقاومة وصراع نفسي بين الطرفين، فكلاهما قد أخذته العزة بالإثم بدعوة الكرامة والإباء، فقد يلتقيان، لكن كلا منهما يعرض بجانبه عن الآخر، وتلك هي الأزمة والعقدة، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يضع البلسم الشافي ليبدد الأزمة ويحل العقدة، وهو أن خيرهما الذي يبدأ بالسلام؛ ليستحق الجائزة الكبرى؛ فيسبق غيره إلى الجة، وهو الفوز العظيم، تأمل ذلك فيما زاده الطبراني "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة"، فما أروع بلاغة سيد البشر -صلى الله عليه وسلم. ويؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه القيم في قوله عن أبي هريرة -رضي الله عنه: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"، وكذلك قوله عن أبي هريرة أيضًا قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا".

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- يحث الحديث الشريف على نشر المحبة ونشر الأمن والسلام بين الناس جميعًا. 2- حرم الإسلام القطيعة والخصومة مما يعكر صفو القلب. 3- وحرم التدابر والتفرق؛ فإنه يمزق الأمة، وتقطع التواصل بينها. 4- وحرم التباغض الذي يشيع البغضاء بين الناس؛ فيقضي على التعاون على البر والتقوى. 5- وحرم التحاسد، الذي يحمل الحاسد على الحقد، وتمني زوال النعم والخير عن الغير، وإيثار نفسه به أنانية وتفانيًا في حب ذاته. 6- لا يجوز أن يهجر المسلم أخاه أكثر من ثلاثة أيام، فإن الخصومة تمزق وحدة الأخوة الإسلامية. 7- يعتمد الحديث الشريف على الوحدة الفنية في تناسب الألفاظ والأساليب والصور مع المعاني، فتقوم على الوحدة العضوية بين القيم الخلقية والفنية في الحديث الشريف. 8- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي للحديث الشريف.

بين البخل والإنفاق

بين البخل والإنفاق: أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت، أو وفرت على جلده، حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع". حب المال والتملك غريزة إنسانية تزداد وتنمو كلما تعلق الإنسان

بالحياة وهام بها فالمال من ميل القلب إليه وحبه حبًا جمًا: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ، {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُورًا} ، {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} وفي الحديث الشريف: "منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال"، "ولو أعطي ابن آدم واديًا من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" وغير ذلك كثير مما يجعل الإنسان حريصًا على إنفاقه، كما حث على اكتسابه من حلال، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الإنفاق والبخل في هذا الحديث الشريف: أولًا: شبه الإنفاق والبخل -وهما من المعاني المجردة- بصورة مادية محسوسة بالثوب أو الدرع من الحديد، قد يحمي صاحبه من الهلاك إذا كان منفقًا، أو يكون سببًا في هلاكه والقضاء عليه إذا كان بخيلًا، وفي هذه الصورة الأدبية القائمة على التمثيل المعنوي بالمحسوس، وتشبيه المتخيل بالمادي المحس، يضفي على المعاني الكثيرة فيه جمال المبالغة مع الإيجار، وروعة البيان وسحره مع التركيز والإيحاء؛ لأن النفس تتعلق بالمادي والمحسوس، وتفتتن به أكثر من المعنى المجرد لغموضه وإبهامه، فالمادي يدرك بجميع الحواس، وهي كثيرة مع العقل والعاطفة والوجدان، والمعنوي لا يدرك إلا بالعقل فقط، لذلك كان التجسيم للإنفاق والبخل في هذا الحديث الشريف أبلغ تصويرًا وأقوى بيانًا.

ثانيًا: عبر الحديث عن الإنفاق في صورة أدبية بليغة، تتكون من رجل لبس درعًا من الفولاذ أو الحديد، يحيط بصدره، كلما حرك نفسه بالجهاد وكثرة الإنفاق طال الدرع، حتى كان سابغًا على جميع بدنه، يشتمل عليه كله ليحفظه؛ وينجيه من الهلاك، ويزداد في حجمه كما وكيفًا؛ فيزداد خيرًا ووفرة وبركة؛ وطهرًا وعمرًا ونسلًا وأولادًا؛ مصداقًا لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} . {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} ، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وينزل ملكان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكًا تلفًا"، ويقول أيضًا: "حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع"، "من أراد أن ينسأ له في أجله؛ ويبارك له في عمره وولده وماله؛ فليصل رحمه" أي بالمال وغيره من القربات والهدايا. ثالثًا: عبر عن البخل والشح في صورة أدبية محسة بليغة؛ تتكون من رجل لبس درعًا من الفولاذ أو الحديد يحيط بصدره، فكلما أمسك عن الإنفاق شحًا وبخلًا؛ أطبق بحلقاته وتلابيبه على صدره ممزقة؛ وعلى أنفاسه فأزهقها، وعلى روحه فخنقها، حتى يكاد أن يموت، فيحاول أن يوسعها فتزداد ضيقًا واختناقًا، حتى تزهق روحه، فيترتب على ذلك اكتناز المال وجموده، وهلاك النفس وتعذيبها، وحرمان الأولاد والناس، وقصر العمر والفقر في المال وقلة النسل والولد؛ والعزلة والبغض

والكراهية، ومثله كمثل من فقأ إحدى عينيه، وقال بأن النظر بهما في وقت واحد إسراف، ومثل قول ابن الرومي في وصف البخيل: يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد ومصداقًا لقول الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} ، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وفي الحديث الشريف: "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق"، وقوله: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"، وقوله في مال البخيل: "يمثل له يوم القيامة بشجاع أقرع يأخذ بلهزمتيه ويقول: "أنا مالك أنا كنزك"، "وتصفح له صفائح من نار تصب فوق رأسه"، {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- حث الإسلام على الجود وأثنى على الجواد الكريم؛ لأن الكرم والصدقة تعود على المنفق بالخير في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. 2- حذر الإسلام من الشح والبخل وذم الشحيح والبخيل فإن الشح يهلك صاحبه، والبخل يقضي على البخيل في الدنيا، أما في الآخرة فهما محرومان من الثواب والرضوان، فلا يغني في الدنيا ولا ينفع في الآخرة. 3- الصدقة تمحو الذنوب، والكرم يذهب بالخطايا، وتنقي المنفق من الدنس والحقارة والعار والخزي والعقاب. 4- أن الله عز وجل سيزيد المنفق خيرًا وحسنًا في الدنيا والآخرة، ويمقت البخيل، ويفضح الشحيح، ويعذبهما في الدنيا بالذل والضعف والهوان والضيق والقلق، وفي الآخرة بالعقاب والعذاب والحرمان من رحمة الله تعالى ورضوانه. 5- يحث الحديث الشريف على جواز ضرب الأمثال، وتجسيم المجردات وتشخيص المعاني، لتوضيحها ونفاذها إلى القلب والعقل والبصيرة.

منابع الخير والحب في الإنسان

منابع الخير والحب في الإنسان: أخرج ابن حبان والبيهقي عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس"، قيل: يا رسول الله، من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال: "إن أبواب الخير لكثيرة؛ التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، ويسمع الأصم، ويهدي الأعمى، وتدل المستدل عن حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة، وهديك الرجل في أرض الضالة لك صدقة". الصدقة الحسية والنفسية: بلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخرجت الصدقة من إطارها المادي التقليدي إلى آفاق رحبة فسيحة، لتتسع إلى معان كثيرة وقيم إنسانية سامية، تتنوع فيها منابع الخير والحب، والمودة والإخاء في النفس البشرية، فلو اقتصرت الصدقة على الجانب المادي وحده؛ للتطهير من الشح وإعانة الفقراء والمحتاجين؛ لتعطلت وتوقف مدها خلال الاكتفاء الذاتي في بعض العصور، كما أشار إلى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حين تبحث عن الفقير، لتعطيه الصدقة فلا تجد، كما حدث في زمن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه، فلم يجد واليه في أفريقيا فقيرًا، يعطيه الزكاة بعد

أن جمعها؛ فالصدقة بالمفهوم المادي، صرح اقتصادي ما دام الفقر موجودًا، ويتوارى دورها خلال الاكتفاء الذاتي، لكن بلاغة هذا الحديث الشريف، جعل الصدقة لا تتوارى مطلقًا، بل تظل حية شاخصة في كل حين لما تقتضيه الضرورة من التصدق عن النفس كل يوم؛ شكرًا لله عز وجل على نعمائه الكثيرة، فخرجت عن إطارها المادي إلى قيم نفسية وإنسانية سامية، جاءت بالتفصيل في هذا الحديث، لأن أبواب الخير كثيرة، لا يدخل تحت حصر، جاءت في تصوير بلاغي عجيب، يصل إلى أعماق النفس وأصداء الوجدان، لتوقيع ألحان صافية، يحرك بها العوطف والمشاعر، فيأخذ بالعقول والألباب، ذلك في صور بليغة منها: التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالعرفان بالجميل، وبالشكر على النعيم والنعم الإلهية، فيلهج اللسان والقلب بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} . التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء، وهي صدقة معنوية فترفع البلاء والمحنة والعذاب عن أخيه الإنسان، وعن المجتمع المسلم؛ فيلهج لسانه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . التصوير الأدبي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء والتعاون؛ وهي صدقة معنوية فتميط الأذى عن الطريق، فترفع

الحجر والعظم والشوكة، حتى لا يتعثر بها إنسان، فيدمى قدمه وجسده، أو حيوان أعجم فتؤذيه، لأنه كان سيحزن لإيذاء أخيه، ويفرح لنعمائه، فذلك هو الإيمان الصادق، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهل هناك رابطة أقوى من المودة والألفة والحب، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} . التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء، وهي صدقة معنوية، فيسمع الأصم، ويهدي الأعمى، ويدل المستدل على حاجته، ويسعى في حاجة اللهفان المتسغيث، ويتعاون بذراعيه مع الضعيف، ويهدي الضال، فهي صدقة نفسية، ومبادئ إنسانية سامية، تربط المجتمع بالحب والتعاون والإخاء والمودة، والوحدة والترابط، فلا فرق بين الضعيف والقوي، ولا بين السليم السوي والعاجز المعان، ولا بين البصير والأعمى، ولا بين السميع والأصم، ولا بين الخبير المحنك والضال، ولا بين المستغني واللهفان المستغيث، مثلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا. التصوير الأدبي البليغ للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والمودة، وهي صدقة شعورية ووجدانية وعاطفية، في قوله -صلى الله عليه وسلم: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة"، فيدخل البهجة والسرور في نفس أخيه فربما قد حزبه أمر، ويغشاه هم أو غم، فتشاركه فيه لتخرجه منه بتلك الابتسامة الرقيقة، فتنزعه مما هو فيه من حزن أو غضب وهم، فرق كبير

في ذلك بين النفوس المريضة بالتأزيم والتزمت، والعابسة المقطبة المكشرة وبين غيرها، فإنها تترك الأسى والكبت والحزن والجفوة والجفاء والأذى، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعليم أمته، فحثهم على شكر الله عز وجل على نعمه الظاهرة والباطة بالصدقة كل يوم؛ لتغشاهم رحمته ورضوانه. 2- إن الصدقة في الإسلام نوعان؛ مادية: كالأموال والأعيان والعقارات والمأكولات والمشروبات وغيرها من الغني الميسور، ومعنوية وتجمعها أبواب الخير وهي كثيرة جاء بعضها في هذا الحديث، للدلالة على نظائرها ممن لا يملك صدقة مادية، تزيد عن حاجته، ومن تلزمه نفقتهم. 3- أعظم الصدقات المعنوية من أبواب الخير هي: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- من الصدقات المعنوية والخلقية إماطة الأذى عن الطريق، مثل إقالة العثرات عن الطريق، وتمهيده ونظافته من القاذورات والمهملات، ومنع الدخان والأصوات المزعجة والعالية، وعدم تلويث الهواء بما يؤذي الإنسان من العوادم والغازات المضررة. 5- ومنها أيضًا تعليم الأصم، وتمكينه من ممارسة حياته المألوفة، فيتعلم ويقرأ ويشارك المجتمع من حوله، فلا يعيش معزولًا عنه بالعزلة والغربة. 6- ومنها أيضًا إرشاد الأعمى والضال إلى الطريق الصحيح وتوجيهما إلى مقصدهما، وملاطفتهما في الحديث، وتعليمهما وفتح أبواب المشاركة مع المجتمع من حولهما، حتى لا يشعر بالغربة والعزلة. 7- ومنها أيضًا إعانة المستغيث والضعيف، فتسعى معهما، حتى ترد عنهما الأذى، وتدفع عنهما الشر، الذي يحيط بهما، ما دمت قادرًا على ذلك بلا ضرر ولا ضرار. 8- ومنها أيضًا حسن المعاملة للآخرين، بطلاقة الوجه وحسن الاستقبال وإشراق الوجه بالابتسامة، بلا عبوس ولا تكشير، ولا اشمئزاز ولا إعراض.

حسن المعاملة في الإسلام

حسن المعاملة في الإسلام: روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يرحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى، وإذا قضى". السماحة في حسن المعاملة: في هذا الحديث الشريف تظهر سماحة الإسلام، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه مبتهلًا إليه، أن يرحم المؤمن السمح في كل معاملاته فيحسن المعاملة في البيع والشراء، كما يحسن المعاملة في قضاء الدين، الذي عليه بالحسنى، واقتضاء الدين الذي يكون له عند الآخرين، فيمهله حتى يستطيع رده، أو يتنازل عنه؛ فيتصدق عليه لإعساره، بل هذا خير له، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وفي الحديث الشريف: "من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله في ظل عرشه، ومن سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع له" وأخذ يصور مواطن السماحة في حسن المعاملة تصويرًا أدبيًا في تعبير بلاغي نبوي شريف. التصوير الأدبي في بلاغة الرسول للتعامل بالحسنى مع الناس: أولًا: عبر عن السماحة في صورة بلاغية تتضمن الدعاء منه -صلى الله عليه وسلم- لمن يتعامل بها، ودعاؤه مستجاب في كل الأحوال، فيرحمه الله تعالى في

الدنيا والآخرة، لأن السماحة سخاء في النفس وكرم في الخلق، ولين في الطبع، تربي المسلم على حسن المعاملة. ثانيًا: صور النبي -صلى الله عليه وسلم- من يستحق الرحمة من الله عز وجل في تعبير بلاغي فريد، حين جعل السماحة هي الرجل نفسه، والرجل هو السماحة نفسها، لا فرق بينهما فقال: "يرحم الله رجلًا سمحًا"، كما نقول للقاضي: العدل، أي: أنه العدل نفسه، فكلاهما سواء. ثالثًا: عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- السماحة في البيع في صورة أدبية بلاغية عميقة، تتناول الأخلاق السامية في المعاملة، وتعتمد على القيم النبيلة في التجارة، وفي رعايتها صلاح حال الأفراد والمجتمع لضرورة تبادل المنافع بين الناس بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فلا يبالغ البائع في الربح، بل يقنع باليسير منه، فيكثر الإقبال عليه، وتروج تجارته، ويتحقق له الغنى والثراء، أما الذين يبالغون في الربح من أهل الفظاظة لا السماحة، ينفرون الناس من التعامل معهم، فتبور تجارتهم، وتكسد ساحتهم، وينتهون إلى الإفلاس فيحل عليهم الغضب لا الرحمة. ومن السماحة في البيع أن يحدد ثمن بضاعته، حتى لا يتعرض لكثرة المساومة والحلف لترويج سلعته، وقد ذم القرآن الكريم الذين يروجون سلعتهم بالأيمان الغموس، ويشترونها بالحلف الكاذب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد امتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- التاجر الصادق فقال: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء"، وتقتضي السماحة من البائع عدم الغش أو البخس في الكيل والميزان، مما يتنافى مع المروءة فذلك عين الكذب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا".

رابعًا: عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- السماحة في الشراء بصورة أدبية بليغة على سبيل التحقيق، حين عبر بإذا، التي تفيد الحقيقة لا الشك أو التردد أو الكذب، كما تفيد السماحة في الشراء على سبيل الحقيقة في وقوع فعل الشراء في الماضي، الذي يدل على تحقق الوقوع، أي لا بد منه، فقال: "سمحًا إذا اشترى"، فيكون سهل المساومة في شرائه، سمحًا في تقويم البضاعة والسلعة فلا يبخس قيمتها، ولا يعمل على تطفيف الميزان والكيل وزيادته، فإن ذلك سحت، وأكل الأموال بالباطل، قال تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . خامسًا: عبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن السماحة في اقتضاء الدين وقضائه؛ في صورة أدبية بليغة في قوله: "سمحًا إذا اقتضى وإذا قضى" فعبر أيضًا بإذا وبالفعل الماضي على سبيل التحقيق في الوقوع والتنفيذ، فيكون الدائن "سمحًا" في قضاء حقه، يطلب دينه في لين لا في فظاظة وغلظة، ولا خصومة وشدة، بل دعاه أن يتخلى عن الدين، لإ عسار المدين وجعل ذلك من زكاة ماله من سهم الغارمين مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وأما السماحة في قضاء الدين؛ فعلى المدين أن يبرّ بوعده في رده في الموعد المحدد، إذا كان قادرًا وحيث لا يضطر إلى أسلوب المماطلة فهي ظلم يخل بالمروءة والسماحة، قال صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم"، وقال أيضًا: "أعطوه دينه أعطوه إن خيركم أحسنكم قضاء" ورفع في منزلة السخي فقال: "السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار".

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- من خصائص الإسلام السماحة والتسامح، والرقة واللطف واللين، فليس فظًا ولا غليظًا ولا عنيفًا ولا إرهابيًا، ولا متشددًا ولا عسيرًا، ولا معقدًا ولا متعنتًا. 2- يحث الإسلام على السماحة في البيع والشراء بلا جدال ولا قسم ولا حلف ولا غبن ولا غش، ولا تطفيف في الكيل والميزان، ولا مبالغة في الثمن ولا في الربح. 3- حث الإسلام على السماحة في اقتضاء الدين أو الحصول عليه من المدين فلا تكلفه ما لا يطيق، بل يمهله، حتى يستطيع قضاءه، أو يتصدق عليه به من سهم الغارمين، دون أن يشعره بالإهانة أو الإذلال؛ لأن هذا حق للسائل والمحروم على الغني. 4- حث الإسلام على السماحة في قضاء الدين لصاحبه؛ فيعطيه إياه في موعده، ولا يماطل فيه إذا كان قادرًا على أدائه، بل يتبعه بالشكر والتقدير والعرفان بالجميل، حتى يشجعه على أن يتعاون مع غيره بسد حاجته، وقرضه ما يحتاج إليه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . 5- من اتصف بالسماحة في هذه الأمور، استحق الدعاء له من الرسول -صلى الله عليه وسلم، ودعاؤه مستجاب، فلا يصح أن يحرم الإنسان نفسه من رحمة الله تعالى ورضوانه.

التمتع بالطيبات بلا رياء ولا كبر ولا إسراف

التمتع بالطيبات بلا رياء.. ولا كبر.. ولا إسراف: أخرج البخاري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: $"كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة". روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير بالأمر في هذا الحديث الشريف، حين عبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الأكل والشرب واللبس والتصدق بفعل الأمر على سبيل الوجوب، أي لا بد منه للإنسان، ولا يستطيع أن يستغني عنها كلها؛ لأن الامتناع عنها يؤدي إلى الهلاك، فحرم الله عليه التهلكة، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وقال أيضًا: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، كما يجب أن يكون قوي الجسد ليقوى على طاعة الله فيما أمر ونهى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، كما يجب أن يكون قويًا عزيزًا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وكما يجب على المؤمن أن يتصدق مما زاد عن ذلك لتحقيق غايتين شريفتين؛ الأولى: استحقاقه الجنة في الآخرة، والثانية: في الدنيا وهي أن يحفظ نفسه من فتنة المال ومن اللهو واللعب والزينة والإسراف والتفاخر، وترد عنه شرَّ المال من الحسد والحقد والبغضاء من المحروم والحاسد، مصداقًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي الحديث الشريف: "ليس لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت". روعة التصوير الفني في بلاغة التعبير بعدم الإسراف ليحث على التوسط والاعتدال في الأوامر السابقة من المأكل والمشرب والملبس والتصدق، وقيدها بذلك، وانتقى لها من بين الأساليب العربية "عدم الإسراف" لتتلاءم مع التصرفات البشرية مُستمدًا بلاغته النبوية الشريفة من بلاغة القرآن الكريم في قوله تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا

يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، وتظهر روعة البلاغة النبوية في هذه الكلمة الموجزة لتصور حرص الإسلام على القيم الخلقية السامية، التي يحافظ بها المؤمن على قوة جسده، وعزة نفسه بعدم الإسراف في المأكل والمشرب، فلا يتعرض للتخمة والكسل والمرض، كما في الحديث الشريف: "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"، وفي آخر "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع"، وكذلك عدم الإسراف في الملبس لصيانة جسده وحفظه، فيظهر في أجمل صورة، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، وفي الحديث الشريف: "إن الله جميل يحب الجمال"، وفي إسراف الملبس ما يعين على تدمير الاقتصاد وحرمان الغير، وإثارة الحقد والبغضاء عند المحرومين، وكذلك لا يسرف في الصدقة، بل يتوسط حتى يذر أولاده أغنياء من بعده لا يتكففون الناس، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وخير الصدقة التي ينفقها الإنسان على نفسه وأهله وولده ومن تلزمه نفقتهم، قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} إلى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} . روعة التصوير الأدبي لبلاغة الحديث في التعبير بقوله: "ولا مخيلة" أي: بدون كبر وخيلاء ومفاخرة، فالبلاغة في هذه العبارة مع إيجازها؛ تتضمن قيمًا خلقية كثيرة؛ أولًا: أن المخيلة في المأكل والمشرب والملبس والتصدق؛ تعود على الإنسان في الدنيا والآخرة بالغرور والفساد، والضرر وإثارة الحقد والبغضاء والحسد، فتدمره وتهلكه كما ورد في الحديث القدسي: "العظمة ردائي والكبرياء إزاري فمن نازعني أحدهما

أخذته ولا أبالي"، وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وفي الحديث الشريف: "ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء" وفي حديث آخر: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، قال: "الكبر بطر الحق وغمط الناس". القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- حافظ الإسلام على النفس البشرية وحذر من تعريضها للهلاك، ومن أسبابه الامتناع عن أكل الطيبات، وعن تناول المشروبات المشروعة والتزين بالثوب الجميل. 2- لذلك حث الإسلام على أن يحافظ على النفس والجسد القوي فأمر على سبيل الوجوب بالطعام والشراب واللباس، بلا إسراف ولا تظاهر أو كبرياء، وبلا مبالغة أو تطاول. 3- كما حث الإسلام على الصدقة أيضًا على سبيل الوجوب، وذلك فيما زاد عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم، سواء أكانت هذه الصدقة فرضًا، كالزكاة المفروضة بأركانها وشروطها، أم كانت نفقة في سبيل الله، فلا يكنزها في بيته، بل يقيم بها مشروعات زراعية أو صناعية أو اقتصادية عامة، يعود نتائجها على أمته الإسلامية والمجتمع من حوله فتعتز بها عن حاجتها لغير المسلمين، وتقوى بها الإنفاق والاستثمار والإنتاج في سبيل الله، على سبيل الوجوب أيضًا لأن الله حرم كنز المال كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . 4- حرم الإسلام الإسراف في كل شيء في المال والطعام والشراب واللباس لأنه السبب في تدمير الأسر والأمم وهلاكها. 5- تحريم الكبر والعجب، والتظاهر والرياء والمباهاة والتطاول؛ فهي آفة التقدم والثراء، ومعاول الهلاك والتدمير.

لا تغضب

لا تغضب: أخرج أبو داود عن عطية السعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الغضب في هذا الحديث الشريف يستمد روافده من فصاحة الكلمات في جزالتها وفخامتها وعنف الدلالات الصوتية لحروفها، وبلاغة الألفاظ في خصوبة معانيها وعمق أبعادها وما توحي به من المقاومة والشدة والصراع؛ لكي تعبر عما يهدف إليه الحديث الشريف من العنف والتمرد، والقوة والصراع والمقاومة والدفاع. تجد ذلك هنا في كلمات كثيرة منها: "إنّ" وتكررت ثلاث مرات لزيادة التأكد وعنف المقاومة والصراع، وكذلك كلمة "الغضب" وما يتضمن معناها من الغليان والهيجان والثورة والشدة والعنف، وكذلك كلمة الشيطان، وتكررت مرتين للزيادة والتأكيد في معانيها، وما توحي به من التمرد والغواية والإفساد والعداوة والحقد والفتنة، وكذلك كلمة النار وما تدل عليه من الاشتعال واللهيب المحرق، والماء وطغيانه المدمر. تلك الكلمات تصور الصراع العنيف بين هوى النفس وغواية الشيطان، وما يدور بينهما من المقاومة العنيفة والدفاع العنيد في ثورة وغليان حتى ينتصر أحدهما على الآخر. التصوير الأدبي لبلاغة الأسلوب والنظم في تشخيص الغضب وآثاره المدمرة، تجد ذلك في بنية الأسلوب النبوي الشريف، ودقة النظم البليغ،

حين عبر بهذه الصور البليغة على النحو التالي جاءت العبارة الأولى: "إن الغضب من الشيطان"، تحمل شحنات من التحذير والتخويف والترهيب والتعبئة النفسية والروحية لمقاومة الانفعال، وهوى النفس ومصارعة الشيطان، وذلك عن طريق روافد التصوير الأدبي المختلفة، التي تتفجر من معاني الغضب وعداوة الشيطان للإنسان بمؤكدات ثلاثة هي: إنّ، واسمية الجملة وتعريف الغضب والشيطان، لكي ترد كل إنكار تتفتح له كل منافذ الإدراك، وتسد عليه كل الأبواب، ثم تأتي العبارة الثانية: "وإن الشيطان خلق من نار"؛ لتؤكد المعاني والقيم الخلقية في العبارة الأولى بمؤكدات، هي "إنّ" واسمية الجملة وتعريف الشيطان والنار، وتكرار كلمة الشيطان مرة صريحة، وأخرى بضميره الذي يعود عليه في عبارة "خلق من النار"، ثم الوعيد والفزع الشديد من ذكر النار، وما تحمل من قيم التخويف والإنذار والعذاب، وجاءت العبارة الثالثة لتؤكد السابقتين، وهي "إنما تطفأ النار بالماء" لكن التأكيد هنا بأسلوب بلاغي آخر ومتنوع، وهو أسلوب القصر "بإنما"؛ ليحسم أمر الغضب والشيطان، فيسدُ عليه كل منافذ الغواية والتأثير، فأكد جازمًا وقاصرًا كفاية الماء على إخماد النار وتدميرها، فلا تترك لها أثرًا مطلقًا على سبيل اليقين والتحقيق، ثم تؤكده "بإذا" في العبارة الأخيرة وهي: "فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"، فقد أفادت وأكدت اليقين والتحقيق لما تفيده "إذا" من التحقيق لا الشك، وما يفيده أسلوب الشرط والجزاء من الجزم واليقين، بعد إذا، لأن الوضوء مترتب على الغضب بإزالته لا محالة، ترتب الجزاء على الشرط قطعًا بلا تخلف أو تأخير. روعة التصوير الفني في جمال الإيقاع وتدفق الموسيقى وعنفها: من الروافد الجمالية في بلاغة هذا الحديث الشريف جمال الإيقاع، وتدفق الموسيقى وعنفها مما يتلاءم مع قيمه الخلقية، تجد ذلك في الإيقاع الثقيل

للأصوات الثقيلة في الحروف التي تكونت منها الكلمات، وهي حروف الغين والضاد في الغضب، والشين والياء والطاء في الشيطان، والخاء واللام والقاف والنون والطاء والهمزة والميم والغين والضاد وغيرها في بقية العبارات، وكذلك الوقع الشديد من تكرار الشدات على بعض الحروف في معظم الكلمات، مما يتلاءم مع معاني الغضب والشيطان والنار الثقيلة على النفس والمخيفة للإنسان. كما تجد التدفق الهادر المخيف في موسيقى العبارات، وتراكم الأبعاد والمسافات الزمانية والمكانية في توازن هذه العبارات وتتابعها في الضغط والعنف على النفس حتى ينقطع "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار من الماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"، فكل عبارة من هذه تنوء بكثرة من الشحنات الموسيقية الثقيلة والبطيئة، الصادرة من كثرة الشدات والمدات في حروف اللين، وبطء الكلمات وثقل الحركات عما يتناسب مع سماحة الغضب ورذالة الشيطان وخبثه وكيده، لذلك كله أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- محذرًا من الغضب، في أحاديث كثيرة منها؛ أن رجلًا قال له: أوصني فقال: "لا تغضب" فردد مرارًا "لا تغضب"، وقال أيضًا: "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم، ألم تروا حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه"، وقال أيضًا: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- يحافظ الإسلام على النفس والجسد في الإنسان، فيجب على الإنسان أن يكون لطيفًا راضيًا لا عنيفًا متمردًا، وأن يكون هادئًا متأنيًا، لا ثائرًا عجولًا، وغير ذلك مما يحفظ عليه روحه ونفسه الصافية، وجسده القوي "فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..".

2- لذلك جعل الله الغضب من الشيطان، لأنه شر وحقد وضغينة يحيكها الشيطان للإنسان فهو عدو له مبين، يتصدى له بالإيقاع والتصدي والذلة والهوان والكيد، فهو يجري من النفس كمجرى الدم في العروق. 3- يحدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ملامح الغضب وصفاته، فهو يحول جسد الإنسان ووجهه إلى جمرة من اللهب والنار، فكأنه يستمد ذلك من طبيعة خلق الشيطان، فهو من النار لا من الطين. 4- لذلك حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يطفئ المؤمن من هذه الجمرة المتقدة من النار بالماء، فيقوم ليتوضأ به؛ فإن ذلك هو السبيل في تدمير الغضب وإطفائه، حتى تنصرف النفس عنه. 5- ليس التحول عن الغضب بالماء فحسب، بل بتغيير الحال والوضع الذي عليه الغاضب، فيصلي إذا كان متوضئًا، أو يقوم إذا كان جالسًا، أو يجلس إذا كان قائمًا، أو يخرج من البيت، أو يدخل في مكان آخر، وبصفة عامة يغير الوضع الذي هو عليه، كما في أحاديث أخرى في مقامات أخرى.

حرية الرأى

حرية الرأي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمَّعَةٌ، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم". قضايا الحديث الشريف: الإسلام يحذر من التقليد الأعمى والتبعية المطلقة: ينفر الإسلام من التقليد الأعمى، والتبعية المطلقة بدون وعي أو تقويم، بل يحث الإسلام على حرية الفكر في شئون الحياة المختلفة، يدرسها دراسة واعية ودقيقة،

ويبحث جوانبها المختلفة، ولا يكتفي بتقليد الآخرين في آرائهم، ولا يكون تابعًا لغيره في فكره ورأيه على إطلاقه، بل يكون له موقف من هذا، يهتدي إليه بعقله بإثبات الدليل، واستشارة الغير والموازة بين الآراء المختلفة حتى ينتهي إلى الرأي الصحيح، الذي يتجرد فيه من التقليد والتبعية المطلقة، لذلك حذر الحديث الشريف من الإمعة، الذي يقلد الناس بدون وعي في إحسانهم وإساءتهم، مستمدًا هذا التحذير من القرآن الكريم، الذي يذم ذلك قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . فالمقلد والتابع بلا شخصية ولا رأي، لا يقوم على التصديق والاعتقاد، بل هو كالناعق يهيم بكل صيحة، ويسمع كل ناعق، ويطير وراء كل هيعة. الاعتداد بالرأي وحرية التفكير: يحث الإسلام في هذا الحديث الشريف على الاستقلال بالرأي والاعتداد بالنفس، ويدعو إلى حرية التفكير السديد، ويرغب في التأمل الصائب والروية والتثبت، بل لا يعتد إلا بالتصديق والاعتقاد الكامل، حتى تتحول الفكرة والآراء إلى عقيدة تقوم على التصديق والاعتقاد، وهذا هو معنى "وطنوا أنفسكم"، فيمعن الإنسان الفكر ويقلب الآراء، ويتثبت من الصحيح والخطأ والدليل الواضح، وباستشارة الآخرين وتفيند آرائهم، فيتتبع ما يحسنه الناس، ويطرح ما يخطئون فيه فلا يتبعهم في مساوئهم وفسادهم وغيهم وضلالهم، وهذا ما يتفق مع منهج القرآن الكريم في الحث على التأمل والنظر، والترغيب في البحث والدراسة في الحياة والكون وقضايا الإنسان،

ومقتضيات حياته، ليتعرف على الحق والحقيقة، ويكشف الباطل والزيف والضلال، ويقف على دلائل قدرة الله عز وجل وإبداعه في خلقه ومخلوقاته ليزداد إيمانًا وتصديقًا، ويعمل على الإصلاح والبناء القوي، ويرتقي بالمجتمع إلى مدارج الرقي والتقدم والحضارة، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقال أيضًا: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ... } ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . الشورى وحرية الرأي: لا تتعارض الشورى مع الحرية في الفكر والاعتداد بالرأي، لأن استشارة الآخرين، وتفنيد آرائهم، ودراستها وبحث فكرهم، والموازنة بين الآراء المختلفة، كل ذلك يعين على حرية التفكير الواعي المدروس، ويسدد الرأي الصائب، ويهدي إلى الفكرة الصحيحة، ويصل بكل ذلك إلى جوهر الحقيقة المدعومة بالأدلة، ووجهات النظر المختلفة، لأنها نبعت من خلال تجارب متنوعة، ومناظرة بين الآراء المختلفة، وتمييز بين الفكر الصالح والطالح، لذلك سميت سورة في القرآن الكريم بالشورى تحث عليها وترغب فيها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- يحرم الإسلام التقليد الأعمى بدون وعي أو إدراك، بل لا بد من التصديق والاعتقاد والقناعة والفهم. 2- كما يحرم التبعية للغير، القائم على إعادة ما يجري على ألسنة الناس من العبارات المعتادة، وهي التبعية المطلقة، بأن يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، من غير اعتقاد واقتناع، أو تأمل ومشورة.

3- لذلك يحث الإسلام على الاقتناع والاعتقاد، والروية والتأمل والتثبت والتمكين من الصحة أو الخطأ، المدعم بالدليل والحجة والقناعة، ومستمدًا من المشورة، وتبادل الرأي ووجهة النظر "من اجتهد فأصاب فله أجران فأخطأ فله أجر". 4- إذا اعتمد المؤمن على ما رغب فيه الإسلام من الوسائل السابقة فإنها تؤدي بالتالي إلى أنه يتبع الناس في إحسانهم، ويتجنبهم في إساءتهم لذلك تستقيم حياته، وتكون له شخصيته المتميزة بالرأي والقناعة والتصديق.

بين الغبطة والحسد

بين الغبطة والحسد: أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالًا؛ فلسط على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن الحسد المحمود وهو الغبطة في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين" فالصورة البلاغية الأولى تقوم على أسلوب التأكيد "بلا" النافية، والاستثناء "بإلَّا" لإثبات الحكم وتقريره مدعومًا بالدليل، وتقوم على أسلوب القصر، حين قصر الاثنين فقط على هذا النوع من الحسد وهو الغبطة، وما عداها يقع فيه الحسد المحرم، الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} ، بل أمرنا أن نستعيذ منه في كل وقت وحين في سورة الفلق، والصورة الفنية الثانية تقوم على الأسلوب المجازي وهو الكنانة، فليس المراد منه الحسد في قوله: "لا حسد إلا في اثنتين"، وهو المعنى القريب وهو محرم، بل كنى بذلك عن حسد محمود، وهو الغبطة وهي أن يتمنى المغتبط مالًا يهلكه في الحق مثل غيره، وأن يكون مثل غيره من العلماء والحكام؛ ليعلم الحكمة؛

وينفع الناس بعلمه، وهذه الغبطة محمودة، وأما الحسد المذموم، وهو أن الحاسد يتمنى زوال النعمة عن غيره، لتكون له وحده فقط، وأما المنافسة فهي أشرف من الغبطة والحسد، لأنها ضرب من التفوق في ساحة العمل والعلم الجاد؛ ليبذل كل واحد أقصى طاقاته، ليتفوق على غيره، وهو ما يحث عليه الإسلام في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . التصوير البلاغي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "رجل أتاه الله مالًا"، تدل على التعظيم للرجل الموصوف بهذه الصفة، أي رجل عظيم، ولأن المال ليس ماله، وإنما هو مال الله يؤتيه من يشاء: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وكذلك التنكير في قوله: "مالًا" أي كثيرًا، يزيد عن حاجته؛ فتجب فيه الزكاة والنفقة في سبيل الله، والصورة الفنية الثانية في قوله: "فسلط على هلكته في الحق" فالتعبير بالفاء للتعقيب السريع؛ للتصرف في المال بالإنفاق والصدقة والاستثمار لمصلحته ولمصلحة المسلمين، حتى لا يتورط في كنزه المحرم، ثم عبّر ببناء الفعل للمجهول حتى تتنوع الفواعل ليكون أعم من فاعل واحد، فدوافع البذل والعطاء عنده كثيرة، منها نفسه الطيبة، وحب عمل الخير، وتوفيق الله له بالبذل والنفقة، وحث أهل الخير له على النفقة والعطاء والكرم، ومقتضيات المجتمع الإسلامي وحاجاته الملحة إلى التعاون؛ والتكامل لبناء الاقتصاد الإسلامي بناء قويًا وعزيزًا، وغيرها من الدوافع الكثيرة؛ التي تدخل في دلالات عموم الفاعل، والصورة الفنية الثالثة في "هلكته في الحق"؛ فلا يقتر في ماله شحًا وبخلًا أو حرصًا، ولا يسرف فيه وفي الحرام البين المذموم، متناقضًا مع الحلال البين المحمود المشروع لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وقوله تعالى أيضًا: {وَآتِ ذَا

الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} . التصوير الأدبي في بلاغة التعبير الرائع في قوله: "ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" فالتنكير في "رجل"، لتعظيم منزلته عند الله وعند الناس، فليس هناك أفضل من عالم حكيم بهذه الصفات، وعبّر عن الحكمة معرفة بالألف واللام، لإفادة أنها حكمة معهودة وشاملة نابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، تقوم على منهجهما من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل جوانب الحياة، فليس المراد بالحكمة والعلم أن يكون مقصورًا على العلوم الشرعية فحسب، بل الشرع يحث على العلوم الأخرى في شتى المجالات الزراعية والصناعية والهندسية والطبية والرياضية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والفلكية، وغيرها من العلوم التي يحتاجها المسلمون في مختلف العصور، ليكونوا أقوى الأمم وأعزها؛ لتبلغ في تنافسها الدولي القمة في التفوق العلمي والأخلاقي والاقتصادي والمادي النابع من القيم الأخلاقية والمثالية السامية، وهذا هو مجال التنافس العالمي والعولمي اليوم، وقد حث عليه هذا الحديث الشريف منذ أربعة عشر قرنًا في جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} . القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- تحريم الحسد في الإسلام هو الذي يقوم على الإيثار والأنانية والإضرار بالمحسود، وذلك في جميع وجوهه ما عدا وجهين فقط لا حسد فيهما مذموم؛ بل هما من باب الغبطة أو الحسد الممدوح، ألا وهما الغني الذي جمع ماله من حلال ومصدر طيب، وأنفقه في حقه كما أمر الله تعالى، والعالم الحكيم الذي يعمل بعلمه.

2- أن الثراء والغنى من الله عز وجل، يضعه الله تعالى فتنة واختبارًا لعبده ليشكر أو يكفر، فمن شكر الله تعالى جمعه من المصادر الطيبة الحلال، وأنفقه فيما أمر الله عز وجل، مبتعدًا عما نهى عنه. فلا يقع فيه الحسد، ومن كفر جمعه من المصادر الخبيثة الحرام، وأنفقه فيما يغضب الله عز وجل أمرًا ونهبًا أو حبسًا واكتنازًا، وهذا يقع فيه الحسد المذموم والبغض والكراهية والعياذ بالله تعالى. 3- العلم والحكمة من فضل الله عز وجل على عبده، فمن اصطفاه الله عز وجل لها، فتعلم وعلم الناس، وتعلم وعمل بما تعلم؛ فكان قدوة حسنة لغيره، فهذا الوجه لا يقع فيه الحسد المذموم؛ بل تغبطه الناس على هذه النعمة الجميلة، أما من تعلم الحكمة بلا سلوك أو عمل ليتظاهر بها كبرًا وترفعًا وغنى؛ فهذا الوجه يقع عليه الحسد المذموم، وكراهية الناس لصاحبه وبغضهم له.

مجلس العلم

مجلس العلم: أخرج البخاري عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؛ أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه". التصوير الأدبي في بلاغة التعبير عن جماعة كبيرة تنوعت إلى ثلاث جماعات، حسب تصرفاتها من مجلس العلم، في قوله: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله" تدل هذه الصورة الفنية

على قيم أخلاقية سامية، منها صورة أداة العرض والإثارة لأمر هام يحمل قيمًا تعليمية للناس، وذلك في قوله: "ألا أخبركم" عما أوحى الله إليَّ من أمر هؤلاء النفر: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، ومنها صورة النفر الثلاثة تدل على أنهم ليسوا ثلاثة رجال فقط، بل هم ثلاثة نفر، والنفر هم جماعة دون العشرة، وهذا يدل على أنهم ثلاث جماعات، تنوعت حسب تصرفاتهم من مجلس العلم؛ فمنهم جماعة أوت، وثانية استحيت، وثالثة أدبرت، والصورة الفنية في قوله: "أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله" فكلمة "أحدهم" أي أحد الجماعات الثلاثة أوت إلى الله، فبلاغة "أوى" تدل على السرعة والحرص على القرب من الرسول -صلى الله عليه وسلم، وفي سرعة الإقبال عليه وعلى العلم، دلالة على سرعة الإقبال على الله ومحبته؛ لأن "أوى" تجمع بين معاني الإسراع إلى الجلوس والإقبال والتلقي أكثر من التعبير بغيره، مثل: لجأ وقعد وجلس وغيرها، والصورة الفنية في قوله: "فأواه الله" بمعنى أن الله كان أسرع في الاستجابة في تفضله بالرحمة والرضوان؛ لدلالة فاء التعقيب السريع على ذلك، ثم انظر إلى الأسلوب البديع في المشاكلة والمجانسة بين الفعلين "أوى"، مع اختلاف الفاعل والمعنى، ليثير الانتباه ويوقظ الذهن والوجدان عن طريق التناسق بين اللفظين مع اختلاف المعنى؛ فأوى الأولى بمعنى الجلوس، والثانية بمعنى الرحمة من الله تعالى بالجالس ورضوانه عليه. التصوير البلاغي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه" يدل على قيم أخلاقية سامية، حين عبر عن النفر الثاني بأن اتخذوا موقفًا آخر، فآثروا الحياء وترك المزاحمة حياء من النبي -صلى الله عليه وسلم، وممن حضروا قبلهم، أو حياء من ترك الجلسة العلمية كما فعل النفر الثالث، فجلسوا حيث انتهت بهم حلقة العلم، وفيه دلالة أيضًا على استحباب المزاحمة في

طلب العلم، حثا عليه وترغيبًا فيه، بشرط عدم الضرر والإيذاء، وعدم الفوضى والجلبة، وعدم التعدي على حقوق السابقين بعد أخذ مواقعهم من الجلسة العلمية لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وما أروع المجانسة في هذه الصورة الفنية بين الفعلين "استحيا" مما يثير الانتباه ويوقظ العقل والوجدان، ليكون أكثر إيمانًا واقتناعًا مع اختلاف المعنى فيهما، فالأول بمعنى انكسار يعتري الإنسان خوفًا من الذم، والثاني وهو "استحيا الله منه" ومعناه ليس كذلك، بل المراد منه لازمه، وهو الرحمة والقبول ورفع العقاب عنه. التصوير الفني في بلاغة قوله: "وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه"؛ في صور فنية تعبر عن قيم تشريعية، تحذر فيها المسلم من الجهل والإعراض عن العلم، والنفور من الجماعة، وتفرقها؛ لترغيبه في العلم والإقبال عليه، والوحدة والترابط والحرص على الطاعة أمرًا ونهيًا، وذلك في تصويره الفني الرائع "فأعرض فأعرض الله عنه" بمعنى فأدبر عن المجلس وترك العلم والرحمة والرضوان، وآثر الجهل والسخط والعقاب، فاستحق ذلك، لأنه منافق أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك عن الله تعالى، لحديث أنس -رضي الله عنه: "فاستغنى فاستغنى الله عنه"، وفي ذلك جواز الإخبار عن أهل المعاصي زجرًا لغيرهم، وليس هذا من باب الغيبة المحرمة، ولا يخفى ما في هذه الصورة الفنية البديعة من التجانس بين الفعلين، فأعرض الأولى بمعنى أدبر وولى وترك المجلس، وأعرض الثانية بمعنى مختلف تمامًا، وهو الغضب والسخط والعقاب الشديد من الله تعالى، فالمعاني مختلفة والألفاظ متجانسة في الحروف والحركات؛ لتكون الصورة الفية أجمل إيقاعًا وأقوى تأثيرًا واقتناعًا، إنها بلاغة من اختص بجوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم.

القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف: 1- المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض وموطن الصفاء الروحي والحكمة والعلم والعبادة، فهي مصدر الإشعاع والتعليم والعبادة والتهذيب. 2- حرص الصحابة على التعليم والأخذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فكانوا خير الناس وخير القرون والسلف الصالح -رضي الله عنهم أجمعين. 3- موقف الناس من تلقي العلم والجلوس في مجالسه ثلاثة، أفضلهم جميعًا هو الذي يزاحم إلى مجلس العلماء، ويسرع إلى الاغتراف من علمهم، ويحرص على المتابعة والتلقي والفهم، والمنافسة والتقدم على غيره في تحصيله، وأوسطهم هو الذي يقبل على مجالسه حيثما كان هو، وفي أي موقع من مجالسة، بلا مزاحمة أو تدافع أو منافسة؛ فهو يجلس حين ينتهي به المجلس، دون بحث عن فرجة قريبة أو مكان ملاصق للعالم؛ فالأول منهما أوى إلى الله فأواه الله، وتغشاهم بفضله ورحمته، ورفع منزلتهم عند الله لأنهم اختاروا الأفضل والأولى، وأما الثاني فلم يحرمه الله عز وجل من رحمته؛ لأنه استحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث الذي ترك المجلس وأعرض عنه فأعرض الله تعالى عنه وغضب عليه. 4- في هذا الحديث الشريف يحث الإسلام على التفوق العلمي، وعلى المنافسة فيه، لأنه دين العلم والتفوق البشري والعلمي؛ فبه يعتز المسلمون وينتشر الإسلام، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، لذلك فضل الله تعالى رسوله بالعلم والحكمة على سائر البشر: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .

ثبت الموضوعات

ثبت الموضوعات: الصفحة الموضوع 3 تقديم الفصل الأول: الإسلام والإيمان 6 الأعمال بالنيات 10 حلاوة الإيمان 13 كمال الإيمان 16 الإيمان الكامل 19 النخلة كالمسلم 22 بين المسلم والمهاجر 26 بين المسلم والفاجر 29 من أخطر صور النفاق: ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث الفصل الثاني: الوضوء والصلاة 33 الوضوء يمحو الخطايا 36 الغر المحجلون 39 بعثتم ميسرين لا معسرين 42 التيمم 47 المؤمن لا ينجس 50 الجمعة عيد المسلمين 53 من بنى مسجدًا 56 الصلاة أحب الأعمال إلى الله تعالى 59 وجبت شفاعتي

تابع ثبت الموضوعات: 62 الركوع قبل الصف 65 لا تخفروا الله في ذمته 68 السكينة والوقار عند الصلاة 71 إذا نعس أحدكم 73 التجوز في الصلاة شفقة الفصل الثالث: الصوم والحج 77 شهر عظيم مبارك 80 شهر الصبر والمواساة 83 الصيام جنة 89 من لم يدع قول الزور 94 من صام رمضان 96 القرآن والصيام يشفعان 99 النهي عن الوصال 102 فمن رغب عن سنتي فليس مني 105 الصيام كالجهاد 109 الصيام والقيام كالحج 112 اليد العليا 115 الحج وفطرة الله تعالى 118 العمرة إلى العمرة والحج المبرور 121 الحج مرة واحدة 124 الوقوف بعرفة

تابع ثبت الموضوعات: 127 قضاء الحج 130 من خطبة الوداع 133 أربع أعجبنني 136 الحج من المال الطيب لا الخبيث الفصل الرابع: حسن المعاملة 140 الحلال والحرام والشبهات 143 سفينة النجاة في الدنيا والآخرة 146 الإسلام يسر لا عسر 149 إن الخير لا يأتي إلا بالخير 153 واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا 156 الأمن والسلام 159 بين البخل والإنفاق 163 منابع الخير والحب في الإنسان 167 حسن المعاملة في الإسلام 170 التمتع بالطيبات بلا رياء ولا كبر ولا إسراف 174 لا تغضب 177 حرية الرأي 180 بين الغبطة والحسد 183 مجلس العلم 187 ثبت الموضوعات

§1/1