التروك النبوية «تأصيلا وتطبيقا»
محمد صلاح الإتربي
مقدمات
- أ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة لكتاب التروك النبوية الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم رسله، وبعد، فإن علماء الإسلام قد خلفوا لنا تراثا علميًا ضخمًا، متعدد المناحي، وما يزال معظم هذا التراث مخطوطًا لم ير النور، ولم يتعرف عليه الباحثون، رغم ما فيه من المعاني الدقيقة والأفكار العميقة التي تخدم واقعنا المعاصر وتنير السبل لأمتنا في مجالات الفكر والتشريع والثقافة، ويقدر بعض الخبراء أن ما بقي مخطوطًا من تراث علماء الإسلام يربو على ثلاثة ملايين عنوان، تقبع في زوايا المكتبات، وظلام الصناديق والأقبية، حتى إن بعضها لم يفهرس فهرسة دقيقة فضلًا عن النشر. فكان من المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود لتقويم هذا التراث واستجلاء ما ينفع الناس منه في عصرنا، ثم العمل على تحقيقه ونشره. وإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في إحياء هذا التراث- لتحمد الله سبحانه وتعالى على أن ما أصدرته من نفائس التراث قد نال الرضا والقبول من أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها. والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة تراث الأمة منذ ما يزيد على ستة عقود، وقد جاء مشروع إحياء التراث
- ب - الإسلامي الذي بدأته الوزارة منذ ست سنوات امتدادًا لتلك الجهود وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسر الله جل وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم في فنون مختلفة تُطبع لأول مرة، ففي تفسير القرآن الكريم أصدرت الوزارة تفسير الإمام العُليمي (فتح الرحمن في تفسير القرآن) وفي علم الرسم أصدرت كتاب (مرسوم المصحف للإمام العُقيلي) ونحن بصدد إصدار جديد متميز للمحرر الوجيز لابن عطية مقابلًا على نسخ خطية عدة. وفي السُّنة أصدرت الوزارة كتاب (التوضيح شرح الجامع الصحيح لابن الملقن) و (حاشية مسند الإمام أحمد للإمام السندي)، و (شرحين لموطأ مالك لكل من القنازعي والبوني)، و (شرح مسند الشافعي للإمام الرافعي)، و (نخب الأفكار شرح معاني الآثار للبدر العيني) إضافة إلى صحيح ابن خزيمة بتحقيقه الجديد المُتقن. وأخيرًا صدر عن الوزارة كتاب: (التقاسيم والأنواع) للإمام ابن حبان وكذا (مطالع الأنوار)، لابن قرقول، وهما ينشران لأول مرة، وهناك مشاريع أخرى يُعلن عنها في حينها. وفي الفقه أصدرت الوزارة: (نهاية المطلب في دراية المذهب للإمام الجويني) الذي حققه وأتقن تحقيقه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي أ. د. عبدالعظيم الديب -رحمه الله تعالى- وكتاب (الأوسط لابن المنذر) بمراجعة دقيقة للدكتور عبدالله الفقيه عضو اللجنة، وكتاب (التبصرة) للخمي، وحاشية الخلوتي في الفقه الحنبلي، وكتاب الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطان الفاسي، وفي الطريق إصدارات أخرى مهمة تمثل الفقه الإسلامي في عهوده الأولى. وفي السيرة النبوية أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية (جامع الآثار لابن ناصر الدين الدمشقي). وفي معتقد أهل السنة والجماعة أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو كتاب (الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد) لابن العطار، صاحب الإمام النووي رحمهما الله.
- جـ - ولم نغفل عن إصدار دراسات معاصرة متميزة من الرسائل العلمية وغيرها فأخرجنا (القيمة الاقتصادية للزمن) و (نوازل الإنجاب) وفي الطريق -بإذن الله تعالى- ما تقر به العيون من دراسات معاصرة في القرآن والسنة، ونوازل الأمة. واليوم يسرنا أن نقدم لكم كتاب التروك النبوية، لمؤلفه محمد صلاح محمد الإتربي، وهو بحث بذل فيه مؤلفه جهدًا كبيرًا، وأراد من خلاله أن يقدم للقارئ شرحًا موسعًا عن موضوع التروك النبوية. وتظهر أهمية مبحث التروك في أنه أحد قسمي السنة، فكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعًا بقوله وبفعله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مشرعًا بالترك كذلك وقد ورد في السنة ما يشير إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قاصدًا الترك وأن الصحابة - رضوان الله عليهم- كانوا ينقلون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الترك كما كانوا ينقلون عنه الفعل سواء بسواء، وما ذاك إلا لما استقر في أذهانهم أن ذلك تشريع للأمة وبيان للأحكام، وأن الترك يتعلق به أحكام شرعية وثواب وعقاب وتكليف. فترك النبي صلى الله عليه وسلم له جانب تشريعي مهم لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه، ولابد للمجتهد من معرفته، وذلك لتوقف الحكم في كثير من مسائل النوازل عليه كما أنه مؤثر في الحكم على العمل بالبدعية أو السنية وكذا في تمييز المصالح المرسلة من غيرها. والترك وثيق العلاقة بباب المقاصد، ولا يكتمل البحث في المقاصد دون البحث في الترك، فمجال البحث التطبيقي في المقاصد لا يكتمل إلا بتناول جانب الترك، كما أن سد الذرائع، وهو من الأدلة التي أخذ بها الجمهور، تندرج أغلب مسائله أيضًا في الترك. لكن ما هي صفة هذا الترك، وهل كل ترك منه - صلى الله عليه وسلم - يكون حجة، أم أن منه ما هو حجة ومنه ما ليس بحجة، وهل استنبط الفقهاء أحكامًا شرعية من تركه - صلى الله عليه وسلم -، وما هي الضوابط التي قام عليها هذا الاستنباط إن وجد؛ هذا ما أراد الباحث بيانه في هذه الدراسة، نسأل الله تعالى أن ينفع بها ويجزيه عليها خير الجزاء. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
إهداء
إهداء إلى العالم الجليل، ذي الفضل البار، والإفضال الشائع، والمحتد الأصيل، والمجد الأثيل، والعزة القَعسَاء، والرتبة الشماء، إمام الفضلاء، وسيد النبلاء، وتاج العلماء، أسد السنة، وزينة الأمة الشيخ أبي إسحاق الحويني بِيُمنِ أبي إسحاق طالتْ يدُ الهدى ... وقَامتْ قَناةُ الدِّيِنِ واشتدّ كاهله هوَ البحرُ مِن أيِّ النواحِي أتَيته ... فَلُجَّتُهُ المعروفُ والعلم ساحِلُهْ شيخي الحبيب أطال الله في الطاعة عمرك، وشفاك وعافاك من كل سوء ضرك، ورفع مقامك، وأعلى رتبتك، وجمعك بالنبيين والصالحين وأكرمك. محمد صلاح الإتربي كفرالشيخ - الأحد 13 رجب 1433 هـ الموافق 3/ 6 / 2012 م
تقديم الأستاذ الدكتور عبد الحميد علي أبو زنيد
تقديم الأستاذ الدكتور عبد الحميد علي أَبو زنيد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اطلعت على الأطروحة المقدمة من الباحث: محمد صلاح محمد الإتربي، المقدمة لنيل درجة الماجستير في أصول الفقه من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، قسم الشريعة الإسلامية، والتي عنوانها: "تروك النبي صلى الله عليه وسلم دراسة تأصيلية وتطبيقية". قسم الباحث أطروحته إلى ثلاثة أبواب، تحت كل باب عدة فصول، وكان موفقًا في هذا التقسيم؛ إذ به سيطر على تقسيم مادته العلمية، وقدم الباحث لأطروحته بمقدمة استوعب الباحث فيها جميع ما سبق وأن كُتب في موضوعها على مر العصور، وتميزت الأطروحة بالجانب التطبيقي حيث حشد الباحث العديد من المسائل التطبيقية المبنية على الترك سواء أكان وجوديًّا أم عدميًّا. في الباب الأول -التعريف بترك النبي صلى الله عليه وسلم- ذكر الباحث صورًا من تروك المكلفين، وهو خارج عن موضوع الأطروحة؛ إذ أن ترك المكلف ليس مصدرًا من مصادر التشريع، وكان الأولى التعرض لما سكت عنه الوحي مما حدث في زمن النبوة، ولم يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم. ما ورد في الأطروحة من مادة علمية: طلبة العلم في أمس الحاجة إليها، وستجد لها موقعًا على رفوف المكتبة الإسلامية. اعتنى الباحث بتخريج الأحاديث والترجمة للأعلام الواردة في ثنايا
الأطروحة. أتبع الباحث أطروحته بالعديد من الكشافات والفهارس التي تعين القارئ على الوصول للمادة العلمية بيسر وسهولة. أتمنى للباحث التوفيق والسداد في حياته العلمية مستقبلًا. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. مقيده أ. د. عبد الحميد علي أبو زنيد الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين رئيس قسم أصول الفقه سابقًا بكلية الشريعة بجامعة القصيم
تقديم فضيلة الشيخ محمد بن عبد المقصود العفيفي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم فضيلة الشيخ محمد بن عبد المقصود العفيفي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد .. فإن لتروك النبي صلى الله عليه وسلم جانبًا تشريعيًّا هامًّا لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه، ومن ثم فلابد للمجتهد المتأهل أن يسبر أغوارها، ويحكم تأصيلها، ويعرف أبعادها وأحوالها، وذلك لتوقف الحكم في كثير من المسائل عليها.
ومع أهمية هذا الباب، لم نقف على مؤلَّف أصولي واحد للأئمة المتقدمين يتناول هذه المسألة المهمة - مسألة التروك - بالدراسة المستقلة. وهذه الأطروحة - التي يشرفني أن أقدم لها - تعد دراسة هامة، جديرة بالاطلاع عليها وفهمها، حيث تعدّ إثراء للمكتبة الإسلامية، وقد انتهى فيها الباحث - حفظه الله - لوضع تصوّر كامل عنها، بعدما بحثها من كافة جوانبها، حتى اكتمل تأصيل هذا الجانب الأصولي المهم. وقد تطلب ذلك من الباحث - جزاه الله خيرًا - جهدًا كبيرًا في البحث والتنقيب، والجمع والإعداد، والمناقشة والترجيح، مما استلزم اطلاعًا وافرًا على المصادر الأصلية الأصولية، وكذلك في الدلالة عليها، والنقل من كتب الحديث المعتمدة، مع تخريجها والحكم عليها قبولًا وردًّا، مسترشدًا بأئمة هذا الشأن وفرسانه. وقد امتازت هذه الأطروحة بسلاسة الأفكار وتسلسلها، والفحص الدقيق للأقوال ونظائرها، ونسبة كل قول إلى قائله والدليل عليه، مع تدوينٍ دقيقٍ للمصادر والمراجع، مما ينبئ عن سعة اطلاع، وفهم ثاقب للباحث حفظه الله ورعاه. وقد كان الباحث - جزاه الله خيرًا - موضوعيًّا في اختياراته، منصفًا في مناقشاته، مع سعة صدر، ورحابة أفق، فجمع في رسالته ما تفرق في غيرها، ولملم شتات الأقوال ورجح بينها، في ترتيب رصين، وتبويب متين. فصارت هذه الرسالة درعًا وسندًا لسنة خير المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، فيفرح بها كل سني متبع، ويغصّ بها حلق كل مبتدع، إذ ردّ الباحث على هؤلاء
المبتدعة، وأبان سوء فهمهم لباب التروك، وما تذرعوا به، ففند شبههم، وأظهر عوار أقوالهم، وذلك بأسلوب علمي، وأدب جم راق. وإنني أهيب بكل طالب علم، وكل داعية بدراسة هذه الأطروحة القيمة، التي شرفتُ بالاطلاع عليها، والتقديم لها، فمن رزق فهم هذا الباب، فقد رزق فهم نصف السنة، فإن السنة فعل وترك، والله المستعان. وإن الجهاد كما يكون بالطعن والسنان يكون أيضًا بالقلم واللسان، وإن أولى ما يتنافس به المتنافسون، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون: ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلًا، وعلى طريق السعادة دليلًا، وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما، ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما، فمن رزقهما فقد فاز وغنم، ومن حرمهما فالخير كله حُرم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. أسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا العمل، وأن يرزقه القبول في الدنيا والآخرة، وأن ينفع به كاتبه وكل من اطلع عليه، سائلًا الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الإحسان في القول والعمل، والإخلاص في السر والعلن، وعلى الله قصد السبيل. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. وكتبه أَبو عبد الرحمن محمد بن عبد المقصود العفيفي
تقديم فضيلة الشيخ ياسر برهامي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم فضيلة الشيخ ياسر برهامي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 75، 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد .. فإن قضية البدعة وضررها على الأمة عمومًا وعلى الصحوة خصوصًا قضية عظيمة الأهمية، وهي مسألة اختلاف واسع بين الاتجاهات الإسلامية، وتحقيقها يتوقف عليه مدى العلاقة بين هذه الاتجاهات، مما له أكبر الأثر في
الوصول إلى الغايات المنشودة. وهذه القضية تأصيلها مبني على ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المختلفة، وأنواع هذا الترك، ولا شك في شدة حاجة طلاب العلم والدعاة إلى معرفة هذا التأصيل، ومواطن الاتفاق ومواطن الاختلاف فيه، لنعرف ما يسوغ وما لا يسوغ من اجتهاد في هذا الباب. وتأتي هذه الرسالة للأخ الكريم الأستاذ محمد صلاح الإتربي حفظه الله - والتي اطلعت عليها إجمالًا، وعلى كثير من أجزائها تفصيلًا - ضوءًا جديدًا في هذا المجال، فيها توضيح عامة المسائل في هذه القضية، وبيان الراجح فيها، قد التزم مؤلفها المنهج السلفي، مسندًا الأقوال إلى مصادرها، أسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها في الدنيا والآخرة. كتبه ياسر برهامي الإثنين 14 رجب 1433 هـ الموافق 4/ 6 / 2012 م
تقديم الدكتور/ أحمد بن عبد الرحمن النقيب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم الدكتور/ أحمد بن عبد الرحمن النقيب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد: تعدُّ هذه الدراسة التي بين أيدينا من الدراسات البينيّة، هذه الدراسات التي تضربُ في أكثر من فن، وثمرتها تمُكن صاحبها من هذه الفنون التي ضرب فيها، وهذا بخلاف الدراسات الجزئية الضيّقة!! أيضًا، مجال الدراسات الأصولية الفقهية مجال ثَرٌّ - وإن تعددت وكثرت فيه الدراسات -، فلا زال الدرس الأصولي الفقهي في حاجة إلى مزيد من الدراسة، ولا يزال كثير من مسائله وقضاياه في حاجة إلى مُناقشة وتحرير!! ومن هذه القضايا تأتي "قضية التروك النبوية"، وهي شائكة، لم يُفرد لها المتقدّمون تصنيفًا، كما لم يُشمّروا عن سواعدهم في إجلائها شأنهم في كثير من قضايا المجال!! بل إن الدارس الأصولي الحديث لم يتوافر على دراسة هذه القضية وأزيد "الشريفة"، لتعلُّقها برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي لا ينطق عن الهوى، والذي تتنوع تروكه ما بين الاعتيادي العرفي والوحي التشريعي، وكان هذا الملمح مُغريًا للدراسة للوقوف على الملامح المعيارية المشكلة كلا النوعين!!
أيضًا، مما يُثير الجدّة في الدراسة: تعلُّقها بالقصد، وهذا التعلق يجعلُ الاجتهاد قائمًا والنظر مُعتبرًا، وهذا ما اجتهد الباحث - جزاه الله خيرًا - في سبره وخوض غماره، في محاولة حثيثة - أراها حسنة - لضبط الألفاظ والمصطلحات المميزة للمجال، أيضًا محاولة ضبط تقسيماته وتفريعاته وتطبيقاته، وهذا كله مُشعرٌ بتمكن الباحث في هذا المجال. ومما يُشيرُ إلي تمكن الباحث - في مجاله -: ترتيبه المنطقي لمادة كل باب، فهو يقسّمه إلى فصول ثم مباحث؛ وعندما يتناول قضية في مبحث فإنه يُعرّفها لغويًّا ثم أصوليًّا، ثم يسوق أدلة كل فريق - عند تعدد التعريفات - وربما رجّح ما يراه، وذلك مثل ترجيحه جواز بناء المآذن في المساجد وأنها ليست بدعة أو حرامًا، وذلك في معرض تطبيقات الترك العدمي، وهو - غالبًا - عندما يُرجّح يستخدم النظر والقواعد والضوابط، مثل ميله إلى أنه لا كفارة على المرأة التي جامعها زوجها في نهار رمضان وهي صائمة؛ ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكت عن حكم المرأة التي جامعها زوجها في رمضان، وجعل الكفارة على الرجل، والمقام مقام بيان مع الحاجة، ولو كان الحكم يختلف باختلاف الأحوال - في مقامنا - لاستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منها، أو ربما رجّحَ ما يذهبُ إليه الجمهور، ثم يأتي بأقسام مسائل الموضوع بطريقة حسنة. ومما يُميّز الباحث ودِراسَتَهُ: فهمه الحسن لموضوعه وحسن الربط بين أبعاضه وأجزائه، واعتماده على ما صحّ من الدليل، وما ضَعُفَ ذكره مع بيان ضعفه - لا سيّما إن كان مشهورًا - كخبر مُراجعة الحباب بن المنذر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - موضع بدر.
أيضًا، من مميزات الرسالة الوحدة العلمية العضوية بين متن الرسالة وهامشها، هذا كله مع حُسن استخدام المصادر وجودة توثيق المعلومة ونسبة الأقوال إلى أصحابها. وبالجملة فإن الدراسة طيّبة مُسدَّدة، وإن كانت هناك ملاحظات يسيرة، فإنها لا تحطُّ من قدر الدراسة ولا تنزل من شأن الباحث الواعد - بارك الله فيه -. وصفوة القول: لقد اطلعتُ على الدراسة فأفدتُ منها أكثر مما لاحظتُ عليها، وأرى أنها دراسة مفيدة لطالب العلم، وأسألُ الله أن يجعلها في ميزان صاحبها، وأن تكون بداية حسنة لسُلَّم التوفيق والرُّقي. وصلى الله وسلم وبارك على النبي الحبيب محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وكتبه د/ أحمد بن عبد الرحمن النقيب قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية كلية التربية - جامعة المنصورة [email protected]
تقديم الدكتور/ أشرف بن محمود بن عقلة الكناني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم الدكتور/ أشرف بن محمود بن عقلة الكناني إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن من نعم الله تعالى العظمى عليَّ أن وفقني لزيارة مصر الحبيبة إلى قلبي عدَّة مرات، وسبب حبي لها أمران؛ الأول: أنها بلد العلماء في القديم والحديث، والآخر: طيبة أهلها وصفاء أُناسها، ومن عظيم منن الله تعالى عليَّ أن هيأ لي أسباب لقيا شيخنا المحدِّث العلامة أبي إسحاق الحويني - حفظه الله
تعالى وشفاه، وفسح في مدته - في زيارتي الثانية لمصر عام 2008 م، التي خصصتها لهذا الهدف، ولو رجحت بدونه لخسرت متعة من أجمل متع الدنيا؛ ألا وهي: متعة لقيا العلماء؛ فإن لقياهم والجلوس معهم جنة الدنيا، كما وصف العلماء، فالحمد لله على ما يسَّر ووفق، وأسأله المزيد من فضله، وعميم إحسانه. هذا وقد وثق بي الأخ: "محمد الإتربي" مرتين؛ مرة حينما استشارني في بعض جوانب من موضوعه القيِّم هذا: "تروك النبي صلى الله عليه وسلم دراسة تأصيليَّة تطبيقيَّة"، والمرة الثانية: حينما دفع إليَّ هذه الرسالة لأقدم لها، وهذا من حسن ظنه بإخوانه، فجزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعلني خيرًا مما يظنون، وغفر لي ما لا يعلمون. وكنت قبل ذلك قد أشرت على أحد الإخوة عندنا في الأردن أن يكتب في أطروحته للدكتوراه في: "مباحث الترك عند الأصوليين"، نظرًا لأهميَّة الموضوع، وكثرة تفصيلاته، وفعلًا اخترت له هذا العنوان مع مفرادته، وبدأ في الكتابة فيه إلى أن أنهاه، ولكن أخانا لم ينله التوفيق في كثير مما كتب، أو على الأقل لم يكتب على الوجه الذي كان في ذهني من التأصيل العلمي، والتطبيق العملي، وبقيتُ أشعر بخيبة أمل تجاه الكتابة في هذا الموضوع إلى حين زيارتي هذه لمصر؛ حيث ساقني القدر بين يدي زيارتي لشيخنا الحويني، أن صحبني أخانا عمرو الحويني إلى بيت الشيخ محمد الإتربي - وفقه الله تعالى -، وكم سررت حينما أبلغني أنه اختار موضوعًا لأطروحته في الماجستير في تروك النبي صلى الله عليه وسلم، وسألت الله تعالى في نفسي أن يُوفق في كتابته لهذا الموضوع، وكنت
بعدها أتابع عن طريق أخينا عمرو الحويني مراحل كتابته وأطمئن على عمله الذي طال وقته، إلى أن هيأ الله تعالى لي أن أزور مصر للمرة الرابعة، وهيأ الله تعالى سبب زيارتي للشيخ محمد الإتربي عن طريق أخينا عمرو دون سابق ميعاد في يوم الثلاثاء 26/ 1 / 2010 م، فأهداني الإتربي نسخة من رسالته، فسررت سرورًا عظيمًا بها، وقلَّبت بعض صفحاتها، وكان يبدو لأول وهلة عظيم الجهد المبذول فيها، وبعدها بيومين هيأ الله تعالى لي زيارة شيخنا العلامة أبي إسحاق الحويني، وكان مما ذكرت لفضيلته أن موضوع رسالة تروك النبي صلى الله عليه وسلم، موضوع مهم، وقد وفِّق الباحث فيه، فكان مما قال - أنقل كلام فضيلته بالمعنى -: "نحن حريصون على نشر مثل هذا الموضوع وتقديمه للناس، ومن النادر أن يكتب أحد مثل هذه الكتابة، وبمثل هذه الطريقة" فاعتبرت هذا شهادة مبدئية للرسالة قبل أن أقرأها، وهي شهادة يُغبط الباحث عليها، ولا تنفعه شهادتي بشيء بعدها. وحينما قرأت الرسالة بعد رجوعي إلى بلدي، ألفيتها رسالة تُشفي الغليل، وتبرئ العليل؛ حيث امتازت بسباكة التأصيل، وحسن التمثيل، وقد استقصى الباحث فيها مسائل الترك عند الأصوليين، ومثَّل لذلك تمثيلًا حسنًا واقعيًّا، مع ما انضم إلى ذلك من ظهور شخصية الباحث ظهورًا واضحًا في كل الرسالة، وإنصاف في التعامل مع المخالف، وتجرد للحق دون تبني رأي مُسبَق وحسن التقسيم والتنويع، كل ذلك في عدم إطالة مملة، أو اختصارة مخلَّة، وقد امتازت الرسالة بميزات كثيرة تدل على سعة اطلاع الباحث وتنوع معرفته للعلوم الشرعيَّة، أعرضها مع التعليق عليها من خلال ما يلي:
أولا: أهمية البحث في تروكه - صلى الله عليه وسلم -.
أولًا: أهمية البحث في تروكه - صلى الله عليه وسلم -. لم ينل هذا الموضوع حظه في دراسات الأصوليين قديمًا وحديثًا، ربما لوضوحه في أذهان العلماء السابقين، وربما لأن كتاباتهم تميزت بمناقشة أصول المسائل ومشاهيرها، وربما كان ذلك من باب: وكم ترك الأول للآخر. ومهما كان سبب ذلك، إلا أنه بات من الضروري جدًّا أن تبحث جوانب هذا الموضوع بحثًا حثيثًا في دراسات المعاصرين، التي امتازت ببحث الجزئيات بحثًا مفصَّلًا مع الاستقراء والتتبع، وهذه نعمة من نعم الله علينا في هذا العصر. وتكمن أهميَّة هذا الموضوع بحسب ما أرى فيما يلي: 1 - أن الترك أحد أنواع البيان، تتعلق به أحكام شرعيَّة، يترتب عليها ثواب أو عقاب، ولتروك النبي صلى الله عليه وسلم دلالات وأحكام تُبنَى عليها فروع كثيرة؛ فكان لابد من تأصيل شامل لكل جزئيات تروكه - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أن الترك أحد أنواع التشريع، فكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشرِّع بالفعل كان يُشرِّع بالترك، وهذا يدل على اختلاف أحوال التشريع وتنوعها. 3 - أن للترك أنواعًا شتَّى، وكل نوع له حكم معيَّن، ومنه ما هو حجة يدل على الوجوب، أو على الإباحة، أو على التحريم، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بالتأصيل والتنويع والتقسيم. 4 - أن إغفال مسألة الترك أوقعت كثيرًا من الناس في الابتداع، ومخالفة السنة، فقالوا بشرعيَّة أشياء، وحسبوها على حساب السنة، وهي تخالف
ثانيا: وجوب إعادة النظر في طريقة التمثيل في كتب الأصوليين.
السنة من كل وجه، وما أوقعهم في ذلك إلا الغفلة عن التأصيل العلمي لمسألة الترك. 5 - أن هناك مسائل معاصرة تتعلق بمسألة الترك، وتأصيل هذه المسألة تأصيلًا واضحًا يُنهى الخلاف في هذه المسائل، ويضع المرء منها على بيِّنة وبصيرة، ويقضي على الجدل الواسع، والخلاف العريض، والنقاش الطويل، مع ما يصحب ذلك أحيانًا من الخروج على آداب الخلاف، كالطعن في النيات، والاتهام بالجمود والتخلف والرجعيَّة؛ والخلاف إذا رَجَعَ إلى أصل يحتكم إليه سَهُل التغلب عليه، وأدى إلى توسيع المدارك، وإلى أن يعذر الناس بعضهم بعضًا فيما يذهبون إليه. وقد هيأ الله تعالى فارسًا هُمامًا أُوتي الجلد في البحث والنظر والتتبع والاستقراء، وكشف عن أهميَّة هذا الموضوع بحسن تقسيمه، وسلاسة أسلوبه، وجميل تأصيله، وأحسب أن كل ما ذكرت من أهداف قد حققه الباحث في هذه الرسالة، فبارك الله في جهوده. ثانيًا: وجوب إعادة النظر في طريقة التمثيل في كتب الأصوليين. اعتادت الكتابة الأصولية - وبالأخص المتأخرة منها - عادة غير حميدة؛ وهي: أن كثيرًا ممن يكتب في الأصول جرى في الكتابة والتأليف على عادة المتكلمين؛ حيث الصعوبة في العبارة إلى درجة الإغلاق، وتجريد القواعد الأصولية من الأمثلة العمليَّة، أو ذكر المثال لمجرد التمثيل على القاعدة حتى وإن كان المثال في ذاته صحيحًا، والخلل في كتب بعض الأصوليين من هذه الجهة من وجهين: الأول: وجود قواعد لا فروع لها. والثاني: عكس الأمر
الأول، وهو وجود قواعد لها فروع، لكن يعتور ذلك أمران: أحدهما: أن تكون الفروع غير صحيحة في ذاتها؛ بل أتَوا بها لمجرد توضيح القاعدة، والآخر: أن تكون الفروع صحيحة، لكنهم يقتصرون على فروع معيَّنة تدور عليها كتب الأصوليين، وكأنه لا يوجد غيرهما في الكتاب والسنة وأقوال السلف، إلى غير ذلك من أساليبهم في التأليف. وقد درج هذا الأسلوب عند الأصوليين من القديم إلى الحديث، حتى سمعت بعض الباحثين في الأصول يقول: "إذا لم تكن الكتابة في الأصول ذات عبارات صعبة ومعقدة ومغلقة تحتاج لبسط وشرح، فليست كتابة أصولية ... " هكذا قال؛ فسبحان الله، وهل أول كاتب لعلم الأصول الإمام الشافعي كانت كتابته كذلك؟! وهل علم الأصول إلا علم خادم للفهم والاستنباط؟ فإذا كانت هذه صفته، فكيف يؤدي غرضه؟ أليس أعظم كتاب وأنفعه للبشرية حتى كان دستورها العظيم، وقرآنا يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، ذو أسلوب سهل سلس يفهمه القاصي والداني؟ ولقد عاب عليَّ أمثال هذا المتحدِّث حينما التزمت في رسالتي للدكتوراه، وفي بعض أبحاثي، أن تكون كتابتي في الأصول سلسة مدعَّمة بالأمثلة الواقعيَّة التي تظهر القاعدة وتوضحها - وأرجو أن أكون وفقت في ذلك - فقال لي غير واحد: لقد خرجت عن الأصول إلى الفقه، بل إلى الفقه المقارن، لماذا لا تذكر المثال وتمضي، فالمهم هي القاعدة الأصولية؟ قلت: عجبًا من مثل هذا الكلام! وهل غرض القاعدة الأصولية سوى التمثيل والتطبيق؟ ألم يقل الإمام الشاطبي: "كل مسألة موسومة في أصول الفقه لا يبنى عليها فروع فقهية،
أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك؛ فوضعها في أصول الفقه عاريةٌ" (¬1)، أليس تنمية ملكة البحث والاستنباط والاجتهاد تكون بضرب الأمثلة بل والتطويل فيها، مع التوضيح والتفصيل والاستدراك والرد على التوجيهات والاستدلالات مرة بالإلزام بقاعدة أخرى، ومرة بتوضيح عدم اطراد القاعدة، ومرة بالاستثناء منها، أو إدخال ما ليس منها فيها، لدليل أو قرينة وما أشبه ذلك. ولا يخفى أن أثر التأصيل لا يظهر إذا كان بمنأى عن التطبيق، فعلم الأصول أُضيف إلى الفقه: "أصول الفقه" ولم يُضف للفقه إلا لكونه مفيدًا له، ومحققًا للاجتهاد فيه، فإذا لم يكن مفيدًا فليس هو من أصول الفقه. وقد حمدت للباحث الكريم سلاسة أسلوبه، وحسن تمثيله، وقربه من روح الكتاب والسنة؛ ليدلل على أن علم أصول الفقه ليس علمًا جامدًا كما يقولون، أو علم استوى واحترق كما يزعمون، بل هو علم مرن ممتع سلس لمن فهمه وأدرك غايته، وأحسن استخدامه، بل هذا العلم على حقيقته وصورته البهيَّة التي وضعها أسلافنا، يقدِّم حلولًا منطقيَّة علميَّة لكثير من إشكالات مسائل الخلاف، ولا أظنني أُغرب إذا قلت: إن حل معضلات مسائل الخلاف محصورة في معرفة علمين لا ثالث لهما: علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، فالأول يضبط الاستدلال، والآخر يضبط الدليل، وإذا استقام الأمران، استقام الفهم، وقَرُبَ من فهم السلف، وبقدر إدراك ¬
العلمين، بقدر ما تنحصر مسائل الخلاف، وبقدر ما تتوحد الأمة على منهج سواء لا تقع معه في معضلات الخلافات والتناحرات والصراعات والاتهامات. ولعل منهج التمثيل هذا، يحقق طريقة الأصوليين والفقهاء في التوظيف العملي لتفسير ألفاظ الشارع، وإيقاف طالب العلم على نماذج من ذلك، مما يُكسبه الدربة والمراس، واتساع الآفاق وطول النفس في المسائل، وطلب الدليل لها بكافة الإمكانات، مع عدم العجلة والإسراع في الجزم بالحكم، الذي يتبعه كيفية التعامل مع الخلاف والمخالف، بشكل أرحب وصدر أوسع. لذلك كله أعجبني جدًّا مسلك باحثنا الكريم في التمثيل، وهو التمثيل الموسَّع أو البحث الفقهي الموسع (¬1) في بعض المسائل، رغم أنه قد تكون هذه الطريقة في التمثيل معيبة على مذهب البعض في بحث المسائل الأصولية، غير أني أراها عين الصواب، وفصل الخطاب من طرق التمثيل الأصولي؛ حيث إن ثمرة علم أصول الفقه لا تظهر إلا بالمثال، والمثال إذا لم يُبحث من جميع جوانبه، قد لا يسلم تمثيلًا صحيحًا على القضية الأصولية المراد لها الاستدلال لمعارضة البعض فيها، يُفسِّر هذا أن الأصوليين اختلفوا في التمثيل لمسائل معينة، وعارض بعضهم بعضًا في ذلك، فإذا ضربنا المثال لتوضيح القاعدة فقط، قد يُناقشنا البعض نقاشًا آخر حتى يُثبت لنا أن عكس المثال هو الذي يصلح للقاعدة؛ فإذا بحثنا المثال بحثًا فقهيًّا موسعًا، وبيَّنَّا كيف استدل به ¬
ثالثا: ضرورة الكتابة الأصولية بلغة سهلة موافقة للعصر.
الأصوليون كل لمذهبه، حصلت الثمرة المرجوَّة من التمثيل، وانطلق المرء على بصيرة فيما يعمل به أو يترك. ثالثًا: ضرورة الكتابة الأصولية بلغة سهلة موافقة للعصر. مما يُعين على حسن التصنيف وقبول الناس للبحث العلمي: موافقة العصر في كل الجوانب؛ في الأسلوب، واللغة، في الترتيب، والتقسيم، والتنويع، في التمثيل المعاصر، فالانطلاق من روح العصر مع التمسك بثوابت الكتاب والسنة وعمل الأولين من السلف، يحقق الثمرة المرجوَّة التي تفرِّق بين الكتابة القديمة والمعاصرة، ولا تُحمد البتة تلك الكتابات التي يكتب أصحابها فيها وكأنهم يعيشون في القرن السادس الهجري. ولقد أحسن الباحث حينما قسَّم الرسالة تقسيمًا حسنًا يتوافق مع روح البحث العلمي المعاصر، وزاد الرسالة حسنًا حينما قسم أنواع الترك تقسيمًا مفصَّلًا واضحًا، الأمر الذي أراحه في التأصيل وبناء الحكم، على وجه لا يلتبس على القارئ، وهذا مرده إلى سلاسة الأسلوب التي ذكرناها سابقًا. وقد أتاح التقسيم الصحيح الدقيق للترك الإجابة عن كثير مما أورده الشيخ الغماري في رسالته في الترك، هذه الرسالة التي تأثر بها كثير من الناس وبَنَوا عليها على صغر حجمها، وعدم تحرير مسائلها تحريرًا أصوليًّا جيدًا، فتتبعه الباحث تتبعًا علميًّا محررًا في كل ما قال، وفرَّق ذلك على حسب مواضعه من الرسالة، مبينًا وجه الصواب فيه دون اعتساف أو تعصب، أو تبني الآراء المسبقة، وهذه ميزة تحمد لكل باحث سواء أصاب أو أخطأ. وقد حلَّى الباحث رسالته بالمسائل المعاصرة، وهي مسائل طال حولها
رابعا: اقتران علم الأصول بعلم الحديث.
الجدل في بعض بلدان المسلمين، وهو صنيع يُحمد عليه، وله فائدة من وجهين: الأول: بيان أن التطبيق مرتبط دائمًا بالتأصيل في كل وقت وحين، وليس الأمر على عواهنه ليحلو لمن شاء أن يفعل ما يريد بحجة استحسانه. والثاني: إيجاد الحلول العلميَّة للمسائل المشكلة المعاصرة، وليس يُسكت المسيء غير العلم. وإن كنت أود أنه زاد في التمثيل المعاصر بعض المسائل الأخرى التي ثار ويثور حولها الجدل في بعض البلاد أيضًا؛ مثل: الأذان الموحد الذي يُبث على الإذاعة من إحدى المساجد الكبيرة، وتتلقاه المساجد جميعًا عبر ذلك البث، وقد انتشر ذلك في بلادنا بلاد الشام، وكذلك ما يفعله البعض من صلاة ركعتين في جماعة شكرًا لله تعالى عند وجود ما يُفرحهم، وكذلك مسألة قراءة القرآن في مكبرات الصوت في المساجد قُبيل الأذان، وغيرها من المسائل المعاصرة. رابعًا: اقتران علم الأصول بعلم الحديث. هناك انفصال مزعوم وسمج بين العلمين؛ علم الحديث وعلم أصول الفقه، وقد تطور هذا الانفصال حتى أصبح يُعاب على المشتغلين بعلم الحديث من قبل الفقهاء، وقل العكس أيضًا، وكما قلنا سابقًا: إن العلمين لا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فعلم الحديث يضبط الدليل، وعلم أصول الفقه يضبط الاستدلال، فأنى للأصولي أن يضع القواعد الأصولية التي تستنبط منها الأحكام دون درايةٍ بعلم الحديث، وتسليمٍ لأهل الاختصاص فيه، وقل العكس أيضًا، ولذلك كان الإمام الشافعي يقول للإمام أحمد: "يا أحمد أنت أعلم بالحديث مني، إذا صح عندك الحديث فأعلمني كي آخذ به"،
وصورة من الحاضر مشابهة لتلك الصورة أن الإمام عبد العزيز بن باز، كان يُهاتف العلامة المحدِّث الألباني مرات عدَّة ليسأله عن صحة حديث ما ليفتي به أو ليستنبط منه حكمًا شرعيًّا. ولأجل ذلك قال الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن: "ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين" (¬1). فَمدَّعو الانفصال بين العلمين قد ضلوا سواء السبيل، وفصلوا بين متلازمين لا يمكن لأحدهما أن ينفك عن الآخر بحال، ولقد اشتهر بعض العلماء بالبراعة في العلمين معًا، كأمثال أبي المظفر السمعاني، والخطيب البغدادي، بل إن واضع علم الأصول كان يلقَّب بناصر الحديث. ¬
أقول هذا الكلام لأنه ظهرت فئة من الأصوليين قديمًا وحديثًا، لا دراية لهم البتة بعلم الحديث، فظهر منهم العجب العُجاب فيما يؤصلون ويستنبطون من قواعد، حتى إن أحدهم ليبني قاعدة على حديث موضوع أو ضعيف جدًّا لا يُمكن أن تقوم به حجة، حتى طفحت كثير من كتب الأصوليين بمثل هذه الأحاديث، وأُدرج عدد ليس بالقليل منها تحت القواعد الأصوليَّة، مع وجود أحاديث صحيحة يصح الاستدلال بها على ما يُريدون، ولا أُريد في هذه العجالة أن أتحدث عن مناقضة القواعد العقليَّة للسنة النبوية، مما حدى بهؤلاء أن يردوا السنة لمخالفتها ما أسموه بمسلمات العقول، هذا جزء مما جره الانفصال السمج بين علم الحديث وبين علم الأصول، الأمر الذي ينبغي معه أن تشتد الدعوة إلى إعادة الترابط بين العلمين، وإظهار ذلك بالحجة والبرهان، وما أُوتينا من قوة. وقد وجدت في هذه الرسالة إضافة إلى جمال التأليف الأصولي: الدراية بعلم الحديث والإطلاع على علومه من مصادره المختلفة، مما أكسب الرسالة قوة، وسلاسة لا يجد القارئ معها مللًا؛ فوفِّق الباحث للموازنة بين الجانب النظري، وبين الجانب العملي، مستشهدًا بما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المطهَّرة، ومستقرئًا للكتب الستة لمعرفة تروكه - صلى الله عليه وسلم -، جامعًا لطرق الحديث الواحد، ليقدم لنا علمًا كثيرًا، وهذا مسلكًا بات غريبًا نوعًا ما على الدراسات الأصولية، رغم أنه الأصل فيها، فلم يتعود الباحثون الرجوع إلى مصادر السنة النبوية المطهرة لاستخراج القواعد الأصولية، والتدليل على صحتها،
خامسا: لا تكتب إلا ما تفهم.
وأقول: لو سمَّى الباحث رسالته: "تروك النبي - صلى الله عليه وسلم - دراسة حديثية تأصيلية"، بدل: " ... دراسة تأصيلية تطبيقية" (¬1)، لما كان ذلك بعيدًا عن مضمونها، فالنَّفسُ الحديثي واضح جدًّا في هذه الرسالة. خامسًا: لا تكتب إلا ما تفهم. كلمة سمعت مضمونها كثيرًا من أشياخنا، وما أدركتها إلا حينما خضت غمار البحث والقراءة لتصيبني الحيرة مع كثير من الكاتبين، ماذا يريدون؟ وما الفكرة التي يدندنون حولها؟ وما الذي يدور في أذهانهم؟ ولئن كانت الدراسات العلميَّة بحاجة إلى هذه الكلمة فليس أحوج من علم الأصول إليها؛ لعسورة التقعيد، وصعوبة التأصيل، وتنكُّب قَصَارِ الهمم عنه، فلا بد من إحياء هذا العلم ببسط العبارة وتبسيطها، والقرب به من روح الكتاب والسنة، والخروج عن طريقة المتكلمين فيه، لئلا يدخل في الأصول ما ليس منه. وقد ظهرت هذه الميزة جليَّة في باحثنا الأصيل، واستفدت مما فَهِمَ في مواضع كثيرة، وأهتبل هذه الفرصة لأوجِّه نصيحة إلى طلبة العلم والباحثين سواء في الدراسات الأكاديميَّة، أو في الدراسات غير الأكاديميَّة؛ وهي: أن لا يستعجلوا في البحث، وأن لا يحرصوا على إخراج ما كتبوه للناس على عجل؛ فمن صنَّف فقد استُهدِف، وعرض عقله على الناس، ومن لوازم ¬
ترك العجلة أن تتوفر دواعي الفهم والوعي لكل جزئية من جزئيات بحث الباحث، فمن فهم ما يقول استطاع أن يُوصِلَ المعلومة التي يريد للقارئ بأقل التكاليف، وبأيسر العبارات. وقد أصبحت الرسائل العلمية - وللأسف - اليوم تخرج للناس وليس فيها هذه الميزة؛ فالطالب مقيَّد بوقت معين ليخرج رسالته، وهو بعد لم يتمرَّس في البحث والدراسة ومعرفة عبارات العلماء ودقائق المسائل، ولم تتكون لديه الملكة الفقهيَّة للاستنباط والاستخراج والتخريج، فأنى له كتابة المفيد، فلا أقلَّ من أن يتريث في البحث والكتابة، ولا يكتب إلا ما يفهم، ولا يُخرج ما يكتب إلا بعد الاستشارة والاستخارة، والعرض على أهل العلم وطلبته. وأخيرًا أقول: كان لابد من وجود مثل هذه الدراسة العلميَّة المفصَّلة، التي تبين حقيقة الترك وأقوال أهل العلم فيه، مع التحرير والإنصاف والاستقراء والضبط، وتتبع مصادر السنة النبوية، وأقوال الصحابة - رضوان الله عليهم -، ومعرفة متى يُبنَى على الترك حكم ومتى لا يُبنَى عليه حكم، إذ السنة وعمل الأولين من السلف، المرجع المعتمد في تقرير القواعد وتحرير الفوائد العلميَّة التأصيلية، ويتبعهما في المرجعيَّة أقوال الأصوليين والفقهاء وتقعيداتهم، وبحسب القرب وعمل الأولين من السلف، بحسب ما يتقرر صدق القاعدة وأهميتها، وأتمنى على الباحث الكريم إن كان قد مر به أثناء كتابته لهذه الرسالة زيادة تفصيلات في مسألة الترك، أو مزيد أمثلة سنيَّة، أن يستكمله قبل طباعة هذه الرسالة؛ لتكون رسالته موسوعة علميَّة في هذا الموضوع.
جعلنا الله تعالى هداة مهديين، وللحق متبعين، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكتب د/ أَبو قدامة أشرف بن محمود بن عقلة الكناني أستاذ أصول الفقه في قسم الفقه وأصوله كلية الشريعة/ جامعة اليرموك/ إربد/ الأردن [email protected] [email protected] الأربعاء 4 رجب 1431 هـ يوافقه 16/ 6 / 2010 م
دولة قطر - وزارة الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية طبعة خَاصَّة بوزارة الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية - دولة قطر الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م
التّروكُ النَّبَويَّةُ «تَأصِيلاً وَتَطْبِيقًا»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المؤلف
المقدمة إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: ففضل العلوم الشرعية وشرفها لا يخفى على أحد، ومنزلة طالبيها والحاملين لها والعاملين بها لا تدانيها منزلة، ولا شك أنها منازل ودرجات، وكلما كان العلم محققًا للغاية منه - وهو فهم مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان شرفه أعلى وفضله أتم.
ومن أعظم العلوم التي توصل إلى ذلك "علم أصول الفقه"، فهو علم عظيم القدر، جليل النفع، إذ به يتوصل الإنسان إلى الفهم في الدين المحقق للخيرية في الدنيا والآخرة، وذلك كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (¬1). فهذا العلم يضع الضوابط والقواعد والأصول التي يطبقها المجتهد على آيات الله عز وجل، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكي يعرف حكم الله تعالى في المسألة، فتحصيله شرط في المجتهد، ولا غنى لطالب العلوم الشرعية عنه. فالأمر كما قال الجويني: "الوجه لكل متصد للإقلال بأعباء الشريعة أن يجعل الإحاطة بالأصول شوقه الآكد، وينص مسائل الفقه عليها نص من يحاول بإيرادها تهذيب الأصول، ولا ينزف زمام الذهن في وضع الوقائع - مع العلم بأنها لا تنحصر - مع الذهول عن الأصول". وإذا كان الفقه هو التطبيق العملي لتلك القواعد والنظريات، فلابد إذن أن يتوافق العِلمان ويسيرا جنبًا إلى جنب، فعلم الأصول يمثل الجانب النظري وعلم الفقه يمثل الجانب التطبيقي والعملي لذلك التأصيل والتنظير. ¬
أسباب اختيار "التروك النبوية" موضوعا للدراسة
وكان مما أضمرته في نفسي أن أقوم حينما أجد الفرصة سانحة بدراسة تجمع بين الجانب النظري: المتمثل في الدراسة الأصولية، والجانب العملي: المتمثل في الدراسة الفقهية. وحينما أتيح لي اختيار موضوع لنيل درجة الماجستير (¬1): اهتبلت الفرصة لتحقيق ما أصبو إليه، فبحثت عن موضوع يحقق لي ما كنت أرجوه من منهج الدراسة، وبعد البحث تبين لي أن موضوع "التروك النبوية" من المواضيع التي تستحق الدراسة الفعلية، ذلك أني لم أجد أحدًا تناوله بالدراسة العميقة فيما أعلم. • أسباب اختيار "التروك النبوية" موضوعًا للدراسة: لقد كان من أهم أسباب اختيار "التروك النبوية" موضوعًا للدراسة: أهمية التشريع بالترك أصوليًّا وفقهيًّا: وذلك أن التروك النبوية تمثل أحد قسمي السنة، فإذا كانت السنة النبوية هي أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الفعل ما هو إلا فعل إيجابي أو سلبي، وهذا الأخير هو الترك، أضف إلى ذلك تعلق هذا الباب بكثير من مسائل أصول الفقه كالمصلحة المرسلة، والبدعة، والتأسي، والأصل في الأشياء، والتكليف، والمقاصد، وغير ذلك من الأبواب التي يتعلق بها أحكام فقهية. ¬
ومع كل ذلك، فإن تناول هذه المسألة لم يشتهر بين الأصوليين، فهم لم يفصلوا القول فيها على غرار فعلهم في المسائل الأصولية الأخرى، فهم مثلًا لم يعرِّفوا لنا: ماهية الترك، وما يندرج تحته من قواعد وأصول وأحكام وضوابط على نحو مفصل كصنيعهم في المسائل الأصولية الأخرى، ولو استعرضنا أشهر المؤلفات في أصول الفقه، ومقدار تناول تلك المؤلفات لهذه المسألة، لا تضح لنا جليًّا مقدار ذلك التناول، ولتبَّين لنا أن هذه المسألة لم تنل حظها من الدراسة العميقة بعد. ولا يخفى على المتتبع لكلام أهل العلم، أنهم يَصدُرون - فيما يتعلق بالترك أو غيره من أحكام - عن قواعد واضحة، ومناهج محددة: سواء وضحوا تلك القواعد وذكروها، أو سكتوا عنها كما هو الحال في مسألتنا هذه. وهذه القواعد التي سكتوا عنها فلم يذكروها: إذا أردنا أن نَتَبيَّنها فلابد من النظر فيما خلفوه من فروع فقهية كثيرة، ثم النسج على منوالهم ومنهجهم في استنباط تلك القواعد الأصولية حتى تتضح لنا تلك القواعد التي لا سبيل لنا أن نطلع عليها بطريق آخر، فهم لم يدونوها في مؤلفاتهم مفصلة مبينة كما سبق. وأمرٌ كهذا يتطلب دراسة شاملة جامعة لشتات الموضوع، إن لم يكن دراسات. * * *
ما تهدف إليه هذه الدراسة
• ما تهدف إليه هذه الدراسة: لا شك أن الموضوع بهذه الصورة لا يمكن حصره، فهو طويل ومتشعب، لذا كان لابد من تحديد الأهداف التي يرجى تحقيقها من دراسة هذا الجانب الأصولي المهم، ولذا فقد وضعت نصب عيني هدفا أساسيًا واحدًا وهو: الوصول إلى تأصيل مناسب لمسألة الترك، وذلك بوضع تصور أصولي كامل عنها، بعد بحثها من جميع جوانبها، ولم شتات ما تناثر من قضاياها بين بطون الكتب من قواعد أصولية وفقهية، ومسائل ومباحث، وكذلك البحث عن القضايا التي تندرج تحت الترك، وقد بحثت وقررت في غير موضع الترك حتى يكتمل تأصيل هذا الجانب الأصولي المهم. فهذه الدراسة إذن تهدف إلى توضيح دلالات ترك النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستطيع المجتهد أن يَصدُر في حكمه على القضايا والوقائع الحادثة عن تأصيلٍ واضحٍ، وقواعدَ مقررةٍ محددةٍ في جانب التروك مع وضع الشروط والضوابط التي يعرف بها التفريق بين أنواع الترك، والتي تقتضي تبعًا التفريق بين أحكام المتروكات. ولتحقيق هذا الهدف يتعين تطبيق تلك الأصول على الوقائع الحادثة حتى تظهر أهمية ذلك الأصل، ويخرج هذا الفرع على ذلك الأصل، فيعلم كيفية الاستفادة من تلك الأصول، وكيف يمكن أن تطبق في واقع الناس فلا تكون مجرد ترف عقلي أو ثراء علمي لا حاجة ماسة إليه. بيد أن هناك أهدافًا أخرى تابعة لها، منها:
المنهج المستخدم في الدراسة
1 - ذكر أمثلة غير تلك الأمثلة التي تعارف الأصوليون عليها، حتى إن الناظر في كتبهم ليكاد يظن أن تلك الأمثلة القليلة هي كل ما يمكن حصره، أو العثور عليه. 2 - بيان الارتباط والتداخل الوثيق بين علوم الشريعة، ومدى التناسق والانسجام بين تلك العلوم كالفقه، والأصول، والحديث، بل ومدى احتياج الدارس إلى كل تلك العلوم على حد سواء، وذلك من خلال نموذج عملي كمثال. 3 - بيان أحكام الحوادث الجديدة التي تكلم فيها المعاصرون، وهي في حقيقتها مبنية على هذه المسألة. * * * • المنهج المستخدم في الدراسة: اقتضت طبيعة الدراسة أن تتعدد مناهج البحث التي استعملت فيها، وذلك بحسب المراد، فقد استعمل المنهج الاستقرائي لجمع النصوص المتعلقة بالدراسة، والمنهج النقلي لتوثيق ما ورد به من نصوص، والمنهج التحليلي الاستنباطي للوصول إلى ما تدل عليه تلك النصوص، وقد تمثلت خطوات تطبيق هذه المناهج كما يلي: 1 - البحث في دواوين السنة عن كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يقتضي تركًا وذلك من أجل الوقوف على جوانب ذلك الترك، فكل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركه، أو أعرض عنه، أو فعل بحضرته، أو بغيبته وأقره، داخل في
مجال الدراسة، فكان لابد من قراءة لكتب السنة، حيث إنها المصدر الأصلي للوصول إلى ذلك، واكتفيت في هذا الصدد: بالكتب الستة - صحيحي البخاري ومسلم والسنن الأربعة - حيث إنها تشتمل على معظم ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - جمع ما توفر من تلك المادة الحديثية، وإعادة تخريجها تخريجا كاملًا من الكتب الستة، وغيرها، وجمع روايات الحديث الواحد، واستبعاد الضعيف منها. 3 - كانت النية متجهة إلى البحث في التراث الإسلامي الفقهي حتى يجمع ما نقل عن أئمتنا المتقدمين في ذلك الشأن، وذلك يقتضي البحث في كل مذهب على حدة، وبعدما بدأت في ذلك فعلًا تبين لي أن هذا الأمر مما تفنى دونه الأعمار، وتنقطع الآجال، والسبب في ذلك أن هذه الدراسة لم تقيد بحدود زمنية أو مكانية تحدد مجال البحث - ولا يمكن تقييدها - لأسباب لا تخفى، لذا فقد اكتفيت بتحديد المسائل التي دلت عليها الأحاديث التي تم استخراجها، وما تم إيداعه في هذه الدراسة منها قمت ببحثه بحثًا فقهيًّا مقارنًا بحسب الحاجة إلى ذلك. 4 - جمع المادة الأصولية المتعلقة بموضوع الدراسة. ومع ندرة المادة الأصولية وتشعبها وتعلقها بمباحث أخرى، وكذلك وجودها في غير مظانّها، كان لابد من جرد للمؤلفات الأصولية قدر المستطاع للعثور على ما يخص الدراسة من الجانب الأصولي. 5 - بعد توفر تلك المادة كان لابد من إجالة النظر في كل ما جمع، ووضع تصور مناسب يجمع شتات الموضوع، وهذه الخطوة كانت أصعبهن جميعًا،
وأطولهن وقتًا، فقد كنت أضع التصور العام للدراسة، وبعد المضي فيه: يظهر ما يقتضي نقضه، وإعادة تغييره، حتى وصل عدد التصورات التي وضعت؛ ونقضت، ما يقارب العشرين، إلى أن استقر الأمر على هذه الصورة ولله الحمد والمنة. 6 - كان منهج تخريج الأحاديث هو أن تخرج تخريجًا مختصرًا وذلك كما يلي: - إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما أكتفي بالعزو إليهما، إذ إن ذلك كاف في التعريف بصحة الحديث. - إذا كان الحديث خارج الصحيحين، أذكر موضع الحديث في السنن الأربعة، ثم أذكر درجة الحديث من حيث الصحة والضعف. - إذا كان الحديث خارج الكتب الستة، بينت موضعه الذي نقلته منه فقط، ثم درجته من حيث الصحة والضعف. - اعتمدت في بيان درجة الحديث على حكم الشيخ الألباني عليه مع عزو ذلك الحكم إلى مصدره، وحيث لا أجد حكمًا للألباني أنقل من وجدت حكمه مع العزو. - اعتمدت في العزو للصحيحين والكتب الستة على النسخ المعتمدة عند المشتغلين بالحديث، وقد عزوت للمجلد والصفحة ورقم الحديث - حيث وجد - على الترتيب (¬1). ¬
عرض موجز للدراسة
7 - كان منهج توثيق النصوص كما يلي: - النصوص التي ذكرت بنصها: أذكر المصدر الأصلي التي ذكرت فيه، ولا أعزو لمصدر ناقل عنه إلا حين يتعذر الوصول للمصدر الأصلي، وفي هذه الحالة أنبه أني نقلت من مصدر غير أصلي وأسميه، وهذا لم يحدث إلا في مواضع قليلة بينتها في موضعها. - قمت بذكر بيانات المصدر كاملة عند أول ذكر له في الهامش ثم اكتفيت فيما بعد ذلك بتسميته فقط. 8 - اقتصرت في التعريف بالأعلام على الأصوليين والفقهاء غير المشهورين، فلم أُعرِّف بالمشهورين منهم كالأئمة الأربعة، وكذلك لم أعرف بغيرهم كالأعلام الذين ورد ذكرهم داخل نص منقول، أو في متن حديث، وكذلك لم أعرف برواة الأحاديث، ولا الأعلام اللغويين، وكذلك لم أعرف بالمعاصرين. • عرض موجز للدراسة: بدأت هذه الدراسة أولًا بتعريف الترك في اللغة وبيان حقيقته عند الأصوليين، واقتضي ذلك بيان اتجاهات الأصوليين في تعريف الترك، وهل هو فعل أم لا، وما يترتب على ذلك الخلاف من آثار أصولية وفقهية، ثم بيان تعريف ترك النبي صلى الله عليه وسلم عند الأقدمين والمعاصرين والتعريف المختار بعد تناول أهم تلك التعريفات بالتحليل والدراسة، ثم بيان طرق الوصول إلى معرفة
التروك النبوية، وكذلك أقسام تلك التروك مع بيان وجه التقسيم، والتقسيم المختار. وقد كان محل ذلك هو الباب الأول. وانتهت الدراسة - في هذا الباب - إلى تقسيم الترك إلى ترك وجودي وما يلحق به، وترك عدمي وما يلحق به. فكان بيان الترك الوجودي: ببيان تعريفه، وأقسامه، وأمثلته، وتطبيقاته الفقهية، ودلالاته الأصولية، وما يلحق به: في باب مستقل، هو الباب الثاني. أما الباب الثالث فكان خاصًا ببيان النوع الثاني وهو الترك العدمي، وذلك على غرار ما فعل في الباب الثاني حيث كان الفصل الأول لبيان تعريفه وبيان أقسامه ودلالته، والفصل الثاني للتطبيقات المتعلقة به، والثالث لما يلحق به وهو ترك الاستفصال. ثم يأتي بعد ذلك خاتمة ذكرت فيها أهم ما استبان لي من المصاحبة الفعلية للموضوع "نتائج الدراسة"، ثم توصيات الدراسة، وكذلك ملخصًا لها. ثم تأتي فهارس عامة لتسهيل الإفادة من هذه الدراسة متضمنة فهارس للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والآثار والأعلام المترجم لهم، والمسائل الفقهية التي بحثت، ثم المصادر والمراجع، وأخيرًا: فهرسًا للموضوعات. * * *
وبعد .. فهذا مَرَكبٌ صعبٌ ركبتُه، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لتَنَكّبتُه، فوالله لو كُلفت نقل جبل أو هدمه، لكان أهون علي مما تعرضت له وقصدته، فلطالما هممت أن أنزع عما أردت، ولكثيرًا ما نظرت فيما كتبت: فقلت لنفسي: أي عجب ملأني! .. وأي سخف هزني! .. فاستشرفت لما لست له بأهل، وتجاسرت على ما يعظم على الفحل، فهممت أن أنكص عما أردت، وأعود من حيث بدأت، واستشرت في ذلك من أثق به، فلولا إرادة من الله لما تم ما أقدمت عليه، لكن الله إذا أراد بعبد أمرًا هيأه له وأعدَّه. وأنا أربأ بنفسي أن أكون ممن فقد صوابه أو طار عقله، فظن أن كل ما كتب صواب لا يصح رفضُه، بل أنا على يقين بأن فيه ما يجب إثباته وما يجب محوه، وحاصل أمري أني بذلت من الجهد ما أحتسبُه، فقد تكلفت لأمري هذا ما لا يعلمه إلا الله وحده، فما كان فيه من توفيق فهو فضله وكرمُه، وما كان فيه من زلل فأنا تائب عنه كله، وما أبرئ نفسي عن الجهل والخطأ والنسيان وكل ما يجب ردُّه. فيا أيها الناظر فيما سودتُه وزبرتُه، لا يحملنك الهوى على قبول ما فيه أو رده، بل اجعل الحق رائدك في تقييمه، واعذر كاتبه فيما أخطأ فيه، وفيما جهلَه، فإن العجز والتقصير لازم له: بل أصلُه، ويكفيه أن قد رام خيرًا وهذا جهدُه، وقلّ من هيأ أمرًا فهذبه ونقحه حتى أتمَّه، ثم راجعه فلم يجد فيه ما يستوجب نقضَه، فإن الله قد أَبى أن يكون الكمال لأحد سواه وحده.
وبعد .. فيا أيها الناظر: لك غُنمُ ما تقرأ وعليّ غرمه، لك طيبه وعليّ وزره، فليكن حظي منك دعوة بظهر الغيب، بأن يتجاوز ربي عن الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، وأن يرحم ضعفي، ويجبر كسري، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر إلى مشايخي الأفاضل وعلى الأخص الشيخ الوالد المفضال أسد السنة وفخر الأمة وزينة العلماء الشيخ أبي إسحق الحويني وحماي الفاضل، الشيخ النبيل ذي القدر الجليل الشيخ عماد صابر المرسي، والشيخ الحبيب محمد سعد الأزهري فلهم من المنة عليّ ما لا تفي الدنيا كلها برد يسير منه، أسأل الله تعالى أن يحفظهم من كل سوء، وأن يطيل في الخير بقاءهم، وأن يجزيهم عني بخير ما جزى به أحد عن أحد، إنه تعالى بكل جميل كفيل، وهو نعم المولى ونعم النصير. كذلك أشكر كل من أعانني أو ساعدني من إخواني بكلمة أو توجيه أو نصيحة أو مساعدة أو كتابة أو مراجعة أو حتى دعوة صالحة، والمقام لا يتسع لذكرهم جميعًا: فالله أسأل أن يجزيهم عني خير الجزاء، وأن يجعل عونهم ذلك في ميزان حسناتهم يوم القيامة. والشكر موصول لوالديّ جزاهما الله عني خيرًا، أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل برمته في ميزان حسناتهما يوم القيامة، وأن يبارك في عمرهما، وأن
يحسن عملهما، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. وأخيرًا: هذا ما أردت بيانه، والله أسأل أن يوفقني فيما أنا بصددِه، وأن يكون عملي هذا خالصًا لوجهِه، وأن يجعله ذخرًا ليوم لا ينفع الإنسان شيء سوى عمله، وأن يجازي كاتبه خيرًا ويتجاوز عن خطئِه، وآخر دعوانا أن سبحان الله وبحمدِه، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا. والحمد لله رب العالمين. المؤلف أبو عبد الرحمن محمد صلاح محمد الإتربي الأربعاء: غرة ذي الحجة 1430 هـ 18/ 11 / 2009 م
تمهيد
تمهيد اقتضت بعثة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وكونه رسولًا من عند رب العالمين، أن يكون قدوةً لجميع البشر في كل ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم -، فأمر سبحانه المسلمين بالاقتداء والتأسي به والمتابعة له، وحثهم على ذلك، جاعلًا إياه في أعلى منزلة وأسمى مكانة، فمن تأسى به نال الخير كله، والرفعة، والسؤدد في الدنيا والآخرة، ومن لم يكن كذلك كان من أهل الذلة والصغار - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري" (¬1) - وحيث إن الأمر كذلك، فإن كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيًّا كان ذلك الصادر عنه - فيه تشريع للأمة من بعده، ودينٌ يُتَقَرب به إلى الله سبحانه. وهذا الذي صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عُرف عند المسلمين بالسنة؛ حيث كانت السنة مصدرًا من مصادر التشريع ومعرفة أحكام رب العالمين، فكان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبرنا سبحانه أنه وحي من عنده، فكلام الرسول ليس ¬
ككلام بقية البشر بل كلامه معصوم، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. ومعلومٌ أن التكاليف الشرعية ما هي إلا طلب فعلٍ أو تركٍ، وغالب تلك التكاليف ما عُلم إلا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إنّ القرآن لم يحتوِ على كثيرٍ من الأحكام المفصلة؛ بل تعرض لها إجمالاً، وبينت السنة ذلك الإجمال، وفسرته بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر معلوم، لا يخفى على أحد. وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعًا بقوله فقد كان مشرعًا بفعله، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويقول للناس: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، ويُعَلِّم الناس مناسك مناسك الحج بفعله، ويرشدهم إلى الاقتداء به، ويقول: "لتأخذوا مناسككم" (¬2)؛ أي: عَنِّي. ولذا كان تعريف السنة عند علماء الأصول متضمنًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله - المتضمن للإقرار - المبين للأحكام. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعًا بالفعل؛ فهل كان مشرعًا بالترك كذلك؟ لقد ورد في السنة ما يشير إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قاصدًا الترك، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به ¬
خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" (¬1). فتركه - صلى الله عليه وسلم - العمل كان لأجل حكمة تشريعية كذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة: منها ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة بالمسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" (¬2)، وكان ذلك في رمضان. وقد جاء في الحديث ما يقتضي أن الترك عبادة، من ذلك ما ورد من حديث معاذ بن أنس الجهني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء" (¬3). ¬
وكذلك ما ورد من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك" (¬1). وفي الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ألم تري أنَّ قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ "، فقلت: "يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ "، قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلتُ"، فقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "لئن كانت عائشة - رضي الله عنها - سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أُرَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين الذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم" (¬2). هذه الأحاديث وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مُشَرِّعًا بالترك، وأن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا ينقلون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الترك كما كانوا ينقلون عنه الفعل سواء بسواء، وما ذاك إلا لما استقر في أذهانهم أن ذلك تشريع للأمة وبيان للأحكام، وأن الترك يتعلق به أحكام شرعية وثواب وعقاب وتكليف. ¬
الدراسات السابقة
لكن ما هي صفة هذا التشريع، وهل كل ترك منه - صلى الله عليه وسلم - يكون حجة، أم أن منه ما هو حجة ومنه ما ليس بحجة، وهل استنبط الفقهاء أحكامًا شرعية من تركه - صلى الله عليه وسلم -، وما هي الضوابط التي قام عليها هذا الاستنباط إن وجد؛ هذا ما أحاول بيانه في هذه الدراسة، وأسأل الله العون والسداد. • الدراسات السابقة: لم أقف على مؤلَّف أصولي واحد للأئمة المتقدمين يتناول مسألة الترك بالدراسة المستقلة، بل لم أهتد إلى عنوان مخطوط يحتمل أن يكون قد تناول التروك النبوية بالدراسة المستقلة، وهذا لا ينفي أن هذه المسألة قد وجد من تناولها في مؤلفاته، ومقدار هذا التناول يختلف من أصولي إلى آخر، لكن لا يخلو مؤلف أصولي من أحد مسائل الترك أو من الإشارة إلى أن الترك فعل فيجري عليه ما يذكر في مبحث الأفعال. وهذا لا ينفي أن هناك من فَصّل الكلام في الترك بعض الشيء، ولم يكتف بمجرد الإشارة كابن حزم (ت 465 هـ) في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، ومن بعده السمعاني (ت 489 هـ) في (قواطع الأدلة)، والآمدي (ت 631 هـ) في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، والزركشي (ت 794 هـ) في (البحر المحيط)، وهذا الأخير يذكر في كتابه أن الأصوليين لم يتعرضوا لبحث الترك ما عدا ما نقله عن السمعاني، رغم أنه ذكر في مقدمة كتابه أنه جمع مادته من أكثر من مائة كتاب.
أما على صعيد الدراسات المستقلة للمعاصرين فقد وقفت على ما يلي
وأمر كهذا دعا الصنعاني إلى الاعتذار عن صنيع الأصوليين هذا، فقال في معرض تقسيمه للسنة إلى قول وفعل وتقرير: "وهكذا عد أقسامها أكثر أئمة الأصول، ولم يذكروا الترك، لأن التروك داخلة في الأفعال - لأنها كف والكف فعل - ولا يقال: والتقرير كف أيضًا فلا حاجة إلى ذكره، لأنا نقول: إنما قلنا بدخول التروك في الأفعال توجيهًا لما وقع منهم" (¬1). وكذلك هناك من فصل الكلام في الترك وطول البحث فيه بعض الشيء كابن تيمية (ت 728 هـ) في (الفتاوى الكبرى) و (مجموع الفتاوى)، وابن القيم (ت 852 هـ) في (إعلام الموقعين)، والشاطبي (ت 790 هـ) في (الموافقات) و (الاعتصام). وكذلك هناك ذكرٌ لمسألة الترك عند جماعة من المتأخرين كالمرداوي (ت 885 هـ) في (التحبير شرح التحرير)، وابن النجار (ت 972 هـ) في (شرح الكوكب المنير)، والشوكاني (ت 1250 هـ) في (إرشاد الفحول)، لكنها كلها لا تخرج عن مضمون ما ذكره الزركشي في (البحر المحيط). • أما على صعيد الدراسات المستقلة للمعاصرين فقد وقفت على ما يلي: 1 - " حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" للشيخ عبد الله الصديق الغماري، وهي رسالة صغيرة جدًّا (¬2) مطبوعة في نهاية رسالة له بعنوان: ¬
"إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة"، وذهب في هذه الرسالة إلى أن الترك ليس دليلًا من أدلة الأحكام، وأن الترك لا يدل على حكم أو يدل على الإباحة، وذكر بعضًا من التطبيقات ذهب إلى أنها كلها تقع على الإباحة، وهذه الرسالة - على صغرها - تعد مصدرًا يعتمد عليه كثير من المعاصرين ممن اطلعت على كلام لهم في مجال الدراسة: كالدكتور عيسى بن عبد الله بن محمد بن مانع الحميري في رسالته: "البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع"، وكذلك وهبي سليمان غاوجي الألباني في كتابه: "كلمة علمية هادية في البدعة وأحكامها". وقد تناولت الكلام على المسائل التي ذكرها الشيخ الغماري في موضعها من هذه الدراسة (¬1). 2 - "رؤية أصولية لتروك النبي - صلى الله عليه وسلم - " للدكتور صالح قادر كريم الزنكي (¬2)، وهو بحث نشر بمجلة الحكمة العدد الثاني والعشرون محرم 1422 هـ، والتي تصدر من بريطانيا - ليدز، وهو بحث تكلم فيه عن ماهية الترك فقط، وهو في تعريفه للترك يرى أن الأصوليين لم يقدموا تعريفًا له - وسوف تُناقش هذه القضية في موضعها - ولم يتعرض لما سواها من مباحث متعلقة بالترك. 3 - "تنبيه النبيل إلى أن الترك دليل" تأليف: محمد بن محمود بن ¬
مصطفى السكندري (¬1)، وقد خصصه الباحث لمسألة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبادة ما، وذهب إلى أن ذلك يدل على بدعيتها، وقد تكلم عن نقل الترك معتمدًا على ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين، والبحث لا يجري على أسلوب الدراسات الأكاديمية، فضلًا عن أنه أغفل المسائل الأخرى التي تدخل تحت موضوع الترك. 4 - "الترك أنواعه وأحكامه" إعداد أبي عبد الله المصلحي (¬2) - وهو بحث منشور على شبكة الانترنت - ومادته بالكامل - النقولات والترجيحات والأمثلة والعزو - مستقاة من رسالة الأشقر في أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآتي ذكرها قريبًا. 5 - "الترك لا ينتج حكمًا" للشريف عبد الله فراج العبدلي (¬3). وكما هو واضح من العنوان فالترك عنده كله بجميع أحواله لا يقتضي إلا جواز المتروك، وهو في ذلك متابع لما ذهب إليه الشيخ الغماري في الرسالة السابقة الذكر، وقد صرح بالنقل منه في أكثر من موضع، وقد احتوت الرسالة على مغالطات علمية شديدة - رغم صغرها - لا يحسن بالباحث أن يقع في مثلها، منها: أنه قال في نقده لابن السمعاني لما ذهب إلى أن الصحابة تابعوا ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك أكل الضب قال: "فالمتابعة منهم لقوله لما سئل أحرام هو، وليس اتباعًا لتركه"!. حاصل القول: إن الرسالة في مجملها لا تخرج عن رسالة الشيخ الغماري، فالقول إنها رسالة الشيخ الغماري بصياغة أخرى قول ليس فيه مبالغة، فهي نفس الترتيب والمباحث والأخطاء والترجيحات. 6 - "الترك عند الأصوليين والفقهاء: دراسة مقارنة" وهي رسالة دكتوراه بالجامعة الأردنية من إعداد الدكتور أيمن عليان أحمد دراكة، وقد نوقشت هذه الرسالة في مايو 2007 - بعد الانتهاء من معظم مادة هذه الرسالة - وهو ذات صلة وثيقة بموضوع الرسالة فلابد لنا من التوقف عندها بعض الشيء: قسم الباحث رسالته إلى أربعة فصول: الفصل الأول: لبيان ماهية الترك، والفصل الثاني: لبيان الترك في الحكم التكليفي، والفصل الثالث: لبيان الترك الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفصل الرابع: لبيان الترك عند الفقهاء. فالذي يخصنا - هنا - هو الفصل الأول والثالث. أما الفصل الأول: فقد تعرض فيه الدكتور أيمن لتعريف الترك والألفاظ ذات الصلة، مع تكييف الترك أصوليًّا .. وبالرغم من التقارب الكبير بين ما كتبه الدكتور أيمن وما كتبته هنا؛ إلا أن هناك اختلافًا عامًا بين البحثين، سواء في طريقة الطرح - وذلك لأنه يتناول الترك كنظرية أصولية عامة غير خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ما أثمر عنه البحث من نتائج - فمفهوم الترك في هذه الدراسة أعم من مفهومه عند الدكتور
أيمن - كذلك انفردت هذه الدراسة في هذا الباب عن دراسة الدكتور أيمن بعدة مسائل كتفصيل الكلام في التلازم بين نقل الترك وترك النقل. أما الفصل الثالث: الذي تعرض فيه الدكتور أيمن لترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيختلف اختلافًا كبيرًا عن هذه الدراسة، فقد انفردت هذه الدراسة بعدة أمور: * تقسيم الترك إلى وجودي وعدمي. * تفصيل الكلام في أنواع الترك المسبب وكيف يعرف. * تناول الترك المطلق بالدراسة التفصيلية والتفرقة بينه وبين الترك المسبب. * تناول علاقة الإقرار بالترك بالدراسة التفصيلية. * التفريق بين البدعة والمصلحة المرسلة في جانب الترك. * الأمثلة التفصيلية لكل أنواع الترك. * تناول دلالة الترك الوجودي بالدراسة التفصيلية. ومع ذلك فالبر موصول لأهله، ولا شك أن الباحث قد أفاد من اطلاعه على دراسة كتلك، وذلك من فضل الله ومنّه وكرمه؛ إذ أن هذه الرسالة لم تطبع بعد، كما أنه كان من العسير الاطلاع عليها إذ أنها نوقشت قبل إتمام هذه الدراسة بالجامعة الأردنية بزمن يسير، الأمر الذي يجعل اطلاع مثلي عليها عسيرًا، ولكن يسر الله لي الاطلاع عليها (¬1)، والإفادة منها، فلله الحمد والمنة. ¬
7 - "درء الشكوك عن أحكام التروك" لمؤلفه: ابن حنفية العابدين بن محي الدين (¬1). وهذا البحث رغم صغره وكونه لا يجري على نمط الدراسات الأكاديمية إلا أن الرؤية الأصولية لمؤلفه واضحة تمامًا، ويمتاز عن كل الدراسات التي تكلمت في الترك قبل ذلك بهذا الأمر فضلًا عن أمور أخرى لا يمكن إغفالها كتقسيمه الترك إلى وجودي وعدمي وغير ذلك، وهناك تشابه واضح بين هذا البحث وبين ما انتهيت إليه هذه الدراسة. 8 - "دليل الترك بين المحدثين والأصوليين" وهي دراسة للدكتور أحمد كافي، نال بها رتبة الدكتوراه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية؛ والمؤرخة بتاريخ 2005 م (¬2)، وكما هو واضح من العنوان فالدكتور يتكلم عن موقف المحدثين والأصوليين من قضية الترك سواء كان قرآنيًّا أم نبويًّا فهو أشبه بالمسكوت عنه شرعًا من الناحية الأصولية، وقد تعرض للعديد من ¬
أما الدراسات التي تناولت الترك بالدراسة الفعلية ولكن ليس على سبيل الاستقلال، بل في أثناء البحث فقد وقفت على
المباحث الموجودة في هذه الدراسة، ومن يطالع الدراسة المشار إليها يجد هناك فرقًا واضحًا من حيث طريقة التناول والبحث، كذلك الاستدلال والترتيب على أن الدراسة تعد في الجملة موافقة لما انتهت إليه هذه الدراسة، وهذا من فضل الله ومنه وكرمه. • أما الدراسات التي تناولت الترك بالدراسة الفعلية ولكن ليس على سبيل الاستقلال، بل في أثناء البحث فقد وقفت على: * " أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية" للدكتور محمد بن سليمان الأشقر وهي رسالته لنيل الدكتوراه من الجامعة الأزهرية، وقد تكلم عن الترك في أربعين صفحة، ثم الإقرار في ثلاث وأربعين صفحة، وتعد هذه الدراسة مصدرًا هامًّا عند كثير من المعاصرين ممن أشار إلى موضوع الدراسة. ونظرًا لأهمية هذه الدراسة فقد تناولت المسائل التي ذكرها بالدراسة التفصيلية عند بحثها في هذه الدراسة. * "طرق الكشف عن مقاصد الشارع" للدكتور نعمان جُغَيم، وهي رسالته لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة الإسلامية بماليزيا، فقد خصص فصلًا مستقلًا يقع في خمس وعشرين ورقة للكلام عن سكوت الشارع ودلالته على المقاصد، وقد تكلم عن الإقرار وترك الاستفصال كأقسام لسكوت الشارع، وفي دلالة السكوت فرق بين العبادات والمعاملات وتكلم عن ترك النقل هل ينزل منزلة نقل الترك، ويلاحظ أن سكوت الشارع عنده مرادف للترك.
* "المسكوت عنه شرعًا وعلاقته بالسنة والبدعة" (¬1) للدكتور محمد أنور بيومي؛ وهي دراسة جامعية على ما يبدو، وقد ذهب فيها إلى أن المسكوت عنه للعلماء فيه مذهبين: الأول: مذهب الجمهور القائل بالإباحة، والمذهب الثاني: مذهب ابن تيمية، ومن وافقه: كابن القيم والشاطبي القائلين بالحرمة أو الكراهية، وهذا هو عمود الصورة عنده، وعليه بنيت الدراسة كلها، وهو خلل عظيم إذ أن المسكوت عنه على نوعين؛ وقد جعله هو نوعًا واحدًا، أضف إلى ذلك فإن ما ذهب إليه الجمهور هو ما ذهب إليه ابن القيم وابن تيمية والشاطبي في الحقيقة لكنه جعل النوعين كالمذهبين وهذا الخطأ أثَّرَ في الدراسة بكاملها، فضلًا عن الأخطاء الكثيرة التي اشتملت عليها الدراسة كعدم توضيح الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة، كما يلاحظ على الدراسة ضعف الجانب التأصيلي بها؛ مما أدى إلى عدم وضع ضوابط واضحة في التصور الذي يراه هو للبدعة وما يدخل فيها وما لا يدخل، حاصل القول: أن الدراسة بها خلط شديد بين القضايا الأصولية وبها أخطاء كثيرة، والله المستعان. ويمكنني أن أضيف أيضًا الدراسات المستقلة الخاصة بالبدعة، فقد تطرقت إلى الكلام عن الترك عند الحديث عن البدعة التركية، وهي لا تخرج عما ذكره الشاطبي في هذا الباب، ومن أهم تلك الدراسات: ¬
- "الإبداع في مضار الابتداع"، لمؤلفه: الشيخ علي محفوظ (¬1) رحمه الله، فقد تكلم عن تقسيم السنة إلى فعلية وتركية، ولخص ما ذكره الشاطبي في الاعتصام مضيفًا عليه، ومعلقًا، ومستدركًا فيما يقرب من مائة صفحة. - "علم أصول البدع"، لمؤلفه: علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي الأثري (¬2) فقد خصص الفصل الخامس من الباب الثاني لأحكام الترك ويقع في إحدى عشرة صفحة، وقد أشار في تلك الصفحات القليلة إلى رسالة الشيخ الغماري، ذاكرًا أنه بصدد تأليف رسالة في الرد عليها، ونقل عن ابن القيم قوله في نقل الصحابة لترك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونقل عن الشاطبي كلامه عن الترك في الاعتصام مختصرًا، ولم يزد على ذلك شيئًا ذا بال. - "حقيقة البدعة وأحكامها"، تأليف سعيد بن ناصر الغامدي (¬3)، وهي رسالته لنيل درجة الماجستير في العقيدة من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد تكلم عن الترك في المجلد الثاني من دراسته في حوالي ست عشرة صفحة معتمدًا على ما ذكره الشاطبي في الاعتصام عند كلامه عن الترك. - "قواعد معرفة البدع"، لمؤلفه: الدكتور محمد حسين الجيزاني (¬4) ¬
فقد تكلم عن السنة التركية في القاعدة الثالثة والرابعة من قواعد الأصل الأول - في خمس وعشرين صفحة - وبحثه منصب على الترك العدمي، ومتى يكون بدعة ومتى لا يكون. أما على صعيد الدراسات - المتعلقة بالبدعة - والتي خالفت الشاطبي في تأصيله للبدع: فقد صدر حديثًا كتاب "مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة" للدكتور عبد الإله بن حسين العرفج (¬1)، فقد تكلم في الفصل الرابع عن حكم الترك وأنواعه، وتكلم في الفصول الخامس والسادس والسابع عن مسائل متعلقة بالترك، وكذلك فقد عقد مبحثًا لتحقيق مذهب الشاطبي في البدعة، وقد ذهب إلى أن الترك لا يدل على التحريم سواء في العبادات أو العادات، ورغم محاولة الدكتور لأن يبحث المسألة كمسألة علمية إلا أنه وقع في مغالطات شديدة من أهمها أنه ذهب إلى جواز الإحداث في الدين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك هو فعل الصحابة، والكتاب برمته موجه لتسويغ البدع خاصة بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، ولم يشر الدكتور العرفج إلى الغماري في كتابه رغم أنه موافق له فيما ذهب إليه من آراء. ¬
ورغم أن المؤلفات الأصولية لم تعتنِ بمسألة الترك كقسم من أقسام السنة إلا أن هناك من أثبتها من المعاصرين فمن ذلك: - أحمد بن محمد بن علي بن الوزير المتوفى سنة (1372 هـ) في كتابه (المصفى في أصول الفقه) فقد عد الترك أحد أقسام السنة ولم يخرج فيما ذكره عما قرره الشاطبي. - عبد الله بن يوسف الجديع في كتابه (تيسير علم أصول الفقه) فقد عد التروك النبوية في مقابلة الأفعال النبوية فعد ثمانية أقسام للترك وهي كلها لا تخرج عن الترك المسبب فقط ولم يتكلم عن باقي الأنواع. وبعد هذا العرض السريع لما ألف في تلك المسألة أو ما تناولها من دراسات يتبين أن هذه القضية ما زالت تحتاج إلى إماطة اللثام عنها ببحث مفصل لجميع جوانبها، أسأل الله تعالى أن يوفقني لذلك ..
الباب الأول التعريف بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -
الباب الأول التعريف بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -
توطئة
توطئة " فهم الشيء فرع عن تصوره"، ولذا ينبغي على المتعرض للكلام في حجية الترك النبوي ودلالته أن يفصل القول في ماهية هذا الترك، والمراد بالماهية أعم من مجرد التعريف، فهو يشمل التعريف بالترك بوصفه مركبًا وليس بلقب، وهو بهذا الوصف لابد من التعريف بمفرديه لغويًّا وأصوليًّا، ويشمل كذلك التعريف بوصفه لقبًا، وهو في هذا الصدد يشمل كل ما يوضح هذه الماهية ويساعد على تصورها في الذهن: من بيان الأقسام والأنواع، ومن بيان علاقته بالأفعال، وسبل معرفته والوقوف عليه، وما يترتب على كل ذلك من مسائل ومباحث، ولبيان ذلك عُقد هذا الباب، والذي يهدف إلى وضع تصور واضح وسليم عن محور هذه الدراسة. وفي هذا الإطار تبلور الباب الأول في فصلين رئيسين: الأول منهما: للتعريف بالترك وما يتعلق به من أبحاث. والثاني: للتعريف بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يتعلق به من أبحاث.
الفصل الأول ماهية الترك
الفصل الأول ماهية الترك
توطئة
توطئة هذا الفصل معقود للتعريف بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه مركبًا، وهذا يقتضي التعريف بالترك بدون إضافته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو غني عن كل تعريف - وذلك التعريف يكون أولًا: في اللغة، ثانيًا: في الاصطلاح الأصولي، وقد اقتضى الخلاف القائم في تحديد ماهية الترك عند الأصوليين أن أتعرض - بعد تعرضي لذلك الخلاف - لما يترتب عليه من آثار فقهية أو أصولية. وفي هذا الإطار تبلور الفصل الأول في مبحثين رئيسيين: الأول منهما: للتعريف اللغوي. والثاني: للتعريف الاصطلاحي وما يتعلق به من أبحاث.
المبحث الأول: المراد بالترك في اللغة
المبحث الأول: المراد بالترك في اللغة الترك في اللغة: الترك مصدر فعله تركَ: يَترُكه: تَرْكا وتِركانا. ومنه: تركة الرجل الميت وهو ما يخلفه بعد الموت: فعلة بمعنى مفعول. ومنه امرأة تريكة؛ أي متروكة فلا تتزوج. والتَّرِيكَة: رَوْضَةٌ يغْفَلُ عن رَعْيِها. وقِيلَ: هو المَرتَعُ الذي كانَ الناسُ رَعَوه إِما في فلاة وإِما في جَبَل. قالَ ابن بَرِّيّ: وقد اسْتَعْمَله الفَرَزْدَقُ في ما تركَه السَّيل من الماء فقالَ: كان تريكة من ماء مُزْنٍ ... ودارِيَّ الذَّكِيِّ من المُدامِ والتريكة: البَيضَةُ بعْدَ أَنْ يخرج منها الفرخ (¬1). * وقد ذكرت المعاجم للترك أكثر من معنى، كلها تحمل معنى مفارقة الأمر أو الشيء، وهذه المعاني هي: الأول: تَرَكَ؛ أي: وَدَع. "التَّرك: ودْعُكَ شيئًا تتركه تركًا" (¬2). ¬
الثاني: ترك الشيء؛ أي: طرحه وخلاه.
وقال ابن منظور: "التَّرْك: وَدْعُك الشيء تركه يتركه تركًا" (¬1). قال الخليل: "التَّرك: ودعك الشيء تتركه" (¬2). الثاني: تَرَكَ الشيء؛ أي: طرحه (¬3) وخلاه. " ترك الشيء: خلاه" (¬4)، و"الترك: التخلية" (¬5)، "وتركت الشيء تركًا: خليته" (¬6). الثالث: تَرك؛ أي: رَفَضَ. " قال الراغب: ترك الشيء: رفضه قصدًا واختيارًا أو قهرًا واضطرارًا. ¬
* وقد يستعمله أهل اللغة أحيانا في المعاني الآتية
فمن الأول قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99]، وقوله: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24]. ومن الثاني: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25] " (¬1). وكذلك ذكره الفيروزآبادي (¬2). وقريب منه ما ذكره ابن عرفة قال: "الترك على ضربين: مفارقة ما يكون للإنسان فيه رغبة وترك الشيء رغبة عنه" (¬3). * وقد يستعمله أهل اللغة أحيانًا في المعاني الآتية: الأول: تَرَكَ؛ أي: جَعَلَ، والترك: الجَعْل) (¬4). قال الأزهري: "وقال الليث الترك: الجعْل في بعض الكلام، تقول: تركت الحبل شديدًا؛ أي جعلته شديدًا" (¬5). ¬
الثاني: يقال في كل فعل ينتهي إلى حالة ما.
ونقل ابن منظور عن ابن الأعرابي قوله: "والترك: الجعل في بعض اللغات، يقال: تركت الحبل شديدًا؛ أي جعلته شديدًا، قال: ولا يعجبني" (¬1). وكذلك قال الخليل: "الترك: الجعل في بعض الكلام" (¬2). ونقل المرتضى الزبيدي عن ابن فارس أنه قال: "ما أحسب هذا في كلام الخليل"، وعن ابن سيده قوله: "ولا يعجبني" (¬3). وقال الأصفهاني: "ويجري مجرى جعلت كذا نحو تركت فلانًا وحيدًا" (¬4). الثاني: يقال في كل فعل ينتهي إلى حالة ما. قال الراغب الأصفهاني: "وقد يقال في كل فعل ينتهي إلى حالة ما: تَركته كذا" (¬5). وكذا قال مجد الدين الفيروزآبادي (¬6)، والزبيدي (¬7). ¬
الثالث: الترك؛ أي: الإبقاء
الثالث: الترك؛ أي: الإبقاء (¬1). قال الأزهري: "وقال غيره - أي الليث - التَرْك: الإبقاء في قوله الله عز وجل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 78]؛ أي: أبقينا عليه ذكرًا حسنًا" (¬2). الرابع: تَرَك: قد يتضمن معنى صَيَّر. قال الزبيدي: "قال شيخنا: وقد يعلق الترك باثنين فيكون مضمنًا معنى صَيَّر فيجري على نمط أفعال القلوب كـ {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17]، قاله الزمخشري والبيضاوي" (¬3). الخامس: ترك: أسقط، والترك الإسقاط. يقال: ترك ركعة من الصلاة أي: أسقطها فلم يأتِ بها، فهو مسقط لما قد ثبت شرعًا. وهذا يأتي في المعاني أيضًا، فترك حقه: أي أسقطه (¬4). ¬
* من النقولات السابقة يتبين ما يلي
* من النقولات السابقة يتبين ما يلي: أولًا: أن الترك عند أهل اللغة يحمل معنيين: الأول: عدم الفعل غفلة عنه، وهو ما يطلق عليه: الترك العدمي المحض، ومن هذا المعنى أطلق على الروضة التي يغفل عن رعيها تريكة، وعلى البيضة بعد أن يخرج منها الفرخ تريكة، وهذا المعنى موجود أيضًا في استعمال الترك بمعنى الإسقاط. الثاني: عدم الفعل إعراضًا عنه، وهو ما يطلق عليه الكف أو الإعراض، وهذا المعنى ظاهر في المعاجم: فودع، ورفض، وطرح، وخلى تحمل معنى الإعراض عن الفعل. ثانيًا: كلا المعنيين السابقين يقتضيان أن الفعل المتروك مقدور على فعله، فلا يقال عن إنسان أنه ترك أمرًا ما إذا كان لا يقدر عليه. جمع "الترك" على "تروك": " تَرْك" على وزن "فَعْل" فهو ثلاثي صحيح ساكن العين مفتوح الفاء غير معتل العين بالواو، فيجمع جمع تكسير على "فعول" (¬1). وعلى ذلك فـ "تروك" جمع مطرد على القاعدة. ومع ذلك لم أعثر في المعاجم التي اطلعت عليها (¬2) على من نص على أن ¬
الترك يجمع على تروك، مع كثرة استعماله من قبل الأصوليين والفقهاء (¬1)، ومعلوم أن الترك مصدر، فهل يشكل على هذا الجمع أنه لم يرد به سماع؟ في ظني أن ذلك لا يشكل، فإنه قد يدل على جواز هذا الجمع عند أهل اللغة أمور، منها: الأول: أن المصدر الذي اتفق النحاة على عدم جواز جمعه إلا ما ورد مسموعًا هو المصدر الذي يراد به بيان ما سوى العدد والنوع واتفقوا على ¬
المعنى المقصود من هذا الجمع
جوازه إذا أريد به العدد (¬1) واختلفوا في المراد به النوع وقد أجازه مجمع اللغة العربية القاهري (¬2). الثاني: ما ذكره النحاة من جواز جمع المصدر إذا كان بمعنى اسم المفعول. الثالث: أن الذي يطلب له سماع هو الذي لا يجري على القاعدة، "فالمفرد إذا كان مستوفيًا للشروط التي يجب تحققها فيه ليصلح أن يجمع على وزنها فمتى تحققت تلك الشروط ساغ جمعه عليها من غير استشارة المراجع اللغوية" (¬3). وقد سبق ذِكرُ أن هذا الجمع مستوف لشروط القاعدة، وكذلك فالتَّرْك مصدر يراد به النوع، أو اسم المفعول؛ فهو بمعنى المتروك. المعنى المقصود من هذا الجمع: يستعمل الجمع للدلالة على أن الترك لا يقع على حالة أو صفة واحدة، بل تتنوع وتختلف، فإذا قيل: إن المصدر مراد به النوع فالمعنى: أنواع كثيرة من الترك، وإذا قيل: إن المصدر بمعنى اسم المفعول فالمعنى أحوال مختلفة لما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وبناء على ما سبق: فإنه متى كان المقصود بيان تنوع الوجوه التي يقع عليها ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن استخدام الجمع أفضل، ومتى كان المراد بيان حقيقة النوع أو دلالته فالتعبير بالمفرد أفضل. ومن أجل ذلك استخدمت صيغة الجمع في عنوان البحث لتدل على تنوع أحوال الترك وصيغة المفرد في عناوين الأبواب والفصول حيث المراد بيان ذات النوع، وتنوع الاستعمال في ثنايا البحث بحسب المعنى المراد.
المبحث الثاني: المراد بالترك عند الأصوليين
المبحث الثاني: المراد بالترك عند الأصوليين (¬1) المطلب الأول: تعريف الترك عند الأصوليين: لم يتفق الأصوليون على تعريفٍ واحدٍ للترك بل اختلف معناه باختلاف استعمالهم له، ويمكن القول بأن لهم في تحديد المراد من الترك اتجاهين مشهورين (¬2)، وفيما يلي بيان هذين الاتجاهين: الاتجاه الأول: الترك: هو عدم فعل المقدور: سواء كان كفًّا أو استمرارًا للعدم الأصلي، فكلاهما يطلق عليه ترك، فلا يشترط في الترك هنا القصد، ولا يشترط التعرض للضد، بل هو مجرد عدم الفعل على أي وجه كان ما دام الفعل مقدورًا. ونظرًا لما اشتهر من أن الأصوليين يشترطون القصد في الترك فقد آثرت أن أذكر من أقوال العلماء ما يدل على أن الترك يشمل الكف وغيره، فمن ذلك: ¬
قال عضد الدين الإيجي
قال عضد الدين الإيجي (¬1): " الترك هو عدم فعل المقدور، سواء كان هناك قصد من التارك أو لا كما في حالة الغفلة والنوم، وسواء تعرض لضده أو لم يتعرض، وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يسمى تركًا ولذلك لا يقال: ترك فلان خلق الأجسام" (¬2). ووافقه من المعاصرين: المفتي محمد عميم الإحسان المجددي البركتي (¬3). قال ابن الوزير (¬4): ¬
"حتى في التروك التي هي عدم الأفعال على الصحيح، فإنا نعقل قبح الترك لقضاء الدين، وترك رد الوديعة، وترك الصلاة، ونعقل حسن ترك المظالم، وترك العدوان على المساكين، قبل أن نعقل أن الترك كف النفس عن الفعل أو عدم محض" (¬1). فعدم الفعل يشمل ما إذا كان هناك قصد من التارك أو لم يكن، وهو يشير إلى الخلاف في ذلك بقوله على الصحيح. قال القاضي الأحمد (¬2) في كتابه: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون - عند تعليقه على شرح تعريف البيضاوي للعبادة شرعًا أنها التوجه نحو الفعل لوجه الله تعالى وامتثالًا لحكمه -: ¬
والترك على هذا الرأي يشتمل على نوعين
"فإن قيل: هذا في التروك مشكل، قلنا: الإشكال إنما هو إذا كان الترك بمعنى العدم، لأنه ليس بفعل، فلا صحة للنية بالمعنى المذكور، لكن الترك هاهنا لكونه مكلفًا به أي مأمورًا به في النهي بمعنى الكف وهو الفعل" (¬1). فهو هنا يصرح بأن الترك قد يكون بمعنى العدم وقد يكون بمعنى الكف. والترك على هذا الرأي يشتمل على نوعين: النوع الأول: هو الترك الوجودي وهو الترك الذي كان فيه قصد من التارك وهو ما يطلق عليه الكف. النوع الثاني: الترك العدمي وهو الترك الذي لا يكون فيه قصد من التارك بل تركه غفلة عنه. وعلى ذلك يكون الترك أعم من الكف، فالكف إذن أحد أقسام الترك في هذا الاستعمال. الاتجاه الثاني: الترك: هو: كف النفس عن إيقاع الفعل: جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أن "التّرك في اصطلاح أكثر الأصوليّين والفقهاء: كفّ النّفس عن الإيقاع" (¬2). ¬
وعرفه ابن فورك (¬1) بأنه: "الحكم الحاصل لمن يصح منه حصول ضده بدلاً منه" (¬2) فقوله حصول ضده بدلاً منه معناه: لمن يقدر على فعل الضد، وهذا التعريف بمجرده موافق لما ذكره أصحاب الاتجاه الأول لولا ما ذكره بعد ذلك من أنه من قبيل ما يكتسبه العباد. وعرفه الأنصاري (¬3) بقوله: "الترك في اصطلاح الأصوليين: عبارة عن موجود كائن مضاد لما يضاده" (¬4)، فقوله: "موجود كائن" يعني أنه ¬
وجودي، وقوله: "مضاد لما يضاده" أي: يشترط فيه: التعرض للضد وهو معنى الكف. قال ابن تيمية: "وقد تنازع الناس في الترك، هل هو أمر وجودى أو عدمي؟ والأكثرون على أنه وجودي، وقالت طائفة كأبي هاشم الجبائي: إنه عدمي وإن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بنفسه ويسمون المذمية؛ لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض. والأكثرون يقولون: الترك أمر وجودي فلا يثاب من ترك المحظور إلا على تركِ يقوم بنفسه، وتارك المأمور إنما يعاقب على تركٍ يقوم بنفسه وهو أن يأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفعل فيمتنع، فهذا الامتناع أمر وجودي، ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادهّ غيره فيعاقب على ذلك" (¬1). والمراد بالترك هنا ليس مجرد الترك، بل المراد به الترك الذي يقع التكليف به، ويؤيد ذلك عدة أمور: - قوله في تعليل وجه القول بأنه وجودي: "فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه، وتارك المأمور إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه". ¬
الاتجاه المختار
- أن أبا هاشم الجبائي إنما تكلم فى الترك الذي وقع التكليف به: فقوله "وإن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بنفسه" ظاهر في أنه يريد الترك الذي وقع التكليف به (¬1). وعلى ذلك يكون الترك والكف مترادفين، وكلاهما بمعنى عدم فعل المقدور قصدًا. الاتجاه المختار: الذي يظهر من العرض السابق أن استعمال كلمة الترك عند الأصوليين تتنوع بحسب المعنى المراد، فقد يستعمل الترك بمعنى الكف، وذلك إذا كان المراد الترك الذي يرد في الخطاب الشرعي: أي الترك الذي يكلف به الإنسان، ولذا يُلاحَظ أن أصحاب الاتجاه الثاني ينصب كلامهم على هذا المعنى في المقام الأول، وقد يستعمل الترك بحسب معناه اللغوي الأصلي فيشمل جميع صور الترك واحتمالاته، ويلاحظ أيضًا أن ذلك لم يكن في معرض الكلام عن ¬
المطلب الثاني: بيان ألفاظ متعلقة بالترك
التكليف، وهو ما ظهر واضحًا عند أصحاب الاتجاه الأول. لذا فإن الاتجاه الذي سوف تسير عليه هذه الدراسة هو الاتجاه الأول، والذي يكون الاتجاه الثاني أحد صوره، فالترك يشمل الكف وهو الترك المقصود، والترك المحض وهو الترك غير المقصود، وهو الذي يتفق مع موضوع الرسالة والغرض منها. المطلب الثاني: بيان ألفاظ متعلقة بالترك: أولاً: السكوت: * السكوت في اللغة: السكوت هو: ترك الكلام مع القدرة عليه. قال الزبيدي: "قال شيخنا عن بعض المحققين: إن السُّكوتَ هو تَرْك الكلام مع القدرة عليه، قالوا: وبالقيد الأَخير يُفارق الصَّمْتَ، فإن القدرَة على التَّكَلّم لا تعْتبر فيه، قاله ابن كمال باشا، وأَصلُه للرَّاغب الأَصبهاني، فإنه قال في مفرداته: الصمت أبلغ من السَّكُوت، لأَنّه قد يُستعمل فيما لا قوَّة له على النطق، ولذا قيل لما لا نطق له: الصّامتُ والمُصْمَت؛ والسُّكُوتُ يقال لما له نطق فيترك استعماله" (¬1). وهو مصدر فعله "سَكَت"، "يَسكُت"، "سُكوتًا"، فهو "ساكت"، والسَّكت: الرجل كثير السكوت، ويقال أيضًا: رجل سكيت، ورجل ساكوت: ¬
* السكوت في الاصطلاح
إذا كان قليل الكلام من غير عي فإذا تكلم أحسن (¬1). * السكوت في الاصطلاح: استعمل السكوت عند الأصوليين بنفس المعنى اللغوي، ولم يخصوه بمعنى آخر، قال الجرجاني (¬2) في التعريفات: "السكوت هو ترك التكلم مع القدرة عليه" (¬3). فالسكوت إذن أحد صور الكف، لأنه في حقيقة الأمر امتناع عن القول، فيكون داخلًا في معنى الترك اللغوي، وكذلك في المعنى المراد في هذه الدراسة. ثانيًا: الكَفّ: * الكف في اللغة: الكف هو: الدفع والمنع والرد، يقال: كَفَفتُه عنه كفًا أي: دفعته ومنعته وصرفته عنه، ومنه سميت اليد كفًّا؛ لأنها تكف عن صاحبها، أو يكف بها ما آذاه. ¬
* الكف عند الأصوليين
وأصل الكف: الانقباض والتجمع، ومنه سميت الكف كفًّا؛ لأنها تقبض على الأشياء، وتجتمع (¬1)، والكف: الامتناع عن موالاة الفعل وإيجاده حالاً بعد حال (¬2). * الكف عند الأصوليين: معنى الكف عند الأصوليين لا يخرج عن معناه اللغوي ففي الموسوعة الفقفية: "وأمّا في الاصطلاح: فعرّفه الأصوليون بأنه الانتهاء عن المنهيّ عنه. قال في التّقرير والتّحبير: إن الفعل المكلّف به في النّهي هو كفه النّفس عن المنهيّ، أي انتهاؤُه عن المنهيّ عنه، فقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] نهي يقتضي انتهاء المكلّف عن المنهىّ عنه، أي الزّنا إذا طلبته نفسه. فلا يحصل الكف عن المنهيّ عنه إلا بعد إقبال النّفس عليه" (¬3). هل القصد شرط في الكف؟ ما دام الكف بمعنى الامتناع - والامتناع يقتضي أن يكون المكلف قاصدًا للترك وليس ذاهلاً عنه - فإن الكف لابد فيه من قصد الترّك، وهذا ما ¬
هل الكف هو فعل الضد
يقتضيه المعنى اللغوي: إذ الدفع والرد والمنع كلها أفعال متعدية فلابد أن تقتضي مفعولًا، فالكف لا يتصور وقوعه بدون قصد من الكافّ، ولذا وقع الخلاف بين الجمهور وأبي هاشم في المقتضَى بالتكليف إذ الفرق بين الترك العدمي والكف هو وجود القصد، ولابد هنا من بيان أمرين: الأول: أن قصد الفعل غير قصد الامتثال: الذي هو شرط في حصول الثواب، كما سيأتي، ولذا فقد يقع الكف ولا يثاب أو يثاب وهذا باعتبار القصد أي قصد المكلف بكفه الامتثال لما طلبه الشرع. الثاني: أن قصد الكف هو معنى اشتراط التعرض للضد في الكف، فلا يكون الإنسان كافًا عن فعل إلا إذا رد أو دفع فعلاً ضده، فلا يقال فلان كف عن الزنا إلا إذا رد أو دفع دواعي الزنا وهو نفس قولنا قصد ترك الزنا، وهكذا. هل الكف هو فعل الضد: قال العطار (¬1) في حاشيته: "المكلف به في النهي: الكف، أي: الانتهاء عن المنهي عنه، وذلك فعل يحصل بفعل الضد للمنهي عنه، وقيل هو فعل الضد" (¬2). ¬
علاقة الكف بالترك
فقوله: وذلك فعل، أي: الكف، فالكف يحصل بفعل ضد المنهي عنه أو هو فعل ضد المنهي عنه فالعلاقة بين الكف وفعل الضد أحد أمرين: الأول: أن الكف هو عين فعل الضد. الثاني: أن الكف يستلزم فعل الضد، فلا يحصل الكف إلا إذا فعل الضد، وهذا لا إشكال فيه، ولعل هذا هو الأقرب، وذلك لأن الفعل قد يكون له ضد واحد، وقد يكون له أكثر من ضد، وقد يكون الكف ضدًا لأكثر من فعل، فالسكوت مثلًا ضد الكلام، ومع ذلك فالكف عن الغيبة بالسكوت هو عين الكف عن النميمة بالسكوت أيضًا. علاقة الكف بالترك: مما سبق يمكن القول بأن علاقة الكف بالترك على ثلاث أحوال: أولًا: أن يكونا متقابلين: فيختص الكف بما توفر فيه القصد، والترك بما لم يكن كذلك. ثانيًا: أن يكونا مترادفين: فيكون كلًّا من الكف والترك بمعنى قصد عدم الفعل. ثالثًا: أن يكون الترك أعم من الكف: فيكون الترك هو عدم فعل المقدور ويشمل ما لو قصد فيكون كفًّا، ¬
المطلب الثالث: علاقة الترك بالفعل
وما لم يقصد فيكون عدمًا، وهذا هو الأقرب للاستعمال اللغوي، وهو ما ستعتمد عليه هذه الدراسة بإذن الله تعالى. المطلب الثالث: علاقة الترك بالفعل: اختلف الأصوليون في الترك هل هو فعل أم لا، وترتب على خلافهم هذا آثار أصولية وفقهية، وهذا الخلاف ليس في الترك بمعنى العدم إذ الترك بمعنى العدم المحض ليس بفعل؛ لأنه عدم (¬1) وهذا واضح لا إشكال فيه. أما الترك بمعنى الكف فهل هو فعل أم لا؟ اختلف أهل العلم في ذلك على قولين مشهورين في الأصول (¬2): أحدهما: أنه فعل، والثاني: أنه ليس بفعل، وفيما يلي بيان القائلين بكل قول وأدلتهم. القول الأول والقائلون به: ذهب الجمهور إلى كونه فعلًا وقد نص على ذلك طائفة من كل المذاهب: ¬
فمن الحنفية
فمن الحنفية: علاء الدين والبخاري (¬1) في "كشف الأسرار" (¬2)، وابن نجيم الحنفي (¬3) فى كتابه: "الأشباه والنظائر" (¬4). ومن المالكية: الشاطبي (¬5) في (الموافقات) (¬6)، وابن بطال (¬7): فيما نقله عنه ابن ¬
حجر (¬1) (¬2)، وابن الحاجب (¬3) فيما نقله عنه ابن اللحام (¬4) (¬5) والشنقيطي (¬6) في ¬
ومن الشافعية
(أضواء البيان) (¬1)، وذكر في شرحه على نظم مراقي السعود (¬2) أن ذلك هو المذهب، وابن رشد في (بداية المجتهد) (¬3). ومن الشافعية: الزركشي (¬4) في (المنثور في القواعد) (¬5)، وابن حجر في (فتح الباري) (¬6) ¬
وابن حجر الهيتمي (¬1) في (شرح المنهاج) (¬2)، والجلال شمس الدين المحلي (¬3) في (شرحه على جمع الجوامع) (¬4)، والرازي (¬5) في (المعالم) (¬6)، ¬
والآمدي (¬1) فيما نقله عنه ابن اللحام (¬2)، وتاج الدين السبكي (¬3) (¬4). ¬
ومن الحنابلة
ومن الحنابلة: ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (¬1)، وابن اللحام (¬2). ومن غيرهم: ابن حزم الظاهري (¬3) في (الملل والنحل) (¬4)، والصنعاني (¬5) في كتابه (إجابة السائل شرح بغية الآمل) (¬6)، والمناوي (¬7) ¬
القول الثاني والقائلون به
في (فيض القدير) (¬1). القول الثاني والقائلون به: نقل ابن تيمية عن أبي هاشم الجبائي أنه يرى أن الكف عدمي (¬2)؛ أي ليس بفعل واختاره ابن عرفة (¬3) في تفسيره (¬4) قال: "البحث على أنه - أي الترك - غير فعل" (¬5) وهو مقابل الصحيح عند المالكية، ويفهم من عبارة للقفال (¬6) ¬
الأدلة على القول الأول
من الشافعية (¬1). الأدلة على القول الأول: الأدلة على أن الترك الكفي: فعل كثيرة، منها: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]. قال السبكي: "فإن الأخذ التناول، والمهجور المتروك فصار المعنى تناولوه متروكًا؛ أي: فعلوا تركه" (¬2). الدليل الثاني: قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 63]. قال الشنقيطي: "فترك الربانيين والأحبار نهيهم عق قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا صنعًا في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، ¬
الدليل الثالث
والصنع أخص من مطلق الفعل" (¬1). الدليل الثالث: قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]. ووجه الدلالة هنا ما قاله الشنقيطي: "سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلًا، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم" (¬2). الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278]. ووجه الدلالة فيها: أن الله تعالى إنما أمر بالترك وذلك في قوله: {وَذَرُوا} أى: اتركوا، ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي: فإن لم تفعلوا الترك، وقد قال ابن عرفة: "فيها حجة لمن يقول: إن الترك فعل" (¬3). ¬
الدليل الخامس
هذا ما وقفت عليه من أدلة منصوص عليها من كتاب الله، ويشهد لتلك الأدلة أدلة أخرى من السنة منها: الدليل الخامس: ما رواه الشيخان (¬1)، واللفظ للبخاري من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "على كل مسلم صدقة"، فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه وليتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة". ووجه الدلالة فيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل ترك الشر صدقة، والصدقة لابد أن تكون فعلًا. الدليل السادس: ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله"، قالوا: ثم من؟ قال: "مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره" (¬2). ¬
الدليل السابع
ووجه الدلالة فيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الذي يدع الناس من شره من أفضل الناس وهو لا يكون أفضل الناس بأمر عدمي. الدليل السابع: ما ورد من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها" (¬1). ووجه الدلالة هنا: أن ترك الفعل مع القدرة عليه هو الكف الاصطلاحي، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان هذا حاله - ترك اللباس وهو يقدر عليه - كان له من الأجر ما ذكر في الحديث، والأجر والثواب لابد من أن يكون لشيء، لا لعدم محض. الدليل الثامن: قول الصحابة في بناء المسجد بالمدينة: ¬
الترجيح
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل (¬1) قال الشنقيطي: "فسمى قعودهم عن العمل وتركهم له عملاً مضللًا" (¬2). * الترجيح: من خلال ما سبق يتضح لنا أن القائلين بأن الترك ليس بفعل لا يخلو كلامهم من أحد أمرين: 1 - أن يقصد بالترك أمر غير الكف وهو عدم الفعل لعدم الحاجة إليه: مثل قول ابن عرفة: "إذا كان طيب الطعام بين يدي رجلين أحدهما جائع والآخر شابع ولم يأكلا منه شيئًا، يقال في الجائع: إنه كف عن الأكل، وفي الشبعان: إنه ترك الأكل". وعلى هذا التفصيل منه يكون الترك فعلًا؛ إذ إن القول بأنه فعل منصب على كونه امتناع وكف. وما ذكره من الفرق بينهما يورد عليه بانه يصح أن يقال عن كليهما إنهما تركا الأكل. 2 - أن يقصد أن ترك الكف والامتناع ليس بفعل: وهذا لم أجد أحدًا نسب إليه هذأ القول تصريحًا سوى أبي هاشم الجبائي من المعتزلة، والرواية المشهورة عن المالكية. ¬
فعلية الترك عند الدكتور الزنكي
فعلية الترك عند الدكتور الزنكي: الدكتوو الزنكي يرى أنه ليس كل ترك فعلاً، لكن الترك عنده هنا هو الكف فقد تساءل في أول البحث: "متى يكون الترك (الكف) فعلاً ومتى لا يعتبر فيكلون عدمًا أصليًا؟ ". ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال ذكر أن المنهي عنه قسمان: الأول: المنهي عنه عمل ذهني ظلي لا يوجد له فود في الواقع والخارج. الثاني: المنهي عنه عمل ممكن الوجود في الخارج. فالأول: قسمه إلى صورتين: الأولى: أن التلبس بالضد ليس مأمورًا به، أو ليس له ضدٌّ أصلاً، ورأى أن الترك في هذه الحالة لا يكون فعلًا بل هو عدم محض. والصورة الثانية: أن يكون التلبس بضده مأمور به، وذهب إلى أن ترك المنهي عنه في هذه الحالة يعد فعلاً، لكنها لم تأت من طريق الترك نفسه. أما الثاني: فقد قسمه إلى صورتين: الأولى: أن يكون ضد المنهي أمور به شرعًا، فالترك هنا لا يكون فعلاً إلا بعد مباشرة المأمور. والثانية: أن يكون ليس له ضد معين، أو لا يكون ضده المعين مأمور به شرعًا، فإذا لم يكن له ضد معين: فالترك هنا فعل إذا كان هناك داع لفعل الضد المعين وإلا فلا. أما ألا يكون ضده المعين مأمور به شرعًا فقد ذكر أن هذه صورة غير
ويلاحظ على ما ذهب إليه الدكتور الزنكي عدة ملاحظات
موجودة بل هي مجرد تصور عقلي (¬1). ويلاحظ على ما ذهب إليه الدكتور الزنكي عدة ملاحظات: الأولى: أن الترك عنده بمعنى الكف فقط، ولا سبيل إلى إلغاء الترك العدمي فجعل الترك العدمي من أقسام الكف، وهذا قول لا يستقيم إذ هما ضدان فالكف لابد فيه من القصد والترك العدمي لا يوجد فيه قصد، وإدخال الترك العدمي في الكف أداه إلى عدم القول بفعلية الترك الذي هو الكف. الثانية: ما ذهب إليه من أن الترك ليس فعلاً بإطلاق لا يُنازَع فيه، لكن الإشكال أن الترك عنده هو الكف فقط، ومن ثَمّ فمؤدى كلامه أن الكف ليس فعلًا بإطلاق وهذا ما أخالفه فيه. ثالثًا: بالنظر إلى التقسيمات التي ذكرها يُلاحظ أن الصور التي رأى فيها أن الكف ليس بفعل كانت لأجل أن الترك فيها ترك عدمي محض، وباستثناء الصور التي كان الترك فيها عدمي محض والتي يتوفر فيها شرط القصد فإن الكف في تلك الصور: فعل. وبناء على ذلك: فمآل ما ذكره الدكتور الزنكي إلى القول بفعلية الكف إذا لم يكن تركًا عدميًّا هو ما تعتمده هذه الدراسة من أن الكف فعل، أما الترك العدمي ليس بفعل، والذي يحل ذلك الإشكال الذي وقع فيه الدكتور الزنكي هو تقسيم الترك إلى صورتين: الأولى: الكف وهي فعل. ¬
الثانية: الترك العدمي وهي ليست بفعل. وعليه: فالذي يظهر للباحث هنا أن القول الراجح هو ما عليه جمهور العلماء أن الترك الوجودي فعل.
المطلب الرابع: الآثار الأصولية المترتبة على كون الترك فعلا
المطلب الرابع: الآثار الأصولية المترتبة على كون الترك فعلاً: المسألة الأولى: التكليف بالترك: ذهب جمهور أهل السنة إلى أنه لا تكليف إلا بفعلاً (وإن اختلفوا في صفة ذلك الفعل في النهي كما سيأتي بيانه)، خلافًا لأبي هاشم الجبائي (¬1) من المعتزلة، حيث ذهب إلى جواز أن يرد التكليف في النهي بالعدم الأصلي (¬2). قال الغزالي (¬3) في المستصفى: ¬
"وقال بعض المعتزلة: قد يقتضي الكف فيكون فعلًا، وقد يقتضي ألا يفعل، ولا يقصد التلبس بضده " (¬1). والذي قال بذلك من المعتزلة هو أبو هاشم الجبائي نقله عنه الآمدي (¬2) والمرداوي (¬3) (¬4) وابن تيمية (¬5) وغيرهم. ¬
الأدلة
ونقل الآمدي عن أبي هاشم قوله: "إن التكليف قد يكون بأن لا يفعل العبد، مع قطع النظر عن التلبس بضد الفعل، وذلك ليس بفعل" (¬1). وهذا القول من أبي هاشم له مأخذ عقائدي، هو سبب خلافه - فيما يظهر لي -، وذلك أن المعتزلة يقولون بأن الأحكام التكليفية ثابتة بالعقل وأن الشرع إنما يرد موافقًا لها، ومثل هذا يظهر في النهي، فإن النهي إذا كان متعلقه العدم الأصلي وهو ثابت قبل ورود التكليف، كان ذلك دليلًا على أن الأحكام التكليفية ثابتة قبل الشرع وذلك لثبوت متعلقها قبله، إذ لا يمكن ثبوت الأحكام بعد متعلقاتها، وحيث وجد متعلق الحكم قبل الشرع: ثبت الحكم أيضًا قبل الشرع؛ وليس هناك ما يثبته قبل الشرع سوى العقل، وهذا هو ما تقتضيه أصول المعتزلة. الأدلة: استدل الجمهور بـ: (1) أن "المنتهي بالنهي يثاب، ولا يثاب إلا على شيء، وأن لا يفعل عدم وليس بشيء، ولا تتعلق به قدرة، إذ القدرة تتعلق بشيء، فلا يصح الإعدام بالقدرة (¬2)، وإذا لم يصدر منه شيء، فكيف يثاب على لا شيء " (¬3). ¬
استدل أبو هاشم بـ
(2) "أن التكليف إنما يتعلق بما هو مقدور، ونفي الفعل عدم، وهو حاصل قبل توجه النهي، وطلب تحصيل الحاصل محال" (¬1). (3) أنه لو أراد استمرار العدم رجع ذلك إلى ما نقول به، إذ "استمرار ذلك العدم، وهو استمرار واقف على اختيار المكلف، وليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي، بل عدم مخصوص يصح أن يتوقف على الاختيار، ويتعلق به إثر قدرته، فإن المكلف قادر يتمكن من أن لا يفعل، فيستمر العدم، أو يفعل، فلا يستمر، فصح أن العدم من هذه الجهة إثر قدرته، إذ الاستمرار الموقوف على اختياره ليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي، بل هو عدم مخصوص متوقف على اختياره، فليس هو عدما محضًا" (¬2). استدل أبو هاشم بـ: أن العدم أمر مقدور ولذا يمدح الإنسان على ترك الزنا وشرب الخمر وهما عدم. والجواب: (1) أن من لم يصدر منه الزنا أو شرب الخمر لا يثاب، إلا إذا قصد كف الشهوة عنه مع التمكن من الفعل، فهو مثاب على أمر هو في الحقيقة فعل (¬3). ¬
* فالصحيح هو ما عليه جمهور العلماء
(2) أن هذا يقتضي أن يكون الإنسان في كل لحظة مثاب على ما لا يحصى من التروك، التي قد لا يعلم بها، وهذا لم يقل به أحد. * فالصحيح هو ما عليه جمهور العلماء من عدم جواز أن يرد التكليف في النهي بالعدم الأصلي فلا تكليف إلا بفعل، لكن ما هي ماهية هذا الفعل المكلف به في جانب النهي؟ هذا ما أحاول بيانه في المسألة التالية. المسألة الثانية: متعلق النهي: ذهب جمهور الأصوليين من أهل السنة إلى أنه لا تكليف إلا بفعل، لكن هل هذا الفعل المخاطب به في النهي هو كف النفس عن الفعل أم فعل ضد المنهي عنه؟ اختلفوا في ذلك على قولين مشهورين: القول الأول: متعلق النهي هو الكف. ذهب إلى أن متعلق التكليف في النهي هو كف النفس: الحنابلة ووافقهم بعض الفقهاء فيما نقله عنهم المرداوي (¬1)، ولابن أمير الحاج (¬2) عبارة تفيد أن الترك هو كف النفس عن الفعل (¬3). ¬
القول الثاني: متعلق النهي هو فعل الضد.
ونسبه الصنعاني إلى الجمهور (¬1). وذهب تاج الدين السبكي إلى أن متعلق النهي هو الانتهاء، وهو شيء غير فعل الضد، ونسب إلى الجمهور أنهم قالوا أن متعلق النهي فعل الضد، وبين أن هذا غير جيد من جهة اللفظ، وأن الخلل في ذلك من جهة من عبر عنهم، وأنهم أرادوا ما قاله لكن العبارة لم تحرر (¬2). القول الثاني: متعلق النهي هو فعل الضد. ذهب إلى أن متعلق التكليف في النهي هو فعل الضد جمهور المتكلمين واختيار الرازي (¬3) والبيضاوي (¬4)، قال الغزالي: "اختلفوا في المقتضى بالتكليف، والذي عليه أكثر المتكلمين: أن المقتضَى به الإقدام أو الكف، وكل واحد كسب العبد، فالأمر بالصوم أمر بالكف، والكف فعل يثاب عليه. والمقتضَى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من أضداده، وهو الترك، فيكون مثابًا على الترك الذي هو فعله " (¬5). ¬
وهذا مقتضَى تعريف ابن فورك والأنصاري اللذين سبق ذكرهما. وقد نقل ابن فورك عن الإمام الأشعري (¬1) أنه كان يقول: "إن معنى الترك هو فعل أحد الضدين، وإن فعل الشيء هو ترك ضده، كفعل الإيمان هو ترك الكفر" (¬2). واعترض على ذلك بما يلي: (1) النهي قسيم الأمر، والأمر طلب الفعل، فلو كان النهي طلب فعل الضد لكان أمرًا، ولكان النهي من الأمر، وقسيم الشيء لا يكون قسمًا منه. (2) لا شك أن كل متلبس بفعل هو تارك لضده، وكل من الفعلين الفعل والترك يصح أن يؤمر به وأن ينهى عنه، ومثاله: السفر والإقامة ¬
القول الثالث: الخلاف لفظي، لأنهما متلازمان.
ضدان، والتارك للسفر متلبس بالإقامة، وليس الترك للسفر نفس معنى الإقامة، بل معنى آخر في لغة العرب والمعقول: فهناك فرق بين قولنا: "لا تسافر" وبين قولنا: " أقم": فأقم أمر بالإقامة من حيث هي فقد لا يستحضر معها السفر، ولا تسافر نهي عن السفر فمن أقام قاصدًا ترك السفر يقال فيه: انتهى عن السفر، ومن لم يخطر له السفر بالكلية لا يقال له: انتهى عن السفر. القول الثالث: الخلاف لفظي، لأنهما متلازمان. ذهب إلى أن الخلاف لفظي: الكوراني (¬1) فقال: "هذا عين المذهب المختار إذ كف النفس من جزئيات فعل الضد " (¬2). ولابن تيمية عبارة يمكن حملها على هذا المعنى، فقد قال: "وتارك المأمور إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه وهو أن يأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفعل فيمتنع، فهذا الامتناع أمر وجودي، ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ¬
الترجيح
ضده كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادة غيره فيعاقب على ذلك" (¬1). والعبارة المحررة عند تاج الدين السبكي: "أن المطلوب بالنهي الانتهاء ويلزم من الانتهاء فعل ضد المنهي عنه" وهذه العبارة تقتضي أن الخلاف لفظي، وقد سبق ذِكر أنه قد صرح بأن الخطأ في العبارة من جهة اللفظ وأن مرادهم ما ذكره (¬2). الترجيح: الذي يظهر - والله أعلم - أن القولين متلازمان، لكن لا يصح إطلاق العبارة بالمعنى الثاني، بل الأولى أن يقال: متعلق النهي هو الانتهاء، والانتهاء هو الكف، ويلزم منه فعل الضد في خطاب الشرع، وإن كان غير لازم في خطاب الآدميين، هذا ما بدا لي وقد بحثت عن أحد قال بهذا المعنى حتى وجدت نصًّا من أحد الأصوليين الكبار وهو محمد أمين الشنقيطي يدل على ما ذهبت إليه فقد قال: "الذي كلفنا به الشارع هو الكف بمعنى الترك والانتهاء، أي انصراف النفس عن المنهي عنه، وذلك فعل يحصل بفعل ضد المنهي عنه، فالمقصود بالذات هو الانتهاء، أما فعل الضد فقد يقصد بالالتزام أو لا يقصد أصلًا إذا كان المتكلم غافلًا عنه، وذلك لا يتأتى في كلام الله تعالى" (¬3). ¬
المسألة الثالثة: اشتراط النية في الثواب على الترك
المسألة الثالثة: اشتراط النية في الثواب على الترك: إذا كان المكلف لا يخاطب إلا بفعل، وهذا الفعل في النهي هو الكف، فهل يحصل الثواب بمجرد الكف أم لابد من النية، وهل اشتراط النية هو في حصول الثواب أم في تحقق صورة الترك؟ الذي عليه الفقهاء أنه لا تشترط نية في تحقق صورة الترك، فمن لم يزن يصح أن يقال: إنه تارك للزنا، دون نظر فيما دعاه لذلك الترك. ولذلك علل كثير من الفقهاء عدم اشتراط النية في إزالة النجاسة كونها من باب التروك (¬1). ¬
أما الثواب
أما الثواب: فلا يؤجر ولا يثاب إلا إذا قصد الامتثال بالترك، فنية التقرب إلى الله تعالى إذًا شرط في تحقيق الأجر والثواب لا في مجرد حصول الصورة وإن كان يصدق عليه أنه تارك للزنا. وذلك لأن الذي عليه العلماء أنه لا ثواب إلا بنية؛ إذ إن المقصود من النية هو تمييز العبادات من العادات، وتمييز رتب العبادات من بعضها البعض (¬1)، وقد نقل ابن تيمية الإجماع على اشتراط النية في الأعمال التي هي مقاصد، واختلفوا في الوسائل - والجمهور على اشتراطها في الوسائل - (¬2) والمراد باشتراط النية ترتب الأحكام على العمل، ومن ذلك الثواب المتعلق به وعلى ذلك فيشترط في الترك لكي يثاب عليه أن يكون بنية التقرب إلى الله تعالى. وقد نص على ذلك جماعة من العلماء فمن ذلك: قول السيوطي (¬3): "وأما التروك كترك الزنا وغيره فلم يحتج إلى نية ¬
لحصول المقصود منها وهو اجتناب النهي بكونه لم يوجد وإن [لم] (¬1) يكن نية، نعم يحتاج إليها في حصول الثواب المترتب على الترك" (¬2). قال ابن حجر: "والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، إنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلًا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفًا من الله تعالى" (¬3). وقال أيضًا: "الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه لا الترك المجرد" (¬4). ونقل عن الزين بن المنيِّر (¬5) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليمسك عن الشر فإنه له صدقة" قوله: "إنما يحصل ذلك المسك عن الشر إذا نوى بالإمساك القربة ¬
بخلاف محض الترك" (¬1)، وأقره على ذلك. وقال النووي (¬2): " والمراد أنه إذا أمسك عن الشر لله تعالى كان له أجر ذلك كما أن للمتصرف بالمال أجرًا" (¬3). ونقل ابن حجر عن الكرماني (¬4) أنه نازع في إطلاق الشيخ محيي الدين عن الترك أنه لا يحتاج إلى نية بأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلابد فيها من قصد الترك وأقره على ذلك (¬5). ¬
وذكر الرملي (¬1) أن "التروك وإن كانت لا تفتقر إلى نية في عهدة الخروج من التكليف بها، لكن لا يثاب عليها إلا بها" (¬2). وقال أحمد الحنفي الحموي (¬3) في شرحه على الأشباه والنظائر لابن نجيم: "لا يثاب المكلف على التروك إلا إذا ترك قصدًا، فلا يثاب على ترك الزنا إلا إذا كف نفسه عنه قصدًا" (¬4). وقال الزركشي: "لا يحصل الثواب على الكف إلا مع النية والقصد" (¬5). ¬
المسألة الرابعة: حصول التأسي بالترك
المسألة الرابعة: حصول التأسي بالترك: أولاً: التاسي في اللغة (¬1): " التأسي في الأمور: القدوة، وتَأَسى به: اتَّبَع فعله واقتدى به" (¬2)، "وائتس به: أي اقتد به وكن مثله" (¬3)، "والتأسي في الأمور من الأسوة وكذلك المؤاساة" (¬4)، "والأسوة: القدوة" (¬5)، "وهي بالضم وبالكسر: ¬
وهي: الحال التي يكون فيها الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنًا وإن قبيحًا وإن سارًا وإن ضارًا" (¬1). والأسوة من الأسى بمعنى الحزن. وتَأَسى: تَعَزَّى. " يقال: أساه بمصيبته تأسيه أي: عزاه تعزية فتعزى، وذلك أن يقول له: ما لك تحزن وفلان أسوتك أي: أصابه ما أصابك فصبر، فتأس به" (¬2). وأتسى به: جعله أسوة. " يقال: لا تأتس بمن ليس لك بأسوة: أي لا تقتد بمن ليس لك بقدوة" (¬3). "وفلان يتأسى بفلان: أي يرضى لنفسه ما رضيه ويقتدي به وكان في مثل حاله. والقوم أسوة في هذا الأمر: أي حالهم فيه واحدة. وتأسى به: اتبع فعله واقتدى به. وفلان إسوتك: أي أصابه ما أصابك فصبر فتأس به" (¬4)، "وأسوته به: جعلته له أسوة" (¬5)، "والمصدر: الأسو" (¬6). ¬
ثانيا: التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند الأصوليين
ثانيًا: التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند الأصوليين (¬1): حكم التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الترك فرع على حكم التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الفعل - الذي هو الاتباع -، يقول الشوكاني (¬2): "تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في ¬
بيان محل الاتفاق
التأسي به فيه" (¬1). ولذا فلابد أولًا من بيان مذهب الأصوليين في التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الفعل. وللأصوليين في تعريف التأسي اتجاهان مختلفان، ويختلف حكم التأسي عند كل اتجاه عن الآخر بسبب الاختلاف في التعريف، ومع ذلك فعامة الأصوليين على أن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الترك مثل التأسي به في الفعل (¬2)، سواء بسواء. بيان محل الاتفاق: لا خلاف بين الأمة في الاستدلال بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الأحكام، وإنما الخلاف في وجه هذه الدلالة، وقد نص على ذلك غير واحد، فمن ¬
ذلك قول ابن العربي المالكي (¬1): "لا خلاف بين الأمة أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملجأ في المسألة، ومفزع في الشريعة، وبيان للمشكلة، فقد كانت الصحابة - رضي الله عنه - تبحث عن أفعاله كما تبحث عن أقواله، وتستقرئ جميع حركاته وسكناته، وأكله، وشربه، وقيامه، وجلوسه، ونظره، ولبسه، ونومه، ويقظته، حتى ما كان يشذ عنهم شيء من سكونه ولا حركاته، ولو لم يكن ملاذًا، ولا وجد فيه المستعيذ معاذًا لما كان لتتبعه معنى، وهذا فصل لا يحتاج إلى الإطناب فيه، وإنما الذي اختلفوا فيه كونها محمولة على الوجوب أو الندب" (¬2)، قال ابن برهان (¬3): "وعمدتنا أن الأمة أجمعت على جواز ¬
الاقتداء والتأسي بما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنهم أنكروا على واحد فعلًا اقتدى فيه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1) وقد نقل الإجماع وبين اتجاهي الأصوليين في طلب معرفتها على الأحكام أبو الحسين البصري (¬2) المعتزلي فقال: "لا خلاف بين الأمة في الاستدلال بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأحكام" واختلفوا فقال قوم هي أدلة بمجردها، وقال قوم هي أدلة إذا عرف الوجه الذي وقعت عليه، واختلف الأولون، فقال بعضهم: هي أدلة بمجردها على الوجوب، وقال آخرون بل على الندب، وقال آخرون بل على الإباحة، وأما من قال إنها أدلة باعتبار الوجه: فإنه إن علم الطريقة التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الفعل، عقلية كانت أو سمعية، فهو يرجع إليها في الاستدلال، وإن لم يعرف الطريقة فضربان: أحدهما: أن يكون فعله بيانًا لمجمل، فذلك المجمل هو دال على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة. ¬
والآخر: ألا يكون بيانًا لمجمل، فلا يدل على شيء حتى يعرف الوجه الذي أوقعه عليه، فإن أوقعه على الوجوب دل على وجوب مثله علينا، وإن أوقعه على الندب دل على أن مثله ندب منا، وإن أوقعه مستبيحًا له كان منا مباحًا" (¬1). وهذا النوع الثاني عند أبي الحسين البصري قال عنه ابن عقيل الحنبلي (¬2): "وإن كان الفعل ابتداءً، فعلى روايتين: إحداهما: أنه دال على الوجوب في حقه وحق أمته، إلى أن تقوم دلالة على تخصيصه به، وبهذه الرواية قال أصحاب مالك. الثانية: أنه يقتضي الندب في حقه وحق أمته .. إلا أن تقوم دلالة على الوجوب على أمته، ومشاركتهم له في ذلك. وبهذه الرواية قال أصحاب أبي حنيفة. وذهبت المعتزلة والأشعرية إلى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب أو الندب إلّا بدليل" (¬3). ¬
تحرير محل النزاع
ونقل أن أصحاب الشافعي اختلفوا على ثلاثة أقوال هي التي ذكرها. تحرير محل النزاع: اختلطت مسألة التأسي عند الأصوليين بحكم الفعل المجرد، وحتى لا يطول ذكر الأقوال في ذلك، أخص البحث ببيان حكم التأسي فقط، أما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المجرد فقد اختلف فيه فقال قوم بالوجوب وقوم بالاستحباب وقوم بالإباحة، وقد طول الكلام كثير من الأصوليين على أدلة كل قول وما يلزم عليه، فلا حاجة إلى التطويل بذكره، ويكفي ذكر أن المعتمد في ذلك عند كثير من الأصوليين، بل وعليه كافة الفقهاء أنها على الاستحباب. أما التأسي: فقد اختلف في حكمه على قولين: القول الأول: التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله واجب. وقال به: القاضي عبد الجبار المعتزلي، وأبو الحسين البصري المعتزلي، والرازي ونقله عن جماهير الفقهاء (¬1)، ونقله ابن برهان (¬2) عن أبي علي بن ¬
خيران، واختاره الآمدي (¬1) ونقله عن الاصطخري (¬2) وابن أبي هريرة (¬3) وهو اختيار الغزالي (¬4)، ونقله أبو شامة (¬5) عن القاضي أبي بكر الباقلاني (¬6) ¬
وهم على قسمين: الأول: قالوا: لابد من معرفة وجه وقوعها في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحيث لم نعلم الوجه، فلا سبيل إلى حصول التأسي. الثاني: قالوا: إن لم نعلم وجه وقوعها في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي مستحبة في حقه. القول الثاني: التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله مستحب. وقال به: أبو إسحاق الشيرازي (¬1)، وابن برهان (¬2)، وأبو بكر السرخسي (¬3) (¬4)، والجصاص (¬5)، وأبو شامة (¬6)، وابن حزم الأندلسي. ¬
الاتجاه الأول في تعريف التأسي
وقد أطال أبو شامة في الاستدلال على ما ذهب إليه في كتابه (المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -). ويلاحظ أن تعريف التأسي عند القائلين بالوجوب غير تعريفه عند القائلين بالاستحباب، ولذا كان بيان تعريف التأسي عند كل قول مع الكلام عن حكمه. وفيما يلي بيان تعريف التأسي وحكمه وما استدل به على ذلك عند كل فريق. الاتجاه الأول في تعريف التأسي: عرف فخر الدين الرازي التأسي بأنه: "مطابقة فعل المتأسى به على الوجه الذي وقع فعله عليه" (¬1). وقد صرح الآمدي (¬2) أن التأسي يكون بالفعل والترك: فالتأسي في الفعل هو: أن يفعل أحد الشخصين مثل فعل الآخر على وجهه لأجل فعله. والتأسي في الترك هو: ترك أحد الشخصين مثل ما ترك الآخر من الأفعال على وجهه وصفته من أجل أنه ترك. ¬
الشرط الأول: المماثلة في الصورة
وعلى ذلك فإنه يشترط لحصول التأسي ثلاثة شروط: الشرط الأول: المماثلة في الصورة: إذ لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل كالقيام والقعود. الشرط الثاني: المماثلة في الأغراض الباعثة على الفعل: أي غرض الفعل ونيته، فلا تأسي إذا كان أحدهما واجبًا والآخر ليس بواجب وإن اتحدت صورة العمل في الظاهر. الشرط الثالث: أن يكون الفعل أو الترك الثاني لأجل الأول: فلو فعل الأول فعلًا على سبيل الوجوب وفعل الثاني نفس الفعل على سبيل الوجوب أيضًا لكن دون أن يقصد به متابعة الفاعل الأول فليس ذلك بتأسٍّ. أما المماثلة في الزمان والمكان ففيهما تفصيل: فإذا كانا غرضين في الفعل اعتبرناهما في التأسي، وإذا لم يكونا غرضين لم نعتبرهما. أما استفادة المتأسي حكم الفعل من جهة من يتأسى به فلا يشترط لتحقق صورة التأسي (¬1). وبذلك يكون التأسي في الفعل والترك بمعنى الاتباع، إذ إن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون بالقول والفعل والترك، والتأسي يكون بالفعل والترك، فالاتباع أعم من التأسي، والاتباع في الفعل هو التأسي بعينه. ¬
حكم التأسي على الاتجاه الأول
حكم التأسي على الاتجاه الأول: والتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الطريقة واجب، والتأسي هو الاتباع في الفعل بعينه، والأدلة على ذلك كثيرة منها: أولًا: من كتاب الله تعالى: (1) قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، قال الفخر الرازي: "دلت الآية على أن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من لوازم محبة الله تعالى، ثم إن محبة الله تعالى لازمة بالإجماع، ولازم الواجب واجب" (¬1). (2) قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. فهذا أمر صريح بالاتباع في قوله: "واتبعوه"، والأمر يقتضي الوجوب كما هو معلوم. (3) قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]، ووجه الدلالة فيه: أن الله بين أنه تعالى زوجه بها ليكون حكم أمته مساويًا لحكمه في ذلك، وهذا يدل على أن الاقتداء به واجب (¬2). (4) قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، ووجه الدلالة في الآية: أن ترك ¬
متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاقة له، قال الفخر الرازي: "وإنما قلنا إن ترك متابعته - صلى الله عليه وسلم - مشاقة له، لأن المشاقة عبارة عن كون أحدهما في شق، وكون الآخر في شق آخر، فإذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلًا وتركه غيره، كان ذلك الغير في شق آخر من الرسول، فكان مشاقًا له" (¬1). ثانيًا: الأحاديث التي وردت بالأمر باتباع سنته - صلى الله عليه وسلم -، فإن السنة هي الطريقة، وهي تشمل القول والفعل فمن ذلك: (1) ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي" (¬2). (2) ما ورد من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، وَجِلَت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (¬3). ¬
قال الفخر الرازي: " السنة عبارة عن الطريقة، وهي تتناول الفعل والقول والترك، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم" للوجوب، وهذا يدل على وجوب متابعته في أفعاله وأقواله وتروكه ... وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عضوا عليها بالنواجذ، وذلك تأكيد عظيم للأمر به" (¬1). (3) ما ورد من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: "لم خلعتم نعالكم؟ "، فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا، قال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثًا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما" (¬2). ووجه الدلالة فيه: أن الصحابة - رضي الله عنهم - خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع نعله، ففهموا وجوب المتابعة له في فعله، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم هذا الفهم بل أقرهم على ذلك ثم بين لهم علة انفراده عنهم بذلك. (4) ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، ¬
قال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " (¬1). ووجه الدلالة فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهم على ما فهموه من مشاركتهم له في الحكم، واعتذر بعذر يختص به. (5) ما ورد عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سل هذه - لأم سلمة - " فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك، فقال يا رسول الله: "قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له" (¬2). قال الآمدي: "ولو لم يكن متبعًا في أفعاله، لما كان لذلك معنى" (¬3). (6) ما ورد من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: "أنا في أرض باردة، فكيف الغسل من الجنابة"؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنا فأحثو على رأسي ثلاًثا" (¬4). ووجه الدلالة فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه عن سؤاله ببيان فعله، فلولا أن ذلك يقتضي أن على السائل أن يفعل مثل ذلك لما كان ذلك جوابًا لسؤاله. ¬
(7) ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" (¬1)، وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: "اختلف في ذلك - أي في الذي جامع أهله ولم ينزل هل عليه غسل - رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذنت لي فقلت لها: " يا أماه - أو يا أم المؤمنين - إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؛ قالت على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" (¬2). وعن عائشة - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل" (¬3). ¬
(8) ما ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك" (¬1). (9) ما ورد عن أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها - أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره فشربه (¬2). قال ابن حجر: " وفيه تأسي الناس بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). معنى وجوب التأسي على هذا القول: ليس معنى وجوب المتابعة في الفعل هو وجوب الفعل، بل معناه أن حكم الفعل في حقنا كحكمه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فصّل الرازي هذا المعنى ووضحه فقال: "التأسي به واجب، ومعناه: إذا علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلًا على الوجوب فقد تعبدنا بأن نفعله على وجه الوجوب، وإذا علمنا أنه تنفل به: كنا متعبدين بالتنفل به، وإذا علمنا أنه فعله على وجه الإباحة: كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله" (¬4). ¬
وعليه: وإذا لم نعلم حكم هذا الفعل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هذا الفعل في حقنا مباحًا إذا لم يكن على وجه القربة، مندوبًا إذا كان على وجه القربة. ووجه ذلك: أن كل فعل لم يعلم حكمه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو من أن يكون أحد أمرين: أن يظهر فيه قصد القربة أو لا يظهر: فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى؛ فهو دليل في حقه - صلى الله عليه وسلم - على القدر المشترك بين الواجب والمندوب، وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير، وأن الإباحة وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج خارجة عنه، وكذلك في حق أمته، إذ إن القربة غير خارجة عن الواجب والمندوب، والقدر المشترك بينهما إنما هو ترجيح الفعل على الترك، والفعل دليل قاطع عليه. وأما ما اختص به الواجب من الذم على الترك وما اختص به المندوب من عدم اللوم على الترك؛ فمشكوك فيه، وليس أحدهما أولى من الآخر. وما لم يظهر فيه قصد القربة: فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير وكذلك عن أمته، لأن كل فعل لا يكون منهيًّا عنه لا يخرج عن الواجب والمندوب والمباح (¬1)، والقدر المشترك بين ¬
حكم المتابعة في الترك على هذا الاتجاه، ومعناها
الكل إنما هو رفع الحرج عن الفعل دون الترك، والفعل دليل قاطع عليه (¬1). حكم المتابعة في الترك على هذا الاتجاه، ومعناها: إذا كان التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - معناه: "أن تفعل مثل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي فعل لأجل فعله"، فإن التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الترك على صفة الخصوص هو: "أن تترك مثل ما ترك - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي ترك لأجل أنه ترك". ويكون التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الترك واجبًا أيضًا، وفيما سبق ذكره من قول الرازي تصريح بدخول الترك في المتابعة الواجبة، وقد صرح بوجوب التأسي في الترك ابن السمعاني (¬2)، قال: "إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا وجب علينا متابعته فيه" (¬3). الاتجاه الثاني في تعريف التأسي: عرف أبو شامة التأسي بأنه: "عبارة عن فعل يوافق فعل الغير مفعول لأجل فعله، متصف بصفاته ¬
الظاهرة، دون الموافقة له في النية" (¬1). فهو يرى أن التأسي لا يشترط فيه الموافقة في نية الفعل وقصده، أي أن الموافقة في الصورة الظاهرة كافية لتحقق التأسي، وقد علل ذلك بأن التأسي في اللغة لا يقتضي هذا الشرط الذي ذكره الآمدي وغيره، بل أهل اللغة يفسرون الإتساء بالاقتداء والاتباع، هكذا مطلقًا، بل قال: "ولم أر أحدًا ممن وقفت على مصنفه في اللغة ذكر في معنى الاتساء والاتباع ما ذكروا، ولا يشترط ما اشترطوا"، ثم نقل عن أهل اللغة تفسير الأسوة والاتباع بالقدوة. وعلى هذا القول فإن الاتباع خاص بالأفعال فقط، والطاعة خاصة بالأقوال. ونقل عن أبي الطيب الطبري ما يدل على أن التأسي لا يشترط فيه موافقة الغرض من الفعل أو نيته، وأبو الطيب الطبري أحد القائلين بالوجوب وهم الذين اشترطوا في التأسي الموافقة في الغرض والنية. ويرى أبو شامة: أن اشتراط معرفة حكم الفعل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يحصل التأسي قول بالوقف ويلزم منه إبطال استدلال من استدل على شرعية الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله التي لم يظهر فيها وجه القربة سواء في ذلك من قال بالوجوب أو الندب. وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الاتجاه على ثلاثة أقسام: ¬
الأول: ما أمر باتباعه فيه: فاتباعه واجب، والوجوب هنا حاصل من قوله لا من فعله. الثاني: ما نهى عن اتباعه فيه: فاتباعه غير مشروع وهل يحرم أم يكره؟ على الخلاف. الثالث: ما لم يأمر ولم ينه: فاتباعه مندوب. وعلى هذا فالاتباع في الفعل لا يكون إلا مندوبًا، لأن هذا هو معنى دلالة الفعل على الاستحباب في حقنا، وهي لا تدل على الوجوب، وقد ذكر أبو شامة أنه لم يجد فقيهًا واحدًا استدل على وجوب أمر واحد، بفعل مجرد للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقترن به ما يدل على الوجوب، فالأصل أن الاتباع في الفعل على الاستحباب إلا أن يرد الدليل بخلاف ذلك (¬1). الأدلة على عدم اعتبار الموافقة في حكم الفعل، وأن الاتباع لا يكون واجبًا: (1) قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]. قال أبو شامة: "أي جعلنا فعله ذلك دليلًا على إباحته لكم ونفي الحرج عنكم. ¬
(2) ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" (¬1)؛ والطاعة والعصيان إنما هما بالنسبة إلى القول دون الفعل، فدل على أن الوجوب مستفادٌ من القول دون الفعل. ويؤيده ما ورد عن المطلب بن حنطب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تركت شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئًا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه" (¬2). وهذا ظاهرٌ في القول دون الفعل. (3) ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" (¬3). ¬
قال ابن حزم: "فهذا خبرٌ منقول نقل التواتر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، فلم يوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أحدٍ إلا ما استطاع مما أُمر به، واجتناب ما نُهي عنه فقط. ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال: أمرتكم بما فعلت وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك في أمره، بتركه ما تركهم، حاشى ما أمر به أو نهى عنه فقط. فوضح يقينًا أن الأفعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدًا، وإنما حَضَّنا الله تعالى في أفعاله على الاتِّساء به بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وما كان لنا فهو إباحة لأن لفظ الإيجاب إنما هو علينا لا لنا. تقول: عليك أن تصوم رمضان وتصلي الخمس، ولك أن تصوم عاشوراء أو تتصدق، ولا يجوز عكسه" (¬1). قال أبو شامة: "ما ذكره هو ظاهر اللفظ فلا يُعدَل عنه إلا بدليل، كيف وإن فعله لم يكن يظهر في الغالب إلا للقليل من أصحابه، وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا واجب عليكم إلا من جهة الأمر والنهي، وأنه ما لم آمركم وأنهكم فأنتم خارجون من عهدة الوجوب والحظر "فذروني ما تركتكم" (¬2) ". (4) ما ورد من حديث الأعرابي الذي حلف أن لا يزيد شيئًا على ما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه واجب عليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح إن صدق" (¬3). ¬
قال أبو شامة: "موضع الدليل أنه لما حلف أن لا يزيد عليهن شيئًا، لم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالفلاح" (¬1). (5) ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم" (¬2). ففي هذا دليل على أمرين: أحدهما: أن الفرض عليهم لم يكن بنفس فعله، بل بفرضٍ من الله تعالى إذا اقتدَوا به فيه، فبطل قول الوجوب. والثاني: أن الناس كانوا يفعلونه اتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقتداءً به، مع أنهم لم يفهموا الصفة التي أوقعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، لأنه خرج منها هذا الكلام مخرج العموم والإطلاق المشعر بكثرة الوقائع؛ أي كان يدعُ أعمالًا كثيرةً من أعمال البر (¬3). (6) ما ورد عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إبراهيم: فلا أدري أزاد أم نقص - فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك؟ "، قالوا: صليت ¬
ما أجابوا به على أدلة القول الأول
كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة فسجد بهم سجدتين ثم سلم، فلما انفتَلَ أقبل علينا بوجهه فقال: "لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ... " (¬1). أي ما كنت أقتصر على بيان ذلك بفعلي، بل كنت أنبئكم به قولًا، فهذا يدل على أن الوجوب إنما يُستفاد من قوله دون فعله. ما أجابوا به على أدلة القول الأول: (1) الرد على الاستدلال بالكتاب: * قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]: قال أبو شامة: "المراد من اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُجعل إمامًا وقدوةً يُحذا حَذوه ويُسَارُ بسيرته، كقولك: اتَّبعَ المأموم الإمام في الصلاة. إنما هو فَعَلَ فِعْلَهُ ... فينبغي أن يُحمل قوله: {وَاتَّبِعُوهُ} على الندب لا على الوجوب، لأنَّا لو حملناه على الندب لم يلزمنا الوجوب الذي خصَّصْنَاهُ بأشياء كثيرةٍ ندبيةٍ لا تجب علينا وقد فعلها، ولو حملناه على الندب لم يلزمنا مثل ذلك (¬2). ¬
فالأمر بهذه الجملة أمر ندبٍ وإن كان مشتملًا على واجباتٍ كثيرة، وعلى هذا يُحمل أيضًا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وأرشد إلى هذا المعنى وقَوّاه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -[فيما يحكيه عن رب العزة]: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه" (¬1)، فقد جعل النوافل مِرْقاةً إلى محبته، وكأنها تفسير الاتباع في قوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} " (¬2). الرد على الاستدلال بالسنة: (2) قال السرخسي: "لو كان مطلق فعله موجبًا للاتباع لكان ذلك عامًا في جميع أفعاله، ولا وجه للقول بذلك، لأن ذلك يوجب على كل أحد ألا يفارقه آناء الليل وأطراف النهار ليقف على جميع أفعاله فيقتدي به؛ لأنه لا يخلو عن الواجب إلا بذلك، ومعلوم أن هذا مما لا يتحقق ولا يقول به أحد " (¬3). (3) ذكر أبو شامة ردًّا طويلًا ملخصه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتأخذوا مناسككم" (¬4) وذلك يوم النحر في الحج، واقتدى به الصحابة في أفعاله دون أن يعلموا أن تلك الأفعال أكانت واجبة أم مستحبة، فقوله: "خذوا" أي ¬
الموازنة بين القولين والرأي المختار
أوقعوا النسك على ما يوافق في الصورة ما أُوقعه عليه من نية التقرب المطلقة، ولم يضر جهل الصحابة بالتفرقة بين المندوب والواجب حال ملابسة الفعل (¬1). هذا حاصل ما ذكره، وهذا الرد لا يتوجه إلا إلى القائلين بأن عدم معرفة وجه وقوع الفعل مانع من حصول التأسي دون القائلين بأن ذلك غير مانع وهم الأغلب. الموازنة بين القولين والرأي المختار: الذي يظهر لي في هذه الدراسة ما يلي: أولًا: أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: القسم الأول: ما ورد في حقه بيان قولي، وهذا يعلم حكمه من القول. القسم الثاني: ما لم يكن فيه بيان قولي: وهذا النوع هو ما يسميه الأصوليون الفعل المجرد وهو دليل على الندب مطلقا، وذلك لأن صنيع الفقهاء جميعًا الاستدلال على الاستحباب بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يرد أمر أو نهي. وبناء على ذلك فالمختار من أقوال الأصوليين أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث هي بذاتها لا تدل إلا على الاستحباب (¬2). ثانيًا: لا يشترط في التأسي التوقف لمعرفة حكم الفعل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل مجرد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للشيء دليل بمجرده، وبذلك لا يرد اعتراض ¬
أبي شامة على أصحاب القول الأول. ثالثًا: إذا كان الاتباع هو التأسي، فإنه يصح أن يقال: إن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفعل المجرد مستحب وليس بواجب، ولكن هذا القول لا يستلزم القول بأن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله مطلقًا مستحب وليس بواجب. وبيان ذلك أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه ليست كلها واقعة على جهة الندب، بل منها ما وقع في حقه واجبًا، ومنها ما وقع في حقه خاصًا به. واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح حمله على اتباعه في الفعل المجرد فقط، بل اتباعه يشمل الأفعال كلها، وهذا على القول بأن الاتباع لا يكون إلا في الأفعال فقط. رابعًا: بناء على ما سبق فإن الاتباع في الفعل المجرد مستحب، ولكن ما حكم الاتباع في الفعل الواجب عليه - صلى الله عليه وسلم -؟ أهو واجب أم مستحب. على الطريقة الأولى لا إشكال في وجوبه (¬1)، ولا يمانع فيه أصحاب الاتجاه الثاني، لكن ما هو وجه الاتباع فيه: إن قال بالوجوب فقد خالف ما قرره (¬2)، وإن قال بالندب فقد خالف مقتضَى الإجماع (¬3)، فليس له إلا أن ¬
يقول وجوب الفعل لم يثبت في حقنا بفعله، بل ثبت الوجوب بدليل قولي، فإن قال ذلك: قيل له: أنتم ذكرتم أن الاتباع هو الموافقة في الصورة الظاهرة دون الحكم، فالذي فعل ذلك الفعل لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعله؛ لما أوقعه على وجه الوجوب كان متابعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ فإن قال لا خالف ما ذهب إليه (¬1)، وإن قال نعم خالف ما ذهب إليه (¬2). ولا مخرج من هذا إلا بالقول بوجوب الاتباع على طريقة أصحاب الاتجاه الأولى من اشتراط الموافقة في حكم الفعل. خامسًا: لا يلزم من القول بوجوب الاتباع القول بأن الأفعال النبوية ليست أدلة بمجردها، وأنه لابد من اشتراط معرفة الوجه، لما أورده أبو شامة من إلزامات، يُوافق عليها، بل يكفي في ذلك أن تحمل على الندب حيث لا دليل يتناول الفعل من الخارج. سادسًا: القول بوجوب الاتباع هو المناسب لما ورد من آيات فيها الأمر بالاتباع، فحمل كل تلك الآيات على الندب - كما يذهب إليه أبو شامة - مجازفة عظيمة، وبالرجوع إلى أقوال المفسرين لم أجد من فسر مثلًا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] بأنها على الاستحباب، لكنهم يذكرون معنى غير الذي يذكره أهل الأصول، وهو اتباع شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
وقبولها وعدم ردها، وعدم الرغبة عنها، وهذا معنى صحيح في اللغة، فإن الاتباع في اللغة يشمل معنى السير على نفس الطريق. سابعًا: الاتباع في اللغة: هو الموافقة في الأفعال، والطاعة هي امتثال الأمر، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الاتباع في الشرع مرادًا به الأقوال والأفعال (¬1). بناء على ذلك فالذي أميل إليه أن الاتباع يطلق ويراد به أحد معنيين: الأول: الاتباع العام: وهو قبول ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفعال والانقياد لشريعته، ولما دلت ¬
عليه أفعاله من أحكام، وهذا لا ينازع أحد من المسلمين في وجوبه، والأمر به في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصى. وهذا يكون في الأقوال والأفعال. الثاني: اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله على وجه الخصوص: وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الصدد على قسمين: القسم الأول: الفعل المجرد وهو الفعل الذي لم يتعلق به أمر أو نهي ولم يكن في موضع البيان. والاتباع في هذا الفعل مستحب، وليس بواجب، ولا يتوقف الاتباع فيه على معرفة حكمه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بل الأصل أنه مستحب إلى أن يدل الدليل على خلاف ذلك. أما التفصيل بين ما ظهر فيه وجه القربة وما لم يظهر فالأقرب - والله أعلم - أن مجرد الفعل دال على ترجح الفعل على الترك ولا معنى لذلك سوى الندب غير أنه درجات ومراتب، فأعلاها ما ظهر فيه وجه القربة، وأدناها ما لم يظهر. القسم الثاني: الفعل غير المجرد، وهو ما اقترن به بيان قولي. والاتباع في هذا الفعل يكون بثبوت حكم الفعل في حقنا على الوجه الذي ثبت به في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يدل الدليل على غير ذلك. ثامنًا: بذلك يصح أن يقال اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب - في أي نوع كان - ومعنى الوجوب ثبوت حكم الفعل في حقنا على الوجه الذي ثبت به في حق
حكم الاتباع والتأسي في الترك
النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث علمناه، وحيث لم نعلم فالأصل أن الفعل دال على الاستحباب إلى أن يدل الدليل على خلاف ذلك. وبهذا تجتمع الأدلة .. فما ذكره الأولون من أدلة على وجوب الاتباع نقول بها ولا نردها، ولا يلزمنا القول بالوقف بل ما ذكره الآخرون من امتناع الوقف في حكم الفعل وحمله على الندب لا غير نقول به ولا نرده، ولا يلزمنا حمل الاتباع على الاستحباب بذلك، ولعل هذا أوجه ما تحمل عليه الأدلة. حكم الاتباع والتأسي في الترك: بناء على ما سبق فإن الاتباع في الترك واجب، كوجوبه في الفعل، ومعنى الوجوب في حقنا: أن يكون حكم المتروك في حقنا هو حكم المتروك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما لم يقم دليل على خلاف ذلك. وهذا يقتضي أن: ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه حرامًا، فهو حرامٌ في حقنا. وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه مكروهًا، فهو مكروه في حقنا. وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبب، تعلق الحكم في حقنا بذلك السبب، فإذا زال السبب عاد حكم المتروك إلى أصله. وما تركه - صلى الله عليه وسلم - مما لم يقم في حقه مقتضٍ للفعل، كان حكم هذا المتروك في حقنا باقيًا على أصله. وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - إعراضًا عنه، ولم نعلم حكمه في حقه.
فقياس القول على الأفعال في التروك أن يقال: ما أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، ولا نعلم وجهه، لا يخلو من أن يكون على وجه القربة، أو لا يكون: فإن كان على وجه القربة كان هذا الفعل مكروهًا، لأن الكراهة تقابل الاستحباب، وما تركه ليس على وجه القربة فهو مباح في حقنا. ولكن القول بذلك لا يستقيم؛ وذلك لأن الأصل المتوقف عليه قبل الفعل بخلاف الأصل المتوقف عليه قبل الترك. وبيان ذلك: أن الفعل الذي يفعل على سبيل القربة إنما يطلب له الدليل على جواز فعله، فحيث لم يكن دليل فالجواز ممتنع، فالأصل أن هذا الفعل ممنوع منه، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له ناقل عن الأصل، أما في الترك: فإن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له غير ناقل عن الأصل بل مقوٍّ له ومعضد له، فكيف يحمل تركه - صلى الله عليه وسلم - على الكراهة، والمتروك ممنوع منه قبل نقل إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه؟ لذا فقياس القول في الأفعال هنا أن يقال: ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فعله لا يقع إلا قربة: فالترك دليل على التحريم، وإذا كان غير قربة فأقل الأحوال حمله على الكراهة. ولو قال قائل بحمله على التحريم لم يُبعِد، بل كان لقوله حظ من النظر، فإن أقل أحوال المتابعة في الترك تنخرم بمجرد الفعل، بخلاف الفعل، وهذا قاضٍ بحمل الإعراض على الوجوب دون الاستحباب.
ولا يستقيم القول بأن أكل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من الضب كان حرامًا لولا بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله للحكم إلا بذلك، وهو ما ذهب إليه الشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع (¬1). وما يظهر لي في هذه المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو فعل لما كان واجبًا، بل كان مستحبًّا، فكذلك لو ترك لا يكون حرامًا، بل مكروهًا، وهذا مورده فيما لا يقصد به التقرب، أما ما قصد به التقرب فلا يحمل إلّا على الحرمة لما سبق من أن ذلك هو الأصل واعتضد بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالدلالة على التحريم ليست لذات الترك، وإنما لأمر اقترن به خارج عنه، ولكنه لازم له. * * * ¬
الفصل الثاني ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -
الفصل الثاني ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -
توطئة
توطئة تناولت في الفصل السابق التعريف بالترك باعتباره مركبًا، وأتناول في هذا الفصل التعريف به باعتباره لقبًا، والأبحاث التي تتعلق بذلك، فحاولت أن أبين ذلك التعريف أولًا، وقد اقتضى ذلك أن أتعرض لتعريفه عند السابقين بشيء من الدراسة، ثم حاولت بعد ذلك أن أبين سبل الوصول إلى معرفته حتى أتمكن من دراسته ثم أخيرًا بيان الأقسام التي ينقسم إليها تمهيدًا لدراسة كل قسم على حدة في الباب الثاني والثالث. وفي هذا الإطار تبلور هذا الفصل في ثلاثة مباحث: الأول منهما: للتعريف بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: لبيان سبل الوصول إليه. والثالث: لبيان أقسامه.
المبحث الأول: المراد بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -
المبحث الأول: المراد بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - المطلب الأول: تعريف ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الأصوليين القدامى: لم يتعرض الأصوليون القدامى لذكر تعريف محدد لترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بل اكتفى من تعرض له بذكرٍ أن يبين أن تركه - صلى الله عليه وسلم - داخل في باب الأفعال، فالسمعاني في (قواطع الأدلة) اكتفى بقوله: "إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من الأشياء وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم إليه الضب فأمسك عنه أصحابه وتركوه إلى أن قال لهم: "إني أعافه" وأذن لهم في تناوله (¬1) " (¬2)، وكذلك فعل الزركشي في (البحر المحيط) حيث ذكر أن الأصوليين لم يتعرضوا لتركه، واكتفى بنقل كلام السمعاني المشار إليه سابقًا. أما الشاطبي فقد تعرض لتقسيم الترك والسكوت إلى قسمين وعرف كل قسم بمفرده، فقد قال: "سكوت الشارع عن الحكم في مسألة أو تركه لأمر ما على ضربين: أحدهما: أن يسكت عنه أو يتركه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب تقرر لأجله ولا وقع سبب تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
المطلب الثاني: تعريف ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدراسات المعاصرة
الضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرًا من الأمور وموجبه المقتضي له قائم وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت ... " (¬1). وهو وإن نسب الترك والسكوت إلى الشارع فمراده النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يفهم من تناوله هذا المبحث بالدراسة في غير موضع. ولا يخفى أن ترك النقل داخل تحت القسم الأول من قسميه، والترك عنده بالمعنى الأعم، وهو وإن لم يصرح بذلك لكن القسم الأول لا يكون لذكر الترك فيه معنى إلا على هذا الوجه. وقد وافق جماعةٌ الشاطبيّ فيما ذهب إليه كابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم، مما سَيُبَيَّن في موضعه إن شاء الله تعالى. المطلب الثاني: تعريف ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدراسات المعاصرة: أما في الدراسات المعاصرة فقد تعرض لترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدراسة: الدكتور الأشقر: في كتابه (أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -)، والشيخ الغماري في رسالته (حسن التفهم والدرك لمسألة الترك)، والدكتور صالح الزنكي في بحثه (رؤية أصولية لتروك النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) ولابد بيان مفهوم ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - عند كل، وبيان ما ¬
يتجه على هذا المفهوم (¬1). تكلم الدكتور الأشقر في رسالته (أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -) عن الترك باعتباره أحد أقسام الفعل، ومع أنه قد بين أن الترك من النبي - صلى الله عليه وسلم - على نوعين: "العدمي" و "الوجودي"، إلا أنه لم يتناول النوع الأول لأنه غير داخل في دراسته، وذلك لأنه ليس بفعل، فهو خارج عن نطاق بحثه. أما الترك الوجودي: وهو الكف الذي له تعلق بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفه بـ: "أن يقع الشيء، ويوجد المقتضي للفعل أو القول، فيترك النبي الفعل والقول، ويمتنع عنهما" (¬2). ثم بين أن هذا القسم يشمل ترك الفعل، وترك القول الذي هو السكوت، والسكوت يشمل ترك الإنكار الذي تناوله الأصوليون بالدراسة تحت باب الإقرار وإن كان قد أفرده بفصل مستقل متابعة للأصوليين في صنيعهم. أما الشيخ الغماري فقد عرف الترك بقوله: "أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، [لم يفعله] (¬3)، أو يتركه السلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنهي عن ذلك الشيء المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته" (¬4). ¬
ولا بد من إيراد عدة ملاحظات هنا: (1) أن الدكتور الأشقر لم يفرق في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ما نقل إلينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك، وبين ما لم ينقل إلينا أنه فعل، فمتروك النقل داخل تحت الترك بهذا التعريف. وقد تكلم عن ترك النقل وعده أحد قسمي طريق معرفة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للفعل. أما الشيخ الغماري فلا يدخل في مفهوم الترك إلا متروك النقل فقط؛ وذلك لأن الترك المنقول سيتبع ما دل عليه قول أو فعل أحد السلف، أو أنه ترك في مقام البيان وقد صرح بأن هذه المسألة لا تدخل في نطاق بحثه. (2) أن السكوت داخل تحت ماهية الترك اصطلاحًا عند الأشقر، بينما لا يدخل في مفهوم الترك عند الشيخ الغماري. (3) أن الدكتور الأشقر استعمل الترك بالمعنى الأعم الذي يشمل الكف وغيره، وهو الإطلاق الأول فيما ذكر في هذه الدراسة، وعدم تناوله الترك العدمي للدراسة إنما لعدم دخوله في نطاق الفعل، أما الشيخ الغماري فلم يعرض لشيء من ذلك فلم يبين ما هو المراد من الترك، هل هو بمعنى الكف أم العدم أم العدم والكف معًا. ¬
(4) أن الدكتور الأشقر لم يشترط عدم وجود دليل البتة في المسألة بل متى تحققت صورة الترك في حادثة معينة كان ذلك تركًا منه - صلى الله عليه وسلم -، ولذا يصح عنده وقوع التعارض بين الترك والفعل وبين الترك والقول، أما الشيخ الغماري فقد اشترط عدم وجود حديث أو أثر بالنهي عن الشيء المتروك، ويلزم من هذا الاشتراط أن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن حصول التعارض بينه وبين الفعل أو القول، بل كل موقف ما حصلت فيه صورة الترك كانت له دلالة ما: عارضها دلالة فعل أو قول منه - صلى الله عليه وسلم - فهي غير داخلة تحت مفهوم الترك عنده، وهذا أيضًا لا يمكن تصحيحه بحال، فلو أنه ذكر ذلك في باب الدلالة لكان هذا مقبولًا بغض النظر عن مدى صحة ما ذهب إليه. (5) أن الدكتور الأشقر عندما تكلم عن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل معه غيره، وهذا ما تقتضيه هذه النسبة لغة بل واصطلاحًا، أما الشيخ الغماري فقد أضافه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو السلف الصالح، فماذا يفعل الشيخ الغماري فيما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله الصحابة من بعده، هل يدخله في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لن يدخله؛ بمقتضى القيد الذي ذكره من اشتراط ترك السلف لا يدخل ذلك في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مخالف لمقتضَى هذه النسبة، وأضف إلى ذلك أنه لم يحدد حدًّا زمانيًّا أو مكانيًّا للسلف الصالح، ولم يبين من المقصود بهذا الوصف، وهو إطلاق قد يشمل علماء السنة على مدار ثلاثة قرون ولا يخفى أن مثل هذا لا يكون قيدًا أبدًا. ثم إن هذا القيد يقتضي حجية أفعال السلف الصالح وأنها تدل على الأحكام شرعًا، وهذا لا يقول به الشيخ الغماري، ولا غيره.
(6) أن الإقرار داخل تحت مسمى الترك الاصطلاحي عند الدكتور الأشقر وقد صرح بذلك، أما الشيخ الغماري فلم يبين هل يدخل أم لا، لكن صنيعه في رسالته يدل على أنه غير مراد. (7) الدكتور الأشقر لم يتعرض لدلالة الترك في التعريف، فهو يبين ماهية الترك بغض النظر عن دلالته، أما الشيخ الغماري فقد اشترط ألا يأتي حديث أو أثر بالنهي عن المتروك، وهذا يقتضي أنه لو أتى بالإباحة أو الاستحباب فهو داخل تحت الترك عنده، وهذا تصرف غير مرضي، فالصحيح أن يبين ماهية الشيء أولًا ثم بعد ذلك يتعرض لحكمه، لأن الدلالة هي المطلوب الأعظم من ذكر التعريف، فلا تقحم فيه، فضلاً عن أنها مبنية عليه. بناء على هذه الملاحظات فإن تعريف الشيخ الغماري لترك النبي - صلى الله عليه وسلم - تعريف غير واضح المعالم، ولا يمكن الاعتماد عليه في هذه الدراسة، أما تعريف الأشقر للكف فالذي يظهر أنه تعريف مستجمع للشروط التي تطلب في التعريف ولا يتجه عليه اعتراضات وجيهة، ومع ذلك فإن هذا التعريف بمفرده لا يمكن اعتماده في هذه الدراسة إلا إذا قيل بأن الترك هو الكف فقط، وقد سبق أن بينا أن الاتجاه المرضي هو الترك بالاعتبار الأعم الموافق للمعنى اللغوي، ولذا يتوجب علينا إدخال الترك العدمي في تروك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولابد من بيان موقف هذه الدراسة من الأنواع الأخرى التي تتعلق بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان ذلك بحول الله وقوته فيما يلي.
المطلب الثالث: التعريف المختار في هذه الدراسة ووجهه
المطلب الثالث: التعريف المختار في هذه الدراسة ووجهه: المراد بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدراسة: عدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان مقدورًا له كونًا. وعلى هذا التعريف يدخل في تركه - صلى الله عليه وسلم - ما يلي: (1) سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم -: سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك منه للقول، وقد أفرد له الأصوليون مبحثًا خاصًا، وهو أحكام سكوته - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ ذلك يشمل ما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيانه لانتظار الوحي، ويشمل كذلك سكوته عن الإنكار الذي بحثه الأصوليون تحت مبحث الإقرار، ومعلوم أن القول نوع من الأفعال خاص باللسان، لكنه لا يدخل عند الأصوليين تحت باب الأفعال، بل استعمل في مقابله، وذلك بسبب أن القول هو الأصل في التشريع، وأنه أقوى دلالة من الفعل، فالفعل عندهم قسيم القول. (2) إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -: بحث الأصوليون مبحث الإقرار تحت أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو ترك الإفكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الترك قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وعليه فإن تخصيص الإقرار بأنه ترك الاعتراض بالقول أمر غير وجيه، فالوجه الجامع بين ترك القول وترك الفعل هو الكف، ولذا فإن مبحث الإقرار داخل في مبحث الترك لأنه في الحقيقة نوع من الكف.
(3) الترك العدمي
(3) الترك العدمي: الترك العدمي - كما سيأتي تعريفه - هو الترك الذي ثبت من حيث إنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل مقابله (¬1)، وهو داخل في ماهية الترك بالتعريف السابق. (4) الكف أو الترك الوجودي: وهذا لا إشكال في ثبوته ودخوله كما سبق بيانه. (5) ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ورد فيه بيان قولي: قد يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ينهى عن فعل من الأفعال ثم يأتي نقل بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ما نهى عنه، أو ترك ما أمر به، وهذه الصورة يبحثها الأصوليون في باب التعارض بين القول والفعل والترجيح بينهما (¬2). (6) ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع وإن فعل مقابله في موضع آخر: قد يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا ويفعل أحيانًا أخرى، فحصول الفعل تارة لا ينفي حصول الترك (المنقول) تارة أخرى ما دام مستوفيًا للشروط، وهذا يبحث في مبحث التعارض (¬3). ¬
(7) ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هم به
(7) ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما همَّ به: بحثه الأصوليون في باب الأفعال، وهو كف، فلذلك يدخل في الترك المر اد بحثه. المحترزات: يخرج بذلك التعريف الترك لعدم الاستطاعة الكونية. فالمراد بالاستطاعة هي الاستطاعة الكونية، وذلك مثل تركه لركوب الدراجة والسيارة والطائرة؛ إذ ذلك لم يكن موجودًا على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه أهل ذلك الزمان، أما الاستطاعة الشرعية فهي لا تنتفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال لكونه مشرعًا بفعله كما سيأتي بيانه في مبحث الإقرار.
المبحث الثاني: طريق معرفة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -
المبحث الثاني: طريق معرفة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - المطلب الأول: المراد من طريق معرفة الترك: المراد من طريق معرفة الترك: بيان سبل الوصول إلى معرفة ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف بنقل الصحابة له، فإن أحد طرق معرفة الترك أن ينقل الصحابة تركه - صلى الله عليه وسلم -. ولكن لما كان ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - غير محصور بحد ولا عدد، فإن هناك طريقًا آخر لمعرفة ذلك المتروك وهو عدم نقل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل. وبذلك يكون سبيل معرفة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أمرين: الأول: أن ينقل الصحابي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك. الثاني: أن لا ينقل الصحابي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلًا ما. وقد ذكر ابن القيم هذين الطريقين تحت فصل بعنوان "نقل الصحابة ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1)، فذكر نوعين: أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله. الثاني: عدم نقلهم ما لو فعله لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم علم أن ذلك لم يكن. ¬
إثبات الطريق الأول لا إشكال فيه
والتعبير بطريق معرفة الترك أولى من قولنا عن الأمرين معًا نقل الترك، بل نقل الترك خاص بالأمر الأول منهما، أما الثاني فهو ليس نقلًا للترك بل هو ترك لنقل الفعل. والذي ذكره ابن القيم في النوع الثاني هو حالة مخصوصة في النقل، وإنما خص ابن القيم هذه الحالة المخصوصة في النوع الثاني، لأنه كان في معرض الكلام عن الترك الكفي أو الامتناعي، والكلام هنا عن ترك النقل إجمالًا، ولذا لابد من بيان وجه ثبوت كل طريق على حدة. إثبات الطريق الأول لا إشكال فيه: لا شك أن النوع الأول لا يحتاج إلى إثبات فهو واضح، وهو أمر لا يخص الترك وحده بل كل أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته وأحواله وصفاته لابد لها من النقل حتى تعرف، وذلك لأن الأصل في الأفعال العدم، فإثبات الفعل ناقل عن الأصل فيحتاج إلى نقل. والترك الذي هو من أقسام الفعل - الترك الوجودي - لابد له من نقل ليخرج عن الأصل - وهو العدم - وهذا واضح لا إشكال فيه. إشكالية ثبوت الطريق الثاني: أما الإشكال فهو في النوع الثاني، وذلك أن لا يلزم من عدم نقل أمر ما كون هذا الأمر لم يحصل، فلا تلازم إذن بين كون الشيء لم ينقل وبين كونه قد حصل، فإن ما حصل عند من لم يطلع على نقله لا يصح فيه أن يقال إنه لم يحصل، فكيف يستدل إذن على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك فعلًا ما بأنه لم ينقل لنا أنه
فعل، فلربما حصل ولم يبلغنا ولم ينقل إلينا، وهو ما عبر عنه الأصوليون بأن عدم النقل لا يستلزم نقل العدم. وهذا الإشكال أشار إليه ابن القيم رادًا عليه فقال: "فإن قيل: فأين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدًّا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل ... " (¬1). وعندما تعرض الدكتور الأشقر للكلام على هذا النوع في رسالته (¬2) ذكر أن هذه القاعدة الأصولية مسألة مهمة، ولذا فقد ناقش هذه القاعدة الأصولية من خلال تتبع خلاف العلماء في فرع فقهي، وهو أصناف الخارج من الأرض، وذلك لأنه رأى أن كل من أثبت هذه القاعدة مثلوا بهذا المثال، وقد ذكر أن إثبات هذه القاعدة على إطلاقها يقتضي أن كل ما لم ينقل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له فقد تركه، وحينئذ يكون بمنزلة النص على حكمه، وذلك يقتضي منع إجراء العموم على وجهه .. ويقتضي منع القياس في ذلك. وهذا الذي ذكره لا يلزم من إثبات القاعدة الأصولية، ولم يُرِد ابن القيم هذا الإطلاق الذي ذكره الدكتور الأشقر، فابن القيم لم يُرد كل أنواع ترك النقل، وإنما خص نوعًا واحدًا وهو ما كان مع وجود مقتضٍ للفعل ولم يكن هناك مانع .. ¬
المطلب الثاني: بيان مذهب الأصوليين في التلازم بين ترك النقل ونقل الترك
والذي يظهر لي أن هذه المسألة ما دامت مسألة أصولية فلا مناص من تحري أقوال الأصوليين في تلك المسألة المهمة، ولا يقتصر في إثباتها من عدمه على تتبع الخلاف في فرع فقهي، على أنه إذا أردنا إثبات القاعدة أو نفيها من خلال تتبع الخلاف الفقهي فإنه لا يصح الاعتماد على فرع فقهي واحد. على أن الدكتور الأشقر عندما قام بتقسيم ترك النقل قام بتقسيم ترك النقل مع وجود المقتضِي وانتفاء المانع، وهو بذلك أيضًا لا يذكر كل أقسام ترك النقل بل يتكلم عن نوع خاص منه. والبحث هنا بصدد إثبات القاعدة الأصولية المذكورة من عدمها فقط، والقسم الذي يثبته هذا الطريق هو الترك العدمي أي الترك الذي لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله، أما الأقسام التي ذكرها الدكتور الأشقر لترك النقل: فالذي يظهر للباحث أنها ليست أقسامًا لذات النقل، إنما هي قرائن تقوي دلالة القاعدة، وسوف تُناقش قضية القرائن المقوية لما تثبته القاعدة، وذلك بعد بحث ثبوت هذه القاعدة أولًا. المطلب الثاني: بيان مذهب الأصوليين في التلازم بين ترك النقل ونقل الترك: لابد أولًا من تقرير عدة مقدمات وأمور في غاية الأهمية لفهم قضية التلازم بين ترك النقل ونقل الترك وهي ما يلي: الأمر الأول: الأصل في الأفعال العدم (¬1)، فكل فعلٍ الأصلُ فيه أنه ¬
الأمر الثاني
لم يفعل حتى ينقل، وهذا ليس باعتبار الواقع إنما هو باعتبار السامع. الأمر الثاني: الناقل عن الأصل يلزمه الدليل سواء كان ذلك الأصل إثباتًا أم نفيًا، إذ قد تقرر أن كل من أثبت حكمًا لابد له من دليل، سواء كان الحكم إثباتًا أو نفيًا، وقد كثر الخلاف بين الأصوليين في الدليل هل يلزم النافي أم المثبت (¬1) والمرضي من أقوالهم في ذلك: أن الدليل يلزم كل من ادعى ¬
الأمر الثالث
العلم بشيء سواء كان نفيًا أو إثباتًا، أما من نفى علمه بالدليل فاستصحب البراءة الأصلية حتى يرد الدليل فهذا هو النافي الذي لا يلزمه الدليل. الأمر الثالث: أن اتباع الأصل حتى يرد الناقل عنه هو معنى الاستصحاب الذي اعتبره الأصوليون دليلًا شرعيّا، وهو وإن وقع الخلاف في أنواعه ودلالته إلا أن هذا القدر منه متفق عليه (¬1). ¬
الأمر الرابع
الأمر الرابع: أن الشريعة محفوظة باقية تكفل الله بحفظها وعدم ضياع شيء منها بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فكل ما اقتضى حكمًا تكليفيًا فهو محفوظ باق بدلالة هذه الآية. الأمر الخامس: المعتبر في الاستدلال الشرعي غلبة الظن بالأمر أو عدمه، لا اعتبار الواقع في نفس الأمر، فالدليل الذي لم يبلغ المجتهد - الذي لم يقصر في البحث والطلب - لا يلزمه، فهو في حقه كالعدم - وإن كان واقعًا في نفس الأمر - إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فتكليفه بذلك فيه تكليف بما لا يطاق، وهو غير واقع في هذه الملة بحمد الله. الأمر السادس: من المعلوم قطعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غير حكم البراءة الأصلية في كل الأفعال، فنحن بعد ورود الشرع على أحد أحوال ثلاثة: ¬
الأمر السابع
الأول: أن نعلم ثبوت الحكم فنقطع بتغيير حكم البراءة الأصلية. الثاني: أن نعلم أن الحكم جاء موافقًا لمقتضَى البراءة الأصلية. الثالث: أن نشك أن البراءة الأصلية قد حصل لها ما يزيلها فيلزمنا البقاء عليها حتى يثبت ما يغيرها (¬1). الأمر السابع: أن البحث ليس في كل ترك، إنما هو في ترك اقتضى تشريعًا، وفي ترك فعل لو حصل لا يقع إلا تشريعًا. الأمر الثامن: ذهب البيضاوي (¬2) في (منهاج الأصول) (¬3) وجماعة من شراحه: كالأصفهاني (¬4) في (شرح المنهاج) والإسنوي (¬5)، في شرحه (نهاية ¬
السول)، والقرافي (¬1) في (نفائس الأصول في شرح المحصول) (¬2)، وابن رشيق (¬3) في اختصاره للمستصفى (¬4)، والآمدي (¬5) وذكره الرازي (¬6) طريقًا ¬
عول عليه بعض الفقهاء - ولم يصرح بموافقته - وكذلك الزركشي (¬1) - نقله عن البيضاوي ولم يرده - إلى أن الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم من الأدلة المقبولة شرعًا. وليس المراد بعدم الحكم أن تكون واقعة خالية من حكم شرعي في المسألة، بل المراد أن تكون الواقعة خالية من حكم خاص فيكون حكمها باق على مقتضَى البراءة الأصلية - وهي أن الأصل في الأعيان المنتفع بها الإباحة (¬2)، والأصل في العبادات المنع (¬3) - حتى يرد ما يغيرها. ¬
ومن أدلتهم على ذلك
ومن أدلتهم على ذلك: أولًا: أنه لو ثبت حكمٌ شرعي ولا دليل عليه للزم منه تكليف المحال. ثانيًا: أن الله لو أمرنا بشيء، ولم يضع عليه دليلًا، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز. ثالثًا: أن سائر الأصول كانت معدومة، فوجب بقاؤها على العدم، تمسكًا بالاستصحاب. رابعًا: الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، وإنما يجوز العدول عن ذلك الأصل إذا وجد دليل يوجب الرجوع عنه، وذلك الدليل لا يكون إلا نصًا أو إجماعًا أو قياسًا، والحكم الذي ينتج من هذا الدليل ليس من باب تغيير الحكم بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان. وسبب من ذهب إلى رد الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم: أنه يلزم منه خلو الحادثة عن حكم شرعي وهذا باطل مردود (¬1). فإذا قيل: إن المراد ليس ارتفاع الحكم بالكلية بمعنى خلو الواقعة عن ¬
من المقدمات السابقة يتبين أن
حكم شرعي، وإنما المراد عدم ثبوت حكم على وجه الخصوص فتبقى الواقعة على حكم البراءة الأصلية: ارتفع الخلاف وكان هذا المعنى محل اتفاق، هذا ما ظهر لي وقد بحثت كثيرًا عمن صرح بهذا من الأصوليين إلى أن وجدت تصريحًا به للشيخ محمد بخيت المطيعي في حاشيته على نهاية السول للإسنوي (¬1). من المقدمات (¬2) السابقة يتبين أن: مذهب الأصوليين هو أن عدم الدليل على الحكم الخاص يلزم منه عدم الحكم الخاص، ويوجب البقاء على البراءة الأصلية واستصحابها حتى يرد من الأدلة ما يقتضي تغيُّرها. وحيث كان البحث هنا في الترك الذي له دلالة شرعية: فإنه يسع التقرير أنه: إذا ترك نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلًا ما له دلالة شرعية فإن الذي يلزمنا من ذلك هو البقاء على الأصل وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذا الفعل حتى يرد ما يثبت أنه فعله، فهو إذن دليل (¬3) على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك هذا ¬
الفعل فلم يفعله (¬1). ¬
القرائن التي تقوي هذا الأصل
القرائن التي تقوي هذا الأصل: إذا كان عدم النقل دليلًا على عدم الحصول في الشرعيات، فإن هناك من القرائن ما يقوي ذلك الأمر ويعضده. فمن ذلك: 1 - أن يروي الصحابي تفاصيل حادثة وقعت مما يتعلق به شرع ويذكر ذلك على سبيل الاستقصاء. وهذا يدل على أنه لم يغادر من تفاصيلها الرئيسة شيئًا (¬1) وذلك لأن ¬
الصحابي أمين فيما ينقل، فلو كان هناك تفصيل له أثر في الحكم مما يتعلق به شرع لنقله الصحابي. ومن أمثلة ذلك عدم نقل الجلد في قصة رجم الغامدية. وذلك فيما ورد من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: جاء ماعز بن مالك - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله طهرني، فقال: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله: "فيم أطهرك؟ "، فقال: من الزنى، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبه جنون؟ " فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: "أشرب خمرًا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أزنيت؟ "، فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فرقتين، قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال: "استغفروا لماعز بن مالك" قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم" قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري
الله وتوبي إليه" فقالت: "أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ " قال: "وما ذاك؟ " قالت: إنها حبلى من الزنى، فقال: "آنت" قالت: نعم، فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك"، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: "إليَّ رضاعه يا نبي الله"، قال: "فرجمها" (¬1). فليس في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الجلد والرجم وقد ثبت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ورد من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - الله: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (¬2). ولذا فقد اختلف الفقهاء في الجمع بين الحديثين. فذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى الجمع بين الرجم والجلد للحديث السابق، وهو قول الحسن البصري (¬3) وإسحق بن راهويه (¬4) ورواية عن أحمد ¬
وداود (¬1) وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي وابن المنذر (¬2). وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجمع بين الجلد والرجم (¬3). قالوا: لم يرو الجلد في قصة ماعز، ولو حصل لنقل، ولم يرو كذلك في قصة الجهنية ولا اليهوديين اللذين رجمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجعلوا حديث ماعز - رضي الله عنه - ناسخًا لحديث عبادة - رضي الله عنه -، ويقوي ذلك النسخ أنه كان عقب قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فحديث عبادة - رضي الله عنه - متقدم على حديث ماعز - رضي الله عنه -. ¬
واعترض على ذلك: بأنه ليس في قصة ماعز - رضي الله عنه - ومن ذكر معه - على تقدير تأخرها - تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم، لاحتمال أن يكون ترك روايته لوضوحه ولكونه الأصل. وأجيب عن ذلك: بأن جلد من ذكر من الخمسة الذين رجمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو وقع مع كثرة من يحضر عذابهم من طوائف المؤمنين يبعد أنه لا يرويه أحد ممن حضر، فعدم إثباته في رواية من الروايات مع تنوعها واختلاف ألفاظها دليل على عدم وقوع الجلد. قال ابن حجر: "فدل ترك ذكره على عدم وقوعه، وعدم وقوعه على عدم وجوبه" (¬1). ويرى الصنعاني أن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجلد أمر ظاهر دعاه إلى التوقف بعد أن كان يقول بالجمع بين الجلد والرجم (¬2). ويرى الدكتور الأشقر أن القائلين باحتمال عدم ذكره لوضوحه تسليم منهم بصحة هذه القاعدة وأن الخلاف في الأثر الفقهي فقط (¬3). والذي يظهر للباحث أن القول الراجح هو قول الجمهور، إذ يبعد جدًّا فعله مع عدم نقله وهو الموافق للأصل المذكور في أن عدم النقل دليل على نقل ¬
2 - أن ينقل الراوي الواقعة ويسكت عن تفصيل - لو حصل - يجعل الصورة نادرة.
الترك في الشرعيات والله تعالى أعلم (¬1). هذا وقد حكي قول ثالث بالجمع إذا كان الزاني شيخًا ثيبًا وعدمه إذا كان شابًّا، وقد قال النووي: "هذا مذهب باطل لا أصل له ... " (¬2). 2 - أن ينقل الراوي الواقعة ويسكت عن تفصيل - لو حصل - يجعل الصورة نادرة. فسكوته يكون حجة على عدم حصول ذلك التفصيل. وقد مثل له الدكتور الأشقر بما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد مسلمًا بكافر وقال: "أنا أحق من وفَّى ذمته" (¬3)، فالقول بأنه لعل قاتلًا قتل كافرًا ثم أسلم أسلم القاتل أمر نادر، وتتشوف الطباع لنقله فسكوت الراوي عنه يدل على أنه لم يكن (¬4). ¬
3 - أن يكون ذلك الخبر مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله لو حصل، فعدم نقله والحالة كذلك يؤكد عدم وقوعه.
ومن أمثلة هذا النوع: ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت يا رسول الله، قال: "وما أهلكك؟ "، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: "هل تجد ما تعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال: " فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، قال: ثم جلس فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر فقال: "تصدق بهذا"، قال: أفقر منا؟ فما بين لابتَيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك" (¬1). فالراوي لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة بالكفارة بل أمر الرجل فقط، وهذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها إذ لو أمرها لنقله؛ لأن مثل ذلك يحتاج إليه في معرفة الحكم، والراوي إنما يروي لبيان الحكم، ومما يجدر الإشارة إليه هنا أننا وإن قلنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المرأة بالكفارة إلا أن الخلاف في كون المرأة تجب عليها كفارة ما زال قائمًا؛ إذ يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها اكتفاءً بما عرف من أن النساء شقائق الرجال في الأحكام. 3 - أن يكون ذلك الخبر مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله لو حصل، فعدم نقله والحالة كذلك يؤكد عدم وقوعه. ¬
ونظيره ما يذكره الأصوليون من أن ما ينقل على سبيل التواتر لا يكفي فيه نقل الآحاد. فمن ذلك أنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الغائب على غير النجاشي، أو أنه كرر العمرة قبل خروجه إلى عرفات. ومن ذلك أيضًا أنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب في حجة الوداع إلى موضع تحنثه في غار حراء ولا ذهابه إلى غار ثور. فكل ذلك مما يستفيض العلم به لو حصل، ويستحيل أن يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينقله واحد - والأحكام الشرعية متعلقة بمثل ذلك - لو حصل - ومع ذلك ينقل ما هو أقل من ذلك بكثير في الشأن، فكل ذلك يقوي القول بعدم حصول مثل ذلك (¬1). ومن ذلك: أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك مال الكعبة ولم بقسمه، فاستدل به شيبة بن عثمان - رضي الله عنه - على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أرد أن يقسمه، وبيان ذلك فيما ورد عن شقيق عن شيبة يعني ابن عثمان قال: قعد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مقعدك الذي أنت فيه فقال: "لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة"، قال: قلت: "ما أنت بفاعل"، قال: "بلى لأفعلن"، قال: قلت: "ما ¬
أنت بفاعل"، قال: "لم"؟ قلت: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى مكانه، وأبو بكر - رضي الله عنه -، وهما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه، فقام فخرج (¬1). قال ابن حجر: "قال ابن بطال: أراد عمر قسمة المال الذي في الكعبة في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب، قلت - القائل هو ابن حجر -: وتمامه أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - مُنزَّل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره، فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}، وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور، ولو ظهر له لفعله، لا سيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته فيكون عمر - رضي الله عنه - مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض" (¬2). * * * ¬
المبحث الثالث: أقسام الترك
المبحث الثالث: أقسام الترك تبين مما سبق أن الترك يعرف بطريقين، فالترك الثابت من الطريق الأول يصح أن يقال فيه أنه الترك المنقول، والنوع الثاني يصح أن يقال فيه أنه متروك النقل، وكل طريق منهما ينقسم الترك بحسبه إلى عدة أقسام، ولذا فإنه لأجل أن تتبين الأقسام التي ينقسم إليها الترك لابد أولًا من بيان أقسام كل طريق، ووجه هذه القسمة؛ من أجل الوصول إلى تقسيم صحيح للترك، وهذا يقتضي بيان تقسيم الأصوليين للأفعال؛ لأن الترك الوجودي فعل - كما سبق بيانه - فلابد من النظر في تقسيم الأصوليين للأفعال أولًا ثم النظر بعد ذلك في مدى صلاحية هذا التقسيم لاعتباره في الترك وهل يحتاج إلى نوع من التعديل أم لا، ثم بيان تقسيم الترك الكفي باعتبار تلك القسمة، ثم بيان الأنواع التي ينقسم إليها متروك النقل، وبجمع هذه الأقسام يمكننا الوصول إلى تقسيم مناسب للترك، وبيان ذلك في المطالب التالية. المطلب الأول: أقسام الترك المنقول: * قسمة الأصوليين للأفعال: قسَّم الزركشي أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تسعة أقسام هي: 1 - ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء وحركات الجسد، وهذا على الإباحة.
2 - ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة، قال: والمشهور في كتب الأصول أنه يدل على الإباحة. 3 - ما احتمل أن يخرج عن الجبلية إلى التشريع بمواظبته على وجه خاص كالأكل والشرب واللبس والنوم وهو دون ما ظهر فيه قصد القربة وفوق ما ظهر فيه الجبلية، وفيه خلاف بين الإباحة والاستحباب. 4 - ما علم اختصاصه به وهو واضح. 5 - ما يفعله لانتظار الوحي. 6 - ما يفعله مع غيره عقوبة. 7 - ما يفعله مع غيره إعطاء. 8 - الفعل المجرد عما سبق وقد ورد بيانًا. 9 - الفعل المجرد عما سبق ولم نعلم صفته في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قسمان: أ - أن يظهر فيه قصد القربة. ب - أن لا يظهر فيه قصد القربة. أما الأول: فاختلف فيه بين الوجوب والاستحباب. والثاني: اختلف فيه على خمسة أقوال (¬1). وهذه القسمة قد تختلف من أصولي إلى أصولي آخر (¬2)، فأبو شامة ذكر ¬
في كتابه (المحقق من علم الأصول) أقسام أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقسمها إلى سبعة أنواع والذي يهمنا من تقسيم أبي شامة هو تفصيله لمورد التقسيم حيث قال: "وبيان الحق أن نقول: فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو إما أن يكون امتثالًا لما ساوته أمته فيه أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إما أن يكون من الأفعال الجبلية أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إما أن يكون من خواصه أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إما أن يكون بيانًا أو لا، فإن لم يكن فلا يخلو إما أن تعلم صفته أو لا، فإن لم تعلم فلا يخلو إما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا، فهذه سبعة أقسام" (¬1). وهذه الأقسام السبعة هي: ما ساوته فيه أمته، والفعل الجبلي، والفعل المختص به، والفعل بيانًا لحكم مجمل، والفعل المبتدأ المطلق، وهذا ثلاثة أنواع: الأول: أن يكون معلوم الصفة. الثاني: أن يكون غير معلوم الصفة وظهر فيه قصد القربة. الثالث: أن يكون غير معلوم الصفة ولم يظهر فيه قصد القربة. وهذه الأقسام السبعة هي في الأصل خمسة أقسام كما هو واضح. والتقسيمات الأخرى للأصوليين لا تخرج عن التقسيم المذكور بل كلها تدور في فلكه، ولذا فلا حاجة للتطويل بذكرها. ¬
* تقسيم الترك الوجودي باطراد قسمة الأصوليين للأفعال
* تقسيم الترك الوجودي باطراد قسمة الأصوليين للأفعال: قام الأشقر بتقسيم الترك الوجودي إلى أربع أقسام: الأول: الترك لداعي الجبلة البشرية. الثاني: الترك الذي قام دليل اختصاصه به. الثالث: الترك بيانًا أو امتثالًا. الرابع: الترك المجرد، وهو نوعان: أ - ما علم حكمه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول أو استنباط. ب - ما لم يعلم حكمه. ثم ذكر بعد ذلك أن ما سبق يقال له: ترك مطلق، وهناك نوع هو ترك لسبب. وعلى ذلك فالترك الوجودي عنده نوعان: 1 - ترك مطلق. 2 - ترك بسبب. والمطلق على أربعة أنواع، أو أن الترك المطلق يراد به الترك المجرد، ويكون الترك بسبب قسمًا خامسًا. وقد ذكر أن التقسيم بهذا موازٍ للتقسيم الذي اعتبره الأصوليون في الأفعال. ثم ذكر أن السكوت هو الكف عن القول، وقسم السكوت إلى نوعين: أ - سكوت لعدم وجود حكم شرعي في المسألة. ب - سكوت لمانع. وعلى ذلك فالترك عنده خاص بالفعل، والسكوت خاص بالقول.
المطلب الثاني: أقسام متروك النقل
المطلب الثاني: أقسام متروك النقل: سبق أن بينا أن عدم نقل الفعل يدل على عدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له شرعًا، وهو متروك النقل. وهذا النوع قد تكلم عنه الشاطبي فقد ذكر أن "سكوت الشارع عن الحكم على ضربين: أحدهما: أن يسكت عنه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله ... الضرب الثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان ... " (¬1). وهذا هو النوع الثابت بالطريق الثاني من طريقي نقل الترك عند ابن القيم، ومثل له "بترك التلفظ بالنية عند الدخول في الصلاة" (¬2). وما ذكره ابن القيم قد قسمه الدكتور الأشقر (¬3) إلى أربعة أقسام هي: 1 - أن يدل على المتروك نقله نصٌّ يأمر بالفعل من الكتاب أو السنة أو يدل على حكمه بالإجماع أو القياس. 2 - أن يكون المتروك نقله باقيًا على حكم الأصل، والأصل عدم المشروعية في العبادة. ¬
المطلب الثالث: التقسيم المختار ووجهه
3 - أن يروي الصحابي تفاصيل حادثة وقعت مما يتعلق به شرع ويذكر ذلك على سبيل الاستقصاء. 4 - أن ينقل الراوي الواقعة ويسكت عن تفصيل يجعل الصورة نادرة. وهذا الذي ذكره الدكتور الأشقر ليس تقسيمًا للنوع الذي ذكره ابن القيم حيث إن ابن القيم إنما قصد نوعًا خاصًا من أنواع ترك النقل وهو ما وجد مقتضاه وانتفى مانعه، أما تقسيم الأشقر فهو لما ترك نقله إجمالًا، وقد سبق الكلام على ذلك، ولم يتعرض الأشقر للكلام على ما ذكره الشاطبي. المطلب الثالث: التقسيم المختار ووجهه: عند ضم النظير إلى النظير من الأقسام المذكورة سابقًا، يمكن أن ينقسم الترك إلى قسمين فقط وذلك باعتبار نقل الترك. وبيان ذلك أن يقال: إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا فلا يخلو هذا الترك من أن يكون أحد أمرين: الأول منهما: أن ينقل ذلك الترك وهو الترك المنقول، والثاني منهما: ألا ينقل هذا الترك وهو متروك النقل. أما الترك المنقول فلا يخلو من أحد أمرين: الأول: أن يبين سبب الترك في الحديث، وهذا هو الترك المسبب. الثاني: أن لا يبين سبب الترك في الحديث، وهذا هو الترك المطلق. أما الترك المسبب فينقسم باستقراء الأسباب الواردة في الأحاديث إلى أحد عشر قسمًا وهي:
أما متروك النقل فلا يخلو من أحد أمرين
الترك لأجل حكم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأجل حصول مفسدة من الفعل، أو لأجل الإنكار على الفاعل، أو لأجل مرضه - صلى الله عليه وسلم -، أو لأجل نسيانه - صلى الله عليه وسلم -، أو لأجل الطبع، أو لأجل مراجعة الصحابة له - صلى الله عليه وسلم -، أو لأجل ألا يفرض العمل، أو لأجل مراعاة حال الآخرين، أو لأجل بيان التشريع، أو لأجل مانع يخبر به - صلى الله عليه وسلم -. أما الترك الخاص به فحيث إنه لا يعلم إلا بتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو داخل ضمن الترك المسبب لانطباق سبب التقسيم عليه. أما الترك الذي لا يظهر فيه وجه القربة فلا يدخل تحت مورد التقسيم؛ إذ إن التقسيم إنما هو باعتبار قيام مقتضٍ للفعل مع ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا قام المقتضي للفعل كان ذلك مانعًا من حمل الفعل على أنه غير قربة، وبذلك يكون هذا التقسيم مستوعبًا لجميع احتمالات أحوال الترك الوجودي مع اعتباره لتقسيم الأصوليين للأفعال .. أما متروك النقل فلا يخلو من أحد أمرين: الأول: أن يكون غير مقدور للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا خارج عن بحثنا. الثاني: أن يكون مقدورًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الثاني ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون لا داعية له تقتضي نقله زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن يكون له داعية تقتضي نقله زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما وجد مقتضي الفعل وانتفى مانعه.
ملاحظة هامة
والثاني لا يخلو أن يكون أحد أمرين: الأول: أن يكون في جانب العبادات. الثاني: أن يكون في جانب العادات والمعاملات. وهذه القسمة تستوعب جميع أحوال عدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأي فعل كان. هذا ويلاحظ أن هناك صورتين من صور الترك الوجودي تناولها الأصوليون بالذكر، الأولى: هي الإقرار، والثانية: ترك ما هم به، وهاتان الصورتان لا تدخلان تحت الترك المسبب أو المطلق، وذلك لأن من الإقرار ما يكون تركًا مسبّبًا، ومنه ما يكون تركًا مطلقًا، وكذلك ما هم به - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله، ولذا فقد أفردا في فصل مستقل ألحق بالترك الوجودي. أما ترك الاستفصال فمتعلق بالترك العدمي، وقد بحثه الأصوليون في باب العموم ولذا ألحق بالترك العدمي. ملاحظة هامة: يجب أن يلاحظ أن الاعتبارات التي ينقسم بها التروك متنوعة، وقد تتنوع التقسيمات بحسب مورد القسمة، فمن ذلك أن يقسم الترك باعتبار دلالته الأصولية، وهو بذلك ثلاثة أنواع، إذ قد يدل على الإباحة أو التحريم أو البدعية. وكذلك يمكن أن ينقسم الترك باعتبار حكم المتروك في الأصل إلى خمسة أقسام، هي الأحكام التكليفية الخمسة فيكون إما ترك واجبٍ أو مستحبٍ أو مكروهٍ أو مباحٍ أو حرامٍ.
وكذلك يمكن أن يُقسم الترك باعتبارات أخرى إلى أقسام أخرى، وهذه الأقسام كلها لا تصلح لأن تكون معتمدة للدراسة؛ لأنها لا تصلح لبناء الأحكام عليها إذ حصولها لا يكون إلا بعد معرفة دلالة الترك، والتقسيم إنما يطلب أصلًا لمعرفة الدلالة، فلا يصح أن تكون إذن هي موردًا للتقسيم. وبيان ذلك في هذين البابين التاليين: كل قسم بأمثلته وتطبيقاته ودلالته الأصولية وما يلحق به في باب منفصل. ويمكن تلخيص أقسام الترك في الشكل التالي: ...................................................... [أقسام الترك] ................................................... ............... [وجودي] ........................................................ [عدمي] .............................. [مسبب] .. [مطلق] ........ [ما يلحق به] ............... [كان له مقتضٍ] ...... [لم يكن له مقتضٍ] ..... [ما يلحق "ترك الاستفصال"] .................... [الإقرار] .... [ترك ما هم به]
الباب الثاني الترك الوجودي ودلالته
الباب الثاني الترك الوجودي ودلالته
توطئة
توطئة سبق في الباب الأول تقسيم الترك إلى نوعين وجودي وعدمي، وسوف يُتناول القسم الأول بالدراسة في هذا الباب، وإذا كان الترك الوجودي خاصًّا بما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن طلب دلالة هذا القسم ستكون من خلال تتبع الفروع الفقهية المبنية على الأحاديث الواردة فيه، ولذا فبيان هذا النوع يحتاج إلى تعريفه، وذكر أمثلته، وتناولها بالدراسة الفقهية الأمر الذي يجعل ضم التطبيقات في هذا الموضع أمرًا لازمًا، وبعد بيان الترك بهذه الطريقة يكون الطريق ممهدًا لتفصيل القول في دلالته. أما المسائل التي بحثها الأصوليون ولها تعلق بالترك فقد أفردت بالدراسة بعد ذلك. وفي هذا الإطار تبلور هذا الباب إلى ثلاثة فصول: الاول: لبيان الترك الوجودي. والثاني: لبيان دلالة الترك الوجودي. والثالث: لبيان ما يلحق بالترك الوجودي.
الفصل الأول بيان الترك الوجودي
الفصل الأول بيان الترك الوجودي وفيه مبحثان: المبحث الأول: بيان الترك المسبب. المبحث الثاني: بيان الترك المطلق.
المبحث الأول: بيان الترك المسبب
المبحث الأول: بيان الترك المسبب المطلب الأول: تعريف الترك المسبب: التعريف بالمركب يقتضي التعريف بجزءيه أولًا، فالتعريف بالترك المسبب يقتضي التعريف بالترك وبالسبب، وإذا كان التعريف بالترك قد سبق بيانه، فلابد هنا من التعريف بالسبب حتى يكتمل تعريف جزئي المركب ثم التعريف بوصفه بعد ذلك لقبًا. أولاً: السبب في اللغة (¬1): السبب في اللغة: هو كل ما يتوصل به إلى غيره، وجمعه: أسباب. وفي لسان العرب: "وكل شيء يتوصل به إلى الشيء فهو سبب". والسبب: الحبل: كالسِّبْ (وهو الحبل في لغة هذيل). ومنه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15]. قال أبو عبيدة: "السبب: كل حبل حدرته من فوق". ¬
وقيل: السبب: هو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشيء. وقيل: لا يسمى السبب سببًا حتى يكون طرفه معلقًا بالسقف. وقال ابن فورك: "السبب في اللغة: هو ما يتوصل به إلى أمر مطلوب" (¬1). وذكر السرخسي أن السبب في اللغة: الطريق إلى الشيء، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، وذكر معانٍ ثم قال: فالكل يرجع إلى معنى واحد وهو طريق الوصول إلى الشيء (¬2). ¬
ثانيا: السبب عند الأصوليين
ثانيًا: السبب عند الأصوليين: للأصوليين في تعريف السبب تعريفان مشهوران: التعريف الأول: السبب: وصف ظاهر منضبط دل السمع على كونه معرفًا لحكم شرعي، ذكره ابن مفلح (¬1) (¬2). ¬
والآمدي (¬1) والزركشي (¬2) ونص على أنه لأكثر الأصوليين. ومعنى دل السمع على كونه معرفًا: أن الشرع ورد ببيان أن مثل هذا الأمر متى حصل كان ذلك دليلًا على وجوب أو استحباب حصول الأمر الثاني، فزوال الشمس عن كبد السماء معرف للعبد بأن وجوب صلاة الظهر قد حان. وذلك فرارًا من القول بتأثير الأسباب، وهي قضية مشهورة تنازع فيها الأصوليون بلا طائل فقهي، وحاصلها أنهم في ذلك على طرفين ووسط: الأول: يرى أن الأسباب مؤثرة بذواتها؛ أي لا أودع فيها من خاصيات تقتضي ذلك التأثير، وهو لجمهور المعتزلة. الثاني: الأسباب معرفة فقط بجعل الشرع، وليس لها ما يقتضي أن تؤثر في المسبب، فليس السبب موجبًا للحكم بل معرفًا فقط وعليه جمهور الأشاعرة فيما نقل عنهم الزركشي (¬3). الوسط: السبب موجب للحكم لكن لا لذاته ولا لصفة ذاتية بل بجعل الشرع إياه موجبًا، وهو قول الغزالي (¬4) من الأشاعرة، ونسبه الزركشي (¬5) للحنفية. ¬
التعريف الثاني
والقول الثالث هو القول الراجح وعليه جمهور أهل السنة، وعليه يكون تعريف السبب على هذا القول: "وصف ظاهر منضبط دل السمع على كونه موجبًا لحكم شرعي". التعريف الثاني: السبب: "ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته"، وهذا تعريف القرافي (¬1) وذكره المرداوي (¬2) وعزاه لأكثر الأصوليين. وقوله: يلزم من وجوده الوجود احتراز من الشرط لأنه لا يلزم من وجوده الوجود. وقوله: يلزم من عدمه العدم احتراز من المانع لأنه لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم. وقوله: لذاته احتراز عما لو قارن السبب فقدان شرط أو وجود مانع فإن تخلف الحكم ليس لعدم السبب بل لأمر خارج عنه وهو انتفاء الشرط أو وجود المانع. التعريف المختار: التعريف الثاني أولى من التعريف الأول؛ إذ التعريف الأول لم يتعرض لوجه اقتضاء السبب للحكم، ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: ¬
تعريفات أخرى للسبب
السبب: وصف ظاهر منضبط دل الشرع على أنه يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم لذاته. تعريفات أخرى للسبب: عرفه السرخسي بأنه: "ما يكون طريقًا للوصول إلى الحكم المطلوب من غير أن يكون الوصول به" (¬1)، وفي أصول الشاشي: "السبب ما يكون طريقًا إلى الشيء بواسطة" (¬2). وحده السمعاني بأنه "ما يوصل إلى المسبب مع جواز المفارقة بينهما"، ونقل تعريفًا آخر لم يسم قائله بأنه "مقدمة يعقبها مقصود لا يوجد إلا بتقدمها فلا أثر لها فيه (¬3). وعرفه ابن فورك بأنه: "ما خرج الحكم لأجله سواء كان شرطًا أو دليلًا أو علة" (¬4). ثالثًا: تعريف الترك المسبب: باعتبار ما سبق يكون الترك المسبب هو: "ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كف عنه لسبب". ¬
* طرق معرفة السبب من جهة النقل
ولابد من نقل ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك لأجل هذا السبب، ولكن لا يشترط تصريح الراوي بأن سبب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هو كذا أو كذا، بل يعرف سبب الترك بالطرق التي ذكرها الأصوليون لمعرفة العلة من جهة السمع. * طرق معرفة السبب من جهة النقل: ذكر الأصوليون طرقًا كثيرة لمعرفة العلة، وهذه الطرق يمكن استحضارها هنا لمعرفة أسباب الترك، وهي إما من جهة السمع - أي النقل - أو من جهة الاستنباط، والذي يعنينا هنا طرق معرفتها من جهة السمع، وذلك لأن الفارق بين الترك المسبب والترك المطلق هو نقل السبب من عدمه، ولذا فإن طرق معرفة العلة من جهة السمع تفيد في معرفة الترك المسبب، وطرق معرفتها من جهة الاستنباط تفيد في معرفة الترك المطلق، وفيما يلي بيان طرق معرفتها على سبيل الإجمال: * الإجماع: أي الإجماع على كون وصف ما سببًا. * النص الصريح: كـ "التصريح بلفظ الحكم"، أو "لعلة كذا"، أو "سبب كذا"، أو "من أجل"، أو "لأجل"، أو "كي"، أو "إذن"، أو "ذكر المفعول له". * النص الظاهر: كـ "لام" التعليل الظاهرة أو المقدرة، أو "أن" المفتوحة المخففة، أو "إن" الشرطية [المكسورة ساكنة النون]، "إنّ" المشددة، أو "باء" السببية، أو "فاء" السببية، أو "لعل"، أو "إذ"، أو "حتى".
* الإيماء والتنبيه
* الإيماء والتنبيه: كـ "ذكر الحكم عقب الوصف"، أو "التفرقة بين حكمين لوصف"، أو "القياس على وصف"، أو "ربط الحكم باسم مشتق منه"، أو "منع الوصف ما يفوت المطلوب من الحكم" (¬1). والأمثلة على هذه الأنواع تظهر خلال ذكر الأمثلة على أنواع الترك المسبب. المطلب الثاني: أقسام الترك المسبب وأمثلتها: الأحاديث التي نقل فيها ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبب تركه كثيرة، ومن خلال الأحاديث التي وقفت عليها يمكن تقسيم تلك الأسباب إلى أحد عشر نوعًا، ويمكن أن تنقسم إلى أكثر من ذلك؛ إذ كل نوع يدخل تحته أمثلة كثيرة، ويمكن كذلك إدخال بعض تلك الأنواع في بعض، وليست المسألة أكثر من مجرد اصطلاح. وفيما يلي ذكر لتلك الأسباب وما يندرج تحتها من أمثلة، وبيان ما تضمنته تلك الأحاديث من أحكام فقهية ذكرها الفقهاء مما يتعلق بتركه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بتخصيص مسألة لكل قسم. المسألة الأولى: الترك لأجل حكم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: ومثاله: ما ورد من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة مسقوطة فقال: "لولا أن تكون صدقة لأكلتها" (¬2). ¬
وورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها" (¬1). فتَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأكل هذه التمرة كان سببه حكمًا خاصًا به - صلى الله عليه وسلم -، وهو من علامات النبوة أنه - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ولا تحل له الصدقة. قال ابن قدامة: "فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر أن الصدقة جميعها كانت محرمة عليه فرضها ونفلها، لأن اجتنابها كان من دلائل نبوته وعلاماتها، فلم يكن ليخل بذلك" (¬2). وقد ثبتت خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الصدقة من قوله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: "إنا لا تحل لنا الصدقة". وذلك فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كخ كخ، إرم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة"، وفي رواية: "إنا لا تحل لنا الصدقة" (¬3). ¬
قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم ونحوه، وإن لم يكن المخاطب عالمًا به، وتقديره "عجب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب" (¬1) (¬2). وأيضًا: ما ورد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي" (¬3). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك اتخاذ الخلة وهذا حكم خاص به، وذلك لكونه خليل الرحمن، وقد ورد هذا مصرحًا به في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا ولكن صاحبكم خليل الله" (¬4)، ويشترط أن يدل الدليل على الخصوصية، ¬
المسألة الثانية: الترك لأجل حصول مفسدة
فلا يثبت ذلك بمجرد الاحتمال، وهذا قياس قول الأصوليين في الأفعال النبوية أن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل (¬1). فلابد من وجود دليل يدل على الخصوصية، وقد رد ابن قدامة على من قال بأن عدم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على من عليه دين كان خاصًا به؛ لأن صلاته سكن بقوله: "ما ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل" (¬2). المسألة الثانية: الترك لأجل حصول مفسدة: وذلك بأن يصرح في الحديث بتلك المفسدة التي من أجلها حصل الترك. * ومن أمثلة ذلك: أ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أن ينزع مع بني عبد المطلب في السقاية في الحج وذلك خوفًا من أن يغلبهم الناس على حقهم في ذلك: ففي حديث جابر - رضي الله عنه - الطويل في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال جابر: ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" (¬3). ¬
ب - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أن يرد الكعبة إلى قواعد إبراهيم وبين المانع من ذلك وهو مخافة أن تنفر قلوب الناس وهم حدثاء عهد بكفر
قال النووي: "معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء" (¬1). ب - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أن يرد الكعبة إلى قواعد إبراهيم وبيَّن المانع من ذلك وهو مخافة أن تنفر قلوب الناس وهم حدثاء عهد بكفر: فقد ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم"، فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: "لولا حِدثان قومك بالكفر" (¬2). ولابن ماجه من حديث عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحجر، فقال: "هو من البيت"، قلت: ما منعهم أن يدخلوه فيه، فقال: "عجزت بهم النفقة"، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا لا يصعد إليه إلا بسلم، قال: "ذلك فعل قومك ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بكفر مخافة أن تنفر قلوبهم، لنظرت هل أغيره فأدخل فيه ما انتقص منه وجعلت بابه بالأرض" (¬3). ¬
ج - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أن يدعو الله إسماع أصحابه عذاب القبر خشية أن يتركوا الدفن
قال ابن تيمية: "فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر الذي كلان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم فكانت المفسدة راجحة على المصلحة" (¬1). وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث "باب من ترك بعضر الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه". ج - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أن يدعو الله إسماع أصحابه عذاب القبر خشية أن يتركوا الدفن: فقد ورد من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" (¬2). أي: "لولا خشية أن يفضي سماعكم إلى ترك أن يدفن بعضكم بعضًا" (¬3). د - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتل المنافق المستحق للقتل خشية مفسدة صرح بها وهي خشية أن يتحدث أن محمدًا يقتل أصحابه: فقد ورد من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، ¬
وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما بال دعوى الجاهلية"، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: "دعوها فإنها منتنة"، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها!، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (¬1). قال ابن تيمية: "وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتله لما خيف من قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفًا" (¬2). وقد ورد من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله، اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل"، فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: "دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق ¬
هـ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الإخبار العام ببعض المبشرات خوفا من المفسدة
السهم من الرمية" (¬1). قال ابن حجر: "وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المذكور؛ لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام" (¬2). هـ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الإخبار العام ببعض المبشرات خوفًا من المفسدة: ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ بن جبل - رضي الله عنه - رديفه على الرحل قال: "يا معاذ"، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ"، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ"، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار"، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس به فيستبشروا، قال: "إذًا يتكلوا"، فأخبر معاذ عند موته تأثمًا (¬3). قال ابن الصلاح (¬4): "منعه من التبشير العام خوفًا من أن يسمع ذلك ¬
و - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك استخراج ما سحر به كراهية أن يثور على الناس شرا
من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص من أَمِنَ عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذًا، فسلك معاذ هذا المسلك، فأخبر به من الخاصة من رآه أهلًا لذلك" (¬1). ومن قبيل هذا أيضًا: ما ورد من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، يا علي لا تخبرهما" (¬2). و- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك استخراج ما سُحِر به كراهية أن يثور على الناس شرًا: ففي الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سحر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من بني زُريق يقال: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل ¬
المسألة الثالثة: الترك لأجل الإنكار
إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل، فقال: مطبوب، قال: من طبه، قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء، قال: في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر، قال: فأين هو، قال: في بئر ذَروان"، فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه فجاء فقال: "يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء وكان رؤوس نخلها رؤوس الشياطين"، قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته؟، قال - صلى الله عليه وسلم -: "قد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًا"، فأمر بها فدفنت (¬1). المسألة الثالثة: الترك لأجل الإنكار: هو أن يكون ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - مرادًا به أن ينكر على القائل أو على الفاعل قوله أو فعله. * ومن أمثلة ذلك: أ - ما ورد من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه بمشاقص (¬2) فلم يصل عليه (¬3)، وفي رواية: "أما أنا فلا أصلي ¬
عليه" (¬1)، وفي رواية: "وكان ذلك منه أدبًا" (¬2). قال النووي: "وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه. وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة" (¬3). وقد اختلف العلماء في الصلاة على قاتل نفسه على أقوال: القول الأول: يصلى عليه، وهو مذهب الشافعي (¬4) وعطاء (¬5) والنخعي (¬6). ¬
القول الثاني: يصلي عليه سائر الناس دون الإمام، نص عليه أحمد (¬1). القول الثالث: لا يصلى عليه، وهو قول عمر بن عبد العزيز (¬2) والأوزاعي (¬3) (¬4). لحديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: مات رجل بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على صاحبكم، إنه غل في سبيل الله"، ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزًا من خرز يهود ما يساوي درهمين (¬5). ¬
قال ابن قدامة: "وإنما اختص الامتناع بالإمام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما امتنع من الصلاة على الغالّ قال: "صلوا على صاحبكم" (¬1). قال ابن عبد البر (¬2): "وأما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليه وأمر غيره بالصلاة عليه؛ لأنه كان لا يصلي على من ظهرت منه كبيرة، ليرتدع الناس عن المعاصي وارتكاب الكبائر" (¬3). ولأجل هذا الحديث ذهب مالك وغيره إلى أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتولي في حد، وأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجرًا لهم (¬4). ب - ما ورد من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قدمت على أهلي ليلًا وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران، فغدوت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلمت عليه، فلم يرد علي ولم يرحب بي، وقال: "اذهب فاغسل هذا عنك"، فذهبت فغسلته، ثم جئت وقد بقي علي منه رَدع، فسلمت فلم يرد علي ولم ¬
يرحب بي وقال: "اذهب فاغسل هذا عنك"، فذهبت فغسلته، ثم جئت فسلمت عليه، فرد علي ورحب بي وقال: "إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمخ بزعفران ولا الجنب" (¬1). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك رد السلام عليه ولم يرحب به إنكارًا لفعله، وقد فهم ذلك منه عمار - رضي الله عنه -، ففي رواية: قلت - أي ابن جريج - وهم حرم؟ قال: لا، القوم مقيمون. قال العظيم آبادي (¬2): "والمعنى أن ابن جريج فهم أن إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن عمار لأجل استعمال الخلوق، لعل عمارًا ومن كان معه كان محرمًا، فلذا زجره النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابه عمر بن عطاء بأن الزجر عن استعمال الخلوق ليس لأجل الإحرام بل القوم كانوا مقيمين" (¬3). ج - ما ورد من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن أباه أتى إلى رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: "أكل ولدك نحلت مثله"، قال: لا، قال: "فأرجعه" (¬1). وقد جاء مطولًا أن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: أنحلني أبي نُحلًا فقالت له أمي عَمرة بنت رواحة - رضي الله عنها -: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشهده، فذكر ذلك له فقال له: إني أنحلت ابني النعمان نحلًا، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، قال: فقال: "ألك ولد سواه"، قال: قلت: نعم، قال: "فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ "، قال: لا، قال: " هذا جَور" أو "هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري" (¬2). د - ما رواه البخاري معلقًا (¬3) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب، وإني أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة جف ¬
القلم بما أنت لاق، فاختصِ على ذلك أو ذر". قال ابن حجر: "معناه افعل ما ذكرت أو اتركه واتبع ما أمرتك به ... فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد ... وليس فيه تعرض لحكم الخصاء" (¬1). هـ - ما ورد من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا واستعمل عليهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إذا لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناه بما صنع علي، وكان المسلمون إذا رجعوا من الغزو بدءوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلموا عليه، ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغضب يعرف في وجهه فقال: "ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، إن عليًا مني، وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي" (¬2). و- ما ورد من حديث جُندَب بن عبد الله البَجَلي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثًا من المسلمين إلى قوم من المشركين وأنهم التقوا، فكان رجل من ¬
المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإن رجلًا من المسلمين قصد غفلته - وكنا نتحدث أنه أسامة بن زيد - فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله، فجاء البشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله فقال: "لم قتلته؟ "، قال: يا رسول الله: أوجع في المسلمين وقتل فلانًا وفلانًا - وسمى له نفرًا - وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقتلته؟ "، قال: نعم، قال: "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ "، قال: يا رسول الله، استغفر لي، قال: "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ "، فجعل لا يزيده على أن يقول: "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " (¬1). ي - ما ورد من حديث زيد بن أسلم - رضي الله عنه - عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسير معه ليلًا، فسأله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن شيء فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ثكلتك أمك يا عمر، نَزَّرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر - رضي الله عنه -: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخًا يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن ينزل فيَّ قرآن، وجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه، فقال: ¬
المسألة الرابعة: الترك لأجل المرض
"لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} " (¬1). وهذا القول من عمر - رضي الله عنه - يدل على أن عمر فهم من عدم إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سؤاله إنكاره له، فغم لذلك حتى سرى عنه، لما علم أن ذلك كان بسبب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوحى إليه. المسألة الرابعة: الترك لأجل المرض: وهو أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً لما أصابه من المرض وهذا إنما يعلم من التصريح به في الحديث. ومثاله: ما ورد من حديث الأسود - رضي الله عنه - قال: سمعت جندبًا يقول: "اشتكى النبي - رضي الله عنه - فلم يقم ليلة أو ليلتين" (¬2). وقد بوب البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب: ترك القيام للمريض" (¬3). ¬
المسألة الخامسة: الترك لأجل النسيان
المسألة الخامسة: الترك لأجل النسيان (¬1): ¬
ومثل هذا إنما يصرح به في الحديث ويبين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن نسي فإنه لا يقر عليه. ومثاله: أ - ما ورد من حديث المسور بن يزيد الأسدي المالكي - رضي الله عنه - قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة فترك شيئًا لم يقرأه فقال له رجل: يا رسول الله، أين كذا وكذا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلا أذكرتنيها" (¬1)، قال الرجل: كنت أراها نسخت. ب - ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان ¬
المسألة السادسة: الترك لمجرد الطبع
من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؛ قال: "لم أنس ولم تقصر"، فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم سلم (¬1). المسألة السادسة: الترك لمجرد الطبع: ومثاله: ما ورد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة - رضي الله عنها - وهي خالته، وخالة ابن عباس - رضي الله عنه - فوجد عندها ضبًا محنوذًا (¬2) قَدِمَت به أختها حُفَيدة بنت الحارث - رضي الله عنهما - من نجد، فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قلما يُقدِّم يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قدمتن له، قلن: هو الضب، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، قال خالد: فاجتززته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلي (¬3). ¬
وقد استدل العلماء بهذا الحديث على إباحة أكل الضب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بالمانع من أكله. قال ابن قدامة: "وأما الضب فإنه مباح في قول أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو سعيد وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وبهذا قال مالك والليث والشافعي وابن المنذر" (¬1). قال ابن عباس: "ترك رسول الله الضب تقذرًا وأُكل على مائدته، ولو كان حرامًا ما أُكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). وقد ورد عن أبي الزبير - رضي الله عنه - أنه قال: سألت جابرًا - رضي الله عنه - عن الضب، فقال: لا تطعموه، وقَذِرَه، وقال: قال عمر - رضي الله عنه -: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرمه، إن الله عز وجل ينفع به غير واحد، فإنما طعام عامة الرعاء منه، ولو كان عندي طعمته" (¬3). وقد نقل النووي الإجماع على أن الضب مباح فقال: "وأجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه، إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا: هو حرام وما ¬
أظنه يصح عن أحد، فإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله" (¬1). والذي دعى النووي إلى نقل الإجماع هو صراحة الحديث على الحل، ولكن الإجماع هذا مردود بخلاف أبي حنيفة وأصحابه، ولو قال: أجمع العلماء على أن دلالة هذا الحديث حل الضب لكان قولًا صحيحًا، فإن الذين ذهبوا إلى كراهته أو حرمته لم يعارضوا كون ذلك الحديث دالًا على الإباحة لما ذكره النبي من السبب، بل للأحاديث التي وردت تفيد عدم جواز أكله. فمن ذلك: - ما ورد من حديث عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن أكل لحم الضب (¬2). - ما ورد من حديث ثابت بن وديعة - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيش فأصبنا ضبابًا، قال فشويت منها ضبًا، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته بين يديه، فأخذ عودًا فعد به أصابعه، ثم قال: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض، وإني لا أدري أي الدواب هي"، قال: فلم يأكل ولم ينه (¬3). ¬
- ما رواه أبو سعيد - رضي الله عنه - أن أعرابيًّا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني في غائط مضبة، وإنه عامة طعام أهلي، قال: فلم يجبه ثلاثًا، ثم ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الثالثة فقال: "يا أعرابي: إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض، ولا أدري لعل هذه منها فلم آكلها، ولم أنه عنها" (¬1). قال بعض الحنفية: اختلفت الأحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم (¬2). والرد عليهم: أن معرفة المتقدم ممكنة وليست متعذرة، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولا أدري لعل هذه منها". وهذا يقتضي أنه لم يوحَ له في ذلك بشيء، ثم أوحي له أنه ليس منهم، والدليل على ذلك ما ورد من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلًا قال: "يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ الله؟ "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم يهلك أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلًا" (¬3). قال ابن حجر: "والأحاديث وإن دلت على الحل فالجمع بينها وبين الحديث المذكور: حمل النهي فيه على أول الحال، ثم تجويز أن يكون مما مسخ، ¬
المسألة السابعة: الترك لأجل مراجعة الصحابة له - صلى الله عليه وسلم -
وحينئذ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف فيه فلم يأمر به ولم ينه عنه، وحمل الإذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له، وبعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه" (¬1). ويتضح من أقوال العلماء - المبيحين والمانعين على السواء - أن حديث خالد دل على أمرين: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر خالدًا على أكله. الثاني: أن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا مختص بما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلة. المسألة السابعة: الترك لأجل مراجعة الصحابة له - صلى الله عليه وسلم -: ومثاله: ما ورد من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع من البحرين، فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، قال: "سترون بعدي أثره فاصبروا حتى تلقوني" (¬2). ومن أمثلته أيضًا: مراجعة الحباب بن المنذر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع بدر، لكنه ضعيف (¬3). ¬
المسألة الثامنة: الترك لأجل ألا يفرض العمل
المسألة الثامنة: الترك لأجل ألا يفرض العمل: وهو أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - عملًا من الطاعات يحبه خشية أن تؤدي مواظبته عليه إلى أن يفرض على الأمة وفي هذا مشقة عليها. فمن ذلك: تركه سبحة الضحى وهي صلاة الضحى، فقد ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، وما سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبحة الضحى قط وإني لأسبحها (¬1). وذلك مع ما ورد من الترغيب في فضلها، فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد" (¬2). ¬
قال النووي: "قال العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن يفرض على الأمة فيعجزوا عنها، كما ثبت في هذا الحديث، وكان يفعلها في بعض الأوقات كما صرحت به عائشة، وكما ذكرته أم هانئ وأوصى بها أبا الدرداء وأبا هريرة" (¬1). ومن ذلك أيضًا: ترك صلاة القيام جماعة في رمضان، فقد ورد من حديث عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة في جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمعوا أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: "أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" (¬2)، وفي رواية: "وكان ذلك في رمضان" (¬3). وقد جاء الخوف من المشقة على الأمة أيضًا مصرحًا به فيما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الإيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو ¬
المسألة التاسعة: الترك لأجل مراعاة حال الآخرين
أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" (¬1). * ومن ذلك: أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد أن يأمر ثم ترك خشية المشقة: ومثاله: ما ورد عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: "إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة"، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى (¬2). وورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء" (¬3). المسألة التاسعة: الترك لأجل مراعاة حال الآخرين: وذلك لأجل ألا يشق عليهم، ومن ذلك: ¬
أ - ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التزوج من نساء الأنصار
أ - ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التزوج من نساء الأنصار: فقد ورد من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله، ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: "إن فيهم لغيرة شديدة" (¬1). ب - ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التطويل في الصلاة إذا سمع الصبي يبكي: فقد ورد من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه" (¬2)، وفي رواية: من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه على بكائه " (¬3). وأيضًا ما ورد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة - رضي الله عنه - يوم أُحد فوقف عليه فرآه قد مُثل به فقال: "لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشر يوم القيامة من بطونها" (¬4). ¬
المسألة العاشرة: الترك لأجل بيان التشريع
المسألة العاشرة: الترك لأجل بيان التشريع: وهو أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرًا مشروعًا ليُبيِّن مشروعية أمر غيره، أو يُبيِّن جوازه، أو يُبيِّن كونه أفضل أو لبيان حكم جديد. وفيما يلي ما يندرج تحته من أقسام وبيان أمثلة ذلك: أ - ترك المباح طلبًا للأولى والأفضل: وذلك بأن يكون كلا الفعلين المتر وك والمفعول جائزًا، ويعدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أقلهما اختيارًا للفضيلة، ولا شك أن مثل هذا المعنى لا يعرف إلا بالتوقيف، وهو ظاهر فيما أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حاله كذلك. فمن ذلك ما ورد من حديث أبي رافع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على نسائه في ليلة وكان يغتسل عند كل واحدة منهن، فقيل له: يا رسول الله، ألا تجعله غسلًا واحدًا، فقال: "هو أزكى وأطيب وأطهر" (¬1). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك فعلًا مباحًا، ووجه كون هذا المتروك مباحًا أمران: الأول: أن الصحابة علموا ذلك سابقًا، فلما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك سألوه عن الحكمة في ذلك. ¬
ب - ترك فعل الأفضل لبيان الجواز
الثاني: أن أبا رافع لم يكن يعلم حكم ذلك فعلم كون ذلك مباحًا من هذا الحديث؛ إذ لم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - استفساره ذلك بل أخبره بالحكمة فيما فعل. وبذا تكون دلالة هذا الحديث على أمرين: 1 - جواز الجماع أكثر من مرة بغسل واحد. 2 - أن الاغتسال بعد كل جماع أفضل. وقد ينعكس هذا النوع وهو الحالة التي تليه. ب - ترك فعل الأفضل لبيان الجواز: فقد ورد عن سليمان بن بريدة - رضي الله عنه - عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال له عمر - رضي الله عنه -: لقد صنعت اليوم شيئًا لم تكن تصنعه، فقال: "عمدًا صنعته يا عمر" (¬1). ونقل ابن حجر عن الطحاوي قوله: "يحتمل أن ذلك كان واجبًا عليه ثم نسخ يوم الفتح، ويحتمل أنه كان يفعله استحبابًا، ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز". ثم قال: "وهذا أقرب" (¬2). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المباح لكي لا يتوهم أحد بسبب مواظبته على الوضوء لكل صلاة أن ذلك واجب، ولا شك أن ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل وأولى مما فعله مرة. ¬
ج - ترك العمل بما يعلم لأجل ما سبق من التشريع
ج - ترك العمل بما يعلم لأجل ما سبق من التشريع: فقد ورد من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن عويمرًا أتى عاصم بن عدي - رضي الله عنه - وكان سيد بني عَجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأتى عاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل، فسأله عويمر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره المسائل وعابها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك"، فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالملاعنة بما سمى الله في كتابه، فلاعنها ثم قال: يا رسول الله، إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خَدَلج الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أُحَيمِر كأنه وَحَرَة فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها"، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه (¬1). ¬
وقد ورد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيِّنة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها" (¬1). ففي هذا الحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر خبرًا صادقًا - ولا شك - من تصديق عويمر أو تكذيبه فجاء النعت على تصديق عويمر، ومع ذلك لم يرجمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك العمل بما يعلم لأجل أن الشرع لم يبح له أن يعمل بعلمه في ذلك، بل سماه بغير بيِّنة، وفي هذا دليل على أن القاضي لا يجوز له إقامة الحدود بناء على علمه، الذي هو أوثق عنده من البينات والشهود، بل كان بلا بيِّنة. ولذا "فلا خلاف بين فقهاء المذاهب في أن القاضي لا يجوز له القضاء بعلمه في الحدود الخالصة لله تعالى كالزنى وشرب الخمر؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم القاضي، ولأن الحدود لا تثبت ¬
إلا بالإقرار أو البينة المنطوق بها، وأنه وإن وجد في علم القاضي معنى البينة فقد فاتت صورتها وهو النطق، وفوات الصورة يورث الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات" (¬1). والحديث دليل على عدم الجواز؛ إذ ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمها مع قيام ما يقتضي ذلك، وهو علمه بكونها زانية؛ لأجل مانع وهو عدم الجواز، واستفيد عدم الجواز من تسمية ذلك الفعل أنه بغير بيِّنة فأهدر بيِّنة علمه. وأيضًا: ما ورد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك"، ثم قال: "ألعنك بلعنة الله ثلاثًا"، وبسط يده كأنه يتناول شيئًا فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة" (¬2). وبمثل هذا وردت الرواية عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - (¬3). ¬
المسألة الحادية عشرة: الترك لأجل مانع يخبر به
المسألة الحادية عشرة: الترك لأجل مانع يخبر به: ومثاله: ما ورد من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم" (¬1). وأيضًا: ما ورد عن جُدامة بنت وهب الأسدية - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم" (¬2)، وفي رواية: ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك الوأد الخفي" (¬3). والغِيَلة أو الغَيَل أو الغِيَال: هو مجامعة الرجل المرأة وهي مرضع، وقيل: هو أن ترضع المرأة وهي حامل (¬4). ¬
قال ابن السكيت: "وذلك لما يحصل على الرضيع من العذر بالحبل حال إرضاعه فكان ذلك سبب همه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي، ولكنه لما رأى أن الغِيَلة لا تضر فارس والروم ترك النهي عنهما" (¬1). قال الصنعاني: "وقيل: هي أن ترضع المرأة وهي حامل، والأطباء يقولون: إن ذلك داء، والعرب تكرهه وتتقيه، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ذلك عليهم، وبيَّن عدم الضرر الذي زعمه العرب والأطباء بأن فارسًا والروم تفعل ذلك ولا ضرر يحدث مع الأولاد" (¬2). * * * ¬
المبحث الثاني: بيان الترك المطلق
المبحث الثاني: بيان الترك المطلق المطلب الأول: تعريف الترك المطلق: الإطلاق في اللغة: ضد التقييد، "والمطلق اسم مفعول من الإطلاق ومن معانيه: الإرسال والتخلية وعدم التقييد" (¬1). وعند الأصوليين: هو: "ما دل على الماهية من غير أن يكون له دلالة على شيء من قيودها" (¬2). فالترك المطلق هو ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقل الصحابي ذلك، دون نقل ما يصلح أن يكون سببًا من جهة السمع. وليس معنى ذلك أن ذلك الفعل لا سبيل إلى معرفة سببه؛ إذ إن معنى الكف أن يكون هناك ما يعتقد كونه داعيًا للفعل فيترك النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل قد يعرف السبب من جهة الاستنباط، وفيما يلي أمثلة لأحاديث ذكر الصحابة فيها امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فعل معين، وبيان ما استنبطه الفقهاء من أحكام فقهية مأخوذة من تلك الأحاديث. * طرق استنباط سبب الترك المطلق: يعرف سبب الترك المطلق من خلال طرق استنباط العلة، وفيما يلي بيان تلك الطرق على سبيل الإجمال: ¬
* فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر عقب وقوع شيء يفهم منه أنه كان لأجله.
* فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر عقب وقوع شيء يفهم منه أنه كان لأجله. قال الزركشي: "وهذا مما أهمله أكثر الأصوليين، وقد ذكره القاضي في التقريب" (¬1)، وقياسه في الترك أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتوقع فعله عقب أمر فيعلم أنه إنما كان لأجله. * المناسبة: وهي "وصف ظاهر منضبط، يحصل عقلًا من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودًا للعقلاء من حصول مصلحة دينية أو دنيوية، أو دفع مفسدة" (¬2). * السبر والتقسيم: للصفات لمعرفة ما يصلح منها للعلية. * الدوران: وهو وجود الحكم عند وجود وصف وارتفاعه عند ارتفاعه في صورة واحدة (¬3). وفيما يلي ذكر لبعض أمثلة الترك المطلق، والتطبيقات الفقهية المتعلقة بتلك الأحاديث. المطلب الثاني: أمثلة الترك المطلق: من أمثلة الترك المطلق ما يلي: * ترك تغسيل الشهيد والصلاة عليه: عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنه - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: ¬
* ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال: "أنا شهيد على هؤلاء"، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلهم (¬1). * ترك الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الصلاة: عن أنس - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (¬2) أي في الفاتحة. * ترك مبايعة المجذوم: عن عمرو بن الشريد - رضي الله عنه - عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا قد بايعناك فارجع" (¬3) (¬4). * ترك الأذان والإقامة لصلاة العيد: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ¬
* ترك التنفل قبل صلاة العيد
يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة (¬1). وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة (¬2). * ترك التنفل قبل صلاة العيد: عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم أضحى أو فطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وتلقي سخابها (¬3). * ترك تخميس السلب: عن عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب (¬4). ¬
* ترك الاستعانة بالمشرك في الحرب
* ترك الاستعانة بالمشرك في الحرب (¬1): عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر فلما كان بحَرة الوبَرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له: "تؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: لا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فانطلق" (¬2). ¬
المسألة الأولى: ترك تغسيل الشهيد والصلاة عليه
ولبيان ما فهمه الفقهاء من ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث السابقة، لابد من دراستها دراسة فقهية مقارنة، وذلك للاطلاع على دلالة هذا الترك من خلال التطبيق الفقهي، ولذا سوف أخص بعض الأمثلة السابقة بالدراسة الفقهية، والمسائل التي ستُتناول بالدراسة الفقهية هي ما يلي: أولًا: ترك تغسيل الشهيد والصلاة عليه. ثانيًا: ترك الاستعانة بالمشرك في الحرب. ثالثًا: ترك الجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" في الصلاة. رابعًا: ترك الأذان والإقامة لصلاة العيد. خامسًا: ترك التنفل قبل صلاة العيد وبعدها. المسألة الأولى: ترك تغسيل الشهيد والصلاة عليه: ورد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنه - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال: "أنا شهيد على هؤلاء"، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلهم (¬1). في هذا الحديث بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على شهداء أُحد ولم يغسلهم، ¬
الفرع الأول: هل يصلى على الشهيد؟
ولأن الأصل في المسلم أنه يغسل ويصلى عليه، فقد اختلف العلماء في ذلك وخلافهم في فرعين: الفرع الأول: هل يصلى على الشهيد؟ الفرع الثاني: هل يغسل الشهيد؟ الفرع الأول: هل يصلى على الشهيد (¬1)؟ اختلف في الصلاة على الشهيد على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن شهيد المعركة لا يصلى عليه: وهو قول مالك (¬2) والليث (¬3) والشافعي (¬4) وداود وإسحاق ورواية ¬
* الأدلة
أحمد وقال ابن قدامة: هو الصحيح في المذهب، وهو قول القاضي من الحنابلة وأصحابهم، واختيار ابن قدامة (¬1)، والصنعاني (¬2). * الأدلة: 1 - ما ورد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنه - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال: "أنا شهيد على هؤلاء"، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلهم (¬3). 2 - ما ورد عن أنس - رضي الله عنه - أن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم (¬4). ¬
القول الثاني: أن شهيد المعركة يصلى عليه
3 - ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفن جليبيب - رضي الله عنه - ولم يصلِّ عليه (¬1). القول الثاني: أن شهيد المعركة يصلى عليه: وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب (¬2) وفقهاء البصرة والكوفة والشام وسفيان الثوري (¬3) (¬4)، وهو قول أبي حنيفة (¬5) وهو رواية عن أحمد ¬
* الأدلة
اختارها الخلال (¬1) وأبو الخطاب الكلوذاني (¬2)، والمزني (¬3) من الشافعية (¬4). * الأدلة: * الأحاديث التي فيها الصلاة على الشهداء، ومنها: 1 - ما ورد عن شداد بن الهاد: أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيًا فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟، قالوا: ¬
قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟، قال: "قسمته لك"، قال: "ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا - وأشار إلى حلقه - بسهم، فأموت، فأدخل الجنة" فقال: "إن تصدق الله يصدقك"، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحْمَل، قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أهو هو؟ "، قالوا: نعم، قال: "صدق الله فصدقه" ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في [جبة النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك" (¬2). 2 - ما ورد من حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بحمزة - رضي الله عنه - فسجي ببردة ثم صلى عليه، فكبر تسع تكبيرات ثم أتي بالقتلى يصفون ويصلي عليهم وعليه معهم (¬3). 3 - ما ورد من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحمزة - رضي الله عنه - وقد مُثِّل به، ولم يصلِّ على أحد من الشهداء غيره (¬4). ¬
4 - ما ورد من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أُحد - بعد ثمان سنين - صلاته على الميت (¬1). 5 - ما ورد من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة - رضي الله عنه - سبعين صلاة (¬2). 6 - ما ورد من حديث أبي مالك الغفاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أُحد عشرًا عشرًا حتى صلى على حمزة سبعين صلاة (¬3). قالوا: هذه الأحاديث تقدم في الدلالة على حديث جابر الذي عند البخاري؛ لأن جابرًا مات أبوه وخاله وشُغِلَ بهما فلم يشعر هل صلى ¬
* ما أجيب به عليهم
النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشهداء أم لا (¬1). * ما أجيب به عليهم: أولًا: ضعف هذه الأحاديث: فحديث ابن عباس - رضي الله عنه - ضعفه ابن القيم بثلاث علل (¬2)، والشوكاني (¬3)، وحديث أبي مالك الغفاري - رضي الله عنه - ضعفه الشافعي (¬4) بل قال: "جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ على قتلى أُحد، وما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عليهم وكبَّر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث - حديث أبي مالك وابن عباس - أن يستحي على نفسه". أما حديث أنس - رضي الله عنه - فقد أعله البخاري والترمذي والدارقطني (¬5)، وإن قلنا بصحته فهو دليل على أن الصلاة كانت على حمزة - رضي الله عنه - فقط، وليس على كل شهداء أُحد. ¬
ثانيا: تضعيفهم لدلالة حديث جابر - رضي الله عنه - فيه نظر
قال النووي: "وأما الأحاديث التي احتج بها القائلون في الصلاة فاتفق أهل الحديث على ضعفها كلها إلا حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - " (¬1) اهـ. ثانيًا: تضعيفهم لدلالة حديث جابر - رضي الله عنه - فيه نظر: إذ كون أبيه وخاله من الشهداء يجعله أعلم الناس بهذه الواقعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو صلَّى على جميع الشهداء لصلى على أبي جابر وخاله (¬2). فإن قيل: إن رواية جابر - رضي الله عنه - نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من رواية الإثبات. فيقال: إن رواية النفي تُرد إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، أما ما أحاط به علم الشاهد وكان محصورًا فيقبل بالاتفاق (¬3). القول الثالث: التخيير بين الصلاة وعدمها: وهو رواية عن أحمد (¬4)، وقول إمام الحرمين (¬5). ¬
* دلالة حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -
والبغوي (¬1) وابن حزم (¬2)، وابن القيم (¬3). وذلك جمعًا بين حديث جابر - رضي الله عنه - وحديث شداد بن الهاد - رضي الله عنه -. * دلالة حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أُحد بعد ثمان سنين وقع الاختلاف في الاستدلال به على جواز الصلاة على الشهيد: - فقال من استدل به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة كالتي يصلي على الميت كما ورد في نص الحديث، وقالوا: هذا يجوّز الصلاة على الشهيد وإن طالت المدة لكنها لا تسقط. - والبعض قال بأنه ناسخ لحديث جابر - رضي الله عنه -. - وأما من لم يستدل به فذهب إلى خصوصية قتلى أُحد بذلك، أو أن الصلاة هنا ليست صلاة الجنازة وإنما هي الدعاء، وأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا مثل الدعاء الذي يدعوه للميت، وهو قول النووي (¬4)، وأجابوا عن قول الحنفية بأنه ¬
* الترجيح
يلزم من قولهم التناقض إذ إنهم لا يجوزون صلاة الجنازة على القبر إن طالت المدة (¬1). * الترجيح: الذي يظهر لي أن الأصل هو عدم الصلاة على الشهيد، لكن لو صُلي عليه لفضله أو مكانته أو غير ذلك من الأسباب التي تقتضي تخصيصه جاز ذلك. وذلك لما ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - من ترك الصلاة على شهداء أُحد، وما ورد من أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على الأعرابي كما في حديث شداد بن الهاد - رضي الله عنه -. إذ إن دعوى الخصوصية تحتاج لدليل، وكذلك "الصلاة" تحمل على المعنى الشرعي المعروف منها إلا أن يرد الدليل بخلاف ذلك (¬2). والجمع أولى من الترجيح، والجمع بين حديث جابر - رضي الله عنه - وحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - يقضي بأن حديث جابر - رضي الله عنه - يدل على أن الأصل في الشهيد عدم الصلاة عليه؛ لأن الأصل الصلاة على كل ميت، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة على الشهيد يقضي بألا يصلى عليه، وهو ما قال به القائلون بالتحريم، لولا حديث عقبة - رضي الله عنه - الذي يدل على جواز الصلاة عليه، فكأنه كالقرينة التي صرفت حديث جابر - رضي الله عنه - عن المنع، ولم يقل أحد ممن قال بالجواز ¬
الفرع الثاني: هل يغسل الشهيد؟
أو التخيير إن حديث جابر - رضي الله عنه - لا دلالة فيه على المنع، وبهذا تجتمع الأدلة كلها، والله أعلم. الفرع الثاني: هل يغسل الشهيد؟ اختلف العلماء في تغسيل شهيد المعركة على قولين: القول الأول: أن الشهيد لا يغسل: وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وعطاء والنخعي وسليمان بن موسى (¬1) ويحيى الأنصاري (¬2) والحاكم وابن المنذر وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية (¬3) (¬4). ¬
* الأدلة
* الأدلة: الأحاديث التي ورد فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل الشهداء ومنها: 1 - حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شهداء أُحد: "ادفنوهم في دمائهم" ولم يغسلهم (¬1)، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنا شهيد على هؤلاء، لفوهم في دمائهم، فإنه ليس جريح يجرح إلا جاء وجرحه يوم القيامة يدمى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك" (¬2). 2 - حديث جليبيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفنه ولم يغسله (¬3). 3 - حديث أنس - رضي الله عنه - أن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم (¬4). 4 - حديث حمزة - رضي الله عنه -: " ... إن صاحبكم تغسله الملائكة" (¬5). ¬
القول الثاني: أن الشهيد يغسل
القول الثاني: أن الشهيد يغسل: وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب وابن سريج (¬1) من الشافعية الشافعية وعبيد الله بن الحسن العنبري (¬2) (¬3). * قالوا: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - تغسيل الشهداء يوم أُحد لأنهم كانوا كثرة وشُغِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وأجيب عن ذلك: أنه لو كان المانع من الغسل كثرتهم لغسل كل شهيد أهله، أو لعُدِل عن الغسل إلى التيمم، ولترك دفنهم؛ إذ مشقة حفر القبور أكثر من مشقة تغسيلهم، ويؤيد ذلك أنه لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل شهداء بدر أو الخندق ولم تكن هذه ضرورة حينئذٍ. ¬
* الترجيح
* قالوا: ترك تغسيل شهداء أُحد خصوص، فلا يقاس عليه، وهو قول بعض المتأخرين كما قال ابن عبد البر (¬1). وأجيب عن ذلك: أن هذا يلزم منه خصوصية المحرم الذي وقصته ناقته، وقد أشار إلى شذوذ هذا القول ابن عبد البر (¬2). * الترجيح: الراجح أن الشهيد لا يغسل، وهو قول كافة العلماء (¬3)، بل ذكر ابن قدامة أن هذا إجماع لم يخالف فيه إلا الحسن وسعيد (¬4)، وكذلك الرافعي قال: "الغسل إن أدى إلى إزالة الدم حرام بلا خلاف، وإن لم يؤدِ إلى إزالة الدم فحرام في المذهب" (¬5) اهـ. والدليل على المنع من الغسل هو ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك: قال ابن قدامة: "والاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ترك غسلهم أولى" (¬6) اهـ. ¬
المسألة الثانية: ترك الاستعانة بالمشرك في الحرب
قال ابن عبد البر: "والقول بترك غسلهم أولى، لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أُحد، وغيرهم" (¬1)، وقال أيضًا: "وليس لهذه المسألة مدخل في في القياس والنظر، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقلته الكافة في قتلى أُحد أنهم لم يغسلوا" (¬2). قال ابن القيم: "وقد ذهب الحسن البصري وسعيد بن المسيب إلى أنهم يغسلون ويصلى عليهم، وهذا ترده السنة المعروفة في ترك غسلهم" (¬3). وبغض النظر عن القول الراجح فمن خلال النظر في أقوال العلماء سالفة الذكر يظهر اتفاق الكل على أن عدم تغسيل الشهداء دليل على المنع لولا ما ورد مما يعارضه. المسألة الثانية: ترك الاستعانة بالمشرك في الحرب (¬4): ورد عن عائشة - رضي الله عنه - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له: " تؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: لا، ¬
الأول: عدم الجواز إلا عند الضرورة
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فانطلق" (¬1). هذا الحديث استدل به من ذهب إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين في القتال، وللفقهاء في ذلك مذهبان: الأول: عدم الجواز إلا عند الضرورة: وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وهو مذهب مذهب المالكية (¬4) إلا إذا كانوا خدامًا. واستدلوا على ذلك بـ: 1 - الحديث المذكور: حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فلن أستعين بمشرك" (¬5) ¬
الثاني: يجوز عند الحاجة بشرط أن يكون مأمونا حسن الرأي في المسلمين
2 - ما ورد عن عبد الرحمن بن خبيب - رضي الله عنه - أنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، قال: "فاسلمتما؟ "، قلنا: لا، قال: "فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين"، قال: فاسلمنا وشهدنا معه (¬1). 3 - أنه غير مأمون على المسلمين فأشبه المخذِّل والمرجف. القول الثاني: يجوز عند الحاجة بشرط أن يكون مأمونًا حسن الرأي في المسلمين: وهو مذهب الشافعي (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، وهو مذهب الحنفية بشرط أن يكونوا تحت قهرنا وحكمنا وألا يكون لهم شوكة (¬4)، واختاره ابن القيم (¬5). واستدلوا على جوازه عند الحاجة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك (¬6)، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بيهود بني ¬
قينقاع لما كان فيهم قلة (¬1). وعلى ذلك فالخلاف في جواز الاستعانة بالكفار هل يكون عند الضرورة أم عند الحاجة بشرط أن لا يكون لهم شوكة ومنعة، ولا يكونوا ذوي ضرر على المسلمين، وأن يكونوا تحت قهر وحكم المسلمين. والأمر في ذلك قريب فإن الأنظار تختلف في مقدار الحاجة من الضرورة. ويتضح من خلال عرض ذلك الخلاف أن الفقهاء لم يختلفوا في دلالة حديث إرجاع المشرك على المنع من الاستعانة بالمشركين، وإنما عارضه القائلون بالجواز بحديث استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفوان بن أمية. قال الكرابيسي (¬2): "والأصل فيه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في ¬
المسألة الثالثة: ترك الجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" في الصلاة
الخبر المعروف: "إنما لا نستعين بالكفار" لما رأى كتيبة حسناء، وروي أنه استعان بيهود بني قينقاع لما كان فيهم قلة" (¬1). المسألة الثالثة: ترك الجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" في الصلاة: ورد من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (¬2). قال الترمذي: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وغيرهم ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق" (¬3). وقد اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: لا يسن الجهر بالبسملة. القول الثاني: يسن الجهر بالبسملة. القول الثالث: لا يقرأ البسملة لا سرًا ولا جهرًا. القول الرابع: يقرأها ولكن يسر بها أحيانًا ويجهر أحيانًا. ¬
القول الأول: لا يسن الجهر بالبسملة
القول الأول: لا يسن الجهر بالبسملة: وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن الزبير وعمار - رضي الله عنه - وبه يقول الحكم، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك (¬1) وأصحاب الرأي وأحمد (¬2). * الأدلة: 1 - ما ورد عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين" (¬3). *وقد اُعترض عليه بأنه مضطرب كما قال ابن عبد البر في الاستذكار (¬4)، لزيادة في مسلم: "لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول قراءة ولا في ¬
آخرها"، وهذا مردود برواية ابن خزيمة: "كانوا يسرون" (¬1)، وكذلك هذه الرواية عند أحمد: "لا يجهرون" (¬2). * واعترض عليه أيضًا بأن المقصود بـ "الحمد لله رب العالمين" أنه اسم لسورة الفاتحة وليس المقصود آية "الحمد لله رب العالمين"، وهذا مردود أيضًا برواية ابن خزيمة: "يسرون" فإنها ظاهرة في أن هذا المعنى غير مراد. 2 - حديث ابن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فقال لي: "أي بني محدث، إياك والحدث"، قال: "ولم أر أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أبغض إليه الحدث في الإسلام": يعني منه، قال: "وقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقولها فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل: "الحمد لله رب العالمين" (¬3). 3 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي ... " الحديث، قالوا: فلم يذكر فيه البسملة (¬4). ¬
القول الثاني: يسن الجهر بها
4 - حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين" (¬1). القول الثاني: يسن الجهر بها: وهو قول أبي هريرة وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنه -، ومروي عن عطاء وطاووس (¬2) ومجاهد (¬3) وسعيد بن جبير (¬4)، وهو مذهب الشافعي، وهناك بعض الصحابة اختلفت عنهم الرواية بالقول بالإسرار والجهر مثل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬5). ¬
* الأدلة
* الأدلة: 1 - ما ورد عن أنس - رضي الله عنه - أنه صلى وجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وقال: "أقتدي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). 2 - ما ورد عن نعيم المُجَمِّر أنه قال: صليت وراء أبي هريرة - رضي الله عنه - فقرأ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، ثم قرأ بأم القرآن ... ثم يقول إذا سلم: "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). 3 - ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (¬3). واعترض على هذا القول بأن: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لا يدل على الجهر؛ إذ الإسماع لا يشترط منه الجهر فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعهم الآية في الظهر والعصر كما في حديث أبي قتادة (¬4)، وبأن أخبار الجهر المرفوعة إلى ¬
القول الثالث: لا يقرأ بها سرا ولا جهرا
النبي - صلى الله عليه وسلم - ضعيفة كما قال الدارقطني (¬1). القول الثالث: لا يقرأ بها سرًا ولا جهرًا: وهو قول مالك (¬2). الأدلة: استدل مالك بالأحاديث التي فيها عدم ذكر البسملة، والبدء بـ " الحمد لله رب العالمين". واعترض عليه: بأن الأحاديث التي فيها البدء بـ "الحمد لله رب العالمين" لا تدل على عدم قراءة البسملة مطلقًا وإنما تدل على الإسرار بها (¬3). القول الرابع: الجهر أحيانًا والإسرار أحيانًا: وهو ما رجحه ابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5)، والصنعاني (¬6)، والشوكاني (¬7). قال ابن القيم: "ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائمًا في كل يوم وليلة خمس مرات أبدًا حضرًا وسفرًا، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى ¬
المسألة الرابعة: ترك الأذان والإقامة لصلاة العيد
جمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح" (¬1). وهذا القول هو الراجح، لأنه يجمع بين الأدلة المتعارضة. والمقصود من هذا البحث بيان أن دلالة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للبسملة على استحباب الإسرار محل اتفاق (¬2)، وإنما الخلاف بسبب تعارض الأدلة في الظاهر. المسألة الرابعة: ترك الأذان والإقامة لصلاة العيد: روى الشيخان (¬3) عن عطاء أن ابن عباس - رضي الله عنهما - أرسل إلى ابن الزبير - رضي الله عنهما - في أول ما بويع له إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر إنما الخطبة بعد الصلاة، وفي رواية (¬4) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ¬
يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة (¬1). وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة (¬2). ولهذا فقد أجمع العلماء على أن صلاة العيد لا أذان لها ولا إقامة "أي لا يجوز"، وفعل ذلك بدعة. قال ابن قدامة: "لا نعلم في هذا خلافًا ممن يعتد بخلافه .. وقيل: أول من أذن في العيد ابن زياد وفي هذا دليل على انعقاد الإجماع قبله على أنه لا يسن لها أذان ولا إقامة، وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي" (¬3). قال ابن قدامة - بعد ذكره لأحاديث ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع" (¬4). قال الصنعاني: "وهو دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد فإنهما بدعة" (¬5). قال النووي: "هذا دليل على أنه لا أذان ولا إقامة للعيد وهو إجماع ¬
المسألة الخامسة: ترك التنفل قبل صلاة العيد وبعدها
العلماء اليوم وهو المعروف من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين" (¬1). ويلاحظ هنا أن العلماء اتفقوا على المنع من الأذان والإقامة لصلاة العيد، ولا دليل لهم سوى ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما، واتفقت كلمتهم لعدم ورود ما يعارض ذلك. ومثل صلاة العيد صلاة الاستسقاء فقد ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يسن لها أذان ولا إقامة، قال ابن قدامة: "ولا نعلم فيه خلافًا" (¬2)، وقال ابن حجر: "قال ابن بطال: أجمعوا على أن لا أذان ولا إقامة للاستسقاء" (¬3). المسألة الخامسة: ترك التنفل قبل صلاة العيد وبعدها: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم أضحى أو فطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خُرْصها (¬4) وتلقي سِخَابها (¬5) (¬6). ¬
الفرع الأول: هل لصلاة العيد سنة راتبة؟
هذا الحديث يتناول فرعين ذكرهما الفقهاء: الأول: هل لصلاة العيد سنة راتبة. والثاني: هل يجوز التنفل قبل صلاة العيد أو بعدها. الفرع الأول: هل لصلاة العيد سنة راتبة؟ نقل النووي الإجماع على أنه ليس لصلاة العيد سنة راتبة، فقد قال: "لم أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحدًا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها" (¬1). ودليل هذا الإجماع الحديث المذكور وفيه "لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما". قال الصنعاني: "في قوله: "لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما "دليل على عدم شرعية النافلة قبلها وبعدها لأنه إذا لم يفعل ذلك، ولا أمر به - صلى الله عليه وسلم - فليس بمشروع في حقه، فلا يكون مشروعًا في حقنا" (¬2). الفرع الثاني: هل يجوز التنفل قبل صلاة العيد أو بعدها؟ اختلف أهل العلم في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يكره التنفل قبلها أو بعدها. ¬
القول الأول: لا يتنفل قبلها ولا بعدها
القول الثاني: لا يكره التنفل قبلها أو بعدها. القول الثالث: لا يتنفل قبلها، أما بعدها فيتنفل. القول الرابع: إن كان في المسجد تنفل قبلها، وإن كان في المصلى فلا يتنفل. وفيما يلي بيان الأقوال بأدلتها: القول الأول: لا يتنفل قبلها ولا بعدها: وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وابن عمر وجابر وكعب بن عجرة (¬1) والزهري (¬2) ¬
ومطر الوراق (¬1) وشريح (¬2) والشعبي (¬3) والضحاك (¬4) والقاسم (¬5) ومعمر (¬6) ¬
وابن جريج (¬1) ومسروق (¬2) وأحمد بن حنبل (¬3)، وقال به الشافعي في الإمام دون المأموم (¬4). * الأدلة: 1 - ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم أضحى أو فطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما (¬5). 2 - ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه خرج في يوم عيد، فلم يصل قبلهما لا بعدهما، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله (¬6). ¬
القول الثاني: يتنفل قبلها وبعدها
3 - ما ورد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف ويقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم" (¬1). قال الصنعاني: "فيه الدلالة على تركه - صلى الله عليه وسلم - لذلك" (¬2). أما الشافعي فقد استدل على تخصيصه بالإمام دون المأموم بأن الإمام مشغول بصلاة العيد، فهو يأتي وقت صلاة العيد فيبدأ بالصلاة. واعترض على قول الشافعي بأن الذين رووا الحديث من الصحابة مثل ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنه - لم يصلوا، ونقل ابن قدامة عن الأثرم أنه قال: قلت لأحمد: قال سليمان بن حرب: إنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التطوع؛ لأنه كان إمامًا، قال أحمد: فالذين رووا هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتطوعوا، ثم قال: "ابن عمر وابن عباس: هما راوياه وأخذا به" (¬3)، وبأن الكراهة لو كانت للإمام كي لا يشتغل عن الصلاة لاختصت بما قبل الصلاة؛ إذ لم يبق بعدها ما يشتغل به (¬4). القول الثاني: يتنفل قبلها وبعدها: ¬
القول الثالث: يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها
وهو قول أنس بن مالك وأبي هريرة ورافع بن خديج - رضي الله عنهم - وسهل بن سعد وأبي بردة والحسن البصري وأخوه سعد بن أبي الحسن وجابر وعروة بن الزبير، وهو قول الشافعي في المأموم دون الإمام (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). ودليلهم: أنه وقت لم ينه عن الصلاة فيه. القول الثالث: يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها: وهو قول علقمة (¬3) والأسود (¬4) ومجاهد وابن أبي ليلى (¬5) والنخعي ¬
القول الرابع: إذا كانت الصلاة في المصلى لم يتنفل قبلها ولا بعدها، وإن كانت في المسجد تنفل قبلها
والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة (¬1)، قال النووي: "وحكاه البخاري عن ابن عباس" (¬2). واستدلوا بـ: ما ورد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين (¬3). وأُجيب بأن محل البحث الصلاة في المصلى بعد العيد، ولذلك قال الصنعاني: "ويجمع بينهما [أي بين حديث ابن عباس وحديث أبي سعيد] بأن المراد لا صلاة في الجبّانة" (¬4). واستدل الحنفية بما ورد عن علي - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله له بكل نبت نبتًا، وبكل ورقة حسنة" (¬5). القول الرابع: إذا كانت الصلاة في المصلى لم يتنفل قبلها ولا بعدها، وإن كانت في المسجد تنفل قبلها: ¬
وهو مشهور مذهب مالك (¬1). لما ورد من حديث أبي قتادة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (¬2). * الترجيح: الذي يظهر لي أن المسألة فيها تفصيل: فإذا كانت الصلاة في المصلى فلا يجوز أن يتنفل، لأن الوقت وقت كراهة أو تحريم، وليس للمصلى حكم المسجد من صلاة ركعتين تحية المسجد عند دخوله، فهي صلاة ليس لها سبب، حتى تجوز في وقت الكراهة، مع ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في المصلى، ولا معارض. وإذا كانت الصلاة في المسجد، جازت الصلاة في وقت الكراهة باعتبارها تحية المسجد، فهي حينئذ صلاة لها سبب، فتجوز لأجل ذلك. وبذا يكون القول الرابع هو القول الراجح إن شاء الله تعالى. * * * ¬
الفصل الثاني دلالة الترك الوجودي
الفصل الثاني دلالة الترك الوجودي وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: التمهيد في تعريف الدلالة. المبحث الأول: دلالة الترك. المبحث الثاني: مراتب الترك. المبحث الثالث: تعارض الترك مع غيره.
توطئة
توطئة سبق في الفصل الأول بيان لقسمي الترك الوجودي بالأمثلة، وفي هذا الفصل تفصيل القول عن دلالة كل نوع، وقد اقتضى هذا أن يتقدم تمهيد للكلام عن الدلالة وما هو المراد بها في هذا البحث، ثم بعد ذلك الكلام عن دلالة كل نوع من أنواع الترك الوجودي على حدة، فكان المبحث الأول للكلام عن دلالة الترك في مطلبين مطلب لكل نوع، ثم المبحث الثاني لبيان مراتب الترك الوجودي، ثم المبحث الثالث لبحث تعارض الترك مع غيره، وذلك من خلال مطلبين أحدهما لتعارض الترك مع القول والآخر لتعارض الترك مع الفعل.
التمهيد في تعريف الدلالة
التمهيد في تعريف الدلالة المطلب الأول: الدلالة في اللغة: دلالة مصدر من دَل، يَدُل (¬1)، وهي تضبط بفتح الدال وكسرها والفتح أفصح وكلاهما بمعنى واحد فيما نقله المرتضى الزبيدي (¬2) عن الصاغاني، وكذلك صرح بذلك الجوهري (¬3)، ونقله في (تهذيب اللغة) عن الفراء (¬4)، وذكره ابن منظور في (لسان العرب) (¬5). أما ابن دريد في (جمهرة اللغة) (¬6)، فقد خص الفتح بحرفة الدلال والكسر بالدليل البين، ونقله عنه أيضًا المرتضى الزبيدي (¬7). والدلالة مصدر من دَلَّ، يَدُل: إذ هدى، ودَلَّ، يَدِلُ: إذا من بعطائه. فالدلالة المرادة هنا مصدر دَل: يدُل بضم الدال والاسم دليل، وهذا المصدر يحمل معنى الإرشاد والتسديد والتوجيه. ¬
المطلب الثاني: الدلالة في الاصطلاح
قال الزبيدي: "دَلَّه عليه يَدُله دلالة فاندل على الطريق: سدده إليه ... ، والمراد بالتسديد: إراءة الطريق" (¬1)، ونقل عن التهذيب: "دللت بهذا الطريق دَلالة: عرفته". وفي (القاموس المحيط): "دله عليه دلالة: سدده إليه" (¬2). وفي (لسان العرب): "الدليل والدليلي: الذي يدلك والجمع أدلة وأدلاء والاسم: الدَّلالة والدِّلالة بالكسر والفتح" (¬3). وقال الجوهري: "دله على الطريق: يدله دَلالة ودِلالة ودَلُولة" (¬4). المطلب الثاني: الدلالة في الاصطلاح: الدلالة في الاصطلاح تحمل المعنى اللغوي. قال الفيومي (¬5): "الدلالة بفتح اللام وكسرها: ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه" (¬6). قال الجرجاني: "الدلالة: هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به ¬
العلم بشيء آخر والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول ... " (¬1). ثم قال: "وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص وإشارة النص ودلالة النص واقتضاء النص .. ووجه ضبطه أن الحكم المستفاد من النظم إما أن يكون ثابتًا بنفس النظم أو لا. والأول: إن كان النظم مسوقًا له فهو العبارة وإلا فالإشارة. والثاني: إن كان الحكم مفهومًا من اللفظ لغة فهو الدلالة، أو شرعًا فهو الاقتضاء .. فدلالة النص: عبارة عما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادًا" (¬2). والأصوليون يطلقون القول بدلالة الشيء من الأحكام المستفادة منه، فيقولون: دلالة الأمر أي: ما يدل عليه الأمر من أحكام، ودلالة النهي، أي: ما يستفاد منه من أحكام وهكذا. قال ابن حجر: "الدلالة: المراد بها في عرف الشرع الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم" (¬3). وذهب الزركشي إلى أن الدلالة هي: "كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالمًا بوضعه له" (¬4). ¬
المطلب الثالث: المراد بدلالة الترك
وهل الدلالة هي الفهم الذي يحصل للسامع أم الذي يطلقه المتكلم؟ رجح الزركشي أن الدلالة هي الفهم الذي يحصل للسامع، أما ما يقوله المتكلم مما يفهم فهو دلالة بالقوة، فهناك إذن دلالة بالقوة، ودلالة بالفعل: فالدلالة بالقوة: قصد المتكلم إفهام السامع. والدلالة بالفعل: إفادة اللفظ عند السامع المعنى الذي قصده المتكلم. المطلب الثالث: المراد بدلالة الترك: المراد من: دلالة الترك: الأحكام الشرعية المستفادة من الترك لذاته. وقيل: لذاته؛ احترازًا ما لو تناول المسألة دليل آخر، فإن النظر في دلالة الترك إنما يكون بفرض عدم الدليل الآخر. وعلى هذا جرى الأصوليون في قواعدهم، فهم عندما يقولون مثلًا: الأمر يفيد الوجوب إنما يقصدون لذاته، فكون أمر لا يفيد الوجوب لا لذاته، وإنما لاجتماع دليل آخر في المسألة، والجمع بين الدليلين يقتضي صرف الأمر عن معنى الوجوب. فالمراد بذاته: بفرض خلو المسألة عن أمر آخر. فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب، لا لأمر خاص بالسبب، بل لوجود أمر آخر كعدم استيفاء الشروط أو لوجود مانع. وعلى ذلك: فالمراد الدلالة الأصولية المستفادة من الترك بفرض خلو المسألة عن أدلة أخرى.
المبحث الأول: دلالة الترك
المبحث الأول: دلالة الترك لما كانت معرفة الدلالة هي المقصود الأعظم من تقسيم الترك، فإن من المناسب هنا عن الكلام عن دلالة الترك أن ينفرد كل قسم من قسمي الترك الوجودي بالبحث، وسوف يكون ذلك في مطلبين: المطلب الأول: دلالة الترك المسبب. المطلب الثاني: دلالة الترك المطلق. ولابد هنا من الإشارة إلى عدة أمور: أولًا: لابد من معرفة ما هو حكم ذلك المتروك قبل أن يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك لأن طلب دلالة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه: ما الذي طرأ على ذلك المتروك من أحكام جديدة بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له، أي ما هو الأصل في المتروك. والمتروك هذا أحد أمرين: أن يكون عبادة أو لا، فما هو الأصل في العبادات؟، وما هو الأصل في غير العبادات من أفعال المكلفين؟ المراد بالعبادات هنا: هي ما لا يقع إلا قربة ولا يصح إيقاعه على غير وجه القربة وهي ما يسميه العلماء بالتعبدات المحضة وليس المراد - بطبيعة الحال - العبادات بالتعريف الأعم إذ كل ما سوى العبادات المحضة قد يصير عبادة بالنية. المشهور بين الدارسين أن الأصل في الأشياء هو الإباحة، وأن ذلك هو قول الجمهور، وهو ما اعتمدت عليه في هذه الدراسة، ومرادهم بالأشياء ما سوى العبادات المحضة، أما العبادات المحضة فالأصل فيها المنع والحظر فلا
يثبت منها إلا ما ورد الدليل به، وعلى ذلك عامة أهل العلم، وفي بيان ذلك يقول ابن تيمية: "تصرفات العباد في الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى" (¬1). فالمتروك قبل أن ينقل إلينا كف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه على الإباحة في غير العبادات، ممنوع منه في جانب العبادات. وسيأتي الاستدلال على هذه القضية مفصلًا في أول الباب الثالث. ثانيًا: بنى الدكتور الأشقر أحكام الترك على بحث الأصوليين في مسألة التأسي، وعدم التفرقة بين الفعل والترك في ذلك (¬2)، وبناء الدلالة على مسألة التأسي هو ما تعتمده هذه الدراسة. ثالثًا: ذهب الشيخ الغماري إلى أن الترك لا يدل إلا على الجواز (¬3). ¬
المطلب الأول: دلالة الترك المسبب
المطلب الأول: دلالة الترك المسبب: الترك المسبب أحد أقسام الترك الوجودي الذي يجب علينا التأسي ¬
وجه اعتبار سبب الترك مورد هذا التقسيم
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وصورة هذا النوع من الترك لا تتم إلا باعتبار سبب حصولها، وذلك لأن الحكم يتعلق بالسبب وجودًا وعدمًا - إذ إنه من المقرر عند الفقهاء جميعًا أن الحكم يدور مع العلة حيث دارت - وبناء على ذلك يمكن تقسيم الترك المسبب إلى نوعين: النوع الأول: ترك لا يوجد سببه في حق الأمة، فليس فيه تأسٍّ. النوع الثاني: ترك يوجد سببه في حق الأمة، فيدخل في التأسي. وجه اعتبار سبب الترك مورد هذا التقسيم: إن اعتبار السبب مورد التقسيم ما هو إلا نتيجة المقدمات التالية: * الأصل في الترك المسبب أنه يجب التأسي فيه بشروطه. * الموافقة في صورة الترك وحكمه من شروط التأسي. * الترك المتوقف على سبب لا يمكن حصول التأسي فيه إلا إذا كان الترك المُتأَسى به لنفس سببه. - وقد سبق بيان الأدلة على كل قضية من القضايا الثلاثة: وبناءً على ذلك: فإن حصول التأسي في الترك المسبب متوقف على مدى إمكانية وجود ذلك السبب، فالتفرقة بين ما يحصل به تأسٍّ وما لا يحصل متوقف على سبب الترك في حقيقة الأمر. هذا التقسيم يشمل كل أسباب الترك: التقسيم السابق يشمل الأسباب التي سبق ذكرها في أنواع الترك المسبب،
النوع الأول: الترك الذي لا يوجد سببه في حق الأمة
فالترك الذي لا يحصل سببه في حق الأمة يشمل: ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه من خصائصه، وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - خشية أن يفرض العمل، وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان التشريع، وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمراجعة الصحابة له، وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجرد الطبع. أما الترك الذي يحصل سببه في حق أمته - صلى الله عليه وسلم - فيشمل الترك للإنكار، وترك المستحب لبيان الجواز، وترك الواجب دفعًا للمفسدة، والترك بسبب النسيان أو المرض. النوع الأول: الترك الذي لا يوجد سببه في حق الأمة: أما النوع الأول فلا يمكن حصول التأسي فيه؛ لأن الموافقة في صورة الفعل تقتضي أن يكون الترك لنفس السبب الذي اقتضى الترك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا زال هذا السبب في حق الأمة فلا سبيل إذن إلى حصول التأسي فيه. وهذا الترك الذي زال سببه إما أن يكون من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ليس من خصائصه لكن يمتنع تحقق السبب بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. * الترك الذي اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأما الترك الذي هو من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل إلى حصول التأسي فيه بوجه من الوجوه، إذ إن الخصوصية تنفي التأسي، والعكس بالعكس، فهما لا يتواردان على محل واحد. والقول بأن الترك الذي هو من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل فيه تأسٍّ
هو قياس قول الأصوليين في الأفعال النبوية من أن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لا يشرع فيها متابعة. وعدم جواز متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما اختص به: هو قول جمهور الأصوليين، بل ونقل بعضهم أنه إجماع كالآمدي وغيره (¬1). وقد نقل قول بالتوقف في حكم المتابعة في ذلك عن إمام الحرمين (¬2)، والتعليل الذي علل به القول بالتوقف قاضٍ بموافقة مذهب الجمهور من عدم مشروعية ذلك، فقد قال: "ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به - صلى الله عليه وسلم - في هذا النوع، ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك، فهذا محل التوقف"، وقد نقله عنه الشوكاني (¬3). أما أبو شامة في كتابه (المحقق من علم الأصول) فقد ذكر أن الأفعال النبوية يشرع فيها التأسي فيما هو واجب في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون حكمه على سبيل الاستحباب، ولا يشرع فيما هو مباح في حقه - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وهذا الذي ذهب إليه أبو شامة لا إشكال فيه على ما ذهب إليه من معنى التأسي، وإنما يصح وقوع هذا الإشكال على التأسي بالمعنى الآخر، وهذا ما دعا الشوكاني إلى رد ما ذهب إليه أبو شامة، وذهب إلى أن ما صرح ¬
فيه بكونه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لا سبيل إلى الاقتداء به فيه، إلا بدليل مثبت في حقنا. وتوجيه ما ذكره أبو شامة هو أن يقال: إن ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لا يكون في صورة الفعل، بل في حكمه، فإذا كانت الخصوصية في الحكم؛ فإن صورة الفعل قد تكون مشروعة في حق الأمة، ولكن لا من حيث كونه خاصًا به، بل لدليل منفصل عن محل الخصوصية، فالفعل ما زال خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الوجه، وإن توافقت صورة الفعلين. فتقرير ما سبق هو: أن الفعل له جهتان قد تكون الخصوصية من أحدهما أو كليهما، فحيث ثبتت الخصوصية انتفت المتابعة، فما كانت خصوصيته من جهة واحدة، ولا تكون إلا الحكم، كان جائزًا أن توافق الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الفعل، لكن ليس حكمه في حقه هو حكمه في حقها؛ إذ إن الحكم هو محل الخصوصية، أما ما كانت الخصوصية فيه من الجهتين معًا، فلا سبيل لموافقة الأمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو في مجرد الصورة فقط. ومثال ذلك في الأفعال النبوية التي اختص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بحكم فقط: وجوب قيام الليل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الأمة، فإن قيام الليل مستحب لآحاد هذه الأمة، وهو في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب، فجهة الخصوصية هي الحكم فقط، دون صورة الفعل. أما مثال الأفعال النبوية التي اختص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالحكم والصورة معًا، فكجواز زيادته - صلى الله عليه وسلم - على أربعة نسوة في النكاح، فإن صورة الفعل لا تحصل
لآحاد الأمة بلا خلاف؛ وذلك لأن الخصوصية في صورة الفعل وحكمه. وهذا تأصيل صحيح إذا قلنا بأن التأسي لا يشترط فيه الموافقة في الحكم، وهو ما يقول به أبو شامة والجصاص (¬1) والسرخسي (¬2)، ولا يرد عليه ما ينقضه على هذا المعنى، وهو غير صحيح على القول باشتراط الموافقة في الحكم، وهو ما يقول به الرازي (¬3) والآمدي (¬4) وتبعهم في ذلك الشوكاني (¬5)،، إذ يوردون عليه: أن الأمة وإن وافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الفعل فليس ذلك كاف لإطلاق التأسي على تلك الصورة. وهذا اعتراض صحيح على المعنى الأول، لكن لا يلزم منه أن ذلك التفصيل غير صحيح. فقياس هذا في التروك أن يقال: ما اختص النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركه إما أن تكون الخصوصية في صورة الترك وحكمه أو صورته فقط. فأما الخصوصية في صورة الترك وحكمه: فلا سبيل إلى حصول الموافقة فيها بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، لما ذُكر سابقًا، ولم أعثر له على مثال. ¬
وأما الخصوصية في حكم الترك دون صورته: فمثاله وجوب الترفع عن قبول صدقات الناس، فإن هذا الترك مندوب إليه في الجملة في حق آحاد هذه الأمة، واختص النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجوب ذلك عليه (¬1). وعليه فإن قياس قول الأصوليين فيما أختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - في التروك أنه لا يدخله تأسٍّ. ومما يدخل تحت ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - تركًا خاصًا به: الترك الذي لمجرد الطبع، فإن الأصل في الترك أنه يقتضي حكمًا في حقنا، إلا إذا بين النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ذلك، وهذا متحقق في الترك لمجرد الطبع، فلا يحمل ترك على أنه لمجرد الطبع إلا بنص صريح، أو إجماع، وقد دل حديث الضب على أن الترك الذي هذا شأنه ليس فيه تأسٍّ، ولا تشرع فيه متابعة. وقد ذكر الأصوليون أن الفعل لمجرد الطبع ليس فيه متابعة (¬2)، فقياس ¬
* الترك لسبب لا يمكن وجوده الآن
قولهم أن الترك الذي لمجرد الطبع لا تشرع فيه متابعة. * الترك لسبب لا يمكن وجوده الآن: وأما الترك الذي لا سبيل إلى حصول سببه في حق آحاد الأمة فمثل ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل بيان الجواز، أو تركه لأجل مراجعة الصحابة له، أو لخشية أن يفرض العمل على الأمة، فهذا كله لا سبيل إلى حصول سببه الآن، فلا يمكن فيه تأسٍّ. فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للمواظبة على صلاة الضحى لا تشرع فيه متابعة؛ لأن السبب الذي لأجله ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - المواظبة على صلاة الضحى زال بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا سبيل إلى وجوده البتة، وهذا هو ما فهمته عائشة - رضي الله عنها - فقالت: "وإني لأسبحها" (¬1). ومثاله أيضًا: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - المواظبة على قيام رمضان في المسجد جماعة، لا يصح أن يقال فيه: إن ذلك هو الأفضل في حق أمته؛ وذلك لأن السبب الذي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجله المواظبة قد زال، فلا يكون تارك القيام في رمضان جماعة متأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل العكس هو الصحيح: أعني: المصلي للتراويح في جماعة هو المتأسي. ¬
النوع الثاني: الترك الذي يمكن وجود سببه في حق الأمة
وعدم التأسي هنا راجع إلى عدم إمكان تحقق صورة الترك في الواقع، وليس لكون هذا الترك لا يدخله تأسٍّ في الأصل. النوع الثاني: الترك الذي يمكن وجود سببه في حق الأمة: الترك الذي يمكن وجود سببه في حق الأمة، يجب التأسي فيه، على ما ذكر من معنى وجوب التأسي، ويكون التأسي فيه باعتبار السبب شرطًا في صورة الترك، فمتى زال السبب: رجع المتروك إلى حكمه قبل حصول السبب الطارئ. ومثال ذلك: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للتطويل في الصلاة خوف المشقة على المأمومين، فإن التأسي في ذلك الترك يكون بأن يترك الإمام التطويل إذا خاف المشقة على المأمومين، أما إذا علم أن ذلك لا يشق عليهم بأن كانوا قلة فاستشارهم، أو طلبوا منه ذلك، فكمال التأسي في هذه الحالة يكون بالتطويل لانتفاء سبب الترك حينئذ. ومثاله أيضًا: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل نفسه، ومن عليه دين، إنكارًا منه - صلى الله عليه وسلم - لذلك الفعل، وأمر الصحابة بالصلاة عليه، فإن المشروع في حقنا الصلاة عليه، إلا لمن وُجد فيه نفس المعنى الذي لأجله ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليه، ومثل هذا المعنى يوجد في الأئمة الذين يظن بهم الصلاح والتقى، فيرغب الناس في أن يصلوا على ميتهم التماسًا لبركة دعائه، فيظن أنه لو امتنع عمن عليه دين أن يسارع أهله بقضاء دينه، فلو لم يوجد هذا المعنى، لم يكن للترك فائدة. وحاصل القول: التأسي في الترك المسبب لابد فيه من اعتبار السبب
المطلب الثاني: دلالة الترك المطلق
لكي تتم صورة المتابعة إلا فيما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أسباب للتروك فلا يشرع لنا فيها تأسٍّ به - صلى الله عليه وسلم -. المطلب الثاني: دلالة الترك المطلق: قبل الشروع في بيان دلالة الترك المطلق لابد من بيان أن المسائل الحديثة والنوازل الجديدة التي تنبني على الترك لا تنبني على هذا النوع مطلقًا؛ وذلك لأن مسائل هذا النوع محصورة بما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث، ولا طريق لمعرفته سوى النقل، أما النوازل الجديدة - التي يطلب معرفة حكمها - فلا تخلو من أن تكون أحد أمرين: الأمر الأول: أن تدخل تحت أحد فروع هذا النوع بطريق القياس فيثبت لها حكم الأصل وتكون هي في مقام الفرع. الأمر الثاني: ألا تدخل بالقياس تحت أحد فروع هذا النوع ومن ثَمّ فمحل دراستها في الترك العدمي. وقد سبق في مبحث التأسي بيان أن القول المختار هو وجوب التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الترك، وفيما يلي بيان معنى ذلك الوجوب. فيقال: الفعل الذي كف عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون بيان سببه، لا يكون إلا أحد أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الفعل لا يصح وقوعه إلا على وجه القربة من كل وجه. الأمر الثاني: أن يكون هذا الفعل مما يصح وقوعه على غير هيئة التعبد والقربة.
القسم الأول: الترك المجرد
أما الأول فإن امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فعله، دليل على أن هذا الفعل غير جائز، فهو محرم، وفعله على هذا الوجه يكون بدعة مذمومة. أما الثاني فإن امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه يحمل على أقل أحوال التأسي والمتابعة، فيحمل على الكراهة، لأن هذا هو القدر المتيقن، وما فوقه زائد عليه، فلا يصار إليه إلا لدليل يقتضي تلك الزيادة، وهذا هو سبب حمل النوع الأول على أنه للتحريم، إذ إن المتيقن فيه أيضًا الكراهة التي هي أقل أحوال المتابعة، ولكن صرنا إلى التحريم لدليل منفصل من الخارج، ولكنه لازم، وهذا الدليل هو ما ثبت عند الفقهاء والأصوليين جميعًا من أن العبادة لا تثبت إلا بدليل، فلو كان هذا الفعل الذي لا يقع إلا على وجه العبادة لا يصح الإقدام عليه سواء كف عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يتعرض له، حتى ينقل لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك الفعل، فإن المنع يقوى ويزداد بكف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، إذ هو في هذه الحالة مقوٍّ للأصل ومعضدٍ له. فيصح إذن إجمال القول فيما يلي: ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون بيان سبب للترك، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الترك المجرد: أي الذي لم يتناوله أمر أو نهي ولم يكن في موضع البيان، وهذا على قسمين: الأول: أن يكون المتروك عبادة محضة - أي لا يقع الفعل إلا على وجه التعبد - فالترك هنا دليل على المنع. فمن ذلك ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الفرض على الراحلة، دليل على عدم جواز ذلك الفعل، وهذا ما ذهب إليه الفقهاء في هذا الفرع، بل نقل النووي
القسم الثاني: الترك الذي تناوله بيان قولي
الإجماع على ذلك (¬1). الثاني: أن يكون المتروك يصح وقوعه على غير معنى التعبد، فالترك هنا دليل على الكراهة. فمن هذا النوع ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للأكل متكئًا دليل على الكراهة - عند من لم ير اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك - وكذلك ترك النوم قبل صلاة العشاء، وكذلك السمر بعدها (¬2). القسم الثاني: الترك الذي تناوله بيان قولي كالأمر به أو النهي عنه، وهذا يستفاد حكمه من القول لا مجرد الترك. الفرق بين هذا النوع وبين الترك المسبب من وجوه: الأول: أن البيان القولي قد يكون في موقف وصورة الترك في موقف بخلاف الترك المسبب فإن السبب من الترك مذكور مع صورة الترك. الثاني: أن بيان سبب الترك قد يكون من الصحابي بخلاف هذا القسم من الترك المطلق الذي يجب أن يكون البيان القولي من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القسم له أمثلة كثيرة إذ يصح القول بأن كل ما نقل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ونقل عدم فعله - صلى الله عليه وسلم - له فهو داخل في هذا القسم. وهذا القسم وإن كان واضح الدلالة لكن لابد من إثباته حتى لا تختلط دلالته بدلالة الأقسام الأخرى. ¬
القسم الثالث: الترك الذي وقع به بيان مجمل
القسم الثالث: الترك الذي وقع به بيان مجمل، فقياس قول الأصوليين في الأفعال أن هذا الترك لا يجوز الزيادة عليه أو النقصان منه، ومن هذا النوع: ترك تغسيل الشهيد، وترك الأذان والإقامة في صلاة العيدين والاستسقاء، فالزيادة على ما ورد البيان به لا تجوز. إشكال والرد عليه: ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" (¬1). هل يستدل بهذا الحديث على أن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على شيء من الأحكام؟ والجواب عن ذلك: أن المراد بقوله: "ذروني ما تركتكم" النهي عن الاستفصال في السؤال، والاكتفاء بما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس المراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تركهم فلا دلالة لهذا الترك، لما ورد من الأدلة الأخرى، وهذا المعنى فَصَّلَه ابن حجر ووضحه عند شرحه لهذا الحديث فقد قال: "المراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبًا من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل، فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة، قال ابن فرج معنى قوله: "ذروني ما تركتكم": لا تكثروا ¬
من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر، ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله: حجوا، وإن كان صالحًا للتكرار فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ، وهو مرة واحدة فإن الأصل عدم الزيادة، ولا تكثروا التنقيب عن ذلك، لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل، إذ أمروا أن يذبحوا البقرة، فلو ذبحوا أي بقرة كانت لامتثلوا، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - قال ابن حجر -: وبهذا تظهر مناسبة قوله: فإنما هلك من كان قبلكم إلى آخره بقوله: ذروني ما تركتكم" (¬1). ويمكن تلخيص دلالة الترك الوجودي في الشكل التالي: .............................................................. [دلالة الترك الوجوي] ........................................................ ............................ [المسبب] ....................................................... [[المطلق]] .................................... [ترك لا يوجد سببه في حق الأمة] ... [ترك قد يوجد سببه في حق الأمة] .. [[ترك مجرد]] .... [[ترك تناوله بيان قولي]] ... [[وقع به بيان مجمل]] [ليس فيه تأسي] ... [يجب فيه التأسي باعتبار سببه] ...... [[عبادة محضة]] .. [[ليس ببعادة]] .. [[حكمة من القول]] ... [[لا يزاد على الترك ولا ينقص المنع كراهة]] ¬
المبحث الثاني: مراتب الترك
المبحث الثاني: مراتب الترك لا شك أن التروك ليست كلها على منزلة واحدة من القوة أو الضعف، وحيث إن الأصل في ثبوت الترك الوجودي النقل، فإن ألفاظ النقل تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا من جهة ظهور دلالتها على الترك من عدمه، وثمة أمر آخر وهو أن نقل الترك بخلاف نقل الفعل، لابد فيه من تقصٍ شديد، لأن الفعل - ولو مرة - يخرم صورته، بخلاف الفعل، فإن حدوثه مرة كافٍ في نقله، ولذا فسوف يُقَسم الترك في هذا المبحث باعتبار قوة دلالة اللفظ على المعنى، وهو بذلك ينقسم إلى مرتبتين: المرتبة الأولى: أن يكلون اللفظ نصًّا قاطعًا في ثبوت الترك، وهذا على نوعين: النوع الأول: أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه أنه ترك. ومثاله: ما ورد عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا آكل متكئًا" (¬1). النوع الثاني: أن يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - سائله على أنه ترك. مثاله: ما ورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: عطس رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمَّت أحدهما ولم يشمِّت الآخر، فقيل له، فقال: "هذا حمد الله، ¬
المرتبة الثانية: أن يكون اللفظ ظاهرا في ثبوت الترك وليس بنص، وهذا ثلاثة أنواع
وهذا لم يحمد الله" (¬1). المرتبة الثانية: أن يكون اللفظ ظاهرًا في ثبوت الترك وليس بنص (¬2)، وهذا ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن ينقل الصحابي الترك من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في موقف متكرر. فمن ذلك: ما ورد من حديث حفصة - رضي الله عنه - أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين" (¬3). وأيضًا ما ورد من حديث حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عمارة بن رويبة - رضي الله عنه - بشر بن مروان وهو يدعو في يوم جمعة فقال عمارة - رضي الله عنه -: قبح الله هاتين اليدين، قال: "لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما يزيد على هذه، يعني السبابة التي تلي الإبهام" (¬4). النوع الثاني: أن ينقل الصحابي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك فعلًا ما على الدوام. ¬
فمن ذلك ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: "ما نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل العشاء ولا سمر بعدها" (¬1). وأيضًا: ما ورد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -: كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت: "ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلَاثًا" (¬2). فعائشة - رضي الله عنه - زوجه والقيام يتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقرب من كل يوم ولو زاد لاطلعت عليه. وأيضًا: ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرًا كاملًا غير رمضان" (¬3). وأيضًا: ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا ¬
النوع الثالث: أن ينقل الصحابي الترك لفعل متوقع في حادثة مشهورة.
يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]. قال عروة: قالت عائشة - رضي الله عنه -: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد بايعتك كلامًا"، ولا والله ما مسَّت يدُه يدَ امرأةٍ قط في المبايعة، ما يُبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" (¬1). النوع الثالث: أن ينقل الصحابي الترك لفعل متوقع في حادثة مشهورة. فمن ذلك: ما ورد من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدًا منهم (¬2). * * * ¬
المبحث الثالث: تعارض الترك مع غيره
المبحث الثالث: تعارض الترك مع غيره الترك من الأفعال - كما سبق بيانه - ولذلك فإن بحث تعارض الترك مع غيره يقتضي البحث في تعارض القول مع الفعل وفي تعارض الأفعال. المطلب الأول: تعارض الترك مع القول: تعارض القول مع الفعل قسمه الأصوليون إلى صور كثيرة عدَّها بعضهم كالشوكاني ثمانٍ وأربعين صورة، وأوصلها الزركشي إلى ستين صورة، وبلغ بها المرداوي ستًّا وسبعين صورة، وأغلب هذه الصور صور نظرية مفترضة لا وجود لأغلبها في التطبيق العملي كما يذكر الزركشي والعلائي والمرداوي والشوكاني (¬1). لكن حاصل ما ذهبوا إليه في القول المراد به العموم إذا عارض الفعل ثلاثة أقوال، أحدهما تقديم القول، والثاني تقديم الفعل، والثالث طلب ¬
مرجح من الخارج. أما الذين قالوا بتقديم القول فذلك لأنه بيان بنفسه دون الفعل ودلالة القول أقوى من دلالة الفعل فيقدم. والذين قدموا الفعل قالوا: هو أقوى في الدلالة والبيان على المراد. أما الذين قالوا بطلب المرجح من الخارج فقالوا لأنهما في الدلالة سواء. وذكر العلائي والزركشي أن الذي يجري على قواعد الأصوليين في هذا الشأن أن يحمل القول على وجه، ويحمل الفعل على وجه آخر، أو يصرف الفعلُ القولَ عن ظاهره إلى أحد معانيه. وحيث أن الترك فعل، فإن تعارض القول مع الترك يكون بأن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - موجب ما دل عليه القول، وهو إما أمر أو نهي: فحصول التعارض في الأمر يكون بأن يأمر بفعل ثم يترك فعله، وحصول التعارض في النهي يكون بأن ينهى عن فعلٍ ثم يفعله، فيكون تاركًا للامتثال لما دل عليه النهي. وهاتان الصورتان يصح فيهما أن يحمل الأمر على عدم الوجوب، فيكون الفعل قرينة تصرفه عن ظاهره، ويحمل النهي على الكراهة دون التحريم، وهذا الوجه في الجمع فيه إعمال للدليلين معًا في المحل الواحد وهو أولى من حمل كل دليل على محل غير الذي يتعلق به الآخر. ثم إنه صنيع الفقهاء فيما لا يحصى في المواضع، وقد نص الأصوليون في باب الأمر والنهي على صرف الأمر عن الوجوب والنهي عن التحريم، بدلالة
مثال تعارض الترك مع الأمر: الوضوء من أكل ما مسته النار
القرائن فالأمر ظاهر في الوجوب، وليس نصًّا، والنهي ظاهر في التحريم، وليس نصًّا، فيجوز أن يحمل على غير ذلك المعنى إذا وجد الدليل الصارف. إذن: فالقول إذا عارضه ترك لموجبه كان ذلك دليلًا صارفًا عن ظاهره إلى أحد معانيه، وفيما يلي مثالين: الأول: لتعارض الأمر مع الترك. والثاني: لتعارض النهي مع الترك. مثال تعارض الترك مع الأمر: الوضوء من أكل ما مسته النار: ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالوضوء مما ممشا النار، وورد عنه أنه أكل مما مسته النار ولم يتوضأ، ثم صلى، واختلف العلماء في الجمع بين تلك الأحاديث وفيما يلي بيان تلك الأحاديث وأوجه الجمع بينها. أولًا: الأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء مما مست النار: 1 - ما ورد من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الوضوء مما مست النار" (¬1). 2 - ما ورد عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أنه وجد أبا هريرة - رضي الله عنه - يتوضأ على المسجد فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها لأني سمعت ¬
ثانيا: الأحاديث التي وردت أن النبي أكل مما مسته النار ثم صلى ولم يتوضأ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "توضئوا مما مست النار" (¬1). 3 - ما ورد عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضئوا مما مست النار" (¬2). ثانيًا: الأحاديث التي وردت أن النبي أكل مما مسته النار ثم صلى ولم يتوضأ: 1 - ما ورد عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ (¬3). 2 - ما ورد عن عمرو بن أمية - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتز من كتف شاة فدعى إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ (¬4). 3 - ما ورد عن ميمونة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ (¬5). 4 - ما ورد عن بُشَيْر بن يسار مولى بني حارثة أن سُويد بن النعمان ¬
- رضي الله عنه - أخبره أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي أدنى خيبر - فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فُثرِّيَ، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ (¬1). 5 - ما ورد عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه فدخل على امرأة من الأنصار فذبحت له شاة فأكل، وأتته بقِناع من رطب فأكل منه، ثم توضأ للظهر وصلى ثم انصرف، فأتته بعُلالة من عُلالة الشاة، فأكل ثم صلى العصر ولم يتوضأ (¬2). 6 - ما ورد عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال: أشهد لقد كنت أشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطن الشاة ثم صلى ولم يتوضأ (¬3). ¬
ولذلك وقع الخلاف بين أهل العلم في توجيه هذه الأحاديث، فالبعض رأى النسخ، والبعض رأى الجمع بينها. والذين رأوا النسخ وهم الأكثر اختلفوا أيهما نسخ الآخر؟ هل الأمر بالوضوء هو الناسخ لترك الوضوء، أم ترك الوضوء هو الناسخ للأمر بالوضوء؟ وأهل العلم في ذلك كله على ثلاثة مذاهب: الأول: من قال بأن ترك الوضوء مما مست النار هو الناسخ للأمر بالوضوء، وهو قول جمهور أهل العلم وأكثر، وهو محكى عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي طلحة وأبي الدرداء وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي أمامة - رضي الله عنهم - أجمعين، وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه (¬1). واستدلو بـ: - الأحاديث الواردة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل مما مسته النار ولم يتوضأ، لا سيما أن من رواة هذه الأحاديث ابن عباس - رضي الله عنها - ومعلوم أن سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متأخرًا، كما ذكر ذلك ابن عبد البر (¬2). ¬
- ما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنها - قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار" (¬1). - ما ورد عن أبي سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنها - أنه سأله عن الوضوء مما مسست النار فقال: لا، قد كنا زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلًا، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ (¬2). - حمل حديث الأمر بالوضوء على أن المقصود به المضمضة وغسل اليدين تقديمًا للحقيقة اللغوية وأن الوضوء هنا مشتق من الوضاءة وهي النظافة (¬3). واستدل ابن قدامة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الوضوء من لحم الغنم قال: "لا تتوضأ" (¬4). وهو ما ورد عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ"، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: " نعم، فتوضأ من لحوم الإبل"، قال: ¬
أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا" (¬1). الثاني: أنه يجب الوضوء مما مست النار حكاه ابن المنذر عن جماعة من الصحابة: منهم ابن عمر وأبو طلحة وأبو موسى وزيد بن ثابت وأبو هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وأبي قلابة (¬2) وأبي مجلز (¬3) (¬4). واستدلوا بـ: الأحاديث الواردة في الأمر بالوضوء مما مست النار، وقالوا بأنها ناسخة لأحاديث إباحة ترك الوضوء، وقالوا: إن الإباحة سابقة. وردوا على الاستدلال بحديث جابر - رضي الله عنه -: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار" بأن المراد بالأمر هنا الشأن ¬
والقصة، لا مقابل النهي، وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة (¬1). ولكن أجاب أصحاب القول الأول بأمور منها: ما قاله النووي: "وأما دعواهم نسخ أحاديث ترك الوضوء فهي دعوى بلا دليل فلا تقبل" (¬2) اهـ. وبأن تأويلهم حديث جابر - رضي الله عنه - خلاف الظاهر وهو تأويل بغير دليل فلا يقبل، وهذه الرواية المذكورة لا تخالف كونه آخر الأمرين، فلعل هذه القضية هي آخر الأمرين، واستمر العمل بعدها على ترك الوضوء، ويجوز أيضًا أن يكون ترك الوضوء قبلها، فإنه ليس فيها أن الوضوء كان لسبب الأكل (¬3). الثالث: استحباب الوضوء وهو قول من جمع بين الأحاديث والذي ذهب لذلك هو الإمام الخطابي (¬4) (¬5). ¬
القول المختار من ذلك: إعمال ما قرره الأصوليون من أن الجمع مقدم على الترجيح يقضي بأن أولى هذه الأقوال بالترجيح هو الاستحباب، وهو ما ذهب إليه الخطابي. ولكن: لم أجد أحدًا - في حدود بحثي - غير الإمام الخطابي - سواء من الصحابة أو غيرهم - قال بهذا القول، والصحابة - رضي الله عنه - لا سيما الخلفاء الراشدون - وهم أعلم الخلق بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الذين رُوي عنهم ترك الوضوء، فعن سليم بن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا، ورأيت عمار بن ياسر يشرب من لبن نعجة فمضمض، ثم قام إلى الصلاة، وسمعت عمار بن ياسر - رضي الله عنه - يقول: جف القلم بما هو كائن (¬1). وهم كذلك الذين رووا أن آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار كما مر في حديث جابر - رضي الله عنه -. وعلى ذلك فالقول الراجح هو قول من قال بأن أحاديث الترك ناسخة ¬
مثال تعارض الترك مع النهي: حكم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة
لأحاديث الأمر (¬1)، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البر (¬2) والنووي (¬3) وابن قدامة (¬4) وغيرهم (¬5)، ولو قال بقول الخطابي أحد من الصحابة لكان هو أولى الأقوال بالاختيار، فهو أقرب الأقوال للقواعد، لكن لم يقل به أحد، فصار الترجيح بين قولين: بين تقديم الأمر بالوضوء، وبين حمله على النسخ بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وأكثر أهل العلم على نسخ ذلك الأمر، والأدلة كلها ترجع إلى ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعل موجب ذلك الأمر. مثال تعارض الترك مع النهي: حكم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة: القول إذا كان نهيًا فإن صورة تعارضه مع الترك تكون بأن ينهى عن الشيء ثم يفعله، فهو بذلك ترك موجب ما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
هذا وجه تعارض النهي مع الترك ولا يكون إلا من هذا الباب. ومن الأمثلة التي تتضح فيها تلك الصورة: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة ثم فعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك. وفي المسألة التالية بيان الحديثين المتعارضين، والمسالك التي سلكها العلماء للجمع بينهما. ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" (¬1). ففي هذا الحديث نهي بالقول عن استقبال القبلة أو استدبارها. وروى الشيخان من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا لحاجته مستقبلَ الشام مستدبرَ القبلة" (¬2). ففي هذا الحديث ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعل بموجب ما قاله، فمن العلماء من ذهب إلى أن الحديثين متعارضان من كل وجه، فطلب الترجيح. ومنهم من رأى أن الجمع ممكن. أما الذين ذهبوا إلى الترجيح فلهم في الترجيح مسلكان: ¬
الأول: أن القول مقدم على الفعل، إذ يحتمل أن يكون ذلك الفعل لضرورة، أو خاصًّا بهذه الحالة فقط، أو خاصًّا به، وهذه كلها احتمالات فلا تعارض القول الثابت عليه، فيحرم استقبال القبلة أو استدبارها للنهي أما الفعل فلا عموم له عندهم. وممن ذهب إلى ذلك: من الشافعية: أبو ثور (¬1)، ومن المالكية: ابن العربي المالكي، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به من الصحابة: أبو أيوب - رضي الله عنه -، وهو مذهب: مجاهد والنخعي والثوري (¬2). الثاني: أن الفعل مقدم على القول؛ لأنه ناسخ له؛ لأنه بعده، ويرجحه أن الدليلين إذا تعارضا سقطا ورجعنا إلى الأصل، وهو الإباحة وهو ما يدل عليه الفعل. ¬
وعليه فيجوز استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة. وهذا قول عائشة وعروة - رضي الله عنهما - وربيعة (¬1) وداود الظاهري. ويؤيده ما ورد من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يُقبض بعام يستقبلها" (¬2). أما الذين صاروا إلى الجمع بين الدليلين: فلهم في ذلك ثلاثة مسالك: الأول: أن القول لا يعارض الفعل، فالقول خاص بنا، والفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم -. فيحمل الفعل على الخصوصية، وهذا ما ذهب إليه الشوكاني، وقد حكاه ابن حجر في الفتح دون نسبةٍ لأحد، وردَّه (¬3). ¬
وعليه فيكون حكم استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة هو التحريم. وحديث جابر - رضي الله عنه - لا يشكل على هذا القول إذ يخصص الفعل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وممن سبق الشوكاني إلى القول بالخصوصية: الكرخي حكاه عنه الرازي في (المحصول) (¬1). الثاني: أن القول هنا نهي، فهو دليل على التحريم، لكن صُرِف هذا التحريم إلى الكراهة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه إحدى الروايتين عن أبي حنيفة (¬2) وأحمد، ومروي عن أبي أيوب الأنصاري، وأبي ثور (¬3). وحديث جابر - السابق ذكره - لا يشكل على هذا القول أيضًا، فقد يحمل على جواز ذلك مع الكراهة. الثالث: أن يحمل القول على حالة الصحراء والفعل على حالة البنيان، فيكون متعلق القول غير متعلق الفعل. ¬
ومما يؤيد ذلك القول أن الصحابي الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فهم ذلك الفهم، وذلك فيما رواه مروان الأصغر قال: "رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس" (¬1). وإلى هذا القول ذهب مالك (¬2) والشافعي (¬3) وهو قول الجمهور، وقال ابن حجر: "وهذا أعدل الأقوال لإعمال جميع الأدلة" (¬4). وبناء على هذا العرض السابق فإن استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة مختلف فيه على أربعة أقوال: 1 - الحرمة مطلقًا. 2 - الكراهة مطلقًا. 3 - الحرمة في الصحراء دون البنيان. 4 - الإباحة مطلقًا. الرأي المختار: من خلال العرض السابق يمكن أن يجمل القول فيما يلي: ¬
1 - أبعد الأقوال عن الاختيار هو القول بالإباحة مطلقًا، أو المنع مطلقًا، وذلك لأنه فيه ترجيح بين الأدلة، ومعلوم أن الجمع أولى من الترجيح، ولا يصار إليه إلا عند التعارض وعدم إمكان الجمع، والجمع ممكن كما سيأتي. 2 - مما يرد القول بالخصوصية أن الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التشريع، وهنا نقلان من صحابيين في موضعين مختلفين ينقلان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يحمل هذان النقلان على الخصوصية، ولو قيل: إن رؤية ابن عمر - رضي الله عنهما - للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت اتفاقًا لم يقصدها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تحمل على التشريع، أليس سكوته عن رؤياه له وعلمه بأنه سيفعل مثلما فعل؛ إقرارًا منه - صلى الله عليه وسلم - له على أن ذلك الفعل ليس فيه خصوصية؟! 3 - يبقى إذن أحد أمرين: إما القول بالكراهة أو بالتفصيل بين الصحاري والبنيان. ولكل من القولين حظ من النظر. والذي أظنه أقرب للقواعد هو القول بالكراهة دون التفصيل، وذلك لأمور: أولًا: النهي ظاهرٌ في التحريم، ولكنه يحمل على الكراهة بالقرينة فليس حمله على الكراهة عدم إعمال له. ففي القول بهذا الرأي إعمال للدليلين معًا من كل وجه، أما في القول بالتفصيل بين الصحاري والبنيان ففيه إعمال لكل دليل في محل غير الدليل الآخر. ثانيًا: أن حديث جابر - رضي الله عنه - يعكر على القول بالتفصيل، وذلك لأنه
المطلب الثاني: تعارض الترك مع الفعل
لم يرد فيه أن ذلك كان في بنيان أم لا، بل نقل النهي عامًّا والفعل عامًّا. ولو لم يصح حديث جابر - رضي الله عنه - لكان القول بالتفصيل متساويًا مع القول بالكراهة. ثالثًا: في القول بالكراهة إعمال لحديث جابر - رضي الله عنه - وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، فلا إشكال في حمل حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - على القول بالكراهة، ولا يشكل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المكروه لأن الكراهة تزول مع الحاجة، والحاجة في البنيان يغلب على الظن تحققها. وعلى ذلك فالمختار في هذه الدراسة هو القول بالكراهة دون تفصيل بين الصحاري والبنيان. ولقائل أن يقول: إن الواقع العملي لا يحصل فيه كبير فرق بين التفصيل أو الكراهة وهذا متحقق فعلًا ولكن الغرض من الدراسة بحث المستند الأصولي للأقوال فقط. المطلب الثاني: تعارض الترك مع الفعل: صورة تعارض الفعل مع الترك هي أن يُنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلًا ما في أحد المواقف، ثم يحصل ذلك الموقف مرة أخرى، فينتظر الصحابة - رضي الله عنهم - الفعل السابق فلا يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتركه، أو العكس، وهذا يقع تحت باب تعارض الأفعال؛ وذلك لأن الترك فعل، فينبغي أن تبحث المسألة تحت هذا الباب، وفيما يلي حكم تعارض الأفعال عند الأصوليين (¬1): ¬
الأفعال - عند الأصوليين - لا تتعارض، إلا إذا دل الدليل على وجوب التكرار، أو اعتبار العموم، فالأصل في الأفعال أنها لا عموم لها (¬1)، إذ ليس للأفعال صيغة، وكذلك لا تدل بمجردها على التكرار، فلا ينتظم الفعل الأول جميع الأوقات المستقبلة إلا إذا دل الدليل على ذلك، وعدم التعارض هنا معناه: حمل كل فعل على حالة غير التي يحمل عليها الفعل الآخر. أما إذا تعذر الجمع بين الفعلين بوجه من الوجوه، وذلك بأن يقع التعارض من كل وجه: ففي ذلك ثلاثة مذاهب: الأول: التخيير بين الفعلين. الثاني: جعل المتأخر ناسخًا للمتقدم. الثالث: طلب الترجيح من الخارج. هذا حاصل ما قرره الأصوليون في هذا الباب، وهو شامل لتعارض الفعل مع الترك، غير أنه ينبغي هنا الإشارة إلى أن بعضًا من الأصوليين ذكر ¬
مثال للتعارض بين الفعل والترك
أن محل الخلاف في التعارض مبني على القول بأن الفعل يدل على الوجوب، أما على القول بأنه يدل على الاستحباب فلا وجه لوقوع التعارض حينئذ، وإذا كان الترك لن يدل على الوجوب، فلن يقع إذن التعارض بينه وبين الفعل من كل وجه، فيصح هنا القول بعدم إمكان وقوع التعارض بين الفعل والترك، إذ يحمل الفعل على حالة والترك على حالة أخرى، أما إذا دل الدليل على وجوب الفعل أو وجوب التكرار: فالذي أراه هنا أنه يكون كالقول: أي يكون الترك صارفًا للفعل عن الوجوب. مثال للتعارض بين الفعل والترك: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بالنجم فسجد فيها، وورد أنه لم يسجد، وفيما يلي بيان ذلك: فمما ورد فيه أنه سجد: - ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعًا لمكان جبهته (¬1). - ما ورد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ "والنجم" فسجد فيها وسجد من كان معه (¬2). ¬
ومما ورد فيه أنه لم يسجد
- ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد "بالنجم" وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس (¬1). ومما ورد فيه أنه لم يسجد: - ما ورد عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فزعم أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - "والنجم" فلم يسجد فيها (¬2). قال النووي: "احتج به مالك (¬3) رحمه الله تعالى ومن وافقه في أنه لا سجود في المفصل وأن سجدة "النجم" و "إذا السماء انشقت" و "اقرأ باسم ربك" منسوخات بهذا الحديث ..... ثم قال: وهذا مذهب ضعيف، فقد ثبت حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المذكور بعده في مسلم قال: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "إذا السماء انشقت" و "اقرأ باسم ربك"، وقد أجمع العلماء على أن إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - كان سنة سبع من الهجرة، فدل على السجود في المفصل بعد الهجرة. ثم قال: وأما حديث زيد - رضي الله عنه - فمحمول على بيان جواز ترك السجود، وأنه سنة ليس بواجب ويحتاج إلى هذا التأويل للجمع بينه وبين حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - " (¬4). ¬
قال ابن حجر: "ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقًا؛ لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت كان وقت كراهة، أو لكون القارئ كان لم يسجد ... ، أو ترك حينئذ لبيان الجواز وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي لأنه لو كان واجبًا لأمره بالسجود، ولو بعد ذلك" (¬1). قال الخطيب البغدادي (¬2): "ليس في هذين الحديثين تضاد، ولا أحدهما ناسخ للآخر، وفيهما دليل على أن سجود التلاوة ليس بحتم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في النجم تارة، وترك السجود فيها تارة أخرى، والمستحب أن لا يترك، وهذا اختلاف من جهة المباح" (¬3). * * * ¬
الفصل الثالث ما يلحق بالترك الوجودي
الفصل الثالث ما يلحق بالترك الوجودي وفيه مبحثان: المبحث الأول: ترك الإنكار (الإقرار). المبحث الثاني: ترك ما هم به.
المبحث الأول: ترك الإنكار (الإقرار)
المبحث الأول: ترك الإنكار (الإقرار) توطئة يذكر الأصوليون في تعريف السنة أنها قول وفعل وإقرار أو تقرير، وقد تناولوا الإقرار بالدراسة التفصيلية، وسيتضح من خلال المباحث التالية أن الإقرار ما هو إلا نوع من أنواع الترك الوجودي إذ إنه لا يثبت إلا بالنقل - شأن أنواع الترك الوجودي كلها - كما أن الأصوليين اتفقوا على أنه كف - كما سيأتي - وهو من أنواع الترك كما سبق. لأجل ذلك سأتناول في الصفحات التالية وجه دخول الإقرار في ماهية الترك وما هي دلالته الأصولية، على أنني لن أتناول جميع مسائله وجزئياته بالدراسة - إذ ذلك يحتاج إلى دراسة كاملة خاصة به وذلك لكثرتها وتشعبها - بل سأكتفي بما يكون وثيق الصلة بمبحث الترك (¬1). ¬
المطلب الأول: التعريف بالإقرار
المطلب الأول: التعريف بالإقرار: المسألة الأولى: الإقرار في اللغة (¬1): الإقرار مصدر "أَقَر"، والتقرير مصدر "قرر". وهما من مادة "قرر" وهي تأتي في اللغة على معنيين: الأول: ترك الشيء على ما هو عليه. فمنه: أقررت العامل على عمله، والطير في وكره. ومنه قول عائشة - رضي الله عنها -: "فرض الله عز وجل الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر" (¬2). ¬
المسألة الثانية: الإقرار عند الأصوليين
الثاني: الإذعان والاعتراف. يقال أقر بالحق: أي اعترف به. المسألة الثانية: الإقرار عند الأصوليين: الإقرار أحد أقسام السنة - كما سبق - ومن ثم كثرت تعاريف الإقرار وتنوعت واختلفت عن بعضها، وسوف أورد بعضًا من تلك التعريفات، ثم أبين بعضًا مما تدل عليه تلك التعريفات، وما هو التعريف المختار المرضي من تلك التعريفات: عرف ابن حزم الإقرار بأنه: "الشيء يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يبلغه أو يسمعه فلا ينكره ولا يأمر به" (¬1). وعرفه الجصاص بأنه "تركه - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - النكير على فاعل يراه يفعل فعلًا على وجهٍ، فيكون ترك النكير عليه بمنزلة القول منه" (¬2). وعرفه السمعاني بأنه "سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشيء يفعل بحضرته" (¬3). وعرفه يحيى بن موسى الرهوني بأنه "أن يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعلٍ صدر عن المكلف، ولم ينكره عليه، مع القدرة على الإنكار" (¬4). ¬
وعرفه الشيرازي بأنه "أن يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فلا ينكره، أو يرى فعلًا فلا ينكره، مع عدم الموانع" (¬1). وعرفه الزركشي بأنه "أن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار قول أو فعل قيل أو فعل بين يديه أو في عصره وعلم به" (¬2)، وفي تشنيف المسامع عرفه بأنه "كف عن الإنكار" (¬3)، وكذلك عرفه أبو زرعة العراقي (¬4) وجمال الدين الإسنوي (¬5). وعرفه ابن النجار الفتوحي (¬6) بـ "أن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار فعلٍ ¬
أو قولٍ، فُعل أو قيل بحضرته أو في زمنه من غير كافر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عالمًا به" (¬1). وعرفه الطوفي بأنه "تقرير من يسمعه يقول شيئًا أو يراه يفعله على قوله أو فعله بأن لا ينكره" (¬2). وعرفه المرداوي بأنه "سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار فعل أو قول بحضرته أو زمنه عالمًا به" (¬3). وعرفه أبو شامة بأنه "أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا صادرًا من مسلم مكلف، أو يسمع منه قولًا أو يبلغه ذلك ولم ينكره عليه مع فهمه له" (¬4). بالنظر في التعريفات السابقة يتبين ما يلي: أولًا: بالنظر إلى ماهية الترك يلاحَظ أن التعريفات السابقة بين أحد أمرين: إما تعريف الإقرار بأنه السكوت عن الإنكار أو تعريف الإقرار بأنه الكف عن الإنكار، فالأول: يخص الإقرار بترك الإنكار بالقول، والثاني: يشمل ترك الإنكار بالقول أو بالفعل. وإذا كان ترك القول داخل في ماهية الترك - في هذه الدراسة - فلا إشكال على أي من الأمرين من القول بأن الإقرار نوع من أنواع الترك. ¬
ثانيًا: بالنظر إلى ماهية متروك الاعتراض عليه فالتعريفات بين أحد أمرين: الأول: النص على أنه إما قول أو فعل. الثاني: الإطلاق وعدم النص على الأقوال أو الأفعال. فليس هناك إذن من يخص الإقرار بترك الإنكار على القول دون الفعل أو الفعل دون القول. فمثال الإقرار على قول: ما ورد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إنا ليلة الجمعة في المسجد؛ إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه وإن سكت: سكت على غيظ، والله لأسألن عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان من الغد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه وإن سكت: سكت على غيظ، فقال: "اللهم افتح"، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] (¬1). قال أبو إسحاق الشيرازي: "فلما لم ينكر عليه دل ذلك على أنه إذا قَتل قُتل، وإذا قذف جلد" (¬2). وأيضًا: ما ورد عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
فجاء رجل من اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد، وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين منهما: طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أضراسه أو نواجذه (¬1). ومثال الإقرار على فعل: ما ورد عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أكنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم كثيرًا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم (¬2). وأيضًا: ما ورد عن أم سليم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها فيقيل عندها فتبسط له نطعًا (¬3) فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه ¬
فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أم سليم ما هذا؟ "، قالت: عَرَقك أَدُوفُ (¬1) به طيبي (¬2). ثالثًا: بالنظر إلى زمان المتروك الاعتراض عليه يلاحَظ أن التعريفات كلها تنحصر في ثلاثة اتجاهات: الأول: يخص ذلك بما كان في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط. الثاني: يخص ذلك بما كان في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيبته مع أن يبلغنا أنه علمه. الثالث: يعمم ذلك في كل ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وأمكن أن يعلمه. وهذا يدل على أن الإقرار ليس على رتبة واحدة في الدلالة، وتفصيل ذلك في مراتب الإقرار. رابعًا: التعريف المختار: التعريف يقصد به بيان الماهية، ولذا فأقرب تلك التعريفات هو أن الإقرار هو: "الكف عن الإنكار"، وهذا الكف بعمومه هنا في التعريف يشمل الكف عن الإنكار على القول، أو الفعل، ويشمل ما في حضرته - صلى الله عليه وسلم -، وما في غيبته - صلى الله عليه وسلم - وعلم به، وما يلحق بذلك مما يحصل في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وينزل منزلة ما نقل أنه قد علم به. ¬
المطلب الثاني: حجية الإقرار
وبذلك فإن الإقرار ليس على مرتبة واحدة، بل هو على مراتب: أعلاها أن يكون الفعل في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويليها: أن يكون الفعل في غيبته وينقل لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم به، ويليها: أن يكون الفعل في غيبته - صلى الله عليه وسلم - لكن لا ينقل إلينا أنه علمه، ولكل مرتبة من تلك المراتب حكمها، وسوف يتبين هذا من خلال ما سيأتي من مطالب. المطلب الثاني: حجية الإقرار: الإقرار - من حيث الجملة - حجة شرعية، فهو يدل على إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفعل للشخص الذي أقره عليه، وعلى هذا اتفاق الأصوليين، وقد نقل هذا الاتفاق أكثر من واحد، فمن ذلك قول الجويني: "اتفق الأصوليون على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرر إنسانًا على فعل فتقريره إياه يدل على أنه غير محظور" (¬1)، وكذلك أيضًا قال ابن حجر: "اتفقوا على أن تقريره - صلى الله عليه وسلم - لما يفعل بحضرته أو يقال ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز" (¬2)، وكذلك ما قاله القاضي عياض (¬3): "من جوز الصغائر، ومن نفاها عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مجمعون أنه لا يقر ¬
على منكر من قول أو فعل، وأنه متى رأى شيئًا فسكت عنه دل على جوازه" (¬1)، ونقل الشوكاني عن القشيري (¬2) الإجماع على أن التقرير لا خلاف في حجيته (¬3). ومحل هذا الاتفاق في حق الشخص الذي أقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن: هل يتعدى ذلك الحكم إلى غير الشخص المقرَّ؟ أم تنحصر دلالة إقراره - صلى الله عليه وسلم - على الجواز في حق مرتكب الفعل فقط؟ جمهور الأصوليين على أن الحكم يتعدى إلى سائر المكلفين (¬4)، خلافًا لما ذهب إليه ابن الباقلاني (¬5) من قصر الحكم على الشخص المقرَّ فقط. ¬
واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأدلة كثيرة منها: أن الأمة في أحكام الشرع سواء، فالأصل أن ما أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل مباح لكل الأمة، وما حرمه على أحد فهو محرم على عموم الأمة، إلا أن يأتي الدليل على خلاف ذلك، فيكون مخصصًا لذلك الأصل، بل نقل العلائي (¬1) إجماع الأصوليين على أن الحظر إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكل (¬2)، وهذا دليل على أن الأمة كلها في الأحكام سواء، ويستدل الأصوليون على ذلك بما يروونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حكمي على واحد حكمي على الجماعة" (¬3) لكن هذا الحديث لا يصح، ويغني عنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" (¬4). ¬
المطلب الثالث: مراتب الإقرار
ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أن هذا هو الموافق لفهم الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ورد أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا" (¬1). المطلب الثالث: مراتب الإقرار: المرتبة الأولى: أن يفعل الفعل في حضرته - صلى الله عليه وسلم - أو في غيبته وينقل إلينا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به: ما فعل في حضرته - صلى الله عليه وسلم - اتفق الأصوليون على أنه صورة الإقرار، والأصل فيه، والسبب في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر أحدًا على منكر، فمجرد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به وسكوته كافٍ في الحجية، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختص بكونه لا يسقط عنه الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر بحال من الأحوال، فلا يوجد عجز في حقه - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وإلى عدم اشتراط القدرة على الإنكار في حقه - صلى الله عليه وسلم - ذهب الزركشي (¬2) والمرداوي (¬3) ¬
وابن النجار (¬1)، وذهب جماعة منهم إلى اشتراط القدرة، وفسرت من قبل القائلين به بتفسيرين: الأول: أن يكون عاجزًا عن الإنكار، والثاني: أن يكون مشتغلًا بأمر آخر يمنعه من الإقرار. أما التفسير الأول فترده الآية، ومذهب الفقهاء السابق ذكره، أما التفسير الثاني: فلا يصح أيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زال هذا المانع - كأن يكون في صلاة ونحوها - كان واجبًا أن يبين ما الحكم في ذلك الفعل، إذ إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة. أما ما فعل في غيبته - صلى الله عليه وسلم - ونقل إلينا أنه علم به، فلا يظهر فارق بينه وبين ما كان في حضرته - صلى الله عليه وسلم -، فحيث نقل لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم زال الفارق بين الصورتين: إذ الإقرار في الحقيقة كف عن الإنكار، ولا يحصل ذلك الكف إن لم يحصل العلم (¬2)، وقد نص على اشتراط علم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكثير من الأصوليين كابن حزم (¬3)، والشيرازي (¬4)، والسمعاني (¬5)، والشاطبي (¬6)، وغيرهم. ¬
المرتبة الثانية: أن يفعل الفعل في غيبته ولا يبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه
* فمما وردت به السنة من ذلك: ما ورد من حديث أم عطية - رضي الله عنه - قالت: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فاصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى" (¬1). وكذلك حديث ربيع بنت معوذ بن عفراء - رضي الله عنه - قالت: "كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة" (¬2). وأيضًا: ما ورد عن عائشة بنت طلحة - صلى الله عليه وسلم - أن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنه - حدثتها قالت: "كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا" (¬3). المرتبة الثانية: أن يفعل الفعل في غيبته ولا يبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه: إذا لم ينقل إلينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك الفعل الذي فعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - فهل تقوم القرائن مقام النقل، أم لابد من النقل؟ ¬
ومن هذه القرائن
الذي يظهر من صنيع الأصوليين اعتبار القرائن فيما كان هذا حاله (¬1): فإذا دلت القرائن على أن مثل ذلك لا يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حجة، وإلا فليس بحجة، قال الأصفهاني: "ليس في هذه الدرجة - أي كنا نفعل في عهده - ما يدل على إضافة الحكم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الظاهر بحسب القرينة قصد المخبر بذلك أن يُعلِم بتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد العلم بفعلهم وعدم إنكاره" (¬2). ومن هذه القرائن: أن يسوقه الصحابي في موضع الحجة، أو يتكرر فيبعد أن لا يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - به، أو يكون مما لا يخفى مثله على النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن يكون فعلًا لأحد زوجاته - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون فعله مستفاضًا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، أو غير ذلك مما يصلح أن يكون قرينة. ومن أمثلة ذلك: - ما ورد عن أبي المثنى - رضي الله عنه - قال: سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن الأذان فقال: "كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة، إلا أنك إذا قلت: قد قامت الصلاة قالها مرتين، فإذا سمعنا قد قامت الصلاة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة" (¬3). ¬
فليس في الحديث أن ذلك كان في حضور النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن مثل هذا يتكرر حدوثه خمس مرات في اليوم والليلة فيستحيل ألا يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد لذلك أن ابن عمر - رضي الله عنهما - ساقه في موضع الحجة. وأيضًا: ما ورد من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: "كان معاذ يصلي العشاء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة" (¬1). قال أبو إسحاق الشيرازي: "إنا نعلم من طريق العادة أن مثل هذا لا يجوز أن يخفى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريقين: أحدهما: أن الصلاة تتكرر ويتظاهر بها، فلا يخفى ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع طول المدة وصغر المدينة. الثاني: أنه إقدام على إحداث شرع، فلا يقدم عليه معاذ - رضي الله عنه - من غير إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يستأذنونه في مثل هذه الحوادث" (¬2). - ما ورد عن أم سلمة - رضي الله عنهما - قالت: "كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يومًا، فكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف" (¬3). ¬
- ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان الصداق إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر أواق" (¬1). - ما ورد من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام" (¬2). - ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت فتًى شابًا عزبًا، وكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك" (¬3). - ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "كنا ننام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ونحن شباب" (¬4). ¬
- ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب" (¬1). - ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "إن كان ليكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان" (¬2). - ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من الدم قالت بريقها فقصعته بظفرها" (¬3). - ما ورد عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - قالت: "نحرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسًا فأكلناه" (¬4). - ما ورد عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعًا (¬5) " (¬6). - ما ورد عن معاذة أن امرأة سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت: "تختضب الحائض؟ ¬
المرتبة الثالثة: قول الصحابي: "كنا نفعل" دون إضافة لعهده - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: قد كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نختضب فلم يكن ينهانا عنه" (¬1). المرتبة الثالثة: قول الصحابي: "كنا نفعل" دون إضافة لعهده - صلى الله عليه وسلم -: وهذه دون المرتبة التي قبلها، إذ الفرق بينهما التصريح بالإضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس في هذه الرتبة تصريح بالإضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الرتبة اختلف فيها الأصوليون على قولين: الأول: أنها حجة: وهو قول جماعة من الأصوليين منهم: القاضي أبو يعلى (¬2) (¬3)، وأبو الخطاب الكلوذاني (¬4)، والآمدي (¬5)، والسمعاني (¬6)، والرازي (¬7)، ¬
الثاني: أنها ليست بحجة
وابن قدامة (¬1)، والنووي (¬2)، ونقل النووي عن جمهور المحدثين أن ذلك يأخذ حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). واستدلوا على ذلك بأن الصحابي يسوقه في معرض الحجة، وهو لا يحكي إلا الشرع، فلا يكون هناك فارق بين ما أضافه لزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لم يضفه، إذ القرينة في كليهما هي سوق الصحابي له في معرض الحجة. وذهب جماعة من القائلين بأن ذلك حجة إلى أنه من قبيل حكاية الإجماع (¬4)، ويشكل على هذا أن الصحابي لا يقصد به حكاية الإجماع، لكن إذا إذا قيل بعصمة عصر الصحابة من شيوع قول باطل، وهو ما ذهب إليه جماعة من الأصوليين ونصره ابن القيم (¬5) وهو القول الصحيح، فيصح القول بأنه إجماع إذا لم يعارضه ما يدل على اختيار صحابي لغير ذلك القول، فهو إجماع ظني. الثاني: أنها ليست بحجة: وهو قول جماعة منهم: الغزالي (¬6)، والطوفي (¬7)، والشوكاني (¬8). ¬
واستدلوا على ذلك بعدم وجود ما يدل على الحجية في هذه الصورة، فليس ثَمَّ إجماع، ولا يعلم اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يحتمل أن يكون فعل بعضهم بعده - صلى الله عليه وسلم -. والراجح الذي يميل إليه الباحث أنه حجة ظنية يعمل به حتى يرد ما يخالفه. وذلك لأمرين: * أن الله عز وجل حفظ هذا الدين من شيوع قول باطل دون أن يظهر مخالفه، وهذا الأمر وإن كان في كل عصر إلا أنه في عصر الصحابة أظهر، وهذا هو معنى عصمة الأئمة من الاجتماع على ضلالة، فشيوع فعل بين الصحابة - رضي الله عنهم -، ونقل الصحابي له دون منكر يدل على أن هذا القول حق، وإن لم يكن مسوق في الأصل لبيان الإجماع. * أنه ليس كل احتمال يكون مسقطًا للاستدلال، وسوق الصحابي للحديث في معرض الحجة يدل على أن هذا الاحتمال [أي: احتمال أن يكون فعل الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -] احتمال نادر، وعلى فرض صحته فلا إشكال أيضًا، إذ هو بذلك يحكي فعلًا أطبق الصحابة على العمل به، فرجع إلى المعنى المذكور أولًا أن ذلك في حكم الإجماع، غير أنه إجماع ظني يعمل به إلى حين ورود ما يخالفه.
المطلب الرابع: دلالة الإقرار
ومن أمثلة هذا النوع: ما ورد من حديث أم عطية - رضي الله عنها - قالت: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا" (¬1). فرغم اختلاف الفقهاء في حكم الصفرة والكدرة، إلا أنهم جميعًا متفقون على حجية هذا القول (¬2). المطلب الرابع: دلالة الإقرار: إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على عدم الحظر، إذ لو كان محظورًا لأنكره - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقل الجويني الاتفاق على هذا القدر، ونص عبارته: "اتفق الأصوليون على ¬
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرر إنسانًا على فعل، فتقريره إياه يدل على أنه غير محظور، ولو كان محظورًا لأنكره، ثم لا يمكن بعد ذلك قطع القول بكونه مباحًا أو واجبًا أو مندوبًا، بل تجتمع فيه هذه الاحتمالات، ولا يتبين من التقرير المطلق إلا نفي الحظر" (¬1)، وقد نص الشاطبي (¬2) على أن دلالة الإقرار هي مجرد رفع الحرج، ونص جماعة منهم على أن دلالة الإقرار هي الإباحة: كابن حزم (¬3) والغزالي (¬4) والزركشي (¬5) والمرداوي (¬6)، وغيرهم. وفسر الجصاص نفي الحرج بأنه يدل على جواز المُقَرّ عليه على الوجه الذي وقع عليه الإقرار؛ فإن كان المقر عليه فعلًا وقع على صفة الوجوب دل الإقرار على كونه واجبًا، وإن وقع الفعل على وجه الندب فأُقِر على هذه الصفة كان دليلًا على أنه مندوب (¬7). وإنه إذا لوحظ أن الفعل الذي وقع الإقرار عليه قد يوقعه صاحبه على غير صفة الإباحة، ثم لوحظ أن ترك الإنكار لا يدل إلا على مجرد الإذن في الفعل، كان ما ذهب إليه الجصاص هو أولى الأقوال بالاختيار، على أن الذي ¬
هل رفع الحرج عن الأقوال التي أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على صحتها؟
يظهر لي أنه لا خلاف بين الأصوليين في ما ذكره الجصاص، وأن ما ذكره العلماء من دلالة الإقرار على الإباحة لا يخالف القول بدلالته على نفي الحرج إذ كثيًرا ما يستعمل العلماء الإباحة بهذا المعنى (¬1)، وأيضًا لو حُمل قولهم على إباحة الفعل على الصورة التي وقع بها - وهو أمر لابد منه - كان لا خلاف بينه وبين القول برفع الحرج. هل رفع الحرج عن الأقوال التي أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على صحتها؟ قسم الأصوليون الأقوال التي أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين: الأول: أن تكون تلك الأقوال في أمور الدنيا، أو إخبارًا عن أمر يقع، فلا دليل في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لإنكار هذا القول على صحته (¬2). والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقض له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار" (¬3). الثاني: أن تكون تلك الأقوال في بيان أحكام شرعية، فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
ومن الأمثلة على ذلك
لهذه الأقوال دليل على صحتها، وهو قول الشيرازي (¬1) وأبي الحسين البصري (¬2) وابن النجار الفتوحي (¬3) وغيرهم. ومن الأمثلة على ذلك: ما ورد من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إنا ليلة الجمعة في المسجد؛ إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه وإن سكت: سكَت على غيظ، والله لأسألن عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان من الغد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت: سكت على غيظ، فقال: "اللهم افتح"، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] (¬4). قال أبو إسحاق الشيرازي: "فلما لم ينكر عليه دل ذلك على أنه إذا قَتل قُتل، وإذا قذف جلد" (¬5). * * * ¬
المبحث الثاني: ترك ما هم به
المبحث الثاني: ترك ما همَّ به ذكر الزركشي ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمًا من أقسام الأفعال (¬1) وذكر الصنعاني أن الزركشي قد تُعقّب في عده ما همَّ به في أقسام السنة بأن الهمَّ أمرٌ خفي لابد أن يقترن بقول أو فعل فيعود إليهما (¬2). وأما الشوكاني فبعد أن نقل ما ذكره الزركشي في البحر المحيط قال: "والحق: أنه ليس من أقسام السنة، لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تمييز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه، وقد يكون إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بما همَّ به للزجر، كما صح عنه أنه قال: "لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم" (¬3). وقد ذكر الزركشي أن مثال ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه، قال الشافعي: "فيستحب الإتيان بما همَّ به الرسول - صلى الله عليه وسلم -". أما الشوكاني فلم يذكر هذا المثال، بل ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ بمصالحة ¬
الأحزاب على ثلث ثمار المدينة ثم قال: فقال الشافعي ومن تابعه: إنه يستحب الإتيان بما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فرفْض الشوكاني لاعتبار أن ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقسام السنة ما هو إلا نتيجة فهمٍ خاطئ لما ذكره الزركشي، والذي يظهر في ذلك أن ما نقله الزركشي عن الشافعي إنما هو خاص بالمثال الذي ذكره، ووصفه الأصولي أن ما همَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله ثم منعه منه مانع، وزال هذا المانع في حقنا فيستحب لنا فعل ذلك الفعل، وهذا ينطبق على المثال الذي ذكره الشافعي، ولأجل ذلك ذهب إلى أن للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسه بجعل أعلاه أسفله بالحديث السابق. أما المثال الذي مَثَّل به الشوكاني: فلم أجد أحدًا ذكره، والذي ورد من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة، ولم يصح (¬1)، وعلى ¬
فرض صحته فلا يقول قائل أنه يستحب مصالحة العدو به، بل الحق في ذلك أن يقال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ بأمر ولم يفعله لمانع ورد التصريح به، فيدل ذلك على أن ما همَّ به النبي جائز - إذ لا يهمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحرم -، ثم منع مانع من فعله لما همَّ به فيعتبر مثل هذا المانع في حقنا. وسيأتي الكلام على حديث تحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة. ولذا فإن ما يظهر للباحث هنا هو: أن ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان أمرًا يخفى ولا سبيل إلى معرفته إلا بالقول - فلا شك أن له دلالة إذا نقل، وهو بذلك من أقسام الترك الكفي؛ لأنه ترك ما هم به، علمناه من إخباره - صلى الله عليه وسلم -، وهذا النوع من الترك ينقسم إلى قسمين: الأول: ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما همَّ به، وبين سبب ذلك فهذا يدخل في أنواع الترك المسبب. الثاني: ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما همَّ به ولم يبين لنا سبب ذلك. ¬
1 - ترك ما هم به لمانع
والسبب في رفض الشوكاني عده من أقسام السنة أنه ظن أن ذلك يقتضي مشروعية التأسي به في فعل ما همَّ به وتركه، وليس ذلك بصحيح، بل التأسي فيه يكون بالنظر إلى التقسيم السابق: فإن كان ترك فعل ما همَّ به لمانع كان من قبيل الترك المسبب، وقد سبق بيان دلالة ذلك. وإن كان تركًا مطلقًا فالمشروع هو المتابعة في الترك لا الفعل. وفيما يلي بيان أمثلة على كلا النوعين: 1 - ترك ما همَّ به لمانع: وهو بذلك يدخل تحت الترك لأجل مانع يخبر به، وقد سبق عده من أقسام الترك المسبب، ومما يندرج تحته ما ذكر هناك من حديث جدامة بنت وهب الأسدية - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا" (¬1). ومن هذا النوع أيضًا ما ذكره الزركشي، وأصله ما ورد من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - قال: "استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصة سوداء فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" (¬2). ¬
2 - ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما هم به لم يبين مانعا
قال ابن عبد البر: "ففي هذا الحديث دليل على أن الخميصة لو لم تثقل عليه - صلى الله عليه وسلم - لنكسها وجعل أعلاها أسفلها" (¬1). قال الزُّرقاني (¬2): "الجمهور على استحباب التحويل بلا تنكيس، واستحبه الشافعي في الجديد ... ولم يأخذ بذلك الجمهور لانفراد راويها بها في حديث ابن زيد" (¬3). قال ابن حجر: "ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط" (¬4). 2 - ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما همَّ به لم يبين مانعًا: وهو بذلك يدخل تحت الترك المطلق. ومن أمثلة هذا النوع ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة ¬
فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لهذا العشاء" (¬1). فليس في هذا الحديث ذكر للسبب المانع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تحريق بيوتهم بالنار، سوى ما ورد في رواية واحدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار" (¬2). ولكن هذه الرواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - لم ترد إلا من طريق أبي معشر ¬
عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأبو معشر ضعيف (¬1) فالزيادة لم تصح، ولو صحت لكان هذا الحديث من أنواع الترك المسبب، ولم أجد لهذه الرواية غير هذا الإسناد. ورغم اختلاف العلماء في دلالة هذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة من عدمه، فإنه لم يقل أحد قط بجواز أن تحرق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة، بل نقل ابن حجر عن الباجي انعقاد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك (¬2). * * * ¬
الباب الثالث الترك العدمي
الباب الثالث الترك العدمي وفيه فصلان: الفصل الأول: بيان الترك العدمي. الفص الثاني: ما يلحق بالترك العدمي.
الفصل الأول بيان الترك العدمي
الفصل الأول بيان الترك العدمي ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: الأصل في المتروك. المبحث الثاني: البدعة والمصلحة المرسلة وعلاقتهما بالترك. المبحث الثالث: أقسام الترك العدمي ودلالته. المبحث الرابع: تطبيقات على الترك العدمي.
المبحث الأول: الأصل في المتروك
المبحث الأول: الأصل في المتروك سبق في الباب الثاني أن الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في العبادات المنع، وهو ما تأخر تفصيله إلى هذا الموضع؛ وذلك لأن دلالة الترك العدمي متوقفة عليه. المطلب الأول: الأصل في الأشياء: اشتهر بين الدارسين أن الأصل في الأشياء الإباحة (¬1)، وأن هذا هو مذهب الجمهور، ومع شهرة هذه المسألة، إلا أنها لم تعنون هكذا عند أهل ¬
الأصول المتقدمين، بل غالب الأصوليين يترجمون لها بالأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع، ومنهم من يقول: حكم أفعال المكلفين قبل ورود الشرع، والخلاف في ذلك لفظي يؤول إلى أمرٍ واحد؛ إذ المراد من حكم الأعيان حكم تناولها، الذي هو فعل المكلف، وهو ما يطلب حكمه في الحقيقة (¬1). وهذه المسألة - عند النظر فيها بادي الرأي - نجد أن الأصوليين لم يتفقوا فيها على قول واحد، ويمكن القول بأن هذه المسألة كان للأصوليين فيها اتجاهان متباينان أولًا، ثم ظهر اتجاه ثالث: الاتجاه الأول: أن أفعال المكلفين قبل ورود الشرع لله تعالى فيها حكم يمكننا معرفته بالعقل. الاتجاه الثاني: أن أفعال المكلفين قبل ورود الشرع لله تعالى فيها حكم لا يمكننا معرفته. الاتجاه الثالث: أن أفعال المكلفين قبل ورود الشرع لله تعالى فيها حكم عرفناه من الشرع لا من العقل. فالأفعال لابد لله تعالى فيها من حكم: فأما المعتزلة فقالوا: هذا الحكم - سواء كان هذا الحكم هو الحظر أو الإباحة - عرفناه بطريق العقل. ثم ألزموا من قال بأن لها حكمًا بأن يقول: إن طريق معرفته العقل، ¬
لأن الشرع لم يرد بعد، فصار جمهور أهل السنة إلى الوقف، لأنهم إن قالوا بحكم قيل لهم: كيف عرفتموه ولا شرع؟، فلا مناص من إثباته بالعقل، وهو محور رئيس للخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، فليس لهم إلا أن يقولوا بأحد أمرين: الأمر الأول: أن تلك الأفعال لا حكم لها، وهذا القول ذهب إليه جماعة. الأمر الثاني: أن تلك الأفعال لا نعرف حكمها، لأن ذلك قبل الشرع، والأحكام لا يستدل عليها بالعقل، وهو الوقف، وإليه ذهب الأكثرون. ومع ذلك: فالكل إذا تكلم في الفقه: كان واقعه العملي أنه يثبت حكمًا يعرفه - بغض النظر عن الحكيم أهو التحريم أم الإباحة - إذ إنه يجعل الدليل الذي يطلبه ناقلًا عنه، فمن لاحظ ذلك المعنى ممن جاء بعد - من أهل السنة - قال: لها حكم عرفناه لا من طريق العقل، بل من طريق الشرع، وهذا هو الاتجاه الثالث الذي سبقت الإشارة إليه. فحاصل الأقوال إذن ثلالة: القول الأول: أنها على الحظر. والقول الثاني: أنها على الإباحة. وهذان القولان يشملهما أن يكون الحكم عُلم بدلالة العقل أو بدلالة الشرع. فمن قال بأحدهما من المعتزلة: فمورد الحكم العقل.
ومن قال بأحدهما من أهل السنة: فمورد الحكم الشرع (¬1). والقول الثالث: هو الوقف، وقد نسب الغزالي القول به إلى بعض المعتزلة (¬2)، وقال به أهل السنة (¬3). وهم في تفسير الوقف على أقوال (¬4): ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأول: المراد بالوقف: عدم العلم. الثاني: المراد بالوقف: عدم الحكم. الثالث: المراد بالوقف: عدم المؤاخدة: أي الإباحة. فأما من قال بأنها على الحظر: فأغلب المعتزلة على القول به، أما من أهل السنة: فابن حامد (¬1)، وبعض ¬
الشافعية والأبهري (¬1) من المالكية (¬2). وأما من قال بأنها على الإباحة: فبعض المعتزلة فيما نقله الغزالي عنهم، ومن أهل السنة: "أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب (¬3) والحنفية (¬4) والظاهرية وابن سريج وأبو حامد ¬
المروزي (¬1) وغيرهم" (¬2). وأما من قال بأنها على الوقف فكثيرون: فنسب إلى: أبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الصيرفي (¬3) , وأبي علي الطبري (¬4) وأكثر أصحاب الشافعية وسائر المتكلمين (¬5). ¬
وممن وقفت على نصه: ابن حزم (¬1) الظاهري، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬2)، وأبو إسحاق الشيرازي (¬3)، والمظفر السمعاني (¬4)، وأبو الخطاب الكلوذاني (¬5)، والرازي (¬6)، والسهروردي (¬7) (¬8)، وابن رشيق المالكي (¬9)، وابن مفلح (¬10)، والجارابردي (¬11) ¬
والإسنوي (¬1)، وابن النجار الفتوحي (¬2)، وآل تيمية (¬3)، وابن برهان (¬4) والسيوطي (¬5)، والخطيب البغدادي (¬6). الاستدلال على هده المذاهب الثلاثة: الاستدلال على المذاهب الثلاثة يتم على طريقتين: الطريقة الأولى: الاستدلال عليها باعتبار أن الدلالة عرفت بطريق العقل. الطريقة الثانية: الاستدلال عليها باعتبار أن العقل لا مدخل له في تلك المسألة، وإنما البحث فيما يدل عليه السمع من تلك الأقوال. أما الطريقة الأولى: فلا حاجة إلى التطويل فيها، فموردها - التحسين والتقبيح العقلي - مما قُتل بحثًا وبيانًا، ومعلوم مذهب أهل السنة فيه. وأما الطريقة الثانية: فتؤول الأقوال الثلاثة إلى قولين: الحظر والإباحة (¬7). ¬
وفيما يلي بيان الأدلة على كل قول: الاستدلال على الحظر: لم أجد تصريحًا - من القائلين بالحظر - بأن السمع قد دل عليه، لا نقلًا عنهم، ولا استدلالًا لهم، لكن الدليل الذي يذكر في هذا المحل هو: أن الأشياء كلها ملك لله تعالى، وله الخلق والأمر، وملك الغير لا يجوز تناوله من غير إذنه، فوجب أن تكون هذه الأشياء كلها على الحظر، وينبغي أن تبقى الأشياء على ملك مالكها، ولا يتعرض لشيء منها إلا بإذنه وأمره؛ لأن الملك علة الحرمة على غير المالك، بدليل سائر الأملاك، فإذا وجدت علة الحرمة ولم توجد علة الإباحة، كان الشيء على الحرمة (¬1). الاستدلال على الإباحة: استدل على هذا القول بآيات وأحاديث كثيرة منها: أولًا: من الكتاب: * قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. * قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. ¬
* قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. * قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65]. * قوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]. * قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]. * قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. * قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31، 32]. * قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5]. ووجه الدلالة من تلك الآيات: أن الله عز وجل أخبر فيها عن إباحة ما خلق لنا مما نجده في الأرض فدل ذلك على أن ذلك هو الأصل حتى يأتي التحريم من الشرع لشيء بعينه. ثانيًا: من السنة: * ما ورد عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" (¬1). قال الزركشي: "وهذا ظاهر في أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن ¬
التحريم عارض" (¬1). * ما ورد عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه" (¬2). ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رده إلى الأصل الذي يقيس به الحلال والحرام، فما سكت عنه فلا يدخل تحت دائرة الحرام. فائدة المسألة: الذي يذكره الأصوليون في فائدة هذه المسألة: أن من حرم شيئًا في الفقه أو أباحه فعلى ماذا يطلب الدليل، وإذا عدم الدليل فما هو الأصل الذي يبقى عليه حتى يجد الدليل؟ (¬3) فأثر الخلاف يظهر في المسكوت عنه (¬4). القول المختار: الذي يظهر لي أن القول الصحيح هو أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن ¬
هذا مذهب جمهور الأصوليين، ومقتضى صنيع عامة الفقهاء (¬1). ¬
المطلب الثاني: الأصل في العبادات
ولكن هل القول بذلك معناه أن الأصل في العبادات أيضًا الإباحة عند جمهور الأصوليين؟، هذا ما سأحاول بيانه في المطلب التالي. المطلب الثاني: الأصل في العبادات (¬1): سبق بيان أن القائلين بالوقف أدَّاهم إلى القول به: الفرار من إثبات أن للعقل مدخلًا في إثبات الأحكام، وهذا يقتضي أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا من الشرع، وهو ما اتفق عليه أهل السنة قاطبةً، خلافًا للمعتزلة، فإذا كان هذا هو حالهم فيما علم من الشرع عدم الحرج فيه، فالمعقول أن يكونوا فيما يفعل على وجه التعبد أشد توقفًا وطلبًا للدليل، والنقولات التي ذكرت سابقًا تؤيد ذلك (¬2) وتعضده، وهذا المعنى ذكره الأصوليون في باب الاستصحاب. لذا فإن القول بأن الأصل في الأشياء الإباحة يقتضي جواز إثبات العبادة دون دليل إلا إذا دل الدليل على المنع منه، مجازفة عظيمة، وخطأ بالغ، وزلة فادحة، إذ العبادات من باب التكليف، ولا تكليف إلا بدليل، وقد نص على هذا غير واحد، فمن ذلك قول ابن القيم: "فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى ¬
قال الشيرازي
يقوم دليل على الأمر" (¬1)، وكذلك قول ابن تيمية: "باب العبادات والديانات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئًا عبادة وقربة إلا بدليل" (¬2)، وفيما يلي من أقوال الأصوليين ما فيه تصريح بأن الأصل براءة الذمة من أي تكليف حتى يرد الدليل به: قال الشيرازي: " فأما استصحاب حال العقل فهو الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل، وذلك طريق يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع، ولا ينتقل عنه إلا بدليل شرعي ينقله عنه" (¬3). قال الغزالي: " وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع" (¬4). قال الصنعاني: " لا شك أن لنا أصلًا متفقًا عليه، وهو أنه لا يثبت حكم من الأحكام إلا بدليل يثمر علمًا أو أمارة تثمر ظنًّا، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء قاطبة، بل بين كافة العقلاء من أهل الإيمان ومن أهل سائر الملل والأديان" (¬5). ¬
قال السهروردي
قال السُّهروردي: " دل العقل على براءة الذمة، ونفي الحرج، وما استروح إليه زاعموا الحظر قبل ورود الشرع بين إبطاله: فصوم شوال، وانتفاء وجوب سادسة من الصلوات باق على البراءة الأصلية" (¬1). قال المرداوي: " استصحاب العدم الأصلي وهو الذي عرف بالعقل انتفاؤه، وأن العدم الأصلي باق على حاله، كالأصل عدم وجوب صلاة سادسة، وصوم شهر غير رمضان، فلما لم يرد السمع بذلك حكم العقل بانتفائه لعدم المثبت له" (¬2). وهذه النقولات تبين أنه ليس للمكلف أن ينتقل عن الأصل إلا بدليل، وتبين أيضًا أن الدليل إنما يأتي بإثبات العبادة، وعليه فالأصل عدمها حتى يأتي ما يثبتها، وهذا مما هو معلوم بالاضطرار من قواعد الشرع وكلام أهل العلم، ولولا أنه قد حصل في زماننا هذا من يدعي خلاف ذلك لما احتجنا إلى إقامة الدليل على مثل هذا الأمر. الأدلة على أن الأصل في العبادات المنع: من الكتاب: * قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. ¬
أي: يعني "ما لم يأمر به" (¬1)، قال النسفي (¬2): "شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله: أي لم يأمر به" (¬3). ومن السنة: (1) حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (¬4). ¬
قال الرازي: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإياكم ومحدثات الأمور": لا يريد به كل ما حدث بعد ما لم يكن، فإن جميع الأفعال هكذا، بل المراد منه: ما يأتي به الإنسان مع أنه عليه السلام لم يأت بمثله، وذلك متناول للفعل والترك، فكل ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان تركه بدعة، وكل ما تركه الرسول كان فعله بدعة. فلما حكم على البدعة أنها ضلالة، علمنا أن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل الأمور واجبة إلا ما خصه الدليل" (¬1). (2) ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2)، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" (¬3). قال النووي: "قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات ... ¬
وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به" (¬1). قال ابن حجر: "وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه" (¬2). (3) ما ورد عن عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا فقال له أبو موسى - رضي الله عنه -: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك - أو انتظار أمرك - قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم!، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ¬
ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الله: حصا نعد به التكبير، والتهليل، والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده: إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير؟ قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله؛ ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج (¬1). ما استدل به المجيزون: قبل بيان ما استدل به المجيزون تفصيلًا والرد عليه، لابد من بيان عدة أمور: أولًا: أن هذه الأدلة جمعتها من كتب المعاصرين، ولم أقف على أدلة لأحد من المتقدمين يقول بجواز إحداث عبادة دون أن يرد بحقها الدليل. ¬
ثانيًا: أن الرد على تلك الأدلة فيه إجمال وتفصيل: أما الإجمال: فتلك الأدلة لا تخلو من أحد أمرين، إما أن تكون في غير محل النزاع، أو تكون غير صحيحة في الاستدلال. ويتضح ذلك الإجمال عند مناقشة تلك الأدلة على وجه التفصيل. ثالثًا: بالرجوع إلى شروح تلك الأحاديث لم أجد من نص على دلالة تلك الأحاديث على محل النزاع، وهو أن الأصل في العبادات الإباحة. رابعًا: كان من حق تلك المسألة أن يُقْتَصر فيها على بيان ما هو محل إجماع عند المتقدمين، ولا يُعَرَّج على ذلك الخلاف ما دام هذا القول مناقضًا للإجماع ولكن الذي دعى للعدول عن ذلك الأصل شهرة التمسك بهذه الأدلة في مقابلة من يذكر الإجماع القديم، وكثرة من استدل بها خصوصًا من يتابع الشيخ الغماري فيما ذهب إليه في الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الإباحة بجواز إحداث عبادة. الدليل الأول: * ما ورد عن رفاعة بن رافع الزرقي - رضي الله عنه - قال: كنا يومًا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده"، قال رجل وراءه: "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، فلما انصرف قال: "من المتكلم؟ " قال: أنا، قال: "رأيت بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول" (¬1). ¬
* ما ورد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال رجل من القوم: "الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلًا"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من القائل كلمة كذا وكذا؟ "، قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "عجبت لها فتحت لها أبواب السماء". قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك (¬1). قالوا: الصحابي أحدث دعاءً جديدًا في الصلاة دون استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّه على ذلك ولم يعنَّفه ولم ينهه، والدعاء هو العبادة كما ورد في الحديث، فهذا دليل على جواز إحداث عبادة جديدة. والرد على ذلك: أنَّه لا يمانع من أن الصحابي دعا بدعاء لم يثبت له فضل قبل إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له، لكن ما حكم أن يدعو الرجل في الصلاة بدعاء يختاره ويراه؟ الجواب: أن حكم ذلك الإباحة بنص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لأنه قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما التسبيح والتكبير والتهليل" (¬2) وهذا دليل على جواز أن يقول الصحابي في الصلاة ¬
ما شاء من الدعاء (¬1). ¬
فما فعله ذلك الرجل كان مأذونًا له فيه، فلما دعا بدعاءٍ أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيّن فضله كان إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره لفضل الدعاء دليل على استحباب هذا الدعاء وتخصيصه بذلك الموطن. وينبغي أن يتنبه هنا إلى ما هو موطن التعبد. التعبد هنا يكون بعدة أمور: الأول: الدعاء نفسه. الثاني: تخصيص الدعاء بموضع بعينه. ¬
أما الأول: فلا إشكال فيه كما سبق، أما الثاني: فهو موطن النزاع أو بعبارة أدق: الذي ينبغي أن يكون، وظاهر من الحديث أن الصحابي لم يخصصه بذلك الموضع، أي لم يتعبد بهذا الذكر في هذا الموضع ولا غيره من الصحابة حتى ثبت فضله بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فلا يقول أحدٌ إن الصحابي خصص ذلك الموضع بهذا الدعاء وتعبد بذلك قبل إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم إن في الحديث ما يشعر أن المستقر عند الصحابة ابتداء أنهم غير مأذون لهم في إحداث ما لم يرد به نص وذلك أنه فهم من سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستنكار ابتداءً حتى بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك الفهم غير مراد (¬2). ¬
الدليل الثاني: * ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة"، قال: "ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي" (¬1). ¬
قالوا: أحدث عبادة لم يكن مأذونًا له فيها على القول بأن الأصل في العبادات المنع. والرد: أن الصلاة في كل وقت مندوب إليها، ولم يرد في الحديث أن بلالًا اعتقد أفضلية ذلك أو خصص تلك الصلاة بهذا الموضع تعبدًا بذلك التخصيص، بل هذا لم يثبت حتى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل العمل الذي عمله بلال، ومعلوم أن من أقوى طرق ثبوت الاستحباب لعمل أن يرد الدليل بذكر فضل له. فعلى مقتضى الدليلين السابقين يكون: العبادة المأذون فيها في كل وقت لا مانع من فعلها في الوقت المأذون فعلها فيه دون تخصيص لوقت معين بفضل، حتى يرد بذلك التخصيص دليل شرعي، فمن دعا بدعاء حسن لا مانع منه ما دام لم يخصص هذا الدعاء بوقت يعتقد أنه في ذلك الوقت أفضل من غيره، أو أن له فضلًا أو أجرًا لم يرد به الدليل. الدليل الثالث: * ما ورد من حديث عمرو بن دينار - رضي الله عنه - قال: قلت لجابر بن زيد - رضي الله عنه -: إنهم يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، قال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
ولكن أبى ذلك البحر - يعني ابن عباس - رضي الله عنهما - وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]، وقد كان أهل الجاهلية يتركون أشياء تقذرًا، فأنزل الله تعالى كتابه، وبيَّن حلاله، وحرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (¬1) [الأنعام: 145]. وورد عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه" (¬2). * وفي رواية أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن نسيًا، ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] " (¬3). ¬
* وورد عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله - عز وجل - فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تتكلفوها، رحمة من ربكم فاقبلوها" (¬1). * وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله - عز وجل - أعطى كل ذي حق حقه، ألا إن الله - عز وجل - فرض فرائض، وسن سننًا، وحد حدودًا، وأحل حلالًا، وحرم حرامًا، وشرع الدين، فجعله سهلًا سمحًا واسعًا، ولم يجعله ضيقًا، ألا إنه لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ومن نكث ذمتي لم ينل شفاعتي، ولم يرد علي الحوض، ألا إن الله - عز وجل - لم يرخص في القتل إلا ثلاث: مرتد بعد إيمان أو زان بعد إحصان أو قاتل نفس فيقتل بقتله ألاهل بلغت؟ " (¬2). ¬
قالوا: هذه الأحاديث تدل على أن المسكوت عنه باق على الأصل الذي هو الإباحة (¬1). والرد عليهم: أن هذه الأدلة كلها مما يستدل به على أن الأشياء الأصل فيها الإباحة، ولا مدخل له في التعبدات بوجه من الوجوه، والكل يقول بذلك، فالأصل فيما عقل معناه في المعاملات والمطعومات والمشروبات إباحته حتى يرد الدليل بالمنع منه. لكن أين دلالة تلك الأحاديث على أن الأصل في العبادات الإباحة؟! فالأحاديث كلها في بيان ما يحل وما يحرم من المطعومات، ومعلوم أن ذلك ليس محله العبادات (¬2). الدليل الرابع: * ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا على سرية وكان ¬
يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ "قل هو الله أحد"، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك"، فسألوه فقال: "لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروه أن الله يحبه" (¬1). قالوا: فعل فعلًا لا يقع إلا عبادة وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. والجواب: ما هو الذي أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وما هو الذي أحدثه ذلك الرجل. فالذي فعله ذلك الرجل أنه واظب على فعل لم يتبين وجه مواظبته عليه، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقرر حكمًا بل سأله لماذا يفعل ذلك؟ فلما ذكر له سببًا مشروعًا أجاب باعتبار السبب. وإذا استُحضر هنا - ولابد من ذلك - قول الأصوليين السؤال معاد في الجواب، فيكون معنى إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -: إقراره على الفعل بهذا السبب، فهذا مشروع لأن الشرع اعتبره، ولا يطلق هذا الفعل بدون تقيد بالسبب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقره إلا بعد معرفة سببه، ثم إنه لم يقل أحد من أهل العلم باستحباب قراءة الصمد في كل ركعة استدلالًا بهذا الحديث، بل غايته جواز ذلك الفعل، وهذا الجواز مستفاد من إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - المشروط بما ¬
أجاب به ذلك الرجل (¬1). الدليل الخامس: * ما ورد عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة، عراة، مجتابي النمار - أو العباء - متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا، فأذن وأقام فصلى ثم خطب، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، "تصدق رجل من ديناره، من ¬
درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة"، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها - بل قد عجزت - قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (¬1). قالوا: هذا الحديث أصل في جواز إحداث عبادة دون الحاجة لدليل، بل غلا البعض فقال: البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع مستندًا إلى هذا الحديث. والرد: لبيان معنى هذا الحديث لابد من بيان معنى البدعة فأذكره هنا على سبيل الإجمال وله تفصيل في المبحث الذي بعد هذا. تطلق البدعة في لسان حملة الشرع أحيانًا بمعنى البدعة الشرعية وأحيانًا بمعنى البدعة اللغوية. فالبدعة اللغوية: ما ليس على مثال سابق. ¬
فمن استعمل ذلك المعنى في التعبديات وغيرها: جوَّز حصول البدعة في الدين. ومن خص البدعة بكونها في التعبديات فقط: منع من حصولها على الإطلاق. وعلى ذلك فـ "من سن في الإسلام سنة حسنة" معناه: "من أتى بما ليس على مثال سابق". فإن كان ذلك في غير محل التعبد فذلك معنى صحيح لا إشكال فيه، وهو أصل في إثبات العمل بالمصالح المرسلة. أما أن يكون ذلك في موطن التعبدات فهذا غير موافق لسبب الحديث أولًا، ولا يجري على قواعد الشرع ثانيًا، إذ يلزم منه أنه لا بدعة في الدين مطلقًا، فأين ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة" (¬1). على أن العلماء الذين شرحوا هذا الحديث قالوا: "من سن في الإسلام" أي: من أحيا سنة قد أميتت، ولم يقل أحد قط بجواز إحداث عبادة باعتبار هذا الحديث (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فرع: حكم وسائل العبادات: كل ما يعين ويساعد على أداء العبادة فهو وسيلة إليها، فالوسيلة في اللغة: "كل ما يتوصل به إلى مطلوب" (¬1)، لكن ليس المراد هنا كل فعل يعين على أداء العبادة، وإن كان عبادة في نفسه، بل المراد تلك الأفعال التي لا يقصد بها التعبد (¬2)، ولا تقع قوبة في الأصل، لكن تلك الأفعال مما يساعد على أداء العبادة ويعين عليها، فما هو الأصل في هذه الأفعال، هل ما زالت ¬
تندرج تحت الأشياء التي الأصل فيها الإباحة (¬1)، أم أنها صارت جزءًا من العبادة فيكون الأصل المنع حتى يرد الدليل بجواز اعتبار تلك الوسائل؟ (¬2) الذي يظهر لي في ذلك أن هذه الأفعال ما زالت تندرج تحت الأشياء التي لا يراد بها التعبد فيكون الأصل فيها الإباحة، وذلك بشرط أن يكون الفعل لا يقع قربة، فإذا حصل التعبد بتلك الوسيلة فلابد حينئذ من ورود الدليل بجوازها. ومثال ذلك اتخاذ مكبرات الصوت في الأذان: فإن استعمال مكبرات الصوت أمر مباح باعتبار الأصل، فإذا استعملت في الأذان كان ذلك جائزًا ومباحًا، إلا أن يقول قائل: أنا أتقرب إلى الله تعالى باستعمال المكبرات لذاتها لا لكونها وسيلة، فحينئذ يكون فعله هذا مفتقرًا إلى الدليل بخصوصه. ¬
ويلاحظ هنا أنه لابد من التفريق بين قصد التقرب بالفعل بذاته، وبين التقرب بالفعل بكونه وسيلة للعبادة، فالأمر الأول يلحق بالعبادات التي الأصل فيها المنع حتى يرد الدليل بالمشروعية، والأمر الثاني يلحق بالأشياء التي الأصل فيها الإباحة حتى يرد الدليل بالمنع.
المبحث الثاني: البدعة والمصلحة المرسلة وعلاقتهما بالترك
المبحث الثاني: البدعة والمصلحة المرسلة وعلاقتهما بالترك تبين في المبحث السابق أن الترك العدمي منه ما يدل على المنع ومنه ما يدل على الإباحة، فهل فعل المكلف لما هو ممنوع منه في جانب العبادات يكون ذلك بدعة أم لا؟ وهل المأذون فيه هو ما عبر عنه أهل الأصول بأنه مصلحة مرسلة؟ وإن كان الأمر كذلك فما هي العلاقة بينهما؟ هذا ما أحاول بيانه في هذا المبحث عبر مطلبين هما: المطلب الأول: التعريف بالبدعة وعلاقتها بالترك. المطلب الثاني: التعريف بالمصالح المرسلة وعلاقتها بالترك. المطلب الأول: التعريف بالبدعة وعلاقتها بالترك: المسألة الأولى: المراد بالبدعة في اللغة: أصل البدعة من مادة بَدَعَ. فـ "الباء والدال والعين أصلان أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر: الانقطاع والكلال. فالأول قولهم أبدعت الشيء قولًا أو فعلًا إذا ابتدأته لا عن سابقة مثال، والله بديع السماوات والأرض. والعرب تقول: ابتدع فلان الركن إذا استنبطه" (¬1). ¬
المسألة الثانية: المراد بالبدعة في الشرع
قال ابن سيده: "بَدَعَ الشيء يَبدَعُه بَدعًا وابتدعه: أنشأه وبدأه" (¬1). قال الأزهري: "أخبرني المنذري عن الحران عن ابن السكيت: البدعة كل محدثة" (¬2). قال الخليل: "البَدع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلقٌ ولا ذكرٌ ولا معرفةٌ" (¬3)، فـ "فلان بِدع في هذا الأمر أي أوّل لم يسبقه أحد" (¬4)، و "البدعة: ما عُمل على غير مثال سابق" (¬5)، وهي اسم من ابتدع الأمر إذا ابتدأه وأحدثه (¬6). فالبدعة في اللغة إذن: ما ليس على مثال سابق. المسألة الثانية: المراد بالبدعة في الشرع: هناك اتجاهان مشهوران في تحديد البدعة الشرعية: الاتجاه الأول: يمثله الشاطبي ومن وافقه. ¬
الاتجاه الثاني: يمثله العز بن عبد السلام (¬1) ومن وافقه. ولابد من بيان معنى البدعة عند كل اتجاه، ثم بيان نوع هذا الخلاف هل هو لفظي أم حقيقي، ثم بيان الاتجاه المُختار. الاتجاه الأول في تعريف البدعة: بوب الشاطبي - في كتابه الاعتصام (¬2) - لتعريف البدعة بابًا كاملًا، وقد عرف فيه البدعة بتعريفين: الأول: عبارة عن طريقةٍ في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. الثاني: البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. فالشاطبي يشترط في البدعة أن يقصد بها التقرب إلى الله سبحانه - سواء بالتعريف الأول أو الثاني - وهي بذلك لا تكون إلا مذمومة. وهذا الذي ذهب إليه الشاطبي ذهب إليه جماعة من أهل العلم قبله وبعده، فمن ذلك: ¬
ما نقله الشاطبي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: "من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا". قال ابن تيمية: "البدعة ما لم يشرعه الله من الدين" (¬1). قال ابن حجر الهيتمي: "البدعة الشرعية ضلالة كما قال - صلى الله عليه وسلم -، ومن قسَّمها من العلماء إلى حسن وغير حسن فإنما قسَّم البدعة اللغوية" (¬2). قال العيني: " (محدثاتها) جمع محدثة، والمراد به ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، وسُمي في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة" (¬3). قال أبو شامة: "البدعة: التي يظنها الناس أنها قربة وهي بخلاف ذلك" (¬4). قال ابن رجب (¬5): "فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة ¬
إلى الدين، فعمله باطل مردود عليه" (¬1). ويستدل هذا الاتجاه على أن البدعة الشرعية لا تكون إلا مذمومة بأدلة كثيرة: أبرزها العموم المؤكد في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (¬2) فـ "كل" من أقوى صيغ العموم. قال ابن رجب: "فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين" (¬3). ومن الأدلة أيضًا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" (¬4). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل عمل شِرَّة ثم فَترَة، فمن كانت فترَتُه إلى بدعة فقد ضل، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى" (¬5). ¬
وقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "إن من ورائكم فتنًا. . . فإياكم ومما ابتدع فإن ما ابتُدع ضلالة" (¬1). الاتجاه الثاني في تعريف البدعة: البدعة على الاتجاه الثاني هي: كل ما لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال النووي: "البدعة - بكسر الباء - في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). قال ابن الجوزي (¬3): "البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع" (¬4). ¬
وأشهر من نُقل عنه تفصيل القول في ذلك هو العز بن عبد السلام، فقد قال: "البدعة: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريق إلى ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة" (¬1). وممن وافقه على ذلك: الزركشي (¬2) والقرافي (¬3) ومحمد بن جُزَيّ المالكي (¬4) (¬5) ¬
والسيوطي (¬1) وغيرهم. الموازنة بين القولين: بإجالة النظر في النقول المتقدمة يصح القول بأن المقصود بالبدعة عند الاتجاه الأول غير المقصود بها عند الاتجاه الثاني: فالبدعة عند الشاطبي - ومن وافقه - ليست كل محدث، بل هي خاصة بالشرعية فقط، وهي عند الاتجاه الثاني: كل محدث سواء كان شرعيًّا أم لا. فالاتجاه الأول أراد بالبدعة المعنى الشرعي فقط، ولذلك فالبدعة عنده لا تكون إلا ضلالة. والاتجاه الثاني أراد المعنى اللغوي - وهو كل ما أحدث - وهو أعم من المعنى الشرعي. قال الشيخ محمد بخيت المطيعي: "البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة ومذمومة، أما البدعة التي قسمها العلماء إلى واجب وحرام. . . إلخ فهي البدعة اللغوية، وهي أعم من الشرعية لأن الشرعية قسم منها" (¬2). ¬
وبذلك يكون محل البحث: هل البدعة الشرعية مذمومة عند أصحاب الاتجاه الثاني أم لا؟، فإذا كانت مذمومة يكون بذلك الخلاف لفظيًّا فقط، وإن كانت غير مذمومة يكون الخلاف معنويًّا. والذي يظهر لي أن الخلاف هنا لفظي، وممن ذهب إلى ذلك ونصره الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز، فقد قال - بعد أن ذكر الاصطلاحين السابقين -: "إذا عرفت هذا تبين لك أن اختلاف الفريقين في ذم البدعة إطلاقًا وتفصيلًا ليس اختلافًا حقيقيًّا في موضوع واحد، وإنما هو اختلاف اسمي تابع لاختلاف موضوع الحكم، فالمعنى الذي يحكم عليه الفريق الأول بالذم مطلقًا لا يفصل فيه الفريق الثاني، إذ لم يقل أحد منهم بتحسين شيء لم يرد بحسنه دليل أو شاهد شرعي، كما أن المعنى الذي يفصل فيه هذا الفريق لا يطلق الأولون القول بذمه، إذ لم يقل أحد منهم بأن كل ما لم يفعل بخصوصه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون مذمومًا، وإن شهدت له الأدلة وأجمع عليه الصحابة" (¬1)، وإلى مثل هذا ذهب الشيخ علي محفوظ (¬2). وبذلك يتبين أن ما ذهب إليه بعض المعاصرين من جواز أن تقع بدعة شرعية في الدين وتكون ممدوحة مما لم يقل به أحد من العلماء المتقدمين قط، وهذا كافٍ في رد قوله وعدم اعتباره. ¬
المسألة الثالثة: حكم البدعة الشرعية وعلاقتها بالترك
مما سبق يتبين أن البدعة استُعلمت بمعنيين: الأول: المعنى اللغوي. الثاني: المعنى الاصطلاحي. فالبدعة بالمعنى اللغوي تنقسم إلى الأقسام المعروفة السابقة الذكر، والبدعة بالمعنى الشرعي لا تكون إلا مذمومة. المسألة الثالثة: حكم البدعة الشرعية وعلاقتها بالترك: البدعة الشرعية لا تكون إلا مذمومة - بخلاف البدعة اللغوية - وقد ذهب الشيخ عبد الله دراز إلى أن ذلك محل اتفاق، فقال: "لا يسع مسلمًا فضلًا عن إمام من أئمة المسلمين أن يفصل فيها بين مستحسن وغير مستحسن، إذ لا خفاء أن كل اختراع في الدين لما لا دليل عليه من جهة الشرع إنما هو اغتصاب لمنصب الشارع واستدراك عليه، وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر بواح، وإلا فأقل ما يقال فيه: أنه باطل مردود على صاحبه" (¬1). ¬
والضابط في معرفة البدعة الشرعية من غيرها هو قصد التقرب، وذلك بأن يكون الفعل لا يصح وقوعه إلا على سبيل التقرب، أو كان فيه مصلحة فُعل من أجلها لكن قُصد بإيقاعه التقرب، وهذا مستفاد بل من لوازم الأصل الذي قُرر سابقًا من أن الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل بخلاف ذلك. وبذلك فليس كل محدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة، بل لابد من أن يكون في جانب العبادات بأن يكون مقصود فاعله التقرب به إلى الله تعالى، أو يكون الفعل في ذاته لا يقع إلا مقصودًا به التقرب إلى الله تعالى، فإذا لم يكن كذلك فليس ببدعة. وأيضًا فليس كل مخالفة للشرع تكون بدعة، بل المخالفة منها ما هو معصية وبدعة، ومنها ما هو معصية فقط دون أن تكون بدعة، وذلك إذا لم يقصد بها التقرب، ولم تفعل على أنها دين وطاعة لله - عز وجل -. وبهذا التقرير السابق يظهر أن البدعة لا تختص بالترك العدمي فقط، بل تتعلق بالترك الوجودي أيضًا: فالترك المجرد في جانب العبادات يدل على التحريم، وإيقاع هذا الفعل الممنوع منه بدعة. والترك العدمي إذا كان في جانب العبادات فإنه يدل على التحريم - كما سيأتي بيانه - ويكون إيقاع هذا الفعل الممنوع منه بدعة أيضًا.
المطلب الثاني: المصلحة المرسلة وعلاقتها بالترك
المطلب الثاني: المصلحة المرسلة وعلاقتها بالترك: المسألة الأولى: تعريف المصلحة في اللغة: المصلحة: مَفْعَلة من الصلاح بمعنى حسن الحال. وصيغة "مفعلة" هذه تستعمل لمكانٍ ما، كثُر فيه الشيء المشتقة منه، فالمصلحة إذًا - عند علماء التصريف والنحو - شيء فيه صلاح قوي (¬1). والمصلحة: الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه، وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت (¬2). "والمصلحة بمعناها الأعم كما يتصورها الإنسان: كل ما له نفع له، سواء أكان بالجلب والتحصيل كتحصيل الفوائد واللذائذ، أو بالدفع والاتقاء كاستبعاد المضار والآلام، فكل ما فيه نفع جدير بأن يسمى مصلحة" (¬3). ويرى الدكتور مصطفى زيد أن الكلمة عند اللغويين واضحة لا تحتاج إلى تفسير (¬4)، فهي ضد المفسدة (¬5)، ويرى الدكتور محمد شلبي أنها ما يترتب ¬
المسألة الثانية: المصلحة في اصطلاح الأصوليين
على الفعل ويبعث على الصلاح، ومنه سُمي ما يتعاطاه الإنسان من الأعمال الباعثة على نفعه: مصلحة تسمية للسبب باسم المسبب مجازًا مرسلًا (¬1). وفي لسان العرب: "الصلاح: ضد الفساد. . وربما كنوا بالصالح عن الشيء الذي هو إلى الكثرة كقول يعقوب:. . مَطَرةٌ صالحة. .، والإصلاح نقيض الفساد" (¬2). حاصل القول أن المصلحة في اللغة: "المنفعة: سواء كانت دنيوية أم أخروية بجلب نفع أو بدفع ضرر" (¬3). المسألة الثانية: المصلحة في اصطلاح الأصوليين: المصلحة عند الأصوليين هي كل ما يؤدي إلى حفظ مقصود الشرع، سواء كان في العادات أو في العبادات، يقول الغزالي: "نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" (¬4). ¬
ونقل الزركشي عن الخوارزمي (¬1) أن المراد بالمصلحة: "المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق" (¬2). ويرى الدكتور محمد شلبي أن المصلحة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين تطلق بإطلاقين: الأول: مجازي وهو السبب الموصل إلى النفع. الثاني: حقيقي وهو نفس المسبب الذي يترتب على الفعل من خير ومنفعة (¬3). وعرفها الشاطبي بأنها: "ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل شهد برده، كان مردودًا باتفاق المسلمين" (¬4). ¬
أقسام المصلحة بالنظر إلى اعتبار الشرع لها
حاصل القول في تعريف المصلحة عند الأصوليين أنها ليست مطلقة بجلب أي منفعة بل هي مقيدة عندهم بقيدين: الأول: أن تكون تلك المنفعة محققة لحفظ أحد المقاصد الخمسة وهي حفظ الدين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال. الثاني: أن تكون تلك المصلحة لم يشهد الشرع بردها. أقسام المصلحة بالنظر إلى اعتبار الشرع لها: تنقسم المصلحة من جهة اعتبار الشرع لها وعدمه إلى ثلاثة أقسام (¬1): * القسم الأول: مصلحة شهد لها الشرع بالاعتبار فهذه هي المصلحة المعتبرة، مثل المشقة في السفر. * القسم الثاني: مصلحة شهد لها الشرع بالبطلان وذلك بأن تكون على خلاف النص أو الإجماع، أو يرد النص والإجماع بإلغائها، فهذه مصلحة ملغاة، مثل التسوية بين الأولاد والبنات في الميراث. * القسم الثالث: مصلحة سكت عنها الشرع فلم يشهد لها بالاعتبار ولم يشهد لها بالإلغاء، وهذه هي المصلحة المرسلة. وهي ما يسميه العلماء بالمناسب المرسل، وهي محل حديثنا. ¬
تقسيم الطوفي
تقسيم الطوفي: أما الطوفي فقد نحى منحىً آخر، ذلك أنه بعد أن ذكر تقسيم الأصوليين السابق ذهب إلى أن كل ذلك تطويل لا حاجة إليه، إذ إن الشريعة ما أتت إلا لتحصيل المصالح ودفع المفاسد، وعلى ذلك فما كان مصلحة من كل وجه فلابد من تحصيله وإن خالف النص والإجماع، وإن كان مفسدة من كل وجه فلابد من إلغائه، وما كان مصلحة من وجه مفسده من وجه اعتبر في ذلك الغالب وأطال في تقرير ذلك الذي ذهب إليه (¬1). اعتبار المصالح أو عدمه ليس في الأفعال التعبدية: مجال اعتبار المصلحة أصلًا تشريعيًا في المذاهب هو المعاملات والسياسة الشرعية والعادات، أما العبادات فلا مدخل للمصلحة المرسلة فيها، إذ إن العبادات لا تبنى على المصلحة، وإنما مبنى العبادات على التلقي من الشرع، وهو معنى أن الأصل في العبادات المنع، يقول الدكتور مصطفى زيد: "إن ¬
المسألة الثالثة: تعريف المصلحة المرسلة وحجيتها
مجال هذا كله، إنما هو العادات والمعاملات مما يقصد به سياسة المكلفين، أما العبادات فهي حق الشارع، لا يتلقى إلا منه" (¬1). المسألة الثالثة: تعريف المصلحة المرسلة وحجيتها: بهذا التقرير السابق يظهر أن المصلحة المرسلة هي كل مصلحة لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويطلق عليها عند الأصوليين "المناسب المرسل" و "الاستدلال" و "الاستدلال المرسل" و "الاستصلاح". ولا شك أن المصالح المرسلة ليست خالية من أي دليل - كما يوهم المعنى الحقيقي للإرسال - إذ إن الشرع قد شهد للمصالح بالاعتبار في الجملة، وإنما لم يشهد الشرع لها بالاعتبار على وجه الخصوص. أقوال الأصوليين في حجية المصلحة المرسلة: المصلحة المرسلة بهذا التعريف مما اختلف فيه الأصوليون اختلافًا طويلًا (¬2) ¬
وحاصل هذه الأقوال ثلاثة
وحاصل هذه الأقوال ثلاثة: * القول الأول: الجواز مطلقًا. أي جواز اعتبار المصالح المرسلة في الأحكام. وهذا القول منقول عن مالك على اختلاف بين العلماء في تفصيل مذهبه وقوله (¬1). ومذهب الطوفي في تقديم المصلحة على النص والإجماع موافق لهذا المذهب في هذا القدر (¬2). * القول الثاني: المنع مطلقًا. أي المنع من الاستدلال بالمصالح المرسلة على الأحكام. وهذا القول نسبه الزركشي لأكثر الأصوليين، وحكاه عن طوائف المتكلمين، ونُسب للشافعي (¬3) وهو قول الباقلاني (¬4)، وهو اختيار الآمدي (¬5)، ¬
* القول الثالث
وابن الحاجب (¬1)، وابن قدامة (¬2)، ونسبه الشوكاني للجمهور (¬3). * القول الثالث: التفصيل. فاختار ابن برهان - ونسبه للشافعي أيضًا - أنه إذا كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها وإلا فلا (¬4). وذهب الغزالي إلى جواز اعتبار المصالح المرسلة، بشرط أن تكون تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية (¬5). وكذلك الشاطبي اشترط أن تكون معقولة في ذاتها، ملائمة لمقصود الشارع، حقيقية لا وهمية، حاصل أمرها راجع إلى رفع الحرج عن المكلفين (¬6). حقيقة الخلاف: مع أن كثيرًا من الأصوليين نقل الخلاف هكذا في كتب الأصول إلا أن كثيرًا من الأئمة صرح بأن اعتبار المصالح المرسلة لا يخص مالكًا وحده، بل ¬
هو معتبر عند جميع الأئمة، فمن ذلك قول ابن دقيق العيد (¬1): "الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال على غيرهما" (¬2)، وكذلك القرافي أيضًا: فقد قال: "يحكى أن المصلحة المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها، فإنهم يعلقون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لهذا الفارق بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو عين المصلحة المرسلة" (¬3). ثم يقول عن الجويني أنه ضمَّن كتابه الغياثي أمورًا من المصالح المرسلة التي لم نجد لها أصلًا يشهد بخصوصها بل بجنسها، وهذا هو المصلحة المرسلة، فمن ذلك: أنه قال - أي الجويني -: "إذا ضاق بيت المال يجوز أن يجعل على الزرع والثمار مال دار مستقر، يجبى على الدوام، يستعين به الإمام على حماية الإسلام من غير أن يتوسع فيه". قال القرافي: "وهذا ليس له أصل في الشرع، بل النصوص دالة على نفيه، كقوله - عليه السلام -: "لا يحل مال ¬
امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولاضرار" (¬2)، وغير ذلك، وقال: "ليس في المال حق سوى الزكاة" (¬3)، وقد ترك هذه الأصول كلها لأجل هذه المناسبة التي لم يتقدم في الإسلام اعتبارها" (¬4). وكذلك الزركشي ينقل أيضًا عن البغدادي (¬5) قوله: "لا تظهر مخالفة مالك للشافعي في المصالح" (¬6)، ونقل الدكتور مصطفى زيد في رسالته عن ابن تيمية وابن القيم من النقولات ما يدل على أن المصلحة عند الحنابلة أصل تشريعيّ، لكن بشروط تقارب ما يشترطه المالكيون من ضرورة ملاءمتها لمقصد الشارع، وأن تكون جارية على المناسبات المعقولة التي تتلقاها العقول بالقبول، ¬
وأن يكون في الأخذ بها رفع حرج كان ممكنًا أن يقع فيه الناس لولاها (¬1). فإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الذي هو محل اتفاق بين المذاهب ليس هو محل الخلاف بينهم وإلا كان في ذلك نسبة كثير من العلماء إلى الغفلة! فإذا كانت المصلحة المرسلة ليست في العبادات، وإنما في أبواب المعاملات، ومعلوم أن الأصل في العادات والمعاملات الإباحة، وهذا محل اتفاق بين الجميع، فلا يكون هذا المعنى موردًا للخلاف بحال. وإذا كان المانعون يرون أن في القول بالمصلحة المرسلة إثبات دليل مستقل صالح لبناء الأحكام عليه، وجعله حجة شرعية، وفي ذلك إثبات لأحكام لا دليل عليها، إذ ليس في الكتاب والسنة ما يجوِّز بناء الأحكام الشرعية بمجرد المصلحة، بل ذلك هو اتباع الهوى المذموم في الكتاب والسنة، فإن هذا أيضًا لا يصح أن يكون مورد الخلاف، إذ الكل متفق على هذا المعنى، كما ذكرنا من قبل من اتفاق الجميع على أنه لا يثبت حكم إلا بدليل. وإذا كان الأمر هكذا فما هو وجه المنع منها عند المانعين؟ وهم الأكثر! وما هو وجه اشتراط تلك الشروط التي قيد بها الغزالي والشاطبي دلالة المصلحة المرسلة على الجواز؟ لابد - إذن - أن يكون في القول بالمصلحة المرسلة ما هو زائد عن مجرد ما يدل عليه الأصل، ولابد - أيضًا - أن يكون هذا المعنى هو الذي لأجله قوبلت بالقبول أو الرد، أو وضعت الشروط - من قِبل واضعيها - لضبطه، ¬
وسواء صرح الأصوليون بهذا المعنى أو لم يصرحوا: فلابد من توضيحه، إذ إنه بهذا الوصف هو مورد الخلاف. وإذا كان الأصوليون لم يصرحوا بهذا المعنى فلا مناص إذن من تتبع الأمثلة التي يذكرونها حتى يتضح ذلك المعنى، وبالنظر في الأمثلة التي ذكرها الجويني والغزالي والشاطبي وابن القيم يظهر لي أنهم اشترطوا تلك الشروط في المصلحة - والتي الأصل فيها الإباحة - لكي يجوز اعتبارها إذا كان ذلك الاعتبار سيؤدي إلى التعدي على أصل ثابت أو حق مقرر، وهذا يكون في الغالب في الإلزام العام (¬1). فالذين لاحظوا معنى المصلحة هنا قضوا بأن ذلك جائز، والذين لاحظوا ما سيؤدي إليه اعتبار تلك المصلحة على هذا النحو ذهبوا إلى المنع، وكلا ¬
شروط المصلحة عند من اعتبرها بشروط
القولين طرفا نقيض، والوسط بينهما اعتبار كلا الأمرين من خلال وضع ضوابط لكي لا يحيف أحد المعنيين على الآخر؛ وذلك من خلال تلك الشروط التي اشترطوها. وبذا يكون هذا القول - من جواز اعتبارها بشروط - هو القول الراجح والرأي المختار. شروط المصلحة عند من اعتبرها بشروط: اشترط الغزالي أن تكون المصلحة قطعية، كلية، ضرورية (¬1). فمعنى كونها قطعية: أن تثبت بطريق قطعي لا شبهة فيه، ومعنى كونها كلية: أن يكون النفع عائدًا إلى عامة المسلمين أو لأكثر أفرادها، وليست خاصة ببعضهم، ومعنى كونها ضرورية: أن تكون عائدة إلى حفظ ضرورة من الضرورات الخمس - سواء كانت ضرورية أو حاجية - وهذه الضرورات الخمس هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وزاد الطوفي: العرض. ومثَّل الغزالي لما يحقق هذه الشروط الثلاثة: بما إذا تترس الكفار - حال التحام أهل الحرب - بأسارى المسلمين، فإن ذلك يمنع توجيه الرمي والضرب إليهم، فيتمكن الكفار من مهاجمة الحصون، ولو امتنعنا عن القتل لأدى ذلك إلى الاستيلاء على ديارنا، فيقتلون المسلمين ثم يقتلون من معهم من أسارى المسلمين، ولو رماهم المسلمون لأدى ذلك إلى قتل المسلمين الأسارى ودمهم ¬
أما الشاطبي فقد اشترط أن تكون ملائمة لمقصود الشارع، معقولة في ذاتها، حقيقية لا وهمية، راجعة إلى رفع الحرج.
معصوم، فيجوز والحالة كذلك رميهم وإن أدى ذلك إلى قتل المسلمين الأسارى عندهم. وبالنظر إلى هذه الشروط الثلاثة السابقة التي ذكرها الغزالي نجد أنه بذلك يحصر نطاق المصلحة المرسلة في إطار ضيق، بل لا أبالغ إذا قلت إنها بما ذكره من شروط خرجت عن كونها مرسلة، وهي أقرب - من خلال ما ذكره من مثال - إلى تدافع المفاسد. أما الشاطبي فقد اشترط أن تكون ملائمةً لمقصود الشارع، معقولةً في ذاتها، حقيقيةً لا وهمية، راجعة إلى رفع الحرج (¬1). فمعنى كونها ملائمة لمقصود الشارع: أن لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من دلائله، ومعنى كونها معقولة في ذاتها: أن تكون جارية على الأوصاف المناسبة التي لو عرضت على أهل العقول السليمة لتلقوها بالقبول، ومعنى كونها حقيقية: أن يتحقق عند المجتهد أن بناء الحكم عليها يجلب النفع ويدفع الضرر، ومعنى كونها راجعة إلى رفع الحرج: أن تكون المصلحة مؤدية إلى التخفيف والتيسير على الناس. وبناء على ما سبق فإن المصلحة المرسلة هي المصلحة التي بقيت على أصل الإباحة ولكن كان في إلزام الناس بها إلزامًا عامًا تعديًا على أصل ثابت أو حق معتبر وهذا النوع للعلماء فيه مذاهب: ¬
الأول: القبول مطلقًا، وهذا ضعيف. والثاني: الرد مطلقًا، وهو مذهب الكثيرين. والثالث: القبول بشروط، وقد سبق تفصيل تلك الشروط. والذي يختاره الباحث أنه إذا وُجِدت مصلحة بهذه الشروط التي ذكرها الشاطبي، جاز إلزام الناس بها، وإن كان في إلزام الناس تعد على أصل ثابت، لكن لا تقوم المصلحة إلا بالتعدي على ذلك الأصل. ومثال ذلك: تضمين الصناع (¬1): فإن فيه تعدٍّ على أصل ثابت، وهو أن الصانع لا يضمن إلا بالتفريط، فإذا كان غير مفرط فإنه لا يضمن، فالقول بتضمينه على كل وجه تعدٍّ على ذلك الأصل، لكن لما كان تضمين الصناع مستوفٍ لتلك الشروط جاز القول به رغم تعديه على ذلك الأصل. وأيضًا: جمع الناس على قراءة واحدة ومنع القراءة من المصاحف الأخرى، والأمر بإحراقها (¬2): فيه تعد على أصلٍ ثابت، وهو أن الإنسان حر في ملكه ¬
اعتراض والرد عليه
وفي تصرفه، فما دام مصحفه الذي معه موافقًا للحق فلا يحق لأحد أن يأمره بحرقه، لما في ذلك الحرق من إتلافٍ لماله، لكن لمّا كان جمع الناس على مصحف واحدٍ محقِّقًا لتلك الشروط جاز أن يلزم الناس به وإن اقتضى التعدي على ذلك الأصل الثابت وهو أن الإنسان لا يتصرف في ملكه إلا برضاه. وأيضًا: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما دوَّن الدواوين، وألزم الجند بتسجيل أسمائهم في تلك الدواوين (¬1): فيه تعد على أصل ثابت، وهو أن الإنسان لا يجب عليه من الأعمال إلا ما أوجبه الله تعالى عليه، ففي القول بتلك المصلحة تعدٍّ على ذلك الأصل، ولكن لما كانت المصلحة مستوفية للشروط السابقة جاز العمل بها. اعتراض والرد عليه: إذا قال قائل: ما وجه اشتراط هذه الشروط، والصحابة رضوان الله عليهم لم يشترطوها، بل كانوا يعملون بالمصالح في بناء الأحكام عليها ¬
بالشواهد العامة من غير استناد إلى دليل خاص في الواقعة المعروضة عليهم، بل كانوا يقنعون بمجرد اشتمالها على مصلحة راجحة، ولا يبحثون عن أمر آخر، فهذا كالإجماع منهم على قبولها. قيل له: نحن لا نمانع من ذلك، وهذا دليل على اعتبار المصلحة فيما ليس بعبادة، ونحن لا نخالف في ذلك، وإنما نشترط تلك الشروط فيما إذا كان اعتبار هذه المصالح سيؤدي إلى التعدي على حق محترم، أو إلزام الناس بما لا يلزمهم، وهذه الشروط مستفادة من فعل الصحابة أيضًا، بل من فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على وجه الخصوص، وقد أقره كثير من الصحابة على فعله إن لم يكن كلهم. فإن كان الفعل المشتمل على مصلحة ليس فيه ذلك التعدي، جاز اعتبارها دون اشتراط تلك الشروط، إذ إن الفعل المرجو منه أن يحقق المصلحة باق على الأصل وهو الإباحة. ومثال ذلك جمع القرآن من الصحف والعُسُب واللِّخاف المتفرقة (¬1) وغيرها مما كُتبت فيه، ووضعه في مصحف واحد، وهو ما فعله أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فقد كان مصلحته كافية في الدعاء إلى فعله كما قال أبو بكر - رضي الله عنه -: "هو والله خير" (¬2). ¬
أما ما فعله عثمان - رضي الله عنه - من جمع الناس على مصحف واحد، ومنع ما سواه، والأمر بإحراق ما عداه من المصاحف: فلم يقدم عليه عثمان - رضي الله عنه - إلا بعدما حصل الخلاف في الأمصار: وقال حذيفة - رضي الله عنه - له: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى" (¬1)، فكان فعل عثمان - رضي الله عنه - هنا راجع إلى رفع حرج، وهو معقول في ذاته، إذ جمعهم على حرف واحد مانع من اختلافهم، ملائمة لمقصود الشارع، إذ إن التنوع في إنزال القرآن على سبعة أحرف إنما كانت رخصة ليتيسر على الناس قراءة كتاب الله تعالى، فلما أدت تلك الرخصة إلى التنازع والاختلاف، كان العدول عنها هو الملائم لمقصود الشرع إذ أصبحت الرخصة منافية لما تقصد به. وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما منع الصحابة أن يحدثوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، وأمرهم بالإقلال من ذلك خشية أن ينصرف الناس عن كتاب الله: أفلا يكون أقل ما يقال في ذلك: كيف لعمر - رضي الله عنه - أن يمنع الناس أن يحدثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم بذلك يكتمون العلم، وعمر - رضي الله عنه - يقول لهم: وأنا شريككم؟ ولا تأويل لفعل عمر - رضي الله عنه - سوى أن يقال: إنه مصلحة مرسلة رآها ¬
حاصل القول
عمر - رضي الله عنه -، ووافقته الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك (¬1). وأوضح منه وأعظم نفي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لنصر بن حجَّاج من المدينة، وتحليقه رأسه لأن النساء يفتتنون به، أفترى أي ذنب جناه نصر بن حجاج كي ينفى من المدينة؟!، ولا يسع أحدًا أن يُخطئ عمر - رضي الله عنه - فإن ذلك - لو ثبت - (¬2) كان بمحضر الصحابة، وهم أعظم وأكرم من أن يوافقوه على باطل، وتأويل فعل عمر - رضي الله عنه - هو أنه لما كانت مصلحة نفيه مستوفية للشروط التي ذُكرت جاز له ذلك، وإن كان في ذلك تعدٍ على حق ذلك الرجل، لكن لا يصلح الناس إلا بذلك. ولو تتبعتُ ما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وحده، وقضى به من أمور لا محمل لها إلا على المصلحة المرسلة بتلك الشروط التي ذُكرت لطال المقام، وفيما ذُكر كفاية. حاصل القول هنا أن البقاء على الأصل لا خلاف فيه، والأصل في الأشياء المحقِّقة للمصالح الإباحة، لكن لابد من تلك الشروط لأجل حصول الإلزام العام بها، متى كان الإلزام العام قاضيًا بالتعدي على أصول ثابتة بالشرع، وهذا هو معنى كونها معتبرة. ولابد هنا من الإشارة إلى أن من العلماء من رد ذلك بل إن ذلك مما ينقل عن جمهور العلماء كما سبق. ¬
هل كل مصلحة يقال فيها مصلحة مرسلة؟
هل كل مصلحة يقال فيها مصلحة مرسلة؟ هل كل مصلحة جاز الأخذ بها تكون من المصلحة المرسلة، أم تختص المصلحة المرسلة بمعناها الاصطلاحي بما ذُكر من أن يكون اعتبارها فيه تعدٍّ على أصلٍ أو حقٍّ ثابت فيشترط فيها ما ذكرناه من شروط لكي يجوز الأخذ بها؟ في ذلك مسلكان: الأول: أن تختص المصلحة المرسلة بما يوجب تلك الشروط، فلا يدخل فيها: الفعل الباقي على الأصل - الذي هو الإباحة - سواء كان من وسائل العبادات أم لا. الثاني: أن تكون كل مصلحة باقية على الإباحة مصلحة مرسلة، وبذلك تكون وسائل العبادات من المصالح المرسلة، وتكون تلك الشروط التي ذكرت خاصة بما إذا كان في اعتبار تلك المصلحة تعدٍّ على أصل أو حق ثابت. فالطريق الأول يجعل المعنى الاصطلاحي أضيق من المعنى اللغوي وأخص منه، وهذا المعنى أقرب إلى ما استعمله الأصوليون عند الكلام على المصالح المرسلة. والطريق الثاني يستعمل المعنى اللغوي في موضوعه، وإن كان تقييدها بالمرسلة لا فائدة منه إلا من جهة النص على موقعها في الشرع وهو خارج عن ماهية تعريفها. والذي أميل إليه هو الطريق الأول، وذلك لأن العلماء لم يقضوا في كل مصلحة بأنها مصلحة مرسلة، ولا مشاحة في الاصطلاح بعد فهم المعاني.
المسألة الرابعة: علاقة المصلحة المرسلة بالترك
المسألة الرابعة: علاقة المصلحة المرسلة بالترك: من خلال ما ذكر سابقًا يتبين أن من أنواع الترك العدمي ما يكون مصلحة مرسلة، ذلك أن الترك العدمي يكون في باب العبادات، وكذلك في باب العادات والمعاملات والسياسة الشرعية، فما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير باب العبادات فإن المقتضي حينئذ هو المصلحة، وتلك المصلحة قد تكون قائمة في عهده - صلى الله عليه وسلم - أو جدَّت بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. فالمصالح التي كانت في عهده - صلى الله عليه وسلم - لها حديث آخر، أما المصالح التي جدَّت بعده - صلى الله عليه وسلم - فلا تخلو من أن تكون أحد أمرين: ذلك أنها إما أن تكون مستوفية للشروط التي ذكرناها في المصالح المرسلة، أو غير مستوفية لها: فإذا استوفت تلك الشروط جاز اعتبارها، وقد سبق بيان أن كل ما ذكره العلماء أمثلة صحيحة على المصالح المرسلة، إنما هي من قبيل الإلزام العام وذلك لما في الإلزام بها من تعدٍّ على أصل ثابت أو حق مقرر، فلا يجوز هذا الإلزام إلا بعد استيفاء تلك الشروط. أما إذا لم تستوف هذه المصالح تلك الشروط: فلا يصح الإلزام بها، وإنما يجوز لآحاد الناس الأخذ بها، إذا لم يتعد على أصل ثابت أو حق مقرر لغيره، وذلك لأن هذه الأفعال التي يرجى تحصيل المصلحة من خلالها باقية على الأصل، والأصل فيها الإباحة طالما ليست من قبيل العبادات. ولابد هنا من الإشارة إلى أن المصلحة المرسلة ليست كلها من باب الترك العدمي، فهناك من المصالح المرسلة مما لم يكن مقدورًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تكون
من قبيل الترك العدمي على الاصطلاح الذي اخترته في هذه الدراسة، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها. ومن أمثلة تلك المصالح ما ذكره المعاصرون من اعتبار الإلزام بإشارات المرور وبطاقات الجنسية مصالح مرسلة (¬1). ¬
المبحث الثالث: أقسام الترك العدمي ودلالته
المبحث الثالث: أقسام الترك العدمي ودلالته سبق في الباب الأول بيان أن الترك العدمي هو عدم نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلًا ما مما كان مقدورًا له. المطلب الأول: أقسام متروك النقل: يحسن - قبل وضع أقسام الترك العدمي - النظر في التقسيمات التي ذكرها أهل العلم قديمًا وحديثًا. متروك النقل عند الشاطبي: ذكر الشاطبي أن "سكوت الشارع عن الحكم على ضربين: أحدهما: أن يسكت عنه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل الحادثة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كجمع المصحف وتدوين العلم. فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعًا بلا إشكال .. الضرب الثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان .. فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على إن قَصْد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص ... " (¬1). متروك النقل عند ابن القيم: تناول ابن القيم متروك النقل في معرض حديثه عن الطرق التي يتوصل ¬
متروك النقل عند الدكتور الأشقر
بها إلى معرفة ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ذكر أن النوع الثاني من أنواع نقل الترك: عدم نقل ما لو فعله لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فحيث لم ينقل علم أنه لم يكن. ومثل له "بترك التلفظ بالنية عند الدخول في الصلاة" (¬1). متروك النقل عند الدكتور الأشقر: لم يكن تقسيم ابن القيم مرضيًا عند الدكتور الأشقر (¬2)، أشار إلى ذلك عند بحثه لنقل الترك ثم ذهب إلى أن الأصوب أن ينقسم ما ذكره ابن القيم إلى أربعة أقسام هي: 1 - أن يدل على المتروك نقله نصٌّ يأمر بالفعل من الكتاب أو السنة أو يدل على حكمه بالإجماع أو القياس. 2 - أن يكون المتروك نقله باقيًا على حكم الأصل، والأصل عدم المشروعية في العبادة. 3 - أن يروي الصحابي تفاصيل حادثة وقعت مما يتعلق به شرع ويذكر ذلك على سبيل الاستقصاء. 4 - أن ينقل الراوي الواقعة ويسكت عن تفصيل يجعل الصورة نادرة. ولم يتعرض الدكتور الأشقر للكلام على ما ذكره الشاطبي. ¬
وبالنظر في التقسيمات السابقة نلاحظ ما يلي
وبالنظر في التقسيمات السابقة نلاحظ ما يلي: أولًا: الذي ذكره الدكتور الأشقر ليس تقسيمًا للنوع الذي ذكره ابن القيم حيث إن ابن القيم إنما قصد نوعًا خاصًا من أنواع ترك النقل، وهو ما وجد مقتضاه وانتفى مانعه، أما تقسيم الدكتور الأشقر فهو لما ترك نقله إجمالًا. ثانيًا: الأقسام الأخرى التي ذكرها الدكتور الأشقر سبق ذكرها في مبحث القرائن التي تقوي أن عدم النقل دليل على نقل العدم في الشرعيات. ثالثًا: ما هو الضابط الذي نستطيع أن نفرق به بين ما يدل على حكمه بطريق القياس، والذي لا يدل على حكمه بذلك؟ لم يبين الدكتور الأشقر ذلك، ولم يتطرق إليه الشاطبي على وجه التفصيل ولم يتناوله ابن القيم. وعلى ذلك فباعتبار ما ذكره الشاطبي وابن القيم والدكتور الأشقر يمكن تقسيم ترك النقل إلى نوعين رئيسين، وبيان ذلك هو أن يقال: إن ما تُرك نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله لا يخلو من أحد أمرين: الأول: أن يكون مقدورًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله. الثاني: أن يكون غير مقدور للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فالنوع الثاني هو الذي يدل على حكمه بطريق القياس، إذ إن الأدلة الشرعية لا يمكن أن تتناوله بالنص، وذلك لأنه لم يكن موجودًا (¬1)، إنما ¬
تتناوله الأدلة عن طريق إلحاقه بما كان موجودًا وتناولته الأدلة (¬1). وهذا النوع ليس من أنواع التروك النبوية، وذلك لأنه يشترط في جميعها قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفعل، وهو غير حاصل هنا. أما النوع الأول: وهو ما كان مقدورًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فينقسم إلى القسمين اللذين ذكرهما الشاطبي وهما: • الأول: ما كان له مقتضٍ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يمنع منه مانع، ومع ذلك لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. • الثاني: ما لم يكن له مقتضٍ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم حدث المقتضي بعد. أما القسم الأول فهو ما عبر عنه ابن القيم بأنه ما توافرت الدواعي على نقله لو حصل، غير أنه لم يبين ما هي تلك الدواعي، وإن كانت تفهم من خلال الأمثلة التي ذكرها، وكذلك الشاطبي لم يفصل القول في بيان مراده بالمقتضي. ¬
بيان "المقتضي" الدي هو مورد التقسيم
بيان "المقتضي" الدي هو مورد التقسيم: المراد بالمقتضي: الداعي إلى الفعل والباعث عليه كما يفهم من عبارة الشاطبي وابن القيم، وهذا الفعل لا يخلو أن يكون عبادة محضة أو لا، فما هو الذي يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يفعل فعلًا ما، سواء كان ذلك الفعل عبادة أو عادة؟ الذي يذكره الأصوليون في ذلك أن الباعث على فعل العبادات هو التقرب، والباعث على فعل العادات والمعاملات هو المصلحة. وذلك لأنهم يشترطون في العبادات أن تكون على وجه القربة بخلاف المعاملات التي تبنى أحكامها على المقاصد، يقول الشاطبي: "مقصود العبادات الخضوع لله - عز وجل - والتوجه إليه والتذلل بين يديه. . . وأن يكون ساعيًا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته" (¬1)، ويقول في موضع آخر: "الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني" (¬2)، ومن الأدلة على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُين لكم" (¬3)، هذا في جانب العبادات، أما المعاملات فالكل يرى أن الشرع أثبت منها ما يحقق مصالح العباد، بل نقل الطوفي الإجماع على أن الشرع يراعي المصالح والمفاسد في الجملة (¬4). ¬
حاصل القول إذن: أن الترك العدمي ينقسم إلى قسمين
حاصل القول إذن: أن الترك العدمي ينقسم إلى قسمين: • الأول: الترك مع وجود المقتضي وانتفاء المانع: وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون في جانب العبادات، والآخر: أن يكون في جانب المعاملات. • الثاني: الترك لعدم وجود المقتضي: وهذا لا يكون إلا نوعًا واحدًا إذ لا يتصور وقوعه في جانب العبادات، وسيأتي تقرير ذلك في مطلب الدلالة. المطلب الثاني: دلالة أقسام الترك العدمي: تبين من خلال المبحث الأول أن الأصل في العبادات المنع حتى يرد ما يثبتها، والأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد ما يمنعها، وأن الأصل في وسائل العبادات أن تكون على الإباحة، ويختلف حكمها بحسب ما هي وسيلة إليه، ومن خلال تطبيق هذه الأصول على أقسام الترك العدمي يظهر دلالة كل قسم. أولًا: ما كان له مقتضي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يمنع منه مانع: ينقسم هذا - كما سبق - إلى نوعين: الأول: أن يكون في جانب العبادات المحضة: وهذا لا إشكال في دلالته على المنع وذلك لما يلي: 1 - لو كانت تلك الفعلة المحدثة عبادة تقرب إلى الله - عز وجل - لكان ذلك مقتضي كافٍ لأنْ يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن يكون في جانب المعاملات
2 - أن العبادة لابد في إثباتها من الدليل؛ لأنها لا تكون إلا بتوقيف. 3 - عدم النقل هنا دليل على أن ذلك الفعل لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعدم فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له كاف في المنع منه. الثاني: أن يكون في جانب المعاملات: البحث هنا في المعاملات التي لها تعلق بالشرع، والتي ينبني أمرها على المصلحة، ولذا كان الأصل في الأشياء الإباحة، وأحكام الشريعة إنما جاءت على وفق مصالح العباد، فما هو القول في المعاملات التي تحقق مصلحة، وكانت تلك المصلحة متحققة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كانت داعية لتحصيل ذلك الفعل، ولم يقم مانع يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم بذلك الفعل: هل تلك المعاملات مباحة عملًا بالبقاء على الأصل، أم هي محرمة، ويُمنع منها؟ ويكون عدم فعل تلك المعاملة - مع قيام دواعيها - دليلًا على أن تلك المصلحة ليست بمصلحة على وجه الحقيقة، وإنما هي مصلحة متوهمة؟ لكلٍّ من القولين حظ من النظر، والذي يميل إليه الباحث هنا أن الترك في هذا الموضع دليل على أن تلك المصلحة مصلحة متوهمة، إذ لو كانت مصلحة على وجه الحقيقة لأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تقتضيه تلك المصلحة. ويؤيد هذا أمور: 1 - أن الكل متفق (¬1) على أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد ¬
حاصل القول
في الدنيا والآخرة، والجمهور على أن الأحكام معللة بعلل يمكن معرفتها وفهمها، وهذا يقتضي أن تلك المصلحة لو كانت معتبرة لأتى الشرع بها. 2 - الأصوليون يقسمون المصالح إلى ثلاثة أنواع: • مصالح أتى الشرع باعتبارها. • ومصالح أتى الشرع بإلغائها. • ومصالح لم يتناولها الشرع. فأما المصالح التي أتى الشرع باعتبارها فلا إشكال فيها، إذ إنها ثبتت بالنص، فليست محل البحث. بقي أن تكون تلك المصلحة أحد نوعين: • إما مصلحة شهد الشرع بإلغائها، وذلك بأن يكون الترك هنا دليلًا على عدم الاعتبار. • أو مصلحة لم يشهد الشرع باعتبارها أو إلغائها، وكونها كذلك لا سبيل إليه، إذ المصالح المرسلة هي تلك المصالح التي جَدَّت بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن آنذاك مصلحة، وليس في القول بها إثبات عبادة على ما بُيِّنَ من شروط، فعدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للفعل المترتب على تلك المصلحة دليل على عدم اعتبارها مصلحة وأنها مصلحة متوهمة. حاصل القول إذن في هذا القسم بنوعيه - العبادات والمعاملات - أن وجود المقتضي له على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم وجود المانع، وعدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له: دليل على المنع في النوعين.
ثانيا: ما لم يكن له مقتضي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم حصل ذلك المقتضي بعد
ثانيًا: ما لم يكن له مقتضي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم حصل ذلك المقتضي بعد: وهذا أيضًا ينقسم إلى جانبي العبادات والمعاملات. أما العبادات فلا سبيل إلى القول بأن المقتضي لها - وهو التقرب - يمكن حصوله بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا تكون إلا بنص وتوقيف. وعلى ذلك فالمقتضي الذي يحدث بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يكن موجودًا على عهده هو ما يتعلق بالمصلحة وهو المعاملات الشرعية. وهذا النوع لا إشكال في دلالته على الإباحة وأن الحكم متعلق بها بالمصلحة التي يرجى تحقيقها بعد استكمال شروطها بأن تكون مصلحة حقيقية - غير متوهمة -، عامة وليست خاصة، وهي بذلك على الإباحة بشرط أن لا يقصد بها التقرب. حاصل القول إذن أن هذا النوع لا يكون في العبادات، وإنما يكون في وسائلها، أو في أبواب المعاملات والعادات والسياسة الشرعية. فإذا كان في وسائل العبادات فهو على الإباحة، وإن كان في أبواب المعاملات واستوفى شروط المصلحة المرسلة جاز العمل بها، وإن لم يستوف الشروط جاز اعتبار تلك المصلحة دون أن يكون في اعتبارها تعد على أصل ثابت أو حق مشروع. ويمكن تلخيص الأحكام السابقة في الشكل التالي:
........................................................ [متروك النقل] ............................................................. .......... [غير مقدور] ............................................................................... [[مقدور]] ............................ .... [خارج عن نطاق البحث] .................................. [[له مقتضٍ على عهده ولم يفعله]] ..... [[ليس له مقتضٍ على عهده ثم جدَّ بعد]] ...................................... [[يدل على المنع (سواء في العبادات أو المعاملات)]] ... [[باق على الإباحة (ولا يكون إلا في المعاملات)]]
المبحث الرابع: تطبيقات على الترك العدمي
المبحث الرابع: تطبيقات على الترك العدمي التطبيقات على الترك العدمي كثيرة جدًّا، فالبدع والمصالح المرسلة كلها تحت هذا الباب، فكل ما أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق فمحل بحثه هنا، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فمن ذلك: بناء المحاريب في المساجد، واتخاذ المسبحة أو السبحة في الذكر، والاحتفال بالمولد النبوي، وسائر أنواع الاحتفالات كالاحتفال بليلة النصف من شعبان، وبالإسراء والمعراج، وبرأس السنة الهجرية وغير ذلك، وكذلك تزيين المساجد وزخرفتها، وتخطيط المساجد بخطوط لضبط الصفوف، وأيضًا من ذلك اتخاذ المآذن، والأذان داخل المسجد، والأذان الأول في الجمعة، ومن ذلك أيضًا: الاعتكاف في المسجد يوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء، ومن ذلك أيضًا تلقين الميت، والتغليظ في اليمين بالحلف مع وضع اليد على المصحف، وكذلك تخصيص ليلة النصف من شعبان بإحيائها بالقيام، والتلفظ بالنية في الصلاة، وتلقين الميت، وتشييع الجنازة بالذكر، وتسييد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان من المؤذن جهرًا، والوصية الواجبة في الميراث، وغير ذلك. ولا شك أن تفصيل القول في كل هذه المسائل مما لا تفي به هذه الدراسة، ولذا فقد اقتصرت على تفصيل القول في بعضها مما اشتهر الكلام فيه، مع اختيار بعض المسائل التي تتبع البدعة، وبعض المسائل التي تكون
المطلب الأول: صلاة التراويح أكثر من ثماني ركعات
مصلحة مرسلة، وبعض المسائل التي تكون من وسائل العبادات، مع التنبيه إلى أنه بحث في هذا المبحث مسألة صلاة التراويح أكثر من ثماني ركعات مع أنها ليست من قبيل الترك العدمي كما سيظهر فيما بعد، وذلك لأن طرفي النزاع في هذه المسألة يعدونها من قبيل الترك العدمي. المطلب الأول: صلاة التراويح أكثر من ثماني ركعات: عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتنام قبل أن توتر؟ فقال: "يا عائشة إن عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي" (¬1). وقد ذهب الشيخ الألباني ووافقه بعض المعاصرين إلى حرمة الزيادة على إحدى عشرة ركعة عملًا بهذا الحديث، وذهب الشيخ الغماري إلى جواز الزيادة بناء على أن الأصل الإباحة ولم يرد نهي عن الزيادة. وقبل مناقشة تلك الأقوال أورد أولًا: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، وثانيًا: أقوال الفقهاء في ذلك. ¬
أولا: ما ورد في ذلك من أحاديث
أولاً: ما ورد في ذلك من أحاديث: ورد عن عبد الله بن عمر أنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل، قال: "مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة، فأوتَرت له ما صلى"، وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم وترًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به (¬1). وورد عن الزهري أنه قال: حدثني عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني بالليل فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة (¬2). وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: سألت عائشة رضي الله عنه عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح" (¬3). ¬
وعن عبد الله بن شقيق رضي الله عنه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه، فقالت: "كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدًا ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين" (¬1). وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب وتميمًا الداري رضي الله عنهم أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر (¬2). وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال: وكانوا يقرؤون بالمئين، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام (¬3). ¬
ثانيا: مذاهب العلماء في عدد ركعات التراويح
وعن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة (¬1). قال البيهقي في السنن: ويمكن الجمع بن الروايتين فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث والله أعلم (¬2). ثانيًا: مذاهب العلماء في عدد ركعات التراويح (¬3): قال النووي: مذاهب العلماء في عدد ركعات التراويح: 1 - عشرون ركعة بعشر تسليمات غير الوتر، وذلك خمس ترويحات، والترويحة أربع ركعات بتسليمتين، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وداود وغيرهم، ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء. 2 - وحُكِي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر. 3 - وقال مالك: التراويح تسع ترويحات، وهي ستة وثلاثون ركعة غير الوتر، واحتج بأن أهل المدينة يفعلونها هكذا. ¬
4 - وعن نافع قال: أدركت الناس وهم يقومون رمضان بتسع وثلاثين ركعة، يوترون منها بثلاث. انتهى بتصرف (¬1). وهذا الاختلاف ليس باختلاف التضاد، بل هو اختلاف تنوع، وقد قال ابن تيمية: "والتراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: عشرين ركعة، أو كمذهب مالك ستًّا وثلاثين، أو ثلاث عشرة أو إحدى عشرة فقد أحسن، كما نص عليه الإمام أحمد لعدم التوقيف، فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره" (¬2). • من خلال ما سبق يرى الباحث ما يلي: أولًا: هذه المسألة ليست من مسائل الترك العدمي، وإنما هي من مسائل الترك الوجودي، وذلك لأن الصحابة نقلوا ذلك الترك منه. ثانيًا: هذا الترك لا يحمل على التحريم لأنه لم يقل بذلك أحد من الفقهاء المتقدمين، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، ومعلوم أنه لا يجوز إحداث قول في مسألة لم يقل به أحد من الصحابة، وذلك في مسائل التكليف، ومذهب عامة الأصوليين على ذلك (¬3). ¬
المطلب الثاني: إحياء ليلة النصف من شعبان
وبناء على ذلك كله فالصحيح هو ما عليه عامة الفقهاء من جواز الزيادة عن إحدى عشر ركعة في القيام في رمضان وغيره ولا يقال: إن ذلك بدعة، مع التنبه إلى أن الأفضل هو موافقة حال النبي صلى الله عليه وسلم من عدم الزيادة، وبحثنا إنما هو في الجواز أو عدمه، ومع ذلك فالتأصيل الذي بنى عليه الشيخ الغماري ما ذهب إليه تأصيل غير صحيح، وذلك لأن هذه المسألة ليست داخلة تحت "ما سكت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو عفو"؛ لأن ذلك الحديث ليس في التعبدات المحضة، إنما في أمور المعاش مما لا يقصد بها التعبد وقد سبق بيان ذلك. وقد قال ابن تيمية: "لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان عددًا معينًا". . . ثم ذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومذاهب السلف ومذاهب العلماء في ذلك، ثم قال: "وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن، والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين"، ثم قال: "ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقَّتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ" اهـ (¬1). المطلب الثاني: إحياء ليلة النصف من شعبان: أي بالقيام، وذلك لما ورد في فضل هذه الليلة عن سائر الليالي. ما ورد في فضل هذه الليلة: ورد في فضل هذه الليلة عدة أحاديث فمن ذلك: ¬
1 - ما ورد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر لي فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر" (¬1). وهذا الحديث قال عنه ابن رجب: إسناده ضعيف (¬2). 2 - ما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فخرجت فإذا هو بالبقيع، فقال: "أكنتِ تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ " فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: "إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" (¬3). ونقل الترمذي عقبه عن الإمام البخاري تضعيفه لهذا الحديث (¬4). ¬
وعلى فرض صحة ثلك الأحاديث كلها، هل يقتضي ذلك الفضل تخصيص هذه الليلة بقيام دون سائر الليالي؟
3 - ما ورد من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه، فلا يسأل أحد شيئًا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركًا" (¬1). 4 - ما ورد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" (¬2). هذا ما نُقل في فضل هذه الليلة وهي كلها أحاديث ضعيفة إلا الحديث الأخير. وعلى فرض صحة ثلك الأحاديث كلها، هل يقتضي ذلك الفضل تخصيص هذه الليلة بقيام دون سائر الليالي؟ لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فعلوا ذلك، وإنما نُقل عن بعض التابعين. قال ابن رجب: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها، ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ¬
وأمام هذه النقولات لابد من بيان عدة أمور هامة
ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك: أ- فمنهم من قَبِله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم. ب- وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة" اهـ (¬1). أما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فلم يثبت عنهم إحياء تلك الليلة. وقال أيضًا: "قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام" (¬2). وأمام هذه النقولات لابد من بيان عدة أمور هامة: 1 - أنه قد ثبت بالدليل فضل تلك الليلة فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رغم ذلك الفضل لم يخصوا تلك الليلة بقيام. 3 - أن ابتداء ذلك كان في عصر التابعين. 4 - أنه لما اشتهر عن طائفة قيام تلك الليلة انقسم الناس إلى فريقين: الأول: يرى أن ذلك جائز بل مندوب إليه. الثاني: يرى أن ذلك بدعة لا يجوز. ¬
ولذا فالصحيح هو القول بأن تخصيص تلك الليلة بقيام على هيئة مخصوصة دون سائر الليالي بدعة لا يجوز.
ولابد هنا من ملاحظة عدة أمور: 1 - هذا الفعل لا يقع إلا على وجه العبادة، فهو قربة من كل وجه. 2 - هذا الفعل العبادي كان مقتضاه موجودًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -، ومع ذلك لم يُنقل عنهم في ذلك أنهم فعلوه. 3 - أن تخصيص تلك الليلة دون سائر الليالي بعبادة يحتاج إلى دليل خاص، وما ورد في فضلها لا يكفي أن يكون دليلًا، بل لو صح كونه دليلًا لما كان صالحًا للاحتجاج به، لكون الصحابة كلهم قد تركوه ولم يعملوا به. بل هو دليل على أنهم لم يفهموا منه جواز تخصيص تلك الليلة بعبادة. ولذا فالصحيح هو القول بأن تخصيص تلك الليلة بقيام على هيئة مخصوصة دون سائر الليالي بدعة لا يجوز. - والمنع من تخصيص هذه الليلة دون غيرها بالقيام له نظير في الشرع، وذلك فيما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" (¬1). ولابد من بيان أمر هام وهو أن القول بالمنع من تخصيص هذه الليلة بالقيام لا يمنع من جواز صلاة القيام فيها، فهي -من حيث القيام- ليلة كسائر الليالي، فمن صلى فيها القيام لأجل موافقة عادته أو لأنه وجد من نفسه نشاطًا، فلا بأس بذلك، ولا يدخل ذلك في تخصيص هذه الليلة دون غيرها من الليالي بالقيام. ¬
المطلب الثالث: الاحتفال بالإسراء والمعراج
المطلب الثالث: الاحتفال بالإسراء والمعراج: ذهب الشيخ الغماري إلى جواز الاحتفال بالإسراء والمعراج، وهو بذلك يشير إلى ما اعتاد عليه الناس من الاحتفال بالإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب واتخاذ ذلك اليوم وليلته عيدًا. ومناقشة هذه القضية ستكون من حيث مدى صحة ذلك التاريخ أولًا، ثم هل ورد في فضل ذلك التاريخ -إن ثبت- نص معين، ثم أقوال أهل العلم في ذلك، ثم بعد ذلك ما هي مظاهر ذلك الاحتفال عند مؤيديه، وهل اتخاذ يوم بعينه للاحتفال عيدًا مما يحتاج إلى نص وتوقيف أم لا؟ أولًا: تاريخ حادثة الإسراء والمعراج: اختلف العلماء في تحديد تاريخ حادثة الإسراء والمعراج اختلافا كبيرًا رغم شهرة تلك الحادثة في الكتاب والسنة. فذهب أكثر العلماء إلى أنها كانت قبل الهجرة، واختلفوا في مقدار ذلك على أقوال كثيرة منها: أنها كانت قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، وقيل: سنة وستة أشهر، وقيل: ستة أشهر فقط، وقيل: سنة وشهرين، وقيل: سنة وخمسة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر فقط، وذهب مقاتل من التابعين والنووي إلى أنها كانت قبل الهجرة بسنة، ورجح النووي أنها كانت ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول، وقال مقاتل: ويقال: كان في رجب أو في رمضان (¬1). ¬
ثانيا: هل ورد فضل لليلة السابع والعشرين من رجب بخصوصها
ويلاحظ على كل تلك الأقوال أنها لم تستند إلى توقيف أو نص يدل على أي منها، وقد أشار إلى ذلك بعض أهل العلم. قال أبو شامة: "ذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والجرح عين الكذب! " (¬1). قال ابن تيمية: "لم يقم دليل معلوم على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول منقطعة مختلفة ليس فيها ما يقطع به" (¬2). حاصل القول: لم يصح حديث في تحديد وقت الإسراء والمعراج. ثانيًا: هل ورد فضل لليلة السابع والعشرين من رجب بخصوصها: قال ابن حجر: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ. رويناه عنه بإسناد صحيح وكذلك رويناه عن غيره" (¬3). وقد ساق ابن حجر ما ورد من الأحاديث التي تدل على فضل معين ليوم أو ليلة في رجب وحكم عليها كلها بالضعف أو الوضع. ثالثًا: المراد بالاحتفال: المراد بالاحتفال تخصيص ذلك اليوم وتلك الليلة ببعض العبادات كصيام النهار وقيام الليل، واعتقاد أن لتلك الليلة فضيلة عن سائر الليالي، وغير ¬
المطلب الرابع: تشييع الجنازة بالذكر
خافٍ أن تلك الأفعال عبادات محضة، فتخصيص ليلة بنوع من العبادات يحتاج إلى دليل. أيضًا فتخصيص يوم بالاحتفال واتخاذه عيدًا مما يحتاج إلى دليل يثبت أن هذا اليوم يشرع للمسلمين اتخاذه عيدًا. فإن قال قائل: ليس اتخاذ العيد من العبادات المحضة، قلنا: على التسليم بذلك فإن الدليل قد ورد بالمنع من ذلك في الحديث المشهور الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فمنعهم من ذلك (¬1). فهذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من ذلك، رغم أنها لم تكن للعبادة، إذ اتخاذ يوم بعينه عيدًا من شعائر الإسلام الظاهرة التي تحتاج إلى توقيف بدليل هذا الحديث. وعليه فالذي يجري على القواعد هو القول بعدم جواز الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، ولا يجوز تخصيص تلك الليلة بعبادة يعتقد لها فضل دون غيرها من العبادات. المطلب الرابع: تشييع الجنازة بالذكر: ذهب الشيخ الغماري إلى جواز ذلك، وقد ذكر الشيخ علي محفوظ (¬2) أدلة القائلين بجواز ذلك وهي: ¬
• أنه صار شعارًا للموتى، وفي تركه ازراء بالميت وتعريض العِرضَ للكلام فيه. • أن في الاشتغال بالذكر ونحوه ترك التكلم واللغط بأمور الدنيا. • أن فيه مخالفة اليهود والنصارى في جنائزهم حيث اعتادوا السكوت فيها. أما هو -الشيخ علي محفوظ- فقد ذهب إلى أن ذلك بدعة. قال: "ومن البدع السيئة: الجهر بالذكر أو بقراءة القرآن أو البردة أو دلائل الخيرات ونحو ذلك، وكل هذا مكروه، للإجماع على أن السنة في تشييع الجنازة السكوت وجمع الفكر للتأمل في الموت وأحواله، وعليها عمل السلف رضوان الله عليهم". واستدل على ذلك بدليلين: الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن وعند الزحف وعند الجنازة". لكن هذا الحديث ضعيف، فقد رواه الطبراني (¬1) وفيه راوٍ لم يسم (¬2). الثاني: ما ورد من قول بُكَيْر بن عتيق، قال: كنت في جنازة فيها سعيد بن ¬
جبير، فقال رجل: استغفروا له غفر الله لكم، قال سعيد بن جبير: لا غفر الله لك (¬1). قال الشيخ علي محفوظ: "فإذا كان هذا حالهم في تحفظهم من رفع الصوت بمثل هذا اللفظ، فما بالك بما يفعله غالب أهل هذا الزمان من رفع الأصوات بنحو ما تقدم" (¬2). وقال أيضًا: "وجملة القول: أن السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار، وبهذا كان عمل الصحابة فمن بعدهم، وأن اتباعهم سنة، ومخالفتهم بدعة" (¬3). أقوال المذاهب في هذه المسألة: قال النووي: "الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما؛ لأنه أسكن للخاطر، وأجمع للفكر فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال، هذا هو الحق ولا تغتر بكثرة من يخالفه" (¬4). ¬
قال الرملي: "ويكره ارتفاع الأصوات في سير الجنازة لما رواه البيهقي: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كرهوا رفع الأصوات عند الجنائز والقتال والذكر، وكره جماعة قول المنادي مع الجنازة: استغفروا الله له، فقد سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - رجلًا يقول ذلك، فقال: لا غفر الله لك" (¬1). وفي الفتاوى الهندية ما ملخصه: "وعلى متبعي الجنازة الصمت، ويكره لهم رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن، فإن أراد أن يذكر الله يذكره في نفسه" (¬2). وقال ابن الحاج (¬3): "وليحذر من البدعة الأخرى التي يفعلها أكثرهم، وهي أنهم يأتون بجماعة يسمونهم بالفقراء الذاكرين، يذكرون أمام الجنازة ¬
جماعة على صوت واحد، ويتصنعون في ذكرهم. . إلى أن قال: على أنهم لو أتوا بالذكر على وجهه لمنع فعله للحدث في الدين" (¬1). قال ابن قدامة: "ويكره رفع الصوت عند الجنازة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع الجنازة بصوت" (¬2). ولابد هنا من بيان عدة أمور: الأول: أن تشييع الجنازة بالذكر المراد منه: الذكر الجماعي بالصوت المرتفع أثناء الجنازة، وليس المراد منه أن مشيع الجنازة يذكر الله في نفسه فهذا هو المشروع وهو مما لا خلاف فيه. الثاني: أن الصفة التي كان عليها السلف هي الصمت والسكوت أثناء تشييع الجنازة. * والدليل على ذلك أمور: أولها: أنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك. ثانيها: إنكار الصحابة - رضي الله عنهم - وتابعيهم على فاعل ذلك. ثالثها: الحديث الوارد لكنه لا يصح. ¬
المطلب الخامس: قراءة القرآن على الميت
الثالث: أن تلك الصورة من باب العبادات وليست من باب المعاملات، فهي تحتاج إلى دليل مثبت للجواز وهو غير موجود. وبذلك فبتطبيق ما ذُكر من دلالة الترك العدمي على المنع في باب التعبدات يكون القول الصحيح هو ما ذهب إليه الشيخ علي محفوظ ومن وافقه من حرمة ذلك، ووجوب المنع منه، وأن فعله بدعة، والقول بذلك موافق لما هو منقول عن المذاهب الأربعة، وهو ما يختاره الباحث ويرجحه. المطلب الخامس: قراءة القرآن على الميت: سواء كان في الدار أو أثناء الدفن أو قبله أو بعده، وقد ذهب الشيخ علي محفوظ (¬1) إلى بدعية ذلك كله خلافًا لما ذهب إليه الشيخ الغماري. وصورة المسألة محل النزاع: هل يستحب قراءة القرآن في أي من تلك المواضع؟ لم أطلع في حدود بحثي على من تناول تلك المسألة من الفقهاء القدامى، لكن في ضوء القواعد التي ذُكرت يمكن أن يُفصل القول فيها، إذ إن هذه المسألة من مسائل الترك العدمي؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك، وهذا باتفاق بين المبيحين والمانعين، فإذا كانت قراءة القرآن من الأمور التي لا تقع إلا على وجه التعبد، فإنها وإن كانت جائزة في كل حال إلا أن تخصيص موضع بالاستحباب مما يحتاج إلى دليل مثبت، كما أن الذي يفعل هذا الفعل: ¬
المطلب السادس: الاحتفال بالمولد النبوي
لا يفعله إلا على وجه التعبد، بل لا يتصور وقوعه إلا كذلك (¬1). وعلى ذلك فالصحيح في هذه المسألة هو بدعية ذلك الفعل وفاقًا لما ذهب إليه الشيخ علي محفوظ. المطلب السادس: الاحتفال بالمولد النبوي: كثر الكلام بين المعاصرين على حكم الاحتفال بالمولد النبوي، وهل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الاحتفال به يدل على إباحته أم تحريمه، ويتلخص الكلام فيه في النقاط التالية: أولًا: متى وُلد النبي - صلى الله عليه وسلم -: اختلف المؤرخون في الشهر الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالجمهور على أنه قد ولد في ربيع الأول، وهؤلاء اختلفوا في تحديد يوم مولده، فذهب ابن عبد البر إلى أنه ولد في اليوم الثاني (¬2)، وذهب ابن حزم وأكثر أصحاب الحديث إلى أنه ولد في اليوم الثامن، وذهب ابن إسحاق إلى أنه ولد في اليوم الثامن عشر، وقيل: في العاشر، وقيل: في السابع عشر، وقيل: في الثامن عشر، وقيل غير ذلك (¬3). ¬
ثانيا: اتفق القائلون بحرمة المولد وبدعيته والقائلون بجوازه على أنه لم يقع في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين
ثانيًا: اتفق القائلون بحرمة المولد وبدعيته والقائلون بجوازه على أنه لم يقع في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين. يقول أبو شامة - وهو من الذاهبين لإباحته -: "من أحسن ما ابتُدع في زماننا من هذا القبيل ما كان يفعل بمدينة إربل - جبرها الله تعالى - كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله، وشكر الله تعالى على ما من به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع المرسلين، وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب أربل وغيره رحمهم الله تعالى" (¬1). وقال ابن حجر - فيما نقله عنه السيوطي - وهو ممن يقول بإباحته: "أصل المولد النبوي بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة" (¬2)، وقد أقره السيوطي على ذلك. ثالثًا: السبب في عدم ضبط تاريخ المولد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يتحرون نقل ما لا يتعلق به عمل ولا عبادة. رابعًا: مع اتفاق الكل على أن المولد لم يقع الاحتفال به في زمن الصحابة ولا التابعين، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى إباحته، فمنهم: أبو شامة (¬3) ¬
والسخاوي (¬1) (¬2) والسيوطي وابن حجر (¬3). وذهب بعضهم إلى أنه بدعة منهم: ابن تيمية (¬4) والفاكهاني (¬5) (¬6) والشاطبي (¬7) وابن الحاج المالكي (¬8) ¬
خامسا: أدلة القائلين بالجواز
والملا علي القاري (¬1) (¬2) ومحمد رشيد رضا (¬3)، والشيخ الغزالي (¬4)، ومحمد بن بن عبد السلام الشقيري الحوامدي (¬5). خامسًا: أدلة القائلين بالجواز: 1 - قال السخاوي: "وإذا كان أهل الصليب قد اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر" (¬6). 2 - أن الاحتفال بالمولد النبوي اشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرى المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، قال ابن حجر في ذلك: "وقد ¬
ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه: فهذا ما يتعلق بأصل عمله" (¬1). 3 - ذهب السيوطي إلى تخريجها - أي بدعة المولد - على أصل آخر: "وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات" اهـ (¬2). ¬
سادسا: ما أجيب به على تلك الأدلة
4 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صح عنه أنه كان يصوم يوم الاثنين والخميس وعلل ذلك بقوله: "ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بُعثت - أو أُنزل عليَّ - فيه" (¬1). فهذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتفل بيوم مولده فيجوز لنا الاحتفال إذن. سادسًا: ما أجيب به على تلك الأدلة: 1 - ما يذكره السخاوي يقوى أن يكون دليلًا على التحريم لا على الإباحة، وذلك لأن كلامه هذا نص في المشابهة وهي من الأمور المنهي عنها، ولذلك فقد تعقبه الملا علي القاري فقال: "مما يرد عليه أنا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب" (¬2). فنحن إذا كنا مأمورين بمخالفة أهل الكتاب في شعائرهم التي هي مشروعة لهم فكيف بما ابتدعوه وأحدثوه، لا شك أنه أولى وأجدر. 2 - قال الشيخ رشيد رضا في الرد على ما ذكره ابن حجر: " وأما قول الحافظ: إن من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة حسنه، ومن لا فلا، ففيه نظر ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته والصدقات، وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص، وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع، بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب ¬
3 - ليس في حديث عاشوراء ما يدل على جواز الاحتفال بالمولد،
المطلوبة شرعًا، وهو بهذه القيود بدعة سيئة، وجناية على دين الله تعالى، وزيادة فيه تُعَدُّ من شرع ما لم يأذن به الله، ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم" (¬1). وقال أيضًا: "وإنما يصح قول الحافظ ابن حجر في كون حفلة المولد بدعة حسنة بشرط خلوها من المساوئ والمعاصي المعتادة فيها، إذا كان القائمون بها لا يعدونها من القرب الثابتة في الشرع، بحيث يكفر تاركها أو يأثم أو يُعَدُّ مرتكبًا للكراهة الشرعية، فإن البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة ويقال: إن منها حسنة وسيئة هي البدع في العادات، وأما البدع في الدين فلا تكون إلا سيئة كما صرح به المحققون" (¬2). 3 - ليس في حديث عاشوراء ما يدل على جواز الاحتفال بالمولد، بل هو دليل على أن تعظيم اليوم والاحتفال به لا يكون إلا قربة، وهو بذلك يحتاج إلى دليل مخصص بعينه، ولو فرضنا جواز الاستدلال به على جواز الاحتفال بالمولد لوجب الاقتصار فيه على ما ورد، وهو مجرد الصيام، والحديث حجة على من يقول به من وجه آخر، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمره الصحابة بتعظيم ذلك اليوم وصيامه لم يأمرهم بتعظيم يوم مولده ولا صيامه، وهذا الحديث دليل على أن ذلك التعظيم عبادة يحتاج إلى دليل مثبت. ¬
4 - حديث (ذلك يوم ولدت فيه) لا دلالة فيه على جواز الاحتفال بالمولد من وجوه
4 - حديث (ذلك يوم ولدت فيه) لا دلالة فيه على جواز الاحتفال بالمولد من وجوه: أ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام ذلك اليوم فالواجب الاقتصار على مجرد الصوم. ب - أن ذلك اليوم الذي خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصوم هو يوم الاثنين الذي يتكرر كل أسبوع وليس يومًا واحدًا في السنة، فالزيادة إذن على ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاحتفال بمولده مع تغيير تاريخه وموعده كيف يكون مباحًا؟ ج - هذا الحديث دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاحظ هذا المعنى ومع ذلك لم يشرع فيه ذلك الاحتفال، فهو إذن دليل على المنع لا على الإباحة. 5 - الاستدلال بحديث (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه) باطل من أمور كثيرة: - لم يذكر السيوطي الأثر الذي يدل على أن جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع يوم ولادته، ولم أجد أحدًا ذكره، والسيوطي أورده بصيغة التمريض التي تدل على الضعف. - كون العقيقة لا تعاد ثانية أصل يحتاج أيضًا إلى دليل، لا أن يستدل به، ولو صح فهذا فيما إذا فعله أهل الإسلام، أما ما فعله أهل الجاهلية فما هو وجه اعتباره؟! - هذا الفهم الذي فهمه السيوطي من جعل العقيقة احتفالًا بمولده، من قال به من الصحابة؟ أو من الفقهاء أو أهل العلم بالسنن؟ ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف.
سابعا: الاحتفال بالمولد النبوي من جنس القربات
- هل إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاةً شكرًا لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده، يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم - عيدًا للناس؟ ولِم لَم يدع إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال؟ كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى؟ سابعًا: الاحتفال بالمولد النبوي من جنس القربات لا من جنس العادات، إذ إن المراد من المولد هو تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله - عز وجل - فلا يعظم إلا بالوجه الذي شرع. وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) على أن الأعياد شريعة من الشرائع يجب فيها الاتباع، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخوله المدينة وله خطب متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثل تلك الأيام عيدًا. ثامنًا: ما دام الاحتفال بالمولد النبوي لا يقع إلا قربة وعبادة، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا التابعون، فالحق إلحاقه بالترك العدمي الذي يدل على البدعية فيكون الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محدثة، وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي (¬2): "والتقرب إلى الله بإقامة هذه الموالد عبادة لا أصل لها. . . ومن ثَمَّ فنحن نميل إلى تعميم الحكم على هذه الموالد جميعًا ووصفها بأنها مبتدعات تُرفض ولا يُعتذر لها. . . إن إلغاء الموالد ضرورةٌ دينيةٌ ودنيويةٌ. . . ¬
المطلب السابع: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان جهرا
وهكذا انتظم الاحتفال بليلة المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، ورأس السنة الهجرية" (¬1). وهذا ما يؤيده الباحث ويختاره (¬2). المطلب السابع: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان جهرًا: ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" (¬3). ذهب الفقهاء إلى استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان عملًا ¬
يقول المقريزي
بهذا الحديث، سواء من المؤذن أو غيره، لعموم الحديث وذلك على الكيفية التي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يكون ذلك من كل شخص بمفرده سرًّا في نفسه. ومع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلا أنه لم يأمر المؤذن أن يصلي عليه في أذانه جهرًا عقب الأذان، ولم يقم أحد بفعل ذلك. وينقل المقريزي (¬1) في خططه أن أول من أحدث الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جهرًا عقب الأذان كان محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي، وكان ذلك في ليلة الجمعة فقط، وكان ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة، وأنقل هنا كلام المقريزي لأهميته. يقول المقريزي: " فاستمر إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. . .، فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه، فقال لهم: أتحبون أن يكون هذا السلام في ¬
كل أذان؟ قالوا: نعم، فبات تلك الليلة وأصبح متواجدًا يزعم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه، وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي، وكان شيخًا جهولًا سيء السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتًا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء. . .، وقال له: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يفعل في كل ليالي الجمع. فأعجَب الجاهل هذا القول، وجهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بعد وفاته إلَّا بما يوافق ما شرعه الله على لسانه في حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة في شرعه، حيث يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحدثات الأمور"، فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة وتمت هذه البدعة واستمرت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون" (¬1) اهـ. باختصار. ¬
محل البحث
محل البحث: إذا كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة بالخبر، فإن محل البحث هو: هل يجوز للمؤذن الجهر بها وإلحاقها بالأذان أم لا يجوز؟ ولا يخفى أن ذلك الفعل على هذا النحو مقصود به التعبد، إذ الغرض من فعله التقرب إلى الله سبحانه كما لا يخفى أن ذلك الفعل لم يوجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، بل لم يبدأ إلا في القرن الثامن الهجري على ما ينقله المقريزي. ولذا فإن ذلك الفعل لا يكون مصلحة مرسلة، بل هو بدعة؛ وذلك لأنه من الترك العدمي في باب العبادات وقد ذهب إلى بدعية ذلك الشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع (¬1) ونقل عن ابن حجر فتوى مشايخهم بأن ذلك بدعة، وبذلك أفتى الشيخ محمد عبده عندما كان مفتيًا للديار المصرية (¬2). ¬
المطلب الثامن: تخطيط الصفوف في المساجد
المطلب الثامن: تخطيط الصفوف في المساجد: انتشر في كثير من المساجد وضع خطوط في المسجد يسوى عليها الصف باتجاه القبلة. وقد ذهب الشيخ الألباني وجماعة من أهل العلم من المعاصرين إلى بدعية تلك الصفوف للأمور التالية: * أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسوي الصفوف، وكان يخرج بالناس في الأعياد إلى المصلى، ولم يأذن بإحداث خط يصف الناس عليه. * أن بسببه جعلت المحاذاة بأطراف الأصابع، والصحيح أن تسوية الصفوف بالمناكب والكعوب. * أن هذا الأمر دعت الحاجة إليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله، ولم يفعله أيضًا أحد من أصحابه - رضي الله عنهم -. * أن هذا الأمر المحدث يمكن تلافيه بأن يجعل لكل صف سجادة له على حدة. ¬
وسوف أناقش هذه المسألة في عدة نقاط
وذهب غيرهم إلى جواز ذلك وعدم بدعيته لكونه لا يتقرب به بذاته. وسوف أناقش هذه المسألة في عدة نقاط: أولًا: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسوي الصفوف، وكان يقول: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (¬1)، ولذا فقد اتفقت كلمة العلماء على أن استواء الصف أمر مستحب (¬2)، ولا نزاع في أن تلك الخطوط لم تكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، وإنما أحدثت في القرون التالية، وهي إنما توضع لأجل ضبط الصفوف وهذا مما لا نزاع فيه أيضًا. إذن: فمحل البحث هنا أمور: أولها: هل جدَّت حاجة إلى تلك الصفوف تزيد عن الحاجة إليها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟ ثانيهما: هل إحداث تلك الخطوط يراد به التقرب لذاته أم أنه وسيلة - مباحة في الأصل - لإتمام أمر مستحب؟ ثالثهما: ما هو الفارق بين تخطيط السجاد بخطوط لضبط الصف، وبين وضع سجادة لكل صف، إذ كلاهما وسيلة - مباحة - لتحقيق الطاعة وكلاهما لا يقصد به التقرب بذاته؟ أما الأمر الأول: فالذي أراه أن حاجة الناس إلى تلك الخطوط زائدة ¬
عن ذي قبل، وذلك لكبر حجم المساجد وانتشار الجهل بالقبلة بين الناس، ويتضح ذلك إذا حذفت تلك الخطوط إذ نادرًا ما يستقيم الصف. أما الأمر الثاني: فالذي يظهر أن تلك الخطوط لا تفعل تقربًا بذاتها، إذ لا يقول أحد بأنه يفعل ذلك لأنه مستحب أو أنه طاعة أو قربة، وإنما لأجل أن ذلك معِينٌ على ضبط الصف، وهو بذلك لا يمكن الحكم عليه بالبدعية، إذ أهم ضوابط البدعة هو قصد التقرب بذات الفعل، ولو قال قائل: إنما نضع تلك الخطوط لأنها قربة ومستحبة يتعلق بفعلها أجر، لكان ذلك بدعة بلا شك. ثم إن هذا الفعل ليس من جنس القربات، ولا يصح التقرب به إلا بالنية، وذلك بخلاف الأفعال التي لا تقع إلا على وجه القربة كالأذان والصلاة وغير ذلك. أما الأمر الثالث: فالذي يظهر أنه لا فارق بينهما فكلاهما وسيلة - مباحة في الأصل - يقصد بها تحصيل أمر من أمور الطاعات، وهذه الوسيلة لا تقع بذاتها على وجه القربة والعبادة فلابد من النية لكي يقصد بها التقرب. ولذا فالذي يميل إليه الباحث أن ذلك الفعل من الوسائل المعينة على إتمام أمر مستحب، والأصل فيه الجواز، وليس بدعة لفقدان شرط التقرب، وليس مصلحة ملغاة وذلك لما يظهر من حاجة الناس إليها في هذا الزمان عن ذي قبل (¬1). ¬
وقد يقول قائل
وقد يقول قائل: نحن نمانع في أن تلك المصلحة لم تكن محتاجًا إليها على عهده - صلى الله عليه وسلم -، بل كانت الحاجة إليها موجودة، فهي إذن مصلحة ملغاة، ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسوي الصفوف بعود معه ومع ذلك لم يستعمل تلك الخطوط. والجواب عن ذلك من عدة أمور: الأول: أنه يلزمه أن يقول بالتحريم لا بالبدعية؛ لأنها وإن كانت مصلحة ملغاة، فما الذي جعلها بدعة، وهي لا تفعل على سبيل التقرب؟ الثاني: أن ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسوي الصف بعود معه فهو ضعيف (¬1) وعلى فرض صحته، فهل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعبد بإمساك العود، أم كان إمساكه له لأجل مصلحة؟ الجواب: أن ذلك كان لأجل مصلحة، ولا يمكن أن يقال: إن ذلك كان لأجل التعبد، إذ لو كان الأمر كذلك لكان ذلك الفعل مستحبًا - أعني: ¬
المطلب التاسع: بناء المئذنة للمسجد
إمساك الأعواد في تسوية الصف - ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء، وتسوية الصف بالخطوط في نفس معنى إمساك العيدان في التسوية باليد فتأخذ حكمها. المطلب التاسع: بناء المئذنة للمسجد: المئذنة أو المنارة موضع الأذان للصلاة، والمراد المآذن المعروفة اليوم، فالمعروف أن هذه المآذن لم تكن موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن أول من اتخذ المآذن الوليد بن عبد الملك، ولم تكن معروفة من قبل. أين كان يقف المؤذن قبل اتخاذ المنارة؟ أخرج ابن سعد عن أم زيد بن ثابت - رضي الله عنهما - قالت: "كان بيتي أطول بيت حول المسجد فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده، فكان يؤذن بعدُ على ظهر المسجد وقد رفع له شيء فوق ظهره" (¬1). وهذا الحديث رواه أبو داود دون قوله: "قد رفع له شيء فوق ظهره" (¬2). قال الشيخ الألباني: "من المقطوع به أن الأذان كان حينذاك في مكان مرتفع على المسجد يرقى إليه .. ومن المحتمل أن الرقي المذكور إنما هو إلى ظهر ¬
المسجد فقط، ومن المحتمل أنه إلى شيء كان فوق ظهره" (¬1). أما الآن بعد انتشار مكبرات الصوت لم تعد هناك حاجة ماسة إلى المآذن حيث لم يعد المؤذن يصعد فوقها واستغنى عنها الناس. ولأجل ذلك ذهب بعض المعاصرين إلى أن بناء المآذن بدعة لأمور: - أنها لم تكن موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. - أنها لم يعد لها فائدة الآن لوجود مكبرات الصوت. - أنها صارت بابًا للسَّرَف والمخيلة وذلك لما ينفق فيها من أموال. ويلاحظ أن بناء المآذن وسيلة للعبادة - وهي وسيلة مباحة في الأصل - إذ هي وسيلة لإبلاع الأذان، ولا يقصد بها التعبد، وهي من الأفعال التي لا يقصد بها التقرب بذاتها، بل لابد لها من النية، ووجود مكبرات الصوت الآن لا يجعل المآذن بلا قيمة، ذلك أنه قد ينقطع التيار فلا يصل الأذان عبر مكبرات الصوت، بل مع ارتفاع المباني في هذه الأيام صارت مكبرات الصوت لابد لها من أن توضع على مكان مرتفع، كما أن المسافر قد يهتدي إلى موضع المسجد عن طريق المآذن. وإذا كانت وسائل العبادات مباحة في الأصل، ولا يحكم ببدعيتها إلا إذا قصد بها التقرب فإن الأقرب هنا الحكم بجواز بناء المآذن، وذلك لأن بناءها لا يقصد به التقرب بذاته. ¬
المطلب العاشر: الوصية الواجبة في الميراث
وقد يقول قائل: إن اتخاذ المآذن مظنة السرف والمخيلة فيمنع منها. والجواب: أن القول بالجواز لا يستلزم إباحة السرف والمخيلة، وإلا فبناء المسجد لا يجوز فيه السرف والمخيلة، فهل يقال بالمنع لكونه مظنة السرف والمخيلة الآن؟ وقد يقول قائل: نحن لا نمانع فيما ذكرت من تجدد المصالح، لكن تلك المصلحة تحصل بالأبنية العالية التي حول المسجد، فلا حاجة للمآذن حينئذ، فاتخاذها والحال كذلك بدعة. والجواب: أن استعمال الأبنية العالية التي بجوار المسجد سواء في وضع مكبرات الصوت، أو استعمالها هي في الأذان عند انقطاع تيار الكهرباء: هذا الاستعمال لما كان جائزًا، ما الفارق بينه وبين اتخاذ مكان مرتفع خاص بالمسجد؟ فلا يوجد فارق بين اتخاذ المكان العالي فوق سطح منزل أو فوق سطح بيت، كلاهما في الحكم سواء، فالقول بجواز الأمر الأول يوجب القول بجواز الثاني، ولا فرق. ولذا فالذي يختاره الباحث هو جواز اتخاذ المآذن وأنها ليست بدعة أو محرمة. المطلب العاشر: الوصية الواجبة في الميراث: الوصية الواجبة أمر استحدثه القانون المصري الوضعي عام 1946 م، وقبل الكلام عن الوصية الواجبة نبين أولًا ما هي في نظر واضعيها: يستحق الوصية الواجبة قانونًا: فرع الولد (ما يولد مطلقًا الذكور
والإناث) الذي يموت في حياة أبيه أو أمه، لكنها ليست لكل فروع الولد المتوفى في حياة أبيه وإنما لطائفتين من فروع الأولاد: الأولى: أولاد البطون: وهم الطبقة الأولى من أولاد البنات، والطائفة الثانية: أولاد الظهور: وهم أولاد الأبناء وإن نزلوا على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره. فهولاء إذا لم يكن المتوفى أوصى لهم: أنشأ القانون لهم حقًّا في التركة - وألزم الوارثين به - في حدود الثلث بشرطين: الأول: ألا يكون وارثًا، والثاني: ألا يكون قد أخذ بغير عوض مقدار ما يجب له (¬1). ¬
أما السبب لأخذ القانون الوضعي بهذا
أما السبب لأخذ القانون الوضعي بهذا: فقد جاء في المذكرة الإيضاحية أنها وضعت لتلافي حالة كثر منها الشكوى، وهي حالة الحفدة الذين يموت آباؤهم في حياة أبيهم أو أمهم، أو يموتون معًا ولو حكمًا: كالغرقى والحرقى، وإن هؤلاء قلما يرثون بعد موت جدهم أو جدتهم لوجود من يحجبهم من الميراث، مع أن آباءهم قد يكونون ممن شاركوا بالقسط الأكبر في بناء الثروة التي تركها الميت، وقد يكونون في عياله يمونهم، وأحب شيء إلى نفسه أن يوصي لهم بشيء من ماله، ولكن المنية عاجلته فلم يفعل شيئًا أو حالت بينه وبين ذلك مؤثرات وقتية. السند التشريعي للوصية الواجبة: حرص واضعي القانون على بيان السند الشرعي لما جاء في الوصية الواجبة، وحاصل ما ذكرته المذكرة الإيضاحية أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180] دليل على وجوب الوصية لمن لا يرث، وذهب ابن حزم إلى وجوبها إذا تركها، فاستنادًا على ذلك قسمت الوصية على الذين ¬
ومناقشة ذلك في النقاط التالية
حددهم القانون قسمة الميراث سواء أوصى الميت أو لم يوص، وعلل البعض ذلك التقدير بالضرورة، وبنى ذلك آخرون على القاعدة الفقهية التي تقول: إن لولي الأمر أن يأمر بالمباح بما يراه من المصلحة العامة، ومتى أمر به وجبت طاعته، وأمره ينشئ حكمًا شرعيًّا (¬1). ومناقشة ذلك في النقاط التالية: أولًا: ذهب جمهور العلماء إلى أن الوصية لا تجب إلا على من عليه دين، أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه (¬2). قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أن الوصية غير واجبة إلا على من عليه حقوق بغير بينة وأمانة بغير إشهاد إلا طائفة شذت فأوجبتها" (¬3). ثانيًا: الدليل على ما ذهب إليه الجمهور هو أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180]، منسوخ بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا ¬
مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7]، وبآية الميراث، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث" (¬1)، وذلك عند من يرى جواز نسخ القرآن بالسنة، ويؤيد ذلك: أن أكثر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنهم وصية، ولم ينقل لذلك نكير، ولو كانت واجبة لما أخلوا بذلك (¬2). ثالثًا: الذين خالفوا الجمهور قالوا: تجب الوصية للأقربين الذين لا يرثون، وهم طائفة من التابعين كمسروق وطاووس وإياس وقتادة وابن جرير وهو قول داود الظاهري. واحتجوا بالآية: قالوا: نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت في من لا يرث من الأقربين (¬3). رابعًا: معنى وجوب الوصية أنه يجب على المرء أن يوصي فإذا مات ولم يفعل فهو آثم. لكن هل معنى هذا الوجوب أنه يجب أن تخرج من ماله بعد وفاته إذا تركها؟ ¬
لم أعلم أحدًا من الفقهاء قال ذلك (¬1)، وليس هذا مدلول القول ولا لازمه، ومن ثَمَّ: فجعل إخراجها من ماله وإن لم يوص من لازم القول بأن مذهب طائفة من فقهاء التابعين بوجوبها إذا تركه: أمر فيه سوء فهم على أحسن الأحوال، وإلا فهو تدليس قبيح. خامسًا: لم يقل أحد من أهل العلم قط إن ولي الأمر إذا أمر بمباح لأجل المصلحة العامة فإن أمره ينشئ حكمًا شرعيًّا، فإن العجب لا ينقضي من قائل هذا القول، وإنما قال أهل العلم: أنه يجوز لولي الأمر أن يقيد المباح أو يأمر به على ما يراه من المصلحة العامة، وباب ذلك هو المصلحة المرسلة، فتقييد المباح أو الأمر به له شروط عند القائلين بجواز ذلك، وهي الشروط التي ذكرناها لاعتبار المصالح المرسلة، مع التنبه إلى أن أكثر أهل العلم على المنع من ذلك، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل. أما أن يكون ذلك مؤديًا إلى إنشاء حكم شرعي فحاشا لله أن يقوله أحد يدرك معنى ما يقول، فإن منشئ الأحكام الشرعية هو الله وحده، بلغناها على لسان رسله لم يخالف في ذلك أحد من العلماء قاطبة. إذن فليس لهذا القانون أي سند شرعي أو شبهة استناد، فأي مذهب ¬
فقهي أجاز أن يؤخذ من مال الرجل إذا مات بمقدار الثلث فيوزع على غير الوارثين ممن لم يذكرهم الرجل ولم يوص إليهم: بغير رضا ورثته؟ سادسًا: حاصل ما ذكروه في سبب هذا القانون أنه يراعي مصلحة المسلمين، ومع التسليم بذلك فإن هذه الصلحة ليست مما جدَّ بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانت موجودة قبل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضلًا عن عهده - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وقد أجمع الفقهاء على أن هؤلاء الأولاد محجوبون بأعمامهم من الورثة (¬1)، فالتكييف الأصولي إذن أن تلك المصلحة: مصلحة مهدرة لكونها كانت قائمة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك لم يعتبرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما فيها من مخالفة الإجماع، وقد سبق في مبحث الدلالة أن المصالح التي كانت قائمة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعتبرها فإنه لا يجوز اعتبارها سواء أكان ذلك في العبادات أم المعاملات. وعلى فرض أنها مما جدَّ فإن لتحقيق تلك المصلحة طريقًا لا يتعدى على ما حرمه الشرع، وهو ما ذكره أهل العلم قديمًا، بل وانعقد الإجماع عليه من أنه يستحب للرجل أن يوصي لأقاربه غير الوارثين إذا كانوا فقراء، وثمة طريق آخر وهو ما ذكره العلماء من جواز أن يأخذ غير الوارث إذا كان بإذن الورثة ورضاهم (¬2). ¬
وثمة طريق ثالث: وهو أن يوقف ذلك على إذن الورثة إذ لو أن الورثة أجازوا مثل هذا التصرف ورضوا به فلا مانع شرعي من قبول ذلك وكونه جائزًا، ولا يضير القانون أن يوقف ذلك على إذن الورثة، وذلك لأن الوارث إن أخرجه عن رضا وطيب نفس، كان ذلك جائزًا، بل هو مأجور عليه إن قصد به صلة رحمه، أو إعانة أقربائه أو غير ذلك مما هو معتبر شرعًا. وبناء على ما سبق فإن الإلزام بالوصية الواجبة غير جائز شرعًا، ولم يقل به أحد من الفقهاء، بل هو خلاف الإجماع، ولا يستند إلى تأصيل أصولي صحيح، فلا يجوز العمل بها إلا بموافقة جميع الوارثين من غير إكراه ولا شبهته، واعتبار القانون لها وعمله بها لا يخرجها عن كونها محرمة.
الفصل الثاني ما يلحق بالترك العدمي
الفصل الثاني ما يلحق بالترك العدمي "ترك الاستفصال" ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: بيان ترك الاستفصال. المبحث الثاني: تطبيقات ترك الاستفصال.
تمهيد
تمهيد " ترك الاستفصال من النبي - صلى الله عليه وسلم - " إحدى القواعد التي يذكرها الأصوليون في باب العموم، وهذه القاعدة من مسائل الترك، وذلك لأن محل الاستدلال في هذه القاعدة هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الاستفصال، فهو استدلال بالترك، وهو ترك عدمي، وذلك لأن الواقعة وإن نقلت فإن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال لم ينقل، بل نقلت الواقعة فاستدل المستدل بأن ما نقل من جوابه ليس فيه أنه استفصل، ولو فعل ذلك لنقل، فهو استدلال مرده إلى الاستدلال بترك النقل، وهو ترك جزئي لأن الاستدلال بتركه - صلى الله عليه وسلم - هنا ليس على العموم، بل بترك أمر مخصوص هو الاستفصال، ولذا أفردته في هذا الفصل بعنوان ما يلحق بالترك العدمي، وتناولته بالدراسة في مبحثين: الأول منهما لبيان الجانب الأصولي، والمبحث الثاني لبيان الجانب التطبيقي.
المبحث الأول: بيانه ترك الاستفصال
المبحث الأول: بيانه ترك الاستفصال (¬1) هو أن يأتي السائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيسأله عن أمر فلا يستفصل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحوال ذلك الأمر، بل يصدر حكمًا عامًا. وهذا النوع من الترك ذكره العلماء تحت قواعد العموم وأصله عبارة الشافعي. قال الشافعي: "ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ¬
المطلب الأول: نسبة القاعدة للشافعي
يتنزل منزلة العموم في المقال". المطلب الأول: نسبة القاعدة للشافعي: نُسبت هذه القاعدة للشافعي في كثير من كتب الأصول والفروع، وقد بحثتُ عنها في الرسالة والأم فلم أجد تصريحًا بلفظها غير أني وجدت معناها في الأم (¬1) عند بيان حكم المشرك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة. وقد صرَّح الشافعية وغيرهم بنسبة هذه القاعدة للشافعي: فمن الشافعية: الرازي (¬2)، والجويني (¬3)، والزركشي (¬4)، وزكريا بن محمد الأنصاري (¬5) (¬6)، ¬
المطلب الثاني: معنى القاعدة
وشهاب الدين القليوبي (¬1) (¬2). ومن غير الشافعية: المرداوي (¬3)، وابن النجار الفتوحي (¬4)، والقرافي (¬5)، وابن تيمية الجد (¬6) (¬7) وغيرهم. ولبيان دلالة هذا النوع لابد من بيان معناها ودليلها ومذاهب العلماء فيها. المطلب الثاني: معنى القاعدة: " الاستفصال": طلب التفصيل. ¬
وفي الموسوعة الفقهية: "يستفاد من سياق عبارات الأصوليين والفقهاء أن الاستفصال: طلب التفصيل، ولم ترد هذه الجملة في المعاجم اللغوية التي بين أيدينا وهي مع ذلك صحيحة، وقد وردت في كلام الشافعي وكفى به حجة في لغة العرب" (¬1). وفي معجم لغة الفقهاء: الاستفصال: طلب البيان (¬2). و"العموم" في اللغة: الشمول، والعام: الشامل، أي شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر بلفظ أم غيره (¬3). وعرف في الاصطلاح بتعريفات كثيرة، أفضلها ما ذهب إليه الرازي، وأبو الحسين المعتزلي، وأبو الخطاب، واختاره أكثر الحنابلة من أنه: "لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد" (¬4). ¬
"وقائع الأحوال" المراد بذلك الوقائع التي تنقل للنبي - صلى الله عليه وسلم - للسؤال عنها، وهي ما يسأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار وقوعه فعلًا. "الاحتمال" المراد بالاحتمال الذي أطلقه الشافعي الاحتمال المساوي أو القريب، أما الاحتمالات النادرة والبعيدة فغير مرادة هنا، وكذلك الاحتمالات العقلية فإنه ما من أمر إلا ويدخله الاحتمال، وقد نقل الزركشي عن تقي الدين وجَدّه اشتراط ذلك وصوبه (¬1). "ينزل منزلة العموم من المقال" أي أن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون عامًا في كل أحوال الواقعة المسئول عنها، والمراد بالمقال: أن اللفظ يعم أحوال السؤال، ولكن هل يدخل فيه الإقرار، أي: هل ينزل الإقرار منزلة اللفظ حتى يعم أيضًا؟ ذكر ابن دقيق العيد فيما نقله عنه الزركشي أن الأقرب قيام الإقرار مقام اللفظ، وقد ذكر الزركشي أن الأصوليين لم يتعرضوا لمثل ذلك. ¬
المطلب الثالث: أحوال وصور الجواب الذي يقع عن سؤال
ومثل الزركشي له بمثال وهو حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬1). قال: "فإن السائل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا. . ."، فاستدل به على أن إعداد الماء الكافي للطهارة بعد دخول الوقت مع القدرة عليه غير لازم؛ لأنهم أخبروا أنهم يحملون القليل من الماء، وهو كالعام في حالات حملهم بالنسبة إلى القدرة عليه والعجز عنه، لضيق مراكبهم وغير ذلك بالنسبة إلى ما قبله وما بعده أيضا، وقد أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه فيكون ذلك دالًا على جوازه في هذه الأحوال" (¬2). المطلب الثالث: أحوال وصور الجواب الذي يقع عن سؤال: لا شك أن المراد هنا بالجواب الذي لم يثبت العموم من لفظه، إذ لو كان اللفظ عامًا بوضعه لما احتجنا إلى ذلك التفصيل، إذ المرجع حينئذ للقاعدة الأصولية المشهورة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (¬3)، أما في غير ذلك فقد نقل الزركشي (¬4) عن الأبياري (¬5) تقسيم صور الجواب الذي يقع ¬
عن سؤال إلى الأقسام التالية: 1 - أن يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على خصوص الواقعة فحكم فيها بحكم، فهذا لا يعم. 2 - أن لا يثبت بأي طريق استفهام من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية القضية، وهي تنقسم إلى أقسام، ويطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الجواب، فهذا يعم. والسبب في كونه يعم أنه "لو كان الحكم يختلف باختلاف الأحوال حتى يثبت تارة ولا يثبت أخرى لما صح لمن التبس عليه الحال أن يطلق الحكم، لاحتمال أن تكون تلك الحالة واقعة على وجه لا يستقر معها الحكم، فلابد من التعميم على هذا التقدير بالإضافة إلى جميع الأحوال" (¬1). 3 - أن يُسأل - صلى الله عليه وسلم - عن واقعة باعتبار دخولها الوجود لا باعتبار وقوعها فيكون السؤال مبهمًا ولا يفصل - صلى الله عليه وسلم - في الجواب، فهذا يعم. 4 - أن تكون الواقعة المسئول عنها حاصلة في الوجود، ويطلق السؤال عنها فيجيب - صلى الله عليه وسلم - بدون تفصيل. تعارض هنا أمران: ¬
1 - القيد الوجودي يمنع القضاء على الأحوال كلها، أي أنها لم تقع في الوجود إلا خاصة. 2 - الإطلاق في السؤال يقتضي استواء الأحوال في غرض المجيب. نظر إلى الثاني: الشافعي. ونظر إلى الأول: أبو حنيفة. ونظر الشافعي أرجح من جهة التأصيل والتطبيق. أما التأصيل فلأن ذلك أقرب إلى مقصود الإرشاد، وإزالة الإشكال، وحصول تمام البيان، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرّع بقوله ولا يصح تقدير أنه علم ما لم يثبت أنه علمه فضلًا عن بناء الحكم عليه. أما من جهة التطبيق فإن جمع روايات حديث غيلان - رضي الله عنه - يثبت عكس ما ذكره أبو حنيفة، إذ إنه قد ثبت عند الترمذي بلفظ: "فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير أربعًا منهن" (¬1)، وأقوى منه - لكنه لم يصح - ما ورد من حديث نوفل بن معاوية - رضي الله عنه - قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فارق واحدة منهن"، قال: فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها (¬2). ¬
المطلب الرابع: مذاهب العلماء في اعتبار القاعدة
وقد أشار الزركشي (¬1) إلى الترجيح بهذه الرواية ولكنها ضعيفة. وبذلك يظهر أن ترك الاستفصال في جميع الصور يعم ما عدا صورة واحدة، وهي التي ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على خصوص الواقعة فحكم فيها بحكم. والذي يميل إليه الباحث في ذلك أن ثبوت اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على خصوص الواقعة له حالتان: الأولى: أن يكون في نفس الموقف، وهذا ينفي قاعدة ترك الاستفصال من الأساس. الثانية: أن يكون في غير الموقف، وهذا لا أجد له مثالًا صحيحًا، على أنه فيه نظر من جهة التأصيل لو ثبت له مثال صحيح، وذلك لأن اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الواقعة قبل ذلك ثم إذا سئل لم يستفصل فيه دلالة على إرادة العموم، إذ لو أراد أن ينزل الجواب على الصورة التي يعلمها لفعل، وهذا يبعد من آحاد الناس، فكيف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ المطلب الرابع: مذاهب العلماء في اعتبار القاعدة: للعلماء في اعتبار القاعدة ثلاثة مذاهب: 1 - المذهب الأول: القبول. وهو اختيار الحنابلة وأكثر الشافعية والمالكية (¬2). ¬
2 - المذهب الثاني: التفصيل بين حالتين
2 - المذهب الثاني: التفصيل بين حالتين: إذا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل الواقعة فإنها ترد. وإذا لم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل الواقعة فإنها تقبل. ذهب إليه الجويني (¬1)، وابن القشيري (¬2)، والغزالي، ويحتمل أن يضم إليهم الرازي (¬3). 3 - المذهب الثالث: الرد مطلقًا. وهو مذهب الحنفية ومن وافقهم كإلكيا الهراسي (¬4) فيما نقله عنه الزركشي (¬5). ¬
المطلب الخامس: دفع التعارض بين هذه القاعدة وقاعدة قضايا الأحوال
شروط القاعدة عند من اعتبرها: 1 - أن تكون في جواب السؤال. ذكره الزركشي (¬1). 2 - أن تكون الاحتمالات متقاربة أو متساوية، أما الاحتمالات المرجوحة والضعيفة فلا تدخل فيه. نقل هذا الشرط الزركشي وأقره (¬2)، ونقل عن الشافعي من الأم ما يشهد لذلك. المطلب الخامس: دفع التعارض بين هذه القاعدة وقاعدة قضايا الأحوال: نقل عن الشافعي أنه قال: "قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال". وهذا القول يعارض ظاهر القاعدة التي نحن بصددها. وللعلماء في هذا التعارض مسلكان: المسلك الأول: أنهما متعارضان. فمنهم من يبقى على الوقف، ومنهم من يقول: للشافعي في هذا قولان. المسلك الثاني: عدم التعارض. ولهم في الجمع بين القاعدتين مسلكان (¬3): ¬
الأول: أن القاعدة الأولى: الاستدلال فيها بقول الشارع وعمومه في الخطاب الوارد على السؤال عن الواقعة المختلفة الأحوال. أما القاعدة الثانية فهي في الفعل المحتمل وقوعه على وجوه مختلفة، فهي في كون الواقعة نفسها لم يُفصل، وهي تحتمل وجوهًا يختلف الحكم باختلافها فلا عموم له. وهذا الوجه نقله الزركشي عن الأصفهاني وأقره وذكر أنه الأصوب في الجمع بين القاعدتين (¬1). الثاني: أن قاعدة ترك الاستفصال إذا كانت الاحتمالات في محل المدلول، والقاعدة الأخرى إذا كانت الاحتمالات في محل الدليل، أي أن الاحتمال إذا كان في دليل الحكم فإنه يسقط الاستدلال، أما إن كان في محل الحكم فلا يسقط الاستدلال. ¬
ذكره القرافي (¬1)، ونقله عنه وأقره البعلي (¬2)، والإسنوي (¬3)، وابن الشاط (¬4) (¬5)، ونقله عنه الزركشي (¬6) لكنه رده. والذي يراه الباحث في ذلك: أن القاعدة الأولى: في ترك استفصال الشارع، وأن الثانية: في أن الواقعة نفسها لم تنقل بالتفصيل. وهذا الوجه هو ما ذكره الأصفهاني فقد قال: "ولكن لا مناقضة بين الكلامين؛ لأن الأول هو ترك استفصال الشارع، والثاني: كون الواقعة في نفسها لم تنقل بالتفصيل" (¬7). ولذا فالقول الأول هو الأولى بالقبول (¬8). ¬
المبحث الثاني: تطبيقاق ترك الاستفصال
المبحث الثاني: تطبيقاق ترك الاستفصال المطلب الأول: صدقة المرأة دون توقف على إذن زوجها: ورد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: شهدت الفطر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إليه حين يُجلسُ بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساءَ، معه بلال - رضي الله عنه - فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الآية، ثم قال حين فرغ منها: "آنتن على ذلك؟ "، قالت امرأة واحدة منهن - لم يجبه غيرها -: نعم، قال: "فتصدقن"، فبسط بلال ثوبه ثم قال: "هلم لَكُنَّ فداءٌ أبي وأمي، فيلقين الفَتخ والخواتيم في ثوب بلال" (¬1). قال ابن حجر: "واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها كالثلث خلافًا لبعض المالكية، ووجه الدلالة من القصة: ترك الاستفصال عن ذلك كله، قال القرطبي: ولا يقال في هذا إن أزواجهن كانوا حضورًا؛ لأن ذلك لم ينقل، ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن" (¬2). ¬
في رواية: ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم"، فقامت امرأة من سبطة النساء سعفاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير"، قال: فجعل يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن (¬1). قال النووي: "وفيه جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها ولا يتوقف ذلك على ثلث مالها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. . . ودليلنا من الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسألهن استأذن أزواجهن في ذلك أم لا؟ وهل هو خارج من الثلث أم لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل" (¬2). وهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: لها التصرف في مالها كله بالتبرع. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر ورواية عن أحمد (¬3). واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - قول الله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وهو ظاهر في فك الحَجر عنهم وإطلاقهم في التصرف، وهذا يشمل الذكور والإناث، وأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن. ¬
2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن" وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل (¬1). 3 - حديث زينب امرأة عبد الله - رضي الله عنهما - قالت: كنت في المسجد فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تصدقن ولو من حليكن" - وكانت زينب - رضي الله عنها - تنفق على عبد الله - رضي الله عنه - وأيتام في حجرها - فقلت لعبد الله: سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجدتُ امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال - رضي الله عنه - فقلنا: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري، وقلنا لا تخبر بنا، فدخل فسأله فقال: "من هما؟ " قال: زينب، قال: "أي الزيانب؟ " قال امرأة عبد الله، قال: "نعم لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة" (¬2). ووجه الدلالة فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر لهن شرط إذن الزوج. القول الثاني: لا يجوز لها أن تتصدق بأكثر من الثلث. وهو قول طاووس ومالك ورواية عن أحمد (¬3). ¬
واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - ما ورد أن خيرة امرأة كعب بن مالك - رضي الله عنها - أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلي لها، فقالت: إني تصدقت بهذا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت كعبًا؟ "، قالت: نعم، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كعب بن مالك زوجها، فقال: "هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها؟ "، فقال: نعم، فقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها (¬1). 2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة خطيبًا، قال في خطبته: "لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها" (¬2). 3 - أن حق الزوج متعلق بمالها، والدليل على ذلك ما ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬3). وأجيب: 1 - ضعف حديث زوجة كعب بن مالك - رضي الله عنه -، فقد قال الطحاوى: ¬
حديث شاذ لا يثبت، وقال ابن عبد البر: إسناده ضعيف لا تقوم به حجة (¬1). 2 - حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - محمول على أنه لا يجوز عطيتها من مال زوجها إلا بإذنه. القول الثالث: لا يجوز لها التبرع بشيء من مالها لا أكثر من الثلث ولا أقل، وهو قول الليث (¬2). ومأخذ هذا القول واضح وهو العمل بعموم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها" خصوصًا أنه كان في فتح مكة وأيضًا فإن المرأة قد تنفق من مالها على وجه يعود على الزوج بالضرر أو بالعار أو بالنقيصة فلذلك تمنع إلا بإذنه وهي لا تخسر شيئًا إذا استأذنت زوجها. والذي يراه الباحث في ذلك: أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عالم في عطية المرأة سواء كان من مالها أو من مال زوجها، فأما مال زوجها فلا إشكال في دخوله في الحديث، وتبقى الصورة محل النزاع فيما إذا كان من مالها لمعارضته بحديث: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن"، فمن خصص به عموم حديث عمرو بن العاص قال: يجوز للمرأة أن تتصدق دون إذن زوجها، ومن قال لا يخصص فمنع من تصدق المرأة بدون إذن زوجها، ومأخذ المنع من التخصيص أن حديث بلال ليس صريحًا في الدلالة، بل هو استدلال بفعل صحابي لم يعلم وجهه، فلعل النساء اللاتي تصدقن كن ¬
المطلب الثاني: أيهما تقدم المستحاضة، العادة أم التمييز؟
قد استأذنّ، لكن يشكل عليه: أن ذلك لو كان معتبرًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما أخر بيانه. وعلى كلٍّ: فالغرض إثبات دور القاعدة في الاستدلال، والذي يميل إليه الباحث هو القول بالتخصيص أي: عدم توقف صدقة المرأة على إذن الزوج هو القول الأول. المطلب الثاني: أيهما تقدم المستحاضة، العادة أم التمييز؟ ثبت من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة، فقال: "لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" (¬1). استدل بهذا الحديث من يرى تقديم العادة على التمييز في المسألة المشهورة: هل إذا كانت المرأة المستحاضة لها عادة وتمييز أيهما يقدم؟ وللفقهاء في تلك المسألة ثلاثة مسالك: الأول: تقديم التمييز على العادة. قال النووي (¬2): "وهو قول ابن سريج وابن إسحاق، وقال الماوردي: ¬
المطلب الثالث: هل تجب كفارة الجماع في نهار رمضان على الناسي ومن لم ينزل وعلى المرأة؟
هو مذهب الشافعي". الثاني: تقديم العادة على التمييز. قال ابن قدامة: "ظاهر كلام أحمد وقول أكثر الأصحاب" (¬1). وقال النووي: "وهو قول ابن خيران والاصطخري ومذهب أبي حنيفة وأحمد" (¬2). وقد استدل أصحاب هذا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصلها عن كونها مميزة أو لا، فدل ذلك على أن هذا الحكم عام فيها" (¬3). الثالث: إن أمكن الجمع بين العادة والتمييز حيضناها الجميع عملًا بالدليلين، وإن لم يمكن سقطا وكانت مبتدأة، قال النووي: "وهو ضعيف". والذي يختاره الباحث من ذلك هو القول الثاني عملًا بالقاعدة. المطلب الثالث: هل تجب كفارة الجماع في نهار رمضان على الناسي ومن لم ينزل وعلى المرأة؟ ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلكت، قال: "ما لك؟ "، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تجد رقبة تعتقها؟ "، قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، ¬
قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعَرَق فيها تمر - والعرق: المكتل -، قال: "أين السائل؟ "، فقال: أنا، قال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ثم قال: "أطعمه أهلك" (¬1). في هذا الحديث ثلاثة مسائل: الأولى: هل تجب الكفارة على من لم ينزل؟ الثانية: هل تجب الكفارة على الناسي؟ الثالثة: هل تجب الكفارة على المرأة التي جومعت؟ * أما الأولى: فقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الكفارة تجب على من جامع سواء أنزل أو لم ينزل (¬2). وعلل ابن قدامة مذهب عامة أهل العلم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الاستفصال من الأعرابي عن الإنزال فيعم الحالتين (¬3). ¬
* أما الثانية: فقد اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان ناسيًا على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الناسي كالعامد يجب عليه القضاء والكفارة. وقال به: عطاء (¬1)، وابن الماجشون (¬2)، ونص عليه أحمد وهو ظاهر مذهب الحنابلة (¬3)، واختيار ابن قدامة (¬4)، ونسبه ابن حجر للمالكية (¬5). والدليل على ذلك: أن ترك استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأعرابي عن جِمَاعه هل كان عن عمد أو نسيان دليل على وجوب الكفارة على العامد والناسي، إذ لو افترق الحال لسأل واستفصل، فترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول. أما قول الرجل: "هلكت" فيدل على أنه يعلم أن النسيان هنا لا يؤثر (¬6). ¬
القول الثاني: أن الناسي عليه القضاء دون الكفارة. وقال به: الأوزاعى والليث وربيعة ومالك، ورواية عن أحمد (¬1). ودليلهم على ذلك: قول الأعرابي في رواية: "احترقت"، وفي رواية أخرى: "ما أراني إلا هلكت" دليل على أنه كان عامدًا؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك. وأنه يبعد جدًّا أن يجامع في نهار رمضان ناسيًا. وأن الكفارة لمحو الإثم وهو مرفوع عن الناسي. وأجاب أصحاب القول الأول: بأنه يجوز أن يخبر عن هلكته فيما يعتقده من الجماع مع النسيان من إفساد الصوم (¬2). القول الثالث: لا قضاء عليه ولا كفارة. وهو قول الحسن ومجاهد والثوري وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق وأبي ثور وداود وابن المنذر، ورواية عن أحمد رواها عنه أحمد بن القاسم ومال إليها أبو الخطاب من الحنابلة (¬3). ¬
واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" (¬1) والجماع في معنى الأكل والشرب. 2 - عموم حديث: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2). 3 - قول الأعرابي في الحديث: "هلكت" وفي رواية: "احترقت، يدل على أنه كان عامدًا؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك. والذي يراه الباحث هنا أن الترجيح متردد بين الأول والثالث، والأولى بالقبول هو القول الثالث إذ أن التنصيص على الأكل والشرب هنا قد خرج مخرج الغالب إذ لو فعل ما يفسد الصوم غير أكل والشرب - المنصوص عليهما - والجماع - المختلف فيه، ناسيًا لما فسد صومه فيكون المراد: من فَعل ما يبطل الصوم ناسيًا كونه صائمًا. ويؤيد ذلك: الحديث السابق: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وقول الأعرابي: "هلكت" فيه إشارة إلى نفي احتمال النسيان. ¬
* أما الثالثة: وهي هل يجب على المرأة كفارة إذا جومعت في نهار رمضان (¬1). فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: عليها كفارة. وهو قول أبي حنيفة ومالك وأبي ثور وابن المنذر وقول للشافعي ورواية عن أحمد واختيار أبي بكر (¬2) من الحنابلة (¬3). ودليلهم على ذلك: أنها هتكت صوم رمضان بالجماع فكان عليها الكفارة كالرجل لحديث الأعرابي. القول الثاني: ليس عليها كفارة. وهو قول الحسن والأوزاعي وأصح قولي الشافعي ورواية عن أحمد (¬4). ودليلهم على ذلك: ¬
أولًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت عن حكم المرأة في حديث الأعرابي، مع علمه بوقوع الجماع منها، فدل ذلك على أنه ليس عليها كفارة، فالمقام مقام بيان مع الحاجة، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة. واعترض علي ذلك بأنه يحتمل أن المرأة لم تكن صائمة، أو أن المرأة لم تعترف، واعتراف الزوج لا يوجب عليها الحكم، أو أن بيان الحكم للرجل بيان للمرأة، أو أنه عرف حال المرأة من حال زوجها. ثانيًا: رواية: "هلكت وأهلكت" دليل على أنه أكرهها فلذلك لم يجب عليها شيء. وأجيب عن ذلك بأن هذه الزيادة لم تثبت، ولو ثبتت فلا دلالة فيها، إذ قد يكون المعنى: هلكت بأن أوقعت بنفسي كفارة لا أستطيعها، وأهلكت نفسي بالإثم: أو أن المعنى أهلكت من طاوعتني بأن حملتها إثمًا. القول الثالث: أن عليها كفارة داخلة في كفارة زوجها. وهو أحد أقوال الشافعي (¬1). والذي يميل إليه الباحث أنه ليس عليها كفارة، وهو القول الثاني؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بشيء، والمقام مقام بيان، ولو كان الحكم يختلف باختلاف الأحوال لاستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - منها، والواقعة ذكرها الراوي على سبيل الاستشهاد، فيبعد أن يقع السؤال من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينقله الراوى، فهذا القول أقرب الأقوال لما ذُكر من قواعد. ¬
المطلب الرابع: هل نية المرأة في الرجوع إلى الزوج الأول تعتبر تحليلا للنكاح الثاني؟
المطلب الرابع: هل نية المرأة في الرجوع إلى الزوج الأول تعتبر تحليلًا للنكاح الثاني؟ ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت امرأة رفاعة القُرَظي - رضي الله عنهما - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فأبَتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير - رضي الله عنه - إنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟، لا حتى تذوقي عُسَيلته ويذوق عُسَيلَتك" (¬1). وفي رواية للبخاري أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحل للأول؟ قال: "لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول" (¬2). استدل بهذا الحديث من قال من الفقهاء بأن نية المرأة في الرجوع إلى الزوج الأول لا تعتبر تحليلًا للنكاح الثاني وهو قول مالك (¬3)، وأحمد، واختيار ابن تيمية. قال شيخ الإسلام: "لا فرق بين نية المرأة قبل العقد أو بعد العقد؛ لأن الحديث يعم الصورتين" (¬4). ¬
المطلب الخامس: جواز الصلاة في مرابض الغنم هل يشترط فيه السلامة من أبوالها وأبعارها؟
ووجه الدلالة: أن الحديث فيه إقرار للمرأة على أنها تريد أن ترجع إلى رفاعة، ومع ذلك لم تؤثر هذه النية بالمنع من الرجوع للزوج الأول ما دام الزوج الثاني قد جامعها، إذ لو كانت تلك النية مؤثرة لقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن نية رجوعك إلى رفاعة مانعة من ذلك، فلما لم يعترض النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك النية كان ذلك دليلًا على أن تلك النية غير مؤثرة، ثم إن ذلك يشمل ما لو كانت نية المرأة قبل العقد أو بعده لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم نية رجوعها ثم لم يستفصل، فدل ذلك على أنه لو كان له أثر في الحكم لاستفصل منها أكانت تلك النية قبل العقد أم بعده، فلما لم يستفصل دل ذلك على أنه لا يختلف الحكم بذلك. المطلب الخامس: جواز الصلاة في مرابض الغنم هل يشترط فيه السلامة من أبوالها وأبعارها؟ ثبت من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ"، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل"، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا" (¬1). ¬
دل هذا الحديث على إباحة الصلاة في مرابض الغنم، دون تفصيل بين أن تكون سليمة من أبعارها وأبوالها أم لا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل عن ذلك، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم (¬1). قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه اشترط أن تكون سليمة من أبعارها وأبوالها" (¬2). بل نقل النووي الاتفاق على إباحة الصلاة في مرابض الغنم (¬3). وفيه دليل أيضًا لما ذهب إليه عطاء، والنخعي، والثوري، ومالك، وأحمد، ومن الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والاصطخري والروياني (¬4) من طهارة بول وروث مأكول اللحم، إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الاستفصال من السائل أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها أم لا، والموضع موضع بيان ولم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أطلق الإذن (¬5). فسؤال الرجل عام ويشمل ما إذا كانت سليمة من أبوالها أو لم تكن فلما لم يستفصل دل ذلك على أنه لا يختلف الحكم بين الحالتين. ¬
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال بالنجاسة الشافعية في المشهور عنهم وكذلك أبو حنيفة وأبو يوسف. واستدلوا على ذلك بأدلة منها: - قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، قالوا: والعرب تستخبث هذا. - إطلاق الأحاديث التي فيها نجاسة البول فيحمل على أي بول كان. - قياسًا على غير مأكول اللحم وهو نجس بالاتفاق، لم يخالف في ذلك إلا ابن حزم (¬1). أما القائلون بالطهارة فاستدلوا بـ: - أن الأصل الطهارة حتى يثبت الدليل الناقل عن هذا الأصل، ولم يرد ما ينقل عنه، بل قد ورد ما يؤيده وهو ما رواه البخاري في صحيحه (¬2) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "قدم أناس من عكل - أو عرينة - فاجتَوَوُا المدينة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها. . ."، فقالوا: لو كانت نجسة لما جاز شربها. واعترض عليهم: بأن ذلك كان لأجل التداوي. وأجيب عليه: بأنه لو كان ذلك لأمرهم بغسل أفواههم. ¬
- ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال من السائل عن الصلاة في مرابض الغنم هل هناك ما يحول بين أبعارها أم لا. - ترك أهل العلم أبعار الغنم تباع في أسواقهم واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير. واعترض عليه بأن المختلف فيه اختلافًا سائغًا لا إنكار فيه (¬1). وعلى أية حال فالمسألة طويلة النزاع والغرض هنا إثبات الاستدلال بالقاعدة على القول بالطهارة. ¬
نتائج الدراسة وتوصياتها
نتائج الدراسة وتوصياتها لقد توصلت الدراسة إلى العديد من النتائج كان من أهمها وأبرزها ما يلي: * أن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له جانب تشريعي هام لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه، ولابد للمجتهد من معرفته، وذلك لتوقف الحكم في كثير من مسائل النوازل والبدع والمصالح المرسلة عليه. * لا يصح القول بأن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الإباحة مطلقًا، وكذلك لا يصح القول بأنه يدل على البدعية مطلقًا، فكلا التعميمين غير صحيح، وما توصلت إليه الدراسة التفصيل بين أنواع التروك، فمنها ما يدل على الإباحة، ومنها ما يدل على التحريم والبدعية، ومنها ما يدل على الكراهة، على ما ذكر من دلالة كل نوع. * الترك وثيق العلاقة بباب المقاصد، ولا يكتمل البحث في المقاصد دون البحث في الترك، فمجال البحث التطبيقي في المقاصد لا يكتمل إلا بتناول جانب الترك، وحبذا لو قام باحث بدراسة مستقلة يتناول فيها العلاقة بين جانب الترك وبين جانب المقاصد حتى تتضح ملامح تلك العلاقة، وتكيف أصوليًّا وفقهيًّا. * ظهر من خلال الدراسة أن هناك كثيرًا من المسائل الأصولية مازالت تحتاج إلى البحث المستقلى، بل إن كثيرًا منها تحتاج إلى أن تبحث من منظور فقهي تطبيقي، وذلك لأن جوانب الأصل لن تتضح بجلاء حتى تتضح المسائل والفروع المتعلقة بها.
- المصالح المرسلة
ومن تلك المسائل: - المصالح المرسلة: فبالرغم من الدراسات التي قدمت في باب المصلحة، إلا أن المصالح المرسلة ما زالت تحتاج إلى من يخصها بالدراسة المستقلة، ولابد من اعتبار الجانب التطبيقي الفقهي، فتبحث من منظور فقهي وأصولي معًا دون الاكتفاء بأحدهما عن الآخر. - الإقرار: فبالرغم من شيوع هذه المسألة في كتب الأصول، إلا أن لها من المتعلقات والجزئيات والمسائل الفرعية المتناثرة في الأبواب الفقهية ما يقتضي أن يقوم باحث بجمع شتات تلك المسائل وبحثها في مكان واحد. - وسائل العبادات: وهي من المسائل المستحدثة التي لا يكاد يوجد للمتقدمين فيها نصوص مباشرة، والبحث فيها من الأهمية بمكان، إذ إن هذه المسألة لا غنى لمن يبحث في باب المقاصد أو البدع أو الاستحسان عن التطرق إلى هذه المسألة.
بهذا القدر أكون قد وصلت إلى ختام هذه الدراسة، وأسأل الله عز وجل أن يعصمني من الزلل، وأن يرزقني التوفيق في القول والعمل، وأن يجعل هذه الدراسة في ميزان حسناتي يوم القيامة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملخص الدراسة
ملخص الدراسة في نهاية هذه الدراسة ألخصها في النقاط التالية: - ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو عدم فعله لما كان مقدورًا له كونًا، وهو ينقسم إلى نوعين: الأول: ترك وجودي وهو الكف، وجمهور الأصوليين على أنه فعل. الثاني: ترك عدمي، وهو ليس بفعل. - النبي - صلى الله عليه وسلم - يُتَأسى به في الترك - كما يُتَأسى به في الفعل - والتأسي به في الترك واجب، ومعنى ذلك الوجوب أن حكم الترك في حقنا كحكمه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يقوم دليل على خصوصيته بذلك الترك. - السبيل إلى معرفة ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أمرين: الأول: أن يعلم بطريق النقل، وهذا يثبت به الترك الوجودي. الثاني: عدم نقل ما لو فعله لنقل، وهذا يثبت به الترك العدمي. - الترك الوجودي هو الترك المنقول، وينقسم إلى نوعين: الأول: الترك المسبب: وهو ما نقل سببه، وتعرف دلالته من خلال اعتبار سببه. والأسباب التي ورد النقل بها هي: الترك لأجل الخصوصية، ولأجل المفسدة، ولأجل الإنكار، ولأجل المرض، ولأجل النسيان، ولمجرد الطبع، ولأجل مراجعة الصحابة، ولأجل ألا يفرض العمل، ولأجل مراعاة حال الآخرين، ولأجل بيان التشريع، ولأجل مانع يخبر به.
القسم الأول
الثاني: الترك المطلق: وهو ما لم ينقل سببه، وينقسم باعتبار دلالته إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الترك الذي وقع به بيان مجمل: وهذا لا يجوز الزيادة عليه أو النقصان منه. القسم الثاني: الترك الذي تناوله بيان قولي: وهذا يستفاد حكمه من القول لا من مجرد الترك. القسم الثالث: الترك المجرد: وهو ما سوى القسمين السابقين، وهذا النوع يدل على التحريم في جانب العبادات، والكراهة في غيرها من العادات والمعاملات. - إذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعل وتركه فإن الترك هنا صارف للوجوب المستفاد من الأمر، وإذا تعارض فعله مع تركه حمل الفعل عل حالة والترك على حالة أخرى. - الإقرار أحد أنواع الترك الوجودي، وهو يدل على صحة المقر عليه، وهو الكف عن الإنكار، ويكون على القول وعلى الفعل. - يدخل في أنواع الإقرار: ما اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بأن كان في حضرته أو في غيبته وعلم به، أو لم ينقل إلينا أنه علم به، لكن كان على نحو يبعد ألا يعلم به، ويلحق به: قول الصحابي: كنا نفعل وكانوا يفعلون فقول الصحابي ذلك في معرض الاستدلال حجة.
- ترك ما همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يلحق بالترك الوجودي وهو على نوعين: ترك لما همَّ به له سبب وهذا يلحق بالترك المسبب، وترك ما همَّ به دون بيان سببه وهذا يلحق بالترك المطلق. - ما ترك نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ينقسم إلى نوعين: الأول: ما لم يكن مقدورًا له - صلى الله عليه وسلم -، وهذا النوع يعرف حكمه بطريق القياس. الثاني: ما كان مقدورًا له - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الترك العدمي، وهو النوع الثاني من أنواع ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان له مقتضى على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يمنع منه مانع، وهذا القسم إما أن يكون في جانب العبادات فيدل على بدعية الفعل، وإما في جانب العادات والمعاملات فيدل على أن المصالح التي تنبني عليها تلك الأفعال مصالح موهومة. القسم الثاني: ما لم يكن له مقتضى على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم حدث ذلك المقتضى بعد، وهذا لا يكون في جانب العبادات بل يكون في جانب المعاملات والعادات والسياسة الشرعية، والأصل فيه الإباحة والجواز، وقد يكون مصلحة مرسلة وذلك إذا استوفى شروطها. - الأصل في الأشياء والعبادات: أصل عظيم تنبني كثير من دلالة الترك عليه وهو في الأشياء الإباحة وفي العبادات المنع.
- البدعة في اصطلاح العلماء تطلق بإطلاقين: الأول: كل محدث في الدين، وبهذا المعنى لا تكون إلا ضلالة. الثاني: كل محدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي بهذا المعنى تنقسم إلى الأقسام الخمسة للأحكام الشرعية. والكل متفق على أن البدعة الشرعية لا تكون إلا ضلالة، فالخلاف بين الطريقين لفظي. - المصلحة المرسلة هي تلك المصلحة الباقية على الأصل، لكن القول باعتبارها يؤدي إلى التعدي على أصل ثابت أو حق معتبر، ولذا فيشترط لاعتبارها أن تكون معقولة المعنى، ملائمة لمقصود الشارع وأن تكون حقيقية راجعة إلى رفع الحرج عن المكلفين. - مما يلحق بالترك العدمي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للاستفصال في حكاية الحال، وهذا حكمه أنه ينزل منزلة العموم من المقال.
كشاف إحالات الكنى
كشاف إحالات الكنى (ابن) ابن أمير الحاج = محمد بن محمد بن الحسن الحلبي ابن برهان = أحمد بن علي بن برهان ابن بطال = علي بن خلف بن بطال ابن تيمية الجد = عبد السلام بن عبد الله بن الخضر ابن الجوزي = عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن الحاج = محمد بن محمد بن محمد العبدري ابن الحاجب = عثمان بن أبي بكر بن يونس ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي بن محمد بن محمد ابن حجر الهيتمي = أحمد بن محمد بن علي بن حجر ابن حزم = علي بن أحمد بن سعيد ابن خيران = الحسين بن صالح ابن دقيق العيد = محمد بن علي بن وهب الله أبي الطاعة ابن راهويه = إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم ابن رجب = عبد الرحمن بن أحمد بن رجب ابن رشيق = الحسين بن أبي الفضائل ابن سريج = أحمد بن عمر بن سريج ابن السمعاني = منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن الشاط = قاسم بن عبد الله بن محمد
ابن الصلاح = عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان ابن عبد البر = يوسف بن عبد الله بن محمد ابن العربي = محمد بن عبد الله بن محمد ابن عرفة = محمد بن عرفة ابن عقيل = علي بن عقيل بن محمد ابن فورك = محمد بن الحسن بن فورك ابن اللحام = علي بن محمد بن علي بن عباس ابن الماجشون = عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله ابن مفلح = إبراهيم بن محمد بن عبد الله ابن المنذر = محمد بن إبراهيم بن المنذر ابن النجار الفتوحي = محمد بن أحمد بن عبد العزيز ابن نجيم = زين الدين بن إبراهيم بن محمد ابن الوزير = محمد بن إبراهيم بن علي (أبو) أبو بكر الباقلاني = محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر السرخسي = محمد بن أحمد بن أبي سهل أبو بكر الصيرفي = محمد بن عبد الله الصيرفي أبو ثور = إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو حامد المروزي = أحمد بن بشر عامر العامري أبو الحسين البصري = محمد بن علي بن الطيب أبو الخطاب الكلوذاني = محفوظ بن أحمد بن حسن أبو شامة = عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم
أبو علي الطبري = الحسن القاسم الطبري أبو قلابة = عبد الله بن زيد بن عمرو أبو مجلز = لاحق بن حميد بن سعيد أبو معشر المدني = نجيح بن عبد الرحمن السندي أبو هاشم الجبائي = عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب
كشاف إحالات الألقاب
كشاف إحالات الألقاب الأبياري = علي بن إسماعيل بن علي الإسنوي = عبد الرحيم بن الحسن بن علي الاصطخري = الحسن بن أحمد بن يزيد الأشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق إلكيا الهراسي = علي بن محمد بن علي الطبري الآمدي = علي بن أبي علي محمد بن سالم الأنصاري = سليمان بن ناصر بن عمران الأوزاعي = عبد الرحمن بن عمرو الإيجي = عضد الدين الإيجي = عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار البيضاوي = عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي الخطابي = حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطيب البغدادي = أحمد بن علي بن ثابت الخلال = أحمد بن محمد بن هارون الحسن البصري = الحسن بن أبي الحسن يسار الرازي = فخر الدين الرازي = محمد بن عمر بن الحسين ربيعة الرأي = ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ الرملي = محمد بن أحمد بن حمزة الزرقاني = محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزركشي = محمد بن بهادر الزهري = محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب
الزين بن المنير = أحمد بن منصور الجذامي السبكي = تاج الدين السبكي = عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السخاوي = محمد بن عبد الرحمن بن محمد السهروردي = يحيى بن حبش بن أميرك الشاطبي = إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشعبي = عامر بن شراحيل الهمداني الشوكاني = محمد بن علي بن محمد الصنعاني = محمد بن إسماعيل بن صلاح العز بن عبد السلام = عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم العلائي = صلاح الدين خليل بن كيكلدي عميرة = أحمد البرلسي الغزالي = محمد بن محمد بن محمد زين الدين الطوسي غلام الخلال = عبد العزيز بن جعفر بن أحمد الفاكهاني = عمر بن علي بن سالم بن صدقة القاضي الأحمد = عبد النبي الأحمد النكري القاضي عياض = عياض بن موسى بن عياض القرافي = أحمد بن إدريس الصنهاجي القشيري = عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن قليوبي = أحمد بن أحمد بن سلامة القفال = عبد الله بن أحمد بن عبد الله الكرابيسي = أسعد بن محمد بن الحسين الكرماني = محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكوراني = أحمد بن إسماعيل بن عثمان
المحلي = الجلال المحلي = محمد بن أحمد بن إبراهيم المرداوي = علي بن سليمان بن أحمد المزني = إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المقريزي = أحمد بن علي بن عبد القادر النخعي = إبراهيم بن يزيد بن قيس النووي = يحيى بن شرف
ثبت المصادر والمراجع
ثبت المصادر والمراجع - الإبداع في مضار الابتداع. تأليف علي محفوظ، دار الاعتصام، ط. الخامسة. - إجابة السائل شرح بغية الآمل. تصنيف: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: القاضي حسين بن أحمد السياغي، د/ حسن محمد مقبول الأهدل، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط. الأولى (1986 م). - الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف - الرياض، ط. الأولى من الطبعة الجديدة (1420 هـ - 2000 م). - أحكام الجنائز وبدعها. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف - الرياض، ط. الأولى (1412 هـ - 1992 م). - الإحكام في أصول الأحكام. تصنيف: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، تحقيق: د/ محمود حامد عثمان، دار الحديث - القاهرة، ط. الأولى (1419 هـ - 1998 م). - الأحكام في أصول الأحكام. تصنيف: علي بن محمد الآمدي، تعليق: الشيخ عبد الرازق عفيفي، دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط. الأولى (1424 هـ - 2003 م). - إحياء علوم الدين. تصنيف: أبي حامد الغزالي، دار الشعب. - الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين وتطبيقاتها المعاصرة. تصنيف: د/ مصلح عبد الحي النجار، مكتبة الرشد، ط. الأولى (1424 هـ - 2003 م). - الأذكار من كلام سيد الأبرار. تصنيف: الإمام الحافظ محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي الشافعي، إعداد: مركز الدراسات والبحوث
بمكتبة نزار الباز، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة - الرياض، ط. الأولى (1417 هـ - 1997 م). - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. تصنيف: الإمام محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: أبو حفص سامي بن العربي الأثري، دار الفضيلة - الرياض، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد. تصنيف: محمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق: صلاح الدين مقبول أحمد، الدار السلفية - الكويت، ط. الأولى (1405 هـ). - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت، ط. الثانية (1405 هـ - 1985 م). - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار. تصنيف: أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي (368 هـ - 463 هـ)، تحقيق: د/ عبد المعطي أمين القلعجي، دار قتيبة للطباعة والنشر - دمشق - بيروت، دار الوعي - حلب - القاهرة، ط. الأولى (1414 هـ - 1993 م). - الاستقامة. تصنيف: أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود - المدينة المنورة، ط. الأولى (1403 هـ). - الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تصنيف: الحافظ أبي عمر بن عبد البر القرطبي النمري (ت / 463 هـ)، صححه وخرج أحاديثه: عادل مرشد، دار الأعلام، ط. الأولى (1423 هـ - 2002 م). - أسنى المطالب. في شرح روض الطالب. تأليف: شيخ الإسلام زكريا
الأنصاري، تحقيق: د/ محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1422 هـ - 2000 م). - الأشباه والنظائر. تأليف: تاج الدين بن عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي. تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد عوض، دار الكتب العلمية، ط. الأولى (1411 هـ - 1991 م). - الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. تصنيف: العلامة الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1419 هـ - 1999 م). - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية. تصنيف: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. (1422 هـ - 2001 م). - الإشراف على مذاهب العلماء. تصنيف: أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر، تحقيق: د/ أبي حماد صغير أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية - الإمارات العربية المتحدة، ط. الأولى (1428 هـ - 2007 م). - أصل صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنك تراها. تأليف: العلامة المحدث ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض، ط. الأولى (1427 هـ - 2006 م). - أصول السرخسي. تصنيف: الإمام الفقيه أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت/ 490 هـ)، حقق أصوله: أبو الوفا الأفغاني، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الثانية (1426 هـ - 2005 م).
- أصول الشاشي. تصنيف: نظام الدين الشاشي الحنفي، علق عليه: مولانا بركة الله بن محمد اللكنوي، خرج أحاديث وقدم له: أبو الحسين عبد المجيد المرادزهي الخاشي، دار ابن كثير، ط. الأولى (1428 هـ - 2007 م). - أصول الفقه. تصنيف: شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، تحقيق: د/ فهد بن محمد السدحان، مكتبة العبيكان - الرياض، ط. الأولى (1420 هـ - 1999 م). - أصول الفقه الميسر. تأليف: الدكتور شعبان محمد إسماعيل، دار الكتاب الجامعي - القاهرة، ط. الأولى (1415 هـ - 1994 م). - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. تصنيف: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، ط. (1408 هـ - 1988 م). - الأعلام. تصنيف: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين - بيروت - لبنان، ط. الخامسة عشرة (مايو 2002). - إعلام الموقعين عن رب العالمين. تصنيف: أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، أبو عمر أحمد عبد الله أحمد، دار ابن الجوزي -، ط. الأولى (1423 هـ). - أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية. تأليف: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان، ط. السادسة (1424 هـ - 2003 م). - الإقناع لطالب الانتفاع. تصنيف: شرف الدين موسى بن أحمد بن موسى بن سالم أبي النجا الحجاوي المقدسي، تحقيق: د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، طبعة خاصة بدارة الملك عبد العزيز، ط. الثالثة (1423 هـ - 2002 م).
- الأم. تصنيف: الإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق وتخريج: د/ رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء للطباعة والنشر - المنصورة - ج. م. ع، ط. الأولى (1422 هـ - 2001 م). - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. تأليف: علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان بن أحمد المرداوي (ت/ 885 هـ)، دار هجر (مطبوع مع المقنع)، ط. الأولى (1414 هـ - 1993 م). - أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـ (تفسير البيضاوي). تصنيف: ناصر الدين أبي سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، تقديم: محمود عبد القادر الأرناؤوط، دار صادر - بيروت، ط. الأولى (2001 م). - أنباء الغمر بأبناء العمر. تصنيف: الحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق: د/ حسن حبشي، وزارة الأوقاف - جمهورية مصر العربية - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - لجنة إحياء التراث، ط. (1418 هـ - 1998 م). - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد. تصنيف: محمد بن نصر المرتضدي اليماني - المعروف بابن الوزير اليماني -، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الثانية (1987 م). - الباعث على أنكار البدع والحوادث. تصنيف: الإمام شهاب الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم - المعروف بأبي شامة - الشافعي، مطبعة النهضة الحديثة - مكة، ط. الثانية (1401 هـ - 1981 م). - بحر العلوم. تأليف: نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، تحقيق: د/ محمود مطرجي، دار الفكر - بيروت. - البحر المحيط في أصول الفقه. تصنيف: بدر الدين محمد بهادر بن عبد الله
الزركشي الشافعي، تحرير: عبد القادر عبد الله خلف العافي، عمر سليمان الأشقر، عبد الستار عبد الكريم أبو غدة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط. الثانية (1992 م). - بحوث في العربية المعاصرة. تأليف: د/ وفاء كامل، عالم الكتب. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. تصنيف: علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الثانية (1406 هـ - 1986 م). - بداية المجتهد ونهاية المقتصد. تصنيف: القاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي (ت/ 595)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1418 هـ - 1997 م). - البداية والنهاية. تصنيف: الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (701 - 774 هـ)، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي، دار هجر. - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. تصنيف: محمد بن علي الشوكاني، دار المعرف - بيروت. - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير. تصنيف: سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بـ "ابن الملقن"، تحقيق: مصطفى أبو الغيط عبد الحي، أبي محمد عبد الله بن سليمان، أبي عمار ياسر بن كمال، دار الهجرة للنشر والتوزيع، ط. الأولى (1425 هـ - 2004 م). - البرهان في أصول الفقه. تصنيف: إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف (419 هـ - 478 هـ)، حققه وقدمه ووضع فهارسه: د/ عبد العظيم
الديب - كلية الشريعة - جامعة قطر، طبع على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني - أمير دولة قطر -، ط. الأولى (1399 هـ). - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. تصنيف: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: الأستاذ محمد علي النجار، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة، لجنة إحياء التراث، ط. الثالثة (1416 هـ - 1996 م). - بُغْيَةُ الرَّائد في تحقيق مَجْمَع الروائد ومَنْبَع الفَوائد "المجمع". تصنيف: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت/ 807)، محقق المجمع (أو صاحب كتاب بغية الرائد)، عبد الله محمد الدَّرويش، دار الفكر - بيروت - لبنان، (1414 هـ - 1994 م). - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. تصنيف: جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية - لبنان - صيدا. - تاج التراجم. تصنيف: أبي الفداء زين الدين قاسم بن قطلوبغا السودوني، حققه وقدم له: محمد خير رمضان يوسف، دار القلم - دمشق، ط. الأولى (1413 هـ - 1992 م). - تاج العروس من جواهر القاموس. تصنيف: محب الدين أبي الفيضي السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي، بتحقيق مجموعة من العلماء، وزارة الإرشاد في الكويت، مطبعة حكومة الكويت. - تاج اللغة وصحاح العربية. تصنيف: إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط. الأولى - القاهرة (1376 هـ - 1956 م)، ط. الثانية - بيروت (1399 هـ - 1979 م). - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. تصنيف: الحافظ شمس الدين
محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب - العربي - بيروت، ط. الثانية (1410 هـ - 1990 م). - تأريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها [المعروف باسم (تاريخ بغداد)]. تصنيف: الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: د/ بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط. الأولى (1422 هـ - 2001 م). - تبيين العجب بما ورد في فضل رجب. تصنيف: أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي أسماء إبراهيم بن إسماعيل آل عصر. - التحبير شرح التحرير في أصول الفقه. تصنيف: علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي، تحقيق: عوض بن محمد القرني، مكتبة الرشد - الرياض - السعودية، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. تصنيف: الإمام الحافظ أبي العلى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، ضبطه وراجع أصوله وصححه: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر. - تحفة المحتاج شرح المنهاج. تأليف: شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي، مطبوع بهامش حواشي تحفة المحتاج للشرواني، وأحمد العبادي، المكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد - مصر. - تحفة المسئول في شرح مختصر منتهى السول. تصنيف: أبي زكريا يحيى بن موسى الرهوني، دراسة وتحقيق: د/ الهادي بن الحسين شبيلي، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، ط. الأولى (1422 هـ - 2002 م). - تذكرة الحفاظ. تصنيف: الإمام أبي عبد الله شمس الدين محمد الذهبي،
صحح عن النسخة القديمة المحفوظة في مكتبة الحرم المكي تحت إعانة وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان (1375 هـ - 1955 م). - تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي. تصنيف الإمام بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، دراسة وتحقيق: د/ عبد الله ربيع، د/ عسير عبد العزيز، مؤسسة قرطبة، ط. الثالثة (1999 م). - التعريفات. تصنيف: علي بن محمد بن علي الجرجاني (ت/ 816 هـ)، تحقيق: إبراهيم الإبياري، دار الريان للتراث. - تعليل الأحكام: عرض وتحليل لطريقة التعليل وتطوراتها في عصور الاجتهاد والتقليد. بقلم: محمد مصطفى شلبي، مطبعة الأزهر (1947 هـ). - تفسير ابن عرفة المالكي. تأليف: أبي عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغني، تحقيق: د/ حسين المناعي، مركز البحوث بالكلية الزيتونية - تونس، ط. الأولى (1986 م). - تفسير البحر المحيط. تصنيف: محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية - لبنان - بيروت، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، ط. الأولى (1422 هـ - 2001 م). - تفسير النسفي. تصنيف: أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، تحقيق: الشيخ مروان محمد السقار، دار النفائس - بيروت، طبعة (2005 م). - التقرير والتحبير في علم الأصول. تصنيف: ابن أمير الحاج، دار الفكر - بيروت، ط. (1417 هـ - 1996 م). - تلبيس أبليس. تصنيف: الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي،
دراسة وتحقيق: د/ أحمد بن عثمان المزيد، إشراف: الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر البراك، دار الوطن للنشر، ط. الأولى (1423 هـ - 2002 م). - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. تصنيف: أبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني الشافعي، اعتنى به وعلق عليه: أبو عاصم حسن بن عباس بن قطبي، مؤسسة قرطبة، ط. الأولى (1416 هـ - 1995 م). - التمهيد في أصول الفقه. تصنيف: محفوظ بن أحمد بن الحسن أبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي (510 هـ)، تحقيق: د/ محمد بن علي بن إبراهيم، جامعة أم القرى، ط. الأولى (1406 هـ - 1985 م). - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول. تصنيف: الإمام جمال الدين أبي محمد عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي، تحقيق: د/ محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، ط. الثانية (1401 هـ - 1981 م). - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (مرتبًا على الأبواب الفقهية للموطأ). تصنيف: أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق: أسامة بن إبراهيم، دار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، ط. الثالثة (1424 هـ - 2003 م). - تهذيب الأسماء واللغات. تصنيف: أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ومقابلة أصوله (شركة العلماء)، بمساعدة: إدارة الطباعة المنيرية. - التهذيب في اختصار المدونة. تصنيف: أبي سعيد البراذعي، دراسة وتحقيق: محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، راجعه أ. د/ أحمد علي الأزرق، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، ط. الأولى (1420 هـ - 1999 م).
- تهذيب الكمال في أسماء الرجال. تصنيف: الحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي (654 هـ - 742 هـ)، تحقيق: د/ بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1413 هـ - 1992 م). - تهذيب اللغة. تصنيف: أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: علي حسن هلالي، مراجعة الأستاذ: محمد علي النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة. - تيسير علم أصول الفقه. تأليف: عبد الله بن يوسف الجُدَيْع، مؤسسة الريَّان، ط. الثالثة (1425 هـ - 2004 م). - الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. تصنيف: أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، المكتبة الثقافية - بيروت - لبنان. - جامع الفقه موسوعة الأعمال الكاملة للإمام ابن القيم. جمع وتوثيق وتخريج: يسري السيد محمد، دار الوفاء، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - الجامع لشعب الإيمان. تصنيف: أبي بكر بن محمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: د/ علي العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد (ناشرون) ط. الأولى: (1423 هـ - 2003 م). - الجوهر النقي. تصنيف: علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني، الشهير بـ "ابن التركماني"، مطبوع في ذيل (السنن الكبرى للبيهقي)، مكتبة ابن تيمية. - حاشية العطار على شرح جمع الجوامع. تصنيف: الشيخ حسن العطار على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع للإمام ابن السبكي، دار الكتب - بيروت - لبنان. - الحاوي للفتاوى في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو
والإعراب وسائر الفنون. تصنيف: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان (1402 هـ - 1982 م). - الحدود في الأصول (الحدود والمواضعات). تصنيف: أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، قرأه وقدَّم له وعلق عليه: محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط. الأولى (1999 م). - حسن التفهم والدرك لمسألة الترك. تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديق الغماري، مطبوعة ضمن مجموعة رسائل له أولها: إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة، وهي الرسالة الأخيرة. - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. تصنيف: الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط. الأولى (1967 م - 1387 هـ). - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. تصنيف: الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد - الهند، ط. الثانية (1392 هـ - 1972 م). - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. تصنيف: إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المالكي، دراسة وتحقيق: مأمون بن محي الدين الجنَّان، دار الكتب العلمية - بيروت، ط. الأولى (1417 هـ - 1996 م). - رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار (حاشية ابن عابدين) لمحمد أمين الشهير بابن عابدين. تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار عالم الكتب، طبعة خاصة (1423 هـ - 2003 م).
- رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي. تصنيف: مجموعة من العلماء، دار العاصمة، طبعة حديثة (1425 هـ - 2006 م). - رؤية أصولية لتروك النبي - صلى الله عليه وسلم -. تأليف: الدكتور صالح قادر كريم الزنكي، بحث نشر بمجلة الحكمة العدد الثاني والعشرين محرم 1422 هـ، بريطانيا - ليدز. - روضة الناظر وجنة المناظر في علم الأصول. تصنيف: شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، قرأه وعلق عليه: د/ سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري، دار الحبيب - الرياض، مكتبة العبيكان - الرياض، ط. الأولى (1422 هـ). - رياض الصالحين. تصنيف: الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي (631 هـ - 676 هـ)، دار الريان للتراث. - سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام. تصنيف: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، اعتنى به: نشأت كمال، دار البصيرة - الإسكندرية - مصر. - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة. تصنيف: محمد بن عبد الله بن حميد النجدي الحنبلي مفتي الحنابلة بمكة المكرمة، مكتبة الإمام أحمد. - السراج الوهاج في شرح المنهاج. تأليف: فخر الدين أحمد بن حسن بن يوسف الجاربردي، تحقيق: د/ أكرم بن محمد بن حسين أوزيقان، دار المعراج الدولية للنشر - الرياض - السعودية، ط. الأولى (1416 هـ - 1996 م). - سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر. تصنيف: أبي الفضل محمد خليل بن علي المُرادي، دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة. - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. تصنيف: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط. (1415 هـ - 1995 م).
- سنن الدارقطني. تصنيف: الإمام علي بن عمر الدارقطني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، طبعة وقفية غير ربحية توزع مجانًا على نفقة الأمير متعب بن عبد العزيز آل سعود. - سنن الدارمي. تصنيف: الحافظ عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، دار الريان للتراث، ط. الأولى (1407 هـ - 1987 م). - السنن الكبرى. تصنيف: أبي بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، مكتبة ابن تيمية، (طبعة مصورة من طبعة الهند) بدون تاريخ وبدون رقم للطبعة. - السنن والمبتدعات. المتعلقة بالأذكار والصلوات، تصنيف: محمد عبد السلام الشقيري، مكتبة ابن تيمية. - سير أعلام النبلاء. تصنيف: الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1417 هـ - 1997 م). - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار. تصنيف: شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى. - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية. تصنيف: محمد بن محمد مخلوف، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب. تصنيف: ابن العماد الإمام شهاب الدين أبي الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الحنبلي الدمشقي، حققه:
عبد القادر الأرناؤوط، ومحمود الأرناؤوط، دار ابن كثير - دمشق - بيروت، ط. الأولى (1406 هـ - 1986 م). - شرح حدود ابن عرفة الموسوم بـ (الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية). تأليف: أبي عبد الله محمد الأنصاري الرصاع، تحقيق: محمد أبو الأجفان، والطاهر المعموري، دار الغرب الإسلامي - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1993 م). - شرح الزركشي على مختصر الخرقي. تصنيف: شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق وتخريج: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين، أشرف على طبعه: محمد بن حمد المنيع، دار الأفهام للنشر والتوزيع، ط. الثالثة (1424 هـ - 2003 م). - شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير. تصنيف: الشيخ محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار، تحقيق: د/ نزيه حماد، ود/ محمد الزحيلي، مكتبة العبيكان، ط. (1997 م). - شرح اللمع. تصنيف: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ط. الأولى (1408 هـ - 1988 م). - شرح مختصر الروضة. تصنيف: نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم أبي سعيد الطوفي، تحقيق: د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الرابعة (2003 م). - شرح مختصر خليل. تصنيف: محمد بن عبد الله المالكي الخرشي، دار الفكر للطباعة - بيروت.
- شرح المعالم في أصول الفقه. تصنيف: ابن التلمساني، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، عالم الكتب، ط. الأولى (1990 م). - شرح منتهى الإرادات - دقائق أولي النهى لشرح المنتهى -. تصنيف: الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق: د/ عبد الله عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - شرح المنهاج للبيضاوي في علم الأصول. تصنيف: شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني، قدم له وعلق عليه: د/ عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، مكتبة الرشد - الرياض، ط. الأولى (1410 هـ). - شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الشافعي، بترتيب العلامة السندي. تأليف: أبي عمير مجدي بن محمد بن عرفات المصري الأثري، تقديم الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، مكتبة ابن تيمية القاهرة، توزيع مكتبة العلم بجدة، ط. الأولى (1416 هـ - 1996 م). - الشفا بتعريف حقوق المصطفى. تصنيف: العلامة القاضي أبي الفضل عياض اليحصبي، مذيل بالحاشية اللطيفة المسماة "مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء"، تأليف: العلامة أحمد بن محمد بن محمد الشُّمْنِّي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. - الصارم المسلول على شاتم الرسول. تصنيف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، تحقيق: أبي عمرو الأثري، دار ابن رجب، ط. الأولى (1424 هـ - 2003 م). - صحيح سنن أبي داود. تصنيف: الإمام الحافظ سلمان بن الأشعث السجستاني، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط. الأولى (1419 هـ - 1998 م).
- صحيح سنن ابن ماجه. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض، ط. الأولى (1417 هـ - 1997 م). - صحيح سنن الترمذي. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض، ط. الأولى (1420 هـ - 2000 م). - صحيح سنن النسائي. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزدع، ط. الأولى (1419 هـ - 1998 م). - صحيح مسلم. تصنيف: الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 - 261 هـ)، وقف على طبعه وتحقيق نصوصه وتصحيحه وترقيمه وعدَّ كتبه وأبوابه وأحاديثه، وعلق عليه ملخص شرح الإمام النووي مع زيادات من أئمة اللغة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر - لبنان - بيروت، ط. (1403 هـ - 1983 م). - ضعيف الترغيب والترهيب. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف - الرياض. - ضعيف الجامع الصغير وزيادته. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت، ط. الثالثة (1410 هـ - 1990 م). - ضعيف سنن ابن ماجه. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض، ط. الأولى (1417 هـ - 1997 م). - ضعيف سنن الترمذي. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض، ط. الأولى (1420 هـ - 2000 م). - ضعيف سنن النسائي. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزدع، ط. الأولى (1419 هـ - 1998 م).
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. تصنيف: المؤرخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار الجيل - بيروت، ط. الأولى (1412 هـ - 1992 م). - طبقات الحنابلة. تصنيف: القاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء، تحقيق: د/ عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، طبع جامعة أم القرى (1419 هـ - 1999 م). - طبقات الشافعية. تصنيف: أبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة، تحقيق: د/ الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب - بيروت، ط. الأولى (1407 هـ). - طبقات الشافعية الكبرى. تصنيف: تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: د/ محمود محمد الطناجي، د/ عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. الثانية. - الطبقات الكبير. تصنيف: محمد بن سعد بن منيع الزهري، تحقيق: د/ علي محمد عمر، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط. الأولى (1421 هـ - 2001 م). - العبر في خبر من غبر. تصنيف: الحافظ شمس الدين الذهبي، تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. - العدة في أصول الفقه. تصنيف: القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، تحقيق: د/ أحمد بن علي سير المباركي، ط. الثالثة (1414 هـ - 1993 م). - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. تأليف: الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي التميمي القرشي، قدم له وضبطه الشيخ: خليل الميس (مدير أزهر لبنان)، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1403 هـ - 1998 م).
- علم أصول الفقه. تأليف: عبد الوهاب خلاف، دار الحديث، (1423 هـ - 2003 م). - عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ. تصنيف: الشيخ أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحبلي، تحقيق: عبد السلام أحمد التنوجي، مكتب الإعلام والبحوث والنشر بجمعية الدعوة الإسلامية العالمية - بني غازي - ليبيا، ط. الأولى (1424 هـ - 1995 م). - عمدة القاري شرح صحيح البخاري. تصنيف: الإمام العلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني، ضبطه وصححه: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1421 هـ - 2001 م). - عون المعبود شرح سنن أبي داود. تصنيف: العلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، مع تعليقات: الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية، خرج أحاديثه: عصام الصبابطي، دار الحديث - القاهرة، ط. (1422 هـ - 2001 م). - غاية البيان شرح زبد ابن رسلان. تصنيف: محمد أحمد الرملي الأنصاري، دار المعرفة - بيروت. - غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي. تصنيف: شهاب الدين أحمد بن محمد مكي الحسيني الحموي الحنفي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1405 هـ - 1985 م). - الغيث الهامع شرح جمع الجوامع. تصنيف: ولي الدين أبي زرعة أحمد العراقي (ت/ 826 هـ)، تحقيق: مكتب قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، الفاروق الحديث للطباعة والنشر، ط. الأولى (2000 م). - الفتاوى الحديثية. شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي، دار الفكر.
- الفتاوى الكبرى. تصنيف: شيخ الإسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. - الفتاوى الهندية المعروفة بـ (الفتاوى العالمكيرَّية) في مذهب الإمام أبي حنيفة. تصنيف: العلامة الهمام مولانا الشيخ نظام، وجماعة من علماء الهند الأعلام، ضبطه وصححه: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - فتح الباري شرح صحيح البخاري. تصنيف: الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، رقّم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وتصحيح تجاربه: محب الدين الخطيب، راجعه: قصي محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث، ط. الثانية (1409 هـ - 1988 م). - فتح الباري شرح صحيح البخاري. تصنيف: الحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي (733 - 795 هـ)، تحقيق: ثمانية من المحققين، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية، ط. الأولى (1417 هـ - 1996 م). - الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق. تصنيف: الإمام أبي العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي، ضبطه وصححه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1418 هـ - 1998 م). - الفروق اللغوية. تأليف: أبي هلال العسكري. تحقيق: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع. - الفصل في الملل والأهواء والنحل. تصنيف: أبي محمد علي بن أحمد المعروف
بابن حزم الظاهري، تحقيق: د/ محمد إبراهيم نصر، د/ عبد الرحمن عميرة، شركة مكتبات عكاظ - الرياض، ط. الأولى (1402 هـ - 1982 م). - الفقيه والمتفقه. تصنيف: أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل بن يوسف عزازي، دار ابن الجوزي، ط. الأولى (جمادى الأولى 1417 هـ - 1997 م). - الفوائد البهية في تراجم الحنفية. تصنيف: العلامة أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، مع (التعليقات السنية على الفوائد البهية) لنفس المؤلف، تحقيق: السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعاني، دار المعرفة - بيروت - لبنان، دار الكتاب الإسلامي. - فَوَاتِحُ الرَّحَمُوتِ بِشَرْحِ مُسْلَّمِ الثُّبُوتِ. تصنيف: العلامة عبد العلي محمد بن نظام الدين محمد الهالوي الأنصاري اللكنوي، ضبطه وصححه: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1423 هـ - 2002 م). - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني. تصنيف: العلامة الشيخ أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النفراوي الأزهري المالكي، وهو شرح (الرسالة) للإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ضبطه وصححه وخرج أحاديثه: الشيخ عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1418 هـ - 1997 م). - فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير للسيوطي. تصنيف: المحدث محمد المدعو بعبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة - بيروت - لبنان، ط. الثانية (1391 هـ - 1972 م).
- القاموس الففهي لغة واصطلاحًا. تأليف: سعدي أبو جيب، دار الفكر، ط. (1402 هـ - 1982 م). - القاموس المحيط. تصنيف: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، إعداد وتقديم: محمد عبد الرحمن المرعَشلي، دار إحياء التراث العربي - مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان، ط. الثانية (1420 هـ - 2000 م). - قواطع الأدلة في الأصول. تصنيف: الإمام أبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، تحقيق محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، ط. الأولى (1997 م). - قواعد الأحكام في إصلاح الأنام واسمه (القواعد الكبرى). تصنيف: شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، تحقيق: د/ نزيه حماد، د/ عثمان خيرية، دار القلم - دمشق، ط. الأولى (1421 هـ - 2005 م). - قواعد الفقه. تأليف: محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، الصدف بلشرز - كراتشي، ط. الأولى (1407 هـ - 1986 م). - القواعد الكبرى الموسوم بـ (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام). تصنيف: شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق: د/ نزيه كمال حمَّاد، د/ عثمان جمعة صميريّة، دار القلم - دمشق، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية. تصنيف: أبي الحسن علاء الدين بن اللحام علي بن عباس البعلي الحنبلي، تحقيق وتصحيح محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، (1375 هـ - 1956 م). - القوانين الفقهية. تأليف: أبي القاسم محمد بن أحمد ابن جُزَيّ المالكي، تحقيق: عبد الله المنشاوي، دار الحديث - القاهرة، ط. (1426 هـ - 2005 م).
- الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل. تصنيف: شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، حققه وخرج أحاديثه: أبو إدريس محمد بن عبد الفتاح، دار العقيدة - الإسكندرية - مصر، ط. الأولى (1425 هـ - 2004 م). - كتاب المبسوط. تأليف: أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، قدم له: د/ كمال عبد العظيم العناني، دار الكتب العلمية، ط. الأولى (1421 هـ - 2001 م). - كتاب التلخيص في أصول الفقه. تصنيف: الإمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، تحقيق: د/ عبد الله جولم النّيبالي، وشبير أحمد العمري، دار البشائر الإسلامية، ط. الثانية (1428 هـ - 2007 م). - كتاب العين. تصنيف: أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د/ مهدي المخزومي، د/ إبر اهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال. - كتاب الفروع. تصنيف: العلامة الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، تحقيق: د/ عبد الله عبد المحسن التركي، دار المؤيد ومؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1424 هـ - 2003 م). - كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي. تصنيف: أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، تحقيق وتعليق وتكميل: محمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد - جدة - السعودية. - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. تصنيف: جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ضبطه: يوسف الحمادي، مكتبة مصر.
- كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي. تصنيف: الإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، ضبط وتعليق وتخريج: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، ط. الثالثة (1997 م). - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث بين الناس. تصنيف: الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني، مكتبة القدسي، ط. (1351 هـ). - كلمة علمية هادية في البدعة وأحكامها. تأليف: وهبي سليمان غاوجي الألباني، دار الإمام مسلم للنشر والتوزيع - بيروت، ط. الأولى (1412 هـ - 1991 م). - الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة. تأليف: الشيخ نجم الدين محمد بن محمد الغزّي (ت/ 1061 هـ)، وضع حواشيه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1418 هـ - 1997 م). - لباب المحصول في علم الأصول. تصنيف: العلامة الحسين بن رشيق المالكي (ت/ 632 هـ)، تحقيق: محمد غزالي عمر جابر، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، ط. الأولى. - لسان العرب. تصنيف: ابن منظور، دار الحديث - القاهرة (1423 هـ - 2003 م). - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. تصنيف: الإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي، تحقيق: عامر بن علي ياسين، دار ابن خزيمة - السعودية - الرياض، ط. الأولى (1428 هـ - 2007 م). - ليس من الإسلام. تأليف: محمد الغزالي، دار الشروق، ط. السادسة.
- اللمع في أصول الفقه. تصنيف: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، اعتنى به: أيمن صالح شعبان، المكتبة التوفيقية. - المبدع شرح المقنع. تصنيف: أبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1418 هـ - 1997 م). - مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية. المطابع الأميرية بالقاهرة (1951 هـ). - مجلة المنار. مجلة شهرية تبحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران، منشؤها: السيد محمد رشيد رضا، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة - مصر، ط. الثانية (1327 هـ). - مجمع الضمانات في مذهب الأمام الأعظم أبي حنيفة النعمان. تصنيف: أبي محمد بن غانم بن محمد البغدادي، تحقيق: د/ محمد أحمد سراج، د/ علي جمعة محمد، دار السلام - القاهرة، ط. الأولى (1420 هـ - 1999 م). - مجموع رسائل العلائي. تصنيف: الإمام الحافظ الأصولي صلاح الدين خليل بن كيكلدي بن عبد الله أبي سعيد العلائي، تحقيق: وائل محمد بكر زهران، دار الفاروق الحديثة للطباعة - القاهرة - مصر، ط. الأولى (1429 هـ - 2008 م) المجلد الأول، ط. الأولى (1430 هـ - 2009 م) المجلد الثاني. - مجموع الفتاوى. تصنيف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت/ 728 هـ)، اعتنى بها: مروان كجك، دار الكلمة الطيبة، ط. الأولى (1416 هـ - 1995 م). - المحصول في أصول الفقه. تصنيف: الإمام الحافظ الفقيه القاضي أبي بكر بن العربي المَعَافري المالكي، أخرجه واعتنى به: حسين علي اليدري, علق
على مواضع منه: سعيد عبد اللطيف فودة، دار البيارق، ط. الأولى (1420 هـ - 1999 م). - المحصول في علم أصول الفقه. تصنيف: الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، دراسة وتحقيق: د/ طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، ط. الثالثة (1997 م). - المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -. تصنيف: شهاب الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي المعروف بأبي شامة، تحقيق: أحمد الكويتي، مؤسسة قرطبة، ط. الثانية (1410 هـ). - المحكم والمحيط الأعظم. تصنيف: أبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي المعروف بابن سيده، تحقيق: د/ عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - المحلى. تصنيف: ابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث (بدون طبعة، وبدون سنة نشر). - مختار الصحاح. تصنيف: الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، دار الحديث - القاهرة، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - المدخل لابن الحاج. تصنيف: أبي عبد الله محمد بن محمد العبدري القاسمي المالكي الشهير بابن الحاج، قرأه وضبط نصه: الشيخ حسن أحمد عبد العال، المكتبة العصرية - صيدا - بيروت، ط. الأولى (1425 هـ - 2005 م). - مذكرة في أصول الفقه. تصنيف: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، دار الأصالة.
- المستدرك على الصحيحين. تصنيف: محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الحرمين، ط. الأولى (1417 هـ - 1997 م). - المستصفى من علم الأصول. تصنيف: الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، دراسة وتحقيق: د/ حمزة زهير حافظ. - مسند الإمام أحمد بن حنبل. حققه: شعيب الأرناؤوط، وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، ط. الثانية (1420 هـ - 1990 م). - مسند الشاميين. تصنيف: سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط. الأولى (1405 هـ - 1984 م). - المسودة في أصول الفقه لآل تيمية؛ أبي البركات عبد السلام بن تيمية، وولده أبي المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام، وحفيده أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، تحقيق: د/ أحمد بن إبراهيم بن عباس الذروي، دار الفضيلة - الرياض، ط. الأولى (2001 م). - مشاهير علماء نجد وغيرهم. تصنيف: عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، نشر بإشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، ط. الثانية (1394 هـ). - المصباح المنير. تصنيف: العلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقري، دار الحديث - القاهرة، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م). - المصلحة في التشريع الإسلامي. تأليف: د/ مصطفى زيد، تعليق وعناية: د/ محمد يسري إبراهيم، دار اليسر، ط. الثالثة (1427 هـ - 2006 م).
- المصفى في أصول الفقه. تصنيف: أحمد بن محمد بن علي الوزير، دار الفكر المعاصر - بيروت -، دار الفكر - دمشق، ط. إعادة (2002 م). - المُطْلِعُ على أبواب المُقْنِع. تصنيف: الإمام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي، المكتب الإسلامي - بيروت، ط. الثالثة (1421 هـ - 2000 م). - المعتمد في أصول الفقه. تصنيف: أبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي، تحقيق: محمد حميد الله بتعاون محمد بكر، حسن حنفي، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق (1384 هـ - 1964 م). - معجم البدع. يحتوي على ما وقع للمصنف مما قيل فيه إنه بدعة، تأليف: رائد بن صبري بن أبي علفة، دار العاصمة للنشر والتوزيع، ط. الأولى (1417 هـ - 1996 م). - المعجم الكبير. تصنيف: الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق وتخريج أحاديثه: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، ط. الثانية. - معجم لغة الفقهاء. وضعه أ. د. محمد رواس قلعه جي، د. حامد صادق قنيبي، دار النفائس، ط. الثانية (1408 هـ - 1988 م). - معجم المؤلفين. تراجيم مؤلفي الكتب العربية، تصنيف: عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1414 هـ - 1993 م). - معجم مقاييس اللغة. تصنيف: أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت/ 395)، تحقيق: عبد السلام هارون، ط. دار الفكر. - المعجم الوجيز. تصنيف: مجمع اللغة العربية بجمهورية مصر العربية، ط. (1411 هـ - 1991 م).
- المعجم الوسيط. تصنيف: مجمع اللغة العربية بجمهورية مصر العربية، مكتبة الشروق الدولية، ط. الرابعة (1425 هـ - 2004 م). - المُغْرِبْ في ترتيب المعرِبْ. تصنيف: الإمام اللغوي أبي الفتح ناصِر الدين المطرّزي (538 - 610 هـ)، تحقيق: محمود فاضوري، عبد الحميد مختار، مكتبة أسامة بن زيد - حلب - سورية، ط. الأولى (1399 هـ - 1979 م). - المغني. تصنيف: موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (541 - 620 هـ)، تحقيق: د/ عبد الله عبد المحسن التركي، د/ عبد الفتاح محمد الحلو، دار عالم الكتب، ط. الخامسة (1426 هـ - 2005 م). - المغني في أبواب التوحيد والعدل. إملاء: القاضي أبي الحسن عبد الجبار الأسد آبادي، تحقيق: الأستاذ/ محمد علي النجار، مراجعة: د/ إبراهيم مدكور، د/ عبد الحليم النجار، إشراف: د/ طه حسين. - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. تصنيف: الشيخ شمس الدين محمد بن الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، اعتني به: محمد خليل عناني، دار المعرفة - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1418 هـ - 1997 م). - مفردات ألفاظ القرآن. تصنيف: الراغب الأصفهاني، تحقيق: صنوان عدنان داوودي، دار القلم - دمشق - الدار الشامية - بيروت، ط. الأولى (1412 هـ - 1992). - مقاصد الشريعة الإسلامية. تأليف: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، ط. الثانية (1421 هـ - 2001 م).
- المقنع. تصنيف: موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (ت / 620 هـ)، دار هجر، ط. الأولى (1414 هـ - 1993 م). - منار السبيل في شرح الدليل. تصنيف: الشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان، تحقيق: أبي عائش عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط. الأولى (1416 هـ - 1996 م). - المنثور في القواعد. تصنيف: بدر الدين محمد بن بَهادر الزركشي الشافعي (745 - 794 هـ)، تحقيق: د/ تيسير فائق أحمد محمود، مراجعة: د/ عبد الستار أبو عدة، طباعة شركة دار الكويت للصحافة، ط. الثانية (1405 هـ - 1985 م). - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. تصنيف: الإمام محي الدين النووي (ت/ 676 هـ)، تحقيق: الشيخ خليل مأمون شيحا، دار المعرفة - بيروت - لبنان، ط. الثالثة (1417 هـ - 1996 م). - منهج عمر بن الخطاب في التشريع. تأليف: د/ محمد بلتاجي، دار السلام، ط. الثانية (1424 هـ - 2003 م). - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بـ (الخطط المقريزية). تصنيف: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، تحقيق: د/ محمد زينهم، ومديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي، ط. الأولى (1997 م). - الموافقات في أصول الشريعة. تصنيف: الإمام الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشهير بالشاطبي، تحقيق: خالد عبد الفتاح شبل، مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان، ط. (1420 هـ - 1999 م). - المواقف في علم الكلام. تصنيف: عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل - بيروت، ط. الأولى (1997 م).
- الموسوعة الفقهية الكويتية. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت، ط. الثانية (1408 هـ - 1988 م). - ميزان الاعتدال في نقد الرجال. تصنيف: الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: الشيخ علي محمد عوض، والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، ود/ عبد الفتاح أو سِنة، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1416 هـ - 1995 م). - الميزان في أصول الفقه. تصنيف: الشيخ الإمام علاء الدين محمد بن عبد الحميد السمرقندي، تحقيق: الدكتور يحيى مراد، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1425 هـ - 2004 م). - نثر الورود على مراقي السعود. شرح: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، تحقيق وإكمال: د/ محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي، نشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي، توزيع: دار المنارة - جدة، ط. الأولى (1415 هـ - 1995 م). - النحو الوافي. تأليف: عباس حسن، دار المعارف، ط. الثالثة عشرة. - النور السافر عن أخبار القرن العاشر. تصنيف: عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العَيْدَرُوس الحسيني الحضرمي اليمني الهندي، تحقيق: د/ أحمد حالو - محمود الأرناؤوط - أكرم البُوشي، دار صادر - بيروت - لبنان، ط. الأولى (2001 م). - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. تصنيف: شمس الدين محمد بن أبي العباس بن حمزة بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر للطباعة - بيروت - لبنان، ط. (1404 هـ - 1984 م). - هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون. تصنيف: إسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر - بيروت - لبنان، (1410 هـ - 1990 م).
- الواضح في أصول الفقه. تصنيف: أبي الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي، تحقيق: د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1999 م). - الواضح في أصول الفقه للمبتدئين. تأليف: محمد سليمان الأشقر - طبعة غير تجارية مصورة من الطبعة الرابعة. - الوافي بالوفيات. تصنيف: صلاح الدين خليل بن أيبك الصَّفَدي، تحقيق واعتناء: أحمد الأرناؤوط - تركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، ط. الأولى (1420 هـ - 2000 م). - الوجيز في أصول الفقه. تأليف الدكتور: وهبة الزحيلي، دار الفكر بدمشق، إعادة الطبعة الأولى (1419 هـ - 1999 م)، ط. الأولى (1994 م). - الوجيز في أصول الفقه. تأليف الدكتور: عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، ط. السادسة (1417 هـ - 1997 م). - الوصول إلى الأصول. تصنيف: شرف الإسلام أبي الفتح أحمد بن علي بن برهان البغدادي، تحقيق: د/ عبد الحميد علي أبو زنيد، مكتبة المعارف - الرياض، ط. (1983 م). - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. تأليف: أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (608 - 681 هـ)، تحقيق: د/ إحسان عباس، دار صادر - بيروت.