التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية

محمد منير مرسي

مقدمات

مقدمات نبذة تفصيلية عن المؤلف ... نبذة تفصيلية عن المؤلف: الاسم بالكامل: محمد منير مرسي البري، وشهرته منير مرسي. ولد في 21/ 9/ 1933 ببركة السبع، محافظة المنوفية. كان والد رحمه الله من رجال التربية والتعليم. حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة العياط الابتدائية بمحافظة الجيزة عام 1947، وعلى شهادة التوجيهية من مدرسة الإبراهيمية الثانوية بجاردن سيتي بالقاهرة عام 1952، وعلى ليسانس كلية دار العلوم - جامعة القاهرة 1952. وعلى الدبلوم العامة في التربية 1957 والدبلوم الخاص في التربية 1958 ودرجة الماجستير في التربية 1961 من كلية التربية - جامعة عين شمس. وحصل على درجة دكتوراه الفلسفة في التربية ".PH. D" من جامعة لندن - إنجلترا عام 1969. عمل مدرسا بمدرسة النقراشي النموذجية الإعدادية في بداية حياته المهنية، ثم عمل بإدراة تعليم الكبار وإدارة البحوث الفنية بوزارة التربية والتعليم. أعير للعمل أستاذا للغة العربية بجامعة تاجيكستان بالاتحاد السوفيتي سابقا في الفترة من 1960-1962. وبعد عودته كتب كثيرا من المقالات عن الثقافة العربية وعن تجربته العلمية والدراسات العربية في مجلة "المجلة" ومجلة "الرسالة" ومجلة "الثقافة". وكان لتشجيع الكاتب الكبير يحيى حقي أثر كبير في ذلك. وترجم وقتها إلى العربية بعض الكتب القيمة بالروسية عن الأدب والشعر والثقافة العربية منها: "مع المخطوطات العربية" لكراتشكوفسكي" و"الشعر العربي في الأندلس" له أيضا، وأراجيز الملاح العربي لفاسكودي جاما أحمد بن ماجد، وهي أطروحة علمية لشوموفسكي، والرسالة الثانية لأبي دلف من تأليف أنس خالدوف. حصل عام 1965 على بعثة حكومية لكلية التربية جامعة عين شمس لدراسة الدكتوراه بجامعة لندن بإنجلترا. وحصل على درجة دكتوراه الفلسفة في التربية تخصص تربية مقارنة منها عام 1969. وكان أستاذه المشرف عليه هو عالم التربية المقارنة المعروف "جوزيف لاواريز". كما تعلم وقتها أيضا من نجوم مرموقين يعتبرون الآن روادا يشار إليهم بالبنان في الميدان من أمثال "نيقولا هانز" و"برايان هولمز"

و"إدموندكنج"، والمؤرخ العربي المشهور عبد اللطيف الطيباوي رحمه الله، والذي حصل على أرفع الدرجات العلمية من جامعة لندن "D.Lit" وصاحب المؤلفات العربية والإنجليزية القيمة في تاريخ العرب والإسلام. ومن أحدث كتبه باللغة الإنجليزية كتابه عن التربية الإسلامية بين التقليد والمعاصرة. وبلغ من ثقته العلمية في شخصية صاحب النبذة أن طلب منه قراءة أصول الكتاب قبل طباعته. ولم ينس أن يشكره على ذلك في مقدمة الكتاب بعد صدوره باللغة الإنجليزية. بعد عودته إلى مصر عام 1969 التحق بالعمل مدرسا بقسم أصول التربية بكلية التربية جامعة عين شمس. ثم لم يلبث أن انتقل إلى قسم التربية المقارنة والإدارة التعليمية بنفس الكلية. ثم رقي إلى أستاذ مساعد بنفس القسم عام 1974 ثم إلى أستاذ بنفس القسم عام 1979 بناء على قرار اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بجلستها بتاريخ 27/ 9/ 1979. ثم عين أستاذا بجامعة قطر بقرار مجلس الجامعة بتاريخ 26/ 12/ 1979. عند عودته من البعثة الدراسية أحس بحاجة ميدان التربية بصفة عامة وميدان التربية المقارنة والإدراة التعليمية بصفة خاصة إلى المصادر العربية الحديثة التي يستعين بها في تدريس مقرراته للطلاب. وبدأ بالتدريج في توفير هذه المصادر عن طريق الترجمة من الإنجليزية مبتدئا بترجمة جزء من رسالته للدكتوراه صدر بعنوان إدارة وتنظيم التعليم العام. وفي نفس الوقت اتجه إلى ترجمة مجموعة حديثة مختارة من الكتب الإنجليزية بالتعاون أحيانا مع بعض زملائه. منها كتاب المدرسة الشاملة "لروبين بيدلي" ومدارس بلا فشل "لجلاسر" والتعليم والتنمية القومية من تحرير آدامز" وانثروبولوجيا التربية "وفلسفة التربية" لجورج نيللر" والتاريخ الاجتماعي للتربية لروبرت لك. واتجه أيضا إلى التأليف فألف وقتها كتاب "الإدارة التعليمية أصولها وتطبيقاتها "و"التعليم العام في البلاد العربية" و"الإدارة المدرسية الحديثة". أعير للعمل بجامعة قطر ابتداء مع العام الجامعي 75/ 1976. وعمل بها أستاذا مساعدا ثم أستاذا طيلة فترة عمله بها حتى عام 1990. كان المدير المؤسس لمركز البحوث التربوية بجامعة قطر منذ تأسيسه عام 1980 حتى انتهاء عمله بجامعة قطر في أكتوبر 1990.

ألف خلال حياته العلمية والمهنية كثيرا من الكتب، وقام بكثير من الدراسات والبحوث. ونشر كثيرا من المقالات باللغة العربية والإنجليزية مما يتضح من قائمة المؤلفات في نهاية الكتاب. أشرف على عدة رسالات علمية لدرجة الماجستير والدكتوراه، كما اشترك في مناقشة كثير من الرسائل العلمية. قام بتحكيم كثير من الدراسات والبحوث والأعمال العلمية والأكاديمية في ميدان التخصص منها أعمال علمية للترقية إلى وظائف أعلى لهيئة التدريس "أستاذ مساعد، أستاذ" في عدة دول عربية منها الأردن والعراق والسعودية واليمن والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة. شارك في أعمال استشارية ومهمات علمية تطويرية تجديدية وتدريبية كثيرة في مختلف الدول العريبة منها اليمن وليبيا والسعودية والبحرين والكويت ودولة الإمارات وقطر وماليزيا. اشترك في كثير من المؤتمرات التربوية الدولية في كثير من بقاع العالم منها أمريكا وإنجلترا وفرنسا والفلبين والمكسيك وماليزيا، وشارك في أعمال هذه المؤتمرات بالجهود العلمية كتابة وتحدثا. وله صلات علمية بالجامعات البريطانية والأمريكية. حاضر في كثير من الجامعات الأجنبية والمصرية منها جامعات الاتحاد السوفيتي سابقا وبريطانيا وجامعات والإسكندرية وطنطا والزقازيق والمنصورة والأزهر وكلية التربية وكليات البنات بجامعة عين شمس وكلية التربية بجامعة قطر. قام بزيارة بلاد أخرى كثيرة منها تركيا وباكستان والهند وهونج كونج وماليزيا وتايلاند ودول بحر البلطيق وإيطاليا وهولندا وألمانيا وسويسرا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا والمكسيك والفلبين. اسمه مدرج في الموسوعة القومية للشخصيات المصرية الهامة التي أصدرتها مصلحة الاستعلامات في مصر عام 1922. وهي تتضمن معلومات وبيانات تفصيلية أخرى عنه.

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: على الرغم من الأهمية الحيوية لموضوع التربية الإسلامية فإن المكتبة العربية تعاني من فقر شديد في الكتابات الحديثة عن هذا الموضوع. وما زالت الحاجة ماسة لكتابات أصيلة عن التربية الإسلامية تسبر أغوارها. وتكشف جوانبها لتعمق فهمنا لما ينبغي أن يكون عليه طريقنا في تنشئة الأجيال الصاعدة تنشئة صحيحة. وهذا الكتاب يتناول التربية الإسلامية من حيث أصولها ومبادئها واتجاهاتها وتطورها في البلاد العربية عبر تاريخها الطويل منذ ظهور الإسلام حتى العصور الحديثة. والكتاب خطوة متواضعة، بيد أنه يسد حاجة قائمة. وهو يهم بالدرجة الأولى كل المشتغلين بالتربية والمعنيين بشئونها بصفة خاصة. والتربية الإسلامية خاصة، ويهم كل المربين والمعلمين والآباء والأمهات. والكتاب أيضا يهم كل مسلم لأنه بحكم إسلامه راعٍ وهو مسئول عن رعيته. ومن هذا فإن هذا الكتاب يمثل اهتمامًا مشتركًا لكثير من أبناء أمتنا الإسلامية. وقد صدرت أول طبعة من هذا الكتاب عام 1977. وهو يخرج في هذه الطبعة الجديدة في صورة مزيدة ومنقحة. فقد أضفنا جزءا عن الماوردي وابن مسكويه وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وآرائهم التربوية. ونقحنا وأضفنا وعدلنا أجزاء متفرقة من الكتاب حتى يخرج في صورة أفضل للمهتمين بموضوعه. وشعاري الذي أتمسك به دائما هو قوله تعالى عز وجل: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . القاهرة، 21 سبتمبر 1999 أ. د. محمد منير مرسي

الفهرس

الفهرس: نبذة تفصيلية عن المؤلف 1 مقدمة 4 تمهيد: مشكلات منهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية 7 الفصل الأول: التربية الإسلامية: مدخل أولي 17 الفصل الثاني: أهداف التربية الإسلامية وأسسها وأساليبها 48 الفصل الثالث: فلسفة التربية الإسلامية: 99 أولا: الإسلام والكون: مدخل أنطولوجي 99 ثانيا: المعرفة في الإسلام: مدخل إبستمولوجي 121 ثالثا: الأخلاق في الإسلام: مدخل إكسيولوجي 138 الفصل الرابع: تربية الطفل في الإسلام 195 الفصل الخامس: تعليم المرأة في الإسلام 227 الفصل السادس: المعلم في التربية الإسلامية 242 الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى 255 الفصل الثامن: مراكز التعليم الإسلامي 283 الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط. 307 1- ابن سحنون وآراؤه التربوية. 307 2- القابسي وآراؤه التربوية. 313 3- ابن مسكويه وآراؤه التربوية. 319 4- الماوردي وآراؤه التربوية. 338 5- الغزالي وآراؤه التربوية. 360

6- ابن تيمية وآراؤه التربوية. 375 7- ابن خلدون وآراؤه التربوية. 396 الفصل العاشر: التربية في الشرق العربي الإسلامي في العصور الحديثة 409 الفصل الحادي عشر: أعلام النهضة التربوية في العصر الحديث: 428 1- محمد بن عبد الوهاب وآراؤه التربوية. 428 2- رفاعة الطهطاوي وآراؤه التربوية. 433 3- علي مبارك وآراؤه التربوية. 448 الفصل الثاني عشر: الاتجاهات التربوية في العصر الحديث 456 1- اقتباس النظم التعليمية. 456 2- ظهور حركة التربية الحديثة. 457 3- استقدام الخبراء الأجانب. 360 4- الاهتمام بإعداد المعلمين. 462 5- إنشاء الجامعات الحديثة. 463 6- ظهور الاتجاهات التعليمية المتميزة. 463 7- تطوير الأزهر. 467 المراجع. 471 كتب أخرى للمؤلف 482

تمهيد: مشكلات منهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية

تمهيد: مشكلات منهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية قد يعجب دارس تاريخ التربية من إغفال مراجع التربية المؤلفة في الغرب لموضوع التربية الإسلامية على الرغم من أن التربية الإسلامية قد عاشت أزهى فتراتها في وقت خيم فيه ظلام العصور الوسطى على الغرب. وإذا كانت هذه الفترة من الظلام قد ميزت القرون الخمسة الأولى من العصور الوسطى في الغرب فإن شمس الحضارة كانت تشرق عالية في الشرق. بل إن النهضة الأوربية التي بدأت في النصف الثاني من القرون الوسطى قد اعتمدت في غذائها الثقافي والفكري على نتاج الثقافة العربية والإسلامية إبان عصرها الذهبي. ولعل العذر في هذا الإغفال من جانب المؤلفين الغربيين يرجع إلى عدم اهتمامهم بالموضوع رغم أهميته أو لجهلهم به أو ربما لتحيزهم وتعصبهم في بعض الأحيان. ويذكر كاتب هذه السطور أنه عندما قام مع زميلين له بترجمة كتاب التاريخ الاجتماعي للتربية لمؤلفه روبرت بك من الإنجليزية إلى العربية؛ تم الاتصال بالمؤلف الأمريكي لاستئذانه في الترجمة العربية مع طلب مقدمة منه لهذه الترجمة. وفي رده عبر عن إحساسه بهذا النقص من الكتاب وعلل ذلك بعدم معرفته بهذا الجانب الهام من التربية في الشرق. وقد نشرت الترجمة ولم تنشر معها المقدمة لأنها وردت متأخرة. وقد تكون دهشة دارس تاريخ التربية أشد عندما يرى أن المؤلفات العربية تعالج موضوعات التربية الإسلامية عند الكلام عن التربية في العصور الوسطى وكأن دراسة الموضوع تقف عند هذه الفترة الزمنية. صحيح أن التربية الإسلامية -كما قلنا- عاشت أزهى عصورها في هذه الفترة التي أعقبها فترة تدهور وانحطاط. لكن هذا لا يقلل من دراسة التربية الإسلامية خلال تلك الفترة لمتابعة تطورها ونمو اتجاهاتها حتى نأتي إلى العصور الحديثة لتكتمل الصورة.

وللأسف الشديد أن الفجوة في تتبع دراسة تطور التربية الإسلامية حتى العصورة الحديثة ما زالت قائمة، ولا توجد حتى الآن محاولة جادة في هذا الاتجاه. وليس من قبيل التواضع القول بأن ما يقدمه المؤلف في هذا الكتاب ليس إلا خطوة على الطريق أو هي جهد المقل إن صح هذا التعبير. وعلى الرغم من وجود محاولات متزايدة للكتابة عن التربية الإسلامية في السنوات الأخيرة، فإن هذه المحاولات تقصر في الأغلب والأعم عن إشباع حاجات وتطلعات المهتمين بهذا النوع من الدراسات. وتبقى الكتابة عن التربية الإسلامية كالصخرة التي تتحدى ناطحها. وقد أردنا من هذه السطور أن نعرض لأهم المشكلات والصعوبات التي تكتنف الكتابة عن هذا الموضوع الحيوي الهام. ونحب أن نوضح منذ البداية أن ما نعنيه بالتربية الإسلامية هنا هو ليس مفهومها العام وإنما مفهومها الاصطلاحي الذي يخص المربين وأساتذة التربية والذي يتصل بالمفاهيم والأسس والمبادئ التي تحكم النظرية التربوية في الإسلام بأبعادها المختلفة. وسنحاول في السطور التالية أن نعرض لأهم هذه المشكلات المنهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية. أولا: أن الكتابة عن التربية الإسلامية تحتم على الباحث أو الكاتب الخوض في التراث، وهي عملية ليست سهلة وتكتنفها صعوبات كثيرة سنشير إلى بعضها فيما بعد. لكن مما يتصل بكلامنا هنا من هذه الصعوبات ما يتعلق بتناثر الكتابات عن التربية الإسلامية في التراث بصورة تحول دون الإلمام بشتاتها، وتحتاج هذه الكتابات إلى محاولات منسقة لحصرها وتصنيفها وتبويبها بحيث تقدم في صورة متكاملة يمكن للمربين والمشتغلين بالعلوم التربوية أن يستفيدوا منها. ومع أن هناك بعض الدراسات والمحاولات الجادة التي عملت في هذا السبيل فإنها تعتبر محاولات مرحلية لعبت دورها في تمهيد الطريق لدراسات أخرى تالية تستفيد منها وتضيف إليها. إن إحدى الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ على هذه الدراسات هو منهجها في البحث والتحليل الذي قد يفتقر أحيانا إلى النظرة الشمولية والاستقصائية والربط والتفسير والوصول إلى الاتجاهات أو المبادئ العامة. مثلا إحدى هذه

الدراسات عن التربية الإسلامية استعرضت آراء مختلفة عن أغراض أو أهداف التربية الإسلامية ووصلت بعد هذا الاستعراض إلى أن الصواب في نظر صاحب الدراسة هو ذكر صاحب المذهب ثم ذكر الغرض من التعليم الذي يلائم هذا المذهب. فهل هذا الاستنتاج صحيح؟ وهل هذا هو نوع الاستنتاج العام الذي نريد الوصول إليه؟ ثانيا: أن الكتابة عن التربية الإسلامية في معظمها تأخذ المنظور التاريخي الجزئي. بمعنى أنها تنظر إلى التربية الإسلامية على أنها فترة تاريخية معينة وعادة ما تكون هذه الفترة هي فترة العصور الوسطى التي تشمل فترة مجد الإسلام وازدهاره وبرز فيها علماء كثيرون كتبوا عن التربية والتعليم. ولذلك تهتم هذه الكتابات عادة بعرض الآراء. ومن الطبيعي أن يأتي عرض هذه الآراء حسبما اتفق دون نظام فكري معين. وغالبا ما تتكرر الآراء دون تمييز للسابق على اللاحق. وكثيرا ما يصعب على القارئ أن يخرج بصورة متكاملة مترابطة. كما يصعب على القارئ أن يربط بين ما قرأه وبين الوضع الراهن للتربية والتعليم بحيث يمكن أن يستفيد منه كمعلم أو كمربٍّ أو كمتخصص في علوم التربية. ثالثا: أن الكتابة في التربية الإسلامية قد يغلب عليها الأسلوب الإنشائي أو الخطابي أو أسلوب الوعظ والإرشاد. وهو أسلوب وإن كان له استخداماته فإنه لا يصلح للمعالجة الموضوعية والدراسة العلمية للتربية الإسلامية بمفهومها المهني الذي يفهمه المربون وأساتذة التربية وليس بمعناها العام كما أسلفنا ويتصل بذلك الخلط الذي يحدث كثيرا بين مفهوم التربية ومفهوم التعليم. فالتربية أعم من التعليم، وصلة التعليم بالتربية هي صلة الخاص بالعام. وهذا يعني أن التربية كعملية ليست مسئولية المدرسة وحدها وإنما تشترك معها كل القوى الأخرى المربية في المجتمع. كما أن المدرسة وإن كان معظم وظائفها تعليمية فإن لها أيضا وظيفة تربوية. وبالمثل يمكن الكلام عن المعلم فهو معلم بالمعنى الخاص ومربٍّ أيضا بالمعنى العام. فالمعلم في علاقته بالتلميذ لا يمكن أن

يقتصر تأثيره على المادة العلمية أو التخصصية التي يدرسها وإنما يتعدى تأثيره إلى ما هو أبعد من ذلك من حيث القيم أو المثل أو السلوك وغيرها من المجالات التي يؤثر فيها المعلم على التلميذ. وعلى هذا ونظرا لهذا التداخل بين مفهومي التربية والتعليم نجد على سبيل المثال أن بعض المشتغلين بالتربية الإسلامية قد يرفض على غير حق اعتبار أسلوب الوعظ والإرشاد كأحد أساليب التربية الإسلامية. وينظر إلى أن أساليب التربية الإسلامية إنما تقتصر على الإلقاء أو الحفظ أو التلقين أو التسميع أو المحاورة أو الإملاء وغيرها من الأساليب التي تكون ألصق ما يكون بمفهوم التعليم. رابعا: أن الكتابة في التربية الإسلامية قد تصطدم بمشكلة وضوح الرؤية في تتبع مسار الأصالة والتجديد للفكر الإسلامي عبر العصور المختلفة. فمن المعروف أن الفكر الإسلامي وإن كان يرجع في أصوله المتفق عليها إلى أصول واحدة هي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فإنه تعرض لتأثير عناصر فكرية غريبة عنه حتى منذ العصور الأولى للإسلام. فبعض المسلمين دخلوا الإسلام ليهدموه ويروجوا البدع فيه وهم في حمايته وتحت رايته. وقصة عبد الله بن سبأ مع علي بن أبي طالب معروفة. فعبد الله بن سبأ يهودي أسلم ورأى مرة سيدنا عليا يرفع بيده ثقلا كبيرا يصعب على إنسان واحد أن يرفعه ولعله غطاء بئر على ما أذكر. فقال له عبد الله بن سبأ: والله ما رفعته بقوة جسمانية، وإنما بقوة ملكوتية، مرددا بذلك نظرية الفيض الإلهي عند المجوس، التي هي غريبة على روح الإسلام، وعندها نجد أن الإمام عليًّا يدرك المغزى وينكر على ابن سبأ هذا القول ويهدده بقوله: والله لو عدت إلى هذا القول لرجمتك. وهذا مجرد مثال واحد أردنا أن نورده للتدليل على دخول أفكار غريبة في الإسلام على يد أناس أسلموا ليكونوا معاول هدم الإسلام. وكم في الإسلام أناس من أمثال عبد الله بن سبأ. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "تتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة والباقون هلكى" قيل: ومن الناجية؟، قال: "أهل السنة والجماعة". قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي".

ومن المعروف أن الأقوام الكثيرة التي دخلت الإسلام حملت معها بالطبع عاداتها وتقاليدها وعقائدها وتاريخها. فاليهود عملوا على ترويج أخبارهم ونشرها بين المسلمين فيما عرف فيما بعد بالإسرائيليات. والنصارى ساروا على نفس النهج، وكذلك الفرس الذين روجوا من الأخبار ما لا يخلو من العصبية والأفكار الغريبة عن الإسلام. ويعتبر كعب بن مانع -المشهور باسم كعب الأحبار المتوفى 34هـ وهو يهودي يمني أسلم في خلافة أبي بكر- أكبر مروج للإسرائيليات التي تفشت في كثير من الكتب الإسلامية. وكان من الذكاء وسعة الاطلاع بحيث استطاع أن يؤثر في عدد غير قليل من علماء المسلمين الأولين منهم ابن عباس وأبو هريرة. وكانت فيه جرأة غريبة لدرجة أنه كما يقول ابن سعد في طبقاته الكبرى كان يجلس في المسجد وأمامه أسفار التوراة غير متحرج من ذلك "مصطفى الشكعة ص32" ومع أن كثيرين من علماء المسلمين قد أخذ رواياته بكثير من الحيطة والتحفظ إلا أن بعضهم نقل عنه مثل الكسائي الذي نقل عنه قصص الأنبياء. إن مثل هذه الأفكار الغريبة سواء كان دخول بعضها مغلفا أو مكشوفا أصبح جزءا من التراث ويحتاج منا إلى جهود جادة لغربلة هذه الشوائب وتنقيتها. وهي عملية ليست سهلة كما يبدو. وإنما تحتاج إلى تضافر جهود مخلصة واعية قادرة. وبدون ذلك يظل طريق الكتابة عن التربية الإسلامية محوطا بالأشواك. يضاف إلى ذلك أيضا عناصر الفكر اليوناني التي شقت طريقها بسلطان إلى الفكر الإسلامي من خلال التراجم العربية لفلسفة الإغريق وقيام الفلاسفة المسلمين أنفسهم بترويج هذه الآراء على ألسنتهم بعضها أشعار نرددها دون وعي أحيانا. فنحن قد نردد قصيدة ابن سينا في النفس والتي يقول فيها: "هبطت إليك من المحل الأرفع" دون أن نعرف أنها ترديد لأساطير أفلاطون. وهذا أبو حامد الغزالي حجة الإسلام وأكثر المدافعين فيه يردد على لسانه آراء أفلاطون وأرسطو وغيرهما. ومن قبله ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" نجده متأثرا بفلاسفة الإغريق. بل إنني تعجبت جدا عندما

قرأت كتاب ابن قيم الجوزية "تحفة المودود بأحكام المولود" ووجدت أنه يورد آراء علماء الإغريق في هذا الكتاب الذي يحمل عنوانا لا نتصور معه وجود مكان فيه لمثل هذه الآراء. وعلى هذا تواجه الكتابة عن التربية الإسلامية مشكلة التمييز فيما يورده علماء المسلمين من آراء بين ما هو أصيل ودخيل. هناك بالطبع أشياء يمكن لنا تحديدها ومعرفتها. فنحن نعرف مثلا أن كتابات كل من ابن سحنون عالم القرن الثالث الهجري والقابسي عالم القرن الرابع الهجري والماوردي، عن التربية والتعليم هي كتابات إسلامية أصيلة خالصة. وهم من أوائل من كتبوا عن التربية الإسلامية كتابة متخصصة. ونعلم أيضا أن القرن الرابع الهجري يعتبر نقطة تحول واضحة بالنسبة للفكر الإسلامي عندما بدأت روافد الفكر الإغريقي تأخذ طريقها مع حركة الترجمة التي شهدت العصر العباسي الزاهر، ولهذا نجد أن الكتابات التي تلت ابن سحنون والقابسي بدأت تختلط بالعناصر الإغريقية، وهذا يصدق على ابن مسكويه عالم القرن الرابع الهجري والغزالي عالم القرن الخامس الهجري ومن بعدها. إن إحدى المشكلات التي تثيرها الكتابة عن التربية الإسلامية في محاولة تتبع تطور الفكر التربوي في الإسلامي تتمثل في جانبين رئيسيين: الجانب الأول: تحديد الآراء المتميزة لكل عالم إسلامي على حدة: فمن المعروف أن الخلف ينقل عادة من السلف. فالقابسي نقل عن ابن سحنون، والغزالي نقل عن مسكويه، وابن خلدون والطهطاوي نقلا عن سابقيهما وهكذا. وقد يكون لكل منهما اجتهاده الخاص إلى جانب الآراء الأخرى التي نقلها عن غيره. فليس كل ما يرد على لسان عالم من العلماء يمثل آراءه هو، وإنما قد يكون كثير منها قد تردد لدى سابقيه ونقله عنهم. إننا نجد رسائل علمية للماجستير أو الدكتوراه تبحث في الآراء التربوية لعالم من علماء المسلمين ولا تنتبه إلى هذه النقطة وترد الآراء التي يذكرها هذا العالم على لسانه في مؤلفاته على أنها آراؤه هو بصرف النظر عن مدى التحقق من كون هذه الآراء هي له حقيقة أم أنه مجرد ناقل لها عمن سبقه. مثلا يشار إلى عبارة "الإنسان

مدني بالطبع" على أنها لابن خلدون مع أنها ترددت قبله بما يزيد عن ثلاثة قرون ونصف عند ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق، وعند الماوردي في أدب الدنيا والدين والأصفهاني في الذريعة. الجانب الثاني: تحديد الأصيل والدخيل على الفكر الإسلامي فيما يرد على لسان العلماء من آراء: وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية سواء بالنسبة لموضوع التربية الإسلامية أو غيرها من جوانب الفكر الإسلامي عامة. إن كثيرا من الآراء الغريبة قد دخلت إلى الفكر الإسلامي على ألسنة العلماء المسلمين أنفسهم وفي ظل قوة سلطانهم. خذ كلام فلاسفة المسلمين عن النفس والعقل وهو موضوع ألصق ما يكون بفلسفة التربية الإسلامية تجد أن معظم ما يوردونه يمثل آراء فلاسفة الإغريق. وبعض علماء المسلمين يقسمون المنهج المدرسي إلى علوم إسلامية هي العلوم النقلية واللسانية، وعلوم غير إسلامية هي العلوم العقلية. فهل هذا تقسيم مقبول؟ أليست كل العلوم علوما إسلامية ما دامت في الحدود التي رسمها لنا الله؟ وقد يصل الخلط أحيانا إلى تشويه ما هو إسلامي خالص بخلطه عن غير وعي وإدراك بمتشابهات غير إسلامية. مثلا نردد كثيرا أن الإسلام هو دين التوسط والاعتدال. وهذا الكلام إسلامي خالص، ثم قد نتبع ذلك بالقول بأن الفضيلة توسط بين ذيلتين فالشجاعة فضيلة تتوسط الجبن والتهور، وأن علاج الرذيلة يكون بالمبالغة في ضدها حتى يحصل التوسط فعلاج الجبن الإسراف في الشجاعة وعلاج البخل الإسراف في الكرم. هذا الكلام غير إسلامي لأنه تردد على ألسنة فلاسفة الإغريق من قبل وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. وقد نردد أيضا عبارات مثل الإنسان حيوان عاقل أو مفكر ناطق أو غيرها.. ووصف الإنسان بالحيوان أو ما جاء على لسان أرسطو. ومثل هذا الوصف غريب على الفكر الإسلامي. والمصدران الرئيسيان للإسلام لم يصفا الإنسان بهذا الوصف، بل إنهما كرما الإنسان غاية التكريم، وجعله الله خليفته في الأرض وفضله على كثير من خلقه. ألم يصف الغزالي الإنسان بأنه أشرف

مخلوق على الأرض؟ إن الإنسانية ضد الحيوانية والبهيمية ولا يجوز في الفكر الإسلامي الصحيح أن نجري وراء أرسطو أو داروين أو سبنسر أو غيرهم لنعتبر الإنسان من صنف الحيوان ثم نضفي عليه بعد ذلك الصفات الأخرى من العقلانية أو الاجتماعية أو غيرها. إن الإنسان جنس من صنف الأجناس التي خلقها الله. وهو مميز بذاته وكرمه الله على كثير من خلقه وجعله خليفته على الأرض. وقد يقال مثلا إن الحيوانية من الحياة، ومن ثم فوصف الإنسان بأنه حيوان يعني أن به حياة. وأنا أعتقد أن هذا المعنى هو آخر ما يتوارد على عقولنا عندما نصف الإنسان بذلك. إن ما أقصده هنا هو وضع الأمور في إطارها الصحيح وفي منظورها الإسلامي السليم دون تمحك أو تكلف في التخريج. خامسا: أن محاولات تجديد الفكر الإسلامي في العصور الحديثة لم تصل إلى غاياتها ولم تستطع أن تصل حاضر المسلمين المتخلف المؤسف بماضيهم التليد الزاهر، فقد خيم على العالم الإسلامي فترة ركود فكري وثقافي امتدت عبر قرون طويلة، وبدأت بخطوات سريعة منذ تدمير المغول لحضارة الإسلام ودار السلام في بغداد ثم ما تلا ذلك من فترة الحكم التركي العثماني. فالذي لا شك فيه أن السياسة التركية العثمانية قد أدت إلى ظهور تيارات ثقافية مختلفة وفكرية متباينة في العالم العربي والإسلامي وخلقت أوضاعا غريبة. ففي ظل الحكم التركي العثماني ظهرت الدعوات الشعوبية كالدعوة الطورانية أو الجامعة التركية التي كانت ترمي إلى سلخ تركيا عن الإسلام والبعد عن الجامعة الإسلامية التي دعا إليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وظهرت أيضا الدعوة الفرعونية في مصر والفينيقية في الشام والآشورية في العراق والبربرية في المغرب وهكذا. وفي ظل هذه البلبلة الفكرية كان هناك أيضا الدعوة إلى القومية العربية في مقابل الأمة الإسلامية. فمن المعروف أن لا شعوبية في الإسلام، والإسلام للناس كافة ولكل شعوب الأرض على اختلاف شاكلتهم وألوانهم وأجناسهم. وقد حسمت هذه الدعوى الشعوبية منذ فجر الإسلام فلا فضل لعربي على عجمي إلا

بالتقوى وصالح العمل. والناس كأسنان المشط في المساواة. والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. ومع أن دعوى القومية العربية غريبة عن روح الإسلام فإنها في العصور الحديثة إلى العالم العربي تحت تأثير عاملين رئيسيين: العامل الأول: هو سياسة التمييز الديني الذي سارت عليه السياسة التركية العثمانية، وعاملت المسيحيين العرب واليهود العرب معاملة الأقليات الأجانب، وعلى هذا كان من حقهم إنشاء المدارس الخاصة بهم لتعليم أبنائهم باللغة العربية في حين عومل المسلمون العرب معاملة باقي أرجاء الخلافة. فكان تعليمهم يسير على نظام المدارس التركية. وكانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للاتصال والتعليم معا. فاستعجمت العربية في عقر دارها وعاشت كلغة هامشية. وكان تأثير كل هذا أن ظهر بين المسيحيين واليهود من العرب من قاد حركة الثقافة الفكرية العربية خلال القرنين 19، 20، كما أن المسيحيين العرب كان عليهم أن يجدوا لأنفسهم ما يربطهم بهذا الوطن العربي الذي عاش عليه أجدادهم في حين أن تركيا تنظر إليهم كأغراب فيه. ووجد هؤلاء المسيحيون في الدعوة إلى القومية العربية ما يحقق انتماءهم إلى وطنهم العربي ويربطهم به. العامل الثاني: نمو الحركة القومية في أوربا بصورة متزايدة خلال القرن التاسع عشر تحت تأثير من فكر هيجل أن الأمة المثالية هي التي تنتمي إلى قومية واحدة. ووجد المسيحيون العرب في هذه الدعوى ضالتهم المنشودة التي تجعل منهم مواطنين لا رعايا في أوطانهم. وارتبطت هذه الحركة القومية عند المسيحيين العرب بتعريب الكنائس العربية واستخدام اللغة العربية في الصلوات والطقوس والترانيم. وكانت المحصلة النهائية لكل هذه الدعوات المختلفة إضافة المزيد من التناقضات التي تعمق من فرقة العالم الإسلامي. وعندما نسأل أنفسنا: من نحن؟ لا نجد إجابة واحدة. وتجديد الفكر الإسلامي لا بد أن يضع في اعتباره العمل على تخليصنا من التناقضات الثقافية والفكرية. وحتى يتم ذلك ستظل الكتابة عن التربية

الإسلامية تبحث لنفسها عن مخرج، وعندما نطرح سؤالا عن أهداف التربية الإسلامية أو العربية فكيف تكون إجابتنا عن هذا السؤال في ظل كل تلك التناقضات؟ وكيف نستطيع إذًا أن نحدد منطلقاتنا الرئيسية للعمل التربوي الجاد ونحن نواجه منذ البداية بهذه الصعوبات. إن أمامنا عملا كبيرا يتطلب جهودا مخلصة متضافرة تعمل على دفع حركة الفكر الإسلامي في تيارها الصحيح بما يمكن الباحثين من العمل الإيجابي الهادف البناء سواء في ميدان التربية الإسلامية أو غيرها من الميادين. سادسا: أن البلاد العربية في محاولة تجديد أوصالها والنهوض من كبوتها في العصور الحديثة اعتمدت على اقتباس النظم التعليمية من الغرب فأنشأت المدارس الحديثة على النظام الأوربي، وتركت مؤسسات التعليم الإسلامي على حالها حتى انطفأت تدريجيا. وهكذا نشأ نظام تعليمي جديد عرف بنظام التعليم الحديث تمييزا له عن النظام التعليمي القديم أو التقليدي كما يشار إليه أحيانا. وقد ترتب على ذلك وجوه ثنائية تعليمية بين النظامين انتهت بغلبة النظام الجديد وذبول أو اندثار النظام القديم، بل إن ما بقي من مؤسسات تعليمية إسلامية كالأزهر مثلا قد أدخل عليه تطوير كبير في أول الستينيات من هذا القرن غير كثيرا من صورته السابقة. والمشكلة التي تتحدى عصرية الكتابة عن التربية الإسلامية أو الوضع الراهن لها تتمثل في عدم وجود مؤسسات أو نظم واضحة لها وجود في العالم الإسلامي يمكن أن نطلق عليها مؤسسات تعليمية إسلامية. وبمعنى آخر إذا أردنا أن نتكلم الآن عن مؤسسات التربية الإسلامية في البلاد العربية، فعن أية مؤسسات نتكلم؟ لقد كان ذلك وما زال مصدر حيرة لمؤلف هذا الكتاب. ففي طبعته الأولى كان هناك فصل عن التعليم في البلاد العربية في العصور الحديثة، ثم صدرت الطبعات التالية للكتاب بدون هذا الفصل. وما زال التساؤل قائما. وقد وجهته لبعض قمم علماء المسلمين المعاصرين ممن أعرفهم ولم أخرج بإجابة شافية.

الفصل الأول: التربية الإسلامية

الفصل الأول: التربية الإسلامية تربية العرب قبل الإسلام مدخل ... الفصل الأول: التربية الإسلامية تربية العرب قبل الإسلام: اعتمدت التربية عند العرب قبل الإسلام على التقليد والمحاكاة، فكان الصغار ينشئون على تقليد ومحاكاة الكبار، وكانت القبيلة وما بها من عشائر وبطون تقوم بتعليم صغارها وفقا للمبادئ والقيم الاجتماعية السائدة في القبيلة. فكان للعرب قيمهم التي كانوا يفتخرون بها ويتغنون بها في أشعارهم. أما العلوم التي كانوا يعرفونها فيقول الشهرستاني في "الملل والنحل": "اعلم أن العرب في الجاهلية كانت على ثلاث أنواع من العلوم. أحدها علم الأنساب والتواريخ والأديان ... وثانيها علم الرؤيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن يعبر الرؤيا في الجاهلية ويصيب فيرجعون إليه ويستخيرون عنه. وأما النوع الثالث فهو علم الأنواء وذلك مما يتولاه الكهنة". أما الشعر فهو ديوان العرب وكانوا يتطارحونه في الأسواق. وكان العرب في جاهليتهم أميين لا يعرفون القراءة والكتابة لاعتمادهم على المشافهة والرواية في النقل، وكان للشعر رواته الذين يحفظونه ويروونه، ولكن هذا لا يعني عدم وجود من يعرف القراءة والكتابة وإن كان عدد هؤلاء قليلا. ويشير ابن خلدون إلى إن الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة وهؤلاء تعلموها من الحميريين. ويقول الجاحظ في البيان والتبيين: إن العرب كانوا أميين لا يكتبون ولذا لم يكن لهم كتب موروثة فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم. ويروي لنا البلاذري في "فتوح البلدان" أن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح وطلحة بن الزبير ويزيد بن أبي سفيان وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وحاطب بن عمرو وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية وأخوه خالد بن سعيد وعبد الله بن أبي سرح العامري وخويطب بن عبد العزى العامري وأبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وجهيم بن الصلت والعلاء بن الحضرمي". ويروي أيضا أن قليلا من نساء العرب

كن يعرفن الكتابة منهن "حفصة بنت عمر إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم". وكانت عائشة أم المؤمنين تقرأ ولا تكتب. وكذلك أم سلمة. وهما أيضا من زوجات النبي. ويروي البلاذري أن بعض اليهود كان يعلم الصبيان بالمدينة الكتابة العربية في الزمن الأول قبل الإسلام. وهكذا كانت معرفة القراءة والكتابة مقصورة على عدد قليل جدا من العرب قبل الإسلام. وكان ظهور الدين الإسلامي مرحلة جديدة للعرب قبل الإسلام. ومعها بدأت صفحة جديدة لتربية جديدة قوامها الإسلام الذي أكد منذ البداية على العلم والمعرفة كقيمة رئيسية في هذه التربية الجديدة، وهو ما سنتناوله في السطور التالية:

فضل القلم

فضل القلم: القلم من أدوات تحصيل العلم والاشتعال به. وقد قال العتابي في فضل القلم: الأقلام مطايا الفطن، وببكاء الأقلام تبتسم الكتب. وقال ابن أبي داود: العلم سفير العقل ورسوله ولسانه والأطول وترجمانه الأفضل. وقال طروح بن إسماعيل الثقفي: عقول الرجال تحت أسنان أقلامهم. وقال عبد الحميد بن يحيى الكاتب: القلم شحرة ثمرها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. وفيه ري العقول الظميئة. وقال الشاعر في فضل القلم وأعلم بأن العلم أرفع رتبة ... وأجل مكتسب وأسنى مفخر فاسلك سبيل المقتنين له تسد ... إن السيادة تقتني بالدفتر والعالم المدعو حبرا إنما ... سماه باسم الحبر حمل المحبر ويضمر الأقلام يبلغ أهلها ... ما ليس يبلغ بالجياد الضمر

فضل الخط

فضل الخط: الخط والكتابة من أدوات تسجيل العلم وتداول تعلمه. وقد قال أفلاطون: الخط عقال العقل. وقال إقليدس الإغريقي: الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جسمانية. وقال أبو دلف رحالة القرن العاشر الميلادي: الخط رياض العلوم. وقال النظام المعتزل: الخط أصيل في الروح وإن ظهر بحواس البدن. ويورد ابن النديم في "الفهرست" ما معناه أن المصريين علموا الإغريق القدماء الخط والكتابة، وفي ذلك يقول: "لم يكن اليونانيون يعرفون الخط في القديم حتى ورد رجلان من مصر يسمى أحدهما قيمس والآخر أغنور. ومعهما ستة عشر حرفا فكتب بها اليونان. ثم استنبط أحدهما أربعة أحرف فكتب بها ثم استنبط آخر أربعة فصارت أربعة وعشرين". "نقلا عن: عبد اللطيف محمد العبد: ص12".

فضل الكتب

فضل الكتب: تضم الكتب بين أوراقها مكنون العلوم. وبالكتب تنتشر العلوم ويسهل تحصيلها. وقد قال بزرجمهر الحكيم: الكتب أصداف الحكم تنشق عن جواهر الشيم. وقال آخر: هذه العلوم موارد فاجعلوا الكتب لها نظاما، وهذه الأبيات شوارد فاجعلوا الكتب لها زماما. وقال الآخر: الكتاب هو المسامر الذي لا يبتدئك في حال شغلك ولا يدعوك في وقت نشاطك ولا يحوجك إلى التجمل له. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك والناصح الذي لا يستزلك. وقيل خير أنيس للصحاب كتاب. وقال الشاعر في هذا المعنى: نعم المؤانس والجليس كتاب ... تخلو به إن ملك الأصحاب لا مفشيا سرا ولا متكبرا ... وتفاد منه حكمة وصواب من طريف خصائص اللغة العربية: اللغة العربية هي وسيلتنا في تحصيل العلم. وقد شرفها الله بأن جعلها لغة القرآن الكريم. ومن طريف ما يورده ابن النديم عن خصائص اللغة العربية قوله: عدد حروف اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفا على عدد منازل القمر. وغاية ما تبلغ الكلمة منها مع زيادتها سبعة أحرف على عدد النجوم السبعة. وحروف الزوائد اثنا عشر حرفا على عدد البروج الاثني عشر. ومن الحروف ما يدغم مع لام التعريف وهي أربعة عشر حرفا مثل منازل القمر المستترة تحت الأرض، وأربعة عشر حرفا ظاهرة لا تدغم مثل بقية المنازل الظاهرة. وجعل الإعراب ثلاث حركات: الرفع والنصب والخفض لأن الحركات الطبيعية ثلاث حركات: حركة من الوسط كحركة النار، وحركة إلى الوسط كحركة الأرض، وحركة على الوسط كحركة الفلك.

مكانة العلم في الإسلام

مكانة العلم في الإسلام مدخل ... مكانة العلم في الإسلام: لقد ضرب الإسلام مثلا فريدا يستحق الإعجاب على اهتمامه بقيمة العلم والعلماء والقرآن الكريم والسنة الشريفة بل وتاريخ الإسلام نفسه حافل بالأمثلة التي لا يعيبها الحصر. فقد كانت أول آية نزلت على الرسول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} والإسلام لا يسوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وفضل الله الذين أوتوا العلم درجات، وجعل العلماء ورثة الأنبياء. وقد فضل الرسول صلى الله عليه وسلم مجلس العلم على مجلس الذكر وساوى مداد العلماء بدماء الشهداء. وورد قوله عليه الصلاة والسلام: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" وأمرنا ديننا بأن نحرص على طلب العلم، وأن نتحمل كل مشقة في سبيله، وقال عليه الصلاة والسلام: "من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحكمة تزيد الشريف شرفا وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك". وورد عن أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة، وحضور مجلس علم أفضل من عيادة ألف مريض، وحضور مجلس علم أفضل من شهود ألف جنازة"، فقيل: يا رسول الله، ومن قراءة القرآن؟ فقال النبي: "وهل تنفع قراءة القرآن إلا بعلم". ويقول الغزالي في إحياء علوم الدين إن العلم فضيلة في ذاته على الإطلاق "فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال". ومما يروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لكميل النخعي: "يا كميل إن هذه القلوب أوعية فاحفظ عني ما أقول: الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم عنده سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق مع كل ريح يميلون لم يستضيئوا بالعلم ولم يركنوا إلى ركن وثيق. يا كميل العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق. يا كميل

محبة العلم دين يدان به تكسب المرء الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته. ومنفعة المال تزول بزواله، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم وعلموه الناس" وقال عليه الصلاة والسلام: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة، ودراسته تسبيح والبحث عنه جهاد وطلبه عبادة وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة". وروي عن سلمان الفارسي أنه كتب إلى أبي الدرداء: "إن العلم كالينابيع يغشى الناس فيختلجه هذا وهذا فينفع الله به غير واحد، وإن حكمة لا يتكلم بها، جسد لا روح فيه، وإن علما لا يخرج، ككنز لا ينفق، وإنما مثل العلم كمثل رجل عمل سراجا في طريق مظلم يستضيء به من مر به وكل يدعو إلى الخير". وقد ورد عن هارون الرشيد أنه قبل الجزية كتبا. كما أن المأمون دفع وزن ما ترجم ذهبا. وهذا دليل واضح على اهتمام خلفاء المسلمين بالعلم وتقديرهم لأهميته. وما هذه إلا أمثلة معدودة من أمثلة أخرى لا حصر لها أردنا بها أن نؤكد حرص الإسلام على العلم وتقديره لقيمته وقيمة المشغلين به. ومن مظاهر اهتمام المسلمين بالعلم الارتحال في طلبه، فقد كان العلماء ينتقلون من مكان إلى آخر استزادة في العلم ونشرا له. وسنفصل الكلام عن هذه النقطة عند كلامنا عن الرحلة في طلب العلم. وكما يجب على المتعلم أن يلح في طلب العلم يجب على صاحب العلم ألا يخفيه عن الناس يقول، تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من علم علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا العلم أهله فإن في ذلك فساد دينكم والتباس بصائركم". كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى تحبيب الناس في التعليم، فقال: "علموا ويسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".

فضل المسلمين على العلم

فضل المسلمين على العلم: إن فضل المسلمين على العلم لا يحصى فقد ألف العلماء العرب والمسلمون في العلوم المختلفة ومنها النبات والحيوان والكيمياء والصيدلة والطب والفلك والموسيقى، وفي علوم البحار والهندسة وحساب المثلثات وغيرها. كما لا يجحد فضل ابن سينا والبيروني والكندي والغافقي والفارابي والبغدادي والقزويني والجاحظ والخازن وجابر بن حيان وابن البيطار وابن ماجد ملاح فاسكودي جاما والرازي والمقدسي والبتاني، وموسى بن شاكر وغيرهم. وظلت مؤلفات العرب والمسلمين في مختلف العلوم والمعرفة هي المراجع التي تدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر، واعترف عدد كبير من مؤرخي العلم بفضل المسلمين والعرب على العالم والإنسانية وكان لهم باع كبير في كل الميادين، من أمثلة ذلك أنهم تكلموا عن التطور من وجهة النظر الإسلامية قبل داروين في القرن 19، وقد كتب في التطور ابن مسكويه وإخوان الصفا وتحدث المسلمون من أمثال ابن خلدون عن أثر البيئة على الأحياء فهو بذلك سابق لامارك ودارون. وتحدث علماء العرب عن الجاذبية قبل نيوتن فابن الخازن كتب عنها قبل نيوتن بمئات السنين. وابن النفيس شرح الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بقرون، والحسن بن الهيثم كتب عن الضوء وانكساره وقوانينه وسرعته قبل علماء أوربا. كذلك أضاف القباني والفرغاني والكندي والصوفي كثيرا من المعارف الفلكية والرياضية. وابتدع الخوارزمي استعمال الأرقام في الحساب واختار سلسلته من الأرقام الأولى ما يعرف بالأرقام الهندية 1، 2، 3، والثانية ما يعرف بالأرقام "الغبارية" العربية 1، 2، 3 وتستعمل الأولى في البلاد العربية والثانية في بلاد المغرب العربي وأوربا. كذلك أنشأ الخوارزمي من الحساب والجبر علما بعد أن كان مجرد معلومات مشتتة. والعرب أول من أطلقوا اسم الجبر على هذا العلم كما استعملوا الصفر والإحصاء العشري. وكان الخوارزمي رياضي بلاط المأمون الذي كلفه بأن يؤلف رسالة في الجبر تكون صالحة لاستعمال الجمهور. ومن هذه الرسالة استطاع الغرب أن يطلع على هذا العلم بعد زمن طويل. وفي الطب والصيدلة قضى الإسلام على الكهانة وحارب التنجيم والشعوذة

وقاوم استخدام السحر في معالجة الأمراض، واتجه المسلمون بالطب من الخرافة والشعوذة إلى الطب العلمي التجريبي واستعانوا بالآلات في طب الجراحة وجعلوا لهذه الآلات قسما مستقلا من أقسام الطب كما أنشئوا المستشفيات والبيمارستانات. كما كان لهم الفضل في وضع نظام الترخيص الشرعي لممارسة الطب والصيدلة. وهم بذلك أول من ارتقى بالطب إلى المهنة القائمة على الاحترام والاحتراف معا. هذا في الوقت الذي حرمت فيه الكنيسة في أوربا طب علاج الأمراض لأن المرض عقوبة من الله. ومن أعلام الطب التجريبي في الإسلام الشيخ ابن سينا أعظم من كتب في الطب في العصر الوسيط. وقد ولد في ميشن ببخارى عام 980م وتوفي في همذان عام 1037م. وهو من أعظم علماء الإسلام، فهو أول من جعل للتجربة مكانا عظيما في دراساته وطبه. ومن أشهر كتبه "القانون" في قواعد الطب بأجزائه الخمسة، واهتم به علماء أوربا، وترجم إلى اللاتينية، وطبع في أوربا حوالي خمس عشرة مرة. وظل المرجع الذي يدرس في الطب في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر أي طيلة ستة قرون. كما ظل يستخدم حتى القرن التاسع عشر في كلية مونبليه التي أنشأها العرب قبل ذلك بألف سنة. وله أيضا كتاب "الأدوية القلبية" وعدد من قصائد في الطب. وعلي بن العباس الذي عاش في أواخر القرن العاشر طبيب آخر نال شهرة كبيرة وهو صاحب مؤلف كامل في الطب سماه "الملكي" ويشمل كتابه عشرة أجزاء في الطب النظري وعشرة أجزاء في الطب العملي وأظهر في كتابه أخطاء كثيرة لبقراط وجالينوس وأريباسيوس. وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية عام 1127م. وهو كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" وهو أشهر كتاب في الجراحة في أوربا زهاء خمسة قرون، ومنهم ابن زهر الإشبيلي الطبيب اللامع في القرن الثاني عشر وأستاذ ابن رشد. وابن رشد نفسه حجبت شهرته شارحا

لأرسطو مكانته العلمية كطبيب. ولابن رشد شرح على القانون لابن سينا وعلى مؤلفات جالينوس وله أيضا رسالة في الترياق في السموم والحميات. ومن الكتب الهامة التي شاعت في العالم اللاتيني من أطباء القرون الوسطى كتاب "زاد المسافر" من تأليف ابن الجزار المتوفى عام 1009م. وقد ترجم إلى اللاتينية وفيه شروح للأمراض الباطنية. وكتاب ابن زهرة "التيسير في المداواة والتدبير" وهو مؤلف في فن الاستشفاء. وكتاب "التذكرة" أو تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى أعظم أطباء العيون في القرون الوسطى. وقد ولد في أوائل القرن العاشر ببغداد وظل كتابه يدرس في أوربا حتى القرن الثامن عشر، وكتاب الحاوي أضخم مؤلف طبي لمؤلفه أبي بكر الرازي الذي كان حجة الطب في ترجم الكتاب إلى اللاتينية، وكان مرجعا لعلماء أوربا والمدارس والجامعات حتى منتصف القرن الرابع عشر. وهو مؤسس الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب. وقد شغل العرب بالطب منذ القرون الأولى للهجرة. ولخص ابن أبي أصبيعة في كتابه "طبقات الأطباء" تراجم أكثر من 400 طبيب ومؤلفاتهم. وعرف عن المسلمين أنهم أول من أنشأ فن الصيدلة وتحضير الأقربازين أي الأدوية. ويقال أن ابن البيطار اكتشف ما يقرب من ألف وأربعمائة دواء من النباتات. كما عرف المسلمون الرقابة على الصيدلة والصيدليات وكانوا أول من أسس مدارس الصيدلة ووضع المؤلفات فيها. كما أنهم عرفوا التخدير في العمليات الجراحية. وفي الفيزياء والكيمياء يعتبر العرب مؤسسين حقيقيين للعلوم الطبيعية إلا أنه مما يؤسف له أنه ضاع كثير من المؤلفات العربية الهامة في علم الفيزياء ولا تعرف بعضها في الوقت الحاضر إلا بعناوينها فقط، بيد أن ما وصل إلينا بالفعل من هذه المؤلفات العربية يشيد بطول باع العرب في هذا المضمار. وليس من المبالغة في القول بأنه لا وجود للكيمياء كعلم قبل العرب. وكان علم الفلك أول علم جذب اهتمام المسلمين. وقد عني به كثير منهم في المشرق والأندلس وكذلك كثير من السلاطين السلجوقيين والجنكيزيين

والتيموريين. وكان لجميع المدن الكبرى في الإمبراطورية الإسلامية مراصدها ومن أشهرها مراصد بغداد والقاهرة وقرطبة وطليطلة وسمرقند. ونالت مدارس الفلك ببغداد والقاهرة والأندلس بصفة خاصة شهرة كبيرة. ومع أن العلماء المسلمين اتخذوا من مؤلفات علماء اليونان نقطة لانطلاق دراستهم فإن هؤلاء العلماء لم يتقيدوا بالقواعد المقررة في هذه المؤلفات. فقد انتقدوا بشدة نظريات بطليموس على سبيل المثال. وكان لهذا التحرر الفكري للعلماء المسلمين أثره الكبير في تحقيق اكتشافات علمية في ميدان الفلك. ومن أشهر الفلكيين في القاهرة ابن يونس عالم أوائل القرن الحادي عشر مخترع المزولة وابن الهيثم الذي ألف أكثر من 80 كتابا من أهمها مجموعة الأرصاد الفلكية وتفسير المجسطي وتفسير آخر للتعاريف في مبادئ إقليدس ورسالة البصريات. وقد كان أول من أوصى بإنشاء سد أسوان لرفع مستوى النيل. وكان للعرب فضل كبير في الجغرافيا, ويرتبط فضلهم في الجغرافيا بفضلهم في علم الفلك، ولعل رسالة النضر البصري التي ظهرت عام 740م أقدم كتاب عربي في الجغرافيا. ثم يأتي وجيز الإصطخري الذي نشر في منتصف القرن التاسع. وكان الولع بالأسفار والرحلات من أبرز صفات العرب المسلمين وكتبوا بها أنصع الصفحات في تاريخ البشرية، وكان للملاحة العربية دور هام ويكفي أن نشير إلى أنه مع التفوق الكبير الذي أحرزته إسبانيا والبرتغال في القرنين 15 و16 كانت السيادة البحرية للعرب. بل إن الملاح الذي مكن فاسكودي جاما البرتغالي من الوصول إلى الشرق كان الملاح العربي أحمد بن ماجد. وكانت مؤلفات المسعودي وابن حوقل والإصطخري عامرة بالمعلومات القيمة عن شتى الأماكن والحياة والطباع لدى سكان البقاع البيعدة. فالمسعودي الذي ولد في آواخر القرن التاسع وتوفي في القاهرة عام 956 مؤلف مروج الذهب قضى ما يقرب من ربع قرن من حياته في الأسفار في شتى أنحاء الخلافة. فزار الهند وسيلان ومدغشقر وزنجبار. وشرح في مروج الذهب وصف الممالك والدول والبلدان والجبال والوديان والأنهار وشعوب العرب والعجم. والإدريسي الذي ولد في سبتة بالأندلس عام 1099م ودرس في قرطبة ثم

استقر به المطاف ليعمل في جزيرة صقلية في بلاد ملكها "روجر" كان حلقة الوصل بين جغرافية المدرسة اللاتينية وجغرافية المدرسة الإسلامية. وكان الأستاذ الذي علم أوربا هذا العلم طيلة ثلاثة قرون. ولم تكن لأوربا خريطة العالم إلا ودرسها الإدريسي. ولم يقع الإدريسي في الأخطاء التي وقع فيها بطليموس في كتابه المجسطي. ومن المعروف أن العرب صححوا ما في هذا الكتاب من أخطاء وعملوا جداول فلكية مدققة. بل إن كتاب الإدريسي يعتبر أكمل بحث جغرافي ورثته أوربا عن العرب وهو ما جاء على لسان دائرة المعارف الفرنسية. وابن بطوطة أكثر رحالة بالمسلمين شهرة قام بعدة أسفار في طول القارات وعرضها. وقد ولد في طنجة بالمغرب عام 1304 وجاب شمال إفريقيا ومصر وزار مكة وسوريا وفلسطين وآسيا الصغرى والقسطنطينية والهند مارا بنهر الفولجا في روسيا وزار خوارزم وبخارى وأفغانستان والصين وسيلان والبنغال وكثيرا غيرها. انظر إلى أعظم الكشوف الجغرافية مثل كشوف كولمبس لأمريكا أو فاسكو دي جاما لرأس الرجاء الصالح والشرق الأقصى. إن هذين الكشفين العظيمين إنما تما على أيدي البحارة العرب الذين قادوا هذه الرحلات، وما كان ذلك ليتم بدون ارتقاء علوم الجغرافيا والملاحقة عند العرب، ومن المعروف أن المسلمين كشفوا منابع النيل قبل الإفرنج، وكان المسلمون حيث ينزلون يمهدون السبل ويعمرون المرافق ويقيمون الفنادق والرباطات ويرتبون سير القوافل، كما كانت المدن الإسلامية أوساطا تجارية كبرى. ويلمع ابن مسكويه وهو من أهم علماء الأخلاق في الإسلام وله كتاب "تهذيب الأخلاق" ولا يعرف شيء كثير من حياته فمنها أنه كان خازنا لدى السلطان البويهي عضد الدولة، وأنه مات عام 1030م، وفي كتاب "تجارب الأمم" يبحث ابن مسكويه في تاريخ قدماء الفرس وفي تاريخ العرب حتى عصره. وفي التاريخ هناك أبو جعفر الطبري "839-922م" صاحب التاريخ المشهور وابن الأثير المولود عام 1160م الذي واصل تاريخ الطبري ووضع خلاصة

واضحة لتاريخه، وأضاف إليه أخبارا مستقاة من منابع أخرى. وامتد بالأحداث حتى 1230م. كما أنه حوى أخبارا كثيرة عن الجزء الغربي من الدولة الإسلامية. وهناك أبو الفدا الأيوبي أمير حماة وكتابه "المختصر في أخبار البشر" وطبع في ليبزج عام 1754م. والمقري الذي هو أهم مؤرخي الأندلس الإسلامية وكتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" نشر في ليدن عام 1855م. ومنهم أيضا حاجي خليفة مؤرخ الحروب البحرية التركية ومؤلف الكتاب القيم المعروف "كشف الظنون". وفي السياسة والاجتماع نجد في القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" الكندي من مشاهير الفلسفة الإسلامية وقد عني بالسياسة على الطريقة الإغريقية كعلم مستقل يشكل قسما من الفلسفة. وأبو النصر الفارابي أحد كبار الفلاسفة المسلمين يؤلف "المدينة الفاضلة" عبر فيها عن أهم أرائه وهي: 1- أن الناس خلقوا ليعيشوا في جماعة. 2- غرض الدولة في نظره أخلاقي بحت هو أن تضمن للمواطنين حكومة كاملة في الدنيا وسعادة أبدية بعد الموت. 3- يجب أن يقوم بإدارة المدينة الفاضلة أو المثالية رئيس على درجة عالية من الذكاء والفهم والطلاقة. وأن يكون محبا للتعليم والاستفادة، محبا للصدق، عادلا قوي العزيمة. 4- يفضل النظام الملكي في الحكم إذا كان الملك جامعا للشروط السابقة. وإن كان ينتهي مثل أفلاطون إلى حكومة من الحكماء أو الجمهورية الأرستقراطية. وابن ظفر من عرب صقلية في القرن الـ 12م ويقرن كتابه "سلوان المطاع" بكتاب "الأمير" لميكافيللي وفيه الكياسة والمكر. والماوردي "972-1058م" كان فقيها وقاضيا كبيرا في أستوا القريبة من نيسابور وكتابه "الأحكام السلطانية" يتناول فيه نظم الدولة الإسلامية والسياسة والاجتماعية والقضائية ويقول فيه: "إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين

وسياسة الدنيا" وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفرنسية وله كتاب "أدب الدنيا والدين" وهو كتاب عظيم الشأن وقد ترجم إلى الإنجليزية. ومن هذا العرض السريع المركز يبدو فضل العرب والمسلمين على مختلف العلوم. والعجيب أنه رغم هذا الوضوح الزائد لموقف الإسلام من العلم وتلك النهضة العلمية التي شهدها، نجد من بين المتعصبين ضد الإسلام من يتهمونه بمحاربة العلم ويرجعون تخلف المسلمين إلى هذا السبب. وهذا ادعاء باطل لا يستند إلى أساس، واتهام باطل لا يحتاج تفنيده إلى جهد كبير، ويكفي أن أصحابه معروفون بتعصبهم. إن تاريخ الإسلام بالإضافة إلى أنه شاهد عيان على تأكيد أهمية العلم وقيمته لا يعرف مثلا واحدا على اضطهاد العلماء بالصورة التي نجد لها أمثلة كثيرة في أوربا منها على سبيل المثال ما حدث لجاليليو الذي حكم عليه بالقتل لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس ولم يسلم من اضطهاد الكنيسة. ومع أنه تراجع في الظاهر عن موقفه حتى يرضي الكنيسة فإنه عاد ونظر إلى الأرض وقال: "ومع ذلك فإنها تدور". ومن أمثلة المتعصبين الذين ادعوا هذا الزعم الباطل ضد الإسلام "رينان" ورغم ذلك فقد اعترف بقيمة العلماء المسلمين فقال: "أجل وجد في البلدان الإسلامية منذ سنة 775م تقريبا حتى نحو أواسط القرن 13 أي خلال خمسمائة سنة علماء ومفكرون ممتازون ... " بل إن من الغريب أن "رينان" نفسه وهو المعروف بتعصبه ضد العرب عبر عن حسرته أن لم يكن مسلما وفي ذلك يقول أيضا: "إنني لم أدخل مسجدا إلا وخررت خاشعا وشعرت بشيء من الحسرة على أنني لم أكن مسلما" "حيدر بامات: ص77". وقد رد الشيخ جمال الدين الأفغاني على آراء "رينان" وفندها ودحضها. ونختتم كلامنا عن هذه النقطة باقتباس مما يورده محمد إقبال في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام". "محمد إقبال: ص149" إذ يقول: "لقد كانت أوربا بطيئة نوعا ما في إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي، وأخيرا جاء الاعتراف بهذه الحقيقة. وسأتلو عليكم فقرة أو فقرتين من

كتاب "بناء الإنسانية" making of humanity الذي ألفه "بريفو" "briffault". يقول "بريفو" "إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية. وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة. والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي، هي طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية. وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارا واسعا، وانكب الناس، في لهف، على تحصيله في ربوع أوربا". "لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام".

لماذا انطفأت شعلة العلم الخلاقة في المجتمعات الإسلامية

لماذا أنطفأت شعلة العلم الخلاقة في المجتمعات الإسلامية؟: يقول الدكتور محمد عبد السلام العالم الباكستاني العالمي المشهور في الفيزياء النظرية والحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979 في تساؤله عن السر في إنطفاء شعلة العلم الخلاق في مجتمعات الحضارة الإسلامية بأن ذلك يرجع لأسباب داخلية أكثر منها خارجية. وأول هذه الأسباب يتمثل في تقوقع هذه المجتمعات على نفسها وتحولها إلى الداخل وانعزال منشآتنا العلمية. ويتمثل السبب الثاني في عدم تشجيع الإبداع.. بسبب التقليد. فإن الجزء الأخير من القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر -حينما بدأ التدهور- يمثل فترات نزاعات دينية وطائفية عميقة وذات دوافع سياسية، حتى إن رجلا مثل الإمام الغزالي كتب حوالي عام ألف ومائة ميلادية "1100م" يقول بأنها جريمة ضد الدين يقترفها من يتصور أن الإسلام تتم حمايته برفض العلوم الرياضية. ذلك أنه لا يرى في هذه العلوم ما يتعارض مع جوهر الدين "ص35، 36".

ويرتبط بهذا الموضوع أيضا النقص الكبير في عدد المشتغلين بالعلوم والبحث في الدول العربية والإسلامية. فقد جاء في دراسة قدمت للاجتماع الأول للجنة العلمية التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في إسلام أباد في الفترة من 10-13 مايو 1983م أن عدد المشتغلين بالبحث العلمي في جميع البلاد الإسلامية حوالي خمسة وأربعين ألف عالم ومهندس مقابل مليون ونصف في الاتحاد السوفيتي سابقا، وأربعمائة ألف في اليابان، وما يقرب من خمسة وثلاثين ألفا في إسرائيل مع الفارق الكبير بينها وبين البلاد الإسلامية في عدد السكان. إذ تصل نسبة سكان إسرائيل إلى سكان العالم الإسلامي حوالي نصف في المائة. ويرتبط بذلك أيضا قلة الأموال التي تخصصها البلاد الإسلامية للبحث العلمي والتكنولوجيا بالنسبة للدول المتقدمة. إذ لا يتعدى ما تخصصه الدول الإسلامية لهذا الغرض ما يقرب من 1% من ناتجها القومي الإجمالي في حين تصل النسبة في الدول المتقدمة إلى حوالي 6%.

تأثير الفكر الإسلامي في الغرب

تأثير الفكر الإسلامي في الغرب: إن التيار الرئيسي لتأثير الفكر الإسلامي في الغرب كان عن طريق الكتب العربية في العلوم الطبيعية والفلسفية وغيرها التي ترجمت إلى اللاتينية وغيرها فترجمت كتب الرازي وابن سينا والغزالي والفارابي وغيرهم. وعن طريق ترجمة كتاب الخوارزمي دخلت الأرقام الهندية - العربية إلى بلاد الغرب. وقد أحدثت هذه التراجم كلها في أوربا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر؛ ذلك أن تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له أعمق الأثر في استثارة العلماء الذين بدءوا يستيقظون من سباتهم، وكان لا بد أن تحدث تطورات جديدة في النحو وفقه اللغة، ووسعت نطاق المناهج الدراسية، وأسهمت بنصيب في نشأة الجامعات ونمائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وكان عجز المترجمين عن أن يجدوا مفردات لاتينية تؤدي المعاني التي يريدون نقلها إلى تلك اللغة هو الذي أدى إلى دخول كثير من الألفاظ العربية في اللغات الأوربية. ولم يكن هذا أكثر من حادث عارض في أعمال الترجمة. ولكن أهم من هذا أن الجبر وعلامة الصفر والنظام العشري في الحساب قد دخلت كلها في بلاد الغرب

المسيحية بفضل هذه التراجم، والطب من ناحيته النظرية والعلمية قد تقدم تقدما عظيما بفضل ما قام به العلماء المترجمون اليونان واللاتين والعرب واليهود، وما كان لعلم الهيئة اليوناني والعربي من شأن خطير قد أحدث وكان لا بد أن يحدث، توسعا في علوم الدين، وفي تعديل أفكار العلماء عن الإله، وكان ذلك إرهاصا بتغيير في هذه الناحية أوسع مدى جاء بعد عهد كوبرنيق. وإن في إشارات روجر بيكون المتكررة لابن رشد، وابن سينا، والفارابي لدليلا على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثير وحافز جديد، وفي ذلك يقول روجر بيكون نفسه: "لقد جاءت إلينا الفلسفة من العرب"، ومعقول أن الذي دعا توماس الأكويني لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت هو أن يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية. وهكذا رد الإسلام إلى أوربا ما أخذ عن اليونان بطريق بلاد الشام كما قدم لها زادا علميا وفكريا اعتمدت عليه في اندفاعتها القوية إبان عصر النهضة وما بعده. ويقول محمد إقبال في كتابه "التجديد الديني في الإسلام" "ص13": لقد أتى على الفكر الأوربي حين من الدهر تلقى فيه وحي النهضة من العالم الإسلامي.. والثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام. لذلك فإنه لا يرى تعارضا في ذلك والاستفادة من نتائج العلم أو الفكر الأوربي، ويقول في ذلك بأنه لا بد أن يصاحب يقظة الإسلام تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوربي والكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوربا أن تعييننا به في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام "المرجع السابق ص14".

الرحلة في طلب العلم

الرحلة في طلب العلم: حث الإسلام على طلب العلم وألا يدخر الإنسان جهدا في سبيل تحصيله ولو كان في الصين. واعتبر السفر في طلب العلم جهادا في سبيل الله. ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من سافر في طلب العلم كان مجاهدا في سبيل الله"، ومن مات وهو مسافر بطلب العلم كان شهيدا، فالعلم ضالة المسلم المؤمن ينشدها حيث كانت". ومن الأقوال المأثورة: سافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفريج هم

واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد. ويتفق علماء المسلمين على مشروعية شد الرحال من أجل طلب العلم شأنه في ذلك شأن زيارة الأرحام والسعي وراء الكسب لأن هذه الأشياء كما يقول أحمد بن حجر "ص45" وردت بها أوامر شرعية. وهكذا كانت الرحلة في طلب العلم ملحما متميزا لتربية الإسلامية منذ عصورها الأولى ... وكان طلاب العلم يتكبدون الصعاب في الارتحال والأسفار. ومع ذلك فإنهما كانوا يستهينون بكل صعب في سبيل طلب العلم من مناهلة ودراسته على أيدي المشاهير من رجاله. ويقول الزرنوجي "ص45" لا بد من تحمل التعب والمشقة في سفر التعلم. وقد قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام في سورة الكهف {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ، فسفر العلم لا يخلو من التعب لأن طلب العلم أمر عظيم وهو أفضل من الجهاد عند أكثر العلماء. والأجر على قدر التعب. وقد أفرد ابن خلدون فصلا في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم. وهو يشير إلى أن الرحلة لا بد منها في طلب العلم واكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال. ويفسر ذلك بأن الرحلة في طلب العلم تمكن الطالب من لقاء شيوخ كثيرين. ولكل شيخ من مشاهير الشيوخ في البلاد المختلفة طريقة خاصة في البحث والدراسة والتعليم. ولذا فإن مخالطة الطالب لهم واحدا بعد الآخر تفيده في معرفة طريق الدراسة التي يتبعها كل شيخ في تدريسه وما يتصل بها من التمييز بين المفاهيم والمصطلحات العلمية. وهكذا يحصل الطالب على ملكة علمية أقوى مما لو درس على يد شيخ واحد. ويقول ابن خلدون: "إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل تارة عملا وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ تكون تربية الملكات ورسوخها ... فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال". ويجب أن يقصد طالب العلم جهابذة العلم والعلماء الراسخين فيه. وقال شاعرنا العربي: لا تأخذ العلم إلا عن جهابذة ... بالعلم نحيا وبالأرواح نفديه

أما ذوو الجهل فارغب عن مجالسهم ... قد ضل من كانت العميان تهديه وكان الطلاب المغاربة أول ما يمرون بمصر فيأخذون من علمائها العظام أمثال أشهب وابن القاسم والإمام الشافعي ثم يؤمون الحجاج لأداء فريضة الحج والسماع من علماء المدينة الكثيرين أمثال: مالك بن أنس وسفيان الثوري وشيوخهما وتلاميذهما. فلذلك مال أهل المغرب إلى المغرب إلى المذهب المالكي واختصوا به. "إبراهيم التورزي ص145". ولم تكن الرحلة في طلب العلم مقصورة على أهل المغرب وإنما كانت ظاهرة عامة في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه. ويقول نيكلسون NICHOLSON في كتابه A LITERARY HISTORY OF THE ARABS "وكان جلة الباحثين وطلاب العلم يرحلون في حماسة ظاهرة عبر القارات الثلاث ثم يعودون إلى بلادهم ليرووا شغف الجماهير التي كانت تنتظر عودتهم لتلتف حولهم فينالوا من علومهم ومعارفهم زادا وخيرا عميما، كما كان هؤلاء الباحثون يعكفون أحيانا على تدوين ما جمعوا وما سمعوا ثم يخرجون للناس كتبا هي بدوائر المعارف أشبه مع نظام رائع وبلاغة عذبة. وهذه الكتب هي المصادر الأولى للعلوم الحديثة بأوسع ما تحتل كلمة العلوم من معنى ... وهي مرجع العلماء والباحثين، ومنها يستمدون فنونا من الثقافة والمعرفة أعمق بكثير مما يظن الناقدون". "وكانت قيمة الطالب في نظر الناس تتناسب مع ما قام به من رحلات لطلب العلم ومع عدد المدرسين الذين تلقى عنهم. وكل هذه الظروف شجعت الطالب أو قل دفعته ليتلقى أفانين من العلم في أي بقعة من بقاع الأرض. ولم تكن هذه الحماسة مقصورة على طلاب العلوم الدينية ولكنها شملت أيضا طلاب الدراسات اللغوية والفلسفية والطب وغيرها". "أحمد شلبي: ص320". وهكذا كان الطلاب يرتحلون في طلب العلم على يد مشاهير العلماء حيثما كانوا وكانوا يتكبدون في سبيل ذلك المشاق والصعاب وأحيانا كان العلماء يسافرون المسافات الطويلة حاملين كتبهم على ظهروهم أحيانا، ويروى أن التبريزي العالم اللغوي المعروف الذي عمل فترة من حياته أستاذا في المدرسة

النظامية ببغداد حمل على ظهره أيام شبابه معجما كبيرا من تبريز إلى بلاد الشام لكي يدرسه عند شاعر معروف النعمان المشهور أبي العلاء المعري. ويقال إن هذا المعجم كان يبدو في مظهره بعد موت التبريزي مبللا بالعرق من طول ما حمله التبريزي على ظهره. "كراتشكوفسكي: ص23". كما يروى أن أبا القاسم سليمان بن أحمد الطبراني الذي ولد بطبرية 260هـ اختلف إلى كثير من البلاد ثلاثا وثلاثين سنة سمع فيها من ألف شيخ. كما أثر عن القاضي عبد الله محمد بن أحمد مولى عبد الرحمن الناصر الأندلسي أنه رحل من قرطبة وتنقل ببلاد الحجاز ومصر والشام وأخذ العلم على مائتين وثلاثين شيخا ثم عاد إلى الأندلس سنة 145هـ. "حسن إبراهيم ج3، 239". وكان طلاب العلم في المغرب الإسلامي كما أشرنا يرحلون في طلب العلم مارين بمصر فيتلقون العلم على يد علمائها ومنهم الشافعي ثم يرحلون إلى الحجاز لأداء الحج والتتلمذ على يد علماء المدينة من أمثال مالك بن أنس. وكثير من علماء شمال إفريقيا رحلوا في طلب العلم وعانوا في سبيل تحصيله منهم أسد بن الفرات المولود 142هـ وارتحل من القيروان إلى المشرق ودرس على يد علمائه، ومنهم الإمام أبو سعيد سحنون بن حبيب التنوخي الذي ولد بالقيروان عام 160هـ ورحل إلى مصر والحجاز والشام وتعلم الفقه على يد علماء هذه الأمصار. ومنهم محمد بن سحنون التنوخي القيرواني المولود سنة 202هـ وأول من كتب في التربية والتعليم من العرب المسلمين، وكتابه المعروف "آداب المعلمين" وقد رحل في طلب العلم إلى الشرق. ومنهم أيضا أبو الحسن القابسي الذي ولد في القيروان عام 324هـ "935م" صاحب الكتاب القيم الذي يعرفه دارسو التربية الإسلامية "الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين"، وقد ارتحل إلى الشرق واستمع إلى علمائه في مصر والحجاز، ومنهم ابن القزاز التميمي شيخ اللغة والأدب في إفريقيا ومؤلف أكبر معجم لغوي عرف في عصره هو "الجامع في اللغة" وغيرهم كثيرون. بل وقد حث العلماء أنفسهم على السفر لما فيه من فوائد ليس أقلها طلب العلم واكتسابه.

وقد درجت الدول العربية الإسلامية في العصور الحديثة على إرسال طلابها في طلب العلم والدراسة في مختلف المعاهد والجامعات بدول العالم المختلفة. ومع أننا بهذا نحيي سنة قديمة سنها سلفنا الصالح فإنه يبدو في بعض الأحيان وجود تخوف من نتائج إرسال البعثات العلمية الدراسية إلى الخارج ولا سيما لدول غير الإسلامية التي تختلف في ثقافتها ونظامها الاجتماعي. وقد تردد هذا التخوف في توصية للمؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1977م فأشارت التوصية إلى قصر إرسال هذه البعثات على التخصصات النادرة بعد مرحلة الليسانس نظرا لما يتعرض له الشباب في الخارج من فتنة جارفة في عقيدته. وهذه التوصية تستحق في الواقع وقفة لعدة أمور أشرنا إليها في تعليقنا على هذه التوصية. وهو ما سيأتي ذكره. وينبغي أن نشير هنا إلى أن الرحلة في طلب العلم ظلت طيلة القرون الأربعة الأولى من مجيء الإسلام الوسيلة الأساسية لطلب العلم لأنه لم تكن هناك مدارس آنذاك. وفي آخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجري ظهرت المدارس وانتشرت وضمت المشايخ والعلماء. فكانت وسيلة أيسر من الرحلة في طلب العلم، وصار طالب العلم في غنى عن الارتحال في طلبه وبدأ طلاب العلم يرتحلون إلى المدارس بل ويقيمون فيها حيث يتلقون العلم على يد شيوخها وعلمائها.

التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد

التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد: إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ماذا نعني بالأصالة والتجديد؟ وللإجابة على هذا السؤال نجد إذا نحن اتجهنا أولا إلى المعاجم اللغوية. أن المعجم الوسيط يعرف الأصالة بأنها أصل الشيء الثابت الذي يبنى عليه. وأصالة الرأي جودته وأصالة الأسلوب ابتكاره وأصالة النسب عراقته. ويعرف التجديد بأنه استحداث الشيء وجعله جديدا. وتكون الأصالة في ثقافتنا الإسلامية بالارتباط بالعقيدة التي كانت دائما حجر الزاوية في كيان الأمة. وينبغي في أي محاولة للتجديد أن نحرص على مقومات العقيدة الإسلامية وما يتصل بها من التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى وإفراده بالألوهية والربوبية، وما يتصل أيضا بماهية الإنسان والغرض من خلقه وبيان مآله في اليوم الآخر. وما هي وسائل تحسن سلوكه، وما السبل الممكنة في الحياة الدنيا والارتقاء بها "هنري لاوست: 48، 49". وكان السلف الصالح من علماء المسلمين يعنون بالتجديد إحياء السنة وإماتة البدعة وإحياء ما اندرس والرجوع بالإسلام إلى مصادره الأولى لتصحيح العقيدة. ويرى ابن تيمية أن التجديد ارتقاء وتقدم بالأمة لتسلك طريقها مرة أخرى كلما بعدت عن الصحيح الأصيل المتوارث.. ويرى المسلمون في التجديد عملية دورية تتم على رأس كل مائة عام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". كما يرون أن التجديد عملية مستمرة حتى يتحقق للإسلام الصلاحية الدائمة لكل زمان ومكان، ومسايرة تقدم الإنسانية وترقيها. كما يتحقق له أيضا القدرة الدائمة على الاستمرار والبقاء. ولذلك يعتبر المسلمون التجديد واجبا على علماء الجماعة الإسلامية أو ساستها أن يقوموا به. وقد ارتبط التجديد عند المسلمين بالاجتهاد وعدوه من ضرورات ودعائم تقدم المجتمع الإسلامي لدرجة أنهم قالوا بعدم جواز خلو عصر من مجتهد. وبعضهم اشترط ألا يقل عدد المجتهدين في كل عصر عن ثلاثة. ونعى الإمام جلال الدين السيوطي "ت 911" على الأمة الإسلامية تناقص المجتهدين فيها فيقول بأنه كان أول طبقات الصحابة وهم مائة وأربعة عشر ألف نفس كلهم مجتهدون ثم طبقة التابعين وهم يقاربون هذ العدد، وهم مجتهدون. ثم تناقص الأمر في وسط الملة. ومع ذلك يكون في العصر الواحد من العلماء الأئمة ألوف. منهم من هو بصفة الاجتهاد نحو مائة أو أكثر، بحيث إن المصنفين في الأصول حكوا خلافا: هل يجوز قلة المجتهدين في عصر بحيث ينقصون عن عدد التواتر فمنهم من منع ذلك وقال إنه مستحيل الوقوع، ومنهم من جوزه إلى ثلاثة وقال لا يجوز أن يكون في العصر الواحد أقل من ثلاثة مجتهدين. ومنهم من جوزه إلى واحد، وقال بجواز قلة المجتهدين والعياذ بالله بحيث لا يكون في العصر الواحد إلا مجتهد واحد. ولا يجوز خلو عصر من مجتهد، ثم يبدي

السيوطي أسفه أخيرا بقوله: "فيا ليت أولئك الذين لم يجوزوا قلة المجتهدين في عصر ونقصهم عن عدد التواتر يقومون من قبورهم فينظرون إلى هذا الزمان". وقد ألف بعض علماء المسلمين كتبا عن التجديد والمجددين في الإسلام، فألف السيوطي "القرن العاشر الهجري" "تحفة المهتدين في بيان أسماء المجددين" وهي منظومة. وله كتاب منشور مخطوط منه نسخة في دار الكتب المصرية بعنوان "التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مائة". وللحافظ ابن حجر كتاب "الفوائد الجمة فيمن يجدد الدين لهذه الأمة". وهذه مجرد أمثلة. ويعتبر علماء المسلمين الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز المجدد الأول في الإسلام على رأس المائة سنة الأولى. وعلى رأس المائة الثانية هارون الرشيد والإمام الشافعي. وعلى رأس المائة الثالثة المقتدر بالله مع ابن شريج القاضي البغدادي. وعلى رأس المائة الرابعة القادر بالله مع أبي حامد الإسفراييني. وعلى رأس المائة الخامسة المستظهر بالله مع حجة الإسلام الإمام الغزالي ... وهكذا. وكان من طلائع المجددين في العصر الحديث محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية وجمال الدين الأفغاني وتلميذه الأستاذ الإمام محمد عبده في مصر. وقد يفضل بعض علماء المسلمين مجددا آخر، ويرجحون عليه مثل ما فعله السبكي في طبقات الشافعية عندما فضل ابن شريج الفقيه الشافعي على أبي الحسن الأشعري المتكلم المعروف. في حين فضل ابن عساكر أبا الحسن الأشعري ورجحه على ابن شريج. وقد يتعدد المجددون في القرن الواحد، ولكل منهم ميدانه العلمي الذي يشتغل به. ويتفق المسلمون على اختيار واحد منهم. وإذا لم يحدث هذا الاتفاق فقد يكون هناك أكثر من مجدد واحد. وقد يقول أحد علماء المسلمين برأي جديد لم يسبق له، أو قد يرجع أو يعدل عن رأي قديم له. وهذا يرجع إلى تغير الزمن، أو تغير الأحوال الظروف، أو تطور الرأي. وهي سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. ونحن في محاولة البحث عن التجديد والسعي إليه ينبغي ألا نجري وراء الأمم الأخرى لتقليدها، لأننا بذلك نكون قد ابتعدنا أو نبذنا نموذجنا الحضاري

الإسلامي الذي صمد الزمن مئات من السنين. وذلك أن آفة التقليد تأتي عندما ننس أصالتنا. وينبغي هنا أن نشير إلى الحكمة النبوية في الحديث الشريف الذي رواه البخاري "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون "الأمم" قبلها شبر بشبر وذراعا بذراع". وينبغي أن نميز في محاولتنا للتجديد بين تقليد مقومات الشخصية والعقائد والتصورات الدينية والثقافية وبين تقليد النتائج العلمية والأخذ بها. إذ لا وطن للعلم ولا جنسية للاكتشافات والبحوث الإنسانية في مختلف ميادين العلم والمعرفة. لأنها نتاج جهود البشرية على اختلاف جنسياتها وأوطانها. فليس هناك طب أوروبي أو هندسة أمريكية أو فلك روسي أو جيولوجيا يابانية "هنري لاورست: 48، 49". ومن المعروف أن العلماء المسلمين قد أسهموا في هذه الميادين جميعا وفي غيرها بجهود لا ينكرها إلا جاحد.

كيف نبدأ

كيف نبدأ؟: الواقع أن أي بداية لتأصيل التعليم الإسلامي أو تجديده ينبغي أن تضع في اعتبارها الصورة الكاملة لتطور التعليم الإسلامي عبر العصور المختلفة حتى الفترة الواهنة. وينبغي أن تكون الرؤية واضحة لهذه الصورة الكاملة بكل تفاصيلها. وهناك بالطبع كثير من الدروس المستفادة التي يمكن أن نخرج بها ... وبصرف النظر عن الدخول في التفصيلات التي لا يتسع لها المقام هنا فإنه يمكن القول بأن التعليم الإسلامي في حركة تطوره عبر العصور المختلفة شهد عدة تطورات هامة سواء من حيث الشكل أو المضمون. فمن حيث الشكل اعتمد التعليم الإسلامي في العصور الإسلامية الأولى على المسجد والكتاب والمكتبات كمراكز للتعليم ... ثم ظهرت المدارس فيما بعد في القرن الخامس الهجري على يد نظام الملك الوزير السلجوقي الذي أنشأ المدرسة النظامية في بغداد وغيرها من المدارس في البصرة والموصل وبلخ وأصفهان. وازدهرت حركة إنشاء المدارس في العالم العربي الإسلامي فيما بعد حتى الفترة التي خضعت فيها البلاد العربي للحكم التركي العثماني. وعندها أخذت حركة التعليم والمدارس في الذبول، وكان ذلك نتيجة طبيعية للسياسة التركية في الأقطار العربية من ناحية وضعف

الدول العثمانية وتأخرها من ناحية أخرى. وعندما نصل بسرعة إلى بداية الاستقلال والتحرر الوطني في البلاد العربية نجد الاهتمام بتطوير نظم التعليم والمدارس. وقد سار هذا التطوير في اتجاهين رئيسيين: الاتجاه الأول تمثل في محاولة إصلاح معاهد التعليم القائمة ومراكزه التقليدية كالأزهر والقرويين والزيتونة والكتاتيب. وقد ارتبط بهذا الاتجاه عدة محاولات إصلاحية هامة منها محاولة الإمام الشيخ محمد عبده والشيخ العروسي والطهطاوي وعلي مبارك. أما الاتجاه الثاني فقد تمثل في إنشاء المدارس الحديثة على غرار المدارس الأوربية ولا سيما الفرنسية منها. وقد ترتب على هذا الاتجاه وجود نظامين للتعليم أحدهما النظام الديني التقليدي والثاني النظام الحديث المقتبس. وقد شكل هذا الوضع ثنائية تعليمية كان لها أثار بعيدة على الوحدة الفكرية والثقافية بل والاجتماعية للبلاد العربية. وبصرف النظر عن اختلاف التربويين في تقييم الآثار المترتبة على اقتتباس المدارس الحديثة فإنها قد استطاعت أن تقوم بدور هام في سد احتياجات البلاد ومتطلباتها الثقافية في نهضتها الحديثة. بل واستطاعت هذه المدارس أن تؤثر من حيث الشكل والمضمون على نظام المدارس التقليدية. وهناك نتيجة هامة أخرى ترتبت على وجود نظام المدارس الحديثة هي وجود سلطة من غير رجال الدين للإشراف على هذه المدارس. وينبغي ألا يفهم من ذلك أن تعليمنا الإسلامي التقليدي قد فقد أصالته لما طرأ عليه من هذا التغيير في الشكل وإنما يجب أن ينظر إلى هذا التغيير على أنه مرحلة تطورية لم يكن لها أن تحدث ما لم تكن مناسبة لثقافتنا وقيمنا الإسلامية. وهناك كثير من الأمثلة على أن الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل قد انفتحت على الثقافات الأخرى واقتبست منها ما يناسبها سواء في نظام الحكم أو الإدارة أو التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو الثقافة أو التعليم. ولم يشعر السابقون بغضاضة في ذلك. فما بالنا لا نتعظ بهم. إن عالمية الرسالة الإسلامية تعني فيما تعني انفتاح المسلمين على العالم كله بخبراته وتجاربه عن وعي وبصيرة وإدراك حقيقي دون ترك الحبل على الغارب بالطبع. أما التطور الذي

حدث للتعليم الإسلامي وهو التطور في المضمون فمن المعروف أن التعليم الإسلامي بدأ بالعلوم النقلية وهي علوم القرآن الكريم وما يتصل بها من تفسير وفقه وعبادات ثم أضيفت إليها علوم اللغة واللسان باعتبارها علوما مساعدة لفهم العلوم النقلية ومعرفتها. وفيما بعد دخلت العلوم العقلية من رياضيات وطب وكيمياء وفلك وفلسفة وغيرها. وقد تطورت هذه العلوم وتنوعت نتيجة للتقدم المعرفي الهائل الذي شهده العالم. وينبغي ألا يكون لدينا أي تخوف من الاستفادة من هذه العلوم ما دامت هي مصدر قوة للمسلمين. وما دامت تعمق فهمنا للدين وتمكننا من السيطرة على الكون ومعرفة قوانينه التي تدل على عظمة الخالق عز وجل. كما تساعدنا هذه العلوم أيضا على تعمير الأرض واستغلال ثرواتها وخيراتها التي خلقها الله لنا. لقد جعل الله الإنسان خليفته على الأرض وأمره بأن يسكنها ويعمرها ويستفيد من خيراتها ورزقها. وفضل الله الإنسان على كثير من خلقه ووهبه هذا العقل الذي يستطيع أن يتميز به عن سائر المخلوقات. وهو مطالب بأن يستخدم هذا العقل وأن يسخره في أداء الرسالة التي كلف بها على الأرض. وهكذا نعتبر كل العلوم علوما إسلامية ما دامت تزيد من فهمنا لديننا وتعمق إيماننا بربنا وتمكننا من الاستفادة من نعم الله التي خلقها لنا في الكون. بيد أن أهم نقاط الضعف التي جعلت تعليمنا المعاصر يبتعد عن أصالته الإسلامية تتمثل في أن تدريس العلوم العقلية المختلفة يفتقر إلى توجيهه الوجهه الإسلامية الصحيحة. فهذه العلوم تدرس موضوعاتها عادة على أن معرفتها هدف في حد ذاتها ولهذا نجد أنه لا فرق بين تدريس هذه المواد في مدارسنا ومدارس غيرنا اللهم إلا في كونها مكتوبة بلسان عربي. وعلينا إذا أردنا أن نؤصل هذه العلوم العقلية أن نوجه تدريسها وجهة إسلامية. وهذا يعني أن يتمشى تدريسها مع الأهداف التي تسعى التربية الإسلامية إلى تحقيقها. ومن ثم يجب أن تدرس هذه العلوم لبيان عظمة الخالق عز وجل وترسيخ إيماننا به وإحكام سيطرتنا على الطبيعة والكون واستغلال ثرواتها ولكن ماذا عن النظريات العلمية التي لا تتمشى مع الفكر الإسلامي كنظرية

التطور مثلا أو نظرية النشوء والارتقاء؟ ... هل نمنع تدريسها في مدارسنا؟ الواقع أنه ينبغي ألا يكون هناك مجال لمثل هذه النظريات في المراحل الأولى من التعليم. وربما جاز لنا تدريس بعض هذه النظريات في المرحلة الأخيرة من التعليم الثانوي. ويكون تدريسها بهدف نقدها في ضوء النظرية الإسلامية وإبراز نقاط الضعف فيها. أما في التعليم الجامعي والعالي فالمجال يتسع لنقد المذاهب الفكرية أو النظريات العلمية المغايرة. بحيث يكون الطالب أكثر نضجا وأكثر إيمانا بدينه وعقيدته. ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة. فجمال الدين الأفغاني على سبيل المثال ألف رسالة في الرد على الدهريين وانتقد فيها نظرية دارون ولامارك في التطور. ولقد أردت بهذا المثال أن أؤكد على ألا يحجر على عقول الشباب المسلم بحجة عصمته وحمايته، وإنما ينبغي أن نحرر فكره من الجمود في ظل إيمان لا يتزعزع وعقيدة إسلامية راسخة. وهذا يتطلب ضرورة العناية باختيار موضوعات المناهج الدراسية الإسلامية الصحيحة التي تخدم أغراض التربية الإسلامية كما سبق أن أشرنا. ويجب على من يتصدى لهذا العمل أن يكون على حظ كبير من المعرفة بأمر دينه. وعقيدته إلى جانب تخصصه العلمي. وأن يكون قادرا على توجيه تخصصه وجهة إسلامية صحيحة، ومع أن تحقيق ذلك ليس بالأمر السهل كما يبدو فإنني أعتقد أن هذا هو الطريق الصحيح لتأصيل تعليمنا الإسلامي. وهناك نقطة ضعف أخرى جعلت تعليمنا الإسلامي يبتعد عن أصالته الإسلامية. وهي تتمثل في قلة عنايته بالعلوم الدينية وعدم إعطائها المكانة التي تستحقها بل وعدم تقديمها في أسلوب محبب إلى النفس وبصورة يجد فيها المتعلم مجالا كبيرا للاستفادة منها وتطبيقها في حياته ... إن افتقار الناحية الوظيفية في برامج التربية الدينية والعلوم الإسلامية في مدراسنا من أكبر عوامل هدمها ونفور التلاميذ منها. ولهذا إذا أردنا أن نؤصل هذا الجانب في تعليمنا الإسلامي والتجديد، فإلى أي حد يكون التجديد في نطاق الأصالة وإلى أي حد نمتد بالأصالة في نطاق التجديد؟ إن حل هذه المعادلة يستند إلى روح الإسلام الحقة التي تقوم على التوسط والاعتدال. فخير الأمور الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ

أُمَّةً وَسَطًا} وفي هذا الإطار ينبغي ألا نجعل يبدنا مغلولة إلى عنقنا وألا نبسطها كل البسط. فعلينا أن نجعل لتدريس العلوم الدينية مغزى وظيفيا في حياة التلميذ يرتبط بحياته التي يحياها كما يرتبط بمعاملاته الفردية والاجتماعية. ويجب أن تستهدف هذه العلوم الدينية مساعدة الإنسان المسلم على معرفة أصول دينه وأحوال دنياه وأن تنمي فيه الانتماءات الإسلامية الصحيحة. إن تجديد التعليم الإسلامي مطلوب بمقدار حرصنا على أصالته. والأصالة لا تتعارض مع التجديد. ذلك أن التعليم الإسلامي في حركته إلى الإمام ينبغي أن يكون أصيلا متجددا في نفس الوقت. لأنه رسالة أصيلة متجددة صالحة لكل زمان ومكان ومناسبة لكل الناس على اختلاف دوران أمورهم وأحوالهم. ولكن قد تبدو المعادلة صعبة ومع ذلك فإن التجديد ينبغي أن يأخذ بأسباب الأصالة، وبهذه الروح فقط يصبح للتجديد معناه الحقيقي.

حول توصيات المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي

حول توصيات المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي: عقد المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من 21-20 ربيع الثاني سنة 1397هـ "31 مارس-8 إبريل 1977م" وقد دعت إلى هذا المؤتمر جامعة الملك عبد العزيز تحت رعاية جلالة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود. ويمثل عقد هذا المؤتمر أهمية خاصة لعدة اعتبارات رئيسية من أبرزها أنه أول مؤتمر من نوعه. فلم يشهد التعليم الإسلامي من قبل هذا الاهتمام الكبير الذي تمثل في هذا المؤتمر الضخم الذي ضم 313 عضوا يمثلون أربعين بلدا، وقدم فيه من البحوث حوالي 150 بحثا إلى جانب الدراسات المسحية عن حالة التعليم في البلاد الإسلامية. يضاف إلى ذلك التنظيم الرشيد الذي وضع لهذا المؤتمر والضمانات المختلفة التي تضافرت على إنجاحه وتوفيقه، فقد عقد هذا المؤتمر في مكان أحسن اختياره، إنه مكان محبب إلى قلب كل مسلم ونعني بذلك مكة المكرمة مهبط الإسلام وحصنه الحصين. وتعتبر توصيات المؤتمر على جانب كبير من الأهمية باعتبارها خلاصة جهد المؤتمر وعمله، ولما يرتجي منها من إثارة الوعي والاهتمام بالتعليم الإسلامي من ناحية وتوجيه مساره في الطريق الصحيح من ناحية أخرى.

وقد انتهى المؤتمر إلى 38 توصية تدور كلها حول ما فيه خير التعليم الإسلامي وترسم له اتجاهات تطويره وإصلاحه. وقد وضع المؤتمر التربية والتعليم في مكانها الصحيح من الأهمية البالغة في حياة الأمم، وعبر عن إحساسه بعظم المسئولية الملقاة على كاهل علماء المسلمين وقادة الفكر والعاملين في ميدان التربية والتعليم في دعم التضامن الإسلامي وخدمة قضايا المسلمين. كما عبر المؤتمر في توصياته عن إحساسه بعدم الرضا عن الأوضاع التعليمية الحالية السائدة في معظم البلاد الإسلامية لأنها لا تمثل الصورة الصحيحة للإسلام. وأكد المؤتمر أن العلوم المختلفة من طبيعية ورياضية وإنسانية نظرية كانت أو تجريبية أو تطبيقية كلها علوم إسلامية، ما دامت متفقة مع الإطار الإسلامي الصحيح وما دامت لا تنحرف إلى استخدامها في الفساد والشر والعدوان. وبهذا التأكيد وضع المؤتمر حدا لما يثار عادة من تقسيم العلوم في الإسلام إلى علوم إسلامية وغير إسلامية أو علوم عقلية ونقلية، وأن الأولى ليست مرغوبة بنفس درجة الثانية. وقد أبرز المؤتمر التربية الإسلامية ودورها في تنشئة الإنسان المسلم الذي يعبد الله ويعمر أرضه ويستثمرها ويسخر ما أودعه الله فيها من ثروات، وأكد المؤتمر أيضا على دور التربية الإسلامية في تقوية الروابط الإسلامية بين المسلمين ودعم قضاياهم وتضامنهم الإسلامي. وهذه ولا شك عناصر رئيسية في أهداف التربية الإسلامية. وكنا نود أن يولي المؤتمر اهتمامه للعناصر الرئيسية الأخرى التي تكون المفهوم الحضاري الشامل للتربية الإسلامية ومنها على سبيل المثال أن التربية الإسلامية تربية إسلامية عالمية تقوم على الأخوة في الإسلام فالمسلم أخو المسلم. والرسالة الإسلامية رسالة إنسانية موجهة إلى الخير وما فيه الخير وهي رسالة عالمية للناس قاطبة. ومنها أيضا أن التربية الإسلامية تربية متجددة فهي تمتد من المهد إلى اللحد وتتجدد مطالبها بتجدد أحوال الناس لأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. وفي توصيات المؤتمر عن مصادر المعرفة في التصور الإسلامي يرد تقسيمها

إلى نوعين: أ- الوحي وذلك في الجوانب التي يعلم الله سبحانه وتعالى أن الإنسان لا يهتدي فيها إلى الحق من تلقاء نفسه. ب- العقل البشري وأدواته في تفاعله مع الكون المادي نظرا وتأملا وتجربة وتطبيقا في الأمور التي تركها الله سبحانه وتعالى لاجتهاد هذا العقل. وهناك بالطبع مصادر أخرى للمعرفة غير هذين النوعين كنا نحب ألا يغفلها المؤتمر ما دام قد تعرض لهذه القضية، ومنها حواس الإنسان من سمع وبصر وحس، فقد خلق الله هذه الحواس ليهتدي بها الإنسان وجعله مسئولا عنها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} . وهناك أيضا النقل عن السلف وهو مصدر هام للمعرفة في الإسلام فقد كان للسلف فضل اجتهادهم وتجاربهم، ويعتبر ذلك مصدرا هاما لمعرفتنا المعاصرة، وهناك أيضا القياس والاجتهاد، وهناك تحفظ على اعتبار الوحي مصدرا للمعرفة ذلك الوحي خاص بطبقة محدودة من الناس هم طبقة الأنبياء ومن في مرتبتهم. ولا يمكن أن نتصور المسلم العادي يعتمد على الوحي في الحصول على المعرفة التي تأتي من عند الله سبحانه وتعالى، ويتصل بذلك أيضا الكلام عن "الحدس" أو الإلهام الإلهي وهو بالطبع شيء مختلف عن الوحي. ويمكن الرجوع في هذا الكتاب إلى الكلام عن مصادر المعرفة في الإسلام. وقد أشارت التوصيات إلى ضرورة الأخذ بمفهوم متكامل للتربية الإسلامية يقوم على تربية الجسم والعقل والنفس وهو ما يؤكد تكامل النظرة إلى الطبيعة الإنسانية في التربية الإسلامية وهي ناحية على جانب كبير من الأهمية تتحرر بها التربية الإسلامية من النظرة الثنائية أو الجزئية للطبيعة الإنسانية والتي سادت على تفكير المربين في الغرب قرونا طويلة. وكنا نود أن تشير التوصيات إلى بلوغ الكمال كهدف رئيسي للتربية الإسلامية. ومع أن الكمال لله وحده إلا أن الإنسان خليفته على الأرض وعليه

أن يشد الكمال وأن يسعى إليه وله في هذا السعي لذة والكمال الإنساني أمر يفرضه أيضا كمال الدين الإسلامي نفسه باعتباره الدين الذي أتم به الله علينا ديننا وأكمل به نعمته علينا. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} وهو أمر أيضا تفرضه طبيعة الرسالة الإسلامية "وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقد أكد المؤتمر تأكيدا كبيرا على تدريس العلوم الإسلامية والاهتمام به في كل المراحل ولا سيما مرحلة التعليم العام. وهي نقطة في غاية الأهمية نظرا لتفاوت الدول الإسلامية في درجة الاهتمام بتدريس هذه العلوم في مراحل تعليمها المختلفة. ويجب أن نتذكر أن الإسلام دين ودولة وهو أسلوب متكامل للحياة ويجب أن تأخذ العلوم الدينية نصيبها من الاهتمام في المناهج المدرسية بل وفي الحياة المدرسية بصفة عامة. كما أكد المؤتمر على ضرورة تبني فكر إسلامي أصيل في مختلف العلوم يبتعد بهذه العلوم عن كل ما هو دخيل أو غريب على الإسلام وهي أيضا نقطة هامة لأن الثقافة الإسلامية بالرغم من أن أصولها واحدة إلا أنها لم تسلم من الشوائب التي علقت بها. وقد وضع المؤتمر اللغة العربية في البلاد الإسلامية في مكانها الصحيح فنادى بضرورة العناية بتعليمها لأنها مفتاح فهم القرآن والدين، وأوصى المؤتمر باعتبار اللغة العربية مادة إجبارية في كل العالم الإسلامي. وهذا في الواقع هو المسار الصحيح للوحدة الإسلامية. وعروبة القرآن بمعنى نزوله بلسان عربي مبين تحتم على كل مسلم أن يعرف اللغة العربية. وبدون أي خلط بين تفضيل عربي على عجمي تقول بأن اللغة العربية هي تمام كمال المسلم بل ومن تمام دينه. وهناك تخوف من إرسال البعثات العلمية الدراسية إلى الخارج فأشارت التوصيات إلى قصر هذه البعثات على التخصصات النادرة بعد مرحلة الليسانس نظرا لما يتعرض له الشباب في الخارج من فتنة جارفة في عقيدته. وهذه التوصية تستحق في الواقع وقفة طويلة بعض الشيء لعدة أمور منها: أولا: أرجو ألا يفهم من هذه التوصية أنها دعوة ضد الدراسة في الخارج

أو أنها ضد الانفتاح الفكري والثقافي للعالم الإسلامي على تجارب وعلوم المجتمعات الأخرى، لأن العالم الإسلامي كما هو معروف بلغ قمة ازدهاره بانفتاحه على الثقافات الأخرى. ثانيا: أن الرحلة في طلب العلم كانت دائما سمة مميزة لسلفنا الصالح من علماء المسلمين، والأمثلة على ذلك لا يعيها الحصر، فقد كان العلماء يرتحلون في طلب العلم سنين طويلة يتلقونه على أهله وثقاته. قد يقال إن سلفنا كان يتلقى العلم عن أيدي علماء المسلمين فالمسلمون يتعلمون عن المسلمين وهذا صحيح إلا أن تراثنا الإسلامي لم ينكر تلقي العلم وأخذه على يد غير المسلمين من العلماء أو أن يرتحل في طلبه إلى أقاصي البلاد "اطلبوا العلم ولو في الصين" بل إن الرسول عليه السلام قبل أن يعلم الكفار واليهود أبناء المسلمين، وكان يفك أسر من يعلم منهم عشرة من صبيان المسلمين كما هو معروف. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجد غضاضة أو حرجا في الاستعانة بخبرة دليل مشرك هو عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق أثناء هجرته هو وأبي بكر من مكة إلى المدينة. ثالثا: أن العلم لا وطن له وحيثما يزدهر نوع من العلوم التي يحتاج إليها المسلمون لتضيف إلى قوتهم فإنه ينبغي أن يحرصوا على تحصيلها، وإذا كان من يتعلم لغة قوم يأمن شرهم فإن تحصيل علومهم من باب أولى إذا كان فيها ما يخدم مصالح المسلمين في إطار الإسلام الصحيح. قال صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها". رابعا: أن التخوف من فتنة طلاب البعثات الدراسية أو فرض القيود عليها إنما تكون بوضع الضمانات التي تكفل تحقيق الأهداف التي تنشدها منها. وفي مقدمة هذه الضمانات حسن اختيار العناصر الصالحة من الطلاب وتوفير الرعاية المالية والاجتماعية لهم أثناء دراستهم وتوفير المكان المناسب والمرتب المناسب لهم بعد عودتهم. هو ما أشارت إليه التوصيات فيما بعد. وأعتقد أن هذه هو الطريق الصحيح لحسن توجه بعثاتنا الدراسية إلى الخارج. وهذه الملاحظات لا تقلل بالطبع من أهمية التوصيات التي تعتبر بحق نقطة

تحول هامة في الانتقال بالتعليم الإسلامي والتربية الإسلامية من مرحلة الدراسات التاريخية التي تقوم على دراسة تطور التربية الإسلامية عبر العصور إلى مرحلة تطوير التعليم الإسلامي المعاصر ليكتسب صورته الإسلامية الصحيحة. وهناك توصيات أخرى كثيرة لم نشر إليها ولها أهميتها الكبرى تتعلق بتعليم المرأة بما يتناسب مع طبيعتها ورسالتها في الحياة ومنها ما يتعلق بتعليم أبناء المسلمين في فلسطين المحتلة وتعليم الأقليات الإسلامية في الدول المختلفة وضرورة العمل على مساندة كل الجهود التي تبذل من أجل العناية بتعليم هذه الأقليات ودراسة أحوالهم وغيرها من الجوانب الأخرى الهامة التي ينبغي قراءتها والرجوع إليها في تقرير المؤتمر وتوصياته. وإني أعتقد أن الحل العملي لتنفيذ هذه التوصيات كان من صنع المؤتمر عندما حالفه التوفيق بإنشاء مركز عالمي للتعليم يسمى المركز العالمي للتعليم الإسلامي بمكة المكرمة ليقوم بتنفيذ هذه التوصيات. وإنني أدعو الله مخلصا أن أرى هذه التوصيات وقد أخذت طريقها إلى حيز التنفيذ لتعيد للإسلام مجده الذي فقدناه عندما فرطنا في أمرنا وقد آن الآوان لينهض العالم الإسلامي ويحتل مكانته {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .

الفصل الثاني

الفصل الثاني أهداف التربية الإسلامية مدخل ... الفصل الثاني: أهداف التربية الإسلامية وأسسها وأساليبها تعتبر كلمة التربية بمفهومها الاصطلاحي من الكلمات الحديثة التي ظهرت في السنوات الأخيرة مرتبطة بحركة التجديد التربوي في البلاد العربية في الربع الثاني من القرن العشرين. ولذلك لا نجد لها استخداما في المصادر العربية القديمة. وما كانت تستخدمه هذه المصادر هي كلمات مثل "التعليم" و"التأدبيب" و"التهذيب" وهي مرتبطة بالتربية كما نفهمها اليوم أوثق الارتباط وقد وردت كلمة "التربية" عند ابن خلدون بمعنى التنشئة في كلامه في المقدمة عن مراتب الملك والسلطان والألقاب. "مقدمة ابن خلدون: ص235". وترجع كلمة التربية في أصلها اللغوي العربي إلى الفعل "ربا" "يربو" أي نما وزاد. وفي التنزيل الحكيم {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي نمت وزادت لما يتداخلها من الماء والنبات. وتقول رباه بمعنى نشأه ونمى قواه الجسدية والعقلية والخلقية. وفي التنزيل الحكيم {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} ... {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . وقد كتب الذين ألفوا عن التعليم في الإسلام من المتقدمين عن أغراض التعليم، ونقل عنه المحدثون وتناولوه في كتابتهم عن أغراض أو أهداف التربية الإسلامية. وبعضهم يجمل الكلام عن هذه الأهداف فيركزها في الهدف الديني الذي يقوم على تعلم القرآن ومعرفة العبادات المفروضة، أو بعبارة أخرى: معرفة الدين علما وتطبيقا. وهذا هدف كبير يمكن أن يشمل التربية الإسلامية كلها باعتبار الدين الإسلامي دينا ودولة، وبعضهم ولا سيما المحدثون يفصلون هذه الأهداف إلى أهداف دينية وعقلية وثقافية ونفسية "أسماء فهمي: 1947" وبعضهم يقسمها إلى أهداف دينية وعقلية واجتماعية ومادية "خليل طوطح: ص352".

وواضح أن هناك اشتراكا كبيرا وشبه اتفاق على هذه الأهداف مع اختلاف المعالجة في التركيز أو التفضيل. ويصبح من الصعب إذن أن نتقبل ما يذهب إليه أحد المؤلفين في التربية الإسلامية من المحدثين عندما يقول: "والرأي عندنا أنه لا يوجد أغراض للتربية عند العرب تعمهم على الإطلاق وإنما الصواب أن نذكر صاحب المذهب ثم نذكر الغرض من التعليم الذي يلائم هذا المذهب" "أحمد الأهواني: ص29". وتميز إحدى الدراسات بين ثلاثة أنواع من الأهداف في التعليم الإسلامي: الأداتية أو الوسيلية "Instrumental" والمعلنة "Expressive" والمعيارية NORMATIVE "WILK: P.334". وتكون أهداف التعليم أداتية عندما يتركز الاهتمام على تحقيق شيء ما أو الحصول عليه. كأن ينظر المتعلم إلى التعليم على أنه للحصول على الشهادة الدراسية أو المؤهل الدراسي كوسيلة للحصول على وظيفة أو عمل. هنا يكون التعليم مجرد وسيلة أو أداة لغرض معين في نفس المتعلم. وعلى هذا فإن الأهداف الأداتية بصفة عامة تعمل على تشجيع النزعة الفردية التنافسية بين التلاميذ أكثر من تشجيعها لهم على التعاون والعمل الجماعي. أما الأهداف المعلنة فهي على العكس من ذلك تعمل على تكوين رابطة توحد بين التلاميذ وتحقق المساواة بينهم. وهي أهداف معلنة لأنها تعبر عن النموذج المثالي أما الأهداف المعيارية فهي تهتم بتنمية أنماط معيارية للسلوك والمعتقدات لدى المتعلم من خلال التعلم. والتربية الإسلامية كما أشرنا في مكان آخر لا تعلق أهمية كبرى على الحصول على المؤهلات والشهادات الدراسية كما هو ملاحظ في التعليم الرسمي في الدول العربية وغيرها من الدول. ولذلك فإن التربية الإسلامية تركز على الأهداف المعلنة والمعيارية، وقد عبر ابن خلدون عن أهمية الأهداف المعيارية بقوله إن كل علوم الحديث تقوم على أساس المادة الشرعية للقرآن والسنة وهما القانون الذي أرسله الله ورسوله. إن بعض النقاد يدعون على غير حق أن الإسلام يعوق النمو والتقدم، وماكس ويبر MAX WEBER هو أحد نقاد الإسلام. وحجته تستند جزئيا على أن

الإسلام لا يعطي أولوية كبرى للأهداف الأداتية "TUNER: 1974" وهو يدعي أن الإسلام تحكمه أخلاقيات الحرب والجهاد. وأنه بسيطرته الجامدة على أبنائه يحد من نمو الاتجاهات الرأسمالية وأنشطة العمل. وهو يقارن ذلك بنظرة المسيحية البروتستانتية التي يرى أنها أكثر فردية وتنافسية. ويشارك "ويبر" في هذه النظرة كارل ماركس وإنجلز رائدا النظرية الشيوعية الماركسية وهما يريان على غير حق أن الإسلام ضد التطوير وضد التحديث. إن "إنجلز" يرى أن الغزو الفرنسي للجزائر كان خطوة هامة محظوظة نحو تقدم الحضارة وأن الفرنسيين جلبوا الصناعة والنظام وتنويرا نسبيا على الأقل لمجتمع "بربري" وهي دعوى مسمومة يرددها أعداء الإسلام. إن أي تصور لأهداف التربية الإسلامية لا بد أن يضع في اعتباره أن مجيء الإسلام يمثل بداية تربية جديدة للمجتمع العربي، وأنه كان من الطبيعي إذن أن يرسم الإسلام مثلا أعلى للحياة مغايرا لما كان عليه حال العرب في الجاهلية أو قبل الإسلام. وعلى هذا يمكن القول بأن أهم أهداف التربية الإسلامية هو بلوغ الكمال الإنساني لأن الإسلام نفسه يمثل بلوغ الكمال الديني فهو خاتم الأديان وأكملها وأنضجها. ويقول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} ويقول عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . ومن تمام الكمال الإنساني مكارم الأخلاق، وقد جاء الإسلام ليصل بهذا الكمال الإنساني إلى قمته. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وهكذا يعتبر بلوغ الكمال الإنساني هدفا رئيسيا للتربية الإسلامية. ومع أن الكمال لله وحده فإن الإنسان لا بد أن يتصف بالكمال باعتباره خليفة الله على الأرض. قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . وعلى الإنسان أن يسعى إلى هذا الكمال وله في هذا السعي لذة تحفزه دائما إلى مزيد من الكمال. يقول الغزالي: "إن أشرف مخلوق على الأرض هو الإنسان، وقد كرمه الله على كثير من خلقه". وهذا التشريف والتكريم يدفع الإنسان دائما على بلوغ مزيد من الكمال.

إن موضوع التربية الإسلامية شأنها شأن غيرها من أنواع التربية هو الإنسان لكل مقوماته الجسمية والعقلية والنفسية والوجدانية ذلك أن طبيعة الإنسان من المنظور الإسلامي تتضمن كل هذه المقومات لتحقيق حياة خلق من أجلها ورسالة كلف بأدائها. ومن ثم فإن التربية الإسلامية تقوم على أساس أن الكمال موجود بالقوة في طبيعة الإنسان، بمعنى أن الإنسان قادر على بلوغ هذا الكمال إذا ما وجد من الرعاية والعناية والتربية ما يساعده على ذلك. وتصبح الوظيفة الرئيسية للتربية في الإسلام هي الانتقال بهذا الكمال الموجود بالقوة إلى كمال موجود بالفعل يكتسبه الإنسان من خلال أساليب التربية والتنشئة التي يتعرض لها في مراحل حياته المختلفة. ومن أهداف التربية الإسلامية أيضا تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وهو هدف تتزن فيه أسس التربية الإسلامية كما سيتضح من كلامنا عن هذه الأسس فيما بعد. وتقوم التربية الإسلامية على أساس الواقع المادي والروحي للإنسان دون اقتصار على جانب واحد فقط. فهي لا تريد أن يعيش الإنسان في السماء وهو في الأرض، ولا تريد كذلك أن يعيش منغمسا في الحياة الأرضية المادية وحدها لأن في كيانها وجودا روحيا. فعالمه أوسع من عالم الحياة المادية الأرضية وحدها وأوسع من الحياة السماوية الروحية وحدها كذلك. "مقداد يالجن: ص45". إن التربية الإسلامية في اهتمامها بالواقع المادي والدنيوي للإنسان تسعى إلى الاهتمام بالجانب الروحي على قدم المساواة. وتهدف من رواء ذلك إلى أن تمتد بحياة الإنسان إلى ما هو أبعد من حياة الأرض قصيرة الأجل وتعده لحياة سعيدة أبدية في الدار الآخرة. وتهدف التربية الإسلامية إلى تنشئة الإنسان الذي يعبد الله ويخشاه، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وطريقة عبادة الله وخشيته إنما تكون بالعلم، فإنما يخشى الله من عباده العلماء. والعلم هو سبيل التقوى الصحيحة إلى معرفة الله عز وجل، ولذلك حث الإسلام على العلم والسعي في طلبه وفضل أهله على غيرهم ورفعهم درجات. ومن ثم يرى

المربون المسلمون أن من المعايير الهامة التي تقوم عليها أهداف التربية الإسلامية والتي تحدد بالتالي المضمون التربوي التعليمي في الإسلام قيمة هذا المضمون وأثره في تربية الإنسان لبلوغ الفضيلة وكمال النفس عن طريق العلم بالله عز وجل وحسن التوجيه إلى الحياة الخيرة الفاضلة، وتنمية العقل وكسب الرزق، وكذلك قيمة هذا المضمون في نفع الإنسان في دنياه وآخرته على السواء. فالعلم فضيلة وتعرف فضيلة العلم بثمرته وهي التقرب من الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أما في الدنيا فثمرته العز والوقار والاحترام وبلوغ المكانة والبعد عن السؤال. إن الإنسان متدين بالطبع وبالفطرة: قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . ومهمة التربية الإسلامية تربية فطرة المسلم على الإيمان الصحيح وخشية الله وعبادته. والتعليم والقدوة أساس الفضيلة والأخلاق، ولذلك كانت سيرة الرسول لها قيمة تربوية خلقية. وقد أمرنا الله بأن نتبع الرسول وأن نأخذ ما آتانا وبه وننتهي عما نهانا عنه.. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} . كما أن الدين ضرورة اجتماعية لأنه ينظم حياة الناس والعلاقات بينهم ويربط بينهم بسياج متين والدين أيضا ضرورة نفسية للفرد يدفعه إلى بلوغ الكمال في الحياة، والسعي والحركة والنشاط. كما يساعد على التغلب على كثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يواجهها الفرد في حياته. خذ مثالا بسيطا عندما تضيق الدنيا في وجه إنسان وتنسد أمامه السبل والمسالك عندها يجد في الدين تفريجا عن كربه وتهدئة لنفسه. ويتصل بالعبادة أيضا دور الإنسان في تعمير الأرض وتسخير ما أودعه الله فيها من ثروات لخدمة حياة الإنسان وتحقيق الخير، وما يتطلبه ذلك من استخدام للعلوم المختلفة. وهكذا تصبح العلوم المختلفة من طبيعية ورياضية وإنسانية ونظرية كانت أو تجريبية أو تطبيقية كلها علوما إسلامية ما دامت

متفقة ومتمشية مع الإطار الإسلامي الصحيح وما دامت لا تستخدم استخداما سيئا يخرج بها عن غرضها فتنحرف إلى الفساد والشر والعدوان. ومن أهداف التربية الإسلامية أيضا تقوية الروابط بين المسلمين ودعم تضامنهم وخدمة قضاياهم. ويتم ذلك عن طريق ما تقوم به التربية الإسلامية من توحيد الأفكار والمشارب والاتجاهات والقيم بين المسلمين في مشارق الأرض وجمع شملهم وتكتيل جهودهم وجعلهم جميعا على قلب رجل واحد. والتربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان باعتباره الرقيب على كل تصرفاته وخير عاصم له، وصلاح الإنسان مرهون بصلاح ضميره. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ، وهذا يعني أن الله رقيب على الرقيب من نفس الإنسان. ولا خير في الضمير إذا لم يكن حيا. فإذا تبلد الضمير أصبح الإنسان كالحيوان وتبلد معه الشعور ونامت الفضيلة والنخوة لديه، فالشخص بلا ضمير هو إنسان ميت الحس، وتربية الضمير تكون بالإيمان الصحيح بالله الذي يعلم السر والجهر وتكون بعبادته: "أن تعبد الله كأنك تراه".

لماذا خلقنا؟

لماذا خلقنا؟ إن أي تحديد لأهداف التربية ومضمونها لا بد أن يتعرض بالضرورة منذ البداية إلى السبب الذي نحيا من أجله، ولماذا خلقنا في هذا العالم؟ وما الهدف من وجودنا في هذه الدنيا؟ هل نحن نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش؟ وما هو نوع الحياة التي ننشدها؟ ولا شك في أن الإجابة عن هذه الأسئلة تختلف باختلاف المنطلقات الإنسانية والفلسفية والدينية والاجتماعية. ويهمنا هنا المنظور الإسلامي. يذكر الراغب الأصفهاني في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة" ثلاثة أسباب أو مقاصد خلق من أجلها الإنسان لتحقيق رسالته في الحياة على وجه الأرض هي: 1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} لتحصيل المعاش

لنفسه ولغيره. 2- عبادة المولى عز وجل المذكورة في قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة هنا تعني كل أفعال الإنسان وتصرفاته في الحياة تجاه الله والآخرين والامتثال لما أمر به الشرع في كل أمور الحياة. 3- خلافته في الأرض المذكورة في قوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وغيرها من الآيات، وقوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ويستحق الإنسان الخلافة بتحري مكارم الشريعة بطهارة النفس والحكمة والعفة والصبر والعدل والإحسان وحسن سياسة نفسه وبدنه وما يختص به وحسن سياسة غيره من دونه وأهل بلده. ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه. ولهذا ذم الله تعالى من ترشح لسياسة غيره فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو غير مهذب في نفسه فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} . هذه المقاصد الثلاثة التي يحددها الأصفهاني لخلق الإنسان تحدد أهداف تربية الإنسان في الإسلام لتهيئته لما خلق له. إن قيمة الإنسان في هذا الكون ومنزلته فيه كبيرة وعالية دون سائر الكائنات. فالإنسان سيد هذا الكون. وكل منا خلق فيه لأجله ومسخر لمنفعته وخدمته. وهذا تكريم من الله سبحانه وتعالى للإنسان خليفته على هذه الأرض، وقد أوجد الله تعالى كل ما في العالم من أجل الإنسان ومن أجل نفعه وخدمته وراحته. وقد خلق الله الإنسان من بين سائر الكائنات خلقة تؤهله للدارين: الدنيا والآخرة. وفي تفسير ذلك يقول الراغب الأصفهاني في تفصيل النشأتين "ص90": إن الله تعالى قد أوجد ثلاثة أنواع من الأحياء: نوعا لدار الدنيا وهو الحيوانات ونوعا لدار الآخرة وهو الملأ الأعلى "الملائكة"، ونوعا للدارين وهو الإنسان. وهو كالحيوانات في الغذاء والتناسل والشهوة البدنية والمهارشة

والمنازعة وغير ذلك من أوصاف الحيوانات، والملائكة في العقل والعلم وعبادة الرب والصدق والوفاء ونحو ذلك من الأخلاق الشريفة. وهكذا اجتمعت له القوتان وتحققت فيه الصفتان الدنيوية والآخروية حتى يصلح لعمارة الأرض وخلافة الله وعبادته. وقد ضرب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لذلك ثلاثة أمثال فقال: إن مثل الدنيا والآخرة ككفتي الميزان لا تترجح إحداهما إلا بنقصان الأخرى، وكالمشرق والمغرب كل من قرب من أحدهما بعد عن الآخر، وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ولذلك يرى قوم أكياسا في تدبير الدنيا بلهاء في تدبير الآخرة وقوم أكياسا في أمور الآخرة بلهاء في أمور الدنيا، حتى قال عليه الصلاة والسلام "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" "الأصفهاني: الذريعة إلى أحكام الشريعة ص96". وبلوغ الكمال والتمام في العقل والخلق أمر صعب عسير ولذلك يقع الإنسان في الذنب والخطأ مهما كانت درجته، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منا نبي إلا أذنب أو هم". ويبين الله في كتابه العزيز أن الغاية المستهدفة من خلق الإنسان هي الخلافة في الأرض. وفي توضيح معنى الخلافة في تحقيقه لكتاب النشأتين وتحصيل السعادتين للراغب الأصفهاني يقول الدكتور عبد المجيد النجار "ص105": "والخلافة هي الخلافة عن الله بمعنى القيام في الأرض بتطبيق أوامره ونواهيه التي تجتمع كلها عند تحقيق مصلحة الإنسان الشاملة عبر التفاعل مع الكون بما يؤدي إلى الترقي الروحي عقلا وفضيلة، الترقي المادي باستثمار الكون في الأغراض المادية بهذا المعنى، فإن الخلافة تتم بالعبادة جهادا للنفس وجهادا للتعمير، ويتحقق نقع الإنسان في الدنيا والآخرة. وقد أوجد كل ما في الكون من أجل الإنسان ومن أجل نفعه ومصلحته وراحته وخدمته. وأباح الله الانتفاع بهذه النعم جميعا {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . فللإنسان أن ينتفع بكل ما في العالم في غذائه ودوائه وملبوساته ومشموماته ومركوباته وزينته والالتذاذ بصورته ورؤيته والاعتبار به واستفادة علم منه والاقتداء بفعله فيما يستحسن منه

والاجتناب عنه عما يستقبح منه "الأصفهاني: تفصيل النشأتين: ص110". ويوضح الدكتور عبد المجيد النجار الفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات في الغاية من خلقها بقوله: "إذا كانت الموجودات جميعا خلقها الله لحكم وغايات فإن الفارق بين الإنسان وغيره في تحقيق الغاية أن الإنسان يحقق غايته باختياره وسائر الموجودات تحقق غاياتها بالطبع. وذلك مظهر تكريمه وعنوان علوه" "الراغب الأصفهاني: تفصيل النشأتين ص110".

ما يصلح به حال الإنسان

ما يصلح به حال الإنسان: يقول الماوردي إن ما يصلح به حال الإنسان ثلاثة أمور هي قواعد أمره ونظام حاله وهي نفس مطيعة إلى رشدها منتهية من غبها، وألفة جامعة تنعطف القلوب عليها ويندفع المكروه بها، ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها. أما الأمر الأول وهو النفس المطيعة فلأنها إذا أطاعته ملكها وإذا عصته ملكته ولم يملكها. ويقول الماوردي إن للنفس آدابها هي تمام طاعتها وكمال مصلحتها. أما الأمر الثاني وهو الألفة الجامعة فلأن الإنسان مقصود بالأذية محسود بالنعمة فإذا لم يكن ألفا مألوفا تخطفته أيدي حاسديه وتحكمت فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه وامتنع على حاسديه فسلمت نعمته منهم وصفت مدته عنهم وإن كان صفر الزمان عسرا وسلمه خطرا. وقد روى ابن جريح عن عطاء رحمهما الله عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن آلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس". ويذكر الماوردي أسبابا خمسة للألفة هي الدين والنسب والمصاهرة والمودة والبر. فالدين يبعث على التناصر ويمنع التقاطع والتدابر. يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} . والنسب من أسباب الألفة لأن تعاطف الأرحام وحمية القرابة يبعثان على التناصر والألفة ويمنعان من التخاذل والفرقة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم إذا تماست تعاطفت". ولذلك

حفظت العرب أنسابها لما امتنعت عن سلطان يقهرها ويكف الأذى عنها لتكون به متظافرة على من ناواها متناصرة على من شاقها وعادها حتى بلغت بألفة الأنساب تناصرها على القوى الأيد. والمصاهرة كأحد أسباب الألفة هي استحداث مواصلة وتمازج مناسبة صدرا عن رغبة واختيار وانعقدا عن خير وإيثار. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} . أما المؤاخاة بالمودة كسبب للألفة فلأنها تولد المصافاة والإخلاص والوفاء، وهذا أعلى مراتب الألفة. ولذلك آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحاب من المهاجرين والأنصار. وأما البر كسبب للألفة فلأنه يوصل للقلوب ألطافا ويثنيها محبة وانعطافا. قال تعالى: {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . وروي عن ابن مسعود أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها". وأما الأمر الثالث فهو المادة الكافية لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر. قال تعالى {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} . فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة ولم يستقم له دين. وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دينه بقدر ما تعذر من المادة عليه. لأن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله ويختل باختلاله. "الماوردي: 208".

العبادة غاية الوجود الإنسان وأساس السلوك الأخلاقي

العبادة غاية الوجود الإنسان وأساس السلوك الأخلاقي ... العبادة غاية الوجود الإنساني وأساس السلوك الأخلاقي: يرى الأصفهاني أن الإنسان تحصل له الإنسانية بقدر ما تحصل له العبادة التي خلق من أجلها. فمن قام بالعبادة حق القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ عن الإنسانية فصار حيوانا ودون الحيوان كما قال تعالى في صفة الكفار {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} "الأصفهاني: تفصيل النشأتين ص150". وهكذا يضع الأصفهاني العبادة أساس الإنسانية والسلوك الأخلاقي عند الإنسان. وهو يقول إن كل شيء يمدح بلفظ نوعه فيقال فلان إنسان وهذا السيف سيف. ولهذا قيل الإنسان المطلق هو نبي كل زمان. ويعلق الدكتور عبد المجيد

النجار على هذه الفكرة بقوله إنها مماثلة لفكرة رائجة عند الصوفية وهي فكرة الإنسان الكامل، ويقصدون بها ذروة الكمال في الإنسان وهي المتحققة في الأنبياء والرسل أو في ورثتهم عند انقطاع الرسل "الأصفهاني: تفصيل النشأتين: ص152". والعبادة كما يعرفها الأصفهاني في كتاب النشأتين "ص157" هي "فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله طاعة للشريعة". وهو يعتبر الأفعال المباحة كالأكل والشرب ومجامعة المرأة عبادة إذا تحرى بها حكم الشريعة، أي يكون مقصودا بها تحقيق حكم شرعي مأمور به أو منهي عنه كالأكل للقوة على العمل والعبادة والجماع للنسل والامتناع عن الزنا والزينة لإظهار نعمة الله. والعبادة عنده ضربان: علم وعمل وحقهما أن يتلازما. لأن العلم كالأس والعمل كالبناء. وكما أنه لا يغني أس ما لم يكن بناء ولا يثبت بناء ما لم يكن أس كذلك لا يغني علم بغير عمل. ولا عمل بغير علم. والعلم أشرفهما ولكن لا يغني بغير عمل. ولشرفه قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أيما الأعمال أفضل يا رسول الله؟ فقال: "العلم" فأعاد عليه السؤال فقال: "العلم". فقال الرجل في الثالثة: أسألك عن العمل لا عن العلم. فقال عليه السلام: "عمل قليل مع العلم خير من عمل كثير مع الجهل". وقال عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" "تفصيل النشأتين: ص159". والغرض من العبادة تطهير النفس واجتلاب صحتها ليحقق للإنسان حياة أبدية وسلامة باقية. وطهارة النفس بإزالة رجسها ونجسها. فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة، لكن نجاسة البدن تدرك بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة. ومن طهرت نفسه طهر قلبه وفعله لأن السائل من لون الإناء وكل إناء بالذي فيه يرشح، ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله ومن خبثت نفسه خبث عمله. وطهارة النفس شرط لخلافة الله وإكمال عبادته وعمارة أرضه "الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة ص36". وهكذا يبين الأصفهاني أن العبادة هي غاية الوجود الإنساني وأساس السلوك الأخلاقي السليم والسعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة.

التكسب واجب

التكسب واجب: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. وقد حثنا الله على الكسب. قال تعالى {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} . وقال صلى الله عليه وسلم: "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد يتخذ المهنة ليستغنى بها عن الناس". وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالتجارة فإن فيها تسعة أعشار الرزق" وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني استعن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته. وأعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به. يعد تكسب الإنسان لمعيشته في الحياة الدنيا من المباحات في الشرع لكنه واجب عليه، ولهذا ذم من يدعي التصوف فيتعطل عن المكاسب. وقد استحسن النبي صلى الله عليه وسلم من وفد عبد قيس لما سألهم: "ما المروءة؟ " فقالوا: العفة والحرفة. "الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة ص267". وقد جعل الله الرزق على قدر العمل. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "من رضي من الله بقليل من الرزق رضي الله عنه بقليل العمل". ويقول الراغب الأصفهاني في تفصيل النشأتين "ص112، 113" إن الناس خلقوا على اختلاف في أجسامهم وقواهم وهممهم ليكون كل ميسرا لما خلق له أي إلى صنعة معينة. ويرد محقق الكتاب الدكتور عبد المجيد النجار على هذا القول بأن هذه المقدمة نفسها غير مسلم بها. فهل الأجسام والقوى هي السابقة في الخلقة على الاختصاص بالصناعات التي تناسبها أم أنها نتيجة لاحقة للصنعة نفسها؟ إن الملاحظ بالعيان أن الصنعة المعينة تكسب محترفها من الصفات البدنية بل والنفسية ما كان خلوا منه قبل تعاطيه إياها، ومن هنا فإن القول بأن اختصاص الناس بصنائعهم أمر توفيقي طبيعي يفضي إلى سلب الاختيار وثبوت ضرب من الحتمية الاجتماعية يكون قولا غير مسلم به بل لعله يكون ضعيفا. واختلاف الناس في

صنائعهم الوارد في القرآن. وكذلك التسخير المبني على ذلك الاختلاف لا يحتمان هذه الجبرية الاجتماعية بل ويصحان مع الاختيار. وقد كانت الثقافات القديمة الفرعونية والهندية واليوناينة والفارسية تقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقات بحسب الوظائف وكل طبقة لها موضع لا تتعداه في السلم التفاضلي الاجتماعي فيما يشبه الجبرية المهنية الاجتماعية. والإسلام جاء هادما لهذه الجبرية مؤصلا للاختيار في الفعل بما في ذلك اختيار الصناعات والحرف. "الراغب الأصفهاني: تفصيل النشأتين ص113، 114". إن الناس يختلفون في قدراتهم وإمكاناتهم الجسمية والبيولوجية والعقلية والنفسية. فكل ميسر لما خلق له. كما أن البشر يتفاوتون في الأخلاق والقيم والصفات المعنوية. ومن هنا يتفاضل الناس ويتمايزون في كسب المعيشة والرزق وفي الفرص المتاحة لهم في الحياة. وقد أشار القرآن الكريم في بعض آياته في سورة القصص على لسان بنت النبي شعيب عليه السلام لأبيها مشيرة إلى موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . فهاتان صفتان إحداهما جسمية وهي القوة. والأخرى خلقية وهي الأمانة. كلتا الصفتين أهلت صاحبها وهو موسى عليه السلام أن يكون أفضل من غيره في العمل والكسب والاستخدام والتقبل الاجتماعي. ويرى علماء المسلمين أن على الإنسان في طلب الرزق والسعي إليه أن يسلك كل الأساليب والطرق المشروعة من زراعة وتجارة وصناعة وما شابهها انطلاقا من الاعتراف بحريته وقدرته على الفعل والترك. وإذا كان الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين. وأنه خالق الأرزاق ومنزلها ومقسمها، فإن الإنسان هو المسئول عن تحصيل الرزق والسعي في سبيله ما أمكنه إلى ذلك سبيلا مشروعا. فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما يقولون. وكسب الرزق والسعي في سبيله واجب عين على القادرين من المكلفين لأن في ذلك دفعا للضرر عن النفس والولد. وهو مما أوجب العقل والشرع والأخذ به وحثا عليه لقوله تعالى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} وعن الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من أكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ

صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} . وإذا قصر الإنسان في تحصيل رزقه أو اعتمد فيه على غيره مع قدرته على القيام به كان غيره أفضل منه وأعلى منه رتبة ودرجة لأن اليد العليا خير من اليد السفلى كما ورد في الأثر. وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل في ذلك حين مر بالمسجد فرأى رجلا معتكفا ليله ونهاره، فسأله عمن يعوله. فقيل له أخوه. فقال صلى الله عليه وسلم: "أخوه خير منه". ووجوب السعي في طلب الرزق والكسب تصحح حالة التواكل والكسل التي تظهر في طبقة من الجهلاء والخاملين الذين يعتبرون الدين نوعا من الرهبنة والعكوف في المساجد. ولقد أطلق القاضي عبد الجبار على هذه الطبقة اسم المتآكلة أو المتواكلة الذين يشيعون جو الخمول والكسل بين أفراد الأمة مدعين أن السعي في طلب الرزق نوع من سوء الظن بالله، وأن حسن التوكل على الله يقتضي القعود عن طلب الرزق "محمد السيد الجليند: 331". وهذا فهم خاطئ لمعنى التوكل والصحيح أن نعقلها أولا ثم نتوكل.

أسس التربية الإسلامية

أسس التربية الإسلامية التربية الإسلامية تربية تكاملية شاملة ... أسس التربية الإسلامية: تستند التربية الإسلامية إلى مجموعة من الأسس والركائز الرئيسية تشكل في مجملها المفهوم الشامل للتربية الإسلامية، ويمكننا أن نعرض هذه الأسس فيما يأتي: 1- التربية الإسلامية تربية تكاملية شاملة: وقصد بالتكامل أو الشمول هنا أنها لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية الإنسان فالتربية الإسلامية ترفض النظرة الأحادية أو الثنائية إلى الطبيعة الإنسانية التي تقوم على التمييز بين العقل والجسم وسمو العقل على الجسم، وإنما هي تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة تشمل كل جوانب الشخصية فهي تربية للجسم وتربية للنفس والعقل معا. ولا شك أن كل جانب من هذه الجوانب يؤثر في الآخر ويتأثر به، وقديما قالوا: العقل السليم في الجسم السليم. كما أن في الجسم مضغة إذا صحت صح الجسم، وإذا فسدت فسد الجسم ألا وهي القلب. والجسم هو مطية النفس والعقل في أداء الواجبات وتنفيذ أوامر

الشرع، ولأهمية الجسم في التربية الإسلامية أمرنا الإسلام بالعناية بصحتنا وأجسامنا "إن لبدنك عليك حقا"، فهناك حق البدن على صاحبه وجعل طهارة الجسم شرطا للعبادة. كما أمرنا أن نجمل مظهرنا بنظيف الثياب وأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد. وتخاطب التربية الإسلامية حواس الإنسان وقواه. وتحتكم إليها {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} . والإنسان مسئول عن الحفاظ على حياته وحمايتها من الخطر والحفاظ على جسمه وضرورة العناية به ووقايته وحمايته وعلاجه إذا ألم به مرض. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات ... فقال الله بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة". وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا قوله: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديديته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا". والتربية الإسلامية تربية للعقل لأنها تخاطب العقل وتحتكم إليه، والإسلام دين العقل والنظر والتفكير والتأمل. ويحتل العقل في الإسلام مكانا هاما قل أن نجد له نظيرا في غيره من الشرائع. فهو أساس التكليف والاختيار والحساب. واعتبرت المعرفة والعلم وهو غذاء العقل أساس التفاضل بين الناس. والتفكير وهو وظيفة العقل فريضة إسلامية. وهو ما حدا بمؤلف العبقريات الإسلامية عباس العقاد أن يجعله عنوانا لكتاب من كتبه الخالدة. والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على إعمال العقل والفكر والنظر والتأمل ووزن الأمور بميزان المنطق، ونبذ ما يتنافى معه من خرافات وأباطيل وأوهام. وقد ذم الله في كتابه العزيز من يسمع القرآن ولا يفقه معناه ولا يتدبره، ومدح من يسمعه ويفقهه، قال تعالى في سورة محمد {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . والقرآن الكريم يعلمنا من خلال الأمثلة الكثيرة أهمية المعرفة العلمية والتقنية من أجل السيطرة على الطبيعة واستعمار الأرض التي استخلفنا فيها

الله. فضرب لنا مثل داود عليه السلام الذي ألان له الحديد وأوحى له أن يعمل منه دروعا، ومثل سليمان عليه السلام الذي سخر له الريح لتحمل بساطه هو وخاصته إلى حيث يشاء، وأسال له النحاس وذلل له الجن في استخدام النحاس المذاب أو المصهور ليعمل منه أنواعا من المصنوعات. قال تعالى في سورة سبأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} . ويضرب لنا القرآن الكريم أيضا مثل ذي القرنين وقيامه ببناء السد والحاجز الحصين لدرء خطر يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان مفسدتان من ولد يافث بني نوح عليه السلام. وتم له ذلك بمساعدة قوة من الفعلة واستخدام كتل الحديد والنحاس المصهور. قال تعالى في سورة الكهف {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} . والتربية الإسلامية تربية نفسية لأنها تخاطب عاطفة الإنسان ووجدانه وقلبه وضميره وتحتكم إليها ... أمرنا ديننا بأن نربي نفوسنا على الفضيلة والخير وحب الناس والتجرد من الأنانية وحب الذات، وجعل أساس الحساب على الأعمال ما استقر في النفس لا بما ظهر من السلوك. وأمرنا ديننا بالتعفف وعزة النفس ورياضتها وتدريبها والتحكم فيها. بل لقد اعتبر ديننا جهاد النفس جهادا أكبر من جهاد الحرب والقتال، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله بعد عودته من الحرب: "رجعت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: "جهاد النفس". إن التربية الإسلامية تربية تحررية لأنها تحرر العقل من التعصب الأعمى والتزمت أو الانغلاق وضيق الأفق والإيمان بالأوهام والأساطير. كما أنها تحرر النفس من الخوف والعبودية والضعف. فالمسلم القوي خير من المسلم الضعيف. وتحررها أيضا من الخبث والدنس واللؤم وكل ما يشينها، وهي أيضا تحرر الجسم من كل ما يدنسه ويعيبه وتقيمه على الطهارة والنظافة والعناية والاهتمام به كما تحرره من الخضوع للذات والشهوات. ويقول العقاد في هذا المعنى في كتابه "الإنسان في القرآن": إن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كل لا يتجزأ. للجانب الجسمي أو البيولوجي حاجاته ومتطلباته وللجانب الروحي والعقلاني حاجاته ومتطلباته. ومن هنا لا يجوز له الإسراف في مرضاة هذا ولا في مرضاة ذاك.

التربية الإسلامية تربية مثالية واقعية

2- التربية الإسلامية تربية مثالية واقعية: تستمد التربية الإسلامية خاصيتها المثالية من الشريعة الإسلامية نفسها. فقد استخلف الله الإنسان في الأرض وجعله خليفته فيها. وفي أصل خلقه فقع فيه من روحه وكرمه على كثير من خلقه. وجعله أشرف مخلوق على الأرض. ومن هنا تنشد التربية الإسلامية السمو بهذا الإنسان وبلوغه درجة الكمال والرفعة بالتدريج. وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا عن أهداف التربية الإسلامية. والتربية الإسلامية تربية واقعية، وهي تستمد هذه الخاصية أيضا من واقعية الشريعة الإسلامية. فالتربية الإسلامية. فالتربية الإسلامية تراعي جانب الواقعية في التطبيق تمشيا مع قوله عز وجل {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . ولذلك قامت التكاليف الإسلامية والعبادات على أساس اليسر والسهولة في أدائها والقيام بها. كما قامت على أساس تجنيب الإنسان المشقة والضيق والحرج. قال تعالى في سورة الحج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفة السمحاء" إشارة إلى قوله تعالى {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} . كما ورد عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشددوا على أنفسكم يشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". فلا رهبنة في الإسلام. ومن قبيل المقارنة نشير إلى أن أحد القوانين المنظمة للرهبنة المسيحية وهو قانون "بنيديكت" قد حدد ثلاثة التزامات على المرء أن يخضع لها في ترهبه وهي: العفة والفقر والطاعة. ويتضمن التزام العفة نبذ العلاقة الزوجية والأسرية واستبدالها بروابط

دينية وروحية ويتضمن التزام الفقر التخلي عن كل ثروته وأملاكه للدير ويتضمن التزام الطاعة التخلي عن كل قوة أو جاه أو سلطان والخضوع التام لنظام الدير. إن حق النفس على الإنسان في الإسلام أن يروح عنها وأن يعطيها من الراحة والأمن والطمأنينة والغذاء والتسلية والهدوء في حدود ما أباحه الله. لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فهم أن الدين ليس إلا تعبدا وتهجدا وصياما وابتعادا عن النساء: "إني أخشاكم لله، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء". إن إرهاق النفس ولو في طلب العبادة لا يطلبه الإسلام لا يرضاه. لأن فيه مشقة فوق المعتاد لا يمكن المداومة عليه. وقد ينقطع به الجهد عنه. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى". ومن واقعية التربية الإسلامية المبدأ التشريعي الذي يقول بأن الضرورات تبيح المحظورات، وعدم محاسبة المرء على الأمور التي تكون خارج نطاق إرادته. قال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". والتربية الإسلامية في وقعيتها تتمشى مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها. ومن واقعية التربية الإسلامية أيضا وسطيتها واعتدالها في كل الأمور شأنها شأن الشريعة الإسلامية نفسها. فلا إفراط ولا تفريط. قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . ومن واقعية التربية الإسلامية التوسط بين أمور الدينا والآخرة. وقد ورد في الأثر "أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". وقال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . إن الإسلام يتطلب المحافظة على خمسة أمور هي أساس الحياة الدنيوية ولا تستقيم الحياة الإنسانية الكريمة إلا بها. هذه الأمور الخمسة هي: الدين والنفس والمال والعقل والنسل "محمد أبو زهرة: ص86". ومن واقعية التربية الإسلامية الاستمتاع بما أحله الله لنا. وقد عاب الإسلام من حرم على نفسه طيبات ما أحل الله. قال تعالى في سورة المائدة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وأمرنا بأكل الحلال من رزقه والاستمتاع به. قال تعالى في نفس السورة {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا

طَيِّبًا} . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم بأن نفرا من أصحابه حرم على نفسه أكل اللحم والنوم على فراش وعدم الزواج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا المسلمين من ذلك: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". وهو ما أشرنا إليه من قبل. إن رسالة الإنسان في الدنيا في نظر الإسلام ليست للتكفير عن خطيئة آدم كما تذهب المسيحية وإنما للقيام بمسئولية استخلافة في الأرض بتعميرها والتنعم بخيراتها. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} . وورد عن النبي قوله: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعلمون". ويقول الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدين" تحت عنوان: الأخذ من الدنيا بنصيب: "إن الله تعالى جعل الدنيا دار تكليف وعمل. كما جعل الآخرة دار قرار وجزاء. فلزم ذلك أن يصرف الإنسان إلى الدنيا حظا من عنايته. لأنه لا غنى له عن التزود منها لآخرته، ولا بد فيها من سد حاجته وليس في ذلك القول نقص". وقد قال الله تعالى لنبيه الكريم {فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . ومعنى هذا أنه إذا فرفت من أمور دنياك واقصد عبادة ربك وقال سفيان الثوري رحمة الله: كتب في التوراة: وإذا كان في البيت بر فتعبد. وإذا لم يكن فاطلب. يابن آدم حرك يدك يسبب رزقك". وقال محمود الوراق: لا تتبع الدنيا وأيامها ... ذما وإن دارت بك الدائرة من شرف الدنيا ومن فضلها ... أن بها تستدرك الآخرة بيد أن استمتاع الإنسان بالدنيا مرتبط أيضا باستمتاعه في الدار الآخرة لأن صلاح الدنيا من صلاح الآخرة. وينبغي أن نشير إلى أنه قد ورد ذكر كلمة الدنيا والآخرة في القرآن الكريم بعدد متساوٍ وهو 115 مرة "انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص21، ص262" ومن واقعية التربية الإسلامية ثلاثية الجزاء وهو من جنس العمل. وهناك الثواب والعقاب والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والجنة والنار. وهناك أيضا باب التوبة والاستغفار.

التربية الإسلامية تربية سلوكية عملية

3- التربية الإسلامية تربية سلوكية عملية: فهي لا تكتفي بالقول وإنما تتعداه إلى العمل والممارسة, ونحن إذا نظرنا إلى المبادئ الرئيسية الخمسة التي بني عليها الإسلام نجدد أنها تتطلب سلوكا عمليا. فالشهادة بواحدانية الله ونبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان كلها تتطلب سلوكا عمليا. ومن تمام كمال الإنسان المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله. كما اهتمت التربية الإسلامية بتكوين العادات السلوكية الحسنة عند الفرد منذ طفولته الأولى لما في هذه العادات من أثر طيب في اكتساب الفضائل والبعد عن الشرور والرذائل. وقد أكد علماء المسلمين على أن يقوم المجتمع الإسلامي على العمل فالكسب الحلال حلال وجمع المال الحلال حلال والأنبياء كانوا متكسبين فآدم أبو البشر عليه السلام كان زارعا وإدريس كان خياطا ونوح كان نجارا وإبراهيم كان بزازا وموسى كان أجيرا وعيسى كان يعمل ومحمد كان راعيا وأجير وكان يتاجر لزوجته خديجة وإن نبي الله دواد كان يأكل من عمل يده. إن الإسلام لا يؤمن كما يرى البعض بأن ترك الدنيا أفضل من الكسب فيها. فمحمد بن الحسن الشيباني عالم القرن الثاني الهجري والمحاسبي علام القرن الثالث الهجري يحرمان الكسب بحجة أنه يصرف الفرد عن الله، وهذا من الأوهام التي استقرت في بعض النفوس ولا تستقيم من منطق الإسلام وروحه. وقد حدد علماء المسلمين وجوه الكسب الاجتماعية وحصروها في أربعة: الإمارة والتجارة والزراعة والصناعة. والتعليم والاشتغال به بالطبع هو من جملة الصنائع كما يقول ابن خلدون. ويقول أبو حنيفة النعمان بن ثابت عالم القرن الثاني الهجري في رسالة إلى المتعلم "أبي مقاتل": "اعلم أن العمل تبع للعلم، كما أن الأعضاء تبع للبصر. فالعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير. ومثال ذلك الزاد القليل الذي لا بد منه في المفازة مع الهداية أنفع من الجهل مع الزاد الكثير، ولذلك قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . والعمل لغة من نفس الحروف "ع، م، ل" ولذا قالوا بوثوق الارتباط

بينهما، فلا علم بلا عمل ولا عمل بلا علم. وقال بعض الحكماء: "مثل العلم بلا عمل كمثل الشجرة بلا ثمر والرعد والبرق بلا مطر والقوس بلا وتر". وسئل ابن شهاب: "أيهما أفضل: العلم أو العمل؟ فقال: العلم لمن جهل والعمل لمن علم". قد أشار القرآن الكريم إلى نبي الله داود عليه السلام {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} . ومن المعروف أن داود عليه السلام كان يصنع الدروع بإلانة الحديد فكان أول من صنع الدروع. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك. والعلم في الإسلام لا بد أن يرتبط بالعمل لدرجة أن الإسلام ينظر إلى الإيمان على أنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما وقر في القلب وصدقه العمل". فالعمل إذن ثمرة المعرفة والعلم ولا قيمة لمعرفة أو علم لا يستفاد منه بالعمل. ويقول الإمام الغزالي في رسالته "أيها الولد المحب": "فلو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها ولم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل". وتشبه هذه العبارة عبارة أخرى تقول: "لو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب لا تكون مستعدا لرحمة الله إلا بالعمل" و"العلم بلا عمل جنون والعمل بغير علم لا يكون" ويقول الغزالي في مكان آخر: "إن العلم والعمل مفتاح السعادة الأبدية". ويعتبر الغزالي أن عدم العمل والعلم انحراف؛ لذا يحذر منه لأنه تسيير للأمور في غير مجراها، ولأن صاحبه يندرج تحت علماء السوء. ويورد الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدين" قول سفيان الثوري بأنه مكتوب في التوراة "يابن آدم حرك يدك يسبب لك رزقك" أي أن كسب الرزق وتحصيله إنما يكون بالعمل لا بالتواكل ... وهو ما سبق أن أشرنا إليه وأكده الإسلام.

التربية الإسلامية تربية فردية واجتماعية معا

4- التربية الإسلامية تربية فردية واجتماعية معا: تقوم التربية الإسلامية على تربية الإنسان تربية فردية ذاتية فهي تربية على الفضيلة ليكون مصدر خير لجماعته وتحمله مسئولية أعماله وتصرفاته، فكل امرئ بما كسب رهين. وكل مسلم راعٍ وهو مسئول عن رعيته. وفي نفس الوقت يربي الإسلام الفرد تربية اجتماعية، فالمسلم أخو المسلم. والمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. و "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى". وهي تربية تجرد الفرد من روح الأنانية البغيضة: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". و "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". وتؤكد التربية الإسلامية على أهمية القدوة والوسط الاجتماعي في تنشئة الفرد. واهتمت بتكوين العادات الحسنة منذ النشأة الأولى للطفل لمخالطته للنماذج الطيبة وإبعاده عن قرناء السوء، فمثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير. كما اهتمت أيضا بالوسط الأسري الاجتماعي كعامل هام في تربية الفرد، فالإنسان يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. إن من أهم الأسس التي تقوم عليها علاقة الفرد بالمجتمع في الإسلام هو أن الاتصال الصحيح للفرد بذاته هو الاتصال الصحيح بالآخرين. وقد اتجه الإسلام إلى إقامة مجتمع قوي بأفراده ويقوم على أساس العدل والمصلحة العامة والتكافل الاجتماعي، ولتحقيق هذه الغاية السامية اتجه الإسلام إلى تربية الفرد وتهذيبه ليكون مصدر خير لجماعته، كما اهتم بإقامة العدل في الجماعة الإسلامية. والمسلمون يتساوون في أخوة رفع الظلم بينهم. فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه وأمرنا الإسلام بالعدل في المعاملة وأن نعامل الناس بما نحب أن يعاملونا به، كما أمرنا بالعدل في الأحكام والقضاء والشهادة وغيرها. ويرى بعض علماء المسلمين أن أجمع آية لمعاني القرآن قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . ومن تمام التربية الاجتماعية للفرد محافظة الإسلام على المصالح الاجتماعية. ويرى جمهور الفقهاء المسلمين أن المصالح الاجتماعية تتركز في خمسة أمور يسمونها بالضرورات الخمس لأنها أمهات لكل الأحكام الفرعية. وهي واجبة على كل مسلم من أجل الحفاظ على نفسه وأهله ومجتمعه. هذه الأمور أو الضرورات هي: حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ الدين وحفظ المال

وحفظ النسل. ويكون الحفاظ على النفس بحمايتها وصيانتها والمحافظة عليها من أي سوء أو ضرر أو اعتداء عليها أو إزهاق لها إلا بالحق. وتكون المحافظة على العقل بحمايته من التلف ومن كل ما يعيقه عن أداء وظائف وفي مقدمتها التفكير. كما تكون أيضا بابتعاد الإنسان عن كل ما يذهب العقل أو يؤثر عليه سلبيا وفي مقدمة ذلك المسكرات والمخدرات بكل أنواعها. وقد حرمها الإسلام لإضرارها بالعقل وما يترتب على ذلك من فساد حال الإنسان. وتكون المحافظة على الدين بالالتزام بأوامره ونواهية وحماية العقيدة من الانحلال أو الانحراف. وتكون المحافظة على المال بكسبه عن طريق حلال وبترشيد انفاقه فيما شرع الله بالعدل وبدون تقتير أو تبذير، وبحمايته من النهب والسرقة وأكله بالباطل. وتكون المحافظة على النسل بالزواج الحلال والابتعاد عن الزنا وحسن اختيار الزوج أو الزوجة الصالحة التي إن نظر إليها زوجها سرته وإن غاب عنها حفظته. ويكون أيضا بحسن تربية الأولاد وتنشئتهم تنشئة صالحة على غرار ما فصلناه في كلامنا عن تربية الطفل في الإسلام. وينبغي أن نشير إلى أن مسئولية الحفاظ على هذه الأمور الخمسة هي مسئولية مشتركة بين الفرد وبين المجتمع ممثلا في قوانينه وشريعته وأولي الأمر فيه. وهي بهذا مسئولية فردية اجتماعية معا.

التربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان

5- التربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان: فضمير الإنسان هو الموجه لسلوكه والرقيب على أعماله. وقد حرصت التربية الإسلامية على تربية هذا الضمير ليكون حيا يقظا في السر والعلانية. فالله رقيب على تصرفات الإنسان حيثما كان. وعلى الإنسان أن يعبد الله كأنه يراه، والله يعلم السر والجهر {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} . قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . والضمير الحي خير عاصم للإنسان من الزلل، وقوة كبيرة لحفزه على العمل، وعندما يعرف الإنسان أن هناك ربا يحاسبه على أعماله وأنه رقيب عليه حيث كان يفكر في كل عمل قبل أن يقدم عليه، وتربية الضمير تربية لإدارة الإنسان بحيث يصبح متحكما في تصرفاته ولا يكون رهن نزواته وشهواته، وفي تكوين الضمير لجأ الإسلام إلى أسلوب الثواب والعقاب وهو أسلوب يتمشى مع طبيعة النفس الإنسانية. وسنفصل الكلام عن الضمير الإنساني وعلاقته بالسلوك الأخلاقي فيما بعد.

التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان وإعلاء لدوافعه

6- التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان وإعلاء لدوافعه: تقوم التربية الإسلامية على التسليم بفطرة الطبيعة الإنسانية وأن الإنسان يولد بطبيعة إنسانية فطرية محايدة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ويقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} . والتربية الإسلامية هي تربية لهذه الفطرة الإنسانية، وهي تعمل على تنمية الميل الفطري لدى الإنسان في معرفة ما يجهل وتستثمر حب المعرفة والبحث عن المجهول لديه. وقد استخدم الإسلام كل وسيلة ممكنة للوصول بهذا الميل الفطري إلى مرتبة الشغف بالعلم والتلهف الشديد المستمر لمعرفة ما في الوجود من معارف وأسرار. والتربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان لأن الإسلام دين الفطرة وكل أوامره ونواهيه وتعاليمه تعترف بهذه الفطرة وتتمشى معها ولا تخالفها, واعترفت التربية الإسلامية من ناحية أخرى بجوانب الضعف في الطبيعة الإنسانية ولم تحملها فوق طاقتها. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ... وأساس التكليف في الإسلام الاستطاعة فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والتربية الإسلامية في تربيتها لفطرة الإنسان تتمشى مع روح الإسلام التي تقوم في أساسها على التوسط والاعتدال فخير الأمور الوسط، وقد أمرنا ديننا بالابتعاد عن الإسراف فالله لا يحب المسرفين، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} ، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ، {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} ، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ... وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين روح التوسط في الإسلام. وتسمو التربية بالإنسان وتعلي من شأنه باعتباره خليفة الله في

الأرض؛ ولهذا كرم الله بني آدم وفضلهم على كثير من خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} ... ويقتضي هذا السمو إعلاء لغرائز الإنسان حتى لا يكون عبدا لهذه الغرائز وينحط إلى مستوى الحيوان. ونحن نستخدم كلمة الغرائز هنا لتعني الدوافع الفطرية في الإنسان. وقد عنيت التربية في الإسلام بأن تنشئ الفرد على التحكم في رغباته وعدم الانسياق وراء شهوته ونزواته، فموقف الإسلام الاعتدال والتوسط كما أشرنا، ويمكننا أن ننظر إلى الصوم على أنه إعلاء لشهوة الطعام عند الإنسان، كما أن الصوم أيضا إعلاء لشهوة الجنس لديه ... وقد ورد في الحديث "من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ... أي حماية وعصمة من الخطأ والانسياق وراء النزوات. وطريقة الإسلام في الإعلاء لنوازع الإنسان ودوافعه تقوم على أساس وضع معايير وأهداف عليا للحياة الإنسانية وتكوين الإدارة القوية للإنسان. وهي عملية تدريب على الضبط الإداري للإنسان وتحكمه في شهواته وبواعث الهوى لديه والتحكم في عواطفه ومشاعره بقوة الإرادة. فلا يسلم نفسه للغضب يسيطر عليه ولا الغلط يتحكم فيه ولا الرغبة في الانتقام تتسلط عليه. كما تعود الإنسان على القيام بالأعمال الصالحة وشغل وقت فراغه بطريقة مفيدة بناءة فيما يفيده ويعود عليه النفع إما بالعمل والعبادة أو التسلية التي لا ضرر فيها وبالأمور المتاحة مثل الرياضة الجسمية والعقلية. وبفكر الإنسان يستطيع أن يغلب العقل على الهوى ... فإذا استخدم الإنسان عقله تغلب به على الهوى والعكس صحيح. وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: "الفكرة مترددة بين الشهوة والعقل ... والعقل فوقها والشهوة تحتها، فمتى مالت الفكرة نحو العقل ارتفعت وشرفت وولدت المحاسن، وإذا مالت إلى الشهوة تسفلت إلى أسفل السافلين وولدت القبائح" "الغزالي: ميزان العمل ص56" قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .

التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير

7- التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير: ذلك أن مجيء الإسلام كرسالة كان من أجل الرحمة بالبشر. وقد خاطب سبحانه وتعالى نبيه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . إن التربية الإسلامية موجهة لما فيه خير الفرد والمجتمع فهي توجه الإنسان إلى الفضيلة بالالتزام بالخلق الكريم والتحلي بجميل الصفات ومعاملة الناس بالحسنى "فالدين المعاملة"، وحث الإسلام المسلمين على الخير وكل ما فيه سعادة الناس جميعا وجعل حب الخير للآخرين من تمام الإيمان "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". كما اهتم بتنمية نزعات الخير في الإنسان من تعاطف وتراحم وتواد وتآخ وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر و "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى". ويقول الغزالي: "إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الحق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكننا نعني بالمصلحة على مقصود الشرع من الخلق خمسة. وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة" "الغزالي: المستصفى. ج1، ص287". وجعل الإسلام مصالح العباد من أفضل العبادات، ويقول عليه الصلاة والسلام: "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله". وقال الشاعر في نفس المعنى: الخلق كلهم عيال الله تحت سمائه ... وأحبهم طرا إليهم أبرهم بعياله والتربية الإسلامية تقوم على إقامة العدل في المجتمع الإسلامي ... ولإقامة العدل جوانب متعددة منها العدل في المعاملة "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به" ومنها العدل في القضاء فالمسلمون سواء أمام الإسلام لا فضل لغني على فقير ولا لقوي على ضعيف ولا لعربي على عجمي، ومنها العدل الاجتماعي؛ فالقوي يساعد الضعيف، والغني يساعد الفقير بل وفي أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم، ومن العدل أيضا التساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، ومن هذه الحقوق حق العمل وحق التعليم. وفي تفسير ما يتعلق بالتعليم قال بعض فقهاء المسلمين إنه يجب أن يكون التعليم على ثلاث مراحل

المرحلة الأولى فرض عين فيها يتعلم كل شباب الأمة الإسلامية، فمن كان يستطيع بكفاءته الفكرية التي كشفتها تلك المرحلة أن يدخل الثانية دخلها، ومن وقفت كفاءته الفعلية عن الدخول فيه وقف عند فرض كفاية تحتاج إليه الجماعة إذ الأمة في حاجة إلى عمال يدويين وزراع يفلحون ويقومون على الحرث، وإلى من يمهرون في الصناعات المختلفة التي لا تحتاج إلى تفكير كثير وإنما إلى أيد ماهرة كسبت مهارتها بالتمرين والعمل. والذين اجتازوا المرحلة الثانية بنبوغ يدخلون المرحلة العليا وهي الثالثة، ومن وقف دون الدخول في هذه الأخيرة وقف عن فرض كفاية فإن الجماعة محتاجة إلى ذوي ثقافات متوسطة ليشرفوا على الأعمال ويديروا نظامها. ومن اجتازوا المرحلة العليا كان منهم قادة الفكر والمخترعون وبمقدار قواهم الفكرية لا بمقدار عددهم تكون قوة الأمة الإسلامية وعظمتها المادية والروحية، فالاعتبار في هؤلاء بقواهم لا بالأعداد الكثيرة "محمد أبو زهرة. ص84". إن إحدى الغايات الرئيسية المنشودة في التربية الإسلامية غاية أخلاقية تقوم على تربية الإنسان الخير الذي يحيا حياة خير بعيدة عن الشر والأذى على المستوى الفردي والاجتماعي.

التربية الإسلامية تربية مستمرة

8- التربية الإسلامية تربية مستمرة: فهي تربية لا تنتهي بفترة زمنية معينة ولا بمرحلة دراسية محددة وإنما تمتد على طول حياة الإنسان كلها، فهي تربية من المهد إلى اللحد. وهي تربية متجددة باستمرار تنمي شخصية الفرد وتثري إنسانيته، كما أنها تأخذ به إلى الأمام في طريق النمو والتقدم المستمرين. إن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة فهي تتغير وتتطور ولا بد للإنسان أن يساير هذا التطور وإلا تخلف عن ركب الحياة. والإسلام يساير التطور باستمرار لأنه صالح لكل زمان ومكان؛ لأنه يستند إلى كتاب أحكمت آياته وفصلت، والشريعة الإسلامية مطاوعة لكل زمان ومكان ومتمشية مع كل عصر، وذلك لتطور الأحوال ودورانها على مصالح الناس واحتياجاتهم المتجددة، والتربية الإسلامية هي انعكاس صادق لهذا التطور المستمر. وقد ورد عن علي بن أبي

طالب قوله: "علموا أولادكم غير ما علمتم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم". وفي الإسلام ليس هناك نهاية أو سن محدودة لطلب العلم، ويقول الزرنوجي في "تعليم المتعلم طريق التعلم" إنه لا عذر لصحيح الجسم والعقل في ترك طلب العلم مهما كان عمره. وسئل أبو عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ أجاب: ما دامت الحياة. وسئل حكيم: ما حد التعليم؟ فأجاب: حد الحياة. وسئل ابن المبارك: إلى متى تتعلم؟ قال: إلى آخر يوم في عمري فلعل الكلمة التي تنفعني لم أتعلمها بعد. ويرى ابن قتيبة أنه "لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل" فالحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيثما كانت ما دامت فيه الحياة، وقد أشرنا إلى الرحلة في طلب العلم في الإسلام في مكان آخر في هذا الكتاب. ويقول الماوردي في هذا المعنى: - اعلم أن العلوم شريفة ولكل علم منها فضيلة، والأحاطة بجميعها محال، قيل لبعض الحكماء: من يعرف كل العلوم؟ فقال: كل الناس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ظن أن للعلم غاية فقد بخسه حقه ووضعه في غير منزلته التي وضعه الله بها، حيث يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وفوق كل ذي علم عليم". وقال بعض العلماء: لو كنا نطلب العلم لنبلغ غايته لكنا قد بدأنا العلم بالنقيصة، ولكنا نطلبه لننقص في كل يوم من الجهل ونزداد في كل يوم من العلم. وسئل سفيان بن عيينة: من أحوج الناس على طلب العلم؟ قال: أعلمهم، لأن الخطأ منه أقبح. وحين انقطع أبو يوسف عن حضور مجلس أبي حنيفة واتخذ لنفسه منفصلا كتب إليه أبو حنيفة بما أعجزه عن الجواب ثم علق على عجزه بقوله: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك على نفسه. وسئل عبد الله بن المبارك: إلى متى تطلب العلم قال: حتى الممات إن شاء الله. لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد. قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل لا يولد عالما وإنما العلم بالتعلم. وقد قال الشاعر العربي في هذا المعنى: تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل

التربية الإسلامية تربية متدرجة

9- التربية الإسلامية تربية متدرجة: قلنا إن هدف التربية الإسلامية بلوغ الكمال الإنساني بالتدريج. وهذا التدرج صفة مميزة للتربية الإسلامية؛ ذلك أن التربية الإخلاقية تتأتى للفرد بالتدرج. وقد كان الإسلام نفسه في أول أمره تربية متدرجة للعرب ... فقد نزلت آياته وأحكامه بالتدرج لفترة تزيد عن ثلاث وعشرين سنة. ويعتبر التدرج في التربية الأخلاقية أساسا من الأسس المعروفة في التربية الإسلامية. فالتربية نفسها عملية أخلاقية واكتساب الأخلاق بما فيها التحلي بالفضائل والترفع عن الرذائل عملية تحتاج إلى وقت حتى يكتسب الإنسان السلوك المطلوب والعادة المرغوبة. إن الإسلام في تربيته للمسلمين الأوائل لم ينتقل بهم طفرة من أخلاقهم القديمة إلى الأخلاق الإسلامية الجديدة. إنما تدرج معهم في الأمور حتى تؤتي التربية نتائجها وثمارها. وهكذا لم يكلف المسلمون في أول عهدهم بالإسلام بما يشق عليهم فعله أو تركه. وسلك الإسلام بهم سبيل التدرج والرفق حتى يتهيئوا للتكليف فالصلاة مثلا في أول الأمر لم تفرض عليهم خمس مرات في اليوم بل طلبت منهم بالغداة والعشي، ولم تفرض عليهم الزكاة والصيام إلا بعد الهجرة بسنة، وكان التكليف قبل ذلك بما استطاعوا من صدقة أو صوم. ومن المعروف أيضا أن تحريم الخمر على المسلمين تم على مراحل، وبعد أن تدرج القرآن معهم حتى انتهى بهم إلى تحريمه بطريقة طبيعية. ولم يحرم عليهم الميسر وكثيرا من عقود الزواج والربا والمعاملات التي كانت يتعاملون بها في جاهليتهم إلا بالمدينة. "عبد الوهاب خلاف: ص289". وقد اهتم الإسلام بتوفير الضمانات المناسبة لتنشئة الخلف الصالح فأوصانا بأن نتخير من البداية لنطفنا فإن العرق دساس. كما طالبنا باختيار الزوجة الصالحة المتدينة لأنها أساس تربية الأبناء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ورث والد ولدا خيرا من أدب حسن" وقد اهتم الإسلام بتنشئة الطفل من ولادته. ويشير الغزالي إلى أهمية المرضعة وأثر لبنها على أخلاق الطفل الرضيع، فيقول: "فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشوء الصبي عجن طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يماثل الخبائث" "الغزالي: الإحياء ج2 ص72" وقد

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا تسترضعوا الورهاء" أي الحمقاء. ويقول ابن سينا "فإذا فطم الصبي عن الإرضاع بدئ بتأديبه ورياضته قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة، وتفاجئه الشيم الذميمة ... فإن الصبي تبادر إليه مساوئ الأخلاق وتنثال عليه الضرائب الخبيثة فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نزوعا ... فينبغي لمعلم الصبي أن يجنبه مقابح الأخلاق وينكب عنه معايب العادات بالترغيب والترهيب بالإيناس والإيحاش وبالإعراض والإقبال وبالحمد مرة وبالتوبيخ أخرى ما كان كافيا" "ابن سينا: كتاب السياسة ص12". وقد اهتم المربون المسلمون بضرورة مراعاة التدرج في التعليم، ويقول الغزالي في ذلك: إن أول واجبات المربي أن يعلم الطفل ما يسهل عليه فهمه لأن الموضوعات الصعبة تؤدي إلى ارتباكه العقلي وتنفره من العلم. ويطالب الغزالي المعلم ألا يخوض في العلم دفعة واحد بل يتدرج فيه مع مراعاة الترتيب، ويبتدئ بالأهم وكذلك ينبغي عليه ألا يخوض في علم إلا بعد أن يستوفي ما قبله فالعلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق بعض. ويشاركه في ذلك ابن سحنون والماوردي وابن خلدون وغيرهم من المربين المسلمين.

التربية الإسلامية تربية محافظة مجددة

10- التربية الإسلامية تربية محافظة مجددة: التربية الإسلامية تربية محافظة مجددة، فهي محافظة بما تقوم عليه من مبادئ سماوية راسخة ثابته، وقيم أصيلة عريقة تمتد بجذورها في التاريخ إلى ما يقرب من خمسة عشر قرنا من الزمان. وتعمل التربية الإسلامية على استمرار هذه المبادئ والتقاليد والقيم ونقلها إلى الأجيال الإسلامية المتعاقبة، وهي تقوم بهذا الدور الأصيل للتربية في التنشئة الاجتماعية للأفراد وتشكيل شخصياتهم الإنسانية الإسلامية ليشبوا مسلمين. ولكن التربية الإسلامية ليست تربية محافظة فحسب، وإنما هي تربية مجددة ... فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، والمسلمون تتجدد أحوالهم بتجدد ظروف هذا الزمان والمكان، ولذلك كان على التربية الإسلامية أن تكون متجددة لتواجه متطلبات العصر ولتفي بالمطالب المتجددة لحاجات المسلمين ومصالحهم على مر العصور والأزمان. وقد سبق أن أشرنا إلى قول علي بن أبي طالب: "علموا أولادكم خير ما تعلمتم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".

التربية الإسلامية تربية إنسانية عالمية

11- التربية الإسلامية تربية إنسانية عالمية: فهي تربية لها صفة العموم التي تتصف بها رسالة الإسلام. فهي للناس كافة ولا تقتصر على فئة معينة من الناس كالعرب مثلا. وإنما هي تربية عامة لك البشر والإنسانية. وهي تربية بعيدة عن التعصب أو التمييز العرقي أو الاجتماعي فلا شعوبية في الإسلام ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب". وهي تربية يتساوى فيها الجميع والتفاضل بينهم يكون على أساس التقوى والإيمان لا الحسب والنسب والجاه. وهكذا يؤكد الإسلام على وحدة الألوهية ووحدة البشرية والإنسانية. والمسلمون متساوون في العبودية المطلقة لله عز وجل. وقد ألزم الإسلام نبيه بالعدل {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، كما أمره بالمساواة في المعاملة بين الناس دون تمييز فالمسلمون سواء في الحقوق أو التكاليف والمسئوليات. ويقول عليه الصلاة والسلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم حرب على من سواهم"، والتربية الإسلامية تربية إنسانية لأنها تقوم على أخوة الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، "والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره"، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ومن كل عرق ولون أعضاء في الأسرة الإسلامية الواحدة يؤلف الإسلام بين قلوبهم ويجمعهم على قلب رجل واحد في جسد واحد، وهي تربية عالمية والإسلام رسالة عالمية جاء للناس كافة وعالمية الرسالة الإسلامية تعني أيضا عالمية التربية الإسلامية.

أساليب التربية الإسلامية

أساليب التربية الإسلامية أسلوب القدوة الصالحة ... أساليب التربية الإسلامية: يقوم منهج التربية الإسلامية على أساليب متنوعة بحسب مناسبتها لتحقيق الغرض المطلوب منها. على أن هذه الأساليب تتكامل فيما بينها لتناسب كل المواقف وتتكيف حسب الأغراض. ومن أهم هذه الأساليب: 1- أسلوب القدوة الصالحة: للقدوة الصالحة أهمية كبرى في تربية الفرد وتنشئته على أساس سليم ولا سيما في الفترة الأولى من حياة الإنسان حتى مرحلة النضج والبلوغ. فالطفل منذ ولادته يكتسب ألوان السلوك من خلال تقليده ومحاكاته للآخرين ويتوقف ما يكتسب الطفل من عادات مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها على نوع القدوة التي تعرض في تربيته، وهذا يؤكد أهمية القدوة في تحديد سلوك الإنسان والعادات التي يكتسبها، وتؤكد التربية الإسلامية أهمية أسلوب القدوة الصالحة في تنشئة الأجيال الإسلامية تنشئة سليمة يتحقق معها الخير لأنفسهم والمسلمين جميعا. وقديما قال الشاعر: وكل قريب بالمقارن يقتدي وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عودة أبوه وقد دعانا الإسلام إلى الاقتداء بالرسول نبينا الكريم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} وضرب الرسول عليه السلام مثل الجليس الصالح والجليس السوء وشبههما ببائع المسك ونافخ الكير. وهذا يعني أن نتخير لأبنائنا ولأنفسنا القدوة الصالحة التي يكون في تقليدها الخير والمنفعة والابتعاد عن مخالطة قرناء السوء تجنبا للشر ودفعا لمضرة. كما يجب أن يكون الأبوان في المنزل والمعلمون في المدرسة نماذج طيبة في السلوك حتى يساعدوا الناشئة على تشرب العادات الإسلامية الطيبة منذ نعومة أظفارهم. وينبغي أن يدرك المعلمون ذلك تماما وأن يتعدوا حدود النظرة الضيقة التي تحدد ميدان تأثيرهم على تلاميذهم في مادة تخصصهم التي يدرسونها لهم.

أسلوب الثواب والعقاب

2- أسلوب الثواب والعقاب: يعتبر أسلوب الثواب والعقاب من الأساليب والطبيعية التي تستند إليها التربية في كل زمان ومكان. فهذا الأسلوب يتمشى مع طبيعة الإنسان حيثما كان، وأيا كان جنسه أو لونه أو عقيدته فالإنسان يتحكم في سلوكه ويعدل فيه بمقدار معرفته بالنتائج الضارة أو النافعة والسارة والمؤلمة التي تترتب على عمله وسلوكه. والتربية الإسلامية تستخدم أسلوب الثواب والعقاب لما له من أهمية بالغة في التنشئة الصالحة لأبنائنا. فأسلوب القرآن الكريم في تصوير الجنة ونعيمها والنار بأهوالها وعذابها إنما هو أسلوب مناسب لطبيعة الإنسان التي تسعى دائما وراء المنفعة وتبتعد ما أمكن عن المضرة. وهكذا يصبح الجزاء من جنس العمل وهو مبدأ منطقي لا يستطيع أحد أن يجادل فيه {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . والآباء في تعاملهم مع أبنائهم والمعلمون مع تلاميذهم بل والمجتمع الإسلامي الكبير يستخدم هذا الأسلوب التربوي على أوسع نطاق. بيد أنه ينبغي أن نشير إلى أن الأسلوبين وإن كانا لازمين في الاستخدام لتفاوت طبائع الناس واختلافهم في الامتثال للأصول والقواعد الإسلامية لا يتساويان في قيمة الأثر الذي يحدثه كل منهما. فأسلوب الثواب أفضل من أسلوب العقاب والترهيب؛ لأن الأسلوب الأول إيجابي وأثره باقٍ؛ لأنه يعتمد على استثارة الرغبة الداخلية للإنسان. في حين أن الأسلوب الثاني سلبي وأثره موقوت لأنه يعتمد على الخوف. وقد ضرب الله لنا مثلا بأنه وإن كان يحاسب الناس على ذنوبهم يترك الباب مفتوحا أمامهم للتوبة والعودة إلى الله {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} . و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} وفي حين أن الله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنات لأصحابها فإنه يتجاوز عن السيئات في الحدود التي أوضحها لنا. ويكون استخدام العذاب أو العقاب بعد أن تكون الأساليب الأخرى من نصح وهداية وإرشاد قد عجزت عن أن تحقق المطلوب منها. وهذا يعني أن يعول في التربية الإسلامية على أسلوب الثواب والترغيب بصورة أكثر {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} . إن الإنسان معرض للخطأ والوقوع فيه. فجل من لا يخطئ، ومن منا كملت صفاته؟ ولذلك نجد أن الأسلوب الإصلاحي للتربية الإسلامية يفتح الباب أمام العودة إلى الطريق السليم. وفي هذا صلاح للمذنب أو المخطئ وإلا تمادى في خطئه. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وفي الحديث الشريف: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".

أسلوب التوجيه والنصح

3- أسلوب التوجيه والنصح: وهو من الأساليب المعروفة في التربية الإسلامية وله تأثيره الحسن في النفوس؛ لأنه يتطرق إلى النفس الإنسانية من مداخلها الحقيقية، ويجعل الناصح في نظر المنصوح شخصا طيب النوايا حريصا على المصلحة. ومن هنا يكون لكلامه قبول حسن. ويكون هذا الأسلوب فعالا ويؤتي ثماره عندما يكون النصح صادرا من القلب. لأن ما يصدر عن القلب يصل على القلب. وفي القرآن الكريم عظات كثيرة: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} . بل إن القرآن كله موعظة وهدى ورحمة للمؤمنين. وفي أسلوب التوجيه والنصح مجال كبير للمعلمين في توجيه طلابهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وإلى ما فيه رقي مجتمعهم وأمتهم. إلا أنه ينبغي على المعلم أن كون ذكيا لبقا في نصحه. وأن يبتعد عن أسلوب الأوامر والنواهي على طريقة اعمل كذا ولا تعمل كذا. فإن هذه الطريق إلى جانب أنها قد تكون منفرة للمتعلم لا تحقق الهدف المنشود منها. وأولى للمعلم أن يستخدم الأسلوب غير المباشر في النصح والتوجيه كأن يستعين بالقصص. وللقصص كما هو معروف أثر في النفوس. ويمكن أن تتضمن القصة المغزى الأخلاقي أو التربوي المرغوب. وقد جاء القرآن الكريم بالقصص المعلمة ذات المغزى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . ويمكن للمعلم أيضا أن يستعين بدروس من التاريخ وما فيه من عظات وعبر. فكم من أمم هوت لفساد أخلاق أبنائها، وكم من حضارات انهارت لتفكك مجتمعاتها وانحلالها. وكم من أناس هلكوا لطغيانهم وكفرهم وغير ذلك من الدروس التاريخية التي يمتلئ بها القرآن الكريم وكتب التاريخ.

أسلوب الحوار والمناقشة

4- أسلوب الحوار والمناقشة: من الأساليب التي تقوم عليها التربية الإسلامية في توجيه الإنسان نحو الحق والخير أسلوب الحوار والمناقشة والإقناع والاقتناع عن طريق العقل والمنطق. والقرآن الكريم مليء بالأمثلة التي تؤكد أهمية الصبغة العقلية للإنسان. وعلينا كمسلمين أن نستخدم عقولنا في التمييز بين الصواب والخطأ. وبين الصالح والطالح من الأمور. وقد ضرب الله مثلا لرسوله الكريم بأن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعطة الحسنة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . ويتضمن أسلوب الحوار والمناقشة في التربية الإسلامية ضرورة تعريف الناشئة بالأساس العقلاني والمنطقي لأي قضية مطروحة أمامهم، وألا يرددوا المعلومات ترديدا أعمى دون فهم لمضمونها الحقيقي. أو دون إدراك لارتباطها بواقعهم الفردي والاجتماعي. كما يجب أن تتاح لهم الفرصة للمناقشة الجادة البناءة التي تحلل أبعاد الموضوع المطروح للمناقشة وتلقي الضوء على جوانبه المختلفة. ومن الطرق التي يمكن أن يلجأ إليها المعلم لإقناع التلاميذ في الأمور الدينية ولا سيما في الغيبيات أن يوضح لطلابه أن هناك أنواعا مختلفة من المعرفة من بينها المعرفة اللدنية الغيبية والنقل عن السلف الصالح، وأن هذا اللون من المعرفة قد يقصر عقل الإنسان عن فهمه وتصوره وما أكثر الأمور التي تبين ذلك حتى في ميدان العلم الطبيعي أو التجريبي، والكون من حولنا مليء بالظواهر التي لا نراها ولا نحسها ولا نسمعها ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها، ومن أمثلتها الموجات الصوتية والضوئية فهناك كائنات متناهية في الدقة مثل دبيب النمل لا يمكن سماعه بالأذن العادية. وهذه أمور موجودة لم يكن يعلم الإنسان من قبل عنها شيئا. وقد يصعب على العقل مثلا تصور اختراق الأشعة السينية للأجسام الصلبة. وليس من الضروري أن تستدل على الشيء بوجوده المباشر، وإنما عن طريق آثاره، فقديما قالوا: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير. ومظاهر إبداع الكون تدل بالتالي على عظمة خالقه. والعلم الحديث يأخذ بهذا الأسلوب في التفكير، فالطاعة مثلا هو موضوع علم الطبيعية برمته، ومن الصعب تعريفها تعريفا مباشرا إلا من خلال آثارها التي تحدثها أو من خلال ما يعرف "بالتعريف الإجرائي" الذي يعرف الظاهرة بإجراءاتها وعملياتها التي تتضمنها. ونحن في التربية لا نعرف على وجه التحديد ماذا يحدث في عقل الإنسان نتيجة لعملية التعلم. نحن نسلم بأن الإنسان يتعلم ألوانا من المعارف والسلوك والمهارات أما كيف يحدث هذا التعلم في الإنسان وما الأثر الذي يحدثه

في عقله؟ فهذا اجتهاد للنظريات الكثيرة التي تحاول تفسير التعليم عند الإنسان. والحياة نفسها فيها المعقول واللامعقول. ونحن قد نرفض قبول الجانب اللامعقول فيها عندما نفكر بطريقة عقلية منطقية. ومع ذلك نحن نعيش هذا الواقع ونتأثر به. كم منا مثلا من يسلم علميا أو منطقيا بما يقال أحيانا "من عاش بالصحة مات بالمرض" أي أنه من يعيش ملتزما تماما بالأصول الصحبة لا بد أن يموت مريضا، ومع ذلك فإن الحياة قد تظهر لنا في بعض الأحيان أنه أحد قوانينها. والنظرية العلمية نفسها ليست خالدة، وكم من نظريات العلم التي سادت التفكير في فترة ما ثبت خطؤها أو عدم صحتها فيما بعد. وأرجو ألا يفهم من ذلك أنني أشكك في العلم أو أقلل من أهمية منجزاته، فإنني أردت من كلامي السابق أن أبين اختلاف أساليب الإقناع وأن العقل الإنساني نفسه محدود والإنسان قد يصل إلى الاقتناع العقلي، ومع ذلك يكون أسيرا لعادة تحكمت فيه، فكثير منا مثلا مقتنع بمضار التدخين ومع ذلك لا يستطيع أن يمتنع عنه. وقد يكون الإنسان مقتنعا بشيء من الناحية العقلية المنطقية لكنه غير مقتنع من الناحية العاطفية أو الوجدانية مما يحول بينه وبين السير في الطريق الذي يمليه التفكير العقلي والمنطقي، ويبدو هذا الأمر بوضوح في المسائل التي تتصل بعواطف الإنسان، ولذلك تهتم التربية الإسلامية بتربية الإنسان المسلم تربية سليمة تمكنه من التحكم في عواطفه والسيطرة عليها والبعد عن التعصب الأعمى. ويجب أن يهتم المعلم في إقناعه لتلاميذه بالأساس العقلي الذي يساعد تزكية العواطف النبيلة لدى الإنسان ومثله العليا في الحق والخير والجمال. ويؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب، ويشير إلى أن "ملكة العلم" إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم وهو يعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئا ذا بال في العلم. والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس

واعتبروه أسلوبا مفضلا مجديا في التعليم. يقول الزرنوجي: إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار. وقد احتاط المربون المسلمون من سوء استخدام أسلوب المناظرة والحوار بأن له بعض الشروط التي تجعل منه أسلوبا فعالا للتعلم والبحث العلمي من أهمها أن يكون هدف المناظرة الوصول إلى الحقيقة لا التضليل وحب الانتصار بالباطل. كما يشترط في المتناظرين الإلمام بموضوع المناظرة والتحلي بالهدوء وسعة الصدر وعدم التكلف وغيرة الصدر. ومع أن أسلوب المناظرة هو أقرب إلى الدراسات العالية فإننا نجد صورة مبسطة منه في أسلوب الحوار والنقاش الذي يدبره المعلم مع تلاميذه ليحفزهم على التفكير.

أسلوب المعرفة النظرية

5- أسلوب المعرفة النظرية: يعتبر أسلوب المعرفة النظرية من أقدم وأشيع الأساليب المستخدمة في التربية. وهو يعتبر من الأساليب التي تقوم عليها التربية الإسلامية. وللمعرفة والعلم قيمة حقيقية في الإسلام فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون بصرف النظر عن ماذا يعلمون. وقد أشرنا في مكان آخر إلى أن الإسلام اعتبر العلم طريقا لطاعة الله وخشيته. كما سبق لنا أن بينا بالتفصيل مكانة العلم في الإسلام والمعرفة النظرية مهمة في حد ذاتها لأنها تنمي عقل الإنسان وفكره وتساعد على تكوين خلفية ثقافية تمكنه من التعامل مع مجتمعه وتساعده على القيام بدور المواطنة الصالحة فيه، ولقد تعالت الصيحات من جانب المربين يتساءلون حول جدوى المعرفة النظرية، وانتقدوا التعليم المعاصر لأنه تعليم لفظي نظري يفتقر إلى مغزاه الوظيفي والتطبيقي، وقد ترتب على ذلك عزلة التعليم عن مجتمعه ونفور الطلاب في بعض الأحيان منه وعزوفهم عنه. وقد حدا هذا الوضع ببعض المربين إلى وصف المعلمين بأنهم أناس يحاولون أن يعلموا أناسا أخرين أشياء لا يرغبون في تعلمها. وقد تكون في الأمر بعض المبالغة التي تغلف ما في هذه الدعوى من صحة. ولكن ذلك لا يقلل بأي حال من الأحوال من المعرفة النظرية. ولن يكف التعليم المدرسي في يوم ما عن تقديم هذا اللون من المعرفة لضرورته وأهميته. إن أية فكرة عملية لا بد أن تبدأ بفكرة في عقل الإنسان يفكر بالرموز. والإسلام كما أشرنا يحترم العلم وأهله ويقدرهم. كما أنه يعتبر المعرفة أساس المساءلة {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . ولكن التربية الإسلامية في اهتمامها بأسلوب المعرفة النظرية كأحد الأساليب التي تستخدمها فإنها أيضا تؤكد أهمية الأساليب الأخرى التي تتكامل فيما بينها لتكون المنهج الشامل للتربية في الإسلام.

أسلوب الممارسة العملية

أسلوب الممارسة العملية ... 6- أسلوب الممارسة العلمية: من الأساليب التي تهتم بها التربية الإسلامية الممارسة العملية. وقد سبق أن أشرنا إلى أن التكاليف الإسلامية كلها والمبادئ الرئيسية للإسلام من شهادة بواحدانية الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان إنما تتطلب ممارسة وأسلوبا عمليا من جانب الإنسان. ويجب أن يتطابق سلوك المسلم الحق مع ما في ضميره وقلبه "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". وأن الله سبحانه وتعالى يحاسبنا على أعمالنا بمقدار ما ترتبط هذه الأعمال بنوايا الإنسان وسرائره. فالله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وينبغي على المربي المسلم أن يهتم بتنمية السلوك العلمي الرشيد، وأن يدرك أن تلاميذه إنما يحسن تعليمهم إذا هم مارسوا ما تعلموه من خلال خبرتهم وتجربتهم المباشرة. كما يجب أن يهتم العلم بإظهار الجوانب الوظيفية التطبيقية لما يتعلمه التلميذ في واقع حياته كفرد في واقع المجتمع الإسلامي الكبير. إن الناشئة الصغار لا يمكن أن يتعلموا ألوان السلوك الديني والاجتماعي إلا إذا مارسوها وأصبحت عادة لديهم وهذا يعني ألا يقتصر المعلم على المعرفة اللفظية وإنما يجب أن يتعدى ذلك ليربط بين الفكر والعمل والنظرية والتطبيق.

أسلوب الرسم والإيضاح

7- أسلوب الرسم والإيضاح: ومن أساليب التربية الإسلامية الرسم والإيضاح. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرح لأصحابه بالرسم والشكل بعض المفاهيم الهامة تقريبا لأذهانهم وقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا خارجا منه، وخط خطوطا صغارا إلى هذا في الوسط من جانبه الذي في الوسط. فقال: "هذا الإنسان وهذا أجله محيط به، وهذا الذي خارج "أي خارج عن الخط" أمله. وهذه الخطوط الصغار والأعراض هو الحوادث والنوائب المفاجئة. فإن أخطأ هذا نهشه هذا، وإن أخطأ هذا نهشه هذا. وإن أخطأه كلها أصابه الهرم". وهذا هو المخطط الذي خطه عليه الصلاة والسلام "نقلا عن عبد الله علوان: ص717"

أسلوب التلقين والحفظ

8- أسلوب التلقين والحفظ: ساد أسلوب التلقين والحفظ في الممارسات التعليمية القديمة، وما زال يمارس حتى الآن. ويرجع ذلك بالطبع إلى التصور الذي كان يؤمن به المعلمون بالنسبة لعملية التعلم؛ فقد كان الهدف من التعليم في نظرهم حشو عقل التلميذ بالمعلومات عن طريق الحفظ والتلقين، وكأن التحصيل الدراسي غاية في ذاته وقيمة التليمذ تقاس بمقدار ما حفظه من معلومات وتحصل في عقله من معارف وليست التربية الإسلامية وحيدة زمانها في ذلك وإنما هي ممارسة شاعت في التعليم في مختلف المجتمعات وعلى مر العصور والأزمان. وتركز الطريقة التلقينية على تعليم المواد الدراسية وتعطيها كل عنايتها دون اهتمام خاص أو عناية بالمتعلم نفسه. وقد انتقد المربون المسلمون الطريقة التلقينية وطريقة الحفظ بدون فهم وفضلوا عليها طريقة المناقشة، والحوار.

أسلوب الرسول الكريم

أسلوب الرسول الكريم: يشير عبد الله علوان "ص721" إلى الأساليب التربوية التي يتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه الصغار والكبار وإرشادهم وتنوير أذهانهم وتفتيح عقولهم فيقول كان عليه الصلاة والسلام لا يختص بأسلوب واحد في إرشاد الناس وهدايتهم وإصلاحهم وتوجههم. وإنما كان ينتقل بهم من القصة إلى الحوار والاستجواب ومن التأثير الخاشع إلى المداعبة اللطيفة، ومن ضرب الأمثال إلى التوضيح بالرسم أو التمثيل باليد.. ومن الموعظة بالكلمة إلى الاقتداء بالفعل ومن التذكير بالقرآن الكريم إلى استجلاء العبرة بانتهاز المناسبة.. ومن السؤال المهم إلى السؤال الأهم، ومن النهي بالقول إلى النهي بالمشاهدة. ويعلق على ذلك ويقول: "لا يخفى ما في هذا التنوع من الأساليب من أثر كبير في ترسيخ المعلومات وإثارة الفهم وتحريك الذكاء وقبول الموعظة وقدح الفطنة والانتباه لدى المخاطب والولد.

التعليم الإسلامي

التعليم الإسلامي خصائص التعليم الإسلامي التقليدي ... التعليم الإسلامي: بعض خصائص التعليم الإسلامي التقليدي: لنظام التعليم الإسلامي التقليدي صفات وخصائص كانت تميزه عن غيره من النظم من أهمها: 1- أنه نظام أكثر مرونة ويقل الاعتماد فيه على الإجراءات الإدارية والتنظيمية الكثيرة المتبعة في شئون الطلاب والمعروفة في النظم الأخرى. ومن الأمثلة التي توضح ذلك نظام الدراسة الذي كان متبعا في الماضي ونظام الدراسة الآن. 2- أن التعليم فيه ممتد طول الحياة فالطالب يستطيع أن يتعلم مدى الحياة دون التقيد بسن أو زمان أو مكان. ومن المعروف أن التعليم الحديث في الدول المعاصرة على سبيل المثال لا يحبذ بقاء التلاميذ في التعليم مددا طويلة، وإنما ينتهي تعليمهم رسميا عند سن الإلزام. لكن هناك نظم متعددة لتعليم الكبار حتى مراحل عمرهم المتأخرة. 3- أنه يقلل من أهمية الشهادات على عكس التعليم في الغرب. مع أنه كان يوجد نظام لها يعرف "بالإجازة" حيث يمنح الأستاذ إجازة "شهادة" لتلميذه. أي أنها إجازة لتدريس العلم الذي أجازه فيه، ويتصل بالإجازة ما يعرف

بالإسناد. والإسناد يعني تسلسل النقل من عالم لآخر في رواية الحديث وصحته أو في تدريس علم معين. مما يبرهن مصداقية الإجازة. فالطالب كان يستطيع أن يعرف مكانة أستاذه من قائمة إسناده أي قائمة أسماء العلماء الذين تلقى عليهم العلم، وكما كانت قيمة هؤلاء العلماء كبيرة زاد ذلك من قيمة الأستاذ العلمية. 4- أنه كان يعتمد على تلقي العلم على يد أهله من الأساتذة لا من بطون الكتب. ولذا كانت الرحلة في طلب العلم سمة مميزة لعلماء المسلمين. وقد امتدح ابن خلدون الرحلة، في طلب العلم. وسبق أن أشرنا إليها. لقد انتقد التعليم الإسلامي في الماضي بأنه يركز منذ البداية على تعليم وتحفيظ القرآن قبل أن يتعلم التلميذ شيئا من العربية. وقد عاب ابن خلدون هذه الطريقة وفضل عليها طريقة ابن العربي في الأندلس التي تبدأ بتعليم اللغة والأدب ثم القرآن. وقد أثار بعض النقاد المحدثين من الغرب انتقادات مماثلة واعتبروا التعليم الإسلامي على هذا النحو قليل الجدوى من الناحية التربوية، وأشاروا إلى أنه في كثير المجتمعات الإسلامية غير المتحدثة بالعربية يردد التلاميذ آيات القرآن دون أن يعرفوا معناه "BRAY: P.83". وهناك نقاد آخرون يختلفون في وجهة نظرهم. منهم "ويلكس" WILKS في دراسة عن التعليم الإسلامي في مالي وغينيا وبوركينا فاسو وساحل العاج وغانا. وهو يرى أن كثيرا من الانتقادات التي وجهت إلى التعليم الإسلامي كانت قاسية جدا. وهو يرى أن مدارس هذا النوع من التعليم الإسلامي تقدم على الأقل أرضية لتعليم العربية يمكن أن يبني عليها من أوتي القدرة والاهتمام. وهو يرى أيضا أن المتعلم الموهوب يستطيع إذا أجيد تعليمه أن يجيد العربية بسرعة، وأنه يستطيع في أوائل شبابه أن يقرأ ويدرس المؤلفات الأساسية في الشريعة الإسلامية. "WILKS: P.166".

المنهج المدرسي

المنهج المدرسي الإسلامي: هناك بعض الاعتبارات الرئيسية التي تتحكم في اختيار المواد الدراسية والعلوم التي تقدم للمتعلم في الإسلام. ويأتي في مقدمة هذه الاعتبارات أهمية العلوم ونقاوتها في الدرجة والشرف وأشرف العلوم وأعلاها ما يتعلق منها بمعرفة الله عز وجل، وهو أمر يتمشى مع الهدف الأسمى من التربية الإسلامية وهو معرفة الخالق وما يتصل بها من علوم اللسان واللغة التي تمهد لدراسة العلوم الدينية. فالعلوم عند أهل الديانات ثلاثة كما يقول ابن عبد البر القرطبي: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالعلم الأعلى عندهم علم الدين والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا كعلم الطب والهندسة والعلم الأسفل هو أحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والخط وهي التي تحصل بتدريب الجوارح. "ابن عبد البر القرطبي: ج2 ص46".

وسائل التدريس

وسائل التدريس 1: أشهر وسائل التدريس عند علماء المسلمين هي السماع والإملاء والإجازة وهي تتفاوت فيما بينها من حيث الأهمية. فالسماع يكون بأن يقرأ الأستاذ من كتابه أو من ذاكرته ما يريد روايته لطلبته وهو أعلى طرق التعليم. ولم يكن مسموحا للطلاب بأن يكتبوا أثناء قراءة الأستاذ مما اضطر الأساتذة إلى عقد مجالس الإملاء. وقد يكون السماع بأن يقرأ الطالب من كتاب أستاذه أو من نسخته هو أو من ذاكرته بحضور أستاذه، وهذا يسمى "العرض"، ومن العلماء من كان لا يحبذ السماع أو العرض خشية أن يكون الطلبة غير منتبهين لما يقرأ عليهم أما الإملاء فقد عده أغلب العلماء خير وسائل التعليم حتى لمن يأخذون بأسلوب السماع. وكانت مجالس الإملاء تعقد يوم الجمعة في الغالب. ويكون الإملاء من الكتب أو الذاكرة، وعندما تكون المجالس كبيرة يستعان بالمستملين الذين يمكن أن يسموا مدرسين مساعدين أو "معيدين" مهمتهم إعادة ما يلقيه الأستاذ ليسمعه البعيدون عنه. وقد يتعدد المستملون حسب كثرة عدد الحاضرين. وقد عرف بعضهم بقوة الصوت، وهذه هي أهم صفاتهم. إلا أنه كان

_ 1 اعتمدنا في الكلام عن هذا الجزء على كتاب: تاريخ التعليم عند المسلمين والمكانة الاجتماعية لعلمائهم حتى القرن الخامس الهجري، ترجمة وتعليق د. سامي الصقار، الناشر دار المريخ الرياض، المملكة العربية السعودية 1981.

من واجبهم معرفة الموضوع الذي يملونه وإجادة اللغة مع صحة التلفظ. وقد وجد بين هؤلاء المستملين علماء من ذوي الشهرة. وفضلا عن ذلك كان عليهم أن يتحلوا بسعة الصدر لا سيما عندما يطلب إليهم إعادة الإملاء أكثر من مرة. ويبدو أن الأساتذة هم الذين كانوا يعينون المستملي. وكان البعض يتخذ الاستملاء مهنة يعيش منها. وقد يطلب الأستاذ إلى أحد طلابه أن يساعده في الإملاء إذا لم يتيسر وجود مستمل. والمستملي يقف عادة على رجليه بخلاف الأستاذ والطلبة إلا إذا وجد مقعدا عاليا يجلس عليه بحيث يراه الطلاب ويسمعونه، ومن طريق ما يروى أن أحد المستملين ارتقى نخلة وصار يملي منها. وكان على المستملي أن يعيد قراءة ما أملي في نهاية المجلس ويعد نسخة مكتوبة للدرس كله. إلا أن بعض الطلبة كانوا لا يحبون السماع إلا من الشيخ نفسه بدون واسطه رغم أن المستملي ينقل ما يسمع حرفيا وليس له أن يغير شيئا منه بل حتى ولا يصحح ما قد يقع من أغلاط. أما الإجازة فهي السماح بنقل العلم إلى الآخرين. ولها ستة أشكال منها: المناولة وذلك أن يعطي الشيخ كتبه أو بعضها لتلميذه أو لأحد العلماء مؤكدا لهم أنها بخط يده، ويخبره باسم الشيخ الذي أخذ ما فيها عنه وشكل إجازته له بها ويجيزهم بإعطائها للآخرين. وبعض العلماء يعدون المناولة كالسماع في القوة. وتوسع البعض فيها فيجيز الشيخ كتب مكتبته كلها. ومنها أن يجيز الشيخ جميع قراءته ومسموعاته للآخرين وهذا هو الشكل الثاني ولم يقبله بعض الشيوخ. الشكل الثالث هو أن يرسل أحاديث معينه أو أجزاء من كتب الحديث المكتوبة ويجيزها لمن أرسلت إليه. والشكل الرابع هو إجازة شخص ما برواية الأحاديث الصحيحة في كتاب ما دون تحديد. وهذا النوع لقي أيضا بعض المعارضة، أما الشكل الخامس فهو أن يتقدم أحدهم بورقة مكتوب فيها حديث أو رأي ويسأل الشيخ عما إذا كانت هي له فإذا أيدها ذلك الشيخ أصبحت إجازة لصاحبها. والشكل السادس هو أن يصدر الشيخ إجازة لغيره برواية ما تلقاه هو بالإجازة. وهناك نوع رابع من وسائل التدريس نشأ حوله بعض الخلاف يسمى "الوجادة" من وجد، وهو أن يتبنى الإنسان شيئا وجده أو قرأه في كتاب أو تعليق ولم يطلب الإجازة من كاتبه ولم يسمعه منه. وقد انتفع العلماء أو على الأقل بعضهم بهذا النوع من التدريس ولكنهم في الغالب اتهموا بالسرقة أو على الأقل اتهموا بأنهم يروون شيئا لم يجازوا بروايته. وكان التعليم يتم أيضا خلال الأسفار والرحلات ومواسم الحج. وقد أوعز الخليفة المهدي للإمام مالك بن أنس بروايته كتابه "الموطأ" أثناء موسم الحج ليتلقاه عنه علماء الأمصار.

مساكن الطلبة

مساكن الطلبة: كانت هناك بيوت يستأجرها الطلبة الغرباء للإقامة فيها، كانت المساجد أكثر الأماكن ارتيادا منهم وكان بعض الأساتذة يدعون طلابهم الغرباء للإقامة معهم في بيوتهم حتى إن أحدهم وكان غنيا استضاف خمسين طالبا منهم. هذا بالإضافة إلى وجود الخانات والفنادق في المدن الكبرى حيث يحل عادة المسافرون الغرباء.

الجمع بين طلب العلم والتكسب

الجمع بين طلب العلم والتكسب: يقول الزرنوجي: إن كان لا بد لطالب العلم من الكسب لنفقة عياله وغيرهم فليتكسب وليكرر وليذاكر ولا يكسل. وكان الناس في الزمان الأول يتعلمون الحرفة ثم يتعلمون العلم حتى لا يطمعوا في أموال الناس. وفي الحكمة من استغنى بمال الناس افتقر. والعالم إذا كان طماعا لا تبقى له حرمة علم ولا يقول بالحق. وقد كان الإمام أبو حنيفة يطلب العلم ويشتغل به في الوقت الذي كان فيه يبيع الثياب ليتكسب معاشه. ويعيب الماوردي من شغلته المعيشة واكتساب الرزق عن التماس العلم ومع أنه يلتمس العذر له أكثر من غيره إلا أنه يقول إن الواجب عليه أن يصرف للعلم خظا من زمانه. فليس كل الزمان زمان اكتساب. ولا بد للمكتسب من أوقات استراحة وأيام عطلة. ومن صرف كل نفسه إلى الكسب حتى لم يدرك لها فراغا إلى غيره فهو من عبيد الدنيا وأسراء الحرص. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل شيء فترة -أي زمان سكون- فمن كانت فترته إلى العلم فقد نجا".

الدولة والتربية في الإسلام

الدولة والتربية في الإسلام: لفهم علاقة الدولة بالتربية في الإسلام ينبغي منذ البداية أن تذكر أن الإسلام دين ودولة. وهو بهذا يحتل مكانة متميزة بين الديانات السماوية الأخرى، كما أنه يتميز أيضا عن النظم الوضعية الدستورية والمدنية. ومنذ العصور الأولى للإسلام كانت السلطة الدينية والمدنية تتمثل في شخص واحد هو أمير المؤمنين فهو إمامهم وحاكمهم العادل، وعلى الرغم من التطور الذي حدث للإسلام فيما بعد فما زال حاكم المسلمين راعيا ومسئولا عن مصالحهم الدينية والدنيوية على السواء، ويتضح الدور الهام في الإسلام مما ذكره الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز عندما طلب منه أن يصف له الإمام العادل فكتب إليه الحسن البصري يقول: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله قد جعل الإمام العدل قوام كل مائل وقصد كل جائر وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف ونصفه كل مظلوم ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة. ويحميها من السباع يكنها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده. يسعى لهم صغارا ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرها ووضعته كرها وربته طفلا تسكن بسكونه ترضعه تارة وتفطمه أخرى وتفرح بعافيته وتهتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين موصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله، ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزع بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من

يليها، وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويسلمونك في قعرة فريدا وحيدا، فتزود له بما يصحبك {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن يا أمير المؤمنين وأنك في مهل، وقبل حلول الأجل وانقطاع الأمل لا تحكم يا أمير المؤمنين بحكم الجاهلين. ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بذهاب طيباتك في آخرتك. لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا، وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقف بين يدي الله في مجمع الملائكة والنبيين والمرسلين {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . وإني يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي لم آل من شفقة نصحا، فأنزل كتابي عليك كمداوي حبيبه بسقية الأدوية الكريهة لما يرجو له من العافية والصحة والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته". وهكذا يتضح الدور الهام الذي يلعبه حاكم المسلمين في تصريف شئونهم والرعاية على مصالحهم. ومنه بالطبع ما يتعلق بالتربية والتعليم وغيرها من أمور العباد. فولاة أمور المسلمين رعاة على أمورهم وهم مسئولون عن رعيتهم في تصريف أمور دينهم ودنياهم وحياتهم على السواء ويعتبر فقهاء المسلمين أن أوجب حقوق الأمة على الخليفة "نشر العلوم والشريعة وتعظيم العلم وأهله ورفع مناره ومحله ومخالطة العلماء والأعلام النصحاء لدين الإسلام ومشاورتهم في موارد الأحكام ومصادر النقض والإبرام". وهذا يعني أن على الدولة في الإسلام مسئولية تعليم أبناء المسلمين. وكانت الدولة في صدر الإسلام بالفعل تخصص نفقات لدور العلم وإن كانت هذه النفقات في صدر الإسلام قليلة وذلك يرجع إلى زهد القائمين بالتعليم واعتبار ما يقومون به واجبا

دينيا. فقد لعن الإسلام من يخفي علمه على الناس كما أنهم اكتفوا بما كانوا يصيبونه من الفيء والصدقة. وكان الخلفاء يقدمون مساعدات مالية للعلماء والزهاد الذين حبسوا أنفسهم في المساجد للعبادة. وقد أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت المال حتى يأتيك كتابي هذا فإن خير الخير أعجله والسلام "حسن إبراهيم: ط1 ص523". ومن المعروف أن عمر بن الخطاب أمر ببناء بيوت المكاتب ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم. وقد نشأت المدارس مرتبظة بالحكم من ناحية وبهدف الترويج لمذهب ديني معين من ناحية أخرى، ولعل من الأمور المتميزة في علاقة الدولة بالتربية في الإسلام أن الخلفاء والحكام أنفسهم كانوا يهتمون بالعلم والثقافة ويسعون إليها. وكان منهم العلماء والشعراء والأدباء وكانوا يجعلون من قصورهم منتدى للفكر والثقافة والأدب يجتمع فيها العلماء والآدباء. وكانت تعقد المناظرات العلمية والأدبية بين هؤلاء العلماء والأدباء كما كان يلقى بها الدروس أيضا، ومن أشهر المجالس العلمية والأدبية ما كان يعقده الخلفاء الأمويون والعباسيون من أمثال هارون الرشيد وولده المأمون وسنوا بذلك تقليدا تبعه من جاء بعدهم من الحكام والأمراء الذين كانوا يبعثون في استقدام مشاهير العلماء والأدباء إلى قصورهم. وإلى جانب هارون الرشيد والمأمون كان هناك خلفاء آخرون كثيرون اهتموا بالعلم والتعليم، منهم نظام الملك الذي كان أول من أنشأ المدراس في الإسلام ونور الدين زنكي والحاكم بأمر الله وصلاح الدين الأيوبي. وفي الأندلس البعيدة كان الحاكم المستنصر صاحب المكتبة المعروفة في قصره بقرطبة والذي يصفه المقري بأنه كان غزير العلم واسع الإطلاع ذا معرفة بالأخبار والأنساب. وقد ارتبطت علاقة الدولة بالتربية باعتبارها أن الإسلام دين ودولة. إلا أن هذه العلاقة كانت مرهونة باحتياجات نشر الدين الجديد وتثبيته. فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك معاذ بن جبل في مكة بعد فتحها ليعلم المسلمين مبادئ الدين الإسلامي وعمر أرسل بعض الصحابة إلى الأمصار الإسلامية لنشر مبادئ الدين الجديد وتعليمها.

وكانت الدولة هي التي تنشئ المساجد وتساعد العلماء القائمين بالتدريس فيها لكن بصورة منظمة، كما أن الدولة أيضا كانت تقوم ببناء المكتبات والرباطات، وكلها كانت تقوم بخدمات تثقيفية وتعليمية، وقد أصبح للدولة دور رئيسي في التربية مع حركة إنشاء المدارس، فالدولة هي التي قامت بإنشاء هذه المدارس للدعاية لمذهبها وهي التي كانت تنفق على أجور المعلمين ونفقات الطلاب ومعيشتهم. وكان يخصص لهذه المدارس مميزات سنوية، وقد ورد أن نظام الملك كان ينفق على التعليم 600 ألف دينار سنويا كما كان للمدارس أوقاف تدر عليها أموالا سنوية، وظلت علاقة الدولة بالتربية تتدعم على مر الأيام إلى أن أصبحت الدولة الآن في البلاد الإسلامية هي التي تتولى شئون التعليم بكل أنواعه بل يمتد سلطانها أيضا إلى ميدان التعليم الجامعي. وهكذا يتأكذ ما يقوله جمال الدين الأفغاني وهو أحد زعماء الإصلاح في العصر الحديث إن الإسلام أوجب على الدولة تعليم أبنائها وتنوير عقولهم بالمعارف والعلوم.

أهل الحسبة ورعاية المصالح العامة والتعليم

أهل الحسبة ورعاية المصالح العامة والتعليم: الحسبة كما يقول ابن خلدون هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهله. ويحدد ابن خلدون الوظائف التي تقوم بها أهل الحسبة فيما يأتي: 1- البحث عن المنكرات وتعزيز وتأديب من يرتكبها. 2- حمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل منع المضايفة في الطرقات ومنع الحمالين من الإكثار في الحمل. 3- الحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة. 4- الضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرهم لمبالغتهم في ضرب الصبيان المتعلمين. 5- الحكم في دعاوي الغش والتدليس في المعايش والمكايل والموازين. 6- حمل المماطلين على الإنصاف والوفاء بالتزاماتهم. وهكذا نجد أن وظيفة الحسبة متعلقة بالعدل والقضاء فيما يتعلق بالمصالح العامة للمسلمين ومنها "التعليم".

وجوب التعليم

وجوب التعليم: تعتبر كلمة "إلزامية التعليم" من الكلمات الحديثة التي برزت في الفكر التربوي نتيجة لغلبة المؤسسات الديمقراطية وظهور مفاهيم العدالة والرفاهية الاجتماعية. كما تأكدت بشكل واضح على المستوى العالمي في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. وقد استخدم علماء المسلمين كلمة وجوب تعليم الصبيان واعتبروا أن من حق الصبي على والده أن يعلمه. واستشهدوا في ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن" وقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عبدا أعان ولده على بره بالإحسان إليه والتآلف له وتعليمه وتأديبه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق في كل يوم بنصف صاع على المساكين". ويعتبر القابسي أول من نادى بوجوب التعليم جميع الصبيان بصرف النظر عن حالتهم المالية، واعتبر تعليمهم ضروريا وواجبا شرعيا. ويرى رفاعة الطهطاوي ضرورة تعميم التربية وشمولها لجميع أبناء الأمة ذكورا وإناثا على السواء وفي ذلك يقول: "وبالجملة فتربية أولاد الملة وصبيان الأمة وأطفال المملكة ذكورا وإناثا من أوجب الواجبات".

التعليم في الإسلام فرض وابج وليس مجرد حق

التعليم في الإسلام فرض وابج وليس مجرد حق ... التعليم في الإسلام فرض واجب وليس مجرد حق: لقد ذهب الإسلام إلى أبعد مما نصت عليه دساتير الدول والمواثيق الدولية وميثاق حقوق الإنسان الذي اعتبر التعليم حقا لكل فرد تكفله له الدولة وتوفره. والإسلام يعتبر التعليم ليس مجرد حق وإنما هو فرض واجب وفرض عين على كل مسلم ومسلمة. والفرق كبير لأن كون التعليم حقا يعني أن يناله الإنسان أو لا يناله. فما أكثر الحقوق الضائعة. بل إنه إذا ناله الإنسان فإنه قد يعمل في سبيل تحصيله أو لا يعمل. وأما كونه واجبا وفرض عين فهذا يعني المسئولية الكاملة لكل من الدولة والفرد. فعلى الدولة أن توفره لأبنائها وعلى الفرد أن يعمل من أجل تحصيله والاستفادة منه. يضاف إلى ذلك أن الدولة لو قصرت أو

تقاعست في تقديم التعليم وتوفيره لأبنائها فعلى المسلمين المقتدرين إنشاء المدارس والإنفاق عليها وإيقاف بعض أموالهم لهذا الغرض. كما أن على الفرد المسلم أن يسعى بكل طاقته في تعليم نفسه بالجهد الذاتي وبكل الطرق الممكنة له. قال الشاعر: ولما رأيت سواد قو ... مي في دجى ليل بهيم يسقون من أمية ... هي غصة الوطن الكظيم أيقنت أن الجهل علة ... كل مجتمع سقيم وروى عن عمر بن الخطاب إنشاده: تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل وقال الشاعر: كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النسب إن الغني من يقول ها أنذا ... ليس الغني من يقول كان أبي وقد ميز علماء المسلمين بين تعليم فرض العين وهو على كل مسلم وتعليم فرض الكفاية وهو على مجموعات من الناس دون غيرهم. وتعليم فرض العين هو التعليم الواجب على الدولة أن توفره لأبنائها كما أنه من الواجب على هؤلاء الأبناء أن يتعلموا وأن يستفيدوا من التعليم الذي يقدم لهم وأن يحرصوا على تعليمه ولا يتهاونوا فيه وإلا كانوا مقصرين في أداء فرائض الواجب. ومن مسئولية الآباء التأكد من أن أبناءهم يتلقون هذ التعليم. وهذا النوع من التعليم يعرف الآن في أنظمتنا التعليمية العربية والإسلامية وغيرها بالتعليم العام. وهو يتاح لكل فرد في سن التعليم تقدمه الدولة بالمجان وتضع له الشروط والأنظمة أما تعليم فرض الكفاية فهو تعليم لا يطالب به كل مسلم وإنما تقوم به مجموعة

قادرة لتكفي المسلمين حاجتهم إلى المهن والصنائع والحرف المختلفة. وهذا النوع من التعليم هو للقادرين عليه والمهيئين له عملا بما ورد في الأثر "كل مهيأ لما خلق له" ويتساوى حظ المرأة مع حظ الرجل في تعليم فرض العين وفرض الكفاية لأنها تتساوى معه في التكاليف الشرعية وفي موازين الحساب يوم القيامة. وهكذا نرى أن الإسلام قد سن مبدأ إلزامية التعليم ووجوبه على كل مسلم بل جعله فرضا وفريضة. كما سن مبدأ مجانية التعليم العام وقيام الدولة بتوفيره. ومن المعروف أن المدارس ومعاهد التعليم الإسلامية في العصور المختلفة كانت بالمجان وكان الطلاب يمنحون المسكن والإقامة والإعانة المالية وتوفير الكتب والغذاء لهم. وبهذا يكون الإسلام سابقا بقرون عديدة كل ما جاء على البشرية من أنظمة تعليمية عصرية ومتقدمة في النظرية التربوية أو تطبيقاتها.

الفصل الثالث: فلسفة التربية الإسلامية

الفصل الثالث: فلسفة التربية الإسلامية أولا: الإسلام والكون "مدخل أطولوجي" خالق الكون ... الفصل الثالث: فلسفة التربية الإسلامية سنتناول الكلام في هذا الفصل عن فلسفة التربية الإسلامية حسب الطريقة المنهجية المتعارف عليها لدراسة الفلسفة بجوانبها الثلاثة: الجانب الأنظولوجي أو الغيبيات. والجانب المعرفي أو الأبستمولوجي والجانب الأخلاقي أو الأكسيولوجي. وسنتناول كل جانب من هذه الجوانب في السطور الآتية: أولا: الإسلام والكون "مدخل أنطولوجي" سنتناول الكلام عن الإسلام والكون تحت عناوين فرعية نبدؤها أولا بالحديث عن خالق هذا الكون وهو الله سبحانه وتعالى الذي تجلت قدرته في بديع صنعه. خالق الكون: هو الله عز وجل. والقرآن الكريم حافل بالآيات الدالة على ذلك. منها على سبيل المثال: قال تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] . {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء: 33] . و {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . و {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] . صفاته: إن كلمة الله أو لفظ الجلالة من الناحية اللغوية غير مشتق من أصل آخر ولا يسمى به إلا الله عز وجل: إنه الاسم الذي تفرد به سبحانه وتعالى وأختص لنفسه. بقول الشاعر العربي: يا ذا الذي قد دنا بالبحث والطلب ... عن سر معنى سما عن رتبة النسب اقبل نصيحة من قال معترفا ... لا تجعلن إلى التشبيه عن سبب لاسم الإله الذي قد حل منفردا ... عن اشتقاق من اسم لذي أرب قد ارتضاه له اسما ونزهه ... بالذكر عن خلف في سائر الكتب

واختصه باسمه في ذاته فأتى ... من بينها سائر الأسماء بالعجب منها الثناء الذي قد عم مشتملا ... شكرا على نعم والذكر في الخطب فاعلن به أبدا وأحذره عن خلف ... إن كنت ذا همم أو كنت ذا أدب وفي كل الديانات السماوية هناك إله واحد هو رب العالمين. وهو فرد صمد لم يلد ولم يولد. ذلك أن التوحيد هو لب العقائد الدينية. وعندما تتعدد الآلهة في الديانات غير السماوية، فهذا يكون شركا بالله وإساءة لاستعمال اللغة. قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . وقد وصف الله عز وجل نفسه بصفات كثيرة منها: الحي. القيوم. البصير. العليم. القدير. وفي تفسير هذه الصفات يقول علماء المسلمين إنها صفات تختص بالله وحده دون سواه. وتختلف عما يقصد بها بالنسبة للإنسان خليفته في الأرض. فالله سبحانه وتعالى سميع لا كسمعنا، وبصير لا كبصرنا، وهكذا للصفات الأخرى. والواقع أن علماء المسلمين يتحرجون من تصور صفات الله أو حياته على مثال حياة البشر. ولعل هذا التحرج هو الذي حدا بابن حزم العالم الأندلسي المسلم إلى التردد في نسبة الحياة إلى الله. فقال في براعة لبقة: "إن الله ينبغي أن يسمى حيا لا لأنه حي بحياة كحياة البشر، بل لأن القرآن وصفه بالحياة ... ولولا النص الوارد بتسميته تعالى بأنه حي قيوم وقدير عليم، ما اسميناه بشيء من ذلك". "محمد إقبال: 71 نقلا عن ابن حزم: الفصل والنحل: ج2 ص158، 118". ويعلق محمد إقبال على ذلك بقوله: "ولا بد أن يكون ابن حزم قد أحس بأنه لا يمكن إثبات الكمال للذات الإلهية إلا بنفي الحياة عنها". "محمد إقبال: 71".

البرهنة على وجوده

البرهنة على وجوده: اهتدى علماء المسلمين للبرهنة على وجود الله ووحدانيته بالأدلة النقلية والعقلية. ومن غير المسلمين نجد أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت "1596-1650" يقول بأن الإنسان يصل إلى معرفة الله بواسطة نور العقل الطبيعي. وهو ما ذهب إليه بعض المسلمين أيضا. ولكن فلاسفة آخرين منهم "كانط: 1724-1804" يرى أن العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة المعبود الأعلى لأن العقل لا يستطيع أن يتجاوز عالم الماديات والأشياء. وهو يرى أنه من غير المعقول أن ندعي معرفتنا بشيء ليس موضوعا لتجربة ممكنة. ولما كان المعبود الأعلى ليس موضوعا لتجربة ممكنة فلا يحق للعقل أن يدعي معرفته. وهو يرى أن وجود الله أمر تفرضه ميتافيزيقا الأخلاق. "نازلي إسماعيل حسين. ص158". ويقول العارف بالله الإمام عبد الحليم محمود: "وإذا كان هناك حديث في مسألة الاستدلال فإنه لا يكون بشأن الألوهية لأنها فطرية، وإنما يكون بشأن النبوة. ومن أجل ذلك يقول ابن عطاء الله السكندري هذه الكلمات النفيسة في وجه كل من تحدثه نفسه بمحاولة الاستدلال على وجود الله تعالى: "إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار التي توصل إليك؟ " "عبد الحليم محمود: 127-1278". وإلى جانب الاستدلال الفطري أو البديهي على وجود الله، يتعرض الدكتور عبد الحليم محمود لقضية إثبات وجود الله بطريق العقل المحض من خلال قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل. وقد تحرى في كتابة هذه القصة أربعة أهداف هي: "المرجع السابق: 133-137". 1- هل يصل الإنسان بعقله إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى رسم طريق للسلوك يرضى عنه الله سبحانه وتعالى؟ 2- هل يصل الإنسان روحيا إلى القرب من الله تعالى وإلى المعرفة عن طريق مباشر؟ أو بتعبير آخر. هل طريق الرياضة الروحية موصل إلى ذلك؟ 3- هل يلتقي الطريق العقلي والطريق الروحي في انسجام لا اختلاف فيه. 4- هل يلتقي ذلك كله بمبادئ الوحي أو بالطريق الديني في تناغم ووحدة وائتلاف؟

ومن أجل الإجابة على هذه الأسئلة كتب ابن طفيل قصته المشار إليها وهي قصة خيالية عقلية لطيفة يعرضها لنا الأستاذ عبد الحليم محمود في السطور الآتية: إنها قصة طفل نشأ في جزيرة منذ طفولته الأولى وأخذ ابن طفيل يتدرج معه في تطوره الجسمي إلى أن اكتمل جسميا وأخذ يتدرج معه في تطوره العقلي من فكرة إلى فكرة، ومن مبدأ إلى مبدأ حتى وصل الفتى إلى إثبات وجود الله بطريق العقل المحض ... ثم بدأ فتانا يفكر فرأى أن كل موجود يمكن الاتصال به على وضع يليق به، فأخذ يفكر في كيفية الاتصال.. ونحن نحب أن ندع ابن طفيل نفسه يتكلم: إنه يرى أن هناك رتبة من المعرفة ينتهي إليها بطريق العلم النظري، والبحث الفكري، وهذه الرتبة تعتبر طورا من أطوار "حي بن يقظان". وبعد أن شب وترعرع وبلغ دور التمييز، وانتهى إلى مرحلة التعقل، والاستدلال، والبرهان، أدرك بطريق النظر حقيقة الجسم، وأنه منتاه، وأدرك أبدية العالم، وحصلت عنه فكرة نظرية عما وراء الطبيعة، واستقام له الحق بطريق البحث والنظر. فلما انتهى من هذه المرحلة بدأ في المرحلة الثانية: مرحلة الوصول إلى الحكمة بطريق الرياضية الروحية. وكان مما يقوم به من هذا الارتياض أنه كان يلازم الفكرة في الوجود الواجب الوجود. ثم يقطع علائق المحسوسات، ويغمض عينيه ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته ... ألا يفكر في شيء سواه، ولا يشرك به أحدا. ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه، وبالاستحثاث فيها، فكان إذا اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال، وسائر القوي التي تحتاج إلى الآلات الجسمانية، وقوي فعل ذاته، التي هي برئية من الجسم. وكانت فكرته في بعض الأوقات قد تخلصت من الشوب، ويشاهد به الموجود. والواجب الوجود. ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله، وترده إلى أسفل السافلين، فيعود من ذي قبل فإن لحقه ضعف يقطع به عن غرضه، تناول بعض الأغذية بحسب شرائط معينة، ثم انتقل إلى شأنه. ثم رأى أن الحركة من أخص صفات الأجسام، وكان يريد طرح الأوصاف الجسمية عن ذاته، فأخذ يقتصر على السكون في مغارته مطرقا، غاضا بصره، معرضا عن جميع

المحسوسات، والقوى الجسمانية، فتجتمع الفكرة في الموجود، الواجب الوجود وحده دون شركه. فمتى سنح لخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده. ودافعه وراض نفسه على ذلك، وذهب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة ايام لا يتغذى فيها ولا يتحرك. وفي خلال شدة مجاهدته هذه، وربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميعا الأشياء إلا ذاته، فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق، الواجب الوجود. فكان يسوءه ذلك، ويسلم أنه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة. وما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق، حتى تأتي له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السماوات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية، والقوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق، وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل، واضمحل، وصار هباء منثورا، ولم يبق إلا الواحد الحق، الموجود الثابت الوجود، وهو يقول بقوله، الذي ليس معنى زائدا على ذاته: "ولمن الملك اليوم، الله الواحد القهار". ففهم كلامه، وسمع نداءه، ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم واستغرق في حالته هذه، وشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وبعد أن وصل إلى الله بطريق العقل وبطريقة الرياضة الروحية، تأمل في ثمرة الطريقين فوجد أن نتيجتها واحدة، وأنهما لا تختلفان إلا في درجة الوضوح، وأبان عن ذلك، وبذلك يكون قد وصل إلى الإجابة عن السؤال الثالث وأتاحت المصادفة للشيخ -حي بن يقظان- أن يلتقي برجل يدين بدين منزل صحيح وتفاهم معه في كل ما وصل إليه عقله، وما وصل إليه قلبه، فوجد التطابق التام. ووصل ابن طفيل برسالته اللطيفة الحجم إلى كل ما كان يرجو أن يصل فيه إلى جواب صحيح يرضي العقل ويرضي الدين. وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول -عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة.

وكان كل ما وصل إليه ابن طفيل عن طريق هذه الرياضة منسجما تماما -فيم يزعم- وما وصل إليه عن طريق العقل. ويستطرد الأستاذ عبد الحليم محمود فيقول: "وابن طفيل في هذا يسير على نمط سار فيه ابن سينا من قبله، وهذا التوافق بينهما بالغ الأهمية: إنهما من كبار المفكرين، ويكاد فكرهما يكون متطابقا تماما في أن العقل الإنساني يصل إلى الله بالدليل والبرهان، وفي أن القلب الإنساني يصل إلى الله بالرياضة الروحية: العبادة، صلاة وصياما وذكرا. ولقد أثبت ابن سينا وجود الله بالفعل. ودليله المرتكز على "الإمكان والوجود" معروف مشهور.. أما جانب الرياضة الروحية فيقول عنها ابن سينا في كتابه الذي كان يعتز به كثيرا. والذي ألفه في أواخر حياته وهو كتاب الإشارات". والواقع أن التفكير في ذات الله من المباحث الفلسفية والفكرية العالية التي يختص بها كبار المفكرين وعلماء المسلمين، ولا يجوز لغيرهم الخوص أو الدخول فيها. بل إن الإسلام نهانا عن التفكير في ذاته حتى لا نضل وننحرف وأمرنا بدلا من ذلك أن نفكر في خلقه وبديع صنعه، فهذا أدعى إلى تثبيت إيماننا به.

الفرق بين التصديق والإيمان

الفرق بين التصديق والإيمان: هناك فرق بين التصديق والإيمان. فالتصديق يعني عدم الرفض أو عدم الشك في موضوع التصديق، وتقبله بدون تفكير أو مناقشة. فأنت قد تصدق خبرا سمعته لأنه صادف هوى في نفسك. وقد تقف موقف التردد عندما تسمع إشاعة مغرضة، أما الإيمان فهو أعلى من التصديق لأنه يأتي عن قناعة، ولا بد أن يرتبط بالعمل. ولذلك عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان أجاب بأنه "ما وقر في القلب وصدقه العمل" والمسلم القوي، قوي بإيمانه، وهو خير من المسلم الضعيف. ويقول حجة الإسلام الإمام الغزالي إن العلم طريق الإيمان بالله. وهو يقسم الإيمان إلى ثلاثة مراتب: أ- إيمان العوام الذين يصدقون ما يسمعون ومثلهم مثل من قيل لهم فلان بالدار فصدقوا. ب- إيمان العلماء وهو مبني على الاستنباط ومثلهم مثل من سمعوا ورأوا ما يدل على أن فلانا بالدار فصدقوا. ج- يقين العارفين الذين يشهدون الحق دون حجاب ومثلهم مثل من دخلوا الدار ورأوا بأعينهم وهو الأنبياء والرسل ومن في مرتبتهم.

خلق السموات والأرض

خلق السموات والأرض ... خلق السماوات والأرض: اختلف المفسرون قديما وحديثا في فهمهم لمسألة خلق السماوات والأرض. فمنهم من قال بأن خلق الأرض كان قبل خلق السماء. ومنهم من قال بعكس ذلك أي أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض. ومنهم من قال بأنهما خلقتا معا. وفي ذلك يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . إن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا وفصل الله بينهما بالهواء. ويعلق الدكتور محفوظ علي عزام في كتابه عن "نظرية التطور عند مفكري الإسلام" بأن هذه الحقيقة القرآنية عجيبة كبرى يؤيد القرآن بها العلم الحديث في قوله بأن الكون كله كان شيئا منبثا واحدا قبل أن توجد فيه أرض أو نجم أو سديم "ص60". وقد أجمع علماء الإسلام قاطبة على أن الله عز وجل قد خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام. كما دل على ذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة. قال تعالى في سورة "ق": {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . وهنا ينبغي أن نشير إلى أن المتأمل في آيات الخلق في القرآن الكريم عليه أن يتذكر أن أيام خلق الكون ليست كالأيام عند الناس، وأن يختار لكل منهما عند تخصيصها معنى يتناسب مع الحقيقة التي قام عليها البرهان عند أهلها من العلماء. فاليوم قد يعني اليوم العادي مثل يوم الجمعة و"يوم بدر" و"يوم حنين". وقد يطلق على الحقيقة من الزمن يتجاوز طولها كل ما يمكن أن يخطر ببال إنسان كما في قوله تعالى في سورة "المعارج": {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . وقوله عز وجل في سورة "الحج": {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . وقوله سبحانه وتعالى في سورة "السجدة": {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . ويلخص لنا أحد الباحثين المسلمين خلق العالم في النقاط الخمس الآتية: "محفوظ على عزام: 64" 1- وجود ست مراحل للخلق عموما. 2- تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض. 3- خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة كانت تشكل كتلة متماسكة. 4- تعدد السماوات وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض. 5- وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض.

حقيقة الكون

حقيقة الكون: انقسم الفلاسفة غير المسلمين في نظرتهم إلى حقيقة الكون وجوهره. فقال بعض الفلاسفة بأن طبيعة الكون مادية، وآخرون قالوا بأن طبيعته روحية. ومجموعة ثالثة قالوا بأنها روحية مادية. وهذا هو منشأ الفلسفة الثنائية. وهؤلاء الثنائيون انقسموا فيما بينهم حسب تغليبهم لأي من الجانبين على الجانب الآخر. فبعضهم مهتم بالجانب الروحي أكثر من المادي وهم المثاليون، فهم يرون أن الروح هي الأصل أو الجوهر والمادة مظهر لها. ويضعون الروح في مرتبة أرقى من المادة. ويعتبر رونية أوبير عن هدف التربية في ظل هذه الفلسفة فيقول: "رونية أوبير: ص268". بأن هدف التربية أن تقود الإنسان إلى جوهره المثال. أما الفلسفة الواقعية فهي تقوم على أساس أن الواقع المادي هو أساس هذا الكون. وهي تؤمن بالروح والمادة معا إلا أنها تعطي الجانب المادي والحسي في حياة الإنسان أهمية على الجانب الروحي. وتهتم التربية في ظل هذه الفلسفة بالواقع المادي والطبيعي والاجتماعي إلى جانب الإيمان بوجود الله ووجود الروح. أما الفلسفة التكاملية فتقوم على تكامل النظرة إلى كل من المادة والروح ولكليهما نفس الأهمية في ظل هذه الفلسفة "ص46" يقول: "إننا نعيش جميعا في عالمين: عالم مادي وعالم روحي، وهذا العالم الروحي هو عالم القيم. ولو أننا ضحينا به في مذبح العلوم أو الاقتصاديات لكان في ذلك هلاكنا". وهدف التربية في نظر هذ الفلسفة هو النمو المتكامل للشخصية الإنسانية، وقد رض هذا الاتجاه نفسه على الفكر التربوي في العصر الحديث ونادى به كثير من المربين وأصحاب النظريات التربوية في الغرب.

نظرة الإسلام للكون

نظرة الإسلام للكون: يقوم الفكر الإسلامي على تكامل النظر إلى كل من المادة والروح باعتبارها مظهرين متكاملين للكون والحياة، وهناك عدة نقاط رئيسية ينبغي أن نبرزها في نظرة الإسلام للكون هي: 1- أن هذا الكون من بديع صنع الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو خالق كل مظاهر الحياة في هذا الكون وما فيه من ثروات وأجناس من الطير والحيوان والنبات. ومن الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على ذلك نستشهد بما يأتي: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} , {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} . 2- أن خالق الكون هو الله سبحانه وتعالى إله واحد منزه على كل الصفات المادية والبشرية غير محدود بزمان ومكان لا تدركه العقول ولا الأبصار، سرمدي أبدي لا يتغير ولا يتبدل لا شريك له ولا مثيل له. قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . لم يلد ولم يولد واحد أحد، فرد صمد، فعال لما يريد بحكمته وعلمه، سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى في الحق والخير والجمال. 3- أن هذا الكون لم يخلق عبثا ولا لهوا وإنما لحكمة إلهية ربانية، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، وهو يسير وفق قوانين لا تخطئ ونظام محكم يدل على عظمته سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . وهو بالغ الإحكام والإتقان {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} . كما أنه مليء بمظاهر الجمال والزينة. قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} . وقد ورد في كتاب "الله يتجلى في عصر العلم" الذي ألفه مجموعة من العلماء الغربيين قول أحد العلماء: "أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم رأيت الأدلة على التصميم والإبداع والقانون والنظام على وجود الخالق الأعلى". 4- أن هذا الون ليس ثابتا جامدا وإنما هو متحرك متغير وقابل للزيادة. قال تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} . و {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . 5- أن الكون محدث وليس قديما فالله هو الذي خلق هذا الكون بكل ما فيه قانون المادة يقول: "بإن المادة لا تفنى ولا تستحدث" بمعنى أن المادة المكونة لهذا الكون في عناصرها المختلفة تأخذ أشكالا مختلفة ودورات متعاقبة تعود بعدها إلى ما كانت عليه. بمعنى أن الأوكسجين والآيدروجين مثلا عنصران منفصلان فإذا اتحدا بنسبة معينة كونا الماء والماء كما يقول القرآن: يخرج منه كل شيء حي قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أهذا الحي لا بد أن يكون لعمره نهاية عندها يموت ويفنى ويتحلل مرة أخرى إلى العناصر الأصلية ومنها الأوكسجين والآيدروجين اللذان يعودان بدورهما إلى الاتحاد ويكونان الماء وهكذا، ويمكننا أن نضرب أمثلة كثيرة على ذلك منها المادة التي تحرق سواء كانت ورقا أو خشبا أو غير ذلك باحتراقها تتحلل إلى عناصرها الأولية كالكربون وغيره مثلا وهذه العناصر الأولية تعود بدورها إلى الاتحاد مع عناصر أخرى لتكون مادة حية من جديد

يكون مآلها الفناء والتفتت تعود بعدها العناصر الأولية الناتجة إلى دورتها الأولى وهكذا. 6- أن الكون والطبيعة سلام وأمن للإنسان وليسا حربا عليه. وهذه النظرة على عكس ما تذهب إليه نظرية التطور التي قال بها لامارك وسبنسر وداروين من أن الإنسان يعيش في بيئة غير مطاوعة. وأن يد الطبيعة ملطخة بالدماء وأن البقاء للأصلح. فالطبيعة في نظر الإسلام هي دليل قدرة الخالق وعظمته ومنها يستمد الإنسان قوة لإيمانه بالله. وعليه أن يستخدم عقله وفكره وإمكانياته لمعرفتها والكشف عن قوانيها واستغلال خيراتها وكنوزها لمصلحته ومنفعته. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} . 7- أن الله سبحانه وتعالى قد استخلف الإنسان في هذا الكون دون سائر خلقه لما حباه الله من تفضيل وتكريم عليهم وزوده بالعقل والتفكير الذي يمكنه من السيادة على الكون وتسخير ما فيه من قوى طبيعية وثروات وإمكانيات من أجل خدمته وراحته ومنفعته وتقدمه ورقيه. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . 8- أن هذا الكون ليس واديا للدموع كما تقول المسيحية وليس دارا للبلاء والعذاب والتكفير عن الذنب والخطيئة الكبرى لآدم، وإنما هو دار جعل الله لنا فيها متاعا ومستقرا إلى حين وعلى الإنسان أن يشكر الله عليه. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} ، {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} . لقد لعن العقد القديم الأرض باعتبارها مستقر للعصاة والآثمين لأن آدم

نزل إليها بعد أن عصى ربه وقد جاء في سفر التكوين الإصحاح الثالث 17-19 ما نصه: "وقال: آدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى تراب" ونقرأ في إنجيل لوقا الإصحاح 12: 29-34 قول عيسى عليه السلام لتلاميذه: "فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم ... بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياسا لا تفنى وكنزا لا ينفد في السماوات". أما الإسلام فعلى العكس من ذلك لا يعتبر الأرض ساحة للعذاب سجنت فيها إنسانية شريرة إنما هي دار متاع واستمتاع للإنسان بحياته كاملا. قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . بيد أن الإسلام كما أشرنا في اهتمامه بالواقع الدنيوي للإنسان إلى ما هو أبعد من حياة الأرض القصيرة ليعده لحياة سعيدة أبدية في الآخرة يجد فيها كل النعيم وما لم يخطر على قلب بشر. قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} . إن على المسلم ألا يذم الدنيا. وقد ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: "الدنيا صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه ومتجر أوليائه ربحوا فيها الرحمة واكتسبوا فيها الجنة". ويحكى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الربيع بن زياد الحارثي شكا إليه عاصم بن زياد لأنه لبس العباءة وترك الملاءة وغم أهله وأحزن ولده. فأرسل علي رضي الله عنه في طلب عاصم فلما جاء عبس في وجهه وقال: "ويلك يا عاصم أترى الله أباح لك اللذات وهو يكره أخذك منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك ... أو ما سمعته يقول: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} . والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال. وقد سمعته عز وجل يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ... وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .

الأنبياء وكتب الشرائع

الأنبياء وكتب الشرائع: يتحدث ابن النديم في كتابه الفهرسب عن الأنبياء وكتب الشرائع فيقول جميع الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي. منهم المرسلون بالوحي شفاها وهم ثلاثمائة وخمسة وعشر نبيا. وجميع ما أنزل الله تعالى من الكتب مائة وأربعة كتب. من ذلك صحيفة أنزلها الله تعالى فيما بين آدم وموسى. فأول كتاب منها أنزله جل اسمه صحف آدم عليه السلام وهي إحدى وعشرون صحيفة. والكتاب الثاني أنزله الله على "شيث" عليه السلام وهو تسع وعشرون صحيفة. والكتاب الثالث الذي أنزله الله على "أخنوخ" وهو إدريس عليه السلام وهو ثلاثون صحيفة. والكتاب الرابع أنزل جل اسمه على إبراهيم عليه السلام وهو عشر صحائف. والكتاب الخامس على "موسى" وهو عشر صحائف. فذلك خمسة كتب في مائة صحيفة. ثم أنزل الله تبارك وتعالى "التوراة" على موسى عليه السلام. بعد الصحف بزمان، في عشرة ألواح. فلما نزل موسى من الجبل ووجد أصحابه قد عبدوا العجل، رمى بها فانكسرت. ثم ندم فسأل الله عز وجل أن يردها عليه. فأوصى الله جل اسمه أني أردها في لوحين. وفعل الله له ذلك. فأخذ اللوحين: "لوح الميثاق" والآخر "لوح الشهادة". ثم أنزل الله عز وجل على داود "المزامير" هو الزبور الذي في أيدي اليهود والنصارى. وهو مائة وخمسون مزمورا. أنزل الله جل اسمه على موسى التوراة وهي خمسة أخماس. وينقسم كل خمس إلى سفرين. وينقسم السفر إلى عدة "فراسات" ومعناها السورة. وتنقسم كل فراسة إلى عدة "أبسوقات" ومعناها الآيات. ولموسى كتاب يقال له "المشنا" ومنه يستخرج اليهود علم الفقه والشرائع والأحكام. وهو كتاب كبير ولغته "كسداني" و"عبراني" ومن كتب الأنبياء

بعد ذلك: كتاب يهوسع، وكتاب سفطي، وكتاب شمويل، وكتاب سفر أشعيا، وكتب سفر أرميا، وكتاب سفر حزقيل، وكتاب ملخي، وهو سفر داود وأصحابه ويعرف بتفسير ملخي الملوك من كتاب النصارى التي خرجت إلى اللسان العربي كتاب الصورة. وينقسم إلى قسمين الصورة العتيقة والصورة الحديثة. أي العهد القديم والعهد الجديد. فالعتيقة هي السند القديم على مذهب اليهود، والحديثة على عهد مذهب النصارى. والصورة العتيقة "العهد القديم" تستند على عدة كتب. أولها كتاب التوراة وهي خمسة أسفار، وكتاب محتوى ويحتوى على عدة كتب منها: كتاب يوشع بن نون، وكتاب الأسباط، وهو كتاب القضاة، وكتب شماويل وقضية داود، وكتاب أخبار بني إسرائيل، وكتب قضية رعوث، وكتب سليمان بن داود في الحكم، وكتاب قوهلت، وكتاب ابن سيري، وكتاب الأنبياء، ويحتوي على أربعة كتب: كتاب أشعيا النبي عليه السلام، وكتاب أرميا النبي عليه السلام، وكتاب الاثني عشر نبيا عليهم السلام وكتاب حزقيل. أما كتاب الصورة الحديثة "العهد الجديد" فيحتوي على الأناجيل الأربعة: كتاب إنجيل متى، وكتاب إنجيل مرقس، وكتاب إنجيل لوقا، وكتاب إنجيل يوحنا، وكتاب الحواريين ويعرف "بفراكسيس"، وكتاب "بولس" أربع وعشرون رسالة. "انظر أيضا الدكتور عبد اللطيف محمد العبد: ص55-56". وعن القرآن الكريم يقول ابن النديم إن أمير المؤمنين أبا بكر طلب من زيد بن ثابت كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم بجمع القرآن من الرقاع واللخاف والسعف وصدور الرجال. ويقول زيد بن ثابت في ذلك: فوالله لنقل جبل من الجبال كان أهون علي من الذي أمرني به أمير المؤمنين. فقد ألفت كتب في تفسيره ومعانيه، ومجازه ومشكله، وغريبه ولغاته وقراءاته، ونقطه وشكله ولاماته، والوقف والابتداء منه ووقف التمام، واختلاف مصاحفة، وما اتفقت ألفاظه ومعانيه ومتشابهة وهجاء المصاحف أي تهجيها، ومقطوع القرآن وموصوله، وأجزائه، وفضائله، وعدد آية وناسخه ومنسوخه، ونزوله وأحكامه.

الكون والتطور

الكون والتطور: تحدث علماء المسلمين عن الثبات والتغير على الكون. كما تحدثوا أيضا عن التطور. ويتفق مفكرو الإسلام ومفكرو الغرب في أن الكون يتطور، وأن التطور هو قانون الكون، لكنهم يختلفون في تفسير طبيعة عملية التطور، والكيفية التي تتم أو تحدث بها. فالقرآن الكريم يقول إن أصل العالم كان شيئا واحدا. أما بالنسبة لمفكري الغرب فإن بداية الكون لديهم غير معلومة، ويختلفون في شرحها. فمنهم من قال بنظرية الانفجار العظيم. وهي تذهب إلى أن الكون نتج عن انفجار كتلة واحدة من المادة، وأنه يتمدد باستمرار. ومنهم من قال بنظرية حالة الاستقرار ومعناها أن الكون كان له دائما تركيبه الحالي، وأن المادة تتشكل باستمرار، وهناك من قال بنظرية التذبذب وهي تعني أن الكون يتمدد ويتقلص بانتظام على مدى آلاف الملايين من السنين. وهذه النظريات هي مجرد نظريات تحتاج إلى البرهنة على صحتها. وعلى الرغم من هذا فإنها لا تقدم لنا إجابة شافية على السؤال الهام: من أين أتت المادة الأصلية أو الطاقة التي تنتج المادة لتشكيل الكون كله؟ وهكذا يظل التكهن ببداية الكون سرا مكنونا لا يزال بعيدا عن تصور العقل البشري "محفوظ على عزام: 167، 168". ويعتبر القرن التاسع عشر قرن نظريات التطور في العالم الغربي. من هذه النظريات ما يعرف بنظرية التطور الطبيعي. ومن أهم روادها "لامارك" "1744-1829" وهو عالم فرنسي في علم الأحياء أو البيولوجيا. ويعتبر أول من وضع نظرية عامة للتطور. وتقوم نظريته على أساس توارث الصفات المكتسبة. بمعنى أن جميع الصفات المكتسبة عن طريق الاستعمال أو غير الاستعمال، والتي تكون بتأثير البيئة، تبقى وتتوارث في الأجيال التالية. ومن رواد نظرية التطور الطبيعي أيضا "داروين" "1809-1882" وهو عالم إنجليزي في علم الأحياء أو البيولوجيا، صاحب نظرية الاختيار الطبيعي والتطور العضوي. ومن مبادئ هذه النظرية: ميل جميع الكائنات للزيادة بنسبة هائلة للغاية، ومع ذلك يظل عدد كل نوع من الحيوان ثابتا لأن كثيرا منه يهلك نتيجة المرض أو الأعداء أو التنافس أو المناخ. ومن هنا استنتج "داروين" فكرة

التنازع على البقاء، والبقاء للأصلح، نتيجة الانتخاب الطبيعي في الأفراد التي تكون أكثر ملاءمة للحياة، والأصلح يولد صفاته في أجياله ويخلدها فيهم, وتنتقل من جيل لآخر. ومن الأخطاء الشائعة عن نظرية داروين تسميتها بنظرية النشوء والارتقاء وصحة تسميتها نظرية أصل الأنواع Origin Of Species وهو اسم الكتاب المشهور الذي ضمنه الكلام عن نظريته. ومن الأخطاء الشائعة عنه أيضا أنه قال بأن أصل الإنسان قرد. وهذا غير صحيح. والذي ذكره دارون في كتابه المشار إليه هو أن الإنسان تطور من نوع سابق له من الكائنات بدون أن يحدد هذا النوع السابق. وجاء الفيلسوف البريطاني هاكسلي Huxley واستنتج بنفسه أن ذلك النوع السابق هو القرود، وذلك بمقارنة الهيكل العظمي للإنسان بهياكل الحيوانات الأخرى. إن "دارون" في كلامه عن أصل الأنواع لم يتعرض لأصل الإنسان، لكنه أشار إلى إمكانية الكشف عن أصل الإنسان وتاريخه من خلال نظريته التي تنتهي إلى أن الكائنات تنازعت البقاء وتواءمت مع حاجات هذا التنازع حتى بقي الأصلح الذي استطاع أن يوائم نفسه للمقاومة. أي مقاومة قوى الطبيعة والمخلوقات الأخرى "عمارة نجيب: 29". ومن نظريات التطور ما يعرف بنظرية التطور الكوني العام التي تنسب إلى زعيمها ورائدها "هربرت سبنسر" "1820-1903". وقد عرض نظريته في كتابه "المبادئ الأولى" الذي نشر لأول مرة عام 1860 أي بعد نشر كتاب داروين "أصل الأنواع بسنة واحدة فقط. ولا يمكن أن يقال بأن سبنسر استفاد من داروين لأن نظرية سبنسر تتعلق بالتطور الكوني العام أكثر من كونها في مجال التطور العضوي "محفوظ على عزام: 193". وبالنسبة للفكر الإسلامي نجد ما يعرف بنظرية "الكمون" التي تفسر عملية التطور. وتنسب هذه النظرية إلى "النظام" أحد متكلمي المعتزلة. ويوضح الخوارزمي في كتابه "مفاتيح العلوم" معنى الكمون بقوله: "هو استتار الشيء عن الحس كالزبد في اللبن قبل ظهوره، وكالدهن في السمسم. ويذكر "الشهرستاني" في كتابه المعروف "الملل النحل" ما يذهب إليه النظام في نظريته عن الكمون وهو أن الله عز وجل قد خلق الموجودات دفعة واحدة علي ما

هي عليه الآن، معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض. فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها". وهكذا يكون "الكمون" طريقة في فهم التطور دون تحول نوع إلى نوع آخر، فلا يولد الإنسان من الحيوان، ولا القمح من الفول، ولا الجراد من السمك، والعكس صحيح. ولهذا نجد من الباحثين الغربيين من قام بعمل مقارنة بين نظرية الكمون ونظرية التطور كما عرضها "لامارك" و"داروين" و"سبنسر" "المرجع السابق: 129-130". إن التطور عند مفكري المسلمين وعلمائهم يعني نوعا من الترتيب والتصنيف والتقسيم للكائنات يعتمد على بيان أفضلية بعضها على بعض، وشرف بعضها على بعض. فهم قسموا الكائنات الحية إلى نبات وحيوان، وقسموا كلا منهما إلى أقسام فرعية. كما قسموا الطير إلى أنواع رئيسية وأخرى فرعية. وعقدوا مقارنات لبيان وجه الشبه بين الإنسان والطير والحيوان من الناحية النفسية والتشريحية. فقارنوا بين الإنسان والحمام، وبين الإنسان والقرد والفرس وبعض الحيوانات الأخرى. وهم يستدلون من ذلك على وجود الخلق والخالق "محفوظ على عزام: 150" وانظر أيضا: كتاب الحيوان للجاحظ، وحياة الحيوان الكبرى للدميري. ويقولون بأن الله هو الخالق لكل الكائنات، وهو أيضا المطور لها والمغير لها ولأحوالها بالحركة والسكون والزيادة النقصان. قال تعالى في سورة الفرقان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} . وقال تعالى في سورة فاطر: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقد اقتضت حكمة الله في الخلق وجود زوجين من كل شيء. قال تعالى في سورة الذاريات: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . إن أصل الحياة في الكون كما يؤكده القرآن هو الماء. قال تعالى في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . ويقول عز وجل في سورة النور: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى

رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . فالله سبحانه خلق جميع أنوع الحيوانات والدواب على اختلاف اشكالها وأنواعها وأصنافها. كما أنه خلق جميع أنواع النبات والزرع والثمار. وهي جميعا تسقى بماء واحد، وتنبت في أرض واحدة. قال تعالى في سورة الرعد: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وتكاثر الحيوان والنبات يتم من خلال التزاوج بين العناصر الذكرية والعناصر الأنثوية. قال تعالى في سورة يس: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} . فهناك عملية الإخصاب بالنسبة لتكاثر الإنسان والحيوان. وهناك عملية التلقيح بالنسبة لتكاثر النبات. وهناك الذكر والأنثى من النبات، كما أنه قد يجتمع في النبات الواحد عناصر الذكورة والأنوثة معا. إن فكرة قانون البقاء للأصلح Survival of The Fittist التي استخدمها "داروين" ومن بعده هربرت سبنسر ترجع في أساسها إلى العالم الرياضي المتشائم المعروف "مالتس" Malthus المشهور بنظريته التشاؤمية عن تزايد السكان. وقبل هؤلاء جميعا تحدث المفكرون المسلمون عن هذا القانون على أنه خاصية أو سمة في الحيوان فطره الله عليها للدفاع عن نفسه والحفاظ على حياته دون أن يترتب على ذلك فناء أي نوع منها لأن الله سبحانه وتعالى أعطى لكل كائن وسيلة الدفاع عن نفسه. وقد تحدث عن ذلك "إخوان الصفا" وأشاروا إلى ما في جبلة الموجودات من محبة البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه. وما فيها أيضا من طلب المنافع وفرارها من الضرر. وهذا ينطبق على الإنسان والحيوان. ومن الحيوان ما يطلب المنافع بالغلبة والقهر كالسبع. ومنا ما يطلبها بالحيلة "كالعنكبوت" ومنها ما يدفع العدو عن نفسه بالقتال كالسباع وبعضها بالفرار كالأرانب والظباء والطير. وبعضها يتحصن في الأرض كالفأر والزواحف. وابن مسكويه يرى أن الله عز وجل أعطى لكل حيوان آلة "وسيلة" يتناول بها حاجاته ويدفع بها الضرر عن نفسه، كما يجلب بها المنفعة. وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن هذا القانون فيقول: "ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل الله سبحانه وتعالى لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعة ما يصل

إليه من عادية غيره". وتحدث علماء المسلمين منهم ابن خلدون عن تأثير المناخ والظروف البيئية والهواء والحر والبرد على الكائنات الحية، وتأثيرها أيضا على لون بشرة الإنسان ومزاجه وصفاته. ويرى إخوان الصفا أن للبيئة أثرا في اختلاف السنة الناس وألوانهم وطباعهم وآدابهم ومذاهبهم. وكذلك في اختلاف الحيوانات والنباتات والمعادن. كما يرون أن لكل مكان خاصية ليست لآخر. فينبت فيه أنواع معينة من النبات، ويوجد فيه أنواع معينة من المعادن والحيوانات. "محفوظ على عزام: 157" وقد شرح "أبودلف" رحالة القرن العاشر الميلادي في رسالته الثانية1 عن رحلته في وسط آسيا وما شاهده فيها من أقوام وبلاد وأنهار ونبات وحيوان ومعادن.

_ 1 هذه الرسالة ترجمها مؤلف هذا الكتاب عن الروسية إلى العربية وعلق عليها. وهي من نشر وتحقيق بطرس بولفاكوف، وأنس خالدوف. وناشرها عالم الكتب، القاهرة 1970م.

رفض علماء المسلمين لنظريات التطور الغربية

رفض علماء المسلمين لنظريات التطور الغربية: كان من الطبيعي أن يرفض علماء المسلمين نظريات التطور التي شاعت في الغرب، والتي سبق أن أشرنا إليها عند "لامارك" و"داروين" و"سبنسر". من هؤلاء العلماء إبراهيم الحوراني في كتابه "مناهج الحكماء في النشوء والارتقاء" و"الحق اليقين في الرد على بطل دارون". ومنهم أبو الأعلى الموردي في كتابه "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة". ويعتبر جمال الدين الأفغاني من أبرز علماء المسلمين في الرد على نظريات التطور، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق. وقد ضمن رده في رسالته الصغيرة الحجم العظيمة القدر المعنونة باسم "الرد على الدهريين". وفي رده على "داروين" يقول: لو عرضت على دارون الحيوانات المختلفة البنى، والصور والقوى والخواص وهي تعيش في منطقة واحدة، ماذا تكون حجته في علة اختلافها؟ وإن قيل لداروين هذه أسماك بحيرة "أورال" وبحر "كسين" مع تشاركها في المأكل والمشرب

وتسابقها في ميدان واحد ترى فيها اختلافا نوعيا، وتباينا بعيدا في الأشكال والألوان والأعمال. فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ وإن سئل دارون عن الأشجار القائمة على غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنا. وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد. فما السبب في اختلاف كل منها عن الأخر في بنيته وشكل أوراقه وطوله وقصره وضخامته وزهره وثمره وطعمه ورائحته وعمره. فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن لا سبيل إلى الجواب سوى المعجز عنه "جمال الدين الأفغاني: 42-43". ويشير الأفغاني إلى فكرة أخرى لدارون فيقول: ومن واهياته، أي داروين ما كان يرويه من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا، صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت "أي توقفت" الطبيعة عن هبته "أي إعطائه". ويرد الأفغاني على ذلك بقوله: وهل صمت أذن هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب وما يجرونه من الختان ألوفا من السنين، ولا يولد مولود حتى يختن. وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختونا إلا لإعجاز "المرجع السابق: 44-45".

دورة الحياة

دورة الحياة: إن النظرة الدينية في الإسلام والرسالات السماوية الأخرى ترى أن الحياة البشرية بدأت بخروج آدم من الجنة ونزوله إلى الأرض أو الحياة الدنيا لتعميرها بما حباه الله من عقل وجسم وقدرات مختلفة هو وذريته من بعده حتى تنتهي هذه الحياة لتبدأ دروة حياة أخرى هي حياة الآخرة. فهذه الدورة البشرية من الحياة دورة تاريخية لكنها لا تتكرر. وقد يختلف المفكرون ورجال الدين وغيرهم تفاؤلا وتشاؤما فيما يتعلق بالحياة الآخرة التي وصفت بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقد وصفها الله عز وجل في قرآنه الكريم بقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} . بيد أن هذه الأرض التي نطؤها بأقدامنا ليست كتلة من جسد أموات كما وصفها المعري والخيام في أشعارهما. بل إنها كائن حي

يتدفق قوة وحيوية تبذر فيها البذور فتترعرع نباتا غضا طريا يتغذى به الإنسان والحيوان. إن قدرة الله وعظمته تتجلى في مظاهر الطبيعية الكون. وقد أمرنا عز وجل أن نتأمل هذه المظاهر، وأن نفكر فيها حتى يزداد إيماننا به بدلا من التفكير في ذاته فنضل. وهذا الكون هو مجال عمل الإنسان عليه أن يرعاه. وأن ينميه، وأن يحافظ عليه، وأن يشكر الله على ما حباه من نعم وخيرات فيه. هل هناك حياة أخرى في الكون خارج هذه الأرض التي نحيا عليها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تستدعي منا التفكير في بعض الآيات القرآنية: منها قوله عز وجل في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} . فالفهم العام الذي يتبادر إلى الذهن من ضمير التثنية في كلمة "فيهما" يوحي بأن هناك حياة أخرى لأن الدابة هو كل ما يدب على الأرض حتى الإنسان يقال له دابة. وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير بأن من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته خلق السماوات والأرض وما ذرأه فيهما أي خلقه في السماوات والأرض من دابة. وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم. وقد فرقهم في أقطار السماوات والأرض. ويذهب إلى نفس التفسير محمد فريد وجدي في تفسيره المعروف بالمصحف المفسر فيقول: ومن آياته خلق السماوات والأرض على ما فيها من عجائب الإبداع وما نشر فيها وقت يشاء. ويقول الله تعالى أيضا في سورة النحل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ} فتكرار اسم الموصول مرتين مرة متعلقة بالسماوات والأخرى متعلقة بالأرض يؤكد نفس المعنى الذي ذهبت إليه الآية السابقة. وهكذا يذكر القرآن الكريم ما يشير إلى وجود حياة خارج الأرض التي نحيا عليها.

ما تصلح به حال الدنيا

ما تصلح به حال الدنيا: يقول الماوردي تحت هذا العنوان: "اعلم أن ما تصلح به الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة ... ستة أشياء أو أمور هي: دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح". فهو يرى أن الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها لأنه يصرف النفوس عن شهواتها ويعطف القلوب عن إرادتها حتى يصير قاهرا للسرائر زاحرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خلواتها نصوحا لها في ملماتها. كما أن الدين به صلاح الآخرة أيضا. ومن هنا كان على العاقل أن يكون به متمسكا وعليه محافظا. أما الأمر الثاني الذي تصلح به الدنيا هو السلطان القاهر فيقول الماوردي إن برهبته تتألف الأهوار المختلفة وبهيبته تجتمع القلوب المتفرقة وبسطوته تنكف الأيدي المتعالية ومن خوفه تنقمع النفوس المتعادية ولأن في طباع الناس من حب المغالبة والمنافسة على ما آثروه والقهر لمن عاندوه ما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي ورادع تلي وقد أفصح المتنبي في ذلك بقوله: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم". وروى عنه قوله صلى الله عليه وسلم أيضا: "إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن". أما الأمر الثالث وهو العدل الشامل فإنه كما يقول الماوردي يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمو به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان. وإذا كان العدل إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به ولا صلاح فيها إلا معه، وجب أن يبدأ بعدل الإنسان في نفسه ثم بعدله في غيره فإذا عدل الإنسان في نفسه فيكون بحملها على المصالح وكفها عن القبائح. وأما عدله مع غيره فيكون بعدل الإنسان فيمن دونه، كالسلطان في رعيته. ويكون بعدل الإنسان مع من فوقه كالرعية مع سلطانها. ويكون بعدل الإنسان

مع أكفائه. أما الأمر الرابع الذي تصلح به الدنيا وهو الأمن العام فإليه تطمئن النفوس وفيه تنتشر الهمم وفيه يكن البريء ويأنس الضعيف. فليس لخائف راحة ولا لحاذر طمأنينة. وقد قال بعض الحكام: الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش. وأما الأمر الخامس وهو خصب الدار ووفرة العيش فيه تتسع النفوس ويشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال. فيقل في الناس الحسد وينتفي عنهم تباغض العدم. ولأن الخصب يئول إلى الغنى. والغنى يورث الأمانة والسخاء. وقال بعض السلف: "إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشر الدنيا والآخرة في الفجور والفقر". وقد قال الشاعر في هذا المعنى: ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر أما الأمر السادس وهو الأصل الفسيح فإنه يبعث على اقتناء ما يقصر العصر عن استيطابه. ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل في دركه بحياة أربابه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: $"الأمل رحمة من الله لأمتي ولولاه ما غرس غارس شجرا ولا أرضعت أم ولدا". وقد قال الشاعر في هذا المعنى: وللنفوس وإن كانت على وجل ... من المنية آمال تقويها فالصبر يبسطها والدهر يقبضها ... والنفس تنشرها والموت يطويها ويفرق الماوردي بين الآمال والأماني. فالآمال ما تقيدت بأسباب والأماني ما تجردت عنها. أي أن الأمل يتعلق بتحصيل شيء يمكن حصوله. أما الأمنية فهي رجاء وتمني لشيء من الصعب أو المحال تحقيقه.

ثانيا: المعرفة في الإسلام "مدخل ابستمولوجي"

ثانيا: المعرفة في الإسلام "مدخل ابستمولوجي" مدخل ... ثانيا: المعرفة في الإسلام "مدخل أبستمولوجي" شغل علماء المسلمين بالبحث في العلوم والمعارف وأنواعها وتصنيفاتها والمفاضلة بينها. ويقول ابن خلدون: "ومن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي". "والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة ... والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين". وقد فاضل علماء المسلمين بين العلوم شريفها ووضيعها ومحمودها ومذمومها. وكانت الفلسفة أكثر العلوم موضعا للجدل. فقد نظر إليها الغزالي على أن كثيرها مذموم لما تؤدي إليه من الشك أو الإلحاد، واعتبرها ابن خلدون صناعة عاطلة. وقد ورد عن الجاحظ أنه مدح الفلسفة وذمها فيما مدحه وذمه من العلوم معربا عن قدرته على الكلام وبعد شأوه في البلاغة. قال مادحا الفلسفة: إنها أداة الضمائر وآلة الخواطر ونتائج العقل وأداة لمعرفة الأجناس والعناصر وعلم الأعراض والجواهر، وعلل الأشخاص والصور واختلاف الأخلاق والطبائع والسجايا والغرائز. وقال في ذم الفلسفة: إنها كلام مترجم وعلم مرجم بعيد مداه قليل جدواه مخوف على صاحبه سطوة الملوك وعداوة العامة. ومن المعروف أن الجاحظ كان من المعتزلة وهي إحدى فرق الكلام الإسلامية التي تحتكم إلى العقل في منهجها الفلسفي. وهكذا نجد أن المتقدمين من المسلمين قد اختلفوا في تقديرهم للفلسفة بين مادح وقادح، لكنهم لم يصلوا إلى درجة المبالغة في معاداة الفلسفة وتحريم الاشتغال بها على غرار ما نجده عند بعض علماء المسلمين الذين جاءوا في فترة متأخرة. فالشهرزوري أحد علماء القرن الثالث عشر يذكر في فتواه فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعلما وتعليما قوله: الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة.. من تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان.. وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه من إباحة الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين ... ومن زعم أن يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به. فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم عن المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم "مصطفى عبد الرازق: ص85".

ويذكر الشيخ جمال الدين أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي عالم القرن العاشر الميلادي في الرد على الفلاسفة: هم قوم من اليونانيين تحذلقوا في المعقولات حتى وقعوا في وادي الحيرة والخباط ... ويزعمون أنهم أكيس خلق الله وسياق مذهبهم يدل على أنهم أجهل خلق الله وأحمق الناس. وأساس الإلحاد والزندقة مبني على مذهبهم والكفر كله شعبة من شعبهم. وكانوا يترهبون لقطع النسل. ورئيسهم أفلاطون الملحد لعنه الله وإخوانه كأرسططاليس وسقراط وجالينوس كلهم ملاحدة العصر وزنادقة الدهر يقينا. ثم إن الله سبحانه وتعالى علم خبث سرائرهم فأرسل عليهم سيلا ففرقهم. وعلومهم المشئومة عربتها أقوام في عهد المأمون الخليفة بإذنه ووصيته ... فهم مشركون ملحدون لعنهم الله. وواضح هنا أن الكلام عن الفلسفة اليونانية ولا يمكن أن يفهم منه أن الخوارزمي يعادي الفلسفة بصفة عامة. بل إن الخوارزمي يورد في نفس الكتاب ما يؤكد أن النظر والتفكير واجب بل هما من الفرائض الإسلامية. ولعل هذا ما حدا بمؤلف العبقريات الإسلامية أن يجعل عنوان أحد كتبه: التفكير فريضة إسلامية: أليس هذا سندا شرعيا كافيا للفلسفة؟ وهناك مثال آخر للعلماء المعادين للفلسفة الذين ظهروا في فترة متأخرة نجده فيما يذكره أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كوبري زاده عالم القرن السادس عشر الميلادي في كلامه عن موضوعات العلوم فيقول: وإياك أن تظن من كلامنا هذا أو تعتقد كل ما أطلق عليه اسم العلم حتى الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا ونقحها نصر الدين الطوسي ممدوحا. هيهات هيهات إن كل ما خالف الشرع فهو مذموم سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام عكفوا على دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة، وربما استجهلوا من عرى عنها وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله المحرفون علم الشريعة عن مواضعه. ولا تكاد تلقي أحد منهم يحفظ قرآنا ولا حديثا وإنما يتجملون برسوم الشريعة حذرا من تسلط المسلمين عليهم ... فالحذر الحذر منهم وإن الاشتغال بحكمتهم حرام في شريعتنا.

وعلى النقيض من ذلك نجد إخوان الصفا يعتبرون الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة. واعتبرها آخرون ضرورية لفهم الدين بل إن الشرع يحث على تعلمها. ويقول ابن رشد في "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" إن النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع بل إن الشرع يحث على تعلم الفلسفة لأن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات كما أن الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان. وكان من الأفضل أن الأمر الضروري لمن أراد أن يعرف الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يعرف أنواع البراهين وشروطها وكيف يختلف القياس البرهاني عن القياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي، وهذا بدوره يقتضي معرفة القياس وأنواعه وأجزائه ومكوناته وغير ذلك من الأساليت التي تقتضيها طبيعة النظر في الموجودات. ويعرض الغزالي في "معارج القدس ص46" لفكرة أهمية العقل وضرورته كأساس فيقول: "فالعقل كالأس والشرع كالبناء ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس ... فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل وهما متعاضدان بل متحدان". ويقول ابن رشد في نفس المعنى: "إن الحكمة هي صاحبة الشرعية والأخت الرضيعة وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة" ويقول الدكتور دراز: في كتابه: الدين ص53. "إن من الأهداف الرئيسية للفلسفة معرفة أصل الوجود وغايته ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في العاجل والآجل وهذا أيضا موضوعا الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع". يقول فرانسيس بيكون في الرد على اتهام معاصريه له بالإلحاد: "إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان ذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عندما يصادفه من أسباب ثانوية مبعثرة فلا يتابع السير إلى ما وراءها ولكنه إذا أمعن النظر فشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدا من التسليم بالله". كل تلك الأمثلة السابقة أردنا أن نوضح بها الصلة بين الدين والفلسفة. وقد درس علماء المسلمين أيضا علاقة المنطق بالفلسفة ويمثل علم المنطق في نظر

إخوان الصفا وغيرهم ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. وقد اختلف علماء المسلمين في المفاضلة بين العلوم الحسية والعلوم العقلية أو النظرية فذهب فريق منهم أبو العباس القلانسي إلى تفضيل العلوم النظرية العقلية على الحسية. وذهب فرق آخر منهم أبو الحسن الأشعري إلى تفضيل العلوم الحسية على العلوم النظرية العقلية لأنها أصول لها ويقول ابن خلدون في المقدمة: "وأما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن يميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بها العجم وتركها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعلمون من العجم شأن الصنايع كما قلنا". وقد قسم ابن طاهر البغدادي العلوم النظرية أي التي تعتمد على النظر والعقل إلى أربعة اقسام: - القسم الأول: يقوم على الاستدلال بالعقل والقياس مثل مباحث الغيبيات والإلهيات والوجود وغيرها. - القسم الثاني: يقوم على التجارب والعادات مثل علوم الطب والدواء والحرف والصناعات. - القسم الثالث: هي العلوم المعلومة من جهة الشرع مثل معرفة أصول الدين وأحكام الفقه. - القسم الرابع: هي العلوم المتحصلة عن طريق الإلهام وهي علوم يختص بها بعض الناس دون البعض مثل معرفة فنون الشعر وصناعة الألحان وما شابهها. ويقول الدكتور محمد عبد السلام عالم الفيزياء العالمي المسلم المشهور "إن الذي لا يرى والذي لا يدركه البشر والذي لا يمكن معرفته هو ما تعبر عنه الكلمات العربية الأصيلة في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} "محمد عبد السلام: 45".

طبيعة المعرفة وأنواعها

طبيعة المعرفة وأنواعها: شغل المسلمون بالحديث عن طبيعة المعرفة في الإسلام وتكلموا عن خصائصها وقد انقسموا إزاءها إلى رأيين: - أحدهما يرى أن المعرفة توقيفية أي أنها توقيف من الله على عبده ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فإذا كان آدم أبا البشر والله سبحانه وتعالى علمه الأسماء كلها فهو قد علمها لذريته من بعده. {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . - والرأي الثاني يرى أن المعرفة مكتسبة وهو رأي يستند إلى أسانيد من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . كما شغل علماء المسلمين بالحديث عن المعرفة وأنواعها ومصادرها. ويشير أبو حنيفة إلى أن مصادر المعرفة في الإسلام أربعة: كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه واجتهاد وإجماع. ويمكن القول بأن أهم أنواع المعرفة التي تقوم عليه التربية الإسلامية هي: 1- المعرفة اللدنية: المعرفة اللدنية هي المعرفة التي يكشفها الله للإنسان، قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} . وقال عز وجل: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} . والله عز وجل في معرفته غير المحدودة يلهم بعض الناس المختارين ويوحي لهم بتعاليمه ليحملوها إلى الناس وتكون متاحة أمام جميع الجنس البشري. وهذه المعرفة بالنسبة للمسلمين توجد في القرآن الكريم والسنة. والشخص يتقبلها على أساس الإيمان ويعمل على دعمها كلما أمكن ذلك بالعقل والخبرة. والمسلم الصحيح هو الذي يتقبل ما جاء من عند الله على لسان نبيه الكريم على أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالقرآن أو الكتاب هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، تبيانا لما به صلاح الناس في دنياهم وآخراهم وهو حجة واجبة العمل بما ورد فيه من أحكام، وهو قانون واجب الاتباع والرجوع إليه، ومصدر التشريع وأحكامه، ومنبع هداية وإرشاد، والدليل على ذلك أنه من عند الله وقد احتوى

على الأمر الصريح بوجوب اتباعه، والعمل بما تضمنه من الأحكام قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} . ويمكن أن نستمد المعرفة من القرآن فيما يتعلق بالأمور الآتية: 1- العقائد التي يجب التصديق بها كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وهو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر. 2- الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة التي تهذب النفوس وتصلح من شأن الفرد والجماعة. 3- الإرشاد وطلب النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله فيها. 4- قصص الأولين أفرادا وجماعات. 5- الأحكام العلمية، فقد وضعها أو وضع أصولها وكلفنا اتباعها وما ينظم علاقة البشر بربهم، وعلاقتهم مع بعضهم البعض. والسنة في اللغة الطريقة، فإذا أضيفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لفظا أو دلالة كان المراد ما أثر عنه من قول أو فعل أو تقرير والسنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وهي مكملة له. وهي تنقسم إلى قسمين: - السنة المتواترة: وهي ما رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عن جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك من أول السند إلى منتهاه. - السنة غير المتواترة: وتسمى السنة الآحادية عند غير الحنفية، وهي التي لم تتواتر في جميع العصور الثلاثة. وقد أثبت المحققون من العلماء كثيرا من الأحكام التشريعية بالسنة القولية والعلمية واعتبروها حجة، وأصلا من أصول التشريع، ومصدرا من المصادر الشرعية والدليل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا النوع من السنة هو ما يعرف بالسنة التشريعية الملزمة. وهناك نوع آخر من السنة لا يحمل طابع التشريع أو الإلزام وهو يشمل الأحاديث التي تتعلق بحياة الرسول البشرية مثل حبه لبعض الأطعمة والأشربة واللباس وما

شابه ذلك من الأحاديث التي لا تمت بصلة مباشرة إلى الشريعة بمعناها العام ولقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "أنتم أعلم بأمور دنياكم فإنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"، يقول الراغب الأصفهاني "توفي 502هـ/ 1108م" أحد أئمة السنة في كتابه "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين": واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلا إلى معرفة كليات الأشياء دون جزئياتها ... والشرع يعرف كليات الأشياء ويبين ما الذي يجب أن يعتقد ولا يعرفنا العقل مثلا أن الخنزير والدم والخمر محرم وألا تنكح ذوات المحارم وألا تجامع المرأة في حال الحيض فإن أشباه ذلك لا سبيل إليها إلا بالشرع. فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة. 2- المعرفة الوثقى: هذه المعرفة تصدر عن كبار العلماء والمختصين. فالمعرفة الموجودة بدوائر المعارف الإسلامية، والفتاوى الكبرى المشهورة وكذا أمهات الكتب الإسلامية مثل الرسائل العلمية والمطبوعات المتخصصة التي اضطلع بها أناس متمكنون معترف بهم كلها أمثلة للمعرفة الوثقى، ولهذه المعرفة قيمتها الكبرى لأنها تصدر عن مصادر موثوق بها. ويحدث ذلك في كل العلوم بصرف النظر عن طبيعتها الدينية أو العلمية ونحن مثلا في التعليم المدرسي نقبل دون مناقشة صيغا لحل بعض المسائل الرياضية مثلا أو نستظهر بعض القواعد والصيغ والقوانين أو المعادلات، وبوسعنا أن نتحقق من صحة هذه الصيغ والقوانين شخصيا، ولكننا نفضل تقبلها بقصد الاقتصاد في الوقت والجهد، وفي نهاية الأمر تحظى هذه القواعد بالاحترام في أنظار الثقاة في العلم لمدة طويلة. وكثير من معرفتنا الواقعية يقوم على هذه الثقة وأصبح لها قيمة كافية لتخليدها والاحتفاظ بها. 3- النقل عن السلف: وهو يمثل مسلك الخبر الصادق الذي يفيد العلم والمعرفة، وهناك أخبار

مقطوع بصدقها مثل أخبار القرآن الكريم ورسله وأنبيائه ومن هم في مرتبتهم وهناك الأخبار التي يرجع صدقها واشترط الإسلام لقبولها بالنسبة للأخبار العادية من علمية وتاريخية أن يتوافر في صاحبها ثلاثة شروط: العدالة وهي ألا يكون قد عهد عليه كذب أو معصية، والأهلية الفكرية لنقل الأخبار دون تعرض لنسيان أو اضطراب، وأخيرا اتصال الراوي بمصدر الخبر أو بمن رواه. ويعتبر النقل عن السلف مصدرا من مصادر المعرفة في الإسلام، وهو يمثل خلاصة تجارب أسلافنا الصالحين وخبرتهم، ويهمنا أن نعرف ما قاله هؤلاء السلف حتى ننسج على منوالهم ونواصل حياتنا من حيث انتهوا إليه. ولهذا يجب أن نهتم بتراثنا الأصيل وأن نخلصه من الشوائب ونقدمه لشبابنا ونشئنا في صورة مقبولة تحببهم فيه. 4- التقليد: يقول ابن عبد البر النمر القرطبي في جامع بيان العلم وفضله "ص12، 45" إن حد العلم عند العلماء هو ما استيقنته وتبينته. وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه ومن لم يستيقن الشيء وقال به تقليد لم يعمله. والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع. لأن الاتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه فهذا هو التقليد الأعمى. وقد قيل لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. ومن منظوم القرطبي في التقليد قوله في هذا المعنى: "ج2، ص140". يا سائلي عن موضع التقليد خذ ... عني الجواب بفهم لب حاضر لا فرق بين مقلد وبهيمة ... تنقاد بين صنادل ودعائر تبا لقاض أو لمفت لا يرى ... عللا ومعنى للمقال السائر فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة الـ ... ـمبعوث بالدين الحنيف الطاهر ثم الصحابة عند عدمك سنة ... فأولاك أهل نهى وأهل بصائر وكذاك إجماع الذين يلونهم ... من تابعيهم كابرا عن كابر إجماع أمتنا وقول نبينا ... مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر وإذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد ... ومع الدليل فمل بفهم وافر

وعلى الأصول فقس فروعك لا ... تقس فرعا بفرع كالجهول الحائر والشر ما فيه فديتك أسوة ... فانظر ولا تحفل بزلة ماهر وهذا يعني أن التقليد بدون فهم أو وعي لا يجوز لأهل العلم والعلماء. أما العامة من الناس فلا خلاف في أنهم يقلدون علماءهم وهم المقصودون بقوله عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وقد أجمع العلماء على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره من الثقات إذا أشكلت عليه معرفة القبلة. فكذلك من لا علم له ولا بصر لا بد له من تقليد عالمه. ويقصد بالتقليد في معنى من المعاني المعرفة التي تؤخذ عن رجال يطمأن عليهم ويوثق في علمهم وهو ما صنفناه تحت المعرفة الوثقى. ولكن التقليد الذي نقصده هنا هو الاقتداء تمشيا مع قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا عندما قال لأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والتقليد بهذا المعنى مصدر من مصادر المعرفة. بيد أن ما يعنيه الإسلام هو التقليد الواعي الحكيم الذي يتحقق به منفعة محققة للإنسان. أما القليد الأعمى فهو مكروه في الإسلام لما يترتب عليه من عدم تمييز بين الخير والشر والحق والباطل والصالح والطالح، والإنسان قد يتوصل إلى أشياء مفيدة ونافعة نتيجة اجتهاداته الشخصية وتقليده في هذه الحالة مفيد، وكذلك يصبح تقليد القدوة الصالحة مسلكا مرغوبا في الإسلام حث عليه كمنهج سليم للتربية وضرب له مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير. ومن الأمور العادية المعروفة أن الصغير يقلد الكبير والابن يقلد أباه والبنت تقلد أمها والتلميذ يقلد معلمه. والتقليد مهم إذن في التربية الخلقية وفي تزكية السلوك الرشيد. والتقليد يترسخ بالتقليد وهي نقطة هامة ينبغي أن تولي التريبة اهتمامها بها وأن تكون المدرسة نموذجا يقتدى للتقاليد الإسلامية السليمة.

5- المعرفة العقلية: من المعارف ما يكتسب عن طريق العقل والتأمل الفكري من مسالك اكتساب المعارف والعلوم وما يرتبط بذلك من تحليل وتركيب وقياس واستنتاج وربط. والقرآن الكريم حافل بالأمثلة التي تحث المسلمين على استخدام عقولهم وتفكيرهم في الاختيار والتمييز والمفاضلة، بل وتحث المسلمين أيضا على تحكيم العقل في الأمور التي لم يرد فيها نص ديني صريح، ولقد ارتقى الله بالإنسان بأن جعل له عقلا يميز به وهو مطالب بأن يستخدم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه. والعقل مصدر هام للمعرفة التي منها نستمد أحكاما يتسق بعضها مع بعض. فمثلا نجد أن الحقائق المنطقية والرياضية هي أنواع من المعرفة التي تحتكم إلى العقل. خذ مثلا القضية القائلة بأن القوانين المتناقضين لا يمكن أن يكونا صادقين في نفس الوقت، أو القضية القائلة بأن الخطين المتوازيين لا يلتقيان. فهاتان القضيتان مستقلتان عن الأمثلة الواقعية وغير مستمدتين من الحواس. إنهما صحيحتان بغض النظر عن خبرتنا بهما. هؤلاء الذين يؤكدون أن العقل هو العامل الهام في المعرفة في شكل حقائق مجردة وفي شكل انطباعات منفصلة، ولكنهم يعتقدون أن الفكر يقوم بتفسير وتنظيم هذه الأجزاء الضئيلة من المعلومات فيما يمكن أن نطلق عليه اسم المعرفة الثابتة ذات القيمة. إن المعرفة عند ابن سينا تنقسم إلى ثلاثة أنواع: معرفة بالفطرة، ومعرفة بالفكرة، ومعرفة بالحدس، فأما المعرفة بالفطرة فهي المبادئ الأولى كقولنا: "إن الواحد نصف الاثنين". وأما المعرفة بالفكرة فهي معرفة مكتسبة وتكون أكبر من مجهود النوع الأول ولا يدركها إلا من وصل إلى مرتبة العقل المستفاد. وهناك نوع ثالث من المعرفة هو المعرفة بالحدس ... فمن الناس من لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كبير عناء وإلى تخريج وتعليم، بل تراه كأنه يعرف كل شيء بنفسه حدسا بلا قياس وبلا معلم كأن فيه روحا قدسية. وهذا الاستعداد الحدسي ليس على درجة واحدة في جميع الناس وإنما هو متفاوت تفاوتا لا ينحصر في حد. على أن المعرفة المستفادة من خلال العقل لها حدود عامة. فهي تنحو إلى

أن تكون مجردة. ذلك أنها تتناول عالم العلاقات والمعاني ولا تقدم سوى فهم ضئيل لعالم الأشياء. وحيث إن حياتنا منغمسة بلا مناص في العالم الفيزيائي المادي، فإننا بحاجة إلى عون من الأنماط الأخرى من المعرفة، وأكثر من هذا فإن عملياتنا العقلية قد تكون متأثرة بالتحيزات والاهتمامات والميول التي تمنع العقل في الغالب من أن يكون موضوعيا. ولهدا انتقد الغزالي ومن بعده الفيلسوف الألماني "كانط" العقل واتهماه بالعجز والقصور في التوصل إلى إدراك الذات الإلهية أو المعبود الأعلى. ويستخدم العقل الصرف في نطاق أضيق في الوقت الحاضر عما كان عليه الحال في العصور القديمة للفلسفة عندما اعتقد الإنسان أن العقل وحده هو المهيمن. وعلى هذا فما يزال هو الفيصل والقاضي في المعرفة إذا ما أريد للمعرفة أن تكون معقولة. فهنا يجد العقل نفسه في ضع صعب بلا ريب. وذلك لأن العقل البشري كما يبدو يجب أن يحكم على نفسه بالفعل. وقد حث الإسلام على استخدام العقل والتفكير وجعلهما أساسا للمسلم الحق الذي يتقي الله حق تقاه قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقد جعل الإسلام العقل أساس التكليف وأسقطه عمن ذهب عقله أو أصابه الخبل، ومن لا يعقل فهو من شر الدواب. قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} . ومن أهم مبادئ الإسلام: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم" وقد أشار الغزالي إلى هذا بقوله: أن يقتصر المعلم بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه فينفره أو يخبط عليه عقله".. وقد اقتدى الغزالي في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم عندما قال: "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم". فقد وضع الدين الإسلام العقل موضعا عظيما فجعل طريقه هداية للناس بمدى كمال عقولهم فلا يخاطب العاقل بما يخاطب به الجاهل ولا يخاطب ذوو العقول الخفيفة بما يخاطب به العقلاء ذوو العقل الكامل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كانت فتنة على بعضهم". فهنا

يراعي الرسول صلى الله عليه وسلم مستوى العقول رعاية عظيمة فلا يخاطب الأذكياء بما يخاطب به الأغنياء، ولا يخاطب الخاصة بما يخاطب به العامة، فالذكي يفهم الشيء بالإشارة، والغبي ربما لا يفهمه إلا بعد أن يكرر له عدة مرات، ولذلك قيل: كِلْ لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وضع كل شيء في موضعه. ويعتبر الاجتهاد نمطا من أنماط المعرفة ومصدرا من مصادرها في التربية الإسلامية، وقد كان الاجتهاد دائما دليلا على تقدم المسلمين ورقيهم لأنه يساعدهم على تطويع أمور دينهم لدنياهم على اختلاف أحوالها على مر السنين. ويرتبط الاجتهاد بالعقل والقياس كما أنه يرتبط بالمعرفة الوثقى التي سبق أن عرضنا لها. 6- المعرفة الحسية: تعرف المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس بالمعرفة الحسية. فنحن نشكل صورتنا عن العالم من حولنا عن طريق البصر والسمع والشم واللمس والذوق، وبذا تتكون المعرفة من أفكار تتشكل وفق وقائع تمت ملاحظتها. ونحن نكتسب المعرفة الحسية عندما نرى أو نسمع أو نلمس أو نشم أو نتذوق بينما نكتسب المعرفة العقلية عندما نتأمل الأشياء من خلال العقل. فهناك من المعارف ما يكتسبه الإنسان عن طريق استخدام الحواس الظاهرة بشكل مباشر. فمن الأشياء ما يبصر العين أو يلمس باليد أو يشم بالأنف هكذا. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} ، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهذه الحواس تساعدنا على إدراك ما حولنا في الكون والفضاء وما يجري فيه من أمور مختلفة من حركات وسكنات وألوان وأصوات وغيرها، نحس بالأشياء إحساسا مباشرا الصلبة منها واللينة والثقيلة والخفيفة كما نحس بالسعادة والحزن والألم والفرح والحب والكراهية وغير ذلك من المشاعر والأحاسيس.

ويؤكد الفارابي في نظريته للمعرفة على أهمية الحس فيقول: "فالمعارف إنما تحصل على النفس بطريق الحس" ... ويستشهد بقول أرسطو في كتاب "البرهان": "إن من فقد حسا فقد علما" ... بيد أن الفارابي لا يلغي دور العقل بل يؤكده لأنه يرى أن المعرفة لا تحصل للإنسان بمجرد مباشرة الحس للمحسوسات وإنما بعد تدخل قوى نفسية. يقول الفارابي: " ... وقد يظن أن العقل تحصل فيه صورة الأشياء عند مباشرة الحس للمحسوسات بلا توسط وليس الأمر كذلك، بل بينهما وسائط، وهو أن الحس يباشر المحسوسات فتحصل صورها فيه ويؤيدها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه فيؤدي الحس المشترك تلك الصور إلى التخيل والتخيل إلى قوة التمييز ليعمل التمييز فيها تهذيبا وتنقيحا ويؤديها منقحة إلى العقل ... ". إن المعرفة عند الغزالي نوعان: نوع محسوس يعرف عن طريق الحواس ونوع معقول يعرف عن طريق العقل، ويقول في ذلك: "فإذا عرفت انقسام الموجودات إلى محسوسات وإلى معلومات بالعقل ولا تباشر الحس والخيال. فأعرض عن الخيال رأسا وعول على مقتضى العقل فيه". ويرى الغزالي أن المعرفة المستمدة من الحواس مثلها مثل المعرفة المستمدة من العقل غير يقينية لما تنطوي عليه من خداع. وفي ذلك يقول في "المنقذ من الضلال": "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك.. وتنظر إلى الكواكب فتراه صغيرا في مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار ... فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا". ويتفق في هذا الرأي مع الغزالي الفيلسوف الفرنسي المعروف "ديكارت". فهو يرى أن المعلومات المستمدة من الحواس قابلة للشك. وحجته في ذلك أن ثمة أحلاما نراها وأوهاما نتصورها، ونعتقد اعتقادا جازما في وجودها مع أنها مجرد أحلام وخيالات. "عمارة نجيب: 36". ويعتبر الغزالي تمشيا مع المدرسة المثالية أن المعرفة المستمدة من العقل تعلو في قيمتها على المعرفة المستمدة من الحواس لأن الحواس، في نظره خادعة

ومضللة. ولذلك جعل معرفة العقل حاكما ومسيطرا على معرفة الحواس يقول الغزالي: "فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي فجاء حاكم العقل فكذبني. ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي". بيد أن الغزالي يتشكك في المعرفة العقلية ويعتبر أن هناك نوعا من المعرفة يعلو فوق مستوى العقل، وهو يقول في ذلك "فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته" ويرى الغزالي أن الشك الفلسفي هو الذي يوصلنا إلى أن المعارف العقلية والحسية لا تؤدي بنا إلى المعرفة اليقينية التي يسعى إليها الفيلسوف. وابن حزم القرطبي "384هـ - 456هـ" يعلي من شأن العقل ويمجده ويقول: "من أبطل العقل فقط أبطل التوحيد إذ لولا العقل لم نعرف الله عز وجل" وهو يعتبر العقل والحواس مصدرين رئيسيين للمعرفة في الإسلام ويقول: "المعرفة تكون بشهادة الحواس بأول العقل ببرهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس". ومن الطريف أن بعض علماء المسلمين ومتكلميهم اهتم بالمفاضلة بين حاستي السمع والبصر فذهب فريق إلى القول بأن السمع أفضل من البصر لأن الإنسان يسمع من كل الجهات كما أنه يسمع في النور والظلمة على السواء. في حين أن الإنسان يبصر ما يراه أمام عينيه فقط ويقتصر إبصاره على النهار أو الضوء دون الليل أو الظلمة. وذهب فريق آخر هو أكثر المتكلمين إلى تفضيل البصر على السمع لأن البصر يدرك الأشياء كلها من أجسام وألوان وأشكال مختلفة في حين أن السمع يقتصر على إدراك الصوت والكلام فقط. وهذه المفاضلة لا تعني بالطبع الاهتمام بحاسة وإغفال الأخرى وإنما تعني توضيح الأهمية النسبية لكلتا الحاستين كمصدرين هامين للمعرفة مع التسليم سلفا بأن كلتيهما تتساويان في الأهمية ولا غنى للإنسان عنهما في اكتساب المعرفة.

بيد أن المعرفة المستمدة من الحواس يكون مجال الاتفاق عليها عادة أكثر من تلك المستمدة من العقل. وعلى الرغم من أننا نعتمد على حواسنا بالنسبة لمعرفتنا المتعلقة بالحياة اليومية، فإن هذه الحواس تخدعنا في بعض الأحيان. كما هو الحال في المثال التقليدي الخاص بالعصا التي تبدو منحنية في الماء. ولكن يتضح أنها مستقيمة عندما تقوم بلمسها. ولقد تؤثر أيضا في انحيازاتنا في طريقة رؤيتنا.. ففي بعض الأحيان نرى ما نحب رؤيته، لا ما هو واقع بالفعل. ولقد نقل دقة حواسنا أكثر فأكثر بسبب العوارض التي تطرأ على الإنسان ومنها المرض أو بسبب بعض العناصر المؤثرة كالبرد والضباب والحرارة والصوت. ومع هذا فإن للحواس دورها الخاص الذي تلعبه في تشكيل المعرفة. ويرتبط منهج العلم ارتباطا وثيقا بهذا الجانب بالذات من نظرية المعرفة، وذلك لأن العلم الحديث تجريبي. والعلوم التجريبية أو الطبيعية تُعنى بدراسة عالم الأشياء المحسوسة أو عالم المادة وهي تبحث في الأشياء الواقعة تحت التجربة أو الذرات فإن العلم التجريبي يستطيع أن يفسرها بغيرها. والعقل يدخل في دراسة هذه العلوم. فالأصوات والألوان وما شابهها تتوقف على عقل الشخص المدرك لها. فعندما نرى لون ماء البحر أزرق أو السماء زرقاء فهذا لا يعني أن الزرقة صفة موجودة في ماء البحر. وشكل السماء، وإنما هو إحساس "بهذا اللون مرهون بفعل المادة وتأثيرها. فإدراك الألوان أو الأصوات أحوال ذاتية للشخص المدرك وليست جزءا من الطبيعة. يقول محمد إقبال "ص52": إن ما نسميه بالعلم ليس نظرة واحدة متسقة للحقيقة، بل هو مجموعة من النظرات الجزئية لها. فالعلوم الطبيعية تبحث في المادة وفي الحياة وفي العقل، ولكنك إذا سألت عن كيفية العلاقة المتبادلة بين هذه الأمور الثلاثة وهي المادة والحياة والعقل أخذت تتجلى لك عند ذلك جزئية العلوم المختلفة التي تتناول البحث فيها، وتبين لك عجز كل واحد منها عن أن يجيب وحده عن سؤالك إجابة شافية". فكل علم من العلوم يدرس جزءا من الحقيقة وجانبا منها. وهكذا نرى أن العلوم الطبيعية أو التجريبية جزئية بطبيعتها.. وهي لا تستطيع أن تقيم

نظرياتها مع اعتبار أنها رأي كامل عن الحقيقة. ومن ثم فإن الدين وهو ينشد الحقيقة على أنها كل لا يتجزأ لم يكن ليخشى أي رأي من الآراء الجزئية عن الحقيقة. وليست المعرفة التجريبية بالضرورة أكثر أنواع المعرفة وثوقا من بين أنواع المعرفة الأخرى كما قد يزعم البعض. فهي تتخذ مكانها جنبا لجنب مع الأنماط الأخرى كإحدى الطرق المؤدية إلى فهم الحقيقة. ويستطيع المعلم مساعدة الطلاب على الفهم والتمييز بين الرأي والواقع وبين الاعتقاد والإيمان والمعرفة. ويستطيع المدرس أيضا أن يناقش الطرق التي تكتسب المعرفة بواسطتها سواء عن طريق الله أو الوحي أو النقل عن السلف أو الحدس أو العقل أو الحواس أو التجريب. واليوم نجد أن المعرفة المستمدة من خلال التجريب العلمي هي أكثر المعارف شيوعا. وهذا لا يعني أن الطرائق الأخرى خاطئة أو بلا فائدة، بل على العكس فإن المدرس يستطيع أن يظهر أن الطرق المختلفة تكمل بعضها بعضا. فالإدارك الحسي وحده سوف يوفر وقائع ومعلوما ت مجزأة. ولكننا بحاجة إلى العقل لكي نفسر المكتشفات التجريبية ونوحد بينها في نظرية أو قانون. بيد أن التفكير المنطقي إذا ما ترك يعمل وحده، فإنه سوف يصبح خاويا من المضمون وتعمل كل من المعرفة اللدنية والمعرفة الحدسية والمعرفة الوثقى والنقل عن السلف أحسن من غيرها من مواقف الحياة المختلفة. والواقع أن الحياة متباينة جدا وغير قابلة للتنبوء بالنسبة لأي شخص بحيث لا يستطيع أن يقدم قضايا نهائية حولها. والسؤال الهام بالنسبة للمدرس هو "كم من الوقت والجهد ينبغي أن يكرس لكل من هذه الطرائق؟ ". ولسوف تعتمد الإجابة إلى حد بعيد على المادة التي يقوم بتدريسها. فالمواد تختلف في طبيعتها والتالي تختلف في استخدام نوع المعرفة الموصل إليها، فالمعرفة اللدنية تكون أكثر استخداما في العلوم الدينية والمعرفة العقلية في العلوم الطبيعية والرياضية وكلتاهما يستخدم لمساعدة الطالب على تكوين أسلوب رشيد له في الحياة.

تعلم الإنسان من غيره من المخلوقات

تعلم الإنسان من غيره من المخلوقات: يقول الراغب الأصفهاني في تفصيل النشاتين "ص110": إن الله تعالى قد نبه على منافع جميع الموجودات وأطلع الخلائق عليها، إما بألسنة الأنبياء عليهم السلام وإما بإلهام بعض الأولياء. وكما أن حق الإنسان أن يعرف منافع الحيوانات في ذواتها فينتفع بها في المطاعم والملابس والأدوية فحقه أن يعرف أخلاقها وأفعالها فينتفع بها في اجتناب ما يستحسن واجتناب ما يستقبح منها فقد أحسن من قال: "تعلمت من كل شيء أحسن ما فيه حتى من الكلب حمايته على أهله ومن الغراب بكوره في حاجته" وقديما تعلم قابيل "ابن آدم" من الغراب كيف يواري جثة هابيل في التراب بعد أن قتله، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} وقد أشار الله إلى ذلك أيضا في وضف النحل فقال عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فنبه إلى أن الإنسان حقه أن يقتدي بالنحل في مراعاته لوحي الله عز وجل. وهناك أمثلة كثيرة على تعلم الإنسان من غيره من مخلوقات الله. فقد تعلم الطيران والغوص والحياة تحت سطح الماء من الأسماك.

ثالثا: الأخلاق في الإسلام "مدخل اكسيولوجي"

ثالثا: الأخلاق في الإسلام مدخل إكسيولوجي مقدمة: تمثل الأخلاق أهمية كبرى للأفراد والجماعات والشعوب. فهي المقوم الرئيسي لوجودها وحياتها. وقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وقد عبر الشاعر أحمد شوقي عن أهمية الأخلاق في حياة الأمم والشعوب فقال: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وقال أيضا: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... فأقم عليهم مآتما وعويلا إن التربية في جوهرها عملية أخلاقية، وفي ذلك يقول جون ديوي: "إن

عملية التربية والعملية الأخلاقية شيء واحد ما دامت الثانية لا تخرج عن أنها انتقال الخبرة باستمرار من أمر سيئ إلى أحسن منه وأفضل" "جون ديوي: تجديد في الفلسفة: ص299" ويقول في مكان آخر: "إن النمو الأخلاقي هو الغاية القصوى من العمل المدرسي كله "جون ديوي: المبادئ الأخلاقية في التربية ص54" "وقيل جون ديوي ذهب "جون لوك" إلى أن هدف التربية هو غرس الفضيلة في النفوس. بيد أن التربية الأخلاقية ليست عملية سهلة، وإنما هي عملية صعبة شاقة تقتضي منا الفكر والنظر، وفي ذلك يقول هربرت سنسر في كتاب التربية "ص90": "ولم يهمل ولاة الأمور شيئا إهمالهم إنعام الفكرة في تأديب أطفالهم والخطب سهلا فحسبوا أنهم قادرون بلا فحص ولا بحث أن يردعوا طبائع صبيانهم ما شاءوا من المناقب. ولم يعلموا أن علم تهذيب النفوس علم صعب المآخذ وعر الملتمس. وحق لمغفله أن يخيب في تأديب غلامه". اهتمام الإسلام بالأخلاق: اهتم الإسلام بالأخلاق الحميدة واعتبرها الأساس الذي تستند إليها كل معاملات الإنسان مع خالقه ومع نفسه ومع الآخرين. ولقد امتدح رب العزة نبيه الكريم ووصفه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . وقد جاء الإسلام بكل خلق حسن وحث المسلمين على التحلي به. لقد قال أكثم بن صيفي من حكماء العرب في دعوته لقومه إلى الإسلام: "إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا لكان في أخلاق الناس حسنا". ونختتم كلامنا عن هذه النقطة بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصا بها. - "خير الناس أنفعهم للناس". - "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". - "أكمل المؤمنين أحسنهم أخلاقا". - "الإسلام حسن الخلق".

- قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "عليك بحسن الخلق، إن أحسن الناس خلقا أحسنهم دينا". - وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". - وفي القول المأثور من حسن خلقه حسن دينه، فكمال دين الفرد هو من كمال خلقه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكمل المسلمين إيمانا أحسنهم أخلاقا". - وفي الحديث الشريف: "كل شيء يرجى له توبة إلا سوء الخلق" وفي حديث آخر "إن سوء الخلق ذنب لا يغفر". يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسم كله وإذا فسدت فسد الجسم كله إلا وهي القلب" والمقصود بالقلب هنا الضمير وهو ميزان الأخلاق. لقد أولى الإسلام التربية الخلقية للفرد والمجتمع أهمية كبيرة، ويذكر الإمام الغزالي أن ما يقرب من ربع آيات القرآن الكريم تتعلق بالأخلاق وحدها، وقد صنف الغزالي الآيات التي تتعلق بالأخلاق في القرآن إلى قسمين: قسم يتصل بالأخلاق النظرية وعدد آياته 764 آية قرآنية وقسم ثان يتصل بالأخلاق العملية والسلوك وعدد آياته 741 آية قرآنية ومجموع آيات هذين القسمين معا 1504 آيات تمثل في مجملها ربع آيات القرآن تقريبا. وقد أحصى الإسلام الفضائل كلها وعددها وأكد عليها. وطالب الإنسان بتعلمها والعمل بها والتمسك بها. وفاضل علماء المسلمين بين الفاضل والمفضول من الأخلاق والرذيل والمرذول منها ليتبين للمسلمين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ولينيروا الطريق أمام من يريد التحلي بالأخلاق الحسنة والفضائل المستحبة. الاتجاهات النظرية للأخلاق: يبجث علم الأخلاق في أعمال الناس وتصرفاتهم من حيث هي خير أو شر، كما يبحث في غايات الحياة ومثلها العليا التي ينبغي أن يستهدفها الناس في سلوكهم. ويعرف علم الأخلاق أيضا بأنه علم الواجب. ويمكننا أن نميز ثلاثة

اتجاهات رئيسية في النظر إلى الأخلاق: - الاتجاه الأول هو الاتجاه الروحي الذي يعتبر الغاية من الأخلاق، هو التحلي بالفضيلة وتهذيب النفس وترويضها والسمو بالروح وتصفيتها من الشوائب. ويمثل هذا الاتجاه أهل التصوف أو المتصوفون؟ - الاتجاه العقلي في الأخلاق ويتزعمه المعتزله كما يمثله ابن سينا وابن مسكوية فالمعتزلة يرون أن الحسن ما حسنه العقل والقبح ما قبحه العقل وبنوا التكاليف على العقل. والمعروف أن أرسطو هو أصل الاتجاه العقلي في الأخلاق. وقد ذهب إلى القول في كتاب الأخلاق بأن الفضيلة مقترنة بالعقل. - الاتجاه الروحي العقلي الذي يجمع بين الاتجاهين السابقين ويمثله ابن مسكويه وحجة الإسلام الإمام الغزالي. وسيشار إلى آرائهما في التربية الخلقية فيما بعد عند تناولنا الكلام عنهما. الأخلاق في الثقافات الأخرى: تختلف الأخلاق في الإسلام عن غيرها في الديانات أو الحضارات الأخرى. فالأخلاق عند الإغريق القدماء تقوم على اللذة والمتعة والسعادة الدنيوية للإنسان. والأخلاق المسيحية تقوم على الاتصال الروحي بالله، والمحبة والتسامح بين البشر. والأخلاق في الفلسفة البراجماسية نفعية ووسيلية وتتغير بتغير الأحوال والظروف. فإذا كنا مثلا نفضل العدالة على الظلم فذلك يرجع في نظرهم إلى أن العدالة نافعة ومفيدة والظلم ضار وغير مفيد. وفي مقابل الأخلاق النفعية وهي شخصية فردية تفضل مصلحة الفرد دائما هناك أخلاق الواجب وهو مذهب الفيلسوف الألماني المعروف "كانط" "1724-1804" وله باع كبير في الأخلاق والفلسفة الحديثة. وقد تميز منهجه بنقد العقل وبيان قصوره. وله في الأخلاق نظرات ثاقبة. والقيمة الأخلاقية حسب هذا المذهب هي في ضمير الإنسان ولا وجود لها خارجه. فالإنسان عندما يسلك وفق أخلاق الواجب فإنه يتسامى ويرتفع فوق ذاته، ويرتفع فوق ملذاته ونزواته الشخصية. ويجب أن تكون الأخلاق من أجل الإنسانية الكريمة. والواجب

قيمة أخلاقية تقوم على أساس ما ينبغي أن يكون لا ما هو قائم بالفعل. والواجب كقيمة أخلاقية يفرض نفسه على الضمير الأخلاقي. وعندها يتحدد سلوك الإنسان وتصرفه، ويسلك حسبما تمليه أخلاق الواجب، وهو ما يقول به المعتزلة ويتبعهم في ذلك الفيلسوف الألماني "كانط" الذي بنى فلسفته الأخلاقية على مبدأ الواجب الأخلاقي. وتتميز الأخلاق في الإسلام بأنها أخلاق دنيا ودين معا وهو ما سيأتي تفصيل الكلام عنه. الإنسان والأخلاق: إن نظرة الإسلام إلى الإنسان هي نظرة أخلاقية بصفة أساسية. ذلك أن الهدف من حياة الإنسان هو عمل الخير في الحياة الدنيا. ولا يكتمل عمل الخير للإنسان في الدنيا إلا بإقامة شعائر الله والتمسك بالأخلاق الحسنة. وغاية الأخلاق الحسنة تحقيق سعادة الفرد في الدارين. والشريعة هي التي تربي نفس الإنسان على الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة حتى تتعودها النفس وتصبح لها طبعا وسليقة. والمسلمون في الإسلام سواسية ويتفاضلون على بعضهم بالتقوى وصالح العمل. وقد ورد في الأثر "المسلمون كأسنان المشط في المساواة، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وصالح العمل "كما ورد أيضا" المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم". اختلاف الأخلاق باختلاف النفوس: تختلف الأخلاق باختلاف النفوس. فمن الناس من جبلت نفوسهم على الخير. ومنهم من جبلت نفوسهم على الشر. ويمكن تحسينها بالنصح والإرشاد والتوجية والزجر والعقاب والوعد والوعيد. وهناك نوع ثالث لا يقبل طبعه الأخلاق الحسنة لخبث معدنه. وهذه الطائفة في نظر بعض علماء المسلمين من جملة الأشرار الذين لا يرتجى صلاحهم. كما أن الأخلاق تختلف باختلاف الأمم والشعوب فلكل أمة أخلاقها الخاصة بها. ومن الطبيعي أن يكون للأمة الإسلامية أخلاقها الخاصة بها. كما أن الأخلاق تختلف باختلاف العصور والأزمنة. ومنها الثابت الأصيل ومنها المتغير حسب أحوال الناس وتغير زمانهم.

الأخلاق من تمام الإيمان والكمال الإنساني: تعتبر الأخلاق في الإسلام من تمام الإيمان والكمال الإنساني. وذلك أن الإيمان يكتمل بالأخلاق. قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكمل إيمانا؟ قال: "أحسنهم خلقا". وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن أحب عباد الله إليه، قال: "أحاسنهم أخلاقا". ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القواعد الأخلاقية الإسلامية الأصيلة، ومن تمام كمال المسلم. الأخلاق بالتخلق: عندما يتحرى الإنسان في سلوكه مراعاة الأخلاق الحسنة الالتزام بآداب السلوك وما تمليه الفضيلة فإنه يصبح بالتدريج إنسانا خلوقا فاضلا. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه" وقد قيل في ذلك. اجعلوا أقوالكم أقوى لكم لا تجعلوا أفمالكم أفعى لكم ولا تجعلوا أعمالكم أعمى لكم. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خالق الناس بخلق حسن". من الأخلاق الإسلامية ما هو صدقه: بلغ من حرص الإسلام على حث المسلم على اتباع السلوك الأخلاقي المرغوب أن جعله صدقه يثاب عليها. فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أمر الضلال صدقة. وإناطة الأذى عن الطريق صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة. فهذه كلها وما شابهها أمور أخلاقية من تمام كمال الإنسان. وهي صدقات ينال المرء ثوابها إلى جانب قيمتها الأخلاقية. القدوة ضرورية لتعليم الأخلاق: وهذا يعني أن تعليم الأخلاق من خلال النصح والإرشاد والتوجيه لا يؤتي ثماره إلا إذا كان القائم به يعمل بما يقول. وللأسف أننا نجد أن كثيرا من الآباء والمعلمين ينصحون أبناءهم بعمل شيء وهم أنفسهم لا يعلمونه أو يعملون عكسه فكلاهما ينهي الأبناء عن التدخين مثلا وهما يدخنان. والأب قد يأمر ابنه

بالصدق في القول وعدم الكذب ولكنه في موقف آخر يقول له مثلا: إذا سأل فلان عني فقل له إنني غير موجود. ومن هنا كان من الضروري في الأخلاق تطابق القول مع العمل. ويروى أن الإمام "سفيان الثوري" كان يعظ الناس يوما فدخلت عليه امرأة وسلمته رقعة وانصرفت. فأخذ يقرؤها فإذا فيها: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدًا وأنت من الرشاد عديم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم فلما قرأ الإمام النوري هذا الكلام تأثر به وقام واعتزل الناس واعتكف في بيته حتى وافاه الأجل. الأخلاق طريق العيش والكسب: ذلك أن الإنسان الذي حسنت أخلاقه وصفاته يجد أبواب الحياة أمامه مفتوحة. ويرضى عنه الناس كما يرضى عنه ربه لأن رضا الله من رضا الناس. ويجعل الله في وجهه القبول، ويحبه الناس ويثقون فيه ويطمئنون إلى التعامل معه. وهذه كلها صفات تؤهله لفتح أبواب الرزق أمامه. وقد قال تعالى في سورة القصص على لسان بنت النبي شعيب عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . فهاتان الصفتان إحداهما جسمية وهي القوى والأخرى خلقية وهي الأمانة. وكلتا الصفتين أهلت صاحبها إلى أن يكون أفضل من غيره في الاستخدام والتقبل الاجتماعي. وهو ما سبق أن أشرنا إليه. الفضيلة هي المعرفة: إن الفضيلة كما يقول سقراط الحكيم هي المعرفة وبدون المعرفة لا يتم العمل. فكل فضيلة علم. فالتقوى مثلا هي العلم بما يجب على الإنسان نحو ربه وخالقه. والعدالة هي العلم بما يجب على الإنسان نحو الآخرين. والقناعة هي

العلم بما يجب على الإنسان نحو نفسه. وهكذا. "جورج غريب: 15". الأخلاق قابلة للتعديل: ينظر الإسلام إلى الأخلاق على أنها قابلة للتغيير والتعديل. وهذا على عكس الرأي الذي يرى أن الأخلاق ثابتة من حيث إنها مقتضى المزاج والطبع، وإن الخلق صورة الباطن. وقد انتقد الغزالي هذا الرأي كما سنشير فيما بعد وذهب إلى القول بقابلية الأخلاق والسلوك للتعديل مستدلا في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حسنوا أخلاقكم". فلو كانت الأخلاق ثابتة لما كانت قابلة للتعديل أو التحسين. وكون الأخلاق قابلة للتعديل والتحسين فإن هذا يفتح الباب أمام التربية لتقوم بدور هام في التنشئة الأخلاقية للفرد. ضرورة التأديب: يقول الماوردي في ضرورة التأديب "فالنفس قائمة على أخلاق وآداب لا يستغنى عنها. ولا يعتمد على العقل فقط دون الأدب لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقد شبه العالم عديم الأدب بالبنيان الخراب الذي كلما علا اشتدت وحشته. وشبه أيضا بالنهر اليابس الذي كلما كان أعرض وأعمق كان أشد لوعورته، وبالأرض الجيدة المعطلة التي كلما طال خرابها ازداد نباتها غير المنتفع به التفافا، وصار للهوام مسكنا". ويقول ابن المقفع: "ما نحن على ما نتقوى به على حواسنا من المطعم والمشرب بأحوج إلى الأدب الذي هو لقاح عقولنا. فإن الحية المدفونة في الثرى لا تقدر أن تطلع زهرتها إلا بالماء الذي يعود إليها من مستودعاتها. طبيعة القرارات الصحيحة: إن الموقف الأخلاقي يطرح أكثر من بديل للتصرف فعلى سبيل المثال في موقف ما قد يكون البديلان المطروحان هما: ادفع بالتي هي أحسن، أو الشر بالشر، وفي موقف آخر قد يكون البديلان: اصنع جميلا ولو في غير موضعه أو "من يصنع المعروف في غير أهله يندم" وغيرها من الأمثلة. فبأي البديلين يأخذ الفرد في الموقف الأخلاقي. وما هي المعايير الأخلاقية التي يهتدي بها في

اختيار أفضل البديلين؟ وهنا يكون دور التربية لأن مهمة التربية في الجانب الأخلاق أن تزود الفرد بما يساعده على اختيار البديل الأفضل والمناسب للموقف. إن أحكامنا وقراراتنا تعتمد في مدى صحتها ومناسبتها على مدى فهمنا للموضوع وما نعرفه عنه من معلومات واختلاف الحكم أو القرار قد ينتج عن اختلاف في الفهم واختلاف في درجة المعلومات المتاحة. ومن هنا كان من الضروري للوصول إلى قرار سليم أن يتحرى الإنسان فهم الموضوع من جوانبه المختلفة وهذا يتطلب الحصول على كل المعلومات الممكنة التي تساعد الفرد على هذا الفهم. وتعتمد أحكامنا وقراراتنا أيضا في اختلافها وتباينها على اختلاف القيم والمعتقدات العامة للفرد وما يعتقد أنه صحيح أو غير صحيح. ويبدو هذا بوضوح في القرارات الأخلاقية التي نتخذها في المواقف المختلفة، وقد يكون القرار مصحوبا بالمعاناة الأخلاقية عندما تكون البدائل المتاحة متعارضة أو حلوها مر أو مشحونة بالانفعالات والمشاعر المتعارضة والضغوط الاجتماعية المختلفة. ودور التربية ينبغي أن يتركز على مساعدة الفرد على تكوين فلسفة رشيدة له في الحياة توجهه بصفة عامة وتجعله قادرا على حسن التصرف في المواقف المختلفة. ويمكن القول بصفة عامة بأن هناك عوامل رئيسية تحدد اتجاه القرار الذي يتخذه الفرد من أهمها: - النفعية والمصلحة وبالعكس الضرر والخسارة. - سمو المقاصد والغايات وبالعكس سوء النوايا والمقاصد. - النتائج المحتملة لأعمالنا وأفعالنا سواء كانت مادية أو معنوية من سعادة أو ألم أو فرح أو حزن. الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟: هناك وجهتا نظر متعارضتان في النظرة إلى الأخلاق الإنسانية بصفة عامة. إحداها تقول بأن الأخلاق فطرية لأن الإنسان يستطيع أن يميز بفطرته بين الخير والشر وبين ما ينبغي عمله وما لا ينبغي. ويمثل هذا الرأي المثاليون وعلى

رأسهم أفلاطون. فهناك أخلاق السادة وأخلاق العبيد لأن الناس خلقوا إما سادة وإما عبيدا في نظره. كما أن بعض الناس خلقوا أخيارا وبعضهم خلقوا أشرارا. وهذه النظرة تجعل من الطبيعة الإنسانية شيئا جامدا ثابتا لا يمكن تغييره أو تعديله أو إصلاحه وهذا عكس ما هو حادث بالفعل. والواقع أن الإسلام ينظر إلى طبيعة الإنسان على أنها محايدة بالفطرة وتكتسب لونها من خلال التنشئة والتربية. قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وورد عنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "حسنوا أخلاقكم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فهذا يدل على أن النظرة الإسلامية إلى الأخلاق على أنها مكتسبة وتتعدل وتتحسن وينصلح حالها بالتوجيه. وهذا يجرنا إلى الكلام عن وجهة النظر الثانية التي نرى أن الأخلاق مكتسبة وليست فطرية. وكون الأخلاق مكتسبة يؤكد أهمية تعليم وتربية النشئ تربية صالحة وتوجيهه من البداية إلى طريق الحق والخير على أساس سليم وإبعاده عن قرناء السوء. لكن الإنسان لا يتعلم شيئا إلا إذا كان مستعدا له غير ممتنع عليه. كالبذرة في الأرض لا تنبت إلا إذا كانت الأرض مستعدا ومهيأة لها ولنموها. ومن هنا كان اختلاف الناس في تقبل الأخلاق معتمدا على استعداد كل منهم لتقبل هذا الخلق أو ذاك. وجميع الناس ليسوا على درجة واحدة أو مستوى واحد في تقبل الأخلاق الحميدة أو غيرها. الأخلاق عند فلاسفة الغرب وفلاسفة المسلمين: الأخلاق عند فلاسفة الغرب أخلاق دنيوية تنظم علاقة الفرد مع الآخرين وسلوكه في الحياة الدنيا بصفة عامة وهي تقوم على جانبين رئيسيين: جانب الحق وجانب الواجب. فكل حق يقابله واجب. ولذلك ترتبط الحقوق بالواجبات. ولكي يستمتع الإنسان بحقه عليه أن يؤدي واجبه. والواجب قد يمليه القانون وقد يمليه العرف الاجتماعي وقد تمليه التقاليد والثقافات السائدة وقد يمليه الضمير الإنساني. أما الأخلاق في الإسلام وعند فلاسفة المسلمين فهي أخلاق دنيا ودين وتشمل جميع أوجه النشاط الإنساني وسلوكه في الحياة الدنيوية في ارتباطه

بالحياة الأخروية. وعلى هذا فالأخلاق الإسلامية تنظم علاقة الإنسان مع نفسه ومع بني جنسه من أفراد مجتمعه ومع غيره من المجتمعات والإنسانية جمعا، والكون بكامله. وأخيرا وليس آخرا تنظم علاقة الإنسان مع ربه وخالقه. الفرق بين الأخلاق والسلوك: الأخلاق صورة النفس الباطنة والسلوك هو صورتها الظاهرة التي تدل عليها. ونحن نستدل على طبيعة أخلاق المرء بسلوكه الظاهر. الضمير الأخلاقي: الضمير قوة ذاتية في داخل الإنسان تأمره بفعل الخير وتنهاه عن الشر وتحاسبه عن أعماله. وتكون للضمير قيمة عندما يكون يقظا متنبها. أما إذا نام أو تبلد أو مات فإن الإنسان يفلت زمامه ويكون بلا عاصم وينفلت قيد زمامه. ذلك أن صلة الضمير بالأخلاق كصلة العقل بالفكر والأمور العقلية وهو شعور داخلي يحسه الإنسان عندما يقوم بعمل ما. فإذا كان راضيا عن هذا العمل أحس بالارتياح والاطمئنان والسعادة. أما إذا كان غير راض عن هذا العمل فإنه يحس بوخز الضمير وتأنيبه كما يشعر أحيانا بالندم والمرارة والحسرة. وحدة شعور الضمير أو المرارة يتوقف على مدى ضخامة أو فداحة العمل الذي قام به المرء. فالضمير قوة شعورية أخلاقية تحكم على مدى أعمالنا الصالحة منها والطالحة على السواء. فهو بمثابة ميزان العمل في حياتنا. وهو يعمل أيضا كإشارات المرور التي تعطي الضوء الأخضر إذا كان العمل مقبولا ومسموحا به كما تعطي الضوء الأحمر للتحذير والأمر بالامتناع عن العمل. وعندما يصيب الخلل هذا الميزان أو تتعطل عن العمل هذه الإشارات الضوئية فإن الضمير يتوقف عن العمل. وهو ما يحدث والعياذ بالله في حالة الأفراد الذين نصفهم بأنه لا ضمير لهم أو أن ضميرهم نائم أو أنهم متبلدو الضمير. ومثل هذا النوع من البشر يصعب التعامل معه ولا يوثق به ويحتاج إلى رعاية وتوجيه وإرشاد متصل لإعادته إلى جادة الطريق الصحيح. والضمير يتكون لدى الإنسان منذ مولده ومن خلال تربيته وتنشئته طول أيام حياته. وتزداد حساسية الضمير لديه أو نقل أو تحدث تبعا

لنوع التربية التي ينشأ فيها وحسب الظروف الاجتماعية التي يمر بها. ومع أن الظروف الاجتماعية القاسية والظروف الاقتصادية الطاحنة قد تكون عاملا مؤثرا في تحجير الضمير وإصابته بالبلاد واللامبالاة فمما لا شك فيه أن التربية الدينية السليمة والقدوة الصالحة منذ الطفولة تعتبر خير عاصم للإنسان من أن يتردى في هذه الهاوية. ومن الناس من تسمو ضمائرها لأنها نشأت في بيئات صالحة. المعنى اللغوي للضمير: إذا رجعنا إلى المعاجم اللغوية لتحديد معنى الضمير لغويا نجد أنها تورد تحت مادة "ضمر" معان متعددة. فالفعل ضمر ضمورا يعني هزل جسمه وقل لحمه. ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . وضمر الفرس للسباق ونحوه يعني ربطه وعلفه وسقاه مرة من الزمن وركضه في الميدان حتى يخف ويدق. ومدة التضمير عند العرب أربعون يوما. وأضمر في نفسه شيئا يعني عزم عليه بقلبه دون أن يظهره للناس، ومنه الضمير. وهو ما تضمره في نفسك ويصعب الوقوف عليه. وتحدد هذه المعاجم معنى الضمير بأنه استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها واستحسان الحسن واستقباح القبيح منها. والجمع ضمائر "انظر المعجم الوجيز مادة ضمر" ونحن في اللغة العربية نقول: "هو" ضمير الغائب و"هي" ضمير الغائبة و"هم" ضمير الغائبين و"هن" ضمير الغائبات. وهذا المعنى يرتبط ارتباطا وثيقا بالمعنى السابق للضمير لكمال الاتصال بينها. الضمير في القرآن الكريم: إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أنه لا ترد به من مادة "ضمر" إلا كلمة "ضامر" في الآية التي سبق أن أشرنا إليها. لكنه يستخدم عبارات أخرى تدل عليه مثل قوله في سورة يوسف: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [سورة يوسف: 68] وقوله في نفس السورة: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [سورة يوسف: 53] . وقوله في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس: 7] . وقوله في سورة المائدة: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .

[سورة المائدة: 116] ، وقوله أيضا في نفس السورة: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 30] . وقوله في سورة طه: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [سورة طه: 96] ، وقوله في سورة يوسف: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [سورة يوسف: 77] . وقوله في سورة "ق": {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [سورة ق: 16] . وقوله في سورة الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [سورة الإسراء: 25] . وقوله في سورة البقرة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة: 235] . وقوله في نفس السورة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [سورة البقرة: 284] . وفي سورة يوسف: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [سورة يوسف: 83] . وقوله في سورة إبراهيم: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة إبراهيم: 22] . وقوله في سورة آل عمران: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة آل عمران: 31] ، وقوله في سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: 11] ، وقوله في سورة الأنبياء: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الأنبياء: 64] . وقوله في سورة المجادلة: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [سورة المجادلة: 8] . والقرآن الكريم من ناحية أخرى يذكر أوصافا متعددة للنفس. فهناك "النفس اللوامة" التي أشار إليها رب العزة في سورة القيامة بقوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} . وهناك "النفس المطمئنة" التي أشار إليها القرآن في سورة الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} . وهناك النفس "الأمارة بالسوء" التي تشير إليها سورة يوسف: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} وهذه الأوصاف تصدق أيضا على الضمير. وإذا نحن رجعنا إلى التعريف اللغوي للضمير الذي سبق أن أشرنا إليه بأنه استعداد نفسي أمكننا القول بكمال الاتصال بين الضمير وبين النفس. وقد اختلفت الآراء ووجهات النظر في تحديد كنه الضمير وماهيته.. فقيل إنه حاسة فطرية يولد بها الإنسان شأنها شأن الحواس الأخرى التي يميز بها الأشياء. فإذا كان الإنسان يستطيع أن يميز بعينه بين النور والظلمة والأبيض والأسود وإذا كان بحاسة الشم يميز بين الطيب والخبيث من الرائحة والتذوق يستطيع أن يميز بين الحلو والمر بحاسة اللمس بين الساخن والبارد، فكذلك

يستطيع أن يميز بضميره بين الخير والشر والحسن والقبيح من الأعمال الخلقية. وممن ذهب هذا المذهب من المفكرين المفكر الفرنسي "روسو" والفيلسوف الألماني المثالي "كانط" وقيل إن الضمير مكتسب من خلال التنشئة الاجتماعية للفرد. وهي وجهة نظر مناقضة لوجهة النظر السابقة التي تقول بأن الضمير فطري يولد مع الفرد. وكون الضمير مكتسبا يعني أهمية التربية في تكوينه وتشكيله. ومن أنصار هذا الرأي "جون لوك" و"دور كايم" و"كونت". وكلتا النظريتين لا تقدمان تفسيرا كاملا لمعنى الضمير. فوجهة النظر الأولى تعني أن التربية لا دخل لها في تكوين الضمير شأنه في ذلك شأن حواس الإنسان الخمس لا يحتاج إلى تربيتها. وهذا غير صحيح ولا يستقيم مع الخبرة البشرية وتجاربها. ذلك أن الضمير كما هو مشاهد بالتجربة يخضع للتربية. وكذلك الحواس وإن كان لها جانب فيها فطري إلا أن هناك أيضا جانب الاكتساب. فالذوق واللمس والشم والنظر والسمع كلها تخضع للتعلم والاكتساب في بعض جوانبها. ويستطيع أن يتحكم الفرد فيها بالتوجيه وتحديد الغرض. بل إنها تتلون بحالته النفسية والجسمية وقد عبر الشاعر العربي عن هذا المعنى بقوله: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا فالحواس تمرض وكذلك ضمير الإنسان قد يمرض. من ناحية أخرى نجد أن النظرة القائلة بأن الضمير مكتسب لا تفسر لنا لماذا يختلف الأفراد في ضمائرهم مع أنهم تعرضوا لتربية واحدة؟ ولماذا نجد من الصعب تربية ضمير بعض الأفراد؟ ومن هنا نخلص إلى القول بأن الضمير فطري ومكتسب شأنه شأن ذكاء الإنسان وطبعه ومزاجه وحواسه. ويطلق "كانط" على الضمير الأخلاقي اسم "العقل العملي" وأخلاق الواجب التي تستند إليها نظريته في الأخلاق هي أخلاق نداء الضمير الداخلي. الضمير والقلب: يرى بعض علماء الأخلاق من المسلمين أن هناك صلة بين الضمير والقلب ويستندون في ذلك إلى التحليل اللغوي لكلمة الضمير. فالضمير كما تعرفه المعاجم اللغوية هو السر أو الخاطر وأضمر الشيء في قلبه. ومن هنا قالوا بأن

محل الضمير هو القلب. ولكن يمكن الرد على ذلك بأننا نقول أيضا أضمر الشيء في نفسه وهنا يكون الضمير من وظائف النفس الإنسانية. وهناك دليل آخر للربط بين الضمير والقلب لدى علماء المسلمين وهو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما سئل عن الإيمان "بأنه ما وقر في القلب وصدقه العمل". وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، وقوله عز وجل في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في رده على وابصة بن معبد عندما سأله عن البر والإثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس. والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن افتاك الناس وأفتوك". الضمير والحاسة الخلقية: هناك من يرى أن الإنسان مزود بحاسة خلقية فطرية تصرف أفعاله الخلقية وتصدر الأحكام عليها. وهذه الحاسة شأنها شأن بقية حواس الإنسان يستخدمها الإنسان للتمييز بين الخير والشر. وهي قوة داخلية لا تحتاج إلى قوة خارجية لتصريف أمورها أو التحكم فيها. ويطلق البعض على هذه الحاسة الخلقية لفظ الضمير. وظيفة الضمير: للضمير وظيفتان رئيسيتان أحدهما في توجيه سلوك الإنسان إلى الخير وإبعاده عن الشر. والثانية الحكم على سلوك الإنسان تقبلا ورفضا واستحسانا واستهجانا. وهو بالوظيفة الأولى يعتبر قائدا وموجها وبالوظيفة الثانية يعتبر قاضيا وحكما. والضمير إذا كان حيا يبعث في الإنسان الإحساس بالندم إذا أقدم على فعل متهور أو متسرع لم يحسن التصرف فيه. والضمير حالة فردية تتعلق بالشخص. وهو يختلف من فرد لآخر باختلاف حساسيته وحيويته فمن الأفراد من يكون ضميره حيا كما أشرنا ومنهم من يكون ضميره ميتا متبلدا والعياذ

بالله. ويندرج تحت هذا الصنف من البشر الذين يستبيحون حرمات الله ويأكلون مال الناس بالباطل. وقد يستخدم الضمير بصورة مجازية فتقول ضمير الجماعة أو ضمير الأمة أو ضمير الشعب. ونحن نقول أحيانا "نداء الضمير" ونعني به الصوت الخفي غير المسموع الذي يلح على الإنسان بالقيام بعمل معين. هذا العمل هو ما يسميه الفيلسوف الألماني "كانط" بالواجب أي "فعل الواجب". وقد شهر كانط بهذا الجانب الأساسي في فلسفته الأخلاقية والتي تعرف "بأخلاق الواجب" وعندما لا يطيع الإنسان نداء ضميره فإنه يكون قد خالف ضميره. وقد يحدث له إذا كان ذا ضمير حي ما يسمى "بأزمة الضمير". أما إذا كان الضمير متبلدا فلن يكون له هذا النداء أو الصوت. ومن ثم لا توجد لدى صاحبه أزمة ضمير على طريقة قول الشاعر "ما لجرح ميت إيلام". وقد يحدث لبعض الناس أن يبيع ضميره بالمال أو الجاه أو المنفعة العارضة أو الخوف أو التهديد. وهذا مندرج تحت ما يعانيه المجتمعات من أمراض اجتماعية بسبب مرض نفوس بعض أبنائها. الشهوة والضمير والعقل: تعرف المعاجم اللغوية الشهوة بأنها الرغبة الشديدة وما يشتهي من الملذات المادية والجمع شهوات. والشهواني هو الشديد الرغبة في الملذات المادية وهو نسبة إلى الشهوة. وفي القرآن الكريم {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [سورة آل عمران: 14] . وتأتي الشهوة في القرآن الكريم مرتبطة بالنفس. قال تعالى في سورة "فصلت": {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} ، وفي سورة الأنبياء: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} ، وفي سورة الزخرف: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} . وواضح من هذا العرض أن الشهوة رغبة شديدة للنفس يترتب على إشباعها لذة نفسية ومادية كما في شهوة الجنس والمال والبنين والأموال والذهب والفضة وما شابه ذلك. وقد تزداد حدة الرغبة فتصبح شهوة عارمة أو جامحة أو جارفة بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يقاومها وتضعف أمامها إرادته وضميره. وهنا نتساءل: أيهما أقوى الشهوة أم الضمير؟ وللإجابة على هذا السؤال نستعين بما يذكره

محمد ضياء الدين الكردي في كتابه عن الأخلاق الإسلامية والصوفية "ص57" يقول ما معناه: إن معظم الناس اتباع شهواتهم. تدفعهم الشهوة أولا ويحاسبهم الضمير ثانيا. فالشهوة قوة أولية والضمير قوة ثانوية. وبمقدار تسلط الشهوة على الإنسان يكون عجز إرادته عن إيقاظ ضميره. والشهوة أكثر انتصارا وأقل من الضمير اندحارا. والشهوة للخير أقل من الشهوة للشر كما أن للشهوة منازل ودرجات. وهو يدلل على أن الشهوة أقوى من الضمير فعلا في النفس بأن الضمير لا يستيقظ إلا نادرا وبعد وقوع الفعل في الغالب. فالشهوة إذًا أقوى من الضمير أثرا في السلوك الإنساني. والضمير محتاج إلى العقل لموازنة الفعل من الناحية الخلقية. كما أن الشهوة محتاجة أيضا إلى تحكيم العقل لكبح جماحها والسيطرة على حد تعبير الشاعر العربي: أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الإقدام ويحك لن تراعي فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع وينبعي أن نشير إلى أن الضمير في حد ذاته لا يصدر عنه خير أو شر وإنما ما يضمره الإنسان في نفسه قد يكون خيرا وشرا. ولكي يتحول ما يضمره الإنسان إلى فعل يحتاج إلى عزم وإرادة وسلوك. والإسلام لا يحاسب المرء على ما يضمره في نفسه من خير أو شر وإنما يحاسبه على أعماله وأقواله وما يصدر منه من أفعال. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" لا يعني محاسبة المرء على النية وإنما العمل هو الصورة الظاهرة للنية ويدل عليها. ولكل امرئ حسب نواياه من الأفعال إن خيرا أو شرا. ومن مأثور القول "النية محلها القلب". والقلب هنا لا يقصد به معناه الجسمي الذي ينصب على العضلة المعروفة وإنما يقصد به داخل الإنسان وسريرته وهو مرادف هنا أيضا لمعنى الضمير ومعنى النفس. وهذا المعنى المعنوي غير الجسمي للقلب هو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". وكلمة "مضغة" وهي التي تعني لغويا القطعة الصغيرة من اللحم

تسوغ فهم القلب على أساس جسمي أيضا. ومن المعروف أن لقلب الإنسان دورا رئيسيا هاما في حياة الإنسان. والواقع أن للقلب هذه الصفة المزدوجة في اتصاله بكل من البدن والروح. ولتوضيح هذه النقطة يقول أحد علماء المسلمين: "إذا حاولنا أن نفسر اتصال الروح بالبدن فإننا لن نستطيع تفسير ذلك إلا عن طريق القلب. فكما ارتبطت به الحياة الظاهرة عن طريق ضخ الدم. وارتبطت به الحياة الباطنة عن طريق اتصاله بالروح" "المرجع السابق ص62". ولذلك نجد أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن صلاح الإنسان وفساده في الحياة الباطنة يشير إلى القلب. قال تعالى في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . المنطق والأخلاق: يدرس المنطق أصول وقواعد التفكير السليم. أما الأخلاق فتدرس أصول وقواعد الأخلاق السليمة. وهكذا يكون المنطق متعلقا بالعقل وسلامة التفكير والأخلاق تتعلق بالنية والإرادة وتقويم السلوك. ويتفق المنطق مع الأخلاق في أن كليهما يضع للإنسان المعايير التي يقيس بها سلوكه وأعماله. معايير السلوك الأخلاقي في الإسلام: يحدد الإسلام معايير واضحة للسلوك الأخلاقي من خلال المحللات والمحرمات. فالحلال بين والحرام بين ولكن بينهما أمور متشابهات. والحلال درجات منه ما هو واجب يتحتم على المرء الالتزام به، ومنه ما هو مندوب ويتعلق بالأمور التي يثاب الأمر عليها إذا فعلها ولا يعاقب عليها إذا تركها. وثمة ما هو مباح ويتعلق بالأمور التي ترك الإسلام الخيار للمرء بين فعلها وتركها. والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يكن هناك نفي بقيدها أو يحرمها. ومن الحلال ما هو مكروه ويتعلق بالأمور التي نهى الشرع عنها نهيا غير جازم. ويكون من الأفضل تركها. وهناك عدة معايير للحكم على جانبي الحسن والقبح أو الخير والشر في العقل أو السلوك الأخلاقي من أهمها:

1- النية والقصد والإرادة من وراء الفعل أو السلوك: فلكل عمل نية أو قصد أو إرادة أو دافع له. وقد قال الإمام الغزالي: "اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد. وهي حالة وصفية للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل. والعلم يقدم العمل لأنه أصله وشرطه. والعمل يتبع العلم لأنه فرعه وثمرته. وكل عمل لا يتم إلا بثلاثة أمور علم إرادة وقدرة.. ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقا للغرض. ومن هنا يرتبط العمل أو السلوك الأخلاقي بحرية الفرد في ممارسة وأداء عمله وواجباته من ناحية وبمسئوليته عن استخدام هذه الحرية من ناحية أخرى. والمسئولية ترتبط بالجزاء. كما أن حرية الفرد تدور في الإطار الاجتماعي فليس هناك حرية في فراغ. وحرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين. وعلى هذا فإذا كانت النية أو القصد أو الدافع من وراء الفعل حسنا أو خيرا كان العقل خيرا أو حسنا والعكس صحيح. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". 2- الأثر أو النتيجة المترتبة على الفعل بالنسبة للآخرين. والسلوك هو الصورة الظاهرة التي تدل على الصورة الباطنة للأخلاق. وهو عمل إرادي متجه نحو غاية معينة. فإذا كانت النتيجة خيرا أو حسنة كان الفعل خيرا أو حسنا والعكس صحيح. والإنسان يتحمل نتيجة عمله وتصرفه عملا بقوله تعالى في سورة فاطر: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . والإنسان هو الذي يأتي أعماله بمحض إرادته واختياره وتصرفه. فالله سبحانه وتعالى لا يخلق أفعال الناس ولا يكتبها عليهم. 3- طبيعة الفعل أو السلوك الأخلاقي: فالفعل أو السلوك الأخلاقي يكون حسنا أو قبيحا في ذاته وليس في شيء خارج عنه. فلكل فعل أو سلوك أخلاقي صفة ذاتية تجعله حسنا أو قبيحا. فالصدق صفة ذاتية جعلته حسنا والكذب فيه صفة ذاتية جعلته قبيحا. ولذلك يشترك العقلاء فيما يستحسنون أو يستقبحون.

4- أمر الشرع به والنهي عنه: فالشرع يأمر بالشيء لحسنه وينهى عنه لقبحه. وقد لا تكون حكمة الحسن أو القبح ظاهرة أو مما يدركه الفعل في السلوك الأخلاقي مثل النهي عن صوم أيام العيدين كما أشرنا. ومع ذلك يجب الالتزام بما أمر به الشرع أو نهى عنه. شروط القانون الأخلاقي: هناك عدة شروط تحكم القانون الأخلاقي والإلزام الخلقي من أهمها: أ- أن يكون في استطاعة المرء القيام به على طريقة إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع. ولذلك لا يسأل العبد عن الأفعال التي تقع خارج قدرته. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" لأن هذه أمور تخرج عن استطاعة الإنسان ومن قدرته. وقد قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} . فالله سبحانه وتعالى لا يكلف عباده بما لا يطيقونه وهذا هو العدل. وعندما يكلف الإنسان إنسانا آخر فوق طاقته وفوق قدرته فإن هذا هو الظلم بعينه والله سبحانه وتعالى منزه عنه. ب- أن الإنسان لا يحاسب على ما يدور في داخل نفسه من صراع بين الخير والشر والحب والكرامة إلا عندما يترجم شعوره الداخلي إلى عقل خارجي عملي واقعي. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعدل بين زوجاته في الأمور التي يستطيعها أما فيما عدا ذلك من الأمور التي لا يستطيع أن يسيطر عليها شعوريا أو داخليا فكان يترك الأمر لله. وقد أثر عنه قوله في ذلك "اللهم إني عدلت فيما أملك فلا تحاسبني فيما لا أملك". يريد بذلك مشاعره وأحاسيسه وعواطفه التي لا يمكنه أن يسيطر عليها. ج- أن المرء يحاسب على نتيجة فعله ويتحمل مسئولية هذه النتيجة. لأن المرء في هذه الحالة هو الذي يقوم باختيار الفعل بحريته وعليه إذن أن يتحمل مسئولية ما فعله لأن الحرية تعني المسئولية. والمسئولية تعني الجزاء خيرا أو شرا. د- من شروط القانون الأخلاقي اليسر ولا العسر لأن الدين يسر لا عسر. قال

تعالى في سورة البقرة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وفي سورة النساء: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . وقال في سورة الأنفال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} . وهكذا يكون من شروط القانون الأخلاقي تيسير وتسهيل مهمة القيام به على صاحبه. فهذه أفضل الطرق لأداء الواجب الأخلاقي. هـ- أن يكون صاحب العمل أو السلوك الأخلاقي عاقلا مكتمل الصحة والأهلية فليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ولا على المجنون أو فاقد العقل حرج ولا على النائم حرج. لأن هؤلاء يخرجون عن نطاق اكتمال الصحة والأهلية والمسئولية. و مراعاة حالات الضرورة والحالات الطارئة: فالضرورات تبيح المحظورات في الإسلام. كما أن الإسلام راعى في قانون أخلاقه الحالات الطارئة أو العارضة التي يصعب فيها الالتزام بالقانون الأخلاقي. وقد جعل الإسلام لكل حالة مخرج. فقد يكون ذلك المخرج بالإعفاء الكلي الكامل للمكلف وسقوط التكليف عنه كما في حالة فاقد العقل أو المجنون أو المريض مرضا لا شفاء منه. وقد يكون بالإعفاء الجزئي كما في حالة قصر الصلاة للمسافر وقد يكون بإرجاء أو إحلال عمل سهل يسير بعمل آخر صعب عسير مثل إطعام المساكين في كفارة الحلف أو اليمين. وهذه المخارج التي أباحها الإسلام للحالات الطارئة إنما هي دليل على سماحة الإسلام ومرونة التشريع الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان. ولا ينبغي أن يساء استخدامها للتهاون في الالتزام الأخلاقي. ز- الترتيب في تحديد الواجبات الأخلاقية: يقول الدكتور محفوظ على عزام في كتابه الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق "ص34-36" إن الإسلام رتب الأعمال الخلقية إلى ما هو لازم وما هو ألزم. فألزمها فرض العين ثم فرض الكفاية ثم الواجب ثم السنة المؤكدة ثم السنة غير المؤكدة ثم النوافل وأخيرا الكماليات. كما رتب الإسلام المحرمات والشرور إلى كبائر

وصغائر ومكروهات. ثم قسمها من ناحية أخرى من حيث الواجبات المحدودة وغير المحدودة والمؤقتة وغير المؤقتة. وحدد مسافة بين الخير والشر، لا هي خير ولا هي شر. وهي المباحات. وأحد طرفيها متصل بالخير والآخر متصل بالشر. وأمر الناس بالاتجاه إلى الخير والابتعاد عن الشر. مصادر القيم الأخلاقية: تختلف مصادر القيم الأخلاقية والإلزام الخلقي باختلاف الثقافات والمجتمعات. فلكل ثقافة أو مجتمع مصادره الخاصة التي يستقي منها قيمه الخلقية ويحدد على أساسها إطاره الأخلاقي. ويمكن القول بصفة عامة بأن من أهم مصادر القيم الأخلاقية للثقافات المختلفة الدين أو الشرائع السماوية أو غير السماوية والأيديولوجيات الفكرية أو الفلسفية أو الاجتماعية السائدة، والعرف والتقاليد والقوانين الوضعية والمدنية. ويصدق ذلك على الدول الإسلامية كما يصدق على غيرها من الدول. بيد أنه بالنسبة للدول الإسلامية نجد أن القرآن الكريم يعتبر أهم مصدر لقيمنا الأخلاقية. وهو الينبوع الرئيسي الذي نستمد منه أحكامنا وواجباتنا وقيمنا الخلقية. وقد بين الله للإنسان طريق الصواب وطريق الخطأ من خلال أوامره ونواهيه. وزوده بالعقل والحواس ليكون بصيرا بنفسه. قال تعالى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} . وقال أيضا: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} و {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} و {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . ويرى علماء المسلمين أن قضية التحريم والتحليل في الإسلام تمشي مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها كما تتمشى مع طبيعة العقل البشري ولذلك فإنهم ينظرون إلى مفهوم "العدل" على أن ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار العقل على وجه المصلحة أو الصواب. فالقتل والسرقة والكذب حرام لأنها أفعال يرى فيها الشرع أنها منافية للفطرة والعقل والقصاص والأمانة والصدق حلال لأنها أفعال مشروعة بحكم تمشيها مع الفطرة والعقل. وعندما يقصر الإنسان في حق ما أمره به الله أو نهاه عنه فإن الله سبحانه وتعالى يحاسبه ويعاقبه على تقصيره. وإن أخطأ وتاب فإن

الله يعفو عنه كما يعفو عن كثير. وقد أشرنا إلى قضية الجبر والاختيار في أعمال الإنسان في مكان آخر من هذا الكتاب. والمصدر الثاني للقيم الخلقية الإسلامية فهو السنة المطهرة فهي مكملة للتشريع الرئيسي وهو القرآن الكريم. فقد كان عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} . وقال تعالى في سورة آل عمران: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وقد دعا المسلمين إلى الأخذ بكل ما جاء به الرسول عليه السلام. وهناك حديثان هامان بصفة خاصة لأنهما مكملان لما أحله الله أو حرمه علينا من الأكل والطعام الأول هو: "أحلت لكم ميتتان ودمان. أما الميتتان فهما السمك والجراد وأما الدمان فهما الكبد والطحال". والثاني هو "حرم عليكم كل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير". وهذا الحديث رغم خطورة فحواه -لأنه بدونه يباح أكل كل ما يدب على الأرض من سباع وطيور جارحة وهوام- هناك رأي لا يجيز العمل بهذا الحديث على أساس أنه ضعيف أو ليس بحديث مع أنه ورد في الصحيحين. وعلى أساس ذلك أشار الإمام محمد الغزالي في كتابه عن الإسلام خارج حدوده إلى أن لحم الكلب لا يوجد دليل شرعي على تحريم أكله. وقد تألم كاتب هذه السطور عند قراءة هذا الرأي وكان وقتها أستاذا في جامعة قطر حيث يعمل فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عميد كلية الشريعة آنذاك. وبمناقشتي معه حول الموضوع ثنى على كلام الشيخ الغزالي وذكر أبياتا شعرية عن مدح المالكية في لحم الكلب مع أنه استند إلى هذا الحديث في كتابه الحلال والحرام في الإسلام. ولما قلت له إن لعاب الكلب نجاسة يتطهر منها بالغسل سبع مرات آخرها بالتراب فقال لي: النجس لعابه فقط. فتعجبت ولم أقتنع وقلت في نفسي إذا كانت القاعدة الفقهية المعمول بها: ما يسكر قليله فكثيره حرام. فلماذا لا يكون ما ينجس قليلة يكون كثيره حراما. وقلت في نفسي أيضا أليس من المعمول به في بعض المذاهب الفقهية الأخذ بالأحاديث الضعيفة في الجوانب الأخلاقية لا سيما في هذا الحديث الهام إذا كان ضعيفا على رأيهم؟ أعود إلى

نفسي لأبعث فيها الطمأنينة والرضى فأقول إن الله طيب لا يحب إلا الطيب ويكره ما عداه من الخبائث. وأعيد ثقتي بالنفس عندما أتذكر أيام شبابي عندما درست هذين الحديثين فيما درست في كلية دار العلوم على يد علماء مسلمين أفاضل جزاهم الله خير الجزاء. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الله في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . ونود أن نلفت النظر هنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار في أحاديثه إلى أنه ينبغي علينا أن نميز بين نوعين من أفعاله وأقواله: النوع الأول وهي الأقوال والأفعال الموحى بها إليه من الله عز وجل. وهذه لا جدال فيها إذ يجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها على أنها من تمام الدين والشرع. النوع الثاني هي الأقوال والأفعال التي كان يقوم بها الرسول باعتباره بشرا يسري عليه ما يسري عليهم باستثناء واحد عبر عنه الشاعر بقوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال ولقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله". وورد عنه قوله لبعض جماعته في موقف عام وقد شهي عليه في الصلاة "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". فهو غير معصوم عن الخطأ كبشر لكنه معصوم عن الخطأ فيما بلغ عن ربه. وقد لقي النبي التوجيه من ربه عندما مال كرأي أبي بكر بأحد النداء من أسرى بدر من المشركين وغلبه على رأي عمر الذي أشار بقتلهم فنزل قوله تعالى في سورة الأنفال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} كما أن الله سبحانه وتعالى عاتبه على استغفار لعمه أبي طالب وقد أبى عليه الإسلام فنزل قوله تعالى في سورة التوبة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يستمر مطلقا على رأي خاطئ وإذا لم يعد إلى الصواب بالطريق المعتاد فإن الوحي يتدخل حتما لتصحيح خطئه وإقامته على السراط المستقيم وإلا وقعت الجماعة كلها في الخطأ والتزمت باتباعه في طريق الضلال.

يضاف إلى ذلك أن أئمة علماء المسلمين يفهمون ما ورد في السنة ويفسرونه في ضوء ما ورد في القرآن الكريم والتوجهات العامة لأحكامه. كما درج علماء المسلمين على استقصاء أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بالمتواتر والصحيح منها وترك ما هو مدسوس أو مختلق عليه صلى الله عليه وسلم. وهكذا نكون من متطلبات المصدر الثاني للتشريع الإسلامي تأصيل ما رود عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتحقق منه لأن هناك بعض الأحاديث المختلفة والمنسوبة عن غير حق لرسول الله، ويسيء استغلالها بعض المغرضين من المسلمين وإن لبسوا العمامة وأطالوا اللحى. وهو في هذا يختلف عن المصدر الأول للتشريع وهو القرآن الكريم. وإلى جانب هذين المصدرين الرئيسين للتشريع الإسلامي هنا مصدران ثانويان آخران هما الإجماع والقياس وكلاهما يقوم على المصدرين الرئيسين السابقين في ضوء الدراسة الفاحصة لمتطلبات الموقف الجديد. وهذه المصادر الأربعة هي في الواقع مصارد رئيسية للقيم الأخلاقية والإسلامية. الوسائل والغايات: ترتبط الوسائل بغاياتها. فالغايات النبيلة والمقاصد الشريفة تكون وسائلها فضيلة وشريفه. وقد تتعدد الوسائل لتحقيق غاية واحدة على طريقة أن كل الطرق تؤدي إلى روما. وهناك مثل أو مبدأ يقول بأن الغاية تبرر الوسيلة. وهذا قول لا يمكن أن يقبل على علاته وإنما يجب أن توضع له الضمانات حتى لا ينحرف عن مساره الطبيعي ويصبح مبدأ ميكيافيليا مرفوضا. فالغاية إذا كانت شريفة ومقبولة أخلاقيا والوسيلة شريفة ومقبولة أخلاقيا فلا ضير أن تبرز الغاية الوسيلة. أما إذا كانت الغاية مقبولة اجتماعيا والوسيلة غير شريفة وغير مقبولة اجتماعيا يصبح الأمر مرفوضا. فإذا كانت الغاية أو الهدف تحقيق الغنى أو الجاه أو جمع المال وتكون الوسيلة هي السرقة والنهب والاستيلاء على أموال الناس. عندئذ يكون هذا المبدأ ميكيافيليا مرفوضا أخلاقيا. وأخلاقنا الإسلامية تنبذ مثل هذه المبادئ وترفضها لأنها تتعارض مع طبيعة الأخلاق الإسلامية التي تقوم على الحق والخير والعدل والجمال.

الفرق بين الأومر والنواهي: الفرق الرئيسي بين الأوامر والنواهي أن الأخيرة تحريم مطلق يسري في كل مكان وزمان وفي كل الأحوال وبدون أي استثناءات إلا في الحالات التي حددها الإسلام وهي حالة الخطأ والنسيان وما استكره عليه الإنسان. أما الأوامر فليست لها هذه الصفة المطلقة من الإجبار والحتمية. وإنما تتمشى حسب ظروف الفرد. فإذا كان مريضا أو على سفر في حالة الصوم مثلا فعدة من أيام أخر. وللمصلي أن يجمع ويقصر في صلاته في حالة سفره. وباختصار تخضع الأوامر لما ذكره رب العزة في كتابه الكريم {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . الإيثار ضد الأنانية: تختلف النظرة الأخلاقية من حيث جانب الإيثار أو الأنانية. فالإيثار تفضيل الإنسان غيره على نفسه. وقد حثنا الإسلام على الإثرة في قوله عز وجل في سورة الحشر: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . أي يقدمون غيرهم على أنفسهم ولو كانوا محتاجين وقوله عز وجل في سورة آل عمران: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} .. والإيثار صفة خلقية محبوبة لأنها تعزز الروابط الاجتماعية بين الناس وتحقق التراحم بينهم. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفي مأثور الحكم "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط. وقد عبر عن ذلك الشاعر العربي أو العلاء بقوله: فلا نزلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا وقد ضرب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. أمثلة رائعة في الإيثار سطرها التاريخ. ومن الأمثلة الفذة ما يرويه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن "ج18 ص28" عن الحذيفة العدوي في قوله: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته. فإذا أنا به. فقلت: أسقيك؟ فأشار برأسه أن: نعم. فإذا أنا برجل يقول: آه آه. فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه. فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن:

نعم. فسمع آخر يقول: آه آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وهكذا لم يشرب أحدهم الماء لإيثار كل منهم صاحبه عليه. والإيثار كقيمة أخلاقية يتعبر من أنبل الأخلاق وأفضل المكارم الإنسانية. أما الأنانية فهي صفة أخلاقية مرفوضة لأنها تقوم على حب الذات وتمركز الشخص حول نفسه ومصلحته بصرف النظر عن الآخرين. فلا يهم الفرد إلا مصلحته هو وليمت الآخرون. وقد عبر الشاعر العربي عن هذه الصفة الأنانية التي تشينه بقوله: "إذا مت ظمان فلا نزل القطر". أي المطر. فهو يدعو بألا يعم الخير على الآخرين إذا هو لم يصبه هذا الخير أولا. وهذه أنانية بغيضة نهانا عنها ديننا الحنيف. وينبغي أن نشير هنا إلى أن الفيلسوف الفرنسي المعروف أوجست كونت يتمشى مع الإسلام في هذه الناحية وإن كان يغلب جانب الآخرين. ذلك أن مبدأه الأخلاقي يقوم على أساس الشعار الذي وضعه لنفسه وهو: "عش من أجل غيرك". وهو يرى أن "الحب هو المبدأ، والنظام هو القاعدة، والتقدم هو الغاية". وهو يختلف عن الفيلسوف الألماني "كانط" فيما ذهب إليه من أن العواطف مفسدة للجانب الأخلاقي وإن كان كونت يتفق معه في تجريد الأخلاق من كل اعتبار يقوم على المنفعة والمصلحة. ويرى كونت أن رقة العاطفة هي منشأ الحب ومصدره، وأنها هي التي يجب أن ينتظر منها الجميع ألوان التراحم والتعاون والتضحيات. وهي التي يجب أن تنمى في قلب الطفل منذ أيامه الأولى. وإذا كانت المرأة هي أفضل صورة للإنسانية -كما يقول كونت- فذاك لأنها هي أرق النوعين الإنسانيين عاطفة وأوفرهما حنوا. "كريسون: ص252". وينبغي أن نشير من قبيل المقارنة إلى أن الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت" يتشدد في مذهبه الداعي إلى حب الغير وإيثار الآخرين لدرجة أنه يحرم على المربي أن يطري أو يمدح فضيلة، كائنة ما كانت، بسبب ما يمكن أن يجنيه الفرد من فائدة من ورائها. ويضرب لذلك مثلا للطفل الذي يقال له: كن نظيفا لتحافظ على صحتك. والأولى أن يقال له: كن نظيفا لتحافظ على صحة

ونظافة المجتمع وحتى لا يتأذى بك الغير. ويضرب مثلا آخر عندما يقال للطفل "اجتهد لكي تكون من العظماء وذوي الرفعة المكانية". والأولى في نظره أن يقال له اجتهد لكي تكون عضوا نافعا للمجتمع والإنسانية. ويرى كونت أن أي مسلك أخلاقي يخالف ذلك يكون خدعة في طيها جنابة "كريسون: ص254". ويبدو من هذه النظرة الأخلاقية أن "كونت" يفرق بل يبالغ في تأكيد الجانب الاجتماعي وتغليبه على الجانب الفردي. وفي هذه النقطة بالذات نجد أن النظرة الإسلامية تختلف. فهي وإن أكدت أهمية جانب المجتمع والإنسانية بصفة عامة فإنها لا تغفل أيضا جانب الفرد. فإذا عدنا للمثال السابق وهو مثال الطفل، نجد أن النظرة الإسلامية تجمع بين قولنا للطفل كن نظيفا لتحافظ على صحتك وبين كونه نظيفا ليحافظ على سلامة المجتمع وحتى لا يتأذى به الغير. وبالمثل يمكن القول في المثال الثاني الخاص بالاجتهاد ليكون الطفل من ذوي الرفعة وليكون أيضا عضوا نافعا للمجتمع والإنسانية. وقد سبق أن أشرنا إلى أن التربية الإسلامية هي تربية فردية واجتماعية معا. إن الإيثار وحب الغير فضيلة أخلاقية تجلب حب الناس وبالتالي حب الله. أما الأنانية فهي رذيلة ممحوجة لا تجلب لصاحبها إلا الكراهية والنفور وبعض الناس له وبالتالي بغض ربه وخالقه. الطبيعة الإنسانية في الإسلام: يعتبر موضوع الطبيعة الإسلامية من الموضوعات الهامة التي لا يستغني عنها أي دارس للتربية الإسلامية لأن الإنسان موضوع التربية ومن المهم إذن أن نعرف ما يقوله الإسلام عن هذه الطبيعة حتى يمكن توجيهها وتنشئتها على أساس سليم. ويقول المربون: إن فلسفة التربية هي فلسفة الإنسان قبل كل شيء، وبهذا الشرط وحده تستطيع أن تؤدي رسالتها وهي العمل على تنظيم الكائن الإنساني ووحدته وتأليفه تأليفا جديدا ومستمرا وحمايته قبل كل شيء من القوى المختلفة التي تتنازعه في اتجاهات متباينة، ووقايته من مخاطر تشتت فكره وانحلال

إرادته. ولما كانت التربية عملية توجيه ونمو للأفراد، فإن طبيعة الفرد تصبح مسألة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لفلسفة التربية. ويقصد بالطبيعة الإنسانية من المنظور الإسلامي فطرة الإنسان التي فطره الله عليها. ترى ما هي طبيعة الإنسان وفطرته في الإسلام؟ هناك ثلاثة أمور رئيسية يمكن تناولها لتوضيح مفهوم طبيعة الإنسان من الوجهة الإسلامية. أول هذه الأمور يتعلق بماهية الإنسان نفسه هل هو مادة أم روح أم كلاهما معا؟ ثاني هذه الأمور يتعلق بجانب الخير والشر فيه. أي هل الإنسان خير بطبيعته أم شرير بطبيعته أم كلاهما معا، أم أن طبيعته محايدة لاهي خيرة ولا شريرة. وثالث الأمور يتعلق بإرادة الإنسان. هل هي مطلقة أم محدودة وهل هو مخير أم مسير أم كلاهما معا؟ وسنتناول كل موضوع من هذه الموضوعات الثلاثة للطبيعة الإنسانية بشيء من التفصيل في السطور التالية: أولا: ماهية الإنسان: إن الإنسان الأول وهو آدم خلقه الله من تراب أي من غير أب. وهو بهذا يشبه عيسى عليه السلام الذي خلقه الله من غير أب. يقول عز وجل في سورة آل عمران: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فآدم أبو البشر جميعا في أول الخلق. وقد خلقه الله وخلق منه زوجته حواء. قال تعالى في سورة الزمر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . ويذكر ابن سيرين في كتابه "تفسير الأحلام الكبير "ص25". وهو الكتاب الذي يتشكك أحمد أمين في نسبته1 إن أول رؤيا على الأرض هي ما رآه سيدنا آدم عليه السلام فقد أوحى الله تعالى إليه: "إنك قد

_ 1 يقول أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ص294: إن ابن سيرين اشتهر بتفسير الأحلام وزيف عليه كتاب في ذلك. وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ونسبه إليه. ولكنا لا نجد أثرا لشهرته في تعبير الرؤى في كتب المتقدمين أمثال طبقات ابن سعد.

نظرت في خلقي فهل رأيت فهم شبيها؟ " قال: لا يا رب، وقد كرمتني وفضلتني وعظمتني، فاجعل لي زوجا تشبهني أسكن إليها حتى توحدك وتعبدك معي، فقال الله تعالى له: "نعم". فألقى عليه النعاس، فخلق منه حواء على صورته. وآراه في منامه ذلك. فانتبه وهي جالسة عند رأسه. فقال له ربه: "يا آدم ما هذه الجالسة التي عند رأسك؟ ". فقال له آدم: الرؤيا أريتني في منامي يا إلهي: وقد ورد في الأثر "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وأن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء" ولكن الإنسان فيما بعد آدم ذكرا كان أم أنثى من مني يمنى. قال تعالى في سورة القيامة: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} وقال تعالى في سورة الحج: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} . وقال في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . ويلخص لنا القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات" ص231 حقيقة الإنسان كما شرحها ووضحها مفكرو الإسلام فيقول: اعلم أن الإنسان مجموع مركب من النفس والبدن، وأنه أشرف الحيوانات وخلاصة المخلوقات. ركبه الله تعالى في أحسن صورة روحا وبدنا. وخصه بالنطق والعقل سرا وعلنا. وزين ظاهره بالحواس والحظ الأوفى، وباطنه بالقوى ما هو أشرف وأقوى. وهيأ للنفس الناطقة الدماغ وأسكنه أعلى محل وأوفق رتبة. وزينه بالفكر والذكر والحفظ. وسلط عليه الجواهر العقلية لتكون النفس أميره والعقل وزيره، والقوى جنوده، والحس المشترك مريده، والأعضاء خدمه، والبدن محل ممكلته، بالحواس يسافرون في جميع الأوقات في عالمهم، ويلتقطون الأخبار والموافقة والمخالفة، ويعرضونها على الحس المشترك الذي هو واسطة بين النفس والحواس.. وهو يعرضها على القوة العقلية لتختار ما يوافق، وتطرح ما يخالف، فمن هذا الوجه فالإنسان عالم صغير. ومن حيث إنه يتغذى وينمو قالوا نبات. ومن حيث إنه يحس ويتحرك قالوا حيوان. ومن حيث إنه يعلم

حقائق الأشياء قالوا ملك. فصار مجمعا لهذه المعاني. فإذا صرف همه إلى جهة من هذه الجهات ليلتحق بها فإن كان قد صرف همته إلى الجهة الطبيعية فيكون راضيا من أمر دنياه بالتقوى وتنقية الفضول. وإن كان إلى الحيوانية فيكون إما غضويا كسبع، أو أكولا كبقرة، أو شرها كخنزير، أو جزعا ككلب، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو ذا روغان كثعلب. أو يجمع هذا كله فيكون شيطانا مريدا. وإن كان صرف همته إلى الجهة الملكية فيكون متوجها إلى العالم الأعلى، ولا يرضى بالمنزل الأسفل والمربع الأدنى. فيكون مرادا من قوله عز وجل في سورة الإسراء: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} . "محفوظ على عزام: ص163-164. نقلا عن القزوين: عجائب المخلوقات". وقد شغل كثير من علماء المسلمين بالبحث في ماهية الإنسان. وفي كلامهم عن هذه الماهية يميزون بين جانبين رئيسيين: الجانب المادي فيها وهو الجسم أو البدن والجانب غير المادي ويشمل العقل والنفس والروح. ولا يعني هذا التمييز وجود انفصال بين الجانبين. وقد أدرك المسلمون منذ عصورهم الأولى أن هناك صلة وثيقة بين الجسم والعقل، وعبروا عن هذه الصلة بالحكمة القائلة: "بأن العقل السليم في الجسم السليم" وقد عنوا بالجسم وخففوا عنه الأعباء ليستطيع أن يحمل النفس الكبيرة ويساعد العقل على الدرس والتدريس والتعلم والتعليم. ولم يجز المسلمون أن يرهق الإنسان قواه الجسمانية أو يضعف من احتمالها من أجل عبادة يسرف فيها أو حرمان مما أحل الله للناس. وقد أدرك المربون المسلمون أن الجسم المريض لا يساعد العقل على الفهم وأوصى الأصفهاني بترفيه النفس في طلب العلم محذرا الطالب من مواصلة الدرس والجهد دون أن يتخلل ذلك راحة ورياضة فهذا الجهد المتواصل سيكون نتيجته الفشل. ويأتي بدليل على كلامه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى". ويضيف الأصفهاني أيضا أن على الطالب أن يواصل الدرس ما نشط عقله وفطن فإذا أحس في عقله فتورا فليتوقف عن العمل وليلجأ إلى اللعب فإن العقل المكدود ليس لرؤيته لقاح ولا لرأيه نجاح. وقد كان المربون المسلمون يدركون أن من طبيعة الطفل أن يكون نشيطا

كثير الحركة، وكانوا يغذون فيه هذه الطبيعة لعلمهم أن في نشاط الجسم يقظة العقل وصفاء الذهن، وكانوا يرون أن من غير الطبيعي أن يكون الطفل هادئا ساكنا ويرجعون سكونه إلى مرض أصابه أو بأس نزل به، فالمربون المسملون جعلوا للعب مكانته في التربية غير أنهم اقتصروا على الجانب الترويحي منه بعد الفراغ من العمل، ولم يذهبوا مذاهب المحدثين في جعل اللعب جزءا من العمل التربوي، وفي جعل العمل التربوي يتم عن طريق اللعب. وكان اهتمام فلاسفة المسلمين شديدا بالجانب غير المادي للطبيعة الإنسانية باعتباره الجانب الغامض الملغز المحير في الإنسان. فدرسوا فيما درسوا العقل. والعقل في اللغة قيد البعير وسمي هذا الجوهر به تشبيها على عادة العرب في استعارة أسماء المحسوسات للمعقولات. والعقل قيد الإنسان فهو مقيد له وعاصم من الزلل والخطأ. "الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص98" وسمي العقل قلبا، وذلك أنه لما كان القلب مبدأ تأثير الروحانيات والفضائل سمي به. ولذلك عظم الله تعالى أمره لاختصاصه بما قد أوجد لأجله؟ قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . "الأصفهاني: الذريعة إلى أحكام الشريعة ص99". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في البدن مضغة إذا استقامت استقام البدن وإذا اعوجت اعوج البدن ألا هي القلب". والعقل عند الفلاسفة يمثل القوة الإدراكية. وهو عند متكلمي الإسلام ليس جوهرا وإنما هو عرض يتمثل في جملة من العلوم والمعارف الأولية التي تقوم عليها المعرفة البشرية. كما يعرف بأنه الملكة أو القوة التي يستطيع الإنسان بها أن يميز بين الخير والشر ومنها يكتسب المعارف. ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن أول ما خلق الله خلق العقل" ويقال: إن المقصود هو العقل في قوله تعالى: "وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي ولا أفضل منك بك آخذ وبك أعطي". وقد سبق أن أشرنا إلى أن العقل أساس العقائد في الإسلام كما أن التفكير وهو وظيفة العقل فريضة إسلامية كما أن للنفس مظاهر عاطفية وجدانية تتمثل في الانفعالات والمشاعر والأحاسيس. وهكذا ينظر الإسلام إلى ماهية الإنسان على أنها مركبة تركيبا عضويا يتلاحم

فيها الجانب الجسمي مع العقلي والنفسي. وبعض علماء المسلمين لا يفرق بين العقل والنفس والروح والقلب ويستخدمونها استخداما مترادفا أو متشابها. كما أن بعض علماء المسلمين تأثر بما ذكره فلاسفة الإغريق عن ماهية الإنسان وما يتعلق منها بالعقل والنفس. فالرئيس ابن سينا الذي يعتبر إمام فلاسفة المسلمين في دراسة النفس ويقول في قصيدته المشهورة عن النفس ما يذكرنا أحيانا بأساطير أفلاطون: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع فلأي شيء أهبطت من شامخ ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع فهبوطها لا شك ضربه لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع النفس وتعريفها: يعرف قدماء فلاسفة الإسلام النفس بأنها الكمال الأول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة وهو تعريف نقلوه عن أرسطو. وفي الكتب الإسلامية القديمة يرد التعبير جسم آلي "كترجمة لكلمة Organism أي كينونة عضوية حية، في تعريف أرسطو للنفس. وكلمة بالقوة In potentia تمييزا لها عن كلمة بالفعل In act فالبذرة شجرة بالقوة أما الشجرة فهي شجرة بالفعل. وهي جوهر روحي قائم بذاته إلا إذا اتصلت بالبدن فإنه يدخل في تعريفها لا على أنها صورة منطبعة فيه بل على أنها شرف وكمال له في الوجود. وكمال النفس عند ابن سينا كمالان: كمال أول وهو الذي يصير النوع به نوعا بالقوة كالإنسان والحيوان والنبات بأنواعه، وكالشكل بالنسبة للجماد كالسيف أو السكين مثلا. والكمال الثاني هو ما يتبع نوع الشيء من أفعال وصفات وانفعالات كالحركة والرؤية والإحساس والتمييز بالنسبة للإنسان، خاصية المضاء والقطع بالنسبة للسيف أو السكين. وهذا الكمال الثاني هو من تمام الكمال الأول. وهو الذي يجعل الشيء

شيئا بالفعل بعد أن كان كامنا بالقوة. "فتح الله خليف: ص64" والبدن والنفس يشكلان طبيعة واحدة للإنسان. وللنفس قوى منها القوى العاقلة والغاضبة والشهوية. وكل واحدة من هذه القوى عند علماء المسلمين داخلة في سلطان ما فوقها ومتآمرة على من دونها. فحق القوة الشهوية أن تكون مؤتمرة للقوة الغضبية، وحق هذه القوة أن تكون مؤتمرة للقوة العاقلة. وحق هذه القوة العاقلة أن تكون مستضيئة بنور الشرع ومؤتمرة لمراسمه حتى تصير هذه القوى متظاهرة غير متعادية "الراغب الأصفهاني: تفضيل النشأتين ص93" وفي نفس الإنسان قوى رديئة من الهوى والشهوة والحسد تطلب الفساد وتعادي العقل والفكر. ولذلك يجب للعقل أن يعادل الهوى وألا يستسلم له. فالهوى من أعداء الله بدلالة قوله عليه السلام: "وما في الأرض معبود أبغض إلى الله من الهوى". ويرتبط بذلك صفتان متضادتان للنفس. فهناك شرف النفس وهي صفحة تنأى بصاحبها عن إتيان المذموم من الفعال, وتقابلها خسة النفس وهي صفة أصحاب النفوس الوضيعة الذين لا يستحون من فعل القبيح لا يستنكرونه. والإسلام يخاطب النفس ويهدف إلى تربيتها من خلال الثواب والعقاب. فهناك الثواب المادي من جنة وزيادة في الرزق والتمتع بزينة الحياة الدنيا من مال وبنين. وهناك ثواب غير المادي من إعلاء مكانة وعلو المرتبة والطمأنينة النفسية وراحة البال والضمير. وهناك العقاب المادي من نار وقلة في الرزق وحرمان من متع الدنيا. وهناك العقاب غير المادي من تأنيب الضمير والخزي والحسرة والندم وعدم الرضا لله والناس. وللنفس مظاهر إدراكية تتمثل في العقل. والعقلانية هي أرقى صفة للإنسان. وقد أشار القرآن الكريم إلى عدة أصناف من النفس منها النفس اللوامة والنفس الأمارة والنفس المطمئنة والنفس الراضية والنفس المرضية. ويرى علماء المسلمين أن النفس تتميز عن البدن وأنها ليس جزءا منه أو حالا من أحواله. وهي جوهر مفارق لجوهر البدن ومخالف له في طبعه كما أن النفس من عالم آخر هو عالم الروح الذي يختلف عن عالم الجسم وهو عالم المادة. ومن هنا استدل علماء المسلمين على أن الجسم فان أما الروح فلا تفنى بفناء

الجسم. إن الإنسان في نظر الإسلام مادة وروح معا. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} . والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الإنسان فسواه فعدله، في أحسن صورة ركبه. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . لقد صنع الإنسان صنعا عجيبا تحار في فهمه العقول وصدق الله العظيم إذ قال: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} . فالنظرة الإسلامية تعتبر الإنسان بكل مكوناته وحدة عضوية تتكامل وتتآلف فيما بينها بين القوى الإدراكية والانفعالية والجسمية. وبهذا يقف الإسلام موقفا فريدا من الإنسان يختلف عن موقف الثقافات والعقائد الأخرى. فالمسيحية على سبيل المثال تنظر إلى الإنسان على أنه قوى متناقضة متصارعه، جسم يناقض الروح لأنه يسجنها في داخله ويعوقها عن الرجوع لبارئها. كما أن الفلاسفة الإغريق والفلاسفة المثاليين نظروا إلى الإنسان على أنه عقل محمول على جسم، ومجدوا العقل وقللوا من شأن الجسم. وقد أثبت العلم الحديث أن الدماغ هو مركز الإدراك والسلوك عند الإنسان وأن كل القوى الإدراكية والسلوكية تتركز في مخ الإنسان وتتوزع كل منها على مناطق معينة فيه. كمال النفس بالتربية: إن الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية. ويقول الغزالي "الإحياء: ص3، ص59" وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال. وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وهو يعتبر أن الجهل من أمراض النفس وعلاجه بالتعليم كما أن علاج

مرض الكبر يكون بالتواضع وعلاج مرض البخل بالتسخي. فعلاج كل مرض يفيده. ويورد مثالا طريفا يحكي عن بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب بأن يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له حتى ضرب به المثل. ونحن في زماننا لا نحتاج إلى تأجير من يقوم لنا بذلك فنحن نصادفه ونتعايش معه كل يوم وعلينا أن نستفيد منه في رياضة نفوسنا وكظم غيظنا مع توفير فلوسنا. فهذه خدمة أخلاقية مجانية يقدمها مجتمعنا المعاصر لمن أراد إلى ذلك سبيلا. إن العلم من كمال النفس الإنسانية لكنه وحده لا يكفي. ولا بد أن يكتمل كمال النفس بتربيتها الأخلاقية. وقد عبر الشاعر العربي عن ذلك بقوله: لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يتوج ربه بخلاق فالعلم والخلق مهمان لكمال النفس ويقول ابن خلدون في مقدمته "ص274" إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة. أثر الوراثة والبيئة: هناك وجهتا نظر تتعلقان بالكلام عن الوراثة أو البيئة إحداهما يمثلها فرانسيس جالتون Franics galton وعبر عنها في كتابه "العبقري بالوراثة" HEREDITARY GENIUS وهو يعتقد أن القدرات الطبيعية للإنسان موروثة وأنه يمكن إنتاج سلالة من البشر على درجة عالية من الموهبة عن طريق الزواج المضبوط خلال أجيال متعاقبة. ووجهة النظر هذه قديمة ولم توضع موضع الاختيار. وخضعت فيما بعد لكثير من الهجوم والنقد لا سيما من جانب المربين علماء النفس الأمريكيين. ووجهة النظر الثانية يمثلها عالم النفس الأمريكي المعروف واطسون WATSON,J الذي يؤكد أثر البيئة والتربية. وفي ذلك يقول: "أعطني دستة أطفال أصحاء وأعطني عالمي الخاص لتربيتهم وأنا أضمن لك أن أحول كل فرد منهم إلى أي نوع من الرجال تشاء: فنان أو عالم أو جندي أو بحار أو شحاذ أو

حرامي. وقد يكون واطسون قادرا على عمل ذلك إلا أن معظم الآباء والمدارس قد لا يحالفهم الحظ. ويورد الراغب الأصفهاني في "تفصيل النشأتين" سبعة أسباب لاختلاف الناس وتفاوتهم تبين أثر كل من الوراثة والبيئة على الإنسان "ص115-120" وهي: 1- اختلاف الخلقة والأمزجة وتفاوت الطبيعة. وقد يرث الإنسان عن والديه مشابهتهما في الخلقة. فهو هنا يؤكد عامل الوراثة. 2- اختلاف أحوال الوالدين من حيث الصلاح والفساد. ذلك أن الإنسان يتأثر بمعاشرة والديه، وقد يأخذ عنهما ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحها وهو هنا يؤكد عامل البيئة والتربية وقد قال النبي صلى الله عليه سلم: "إياكم وخضراء الدمن"، قيل: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسنة في المنبت السوء". قال الشاعر: وهل يرجى لأطفال كمال ... إذا ارتضعوا ثدي الناقصات 3- اختلاف طبائع الوالدين وتأثير عوامل الوراثة، وما تتكون منه النطفة التي يكون منها الولد ودم الطمث الذي يتربى به الولد؟ فذلك له تأثير بحسب طيب ما تكون منه وخبثه. ولهذا قال عليه السلام: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" وقال: "الناكح غارس فلينظر أين يضع غرسه". 4- اختلاف أثر الغذاء والرضاع وطيب المطعم الذي يربي به الولد. ولتأثير الرضاع تقول العرب لمن تصفه بالفضل: لله دره. والدر تعني اللبن ولله دره تعني لله خيره وعطاؤه تشبيها بعطاء در الناقة أي لبنها لأن اللبن من أعلى أنواع النعم. ولا شك في أن لطيب أثر الغذاء أثرا بالغا في تكوين بناء شخصية الإنسان جسميا ونفسيا وهو سبب من الأسباب الهامة لاختلاف الناس وتفاوتهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يورث". 5- اختلاف التأديب والتلقين وتعويد العادات الحسنة والقبيحة. فحق الولد أن

يؤخذ بالآداب الشرعية، ويعود فعل الخير ويصان من مخالطة الأشرار في صباه. 6- اختلاف الصحبة والمخالطة وتأثيرها على سلوك الفرد وقد قال الشاعر طرفة بن العبد: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي 7- اختلاف الاجتهاد في تزكية النفس بالعلم والعمل. وهكذا يلخص الراغب الأصفهاني أثر كل من الوراثة والبيئة في تنشئة الطفل في هذه العوامل السبعة. وهي أن يكون طيب الطينة والنطفة ودم الطمث معتدل الأمزجة جاريا في أصلاب آباء صلحاء ذوي أمانة واستقامة مرتضعا بدر طيب مأخوذا من صغره من قبل مربيه بالآداب الصالحة ومقتضى الشرع والبعد عن مصاحبة الأشرار ومجتهدا بنفسه في تزكية النفس بالعلم والعمل. ومع أن كثيرا من هذه العوامل جبرية ومفروضة على الإنسان ولا حيلة فيها إلا أنه يرى أن الإنسان حر ومختار لأفعاله، ويجب أن تستخدم هذه الإرادة الحرة في تقويم أخلاقه ورياضة نفسه واكتساب الفضائل ما وسعه ذلك. الطبع والتطبع: يتعلق الطبع بالجانب الفطري الموروث في الإنسان وما يقوم به مطاوعة بدون تكلف. وتعرف المعاجم اللغوية الطبع بأنه الخلق والجمع طباع. والطبيعة تعني السجية أو مزاج الإنسان المركب من الأخلاط والطبائع. ويقال أمر طبيعي أي غير متكلف. وفلان مطبوع على كذا أي أنه ذو موهبة واقتدار في فن أو مجال معين يعالجه بلا تكلف. والطبع والطبيعة من نفس المعنى ويعنيان السجية والمزاج. وقد قال الشاعر العربي: إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ... فلا خير في ود يجيء تكلفا والطبع في الإسلام شأنه شأن ذكاء الإنسان. منه ما هو فطري ومنه ما هو مكتسب. فالطبع الفطري ما طبع عليه الإنسان منذ نشأته وفطر عليه. والطبع هنا يعني مزاج الإنسان وحالته الوجدانية والانفعالية والنفسية. أما التطبع فهو

المكتسب من خلال التربية والتنشئة واكتساب العادات. فنحن لو ننظر مثلا إلى صفات مزاجية وانفعالية معينة مثل الحلم والأناة والحياء والحمق والغضب والرعونة وسرعة الانفعال وما شابهها نجد أن جانبا منها فطري عند علماء المسلمين وجانبا منها مكتسب يتمثل في التحكم والسيطرة على الصفة المزاجية قدر المستطاع. ومما يستدل به على فطرية مثل هذه الصفات في طبع الإنسان ومزاجه ما ورد في حديث الأشج بن قيس إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" وفي رواية أخرى عند البخاري "الحلم والحياء". قال الأشج: أجبله جبلني الله عليها "أي فطرني الله عليها" قال: نعم. قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله وسوله. من ناحية أخرى نجد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم" قياسا على ذلك يقال إنما الخلق بالتخلق والطبع بالتطبع. وهذا القول يشير إلى الجانب المكتسب للطبع من خلال مداومة الإنسان على اكتساب العادة. ويقول حجة الإسلام الإمام الغزالي: "إن الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معا. يقال: فلان حسن الخَلق والخُلق أي حسن الظاهر والباطن فيراد بالخَلق الصورة الظاهرة ويراد بالخُلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة. ولكل منهما هيئة وصورة إما قبيحة أو جميلة. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرا من الجسد المدرك بالبصر. ولذلك عظم الله أمرها بإضافتها إليه إذ قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح من رب العالمين. والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد. فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. وهذا يعني أن الخلق صار تطبعا في الإنسان. ومن المعروف أن التطبع أو تطبيع الإنسان بمعنى تعويده على عادات وطبائع جديدة واكتسابه لها هو لب معنى التربية ووظيفتها الأولى الرئيسية. وهذه الوظيفة سواء أحسن توجيهها أو أسيء, هي أشبه بعملية الطلاء أو الدهان للأشياء لتعطيها شكلا ظاهريا وصورة

خارجية قد تختلف أو تتفق مع جوهرها الحقيقي أو الداخلي. فإن كان الجوهر جيدا وكانت تربيته جيدة صح التطابق وصار الإنسان مستويا في شكله ومضمونه أو جوهره. ويكون حسن تربيته مواتيا لحسن جوهره. وهذا هو الإنسان المثالي. وكذلك الأمر إذا كان الجوهر خبيثا والتربية خبيثة أيضا ثم التطابق وصار الإنسان خبيثا في شكله ومضمونه وهو الإنسان المرفوض غير المرغوب الذي يعتبر جناية على الوالدين وعلى المجتمع ولا يرجى له صلاح أو فلاح. أما الإنسان الذي حسن جوهره وأسيئت تربيته فهو أشبه بخضراء الدمن التي حذرنا منها نبينا الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدمن". قالوا ما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الجميلة في المنبت السوء". لكن مثل هذه الإنسان قد يرجى من روائه صلاح وفلاح إذا أحسنت تربيته من جديد لأن جوهره طيب قابل للإصلاح والتوجيه. أما إذا كان جوهر الإنسان خبيثا أو سيئا وحسنت تربيته فإن سلوكه يكون حسنا في الظاهر وفي المواقف العادية. أما إذا تغير الموقف وأصبح غير عادي فإن هذا الإنسان ينقلب إلى جوهره السيئ ليكشف عن حقيقته السيئة. مثال ذلك الإنسان في حالة الثورة والغضب الذي يلهب آذان خصمه بأقذر ألوان السباب والشتائم. ولذلك نصح الحكماء بحسن اختيار الناس: الجار قبل الدار والصديق قبل الطريق. ونصحوا أيضا باختيار مدى صدق الحبيب أو الصديق بالمواقف التي تظهره على حقيقته. وقالوا: لا يعرف الصديق إلا وقت الضيق والمثل الشعبي المصري يقول: "حبيبك اللي أنت عشمان فيه كتر عليه بالأسية يبان لك جميع ما فيه". وقد عبر عن ذلك الشاعر العربي بقوله: ما أكثر الإخوان حين تعدهم ... لكنهم في النائبات قليل وهناك قصة معروفة عن الأعرابي الذي ربى في منزله جرو ذئب منذ نعومة أظفاره وأرضعه بلبن شاة كانت عنده. ولما كبر الذئب واختلى بالشاة هجم عليها وقتلها في غيبة صاحبها فلما رأى ذلك قال هذه الأبيات: قتلت شويهتي وفجعتنيها ... وأنت لشاتنا ولد ربيب غذيت بدرها وربيت فينا ... فمن أنباك أن أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء ... فلا أدب يفيد ولا أديب

وفي هذا المعنى قال شاعر آخر: من يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أو عامر أعد لها لما استجارت بقربه ... من الدر ألبان اللقاح والدوائر أعدت له حتى إذا ما تكمنت ... فرته بأنياب لها وأظافر وأم عامر كنايه عن الضبع. وكان أحد الأعراب قد أواها وأطعمها فلما قويت واشتدت وثبت عليه وهو نائم وقتلته. ونجد نفس المعنى في قول الشاعر: ومن يفعل المعروف في غير أهله ... يكن حمده ذما عليه ويندم وهناك وجهة نظر مناقضة لذلك تقول: أصنع جميلا ولو في غير موضعه ... ما خات قط جميل أينما وضعا ويبدو أن المسألة تتعلق بالشخص الذي عمل فيه الجميل. فمن الناس من يشكر الجميل لصاحبه. ومن الناس من يعض اليد التي تقدم له الخير كما عبر الشاعر: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وقال شاعر آخر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فلطالما استعبد الإنسان إحسان ويقال إن الكفر بالنعمة وعدم شكرانها مخبثة لنفس المنعم أي أن نفسه تتألم لذلك وقد تكف عن عمل الخير. وينبغي أن نشير إلى أنه من الثابت علميا أن الإنسان له قدرات فطرية مثل الذكاء والقدرات العقلية. وبالمثل يمكن أن يقال بأن للإنسان مزاجا وطبعا مزاجيا عاما قد يتفق فيه مع غيره وقد يختلف. يقول الجاحظ: "اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه ثم طبعهم على جلب المنفعة ودفع المضار ... وهذا فيهم طبع مركب وجبلة مفطورة.. وهذه الخلال غرائز في الفطرة وكوامن في الطبع جبله ثابتة وشيمة مخلوقة". ومن طباع البشر أنها لا تقبل من المعارف إلا ما

يلائمها ويناسبها. كما أن النفوس يتحصل لها من العلوم بحسب ما تكتسبه منها. وقضية الطبع والتطبع قضية جدلية يحتدم حولها النقاش. وهذه القضية تحتاج منا إلى جهد كبير لفهمها وتوضيحها وإلقاء الضوء عليها حتى نحكم تربية وتنشئة الإنسان على أساس من الفهم الصحيح لطبعه ومزاجه. وعندها نستطيع أن نحسن من أساليب تطبيعنا له أي تربيتنا وتنشئتنا له. وذلك أن الطبع والتطبع وجهان لعملة واحدة. ويشير الغزالي إلى السبب في حسن الخلق فيقول: قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة وكونها للعقل مطبعة وللشرع أيضا. وهذا الاعتدال يحصل على وجهين: أحدهما بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق. والوجه الثاني اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة. "الأحياء: ج3: ص56". وهكذا يؤكد الغزالي على جانبي الطبع والتطبع في أخلاق الإنسان. وهو يقول في مكان آخر: إن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة وتارة بمشاهدة أرباب الأفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير معا. "نفس المرجع: ص58". الناس معادن: يتعلق الطبع بجوهر الناس ومعادنهم ويرى كثير من الفلاسفة ومنهم الفلاسفة المسلمون أن الناس يختلفون في طباعهم كالمعادن. فالناس معادن ومن كل المعادن تصادف أناسا في حياتك. لقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الناس معادن وأنهم يتفاوتون في الوضاعة والشرف والخير والشر بقوله في الحديث الشريف "الناس معادن في الخير والشر. خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". "عبد الله علوان: ص37". وقديما قسم أفلاطون حكيم الإغريق الناس إلى ثلاثة معادن: الذهب والفضة والنحاس. وقد خضعت كثير من المجتمعات في تطورها إلى تقسيم الناس إلى طبقات حسب معدنها وجوهرها. ومن أشهر التقسيمات الطبقية

القديمة في المجتمعات ما ساد في الهند القديمة من تقسيم الناس إلى طبقات أعلاها البراهمة وأدناها المنبوذون. كما ساد تقسيم الناس إلى سادة وعبيد في المجتمع الإغريقي أو اليوناني القديم. وهناك تفسيرات وتقسيمات كثيرة لطبع الإنسان. فمنهم من يقسم طبع الإنسان إلى ناري وترابي وبعضهم يقسم مزاج الإنسان إلى صفراوي وسوداوي ودموي وما إلى ذلك, وهناك جدل كثير حول طبع الإنسان وما زال هذا الجدل محتدما ولم نصل بعد إلى رأي فاصل قاطع فيه إنما هي مسألة اجتهادات لتفسير الموضوع. ولكل مجتهد نصيب. وإذا نحن رجعنا إلى القرآن الكريم نجده بأنه وصف الإنسان بالهلع والجزع والمنع في قوله تعالى في سورة المعارج: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . وفي تفسير هذه الآية حسب تفسير البيضاوي المسمى أنواع التنزيل وأسرار التأويل يرد القول بأن الفطرة أو الخلقة التي طبع الله الناس عليها هي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه أو ملة الإسلام. فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها. وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى زود الإنسان بأشياء في طبعه يدركها بالفطرة. ومن ناحية أخرى نجد أن هذه الفطرة أو هذا الطبع يكتسب أشياء من خلال التربية والتنشئة. ويبدو أن تطبع الإنسان أو ما يكتسبه بالتنشئة والتربية ما هو إلا قشرة أو غطاء على السطح تخفي تحتها الطبع الحقيقي للإنسان: فالإنسان الذي يبدو وديعا مؤدبا في الظاهر قد ينكشف عن إنسان سليط اللسان يسمعك أقذر الشتائم واللعنات إذا ما كشر عن أنيابه واستثاره الغضب كما أشرنا. هذا في الإنسان الذي معدنه رخيص. أما معدن الذهب من البشر فيتكشفون في أي موقف عن طبع أصيل كريم المحتد. فالتربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والتهذيب كلها أمور تخفي تحتها معدن الإنسان الحقيقي وطبعه المطبوع عليه. ويظهر هذا المعدن الحقيقي للإنسان في مواقف الاختيار والشدة. ولذلك قيل لا يعرف الصديق إلا وقت الضيق. والإنسان اللئيم أو الماكر أو المخادع من يخفي طبعه الحقيقي بالمعسول من القول لكنه لا يستطيع أن يخفي طبعه بالفعال إلا إذا

كانت مصطنعة ومقصودة. فالفعال عادة تكشف حقيقة مثل هؤلاء اللئام أو الماكرين أو المخادعين. وقد عبر عن ذلك شاعرنا بقوله: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب وقال آخر: ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإذا اكتسيت به فإنك عار وقد يقال بأن صفات مثل اللؤم أو الدهاء أو الرياء أو الجود أو الشجاعة أو الجود أو البخل وغيرها هي صفات مكتسبة بمعنى أن الإنسان يكتسبها من خلال نوع التربية التي خضع لها والتنشئة التي نشأ عليها. وهذا صحيح. لكن لا ننسى أن كل إنسان ميسر لما خلق له. ولن يكتسب الإنسان شيئا ما لم يكن طبعه مواتيا له. جانب الخير والشر في الإنسان: تختلف وجهات النظر حول الخير والشر في الطبيعة الإنسانية وهناك ثلاثة اتجاهات رئيسية تدور حول هذا الموضوع. الاتجاه الأول يقول بأن الإنسان شرير بطبعه، والخير عارض عليه وهم البوذيون والمسيحيون الذين يرجعون في ذلك إلى خطيئة آدم أبي البشر. فلولا تأصل الشر في طبيعته لما عصى ربه وخالقه. وقد قال بذلك أيضا كل من الفيلسوفين هوبر وسبنسر اللذين يريان أن الإنسان متوحش مطبوع على الشر وسوء الخلق ويمكن تغييره بالتربية. والاتجاه الثاني يقول بأن الإنسان خير بطبعه والشر عارض عليه، وقد أخذ بهذا الرأي سقراط وجالينوس والرواقيون من فلاسفة الإغريق والفيلسوف الفرنسي المعروف جان جاك روسو وقال به من فلاسفة المسلمين وعلمائهم المعتزلة وابن تيمية وابن قيم الجوزية والسلف عموما. إن القول بأن طبيعة الإنسان شريرة أو خيرة يعني أن الطبيعة التي خلق بها الإنسان ثابتة لا يمكن تغييرها أو تعديلها، وأنه لا قيمة للتربية والتعليم في تعديل سلوك الإنسان. وهذا غير صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "حسنوا أخلاقكم" فالأخلاق تتحسن وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فالأخلاق

ليست ثابتة وإنما لها تمام وكمال. وهناك رأي ثالث يقول بأن الطبيعة الإنسانية محايدة، ويقول بهذا الرأي الفيلسوف الألماني كانط وبرتراند راسل البريطاني ودور كايم الفرنسي. ومن المسلمين الغزالي وابن سينا. وقد عبر عن ذلك تعبيرا جيدا "فيلون الإسكندري" الإغريقي بقوله: "ليس الإنسان في أصله وفطرته طيبا أو شريرا بل خلق والفضيلة فيه بالقوة ثم أصبح سيئا أو شريرا بالسقوط في اللذة أو يصبح طيبا بمقاومتها والابتعاد عنها. ويقول وليم مكدوجل في كتابه "الأخلاق والسلوك في الحياة": "إن كل نزعة من النزعات الفطرية ينبوع من الطاقة. أما أن هذه الطاقة ستتجه إلى الخير أم الشر فأمر يتعلق بتوجيهها إلى غايات نبيلة أو وضعية، كما يتعلق بالتحكم الرشيد في هذا التوجيه. إن كل النزعات الفطرية قديرة على فعل الخير والشر". وهذا يعني أن التربية والتوجيه ضروريان لنزعات الإنسان الفطرية إذا أردنا أن نوجهها وجهة خيرة نبيلة. ويرى ليبنتز وابن عربي وغيرهما أن النفس الإنسانية تحتوي على جميع أفعالها فطريا. ويذهبان إلى القول بأن الشر في سلوك الإنسان ناتج عن سوء استخدام الإنسان لحريته، ولهذا نظم الإسلام هذه الحرية في إطار نظام أخلاقي محكم. إن الإسلام يقف موقفا وسطا من الطبيعة الإنسانية، فهو ينظر إليها على أنها محايدة. فكل مولود يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وهذا يعني أن الإنسان يكتسب جانب الخير أو الشر بالتطبع لا بالطبع، وذلك من خلال التنشئة الاجتماعية التي يتعرض لها. ويقول الغزالي: "إن الصبي خلق قابلا للخير والشر جميعا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين". وابن خلدون أيضا يقول: إن النفس مهيأة للخير والشر معا، ولكن استعدادها للخير أكثر فالإنسان أقرب إلى الخير من حيث إنه إنسان. وهذا يعني بالنسبة للتربية الإسلامية أهمية المؤثرات التربوية في تشكيل الإنسان. وإن شخصية الإنسان ما هي إلا محصلة نهائية للقوى والمؤثرات التربوية التي خضع لها في نشأته. كما يعني أيضا ضرورة العناية بتربية النشء المسلم على الخير والكمال والفضيلة. ولقد آثر المعتزلة أن يعبروا عن فلسفتهم الخلقية

بالحسن والقبيح بدلا من الخير والشر. لأن الخير والشر في نظرهم من الصفات النسبية العارضة للحسن والقبح. وليس كل حسن خيرا ولا كل قبيح شرا "محمد السيد الجليند: ص243". الطبيعة الإنسانية وحرية الإرادة: اختلفت النظرة الفلسفية إلى حرية الإرادة عند الإنسان ويمكننا أن نميز ثلاثة اتجاهات رئيسية: الاتجاه الأول: الاتجاه الجبري أو الحتمي: وهو الاتجاه الذي يرى أن الإنسان مجبر في أعماله لا حرية له ولا إرادة فيما يفعل. والذين قالوا بأنه مسلوب الإرادة أمام إرادة الله يعرفون بالجبريين الميتافيزيقيين ومنهم الجبرية من المتكلمين المسلمين، وزعيمها الجهم بن صفوان ولذلك تسمى هذه الفرقة أيضا بالجهمية نسبة إليه. وهو أي الجهم بن صفوان من أهل خراسان من الموالي وأقام بالكوفة وكان فصيحا وخطيبا مصقعا يدعو الناس فيجذبهم إلى قوله. وقد ظهر مذهبه في "ترمذ" وكان كاتبا "وزيرا" للحارث بن سريح. ويقول جهم بن صفوان: إن الإنسان مجبور لا اختيار له ولا قدرة وإن الله قد قدر عليه أعمالا لا بد أن تصدر منه. فكما يجري الماء ويتحرك الهواء ويسقط الحجر فكذلك تصدر الأفعال عن الإنسان يصدرها الله وتنسب إلى الإنسان مجازا كما تنسب إلى الجمادات. فكما يقال: أثمرت الشجرة وجرى الماء وطلعت الشمس وأمطرت السماء وأنبتت الأرض كذلك يقال: كتب محمد وقضى القاضي وأطاع فلان وعصى فلان كلها من نوع واحد على طريق المجاز. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر. والله قدر لفلان كذا وقدر أن يثاب وقدر على الآخر المعصية والعقاب. وقد نهض كثير من علماء المسلمين لمقاومة هذا المذهب والرد عليه. ويقول أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" عن مصير القدرية والجبرية أو الجهمية بأنهما ذابا في غيرهما من المذاهب ولم يعد لهما وجود مستقل وظهر على أثرهما مذهب المعتزلة. والذين قالوا بأنه مسلوب الإرادة أمام قوانين الطبيعة كالريشة في مهب الريح سموا بالجبريين الطبيعيين ومنهم من غير المسلمين هربرت سبنسر وشوبنهور.

والاتجاه الثاني: الاتجاه الحر: الذي يرى أن الإنسان يمارس حرية الإرادة في أعماله وأنه قادر على التصرف بمحض اختياره وبإرادته. ومن أنصار هذا المذهب أفلاطون وأرسطو وليبنتز وكانط. ومنهم أيضا القدرية والمعتزلة والماتريدية من المتكلمين المسلمين ومن بينهم المعتزلة. ويقول أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام "ص45" الذي طبع عام 1996 بمعرفة الهيئة المصرية العامة للكتاب: "وسمي الذين يقولون بأن الإنسان حر الإرادة وله قدرة على أعماله "بالقدرية" وسماهم بذلك خصومهم لحديث ورد: "القدرية مجوس هذه الأمة" وكان الذين يقولون بحرية الإرادة ومنهم القدرية يرون أن أولى الناس بأن يطلق عليهم اسم القدرية هم الذين يقولون بأن القدر يحكم جميع أعمال الناس من خير وشر. وعلى كل حال فقد لصق الاسم بالطائفة الأولى وصار لقبا لها ويوجد خلط وسوء فهم في بعض الكتابات العربية عن هذه الطائفة. ويفهمونها خطأ من اسمها على أنها تنكر حرية إرادة الإنسان "انظر على سبيل المثال: د. فيصل بدير عون: ص399". وعلى عكس "القدرية" هناك طائفة "الجبرية" وكان من أولهم جهم بن صفوان. ولذلك تسمى هذه الفرقة "الجهمية". وهي ترى أن الإنسان مجبر في كل أعماله ولا اختيار له فيها كما أشرنا. ويقول المعتزلة أن معاوية بن أبي سفيان أول من قال بالجبر في الإسلام وعمل على إشاعته بين الرعية ليبرر ولايته بأنها كانت بقضاء الله وهو ما أعلنه معاوية. لأن الخلفاء يتخذون من القدرية وسيلة لنهب الأموال وسفك الدماء وانتهاك حرمة الدين "محمد السيد الجلينيد: ص7". وكثيرا ما يسمى المعتزلة بالقدرية لأنهم وافقوا القدرية في قولهم: "إن للإنسان قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى. وأحيانا يلقب المعتزلة بالجهمية لأنهم وإن خالفوهم في القول بأن الإنسان مجبر على أعماله فقد وافقوهم في نفس الصفات عن الله وفي القول بأن القرآن مخلوق. وقد ألف البخاري والإمام أحمد كتابين في الرد على الجهمية وقصدا بهم المعتزلة لكن المعتزلة يتبرءون من تسميتهم بالجهمية أو القدرية ولا يرضون بأن يتصفوا

بهم. وكانو يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد. أما العدل فلأنهم نزهو الله عما يقول خصومهم من أنه قدر على الناس المعاصي ثم عذبهم عليها وقالوا إن الإنسان حر في أفعاله. ومن أجل هذا يحاسب عليها سواء كانت خيرا أو شرا، وينال عليها ثوابا أو عقابا. وفي هذا عدل. وأما التوحيد فلأنهم نفوا صفات الله وعدوا القول بها تعديدا لله "أحمد أمين: 418-455". ومن أوائل الداعين إلى الاعتزال واصل بن عطاء وعمر بن عبيد. أما واصل فكان من الموالي ولد في المدينة سنة 80هـ ثم انتقل إلى البصرة وسمع من الحسن البصري وغيره وتوفي عام 131هـ. وأما عمرو بن عبيد فكان من الموالي أيضا وتتلمذ على الحسن البصري واعتنق رأي واصل بن عطاء في الاعتزال. وتوفي عام 145هـ. وينقل أحمد أمين عن أحمد بن يحيى المرتضى في كتابه المسمى "بالمنية والأمل" في شرح كتاب الملل والنحل" قوله بأن مذهب الاعتزال يرجع إلى الصدر الأول للإسلام. فقد عد من الطبقة الأولى للمعتزلة الخلفاء الأربعة. وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم. ومن الطبقة الثانية الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب وغيرهم. ومن الطبقة الثالثة الحسن بن الحسن وعبد الله بن الحسن وأبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وهو الذي أخذ عنه واصل بن عطاء. ومن الطبقة الرابعة غيلان الدمشقي وواصل بن عطاء. "المرجع السابق: ص469". وقد نشأ الاعتزال في البصرة وسرعان ما انتشر في العراق واعتنقه من خلفاء بني أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد. وفي العصر العباسي تكونت مدرستان كبيرتان للاعتزال، مدرسة البصرة ومدرسة بغداد وكان بينهما جدال وخلاف في كثير من المسائل. وكان المعتزلة أسرع الفرق استفادة من الفلسفة اليونانية وصبغها صبغة إسلامية والاستعانة بها في نظرياتهم وجدلهم. وكان من أشهر من استخدم الفلسفة من المعتزلة أبو الهذيل بن العلاف والنظام والجاحظ. ويقول أحمد بن أمين المعتزلة هم الذين خلقوا علم الكلام في الإسلام وأنهم أول من تسلح من المسلمين بسلاح

خصومهم في الدين. ويعني بهم من دخل الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهريين وأثاروا كثيرا من الشبهات والشكوك حوله لأنهم لم يكونوا منصفين أو مخلصين في إسلامهم. وقد تصدى المعتزلة لهم وجادلوهم جدالا عنيفا وردوا عليهم شبهاتهم وشكوكهم. الاتجاه الثالث: الاتجاه التوفيقي أو الوسط: الذي يقف في منتصف الطريق فلا يسلب الإنسان من إرادته وفي نفس الوقت هو مجبر وقادر معا. فهو مقيد بقوانين الطبيعة ويمارس حرية الإرادة في ظل هذه القوانين. ومن أنصار هذا الاتجاه ابن مسكويه والغزالي وابن رشد والأشاعرة من المتكلمين المسلمين. فالإنسان يكون مجبرا في مواقف مختلفة لا يملك إزاءها حرية في التصرف منها الجبرية الميتافيزيقية التي تتمثل في الموت الذي هو ملاقيه باعتباره قضاء مقدر عليه. ومنها الجبرية الطبيعية التي تتمثل في حاجاته الأساسية التي تكفل هل الحياة من طعام وشراب وراحة ونوم وغيرها. فليس أمام الإنسان مجال للاختيار في هذه النواحي، وعليه سواء رغب أو لم يرغب أن يأكل وأن يشرب وأن يرتاح وأن ينام وإلا تعرضت حياته للخطر. والإنسان يكون مخبرا في المواقف الأخرى التي يكون أمامه فيها بدائل للاختيار ويبدو ذلك بوضوح في المواقف الحياتية والأخلاقية والمعاملات وتحمل المسئولية. ففي المواقف الكثيرة التي تتضمنها هذه المجالات يطرح الموقف أكثر من بديل للتصرف، ومهمة التربية هنا هي تمكين الإنسان من اختيار البديل الأفضل في السلوك. ولفهم حرية الإرادة في الإسلام ينبغي أن نعرف أن الحرية بمعناها المطلق غير موجودة فلا حرية مطلقة ولا حرية في فراغ وإنما تستمد الحرية مضمونها ومغزاها من النظام والأصول والقواعد. فهل سير القطار على القضبان تقييد لحركة القطار؟ إن القضبان في الواقع شرط لحرية القطار في الحركة. وإلا لما سار على الإطلاق. خذ على سبيل المثال سائق السيارة الذي يسير في الشارع وعليه أن يتوقف عندما يرى الضوء الأحمر ولا يسير إلا إذا رأى الضوء الأخضر. هل يعتبر ذلك قيدا على حريته؟ وهو يمكن له أن يدعي بأنه حر في قيادة السيارة دون مراعاة القواعد والأصول؟ إن حريته هنا مرتبطة بالنظام. وبالمثل يمكن

التمثيل بلاعب الكرة في الملعب هل هو حر في أن يضرب الكرة في أي اتجاه أم أن حريته مقيدة بأصول اللعبة وقوانينها. خذ مثالا آخر لرجل ترك وحده في الصحراء. هل يعتبر هذا الرجل حرا يتصرف كما شاء أم أن حريته محدودة بظروف المكان فهو إن أراد أن يأكل أو يشرب مثلا لا يجد ما يأكله أو يشربه فأين حريته إذن؟ والواقع أن هناك عدة عوامل تحدد الحرية منها عوامل داخلية وأخرى خارجية. أما العوامل الداخلية فهي تتعلق بالإنسان نفسه. ذلك أن التركيب الجسمي والعقلي والنفسي للفرد يحدد مدى حريته. فالإنسان ذو الجسم الضعيف الهزيل أو الذي يعاني من مرض أو نقص جسمي لا يعتبر حرا في نطاق القيود التي تفرضها عليه هذه الأبعاد الجسمية. فهو ليس حرا أن يأكل ما يشاء أو يحيا كما يشاء، وليس حرا في أن يتخلص من الألم الذي يعانيه. وبالعكس يمكن القول عن الجسم الصحيح، فصحة البدن إذن شرط للحرية، ولذلك يعتبر كل تقدم في الميدان الصحي في البلاد عاملا مهما لتحقيق حرية الأفراد كما أن التربية الحديثة لا بد أن تتضمن العناية بالجسم وتقويته. والناحية العقلية للفرد شرط آخر لحريته. ذلك أن الذكاء الإنساني ضروري للحرية. فنجاح الإنسان في حياته يتوقف على تصرفه الذكي. وأمور الحياة لا تستقيم لإنسان غبي. بل إن الحياة نفسها تلفظه وتحاربه باستمرار وحيثما كان. والإنسان الذكي هو الإنسان القادرة على الفهم السليم والتصرف وإدراك العلاقات بين الأشياء في أهدافها القريبة والبعيدة. هو الإنسان المبدع المفكر القادر على التخيل الذي يساعده على تشكيل إمكانيات المستقبل واحتمالاته. والحرية لا يستقيم عودها مع الجهل. فكيف يكون الإنسان حرا لفهم ما حوله من ظواهر الكون والحياة والتعامل الاجتماعي الرشيد وهو جاهل. إن الجهالة قيد على عقله وفكره، وبالتالي لا يمكن أن يكون حرا. وهناك مثل معروف يقول: كلما تعلم الإنسان زادت حريته. ولهذا فإن ذكاء الإنسان وتثقيف عقله وفكره ضرورة تفرضها حريته. وعلى أي برنامج تربوي أن يولي هذه الجوانب عناية كبرى. وكذلك الناحية النفسية للفرد بأبعادها المختلفة من

حب وكره وتعصب وتحيز وتقبل ورفض كلها تحدد سلوك الإنسان. فكيف يستطيع الإنسان ادعاء حريته وهو في الواقع عبد لنزعات النفس وخلجاتها وعبد للعادات التي كونها. خذ مثلا الشخص الذي أصبح التدخين عادة متأصلة لديه، ومستحكمة فيه هل يستطيع أن يمتنع عنها؟ إنه قد يدخن رغم أنفه بحكم قوة العادة وسيطرتها عليه حتى مع أنه من الناحية العقلانية يعرف مضار التدخين على ماله وصحته. فهل تعتبر هذا الإنسان حرا؟ إن حرية الإرادة شرط ضروري لحرية الإنسان ولا يمكن لإنسان أن يكون حر الإرادة وهو غير قادر على التحكم فيها إذ إنه يستسلم لرغباته ونزواته أو دوافعه الجامحة. ولذلك يجب على التربية أن تهدف إلى غرس العادات عند الإنسان منذ بواكير الطفولة, وأن تهتم بالقدوة الصالحة والبعد عن قرناء السوء. وأن تربي الفرد على التحكم في نفسه ليستطيع أن يكبح زمامها وأن يسيطر عليها. كما ينبغي أن نربي ضمير الفرد لأنه خير عاصم له. وعندها يمكن أن يكون الإنسان حرا. ذلك أن الحرية الحقيقية لا تتوافر إلا في ظل الشخصية الكاملة المتكاملة. أما كيف يكتسب الإنسان هذا الكمال والاكتمال فهو موضوع التربية برمته. أما العوامل الخارجية التي تحد من حرية الإنسان فتمثل البيئة المادية والاجتماعية التي تحيط بالإنسان. هذه العوامل الخارجية الهامة هي التي تحدد حريته. فالفقر والغنى مثلا صورتان لمدى ما يتيحه أي مجتمع من ثروة لأفراده. وكلتاهما تحدد مدى الاختيارات والإمكانيات المتاحية للإنسان وبالتالي تحدد حريته. ولذلك يعتبر تحسين مستوى معيشة الأفراد عاملا هاما نحو الحرية ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان الحديث قد استطاع السيطرة على ثرواته المادية والطبيعية بمقدار ما أتيح له من تقدم تكنولوجي هائل. وهو شرط ضروري لحرية المجتمعات المدنية. إلا أن التقدم في هذا الجانب كان بمعدل أسرع من معدلات النمو في الجوانب الأخرى الداخلية والخارجية المحددة للحرية. ويجب على التربية أن تزود الأفراد بالمهارات المعرفية والسلوكية التي تحكمهم وتمكنهم من زيادة دخلهم وتحسين مستوى معيشتهم في الحياة وتنمي تطلعاتهم وآمالهم في الحياة. كما يجب على التربية أن تزود الإنسان أيضا

بالمهارات المعرفية والعملية التي تمكنه من السيطرة على بيئته المادية واستغلال ثرواتها الطبيعية. ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان نفسه يعتمد على غيره منذ أن كان نطفة أو علقة في بطن أمه وهو محتاج إلى العناية والرعاية. وهذا الاحتياج يعني عدم حريته. فالإنسان المحتاج ليس إنسانا حرا. وهو بعد ولادته يظل محتاجا لهذه العناية. وفي تعامله وهو كبير راشد مع الآخرين محتاج إلى تعاونهم اعتماد الناس بعضهم على بعض بصورة متزايدة في المجتمعات الحديثة. وبدون مساعدة الآخرين لن يجد رغيف الخبز الذي يأكله أو الملبس الذي يلبسه أو المواصلة التي يركبها. وغيرها من الأمثلة التي لا تحصى. وهذا يعني تزايد اعتماد الناس بعضهم على بعض. كما يعني ارتباط حرية الفرد بحرية الآخرين. وكذلك نجد أن المعايير والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع وقوانينه وتشريعاته كلها تمثل حدودا لمدى حرية الفرد. وهذا يعني لأي برنامج تربوي ضرورة العناية بتكوين الاتجاهات الصحيحة للفرد نحو نفسه ونحو مجتمعه. وتنمية حساسيته الاجتماعية نحو النظام الاجتماعي وقيمه السائدة. وتعريفه بهما وتعويده على احترامها. وكذلك احترام القوانين والتشريعات وحماية الملكية العامة. إن أعلى مراتب الحرية الكاملة التي ترتبط بالله عز وجل، فهو الذي خلق الكون وأحسن صنعه وخلق الإنسان فأحسن تقويمه. ورتب الناس أمور حياتهم بما يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة. ولذلك يجب ألا يستمد الحرية التي ننشدها للفرد والمجتمع إلا منه وأصولها من المبادئ السامية التي رسمها لنا. وهكذا يصبح الفرد مقيدا في حريته بتأثير البيئة الاجتماعية والطبيعية وما نسميه بحرية الاختيار أو الإرادة هي حرية ظاهرة مقيدة بالنظام فالله سبحانه وتعالى بين لعباده الحلال والحرام وطريق الخير وطريق الشر، وعلى الإنسان أن يختار بينهما إما شاكرا وإما كفورا. فالإنسان إذن مخير وحر الإرادة في الإطار الاجتماعي، وإلى الحد الذي يستطيع معه أن يمارس هذا الاختيار. وهو مجبر أو مسير بمقدار ما تتحكم فيه البيئة الاجتماعية والطبيعية، وبمقدار

ما يتعامل مع القوانين الإلهية التي لا سلطان له عليها. الإنسان إذن مجبر ومسير معا، فهو مجبر لأن الله سبحانه وتعالى منحه عقلا وإرادة يوازن بهما بين الأشياء. ويختار لنفسه ما يحلو له بمحض إرادته. وقد بين الله سبحانه وتعالى للإنسان طريق الخير وطريق الشر وهو الذي يختار لنفسه الطريق الذي يسير فيه {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهو مسير لأن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وما فيه وفق نواميس وقوانين تتحكم في الإنسان وتوجيهه. والإنسان محدود في قدرته الجسمية والعقلية وله حدود لا يتعداها والإنسان يحاول أن يفهم هذه القوانين ما وسعه إلى ذلك سبيلا وقد يستطيع أن ينجح في تسخير قوى الطبيعة والسيطرة عليها. ولكنه في النهاية مقيد بحدود الزمان والمكان. تلك سنة الله في خلقه ولله في خلقه شئون. وهذا يعني بالنسبة للعملية التربوية والمنهج المدرسي أن نعني بتزويد التلميذ بما يمكنه من معرفة الكون والقوانين التي تحكمه بترتيب وانسجام هو من صنع الخالق عز وجل. كما يجب أن يربى التلميذ على احترام النظام واتباع أوامر الدين واجتناب نواهيه. فالله سبحانه وتعالى خلقنا نتحمل المسئولية وأعطانا ضميرا وإرادة حرة. ولكنه أيضا أقام الدين وتعاليمه كقوة تربوية عليا توجهنا وترشدنا فإذا كنا عقلاء، فإننا سوف نتقبل توجيهها ونسير على هديها. وعلى الإنسان أيضا أن يؤمن بالقدر خير وشره فذلك من تمام إيمانه من ناحية واعترافا منه بحكمه الخالق عز وجل التي قد يعز على الإنسان أن يحيط بها. وينبغي أيضا أن يربى الإنسان على الإيجابية لا السلبية فإذا كانت الصحة والمرض من عند الله فإن هذا لا يعني عدم الوقاية ولا عدم سعي الناس للطبيب لعلاجهم إذا مرضوا. فالله خلق الداء وخلق الدواء وطالب عباده بأن يتطيبوا وأن يذهب الإنسان إلى الطبيب لعلاجه إذا مرض. كما يجب ألا يربى المسلم على أن يكون متواكلا سلبي الإرادة. وإنما يجب أن يعرف له دورا يقوم به ومسئولية يجب أن يتحلمها وأنه في ضوء معرفته لقوانين الكون والطبيعة قادر على تسخير ما فيها لتحقيق رفاهيته وسعادته. كما أن الإنسان وهو يمارس حرية الإرادة أو حرية الاختيار في أعماله لا بد وأن يخضع لمبدأ المسئولية والجزاء فهو

مسئول عن أعماله وما يترتب عليها من خير أو شر أو نفع أو ضرر وينبغي أن يحاسب عليها. معرفة الإنسان لنفسه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه". ويقول الأصفهاني في كتابه تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين "ص61": إن أول شيء يلزم الإنسان معرفته نفسه وقد احتلت معرفة الإنسان نفسه مكانة كبيرة في الفكر الفلسفي والعقائدي فقديما اتخذ سقراط لنفسه شعارا "اعرف نفسك بنفسك" ولذلك يقال إنه أنزل الفلسفة إلى الأرض أي الاهتمام بالنفس بدلا من الغيبيات. وقالت بعض فرق المتكلمين الإسلاميين منهم الأشاعرة إلى أن أول ما يجب على الإنسان معرفة الله. ويقول الأصفهاني ليس هناك تناقض بين القولين "معرفة النفس ومعرفة الله" لأن من عرف نفسه فقد عرف الله. فقد روي أن ما أنزل الله كتابا إلا وفيه اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك. ولمعرفة الإنسان لنفسه جوانب متعددة من أهمها "الأصفهاني: تفصيل النشأتين ص62-66": 1- أن الإنسان من خلال معرفته لنفسه يتوصل إلى معرفة غيرها ومن جهلها جهل كل ما عداها. لأن نفس الإنسان مجمع الموجودات ومن عرفها يعرف حقائق هذه الموجودات فانيها وباقيها وحقيقة السماوات والأرض. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . 2- أن من عرف نفسه عرف أعداءه الكامنة فيه المشار إليها بقوله عليه السلام: "أعدى عدو لك نفيسة بين جنبيك". 3- أن من عرف نفسه عرف أن يسوسها، ومن أحسن سياسة نفسه أحسن سياسة العالم فيصير من خلفاء الله المذكورين في قوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} . 4- أن من عرف نفسه لم يجد عيبا في أحد إلا رآه موجودا في ذاته إما ظاهرا أو كامنا فيه كمون النار في الحجر. فلا يكون همازا ولمازا وعيابا

طرق معرفة الله الإنسان لعيوبه: يقول الغزالي إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه ويورد طرقا أربعة لعمل ذلك: الطريقة الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدتها. وهذا شأن المريد من شيخه والتلميذ مع أستاذه. فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه. ويعلق على هذه الطريقة بأنه قد عز في الزمان وجودها. الطريقة الثانية: أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا فينصبه رقيبا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله. فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه إليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين. ويضرب مثلا بداود الطائي الذي اعتزل الناس، فقيل له: لما لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي؟ وهذا يعني أن على الناس أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم لهم. الطريقة الثالثة: أن يستفيد من ألسنة أعدائه في معرفة عيوب نفسه لأنه عين السخط تبدي المساويا على حد تعبير الشاعر في قوله: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه. ويعلق الغزالي على ذلك بقوله إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد. ولكن البصير لا يخلو من الانتفاع بقول أعدائه لأن مساوئه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم. الطريقة الرابعة: أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق يقيس نفسه عليه. لأن المؤمن مرآة المؤمن. فيرى عيوب نفسه من خلال عيوب غيره. ويعمل على تطهر نفسه من كل ما يشينه ويعيبه. وهذا يعتبر تأديبا له. ولو أن الناس تركوا ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب. ويورد الغزالي قول عيسى عليه السلام عندما سئل من أدبك؟ قال: ما أدبني أحد رأيت جهل

الجاهل شينا "أي معيبا". فاجتنبته. "الإحياء ج3 ص62-63". الإسلام يعترف بضعف الإنسان: إن الإسلام يتمشى مع الطبيعة الإنسانية. ونظرا لأن هذه الطبيعة الإنسانية يجتمع فيها نوازع الخير والشر والخوف والحب لذلك دعا الإسلام إلى مخافة الله وخشيته وحبه وطاعته. فالنفس الأمارة بالسوء لا ترتدع عن الشر إلا بالخوف والوعيد. وفي حين أن النفس المطمئنة تكون مدفوعة بالحب وطاعة الله نحو فعل الخير والتمسك بالفضيلة. اعترفت التربية الإسلامية بموضع الضعف في الطبيعة البشرية ومنها الخطأ والنسيان والاستكراه. ولا يحاسب المسلمون على الأعمال التي يمليها عليهم هذا الضعف. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". والإسلام يخفف عن المسلم في حالة ضعفه.. {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} . و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . يقول الشاعر: ما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أن يتقلب وقال تعالى في سورة الكهف: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} . وقال في سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . واعترف الإسلام بجوانب أخرى من ضعف النفس الإنسانية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} وهذه النفس إذا ضعفت قد تدفع الإنسان إلى الشر {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} . كما وصف القرآن الإنسان بكثير من الصفات التي تدل على ضعفه. قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لولا أن الله تعالى أذل ابن آدم بثلاث ما طأطأ رأسه لشيء: الفقر والمرض والموت" "الماوردي: 239". وقد ورد في الأثر: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". ويقول الماوردي: "إن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله أكثر حاجة من جميع الحيوان؛ لأن من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنسه والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه". كما وصف الإنسان بالهلع والجزع إذا مسه

الشر بالطغيان وإذا غنى {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} . {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . وهذا يعني بالنسبة للتربية الإسلامية أن يهتم المعلم بأن يبرز لتلاميذه أن قدرة الإنسان محدودة مهما تقدم ومهما بلغ من العلم وأنه مهما بلغ من القوة لا يخلو من نقاط ضعف. قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . ولهذا ينبغي أن يعرف الإنسان حدوده وألا يتكبر وأن يكون متواضعا وأن يصبر على المكاره كما يجب أن يتذكر نعمة الله عليه ويشكره في حالة اليسر والرخاء. وقال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} . مصير الإنسان: يقول الأصفهاني في "الذريعة إلى مكارم الشريعة" "ص15" إن الإنسان في هذه الدار كما قال علي رضي الله عنه: الناس سفر والدنيا دار ممر لا دار مقر وبطن أمه مبدأ سفره والآخره مقصده وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه يسافر به سير السفينة براكبها. فالإنسان في دنياه مسافر ويحتاج في رحلة حياته في الدنيا إلى التزود بما يلزمه في السفر. وعليه في سبيل ذلك أن يكد ويكدح حتى ينتهي إلى دار القرار. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} "الأصفهاني تفضيل النشأتين: ص136" وبالموت يتم كمال الإنسان وفي ذلك يقول الأصفهاني: اعلم أن الموت المتعارف الذي هو مفارقة الروح البدن هو أحد الاسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدي وهو انتقال من دار إلى دار ... ولولا هذا الموت لم يكمل الإنسان. فالموت إذًا ضروري في كمال الإنسانية "تفضيل النشأتين: ص200".

الفصل الرابع: تربية الطفل في الإسلام

الفصل الرابع: تربية الطفل في الإسلام مقدمة: تمتاز التربية الإسلامية بكثير من مميزات التربية الحديثة في شمولية النظرة إلى التربية كعملية ونتيجة معا. وتعني التربية الإسلامية في مفهومها المطلق بلوغ الكمال الإنساني بالتدريج. والكمال لله وحده عز وجل. وهو مسألة نسبية، لذلك قلنا في مفهومها المطلق. ويبرر هذا الكمال قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} كما أن الإسلام آخر الديانات وأكملها وأتمها. ويضاف إلى ذلك أيضا التشريف والتكريم الذي خص الله به الإنسان وحده دون غيره من سائر المخلوقات وتفضيله إياه على كثير من خلقه. بل وجعله خليفته في الأرض بما تتضمنه هذه الخلافة من رسالة إنسانية سامية. وقلما نجد نظير للتربية الإسلامية في الاهتمام بالطفل وتكريمه. فقد أوجب الإسلام العناية به حتى وهو جنين في بطن أمه وحرم إيذاءه أو إلحاق الضرر به بأي شكل من الأشكال بما في ذلك الإجهاض. وعند مولده يحتفى به ويكرم، ومن مظاهر هذا التكريم ما يعرف في اصطلاح الفقهيين "بالعقيقة" وهي شاة تذبح له في اليوم السابع احتفاء بمولده. وقد حدد الإسلام مراحل نمو الطفل ابتداء من النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم الجنين. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . ويذكر ابن قيم الجوزية في كتابه تحفة المودود بأحكام المولود أن الطفل عند مولده يسمى رضيعا طالما أنه يرضع اللبن فإذا فطم عنه فهو فطيم. فإذا درج فهو صبي. فإذا قارب السبع سنوات فهو غلام مميز. وإذا بلغ العشر سنوات فهو غلام ناشئ ويسمى مراهقا حتى سن البلوغ. إذا قارب الحلم فهو غلام بالغ. فإذا اخضر شاربه لم يعد غلاما وإنما هو فتى أو شاب للذكر وفتاة أو شابة للأنثى. ويسمى

بهذا حتى سن الأربعين. وبعدها حتى سن الستين يكون كهلا وبعدها يكون شيخا. وقد اعترف الإسلام بحقوق الطفل منذ لحظة خروجه حيا إلى الدنيا فأوجب له حق الميراث كالكبير. كما أوجب اختيار أحسن الأسماء له. وإذا مات الطفل فإنه يعامل معاملة الكبير فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن. وإذا كان الإسلام قد حرم قتله قبل خروجه إلى الدنيا فمن الطبيعي أن يمتد هذا التحريم إلى ما بعد خروجه إليها قال تعالى: {لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} . ومن أهم الأشياء التي أوجبها الإسلام للطفل حق الرعاية والتربية حتى ولو كان الطفل لقيطا أو منبوذا. فقد أوجب الإسلام تربية الطفل اللقيط أو المنبوذ ورعايته والإحسان إليه حتى يكبر. وهناك كثير من الأدلة التي تؤكد أن تربية الطفل وتعليمه هي من أوجب الأشياء على ولي الأمر نحو ولده. والأحاديث النبوية التالية هي بعض أمثلة على ذلك: - "ما نحل والد ولدا أفضل من أدب من حسن". - "رحم الله عبدا أعان ولده على بره بالأحسان إليه والتآلف له وتعليمه وتأديبه". - "لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين". - "حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي". ويقول ابن قيم الجوزية: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة. وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم". ويتساوى في هذا الاهتمام بالتعليم الولد والبنت على السواء، فتعليم البنت حق كالولد، ويعترف المربون المسلمون منهم القابسي وغيره بحق البنت في التعليم انطلاقا من أن التكاليف الدينية واجبة على الرجل والمرأة. وهذا يتفق مع روح الإسلام الحقيقية التي جعلت من طلب العلم فريضة

على كل مسلم ومسلمة. ومع تسليم المربين المسلمين بهذا الحق للبنت فإن بعضهم ومنهم ابن سحنون والقابسي على سبيل المثال، يذهب إلى عدم الخلط بين الصبيان والإناث في التعليم لاعتبارات أخلاقية تربوية، كما ينبغي أن تعلم البنت ما فيه صلاحها ويبعدها عن الفتنة. من أين تبدأ: من الأمور الطبيعية أن تبدأ تربية الطفل بتنمية الجسم حتى يشب صحيحا قويا. أما التعليم المنظم فيبدأ عندما يصل الطفل إلى سن العقل أو التمييز، ولنستعرض أولا هذه النصوص: - قال عليه الصلاة والسلام: "أدبوا أولادكم وأحسنوا أدبهم". وقال صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع". ومما يروى: "لاعب ولدك سبعا وصاحبه سبعا ثم اترك حبله على غاربه". ويقول ابن سينا: "إذا فطم الصبي عن الرضاع بدأ تأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة، فإن الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق فما تمكن منه ذلك غلب عليه فلم يستطع له مقاومة"، "وإذا أتى عليه "الطفل" من أحواله ست سنين فيجب أن يقدم إلى المؤدب والمعلم" لأن في هذه المرحلة "تشتد مفاصل الصبي ويستوي لسانه ويتهيأ للتلقين ويعي سمعه". ومما يروى أيضا: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". ويذكر ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء" في ترجمته لعلي بن رضوان المصري نصا قاله عن نفسه ذكر فيه أنه بدا تعليمه في السادسة فيقول: "فلما بلغت السادسة أسلمت نفسي في التعليم". ويقول أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: "وللقوم في التعليم سيرة بديعة وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب". ومن الأمثلة السابقة يتضح أن سن التربية في الإسلام بمفهومها الواسع الشامل يبدأ منذ لحظة الميلاد، أما بداية التعليم المنظم فتكون عند بلوغ سن العقل والإدراك والتمييز. وهذا السن يتراوح عادة بين السادسة والسابعة. وليس هناك ما يمنع من أن يكون قبل ذلك إذا كان ما يبرر ذلك أو يقتضي

ذلك من مصلحة أو منفعة. ومن المعروف أن علم وظائف الأعضاء قد توصل إلى أن اكتمال نمو العين عند الأطفال يكون في سن السادسة وقبل هذه السن يكون الطفل إما طويل النظر أو قصير النظر. أليس ذلك مبررا لجعل هذه السن بداية سن التعليم المدرسي المنظم في كثير من النظم التعليمية المعاصرة. وتبعا لاختلاف نمو الصبيان في بلوغ سن العقل والتمييز. ومع تقدم السن تزداد مطالب التعليم وتنمية العقل. كما يتضح أيضا أن مرحلة ما قبل سن التعليم المنظم تنصرف إلى تنمية الجسم وبنائه بناء صحيحا قويا. وهكذا تبدأ تربية الطفل بتربية الجسم وتحقيق مطالب نموه. وفي هذه المرحلة تكون تربية الجسم موزعة بين الغذاء واللعب والاستجمام والراحة كمطالب رئيسية. يقول ابن سينا: "إذا انتبه الصبي من نومه فالأحرى أن يستجم ثم يخلي بينه وبين اللعب ساعة ثم يطعم شيئا يسيرا ثم يطلق له اللعب وقتا أطول ثم يستجم ثم يغذى".

نشاط الطفل دليل صحة

نشاط الطفل دليل صحة: أدرك المربون المسلمون أن من طبيعة الطفل أن يكون نشيطا كثير الحركة، وأدركوا أن نشاط الطفل دليل على صحة جسمه ويقظة عقلة وصفاء ذهنه. وإذا بدا الطفل هادئا قليل النشاط فإن ذلك يعتبر أمرا غير طبيعي بالنسبة له وقد يرجع ذلك لمرض أصابه أو أمر أحل به، وهكذا عكس ما هو شائع لدى الكثير من الناس إذ ينظرون إلى الأطفال كثيري الحركة على أنهم "أشقياء" وأما قليلو الحركة والنشاط فينظرون إليهم على أنهم "عقلاء" ومتزنون. فطرة الطفل محايدة: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وقال ابن مسكويه في "تهذيب الأخلاق" عن نفوس الأطفال في مرحلة المهد إنها: "ساذجة لم تنتبش بصورة" وقال "ابن الجزار" علام القرن الرابع الهجري في "سياسة الصبيان" وتدبيرهم: "وليس لهم "الصبيان" عزيمة تصرفهم عما يؤمرون به من المذاهب الجميلة والأفعال الحميدة

فمن عود ابنه الأدب والأفعال الحميدة والمذاهب الجميلة في الصغر حاز بذلك الفضيلة ونال المحبة والكرامة وبلغ غاية السعادة". ويقول الغزالي في نفس المعنى: "الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يقال فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه كل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له". وهكذا تؤكد هذه النصوص أن فطرة الطفل محايدة عند مولده وأنها تتشكل فيما بعد تبعا للون التربية الذي تتلقاه. التعليم في الصغر كالنقش على الحجر: يرى الكثير من علماء المسلمين، منهم الغزالي وابن خلدون وغيرهما، أن التعليم في الصغر يكون أشد رسوخا كما أنه يكون أصلا لما بعده. وهكذا ينبغي أن يبدأ تعليم الصبيان من صغرهم فقد ورد في الأثر: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" وقد سبق أن أشرنا إلى ما يؤكده الغزالي على سبيل المثال عندما يقول عن الصبي "وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش عليه". وقد ردد هذا القول "جون لوك" بعد حوالي 13 قرنا من الزمان عندما ذهب إلى أن عقل الطفل صفحة بيضاء تنقشه الخبرة والتعليم. الصبي عن الصبي ألقن: من المبادئ التربوية التي أخذ بها المربون المسلمون تعلم الصبيان من بعضهم فالصبي يتعلم من الصبي ويأخذ عنه. وعبر ابن سينا عن ذلك أحسن تعبير عندما قال: "ويكون مع الصبي في مكتبه "مدرسته" صبية حسنة آدابهم مرضية عاداتهم لأن الصبي عن الصبي ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس". ومن قبيل المقارنة نشير إلى أن هذا المبدأ التربوي القديم في التربية الإسلامية هو من المبادئ التي تقوم عليها التربية الحالية في مدارس روسيا أو الاتحاد السوفيتي سابقا وبعض البلدان الأخرى.

ليس الكل سواء: تسلم التربية الإسلامية بأن الأطفال يختلفون في استعداداتهم وما هيئوا له، وأن بينهم فروقا في القدرة على التعلم وأن بعض الأطفال أقدر من غيرهم في تعلم مجالات معينة من العلم. كما أن منهم من لا يصلح تعليمه إلا لحد معين لا يتعداه. ويرى المربون المسلمون ضرورة توجيه الطفل أو الصبي إلى ما يناسبه من تعليم، وأن يترك ما لا يقدر عليه إلى ما يقدر عليه. ويقول أبو يحيى الأنصاري في اللؤلؤ النظيم في روم التعليم: "إن على كل صبي أن يعرف طرفا من العلوم الضرورية في الحياة كالقراءة والكتابة والحساب. ثم عليه بعد ذلك أن يتجه إلى العلم أو الحرفة على حسب استعداده وتكوينه إذ ليس كل أحد يصلح لتعلم العلوم يصلح لجميعها" ويقول الزرنوجي في "تعليم المتعلم طريق التعليم": "إنه لا ينبغي على المتعلم أن يختار نوع العلم بنفسه بل يفوض أمره إلى الأستاذ فإن الأستاذ قد حصل له من التجارب في ذلك ما يفيد فهو أعرف بما ينبغي لكل واحد وما يليق بطبيعته". ويقول ابن جماعة: "وإذا علم "المعلم" أو غلب على ظنه أنه "أي المتعلم لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه". - وقد قال الشاعر: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع ويقول ابن سينا: "ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية، ولكن ما شاكل طبعه وإنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والملاءمة ما كان أحد غفلا من الأدب. وإذن لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف الآداب وأرفع الصناعات، فينبغي لمدرب الصبي إذا رام اختيار صناعة أن يزن أولا طلب الصبي ويسبر قريحته ويختبر ذكائه مبينا له الصناعات طبقا لذلك". كما يرى ابن سينا أن بعض الناس لا يصلحون للتعليم فيقول: "ربما نافر طباع إنسان جميع الآداب والصنائع فلم يعلق منها بشيء" ويضرب لذلك مثلا فيقول: "إن إناسا من أهل العقل رأوا تأديب أولادهم واجتهدوا في ذلك وأنفقوا فيه الأموال فلم يدركوا من ذلك ما حاولوا".

مراحل التربية الخلقية

مراحل التربية الخلقية: يميز علماء المسلمين بين مرحلتين رئيسيتين في التربية الأخلاقية للطفل، المرحلة الأولى ويسمونها بمرحلة "التخلية" أي تخلية طبع الطفل من كل رذيلة وإبعاده عن كل مؤثرات الشر والسوء وعدم مخالطته لقرناء السوء, فقد نهانا الرسول عن قرناء السوء فقال: "إياك وقرين السوء" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب الفاجر فتتعلم فجوره" وقال: "إن الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التحلية والتزكية ويقصد بها تحلية الطفل بالفضائل الكريمة والأخلاق المحمودة عن طريق تشربه لهذه الأخلاق واكتسابه العادات الحسنة من مخالطته للقدوات الصالحة. والمسلم الكامل هو الذي اكتملت أخلاقه بإكمال دينه وإيمانه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم إسلاما أحاسنكم أخلاقا إذا فقهوا". يضاف إلى ذلك أيضا ما سبق أن قلناه عن التربية الإسلامية باعتبارها تربية متدرجة. التدرج في تربية الطفل: التربية الإسلامية كما سبق أن أشرنا تربية متدرجة تتمشى مع طبيعة نمو الإنسان، وقد جاء الإسلام نفسه متدرجا في أحكامه التي ربي عليها المسلمون الأوائل، ومن مظاهر تدرج التربية الإسلامية الاهتمام بتربية الجسم في السنوات الأولى من حياة الطفل حيث تكون هذه التربية ألزم ما تكون لنموه الجسمي السريع في هذه المرحلة. ثم تأتي مرحلة التأديب والتهذيب والتعليم بعد هذه المرحلة عندما يصل الطفل إلى سن العقل والتمييز، ولهذا تكون التربية في هذه المرحلة تربية عقلية أخلاقية. وأخيرا تأتي مرحلة النضج والاكتمال حيث يكون الإنسان قد وصل إلى المرحلة التي فيها المسئولية كاملة ويقوم بواجباته وأدواره الاجتماعية في الحياة كراشد مسئول يتحمل فيها نتائج تصرفاته وأعماله. وعلى مستوى تعليم الصبيان أشار علماء المسلمين إلى ضرورة التدرج في تعليم الصبي والبدء بالأشياء السهلة ثم الانتقال منها إلى ما هو أصعب.

ويطالبون المعلم بألا يخوض في العلم دفعة واحدة بل يتدرج فيه مع مراعاة الترتيب بالأهم. وكذلك ينبغي عليه ألا يخوض في علم إلا بعد أن يستوفي ما قبله، فالعلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق بعض. ويميز ابن خلدون بين ثلاث مراحل سماها "تكرارات" في التعليم. المرحلة الأولى يكون التعليم فيها إجمالا والثانية تفصيلا والثالثة تتناول ما استشكل في العلم ومسائل الخلاف فيه. وسنشير إلى تفصيل رأي ابن خلدون. ويؤكد الغزالي على ضرورة فهم المعلم لطبيعة الصبي، وهذا يتأتى من دراسته لنفسية الصبيان الذين يعلمهم فهم ليسوا سواء، وهذه الدراسة تساعده من ناحية أخرى على إيجاد الصلة الإنسانية بينه وبينهم. وعلى المعلم أن يتدرج في تعليم الصبي وأن يبدأ معه من السهل إلى الصعب. وفي ذلك يقول الغزالي: "إن أول واجبات المربي أن يعلم الطفل ما يسهل عليه فهمه لأن الموضوعات الصعبة تؤدي إلى ارتباكه العقلي وتنفره من العلم". تعلم آداب المأكل والمشرب والملبس وبعض الآداب العامة: وضع الإسلام للمأكل والمشرب والملبس آدابا كما وضع آدابا عامة ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم. كما ينبغي على كل مسلم أن ينشئ أولاده وأهله عليها. فمن الآداب العامة في كل هذه الأمور الاتزان، والاعتدال، وعدم المبالغة فيها، أو التباهي بها، أو التفاخر. فقد ورد في الأثر "حسب ابن آدم من طعامه لقيمات يقمن صلبه". و "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه". و "جوعوا تصحوا". و "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع". وقد حدثنا ديننا على أن نراعي في مطعمنا ومشربنا ألا نملأ معدتنا بالطعام حتى لا نصاب بالبطنة وهو مرض يصيب المسرفين الجشعين في الطعام والشراب، وأن نراعي أن يكون ثلث معدتنا للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس. كما أن الإنسان يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل. قال ابن قدامة: "شهوة البطن من أعظم المهلكات وبها أخرج آدم عليه السلام من الجنة. ومن شهوة البطن تحدث شهوة الفرج والرغبة في المال، ويتبع ذلك آفات كثيرة كلها من بطر الشبع". وهذا يذكرنا بما ورد في الأثر عن جماعة من الناس "قوم إذا جاعوا سرقوا وإذا شبعوا زنوا". وبالنسبة للملبس أو

اللباس فالغرض منه ستر العورة وحماية الجسم. ويجب أن يتخير المرء من اللباس ما يحقق هذا الغرض بدون إسراف أو رغبة في التفاخر، وأن يتخير لنفسه ولأهله من اللباس ما لا يرهقه بالمال أو لا يقدر عليه فالمثل يقول: "على قدر لحافك مد رجليك". ومن الآداب التي نادى بها علماء المسلمين في تربية الأطفال والصبية على آداب الطعام أن نعودهم منذ البداية إذا جلسوا على مائدة الطعام ألا يبادروا أو يسرعوا إلى الطعام بل عليهم أن ينتظروا حتى يجتمع شمل الجميع ويبدءوا جميعا في الأكل معا. كما لا ينبغي لهم ألا يقبلوا على الطعام بنهم أو شره أو أنانية ولا يأخذوا منها إلا كمية قليلة تقل عن حاجتهم فإذا أرادوا المزيد فليتزودوا بحيث لا يتركون فائضا من الطعام في طبقهم أو أمامهم. وعليهم ألا يبلعوا الطعام أو يزدردوه ازدرادا بل عليهم أن يحسنوا مضغة لأن في جودة المضغ تسهيل لهضمة ولا ينبغي للأطفال أو الصبية أن يديموا النظر أو يمنعوه في أنواع الطعام الموجودة أمامهم وأن يتناولوا منها ما هو أقرب إليهم وألا يزاحموا أحد آخر إذا كان قد سبقهم إلى نوع من الطعام. بل عليهم الانتظار قليلا حتى ينتهي من سبقهم ويأتي دورهم. وينبغي على الصبي ألا يحدث صوتا أثناء الأكل أو أثناء مضغ الطعام أو أثناء شرب الماء وأن يصغر لقمته بمقدار فمه ولا يملأ فمه بالطعام المتواصل وتوالي اللقم بسرعة بل ينتهي أولا من مضغ ما أكل وبلعه ثم يبدأ في تناول غيره. وينبغي على الصبي أيضا ألا يلطخ أو يوسخ يده أو فمه أو ثوبه بالطعام لأن هذا يثير اشمئزاز الجالسين معه ولو كانوا أهله وأخوته. وينبغي ألا يلحظ من يؤاكله ولا يتتبع بنظره مواقع يده من الطعام وأن يؤثر غيره بما يليه وإن كان أفضل مما عنده وأن يضبط شهوته ويقتصر على أدنى الطعام. وينبغي أن يربي الصغير على أن الطعام يراد به صحة الجسم للعيش لا لذة الطعام والإسراف فيها لأننا نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل كما سبق أشرنا. ويرى بعض علماء المسلمين أن تكون الوجبة الرئيسية هي العشاء وليست الغذاء كما يجري العادة لأن ذلك يساعد على عدم الكسل أو النوم أثناء النهار. كما يرون أن من الأنفع للصبي عدم الإسراف في أكل اللحم أو الحلوى لأن الأكثار منها يضر الجسم كما

أنه يعود الصبي النهم والشره ومحبة الأكل. وينبغي أن يعود الطفل على الأكل في مواعيد منتظمة كما ينبغي أن يقتصد جهد الطاقة فيما يدخل بطنه من أطعمه أو حلوى أو مشروبات بين الوجبات أو بين كل أكله وأخرى. وينبغي أن يبدأ طعامه بالبسملة وينهيه بحمد الله وشكره والدعاء بإدامة النعمة من الله. كما ينبغي عليه أن يستخدم يده اليمنى في الأكل لقوله صلى الله عليه وسلم ينصح غلاما: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" وينبغي أن يغسل يديه وفمه بعد الأكل ويفضل أن يستخدم السواك أو الفرشاة لتنظيف أسنانه بعد كل وجبة لا سيما بالليل وفي أول الصباح. وبالنسبة للباس والزينة فيجب أن يقتصد الصبي فيها على قدر الحاجة ولا يتشبه بالنساء في اللباس أو لبس الخواتم أو السلاسل أو الساعات الذهبية أو المصنوعة من الذهب أو الجواهر الثمينة أو ما يوحي بحب الظهور أو التفاخر. ولا يجب أن يفتخر الصبي على أقرانه بأي شيء يملكه بل يجب أن يكون متواصعا مع كل من يعامله من الرفاق. كما ينبغي أن يعود الصبي على عدم ترك شعره طويلا بل يبادر إلى قصه وحلاقته كما يقص أظافره ويقلمها أيضا كلما طالت. ومن الآداب العامة الأخرى التي ينبغي تعويد الطفل عليها أن يعود على طاعة الله وطاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه وأن يمنع من الكذب وعدم الحلف صادقا أو كاذبا وأن يتعود الصمت وقلة الكلام ويكون للرد أو الجواب دون لغو في القول، وأن يمنع من السب والشتم واللعن، وأن يعود التأدب والوقار والاحتشام والتواضع، وأن يحترم ويوقر من هو أكبر منه وأن يعطف علي ويرحم من هو أصغر منه وأن يعود خدمة نفسه ومن وهو أكبر منه. وأن نربيه على الإيثار لا الأنانية وحب الذات. كما نربيه على السعي في الخير وأداء الواجب وعدم التقصير فيه ومراعاة حقوق الغير كالجار والصديق والفقير والمريض والمحروم واليتيم والضعيف وما شابه ذلك. ويجب أن يحبب إلى الصبي العلم وتلقيه والحرص عليه وأن نطالبه بحفظ ما تيسر من القرآن الكريم وجيد الشعر والنثر ومحاسن الأخبار وسير العظماء. وعلى الأهل والآباء أن يمتدحوا في الصبي كل ما يبدو منه من فعل جميل وخلق

نبيل وسلوك حسن. وأن يكرموه ويكافئوه عليه. وفي حالة الخطأ أو التقصير لا يجب أن يكاشف به ولا يوبخ عليه ويتغافل عنه لا سيما إذا حاول الصبي إخفاءه وستره لأنه عندئذ يكون قد أحس بخطئه ولهذا تترك له الفرصة لتقويم نفسه بنفسه؟ فإن عاد إلى ذلك وكرره أو لم يحاول إخفاءه وجب توجيهه وإرشاده بطريقة غير مباشرة. ولا يجب أن يستخدم التأديب أو اللوم أو التقريع أو الضرب لتأديب الصبي لأن ذلك يسبب له بلادة الحس وينمي في نفسه نزعة التمرد والعصيان. ويكون استخدام مثل هذه العقوبات بقدر يسير دون زيادة في الألم في حالة الضرورة وفي نهاية المطاف على طريقة العرب في العلاج والتي يحددها القول المعروف "آخر العلاج الكي" ويرى بعض علماء المسلمين منهم الغزالي وابن مسكويه أن يؤذن للصبي في بعض الأوقات باللعب لعبا جميلا يستريح إليه من عناء التعب والتعليم وحضور الدروس وأن يكون لعبه في غير ألم أو عنف أو تعب شديد. وقد أشرنا إلى تفصيل ذلك في كلامنا عن الغزالي ويستحسن الرجوع إليه. تعلم آداب الاستئذان: ومن الآداب التي يتعلمها الطفل من صغره أيضا أدب الاستئذان. إذ يجب عليه أن يتعلم الاستئذان في الدخول على أهله ولا سيما في أوقات معينة مثل وقت الراحة والنوم حين يكون الإنسان معرضا لظهور عورته فيطلع عليها الطفل. قال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} . وإذا بلغ الطفل الحلم ويبلغ الرجال فليستأذن: قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . الدين أصل الأخلاق: يعتبر المربون المسلمون الذين أصل الأخلاق، فالدين أساس التربية الخلقية في الإسلام، ولذلك يجب أن يعمل التعليم على تهذيب الأخلاق، وأساس

الأخلاق عنده الضمير الخلقي الحي المستمد من الدين الذي يعتمد على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ما الإيمان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ويكون اكتساب الأخلاق عن طريق التعليم والقدرة، ولذلك كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ذا فائدة تعليمية خلقية عظيمة. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ويبين ابن مسكويه أثر الدين في أخلاق الصبيان فيقول: "والشريعة هي التي تقوم الأحداث وتعودهم الأفعال المرضية وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسانية". "وعلى الوالدين أخذهم بها وبسائر الآداب الجميلة بضروب السياسات من الضرب إذا دعت إليه الحاجة أو التوبيخات أو الإطماع في الكرامات أو غيرها مما يميلون إليه من الراحات أو يحذرونه من العقوبات، حتى إذا تعودوا ذلك واستمروا عليه مدة من الزمان كثيرة أمكن فيهم حينئذ أن يعلموا براهين ما أخذوه تقليدا". الطاعة أساس الفضائل: تعتبر الطاعة أساس الفضائل في التربية الإسلامية، وقد أوجبها الله عز وجل بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . فالطاعة لكل هؤلاء مظهر للخلق الكريم. ويقول ابن مسكويه: "وينبغي أن يعود الطفل طاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه وأن ينظر إليه بعين الجلالة والتعظيم ويهابهم". الفضائل والرذائل: إن الفضائل من تمام كمال الإنسان وقد تنبه المسلمون إلى أثر تكوين العادة في اكتساب الفضائل لدى الإنسان، ولذا يوصون المعلم بتوجيه الصبيان إلى العادات الحسنة وإبعادهم عن الرذيلة، وأول الصفات الطيبة التي يتحلى بها في نظرهم هي الطاعة كما سبق أن أشرنا. ومن الصفات الطيبة النظام، فالفوضى مفسدة للصبيان ويقتضي النظام من الصبيان الانتظام في الحضور وعند الانصراف من الدرس والتحلي بالنظام في

الدرس والأعمال المدرسية. والعبادات الإسلامية خير ما يعود على الطاعة والنظام، ولذا كانت ممارستها واجبة. والمعلم مطالب بتعليمها للصبيان باعتبارها أصل الفضائل وعصمة الرذائل -كما أشرنا أيضا. ويؤكد ابن الجزار على أخذ الصبيان بالأدب منذ الصغر، لأن العادة طبيعة ثانية وقد قال أحد الفلاسفة: "إن أكثر الناس إنما أوتوا سوء مذاهبهم من عادات الصبا إذا لم يتقدمهم تأديب وإصلاح أخلاقهم وحسن سياستهم فلذلك أمرنا نحن أن يؤدب الصبيان وهم صغار لأنهم ليست لهم عزيمة تعرفهم بما يؤمرون من المذاهب الجميلة والأفعال الحميدة والطرائق المثلى، ولم تغلب عليهم بعد عادة رديئة تمنعهم من اتباع ما يراد بهم من ذلك. فمن عود ابنه الأدب والأفعال الحميدة والمذاهب الجميلة في الصغر حاز بذلك الفضيلة ونال المحبة والكرامة وبلغ غاية السعادة، ولما كان للعادة هذا التأثير الكبير وجب أن يؤدب الأطفال ويعودوا على الأشياء الجميلة وتربيتهم تربية فاضلة. وقد قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه ويقول ابن الجزار القيرواني عالم القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" في كتابه سياسة الصبيان وتدبيرهم: أن يؤخذ الصبيان بالأدب منذ الصغر لأنهم أسلس قيادة وأحسن مواتاة وقبولا. فإن قال لنا قائل: قد نجد من الصبيان من يقبل الأدب قبولا سهلا، ونجد منهم من هو كثير الحياء ونجد منهم من يعني بما يعلمه ويتعلمه بجد واجتهاد ونجد من هو يمل التعليم ويبغضه، وقد نجد أيضا ذوي العناية منهم وذوي العلم من إذا مدح تعلم علما كثيرا. ومنهم من يتعلم إذا عاتبه المعلم ووبخه، ومنهم من لا يتعلم إلا للخوف من الضرب. وكذلك نجد اختلافا كثيرا ومطردا في الذين يملون التعليم ويبغضونه. ويبدو أن ابن الجزار يأخذ في تربية الأطفال بمبدأ الطبع من التطبع أي أن طبائع الأطفال إنما تكون بتطبعهم وتربيتهم، وهذا مبدأ إسلامي سليم، ويتمشى

ابن الجزار أيضا مع المبدأ الإسلامي في تربية الطفل بأن آخر العقاب الضرب بعد أن تفشل الوسائل الأخرى مثل الترغيب والترهيب. العدل في المعاملة: إن أساس المعاملة في الإسلام هو العدل، يستوي في ذلك الصغار والكبار على السواء. فقد أوجب الإسلام على الآباء العدل بين أولادهم. قال صلى الله عليه وسلم: "اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدل بينكم" وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم". كما أوجب على الآباء المساواة بين الأبناء وعدم التمييز بينهم في المأكل والملبس والعطاء والمحبة والتقدير. احترام الطفل ومعاملته باللطف: تؤكد التربية الإسلامية على ضرورة احترام الطفل واحترام شخصيته وعدم التقليل من شأنه لصغره. كما يجب معاملته باللطف واللين، ومن الشواهد على ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا مر على الصبيان سلم عليهم، واقتدى صحابته به في ذلك. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لا يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلاطف الأطفال ويمازحهم ليدخل السرور على قلوبهم كما كان يهش ويبش في وجوههم. ويروى أن أناسا من الأعراب قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قال: "نعم" قالوا: لكنا والله ما نقبل: قال صلى الله عليه سلم: "أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلوبكم" وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان له صبي فليتصاب له". الرفق في المعاملة: من الاعتبارات الإسلامية الهامة في معاملة الصبي الرفق به، وعلى المعلم أن يترفق بتلاميذه ولا يتشدد معهم. ومن حسن رعايته لهم أن يكون بهم رفيقا وعليه أن يجريهم منه مجرى بنيه. وإذا ما أخطأ الصبي منتهكا الطريق السوي راضه المعلم مبينا له السبيل التي ينبغي سلوكها وأول سبل الرياضة الإفهام والتنبيه. يقول ابن مسكويه: "وإذا أخطأ الصبي فأولى ألا يوبخ عليه ولا يكاشف بأنه أقدم عليه بل

ويتغافل عنه تغافل من لا يخطر بباله أنه قد تجاسر على مثله ولا هم به ولا سيما إن ستره الصبي واجتهد في أن يخفي ما فعله عن الناس". "فإن عاد فليوبخ عليه سرا ... ويحذر من معاودته فإنك إذا عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة وحرضته على معاودة ما كان استقبحه وهان عليه سمع الملامة". "والذنب الأول الذي يرتكبه الصبي يعفى عنه والثاني يعاتب عليه عتابا غير مباشر كأن يقال له: إن فعل كذا وكذا قبيح والثالث يعاتب عتابا مباشرا. فإن عاد إلى ذلك ضرب ضربا خفيفا. فإذا استعمل المعلم هذه الطرق ولم ينته الصبي فعليه أن يتركه مدة ثم يعود إليه بنفس الطرق". الشدة مضرة بالمتعلم: عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته عن الشدة على المتعلمين وأنها مضرة بهم قال فيه: "إن إرهاق الجسد في التعليم يضر بالمتعلم ولا سيما في أصاغر الولد لأن من كان مرباه بالعنف والقهر من المتعلمين ذهب نشاط نفسه ودعاء ذلك إلى الكسل وحمله على الكذب والتظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه. وربما صارت له هذه عادة وخلقا فتفسد معاني الإنسانية عنده وتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل". ضرورة المدح والتشجيع: يتفق المربون المسلمون على ضرورة مدح الطفل وتشجيعه إذا ما أظهر أي شيء يستحق المدح، وذلك تشجيعا له. ويقول ابن مسكويه في "تهذيب الأخلاق": "ويمدح الصبي بكل ما يظهر فيه من خلق جميل وفعل حسن يكرم عليه" "وعلى المعلم أن يغبطه على إحسانه ... ليعرف وجه الحسن من القبح فيدرج على اختيار الحسن". لزوم التأديب: إن تأديب الطفل كما يقول الماوردي يلزم من وجهين: أحدهما ما لزم الوالد لولده في صغره. والثاني: ما لزم الإنسان في نفسه عند نشأته وكبره. فأما

التأديب اللازم للأب، فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها، فينشأ عليها فيسهل عليه قبولها عند الكبر، لاستئناسه بمبادئها في الصغر، لأن نشأة الصغير على الشيء تجعله متطبعا به، ومن أغفل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيرا. وقد روى عن النبي "صلى الله عليه وسلم": أنه قال: "ما نحل والد ولده نحلة أفضل من أدب حسن يفيد إياه أو جهل قبيح يكفه ويمنعه منه" وقال بعض الحكماء: بادروا بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال وتفرق البال ... وقال بعض الشعراء: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولا يلين إذا قومته الخشب قد ينفع الأدب الأحداث في الصغر ... وليس ينفع عنده الشيبة الأدب وقال آخر: ينشو الصغير على ما كان والده ... إن الأصول عليها ينبت الشجر وقال شاعر آخر في هذا المعنى: وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه وذلك لأن النفس البشرية تحتاج دائما على التطبع بالخصال الحميدة وإلا خرجت عن طبيعتها. وقد قال البوصيري في بردته المشهورة: والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم آخر العقاب الضرب: إن العقوبة مشروعة في الإسلام وجعل الله لنا في القصاص حياة. وقد أقر المربون المسلمون مبدأ عقاب الصبيان، لكنهم اشترطوا الرفق بهم تمشيا مع روح الإسلام التي تتسم بالرحمة والعفو. كما أن منزلة المعلم من الصبي هي منزلة الوالد. وهو مطالب أن يكون رفيقا به عادلا في عقابه غير متشدد فيه، ومن الرفق ألا يبادر المعلم إلى العقاب إلا إذا أخطأ الطفل، وإنما ينبهه مرة بعد أخرى فإذا لم ينتصح لجأ إلى العقاب. وقد نهى المربون المسلمون عن استخدام أسلوب الحرمان من الطعام والشراب في العقاب، لما له من أثر على صحة الطفل في هذه المرحلة، ونهوا المعلم عن الانتقام في العقاب، وضرب الصبيان في حالة الغضب

حتى لا يكون "ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه". وأشاروا إلى اتباع أسلوب الترغيب والترهيب في معاملة الصبيان. فأقروا الضرب كعقوبة إلا أنهم اشترطوا لها شروطا من أهمها: 1- لا يجوز ضرب الأطفال قبل العاشرة لقوله: "واضربوهم لعشر". 2- لا يجوز ضرب الطلاب الذين تقدمت أعمارهم. 3- ألا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب وللضرورة القصوى ولا يكثر فيه. 4- أن يكون العقاب على قدر الذنب لا للتشفي. 5- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن ولي الأمر فيما زاد عن ذلك. 6- أن يقوم المعلم بالضرب بنفسه ولا يوكله لواحد من الصبيان. 7- أن يكون الضرب على الرجلين ويتجنب الضرب على الوجه والرأس أو الأماكن الحساسة من الجسم. 8- أن تكون آلة الضرب هي الدرة أو الفلقة، ويجب أن يكون عود الدرة رطبا مأمونا. ضرورة الترويج واللعب: من المعروف أن الطفل يقضي جزءا كبيرا من سنوات عمره الأولى في اللعب ... وبعض صغار الحيوانات على سبيل المثال كالقطط والجراء وهي صغار الكلاب تقضي وقتا كبيرا من حياتها تلعب وتمرح. والأم سواء بالنسبة للإنسان أن الحيوان تشارك الصغار في هذا اللعب. ويميل الأولاد عادة إلى اللعب بالأشياء الميكانيكية الآلية والعسكرية وبناء القلاع والحصون. أما البنات الصغيرات فيملن إلى اللعب بالعرائس والمنازل والحيوانات. وهذه الأشياء كما يبدو تتصل بحياة وأعمال الكبار. وقد لا يكون للأطفال الاختيار في لعبهم لأن الكبار هم الذين يقدمونها لهم. وهم بذلك يحددون نوع اللعب المناسبة للبنت والولد في ضوء أفكارهم وقيمهم وتوقعاتهم. وقد أكد المربون في الشرق والغرب أهمية اللعب في التربية لأن الطفل من

خلاله يكتسب مهارات معرفية وحركية وجسمية فضلا عن أنه عن نفسه بل إن بعض الباحثين يرى أن البحث العلمي ما هو إلا استمرار لنزعة اللعب عند الصغار وامتدادها لحياة الكبار "Pickering: p.11". وفي الغرب أكد المربون من أمثال جون لوك وجان جاك روسو وياسيدو وكومينيوس على أهمية اللعب في التربية. بل إن فرويل الذي أنشأ رياض الأطفال كان معلما ناجحا واستخدم اللعب كوسيلة تربوية للأطفال. وفي الشرق نجد أن التربية الإسلامية تهتم بتربية الطفل خلال اللعب والترويح عن نفسه. وفي تربية الولد يشير الغزالي إلى ضرورة الترويح عن الصبي، وأشار إلى موضوع اللعب الذي قال: إن له ثلاث وظائف: يروض جسم الصغير ويقويه، ويدخل السرور على قلبه، ويريح الصبي من تعب الدروس، ويروح عن تعب النفس كللها ومللها. ويقول ابن مسكويه في نفس المعنى: "وينبغي أن يؤذن له في بعض الأوقات أن يلعب لعبا جميلا ليستريح إليه من تعب الأدب، ولا يكون في لعبه ألم ولا تعب شديد". أفضل الأوقات: أفضل الأوقات لطالب العلم شرخ الشباب بالنسبة للعمر ووقت السحر وما بين العشاءين للاستذكار كما يقول الزرنوجي. وينبغي لطالب العلم أن يستغرق جميع أوقاته فإن مل من علم يشتغل بعلم آخر. وهذه نظرة ثاقبة من الزرنوجي تتفق مع أحدث نظريات وآراء علم النفس التعليمي. ويشير الزرنوجي إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه كان إذا مل من الكلام يقول: هاتوا ديوان الشعراء. وكان محمد بن الحسن لا ينام الليل وكان يضع عنده الدفاتر. وكان إذا مل من نوع ينظر في نوع آخر. وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء. وكان يقول: إن النوم من الحرارة فلا بد من دفعه بالماء البارد. توجيه المتعلم إلى دراسة ما يناسبه: يشير الزرنوجي إلى ما يعرف الآن بالإرشاد الأكاديمي ودور المعلم في توجيه المتعلم إلى نوع الدراسة الملائمة له فيقول: "وينبغي لطالب العلم ألا يختار

نوع علم بنفسه. بل يفوض أمره إلى الأستاذ. فإن الأستاذ قد حصلت له من التجارب في ذلك فكان أعرف بما ينبغي لكل أحد، وما يليق بطبيعته". ويورد قول الإمام الأجل الأستاذ برهان الدين: "كان طلبة العلم في الزمان الأول يفوضون أمروهم في التعليم إلى أستاذهم فكانوا يصلون إلى مقاصدهم ومرادهم. والآن يختارون بأنفسهم فلا يحصل مقصودهم من العلم والفقه". ويحكى عن الإمام البخاري أنه كان يتعلم شيئا آخر على يد محمد بن الحسن فنصحه رحمه الله بأن يذهب ويتعلم الحديث لما رأى أن ذلك العلم أليق بطبعه. فطلب علم الحديث. فصار فيه مقدما على جميع أئمة الحديث. ويشير الدكتور أحمد شلبي في كتابه عن التربية الإسلامية "ص299" إلى ما ورد في مناهج المتعلم من حديث طريف عن اختبارات الذكاء يقرر أنه يجب على المعلم أن يشخص طبيعة المتعلم المبتدئ من حيث الذكاوة والغباوة. ويعلمه على مقدار وسعه. كما يشير إلى أن المربين المسلمين كانوا يعتمدون على التجربة. فهم يعلمون الطفل ثم يحكمون عليه بمقدار النتيجة التي يستطيع أن يحصل عليها. كما كانوا يختبرون ذاكرة التلميد ليروا ما إذا كان يميل إلى الحفظ أو التعمق في التفكير فإذا كانت الأولى فليدرس علم الحديث مثلا وإن كانت الثانية فليدرس الفلسفة والمناظرة وعلوم الجدل والكلام. ويقول ابن جماعة في كتابه: "تذكرة السامع والمتعلم في آدب العالم والمتعلم" إذا علم المعلم أن تلميذا لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه. وقد روي أن يونس بن جبيب كان يختلف إلى الخليل بن أحمد يتعلم منه العروض فصعب عليه تعلمه. فقال له الخليل يوما: من أي بحر قول الشاعر: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع ففطن يونس لما عناه الخليل فترك العروض وأخذ يتعلم النحو وقواعد اللغة حتى أصبح في ذلك إماما وعالما شهيرا. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الإمام البخاري كان يتعلم الفقه على يد محمد بن الحسن فوجهه لدراسة الحديث لما رأى أنه أكثر مناسبة له. وقد بز البخاري علماء عصره في ذلك وأصبح أحد كبار مشاهير رجال الحديث.

تربية بالقدوة: للقدوة دور هام في التربية ولا سيما في مرحلة الطفولة، فالطفل يقتدي بمن يراهم ويقلدهم في أعمالهم وسلوكهم, ولذلك عنيت التريبة الإسلامية بالقدوة الحسنة. وقد قال عمرو بن عتبة لمؤدب ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بك فالحسن عندهم ما فعلت، والسيئ عندهم ما تركت. علمهم كتاب الله وروهم من الحديث أشرفه ومن الشعر أعفه ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم وعلمهم سنن الحكماء وجنبهم محادثة النساء". وينصح ابن المقفع من نصب نفسه للناس إماما في الدين أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والرأي واللفظ، فيكون تعليمه للناس بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . وفي هذا المعنى قال الشاعر: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسه كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدا وأنت من الرشاد عديم لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ويؤكد المربون المسلمون على أهمية القدوة بالعلم والعمل وضرورة توافرهما في العالم والمعلم حتى يهتدي بها المتعلم. ولذلك اعتبروا أخذ العلم مباشرة من العلماء لا من بطون الكتب. فالإمام الشافعي ومن بعده ابن جماعة وغيرهما يرفضون التعلم من بطون الكتب أو تمشيخ الصحيفة. وفي ذلك يقول الشافعي: "من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام. وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية تمشيخ الصحيفة. أي الذين تعلموا من الصحف".

تربية بالموعظة: إن القرآن الكريم حافل بالمواعظ والعبر والحكم التي يمكن أن تساعد المربين على تربية النشء تربية إسلامية صحيحة ويقدم لهم المادة والمواقف والأحداث التي تمكنهم من عمل ذلك. ولا شك في أن العظات ذات المغزى الخلقي الكريم ومثيلتها من العبر والحكم والنصائح لها فعل السحر في نفوس الناس صغارا أو كبارا لأنها تتبع الأسلوب غير المباشر في التوجيه وغرس القيم الخلقية والدينية المرغوبة. ومن أساليب التربية بالمواعظة أسلوب الخطاب العقلي المشحون بالمشاعر مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} . وقوله عز وجل في سورة يوسف: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وهناك الأسلوب القصصي الذي يعتبر أهم مصدر للصغار والكبار للتربية بالموعظة. فهو أسلوب مشوق وحبب للنفس يستطيع المربون من خلاله أن ينشئوا أولادنا على المثل العليا والأخلاق الإسلامية النبيلة. قال تعالى في سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} ، وقوله في سورة الأعراف: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . من هذه القصص قصص الأنبياء عليهم السلام مثل سيدنا نوح ولقمان ويعقوب وإبراهيم وموسى وعيسى. ومنها قصة مريم وقصة يوسف وقصة فرعون وثمون وعاد ولوط وذي القرنين وبلقيس ملكة سبأ وهاجر وإسماعيل وهناك أيضا قصص الطير والحيوان. تربية بالمخالطة: تهتم التربية الإسلامية بالأثر الذي تحدثه مخالطة الصبي لرفاقه وتأثير هؤلاء الرفاق على سلوكه وشخصيته. ولذلك تحرص على حسن اختيار الرفاق الذين يصاحبهم أو يخالطهم، واشترطت أن يكونوا من ذوي الأدب والخق حتى ينشأ الصبي نشأة صالحة؛ لأنه في مخالطته لهم يقتدي بهم في سلوكه كما أن هذا الاختلاط يساعد بعضهم بعضا على التعلم. وقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير. ويقول ابن سينا. "ينبغي أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية من أولاد الجلة حسنة آدابهم

مرضية عاداتهم. فإن الصبي عن الصبي ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس. وانفراد الصبي الواحد بالمؤدب أجلب الأشياء لضجرهما، فإذا راوح المؤدب بين الصبي والصبي كان ذلك أتقى للسآمة وأبقى للنشاط وأحرى للصبي على التعليم والتخرج فإنه يباهي الصبيان، والمحادثة تفيد انشراح العقل وتحل منعقد الفهم لأن كل واحد من أولئك إنما يتحدث بأغرب ما رأى وأغرب ما سمع فتكون غرابة الحديث سببا للتعجب منه والتعجب منه سببا لحفظه وداعيا إلى التحدث به ... ثم إنهم يترافقون ويتعارضون الزيارة ويتكارمون ويتعارضون الحقوق، وكل ذلك من أسباب المباراة والمساجلة والمحاكاة، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهمهم وتمرين لعاداتهم. وينصح الزرنوجي في "تعليم المتعلم" الطالب بألا يصادق من زملائه إلا المجد الورع وصاحب الطبع المستقيم وأن يفر من الكسلان والمعطل والمكثار والمفسد والفتان ويورد قول الشاعر: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن كان ذا شر فجانبه سرعة ... وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي وقو آخر: لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد العلم يكون بالمثابرة: يكون تحصيل العلم بالجد والمثابرة على الدرس والقراءة والاطلاع. فالعلم لا يفتح أسراره لقارئ عابر أو دارس طارئ. ذلك أن مغالق العلم وأسراره لا تنفتح إلا بكثرة البحث في سبيل معرفتها والمعاناة من أجل التوصل إليها. وقديما قال الشاعر: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ وقال آخر: "من طلب العلا سهر الليالي". وقال ابن راشد: "لا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب والصبر على الطلب". كما حكى

الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} وقال سعيد بن المسيب: "إني كنت أرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي" ولهذا ساد أهل عصره وسمي سيد التابعين. وقال مالك رضي الله عنه: "أقمت خمس عشرة سنة أغدو من منزلي إلى منزل ابن هرمز وأقيم عنده إلى صلاة الظهر" ولهذا ساد مالك أهل عصره وسمي إمام الهجرة. وهكذا يجب على طالب العلم أن يتحلى بالصبر والمثابرة في طلب العلم وتحصيله، وعلى المعلم أن يساعد تلاميذه على تكوين الاتجاهات الصحيحة نحو العلم وتحصيله وأن يبين لهم أنه بقوة الإرادة والعزيمة يستطيع الإنسان أن يتغلب على صعاب العلم وأن يصل في النهاية إلى المكانة التي يريدها.

آداب المتعلم

آداب المتعلم: يورد علماء المسلمين منهم الزرنوجي والعلموي والأصفهاني في "الذريعة إلى أحكام الشريعة "ص149": عدة آداب يجب أن يتحلى بها المتعلم من أهمها: 1- أن يطهر نفسه من رديء الأخلاق كما تطهر الأرض للبذر من خبائث النبات لأن الطاهر لا يسكن إلا بيتا طاهرا. ويعتبر الزرنوجي الأخلاق الذميمة كلابا معنوية أي مؤذية. وعلى المتعلم أن يحذر منها. كما ينبغي عليه أن يبتعد عن الكسل لأنه شؤم وآفة عظيمة. وقد قال الشاعر: فلم أر لكسالى الحظ يعطي ... سوى ندم وحرمان الأماني 2- أن يقلل من الاشتغال الأعمال الدنيوية ما دام يدرس ليتوفر فراغه على العلوم الحقيقية. أي يتفرع للعلم والاجتهاد في تحصيله بما لا يصرفه عنه. وقد قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . وأن يغتنم للتحصيل وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن ونباهة الخاطر، وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة. 3- ألا يتكبر على معلمه وأن يعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر،

وتعظيم حرمته مثوبة, والتشمير في خدمته شرف. قال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تأخذونه منه". وأخذ ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته وميزته بركات زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا, ويقال إن الشافعي رحمه الله عوتب على تواضعه للعلماء فقال: أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها وعلى المتعلم أيضا إذا وجد معلما أن يأتمر له ولا يتآمر عليه، ولا يراده فيما ليس بصدده تعلمه ولم يبلغ منزلة معرفته بعد. 4- ألا يتكبر على العلم. فالعلم خراب للمتعالي كالسيل خراب للمكان العالي ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإن أعطيته كلك فإنك من إعطائه إياك بعضه على خطر. 5- يقول الزرنوجي ليس لصحيح البدن والعقل عذر في ترك العلم والتفقه. وإذا كان عذر المرء هو الفقر فلن يكون أفقر من أبي يوسف رحمه الله تعالى لم يمنعه من التفقه والعلم ومن كان له مال كثير فنعم المال الصالح للرجل الصالح المنصرف في طريق العلم. 6- يقول الزرنوجي: من الورع في العلم أن يجترز طالب العلم عن الشبع لأن البطنة تذهب الفطنة. كما يحذر من كثرة النوم وكثرة الكلام فيما لا ينفع وأن يتحرز عن أكل السوق إن أمكن لأن طعام السوق أقرب للنجاسة والخباثة. وأبعد عن ذكر الله وأقرب إلى الغفلة. ولأن أبصار الفقراء تقع عليه، ولا يقدرون على الشراء منه. فيتأذون بذلك فتذهب بركته. وحكى أن الشيخ الإمام الجليل محمد بن الفضل رحمه الله كان في حال تعلمه لا يأكل من طعام السوق. وكان أبوه يسكن في "الرستاق" وهو موضع فيه بيوت مجتمعة أو قرى ويهيئ إليه طعامه ويدخل إليه يوم الجمعة فرأى في بيت ابنه خبز السوق يوما. فلم يكلمه ساخطا عليه فاعتذر ابنه وقال: ما اشتريته أنا ولم أرض به. ولكن أحضره شريكي. فقال له أبوه: لو كنت تحتاط وتتورع عن مثله لم يجترئ شريكك على ذلك. ويبدو أن تطبيق ذلك

صعب في عصرنا الراهن لتزايد اعتماد حياة سكان المدينة على المطاعم والمخابز والأكلات المعدة أو الجاهزة. ولكن ما زال الكلام يصدق على محلات الأكل غير النظيفة والمشبوهة والباعة الجائلين أو المتنقلين. 7- لا بد لطالب العلم من الهمة العالية في العلم، فإن المرء يطير بهمته كالطير يطير بجناحيه. وقد قال الشاعر: إذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام ولا بد لطالب العلم من سهر الليالي. فمن طلب العلا سهر الليالي كما يقول الشاعر. ومن مأثور الحكم اتخذ الليل جملا تدرك به أملا. وقال الشاعر في هذا المعنى: من شاء أن يحتوي آماله جملا ... فليتخذ ليله في دركها جملا أقلل من طعامك كي تحظى به سهرا ... إن شئت يا صاحبي أن تبلغ الكملا 8- يقول الزرنوجي "ص38": لا بد لطالب العلم من المذاكرة والمناظرة والمطارحة. فإن المناظرة والمذاكرة مشاورة، والمشاورة إنما تكون لاستخراج الصواب. وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار. ومثل مطارحة ساعة خير من تكرار شهر إذا كانت المطارحة مع منصف سليم الطبع. ويحذر المتعلم من المذاكرة مع متعنت غير مستقيم الطبع. فإن الطبيعة متسربة والأخلاق متعدية والمجاورة مؤثرة. أي أن التعنت ينتقل إلى المتعلم ويعديه. وقد تفقه أبو حنيفة بكثرة المطارحة والمذاكرة في دكانه حين كان يزازا "أي بائع ثياب". ومن هنا تعلم أن تحصيل العلم قد يجتمع مع كسب العيش. وكان أبو حفص الكبير رحمه الله يكتسب الرزق ويحصل العلوم. فإن كان لا بد لطالب العلم من الكسب لمعيشة عياله أو غيرهم فليكتسب وليذاكر ويتعلم ولا يكسل. وهناك أمثلة كثيرة لأناس عصاميين شقوا طريقهم في الحياة وهو يكسبون عيشهم ويحصلون تعليمهم في وقت واحد. ومن فوائد المصارحة والمناظرة الأخذ والعطاء. وقد سئل أبو يوسف رحمه الله بم أدركت العلم؟ قال: ما استنكفت من الاستفادة وما بخلت بالإفادة.

9- وينبغي لطالب العلم أن يكون متأملا في جميع الأوقات في دقائق العلوم ويعتاد ذلك فإنما تدرك الدقائق بالتأمل. ولهذا قيل: تأمل تدرك. ولا بد من التأمل والتفكير قبل الكلام حتى يكون صوابا. فإن الكلام كالسهم فلا بد من تقويمه بالتأمل قبل الكلام حتى يكون مصيبا. وقيل رأس العقل أن يكون الكلام بالتثبت والتأمل. 10- على طالب العلم إذا مل من علم أن يشتغل بعلم آخر. وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا مل من الكلام يقول: هاتوا ديوان الشعر. وكان محمد بن الحسن لا ينام الليل وكان يضع عنده الدفاتر. وكان إذا مل من نوع ينظر في نوع آخر. وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء. وكان يقول: إن النوم من الحرارة فلا بد من دفعه بالماء البارد كما أشرنا. 11- ينبغي أن يكون طالب العلم مستفيدا في كل وقت حتى يحصل له العقل بطريقة الاستفادة أن يكون معه في كل وقت قلمه وكشكوله حتى يكتب ما يسمع من الفوائد العلمية. وينبغي عليه أن يأخذ العلم من أفواه الرجال لأنهم يحفظون أحسن ما يسمعون ويقولون أحسن ما يحفظون. 12- يقول الزرنوجي "ص25": وينبغي لطالب العلم ألا يختار نوع العلم بنفسه بل يفوض أمره إلى الأستاذ فإن الأستاذ قد حصلت له التجارب في ذلك فكان أعرف بما ينبغي لكل أحد وما يليق بطبيعته. ويقول أيضا "كان طلبة العلم في الزمان الأول يفوضون أمرهم في التعليم إلى أستاذهم فكانوا يصلون إلى مقاصدهم ومرادهم. والآن يختارون بأنفسهم فلا يحصل مقصودهم من العلم والفقه. وهذه نظرة ثاقبة من الزرنوجي سبق بها ما تنادي به التربية الحديثة وهو ما سبق أن أشرنا إليه. 13- ألا يشتغل بتعلم الاختلافات المشكلة والشبه الملتبسة في تحصيله للعلم ما لم يتهذب في قوانين ما هو بصدده حتى لا تتولد له شبهة تصرفه عن التوجه فيؤدي ذلك إلى الارتداد عن تحصيل العلم. 14- أن يعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه قبل حفظه تصحيحا متقنا على شيخه أو غيره ممن يكون أهلا لذلك، ثم يكرر عليه بعد حفظه تكرارا جيدا.

ومنها أن يذاكر محفوظاته ويديم الفكر فيها ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد. 15- أن يحسن تقسيمه لأوقات ليله ونهاره واغتنام ما بقي من عمره. ويقول العلموي: "إن أجود الأوقات للحفظ والأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل. وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. ومنها أن يبكر بدرسه لخبر: "بورك لأمتي في بكورها". ويجعل ذلك "البكور" يوم الخميس. وفي رواية "بورك لأمتي في بكورها يوم سبتها وخميسها". وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اطلبوا العلم يوم الاثنين فإنه ييسر لطالبيه". ورأيت كثيرا من مشايخنا يتحرون الابتداء من يوم الأحد، فينبغي مزيد الاعتناء بهذه الأيام وهذه الأوقات إلا تجري عادة الشيخ بغير ما ذكر، فلا يعترض عليه. ويقول الزرنوجي: أفضل أوقات التحصيل شرخ الشباب ووقت السحر وما بين العشاءين. كما يقول أيضا لا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك. 16- في آداب المتعلم مع الكتب وهي أداة العلم يقول العلموي: "ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها في العلوم النافعة ما أمكنه شراء أو إجارة أو عارية، لأنها آلة التحصيل، ولا يجعل تحصيلها وجمعها وكثرتها حظه من العلم، ونصيبه من الفهم وقد أحسن القائل: إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لا ينفع

شروط تحصيل العلم

شروط تحصيل العلم: يورد الزرنوجي شروط تحصيل العلم، وفيها تشابه مع ما ذكر عن آداب التعلم، ويورد الزرنوجي بعض أشعار تنسب لعلي بن أبي طالب تحدد ستة شروط لتحصيل العلم هي: ألا لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مجموعها ببيان ذكاء وحرض واصطبار وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان

والبلغة هنا معناها ما يكفي لسد الحاجة كما أن من معانيها أيضا "المداس" أو ما يلبس في الرجل والمقصود بطول زمان طول معايشة العلم والاشتغال به. وقد فصل الزرنوجي الكلام عن هذه الشروط وغيرها بالنسبة لطالب العلم وما يجب أن يتحلى به من أخلاق وصفات. وفي شروط تحصيل العلم الجد والمواظبة والملازمة. وقد قيل "من جد وجد" ومن قرع الباب ولج ومن زرع حصد. ومن نظم الإمام الشافعي في هذا المعنى الجد يدني كل أمر شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق وقال شاعر آخر: بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي ومن رام العلا من غير كد ... أضاع العمر في طلب المحال وقيل: من أسهر نفسه بالليل فرح قلبه بالنهار، ولا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره. فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك. وقد قال الشاعر في هذا المعنى: يا طالب العلم باشر الودعا ... وجنب النوم واترك الشبعا داوم على الدرس لا تفارقه ... فالعلم بالدرس قام وارتفعا ولا بد لطالب العلم من الهمة العالية. فإن المرء يطير بهمته كما يطير الطير بجناحيه. وقد قال أبو الطيب المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم وعلى طالب العلم أن يتجنب الكسل لأنه كما يقول الزرنوجي شؤم وآفة عظيمة. وقد قال الشاعر: الجد في الجد ... والحرمان في الكسل وقال شاعر آخر:

فكل ذي عمل في الخير مغتبط ... وفي بلاء وشؤم كل ذي كسل ونظم الزرنوجي في هذا المعنى: دعي نفسي التكاسل والتواني ... وإلا فأثبتي في ذا الهوان فلم أر للكسالى الحظ يعطي ... سوى ندم وحرمان الأماني وقال الشاعر في هذا المعنى: لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد وعلى طالب العلم ألا يكتب شيئا لا يفهمه لأن ذلك كما يقول الزرنوجي يورث كلالة الطبع ويذهب الفطنة ويضيع الوقت. ويجب أن يجتهد طالب العلم في الفهم والتفكير والتأمل فإنما تدرك الدقائق بالتأمل. ولا بد له من المناظرة والمطارحة بدون شغب أو غضب. ولا تكون نيته من المناظرة إلزام الخصم أو قهوة أو التضليل أو التمويه أو الحيلة وإنما تكون لإظهار الحق والحقيقة. ويرى الزرنوجي أن المطارحة والمناظرة أكثر فائدة لطالب العلم من مجرد الحفظ والتكرار. فمطارحة ساعة خير من تكرار شهر. وعلى طالب العلم أن يستفيد في جميع الأحوال والأوقات من جميع الأشخاص. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها". ويروى أن أبا حنيفة رحمه الله تفقه في العلم بكثرة المطارحة والمذاكرة في دكانه حين كان بزازا أي بائع ثياب. وعلى طالب العلم أن يتحرز عن الشبع وكثرة النوم وأكل طعام السوق إن أمكن لأن طعام السوق كما يقول الزرنوجي أقرب إلى النجاسة والخباثة وأبعد عن ذكر الله وأقرب إلى الغفلة ولأن أبصار الفقراء تقع عليه ولا يقدرون على الشراء منه فيتأذون بذلك فتذهب بركته "الزرنوجي: ص53". وهو ما أشرنا إليه. وعلى طالب العلم أن يتحرز عن الغيبة والنميمة ومجالسة المكثار في الكلام. لأن الإكثار في الكلام في نظر الزرنوجي يسرق العمر ويضيع الوقت. ولذا وجب على المتعلم أن يتجنب أهل الفساد والمعاصي والتعطيل ويجاور الصلحاء. وقد

قال الشاعر العربي في فضل السكوت وذم الكلام: النطق زين والسكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثارا ما أن ندمت على سكوت مرة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا وعلى طالب العلم أن يتحمل المعاناة لا سيما من السفهاء. فقد ورد عن عيسى عليه السلام قوله: "احتملوا من السفيه واحدة كي تربحوا عشرا". "الزرنوجي: ص49". ويجب على طالب العلم ألا يجهد نفسه إجهادا ولا يضعف نفسه حتى ينقطع عن العمل فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. بل يستعمل الرفق مع نفسه والرفق أصل عظيم في جميع الأشياء كما يقول الزرنوجي. وينصح الزرنوجي طالب العلم باحترام أستاذه وتقديره فيقول: "اعلم بأن طالب العلم لا ينال العلم ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم أهله وتعظيم الأستاذ وتوقيره". ويورد قول علي كرم الله وجهه: "أن عبد من علمني حرفا واحدا. وإن شاء باع، وإن شاء أعتق، وإن شاء استرق". ويروي ذلك بعبارة أخرى تقول: من علمني حرفا صرت له عبدا. وقال الشاعر: إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما فاصبر لدائك إن جفوت طيبه ... واقنع بجهلك إن جفوت معلما ويقول الزرنوجي أيضا: لا بد لطالب العلم من تحمل المشقة والمذلة في طلب العلم والتملق مذموم إلا في طلب العلم فإنه لا بد له من التملق للأستاذ للاستفادة منه. وقد قيل: العلم عز لا ذل فيه لا يدرك إلا بذل لا عز فيه. وقال الشاعر في هذا المعنى: أرى لك نفسا تشتهي أن تعزها ... فلست تنال العز حتى تذلها ويتفق الماوردي مع الزرنوجي في هذه النقطة فيقول "ص75": "اعلم أن المتعلم في زمان تعلمه تملقا وتذللا. إن استعملها غنم. وإن تركها حرم. لأن التملق للعالم يظهر مكنون علمه والتذلل له سبب لإدامة صبره. وبإظهار مكنونة تكون الفائدة، وباستدامة صبره يكون الإكثار. وقد روى معاذ عن النبي

صلى الله عليه وسلم: "ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم" وقال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وقر عالما فقد وقر ربه". ويورد الماوردي تسعة شروط لتحصيل العلم يتوفر بها علم الطالب وينتهي معها كمال الراغب وهي تتفق إلى حد كبير مع ما أشار إليه الزرنوجي. وهي: 1- العقل الذي يدرك به حقائق الأمور. 2- الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم. 3- الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه. 4- الميل والاهتمام الذي يسميه الماوردي بالشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليها الملل. 5- الاكتفاء بمادة "مال" تكفيه عن كلف الطلب. 6- الفراغ الذي يكون معه التوفر ويحصل به الاستكثار. 7- عدم القواطع "أي الموانع والحوائل" المذهلة من هموم وأشغال وأمراض. 8- طول العمر واتساع المدة لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال. 9- الظفر أو الفوز بعالم أي أستاذ سمع بعلمه متأن في تعليمه. فإذا استكمل طالب العلم هذه الشروط التسعة فهو أسعد طالب وأنجح متعلم. وقد قال الإسكندر: يحتاج طالب العلم إلى أربع: مدة، وجدة، وقريحة، وشهوة "اهتمام" وتمامها في الخامسة وهي معلم ناصح. ويقول الماوردي: لن يدرك العلم من لا يطيل درسه ويكد نفسه. وكثرة الدروس كد لا يصير عليه إلا من يرى العلم مغنما والجهالة مغرما، فيحتمل تعب الدرس ليدرك راحة العلم وينفي عنه معرة الجهل فإن نيل العظيم بأمر عظيم وبحسب الراحة يكون التعب. وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ واتكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى الكتب والمطالعة فيها عند الحاجة فلا يكون إلا كمن أطلق ما مصاده ثقة بالقدرة عليه بعد الامتناع منه. فلا تعقبه الثقة إلا خجلا والتفريط إلا ندما. ويرجع الماوردي السبب في ذلك إلى ضجر المتعلم من معاناة

الحفظ ومراعاته، وطول الأمل في التوفر عليه عند نشاطه. وليس يعلم أن الضجور خائب وأن الطويل الأمل مغرور. والعرب تقول في أمثالها: "حرف في قلبك خير من ألف في كتبك". وقد يكون السبب أيضا عناية المتعلم بالحفظ من غير فهم أو تصور حتى يصير حافظا للألفاظ دون فهم المعاني. ويروي بغير روية ويخبر عن غير تجربة. فهو كالكتاب الذي لا يدفع شبهة ولا يؤيد حجة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الرعاية". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة. فقد يرعوي من لا يروي، ويروي من لا يرعوي" وهناك سبب آخر يذكره الماوردي هو أن يكون المتعلم قد اعتمد على حفظه وتصوره وأغفل تقييد العلم في كتبه ثقة بما استقر في ذهنه. وهذا خطأ منه. لأن الشك مفترض والنسيان طارئ. وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قيدوا العلم بالكتاب". وروي أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم النسيان فقال له: "استعمل يدك" أي أكتب حتى ترجع إذا نسيت إلى ما كتبت. وقد قيل: لولا ما عقدته الكتب من تجارب الأولين لا نحل مع النسيان عقود الآخرين. وقال بعض العلماء: إن هذه الآداب نوافر تند "أي تنفر" عن عقل "قيود" الأذهان فاجعلوا الكتب عنها حماة والأقلام لها رعاة.

خاتمة

خاتمة: فهذه لمحات عن تربية الطفل في الإسلام حاولنا خلالها أن نتحدث بلسان النصوص القرآنية والأحاديث، وما ورد عن علماء المسلمين ومربيهم السابقين. ولقد أردنا أن نؤكد أن في هذه النصوص زادا لكل مرب معاصر يستطيع أن يجد فيها أصول الفكر التربوي الحديث. وأردنا من ناحية أخرى أن نبين أن ميدان التربية الإسلامية ميدان خصيب يحتاج إلى جهود مخلصة للكشف عنه والغوص في جوهره. فحركة العلم دائمة لا تتوقف، وهي متجددة باستمرار، ومن تعاليم ديننا الحنيف أن الإنسان يظل عالما ما دام يطلب العلم. وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

الفصل الخامس: تعليم المرأة في الإسلام

الفصل الخامس: تعليم المرأة في الإسلام مقدمة: قلما نجد في أي دين من الديانات أو نظام من المجتمعات ذلك التكريم الذي أعطاه الإسلام للمرأة. ففي كل المجتمعات التي سبقت ظهور الإسلام على اختلاف زمانها ومكانها لم تكن المرأة تتمتع بنظرة محترمة، وكانت مكانتها الاجتماعية تتسم بالدونية بدرجات متفاوتة في هذه المجتمعات تشتد حينا وتخف حينا آخر. ففي الهند القديمة كان ينظر إلى المرأة على أنها دورة للروح في حياة شريرة، وكان الهنود يؤمنون بتناسخ الأرواح. وفي مصر الفرعونية كانت المرأة أقل من الرجل في قيمتها ومكانتها الاجتماعية رغم أننا نجد نساء وصلن إلى مرتبة الحكم مثل: حتشبسوت وكليوباترا. وفي وصية الحكيم أني لابنه يقول له: "احذر أن تمشي في طاعة أنثى أو تسمح لها بأن تسيطر على رأيك". وعند اليونان والرومان كانت المرأة ظلا للرجل ومجرد تابع له، ولا تملك من أمرها شيئا. وفي المسيحية كان ينظر للمرأة على أنها فخ نصبه الشيطان للرجل، وأنها سلاح إبليس للفتنة والإغراء. ورغم أن تقديس العذراء مريم قد رفع من النظرة إلى المرأة فإن ذلك لم يغير شيئا كثيرا من الوضع الاجتماعي للمرأة. وفي أوربا لم يكن للمرأة أي حقوق حتى العصور الحديثة، وكان القانون الإنجليزي في أوائل القرن التاسع عشر يبيح للزوج أن يبيع زوجته بمبلغ زهيد. وفي الجاهلية كانت المرأة في وضع لا تحسد عليه فقد كانت مخلوقا للخدمة والمتعة للرجل. وجاء الإسلام ليشرع للمرأة أول قانون كامل يضمن لها منزلتها وكرامتها ويحقق لها حياة تتفق مع طبيعتها ورسالتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في معاملة زوجاته. ويقول في ذلك "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في ماله وعرضه"

ويقول أيضا: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخيارهم لنسائهم" وقوله في آخر خطبة له: "استوصوا بالنساء خيرا". وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه سلم قال: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين". وروى البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فواعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن. وقد أسهمت المرأة المسلمة في كثير من جوانب الحياة الإسلامية منها السياسية وشئون الحكم وإدارة شئون الدولة التي تزخر بها كتب التاريخ. وسنعرض لبعض الأمثلة في كلامنا عن المرأة والتعليم. وقد عبر أحمد شوقي أمير الشعراء عن مكانة المرأة في الإسلام بقوله: هذا رسول الله لم ... ينقص حقوق المؤمنات العلم كان شريعة ... لنسائه المتفقهات وكذا التجارة والسياسة ... والعلوم الآخريات وحضارة الإسلام تنطق ... عن مكان المسلمات كما عبر عن خطورة جهل المرأة وعدم تعليمها بقوله: وإذا النساء نشأن في أمية ... رضع الرجال جهالة وخمولا ليس اليتيم من انتهى أبواه من ... هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له ... أما تخلت أو أبا مشغولا المرأة والحجاب: من الأخطاء الشائعة التي روج لها المغرضون أن حجاب المرأة نظام جاء به الإسلام وأصبحت المرأة المحجبة رمزا للمرأة المسلمة. والواقع أن حجاب المراة كان معروفا في المجتمعات القديمة قبل الإسلام ففي الهند القديمة كان نظام "البردة" Purda معروفا. وتعني البردة "الستار" أو "الطرحة" تغطي بها المرأة

المرأة والحجاب

المرأة والحجاب: من الأخطاء الشائعة التي روج لها المغرضون أن حجاب المرأة نظام جاء به الإسلام وأصبحت المرأة المحجبة رمزا للمرأة المسلمة. والواقع أن حجاب المراة كان معروفا في المجتمعات القديمة قبل الإسلام ففي الهند القديمة كان نظام "البردة" Purda معروفا. وتعني البردة "الستار" أو "الطرحة" تغطي بها المرأة ووجهها عند خروجها من المنزل. كما كان لها في المنزل مكان خاص لها تنعزل فيه. وكان حجاب المرأة وعزلتها في المنزل وخارجه معروفا لدى اليونان القدماء. ويشير هوميروس في "الأوديسة" إلى "بنيلوب" زوجة يوليسس كمثال على الزوجة الشابة المخلصة لزوجها الواقرة في منزلها. وكان الرومان يحرمون على المرأة الظهور متزينة في الشوارع. بل وحرموا عليها المغالاة في التزين في البيوت. وكان حجاب المرأة معروفا عند العبريين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفا عندهم ما بعد المسيحية. وقد تكررت الإشارت إلى "البرقع" في العهد القديم. والتوراة و"العهد الحديث" أي "الإنجيل". ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن "رفقة" أنها رفعت عينها فرأت إسحاق "فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي؟ فقال العبد: هو سيدي فأخذت البرقع وتغطت". ويقول "بولس" الرسول في رسالة "كورنشوس الأولى" إن النقاب شرف للمرأة، فإن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر بديل من البرقع ... ". وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلقى الغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد "عباس العقاد: المرأة في القرآن ص63". ويقول العقاد: "جاء الإسلام والحجاب في كل مكان وجد فيه تقليد سخيف وبقية من بقايا العادات الموروثة لا يدري أهو أثرة فردية أو وقاية اجتماعية. بل لا يدري أهو مانع للتبرج وحاجب للفتنة أم هو ضرب من ضروب الفتنة والغرابة. فصنع الإسلام بالحجاب ما صنعه بكل تقليد زال معناه وتختلف بقاياه بغير معنى، فأصلح منه ما يفيد ويعقل، ولم يجعله كما كان عنوانا لاستحواذ الرجل على ودائعه المخفية. بل جعله أدبا خلقيا يستحب من الرجل ومن المرأة ولا يفرق بين الواجب على كل منهما إلا لما بين الجنسين من فارق في الزينة واللباس والتصرف بتكاليف المعيشة وشواغلها". وقد نهى الإسلام الرجال عن الزينة المخلة بالرجولة ونهى النساء عن التبرج

وعدم إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها. قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} إلى آخر الآية الكريمة. وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . وقد استدعت هذه الآية الأخيرة اجتهاد المفسرين فجمهور المفسرين. وغالبيتهم يفهمون من قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أنه أمر بالقرار أو الجلوس في البيت وبعضهم يرى أن هذا الأمر مقصور على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط لأنهن المخاطبات في هذه الآية الكريمة. وبعض آخر يرى تعميم هذا الأمر على كل النساء باعتبار أن نساء النبي قدوة حسنة لغيرهن من المسلمات. وبعض الشراح أو المفسرين استنتج من ذلك المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل وقيدوا خروجها منه. وهناك تفسير آخر يورده أبو الأعلى المودودي في كتابه "الحجاب" ولم أقرأه عند أحد غيره هو أن الأمر في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يعني الأمر بالوقار أي الاحتشام والتأدب. وهذا تخريج لطيف لمعنى الفعل "وقر" الذي يحتمل المعنيين كما جاء في المعاجم اللغوية. تقول وقر في بيته وقرا ووقورة أي جلس ووقر فلان وقارا أي رزن رزانة. "المعجم الوسيط ط1 ص149". وقد استخدمت الكلمة بهذا المعنى الأخير في القرآن في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} . ويقول العقاد: إن المفهوم من الحجاب في الإسلام ليس إخفاء المرأة وحبسها في المنزل. فلا حجاب في الإسلام بمعنى الحبس والحجر والمهانة، ولا عائق فيه لحرية المرأة حيث تجب الحرية وتقضي المصلحة. وإنما هو الحجاب مانع الغواية والتبرج والفضول وحافظ الحرمات وآداب العفة والحياء "عباس العقاد: المرأة في الإسلام ص66".

قضية تعليم المرأة وقضية تربيتها

قضية تعليم المرأة وقضية تربيتها: ينبغي أن نميز بين قضيتين مهمتين توضيحا للأمور: قضية تعليم المرأة وقضية تربيتها. فتعليم المرأة وإن اتصل بأمر تربيتها إلا أنه يختلف عنها في الغاية والوسيلة. فغاية التعليم التنور والعرفان واكتساب المعارف العقلية والمهارات اليدوية والعملية ووسيلته التمدرس والالتحاق بالمدارس. أما التربية فغايتها إكساب الفضيلة والآداب والأخلاق الحميدة ووسيلتها التنشئة الأسرية السليمة وعناية الآباء بتربية الأبناء. فعلى الأسرة والمنزل تقع المسئولية الكبرى في تعليمهم. ومع الآباء قد يقومون بدور تعليمي لأطفالهم كما أن المدرسة قد تقوم بدور تربوي لهم، إلا أن هذه الوظيفة ثانوية تأتي مصاحبة للوظيفة الأساسي لكل من الآباء والمدرسة. إن التعليم في حد ذاته لا يعتبر سببا في فساد أخلاق المرء أو سوء تربيته، كما أنه لا يعصم المرء من سوء الخلق والتربية. فمن النساء سواء كن متعلمات أو جاهلات من هن فضليات ومنهن من لا خلاق لهن ويسئن معاملة الآخرين. وكثير منهن يعرفن الحلال والحرام والحسن والقبيح. ويتبعن هذا ويعرضون عن ذاك، وأخريات لا يتبعهن هذا ولا يعرضن عن ذاك. وما ذلك إلا لأنهن لم يتعودن الفضيلة والأخلاق الحميدة منذ صغرهن وعلى طول سنوات تربيتهن في المنزل. ومن هنا ندرك الفرق بين قضية تعليم المرأة وقضية تربيتها. ونستطيع أن نميز بينهما. وهذا التمييز مهم لنقنع به أولئك الذين ما زالوا يتخوفون من تعليم المرأة ويتشككون فيه. يقول قاسم أمين وهو أحد دعاة الإصلاح عن أهمية تعليم المرأة: "إننا نجد في هدي نبينا ما ينبغي أن نقتدي به حين قال في شأن عائشة: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء". وعائشة امرأة لم تؤيد بوحي ولا بمعجزة وإنما سمعت فوعت وعلمت فتعلمت. ولذا ينبغي أن نبدأ بتربية المرأة تربية تنقذنا من جميع العيوب التي يقذفنا بها الأجنبي كل يوم.. ولكن ما بال الرجال يعارضون تعليمها وتثقيفها في الوقت الذي يشكون فيه مر الشكوى من جهالتها؟ لقد رسخ في أذهانهم أن تعليمها وعفتها لا يجتمعان. وقال بعضهم في ذلك حكايات غريبة ونوادر استدلوا بها على أن تعليم المرأة يزيدها براعة في الاحتيال ويعطيها سلاحا جديدا تتقوى به على تنفيذ شهواتها.. وبالجملة فإنا نرى أن

تربية العقل والأخلاق تصون المرأة ولا يصونها الجهل. بل هي الوسيلة العظمى لأن يكون في الأمة نساء يعرفن قيمة الشرف وطريق المحافظة عليه. وأرى أن من يعتمد على جهل امرأته مثله كمثل أعمى يقود أعمى مصيرهما أن يترديا في أول حفرة تصادفهما في الطريق. "نقلا عن: ماهر حسن فهمي: ص121". وعن أهمية تعليم المرأة أيضا يقول قاسم أمين في كتابه "المرأة الحديدة" "ص99" إن على الأم أن تعرف أفضل الطرق لتغذية الطفل لأهميتها في نمو جسمه، وكيف تقي جسم ولدها من أعراض الحر والبرد؟ وما هو الماء الذي ينبغي استعماله في نظافة جسمه من حار وفاتر أو بارد؟ وعليها أن تعرف أن للهواء والشمس أثرا حميدا في الصحة فلا تحرمه من التمتع بهما. وهكذا يقال في الأشياء الأخرى كالنوم واللعب وما أشبه ذلك. ثم يجب عليها من جهة أخرى أن تكون على علم تام بعلم نفس الطفل ووظائف قواه العقلية والأدبية وإلا كانت أول عامل في فساد أخلاق ولدها. وهو يعيب على المرأة المصرية أسلوب تعاملها مع طفلها. فهي تمنعه من اللعب كي لا يشوش عليها وهي لا تدري أنها بمنعها له من اللعب تقف في سبيل نموه. وإذا أرادت أن تؤدبه هددته بما لا تستطيع أو بما لا تريد أن تنفذه، أو خوفته بموهومات تثير في ذهنه خيالاته ومخاوف ربما لازمته مدة حياته "أمنا الغولة أو أبو رجل مسلوخة". وإذا أرادت أن تكافئه وعدته بوعود لا تفي بها فتكون له بذلك قدوة في الكذب وتحدث في نفسه ضعف الثقة بالقول. وهي في أغلب حالاتها تظهر الغضب عليه وتنهره بالصوت الشديد وتزعجه بحركات التهديد. وربما كان السبب الذي أثار غضبها لا يستحق من ذلك كله شيئا. فإذا رأت منه انفعالا مما صدر منها, لم تلبث أن تضمه وتقبله وتظهر له غاية الندم على ما صدر منها. والولد المسكين لا يدري كيف استحق غضبها أولا ثم رضاها ثانيا. ويخلص إلى القول بأن جميع العيوب التي تشاهد عند الأطفال مثل الكذب والخوف والكسل والحمق هي ناشئة عن جهل أبويه بقواعد التربية. وهو يرى أن

مدار تربية الطفل كلها على الأم. فسواء كان ذكرا أو أنثى لا يعرف ولا يرد على حواسه إلا الصور التي تعرضه لها، فنفسه صحيفة بيضاء وأمه تنقشها كما تشاء. ومن هنا وجب على كل أب وكل أم أن يلم بهذه القواعد وأن يحسن تربية الأبناء. ويرى كثير من علماء المسلمين ومربيهم ومصلحيهم أن من المهم في تنشئة الطفل العناية بتربيته الدينية والروحية حتى ينشأ منذ صغره على الفضيلة والآداب الحميدة. ويتجنب الرذيلة والأخلاق الفاسدة. والمسئولية الأولى في ذلك تقع على أسرته ووالديه. يقول أحد العلماء المسلمين: إن التربية الناقصة للطفل تنجم عنها خسارات كبيرة يتجرعها الطفل وأبواه أولا ثم يجني المجتمع ثمارها حنظلا مريرا. فإهمال تربية البنين جريمة الآباء في حق الأبناء. وقد قال الشاعر العربي في هذا المعنى: إهمال ترية البنين جناية ... عادت على الآباء بالنكبات ويعلق على أهمية الأم المتعلقة فيقول إن الأم المتعلمة أقدر على متابعة العملية التربوية لأولادها في المنزل وإدراك حاجات الطفل الجسمية والعقلية. كما أنها أقدر على تفهم طبيعة الحياة والمجتمع وتطلعاته وأقدر على أداء دورها في ارتقائه "عبد المتعال محمد الجبري: ص65". ويقول الغزالي في هذا المعنى: اعلم أن الطريق إلى رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه. فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة. وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له مؤدب. وإن عود الشر وأهل إهمال البهائم شقي وهلك. وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له. ومن هنا تتضح أهمية دور الأم في تربية الأبناء. ولكي تستطيع أن تقوم بذلك علينا أن نحسن تربيتها من البداية.

المرأة والتعليم

المرأة والتعليم: لم يرد نص من القرآن أو السنة يحرم تعليم البنت أو يفرض قيودا على تعليمها بل إننا نجده على العكس من ذلك حث على طلب العلم وجعله فريضة على كل مسلم. وتنكير كلمة مسلم هنا يفهم منها الاستغراق كما يقول علماء البلاغة بمعنى أن تستغرق كل المسلمين وتشمل الذكر والأنثى على السواء. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة". وورد في الأثر "أيما رجل كانت عند وليدة -أي عبدة أو أمة- فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران". وهناك كثير من الأمثلة والشواهد التي تلقي الضوء على تعليم المرأة في عصور الإسلام الأولى منها: 1- يروي البلاذري في فتوح البلدان أنه عند مجيء الإسلام كان هناك خمسة من نساء العرب يكتبن منهن الشفاء بنت عبد الله العدوة التي كانت تعلم حفصة واستمرت في تعليمها بناء على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد زواجه منها. وروى الواقدي أن عائشة وأم سلمة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمتا القراءة والكتابة. 2- وقد ورد النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء" يقصد زوجته عائشة التي روت عنه ألف حديث رواية مباشرة. وهو ما لم يتوافر لسواها كما أنها برعت في قول الشعر وروايته ونقده. 3- وقد عقد محمد بن سعد جزءا من كتابه "الطبقات الكبرى" لرواية الأحاديث عن النساء ذكر فيه ما يزيد على سبعمائة امراة روين عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الثقات. 4- ترجم ابن حجر في كتابه "الإصابه في تمييز الصحابة" لكثير من النساء المحدثات الثقات العالمات. 5- خصص كل من النووي في كتابه "تهذيب الأسماء" والخطيب البغدادي في كتابه "تاريخ بغداد" والسخاوي في "الضوء اللامع" حيزا كبيرا للحديث عن النساء اللائي كن على ثقافة عالية لا سيما في العلوم الدينية ورواية الحديث. ومن بين هؤلاء الشهيرات في العلوم الدينية نفيسة بنت الحسن بن

زيد بن الحسن بن علي، وكانت من خير المحدثات في عصرها وسمع عنها الإمام الشافعي عندما حضر إلى مصر. كما كان هناك عالمات يجلسن للتدريس في المساجد للرجال والنساء على السواء، وكان يجلس في حلقاتهن مشاهير العلماء والمجتهدين. 6- كان عيسى بن مسكين "275هـ" يعلم طلبته في الصباح وبعد العصر كان يعلم بنتيه وبنات أخيه وحفيداته. وكذلك علم أسد بن الفرات بنته أسماء وعني الإمام سحنون بتعليم بنته خديجة وكانت لها حلقة لتعليم النساء. 7- يذكر ياقوت في معجم الآدباء أن الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزي، وأنه كان لها دور كبير في تكوين هذا العالم الكبير، كما يذكر أيضا أن ابن عساكر في تعداده لأساتذته وشيوخه الذين تلقى عنهم العلم ذكر من بينهم إحدى وثمانين امرأة. 8- وهناك أدلة كثيرة على وصول النساء العربيات إلى مكانة عالية في العلوم والمعارف المختلفة، وكان من بينهن عالمات فاضلات تعلم على أيديهن كثير من رجالات الإسلام. فقد ذكر ابن خلكان أن السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور التي يرجع نسبها إلى الحسن بن علي بن أبي طالب والتي ولدت بمكة الكرمة "145هـ" وتوفيت بمصر سنة "208هـ" ولها مقام معروف باسمها كان لها في مصر مجلس على حضره الإمام الشافعي نفسه وسمع عليها في الحديث، وذكر أبو حيان من بين أساتذته ثلاثا من النساء هن: مؤنسة الأيوبية بنت الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي. وشامية التيمية وزينب بنت المؤرخ والرحالة المعروف عبد اللطيف البغدادي صاحب كتاب "الإفادة والاعتبار". 9- كتب التاريخ والأدب حافلة بأسماء مشاهير النساء المسلمات اللائي برعن في الأدب والشعر، وقد ترجم السيوطي في مخطوطه "نزهة الجلساء في أشعار النساء" لسبع وثلاثين شاعرة. كما أن هناك نساء مسلمات برعن في صناعة الطب والجراحة والمداواة، وكانت لهن شهرة كبيرة وقد ترجم ابن أبي أصيبعة لبعضهن في كتابه "طبقات الأطباء". واشتهرت كثيرات في الطرب والغناء وقد عرض الأصفهاني في كتابه الأغاني لذكر أسماء كثير منهن.

آراء علماء المسلمين في تعليم المرأة

آراء علماء المسلمين في تعليم المرأة أولا: آراء غريبة عن الإسلام ... آراء علماء المسلمين في تعلم المرأة: كان من الطبيعي بالنسبة لموضوع حساس مثل تعليم المرأة أن تكثر حوله الآراء وتتباين ويمكن بصفة عامة أن نقسم هذه الآراء إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: تمثل آراء غريبة عن روح الإسلام وتراثه وتاريخه تفرض قيودا كثيرة على تعليم المرأة ولا سيما في الأمور التي تزيد من حريتها كتعليم القراءة أو الكتابة أو الأمور التي يخشى منها فتنتها وانحرافها مثل قرض الشعر أو دراسته، بل إن التحفظ بلغ أشده في تحريم تعليم المرأة لبعض سور القرآن الكريم مثل سورة يوسف لما يخشى عليها من الغواية. بل إن بعض الآراء تذهب إلى الاقتصار على تعليمها "سورة النور" من بين القرآن الكريم كله. وواضح أن كل هذه الآراء تحركها دوافع الغيرة الشديدة على المرأة والتخوف الشديد من كل ما يحتمل فيه مجال الغواية والانحراف لها. المجموعة الثانية: تمثل الآراء المعتدلة لعلماء المسلمين التي تتمشى مع روح الإسلام وتقاليده وتسلم بتعليم المرأة في إطار من الثقة الكاملة بأن تعليمها هو خير ضمان لعصمتها وحمايتها من الانحراف والزلل. وسنعرض في السطور التالية لكل مجموعة من هذه الآراء: أولا: آراء غريبة عن الإسلام: ترددت بعض الآراء عن تعليم المرأة تعتبر غريبة عن روح الإسلام وبل عن تراثه وتاريخه كما أشرنا. فلقد رأينا كثيرا من النماذج لمسلمات مشهورات كان لهن باع طويل في العلم والتعليم. ومن هذه الآراء الغريبة: 1- لا تعلموا بناتكم الكتاب "أي الكتابة" ولا ترووهن الشعر وعلموهن القرآن ومن القرآن "سورة النور". وقد أورده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين "ج1 ص180" وكأنه يتهكم عليه. كما فند شمس الحق العظيم أبادي أحاديث النهي عن تعليم المرأة الكتابة واعتبرها كلها باطلة، وموضوعة

وألف في الرد رسالته المسماة: "عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان". 2- ذهب القابسي إلى تعليم المرأة القرآن والعلم، وأما أن تعلم الترسل والشعر وما أشبه فهو مخوف عليها. 3- ذهب أبو الثناء الألوسي إلى تحريم تعليم البنت الكتابة، وقد ألف كتابا في هذا المعنى سماه "الإصابة في منع النساء من تعليم الكتابة" "إبراهيم التوزري ط1 ص122" ويسمى كتابه الإصابة أي وجه الصواب. وهو ليس كذلك كما سنرى من رد علماء المسلمين على ذلك. 4- أباح بعض علماء المسلمين تعليم الجواري دون الحرائر لأن تعليم الجارية يرفع ثمنها. وإذا كان التعليم يرفع من الثمن أو قيمة الجارية أليس تعليم الحرائر أولى وفيه -أي العلم- كمال صفاتهن وخلقهن كما سنرى في كلام الشيخ الطهطاوي فيما بعد.

ثانيا: آراء معتدلة تتفق مع روح الإسلام

ثانيا: آراء معتدلة تتفق مع روح الإسلام: 1- يعترف المربون المسلمون بحق البنت في التعليم انطلاقا من أن التكاليف الدينية واجبة على الرجل والمرأة، وهذا يتفق مع روح الإسلام الحقيقية التي جعلت من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. 2- وكان الإمام محمد عبده من المؤمنين بضرورة تعليم المرأة وتنوير عقلها فقد رأى أن المرأة قد ضرب بينها وبين العلم بما يجب عليها في دينها ودنياها. ونادى بتكوين جمعية نسائية تقيم المدراس لتعليم البنات. وقد دافع عن تعلميم المرأة مع تلميذه قاسم أمين فيما جاء بكتاب "تحرير المرأة" عن تعليمها. 3- يعتبر الطهطاوي التربية أساس صلاح المرأة وتمام كمالها، ويرفع قدرها في نظر الرجل. والتعليم يزيل عنها سخافة العقل والطيش الذي يصيب المرأة الجاهلة. كما أن التعليم يمكن المرأة من العمل على قدر قوتها وطاقتها وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة فإن فراغ أيديهن عن العمل

يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل. فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة. ويرد الطهطاوي على التخوف من تعليم المرأة فيقول: "إن التجربة في كثير من البلاد قضت أن نفع تعليم البنات لا ضرر فيه". ويستعين أيضا بما روي في كتب الأحاديث وما كان في زمن الرسول من تعليم النساء. والتعليم الذي يليق بالبنات في نظره هو القراءة والكتابة والحساب وبعض الصنائع كالخياطة والتظريز. وهو يرد على من ذهب إلى تحريم تعليمهن القراءة والكتابة والحساب وبعض الصنائع، وأنها مكروهة في حقهن لما قد يؤدي إليه من إساءة استخدام بأن ذلك لا ينبغي أن يكون على عمومه. ويضرب أمثلة بمن كان يعرف القراءة والكتابة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من النساء في كل زمان. ويرجع التشدد في عدم تعليم المرأة إلى المبالغة في الغيرة عليها وفي ذلك يقول: "وليس مرجع التشدد في حرمان البنات من الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيا ما كانت في ميدان الرجال تبعا للعوائد المحلية المشوبة بحمية جاهلية، ولو جرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة".

التعليم المختلط

التعليم المختلط: أشرنا في مكان آخر من هذا الكتاب إلى أن المرأة تتساوى مع الرجل في حق التعليم سواء كان فرض عين أم فرض كفاية وذلك لتساويها معه في التكاليف الشرعية وفي الحساب يوم القيامة. ويرى علماء المسلمين أنه لا يجب الجمع بين البنين والبنات في التعليم في مدرسة واحدة وإنما يجب الفصل بينهما في مدارس خاصة بكل منهما. ويجوز أن يقوم بأمر التعليم في كل من النوعين من المدارس الذكور والإناث من المعلمات على السواء وقد يجمع بين الأطفال الصغار ذكورا وإناثا معا في مرحل التعليم الأولى في دور الحضانة ورياض الأطفال. وقد تجمع بينهم في مدرسة واحدة أو معهد واحد مع وضع ضمانات وأنظمة للفصل بينهما في أماكن الجلوس أو ممارسة الأنشطة الرياضية. وينبغي أن نشير إلى أن في كثير من دول العالم المتقدم مثل أمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا واليابان توجد مدارس خاصة بالبنات لا يختلطن فيها بالذكور. وبالنسبة للتعليم الجامعي والعالي والثانوي توجد معاهد وكليات منفصلة لكل من البنين والبنات. بل توجد في داخل التعليم الجامعي أنظمة للفصل بين البنين والبنات بحيث يدرس كل منهما في انعزال تام عن الآخر. وهذا موجود بالفعل في بعض الدول العربية والإسلامية.

التربية الزوجية

التربية الزوجية: اشتمل القرآن الكريم على ثقافة الزواج والتزاوج ينبغي على كل مسلم ومسلمة صغيرا أو كبيرا أن يتفهمها بمقدار حاجته "أو حاجتها" إليه.. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة يمكن أن يستمد منها المربون مادة مناسبة للتربية الزوجية للفتى والفتاة من هذه الآيات: - قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} . - قوله تعالى في سورة الدهر: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . - قوله تعالى في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} . - قوله في سورة البقرة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . - قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . - وقوله تعالى في سورة البقرة: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . وقوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} .

- قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . ويقول عبد الله علوان في كتابه تربية الأولاد في الإسلام "ص: 598": "ولا يمكن أن يقول متبصر عاقل إن على المربي أو المعلم أن يطمس معاني هذه الآيات بتفسيرات أخرى لا تمت إلى المعنى المراد بصلة أو أن يمر عليها مرور الكرام دون توضيح لها أو تفسير لمضمونها. لأن هذا المسلك غير سليم يتنافى مع قواعد التربية الإسلامية الأصيلة، ويتناقض مع دعوة القرآن الكريم إلى فهمه وتدبيره". وينبغي أن يراعى في التربية الزوجية للنشء المرحلة العمرية التي يمر بها وأنسب هذه المراحل مرحلة سن المراهقة لأن الفتى أو الفتاة في هذه السن يكون في حاجة إلى تلقي المعلومات الصحيحة عن التغيرات الجسمية والجنسية التي يمر بها. فالمثل يقول إنما يطرق الحديد وهو ساخن. كما أن الشباب في هذه السن يحتاج إلى فلسفة رشيدة في الحياة توجه سلوكه الاجتماعي والأخلاقي. ويحتاج أيضا إلى معرفة الدور الاجتماعي لكل من الذكر والأنثى وكيف يختار زوجة أو تختار زوجها؟ وإعداد نفسه أو نفسها لمستقبل الحياة الاجتماعية والوظيفية. وينبغي أن يقوم بمهمة التربية الزوجية معلم للذكور ومعلمة للإناث. وقد يكون ذلك من خلال توجيه الأب لابنه والأم لابنتها. كما يمكن تقديم المعلومات المطلوبة من خلال دروس التربية الدينية أو من خلال دروس الأحياء وعلم البيولوجيا أو في دروس مستقلة تعد خصيصا لهذا الغرض ضمن المنهج المدرسي.

حق الزوجة على زوجها

حق الزوجة على زوجها: أشار الغزالي إلى صلة الرجل بالمرأة والزوج بزوجته فقال: إن سيادة البيت تكون للرجال. وبدون ذلك لا تستقيم الحياة ولا توجد السعادة. وقال: من أطاع المرأة وملكها نفسه فقد عكس القضية. إذ حق للرجل أن يكون متبوعا لا تابعا وقد أشار عز وجل إلى ذلك بقوله في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وسمي الزوج سيدا فقال تعالى في سورة يوسف: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} . ولكن الغزالي من ناحية أخرى يعطي للمرأة حقوقا مقدسة ويفرض على الرجل واجبات يؤديها لها. ويقول الغزالي في ذلك: "ليس الخلق مع المرأة كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها". ويأمر الغزالي الرجل بأن يكون هاشا باشا مرحا مع زوجته. فيطيب قلبها بالمزاح والمداعبة ولا يقتر عليها في الإنفاق عليها. بل يجب عليه أن يتحفها دائما بالهدايا والحلوى. كما أن عليه أن ينظر في حاجة المرأة إلى حقوق البدن وندائه. وهو أساس التحصين والعفة. كما يطالب الرجل بالاعتدال في الغيرة على زوجته ولا يبالغ في الظن والتعنت وتجسس البواطن. فهذه قاعدة السعادة والهناء في الحياة الزوجية. ذلك أن مبدأ الاعتدال في الغيرة من أسمى المبادئ بل هو أصل من الأصول المؤدية إلى هناء العش الزوجي وإطلاق النور والمحبة والصفاء في رحابه "طه عبد الباقي سرور: ص118-119".

الفصل السادس: المعلم في التربية الإسلامية

الفصل السادس: المعلم في التربية الإسلامية مقدمة: اعتبر المسلمون التعليم من جملة الصنائع التي تحتاج إلى المعرفة والدربة التي تؤهل صاحبها للاشتغال بهذه الصناعة. قال ابن عبدون في رسالته: "والتعليم صناعة تحتاج إلى معرفة ودربة فإنه كالرياضة للمهر الصعب الذي يحتاج إلى سياسة ولطف وتأنيس حتى يرتاض ويقبل التعليم". وعقد ابن خلدون فصلا خاصا في مقدمته عن أن "التعليم للعلم من جملة الصنائع" قال فيه: "وذلك أن الحذق في التعلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل ... ويدل أيضا على أن تعلم العلم صناعة لاختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها". ولم تكن صناعة التعليم في البداية وظيفة حكومية كالقضاء والحسبة وغيرها، وإنما كان الشيوخ والمعلمون يقومون بالتدريس احتسابا لوجه الله وابتغاء لمرضاته، فمن آنس منهم في نفسه المقدرة على تعليم العلم حبس للتدريس. وهكذا كان التعليم في الملة الإسلامية واجبا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهو كالجهاد فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن الكل. وكل هؤلاء الشيوخ يتكسبون ويعيشون من كد يمينهم أو من مساعدة الملوك والأمراء وأهل الخير من العامة. كما أن الشيوخ والعلماء كانوا يتلقون أحيانا الهدايا والعطايا السخية من رجال الدولة وكبار الأعيان. وكانت الهدايا تشمل في بعض الأحيان حمولة دواب من الطعام والعسل والزيت إلى جانب النقود والمال. وكان الموسرون من الطلبة لا يبخلون بمالهم على مشايخهم ويقدمون لهم الهدايا، وكان الشيوخ والعلماء لا يجدون غضاضة في قبول هذه الهدايا "إبراهيم التوزري: ط1 ص142".

أهمية المعلم ومكانته

أهمية المعلم ومكانته: يحتل المعلم مكانة رئيسية في التربية الإسلامية اقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم معلم هذه الأمة فيما رود عنه قوله: "إنما بعثت معلما". فالمعلم عنصر رئيسي وهو أحد الأركان الرئيسية للعملية التعليمية. ولذلك أوجب المربون المسلمون أن يؤخذ العلم من شيخ لا من كتاب وسموا من يأخذ من صفحات الكتب فقط صحفيا. ولم يعولوا عليه وكرهوا "تمشيخ" الصحيفة، أي أن يحتل الكتاب مكانة الشيخ والأستاذ. وقد سبق أن أشرنا إلى كلام ابن خلدون في هذا الصدد والذي يقول فيه: "إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل تارة عملا وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون تكوُّن الملكات ورسوخها". وهكذا يؤكد ابن خلدون على أهمية تلقي العلم من المعلم مباشرة. وروي عن سلمان الفارسي أنه كتب إلى أبي الدرداء "إنما مثل المعلم كمثل رجل عمل سراجا في طريق مظلم ليستضيء به من مر به وكل يدعو إلى الخير" وهناك كثير من الأمثلة التي تعلي من شأن المعلمين وتضعهم في مكانة محترمة لائقة بالمهنة الشريفة التي ينتمون إليها. ويروي الثعالبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون". ويؤكد الغزالي أهمية الاشتغال بالتعليم، ويعلي من قدر أصحابها ويعظم من شأن وخطر المسئولية الملقاة عليهم، وفي ذلك يقول الغزالي: "فمن علم وعمل بما علم فهو الذي يدعي عظيما في ملكوت السماوات فإنه كالشمس تضيء لغيرها، ومن اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما". والمعلم في نظره "متصرف في قلوب البشر ونفوسهم" وهو "يمارس أشرف الصناعات بعد النبوة". ويقول الغزالي: "إن أشرف مخلوق على الأرض هو الإنسان وإن أشرف شيء في الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل". وقد دافع الجاحظ عما يتهم به معلمو الكتاب من الحمق حتى ضرب بهم

المثل "أحمق من معلم كتاب" فقال: "وكيف نظن الظنون بمعلمي الكتاب جميعا وفيه الفقهاء والشعراء والخطباء مثل الكميت بن زيد وعبد الحميد الكاتب وقيس بن سعد، وحسين المعلم وأبي سعيد المعلم. وما كان عندنا بالبصرة رجل أدرى بصنوف العلم ولا أحسن بيانا من أبي الوزير وأبي عدنان المعلمين". وقد كان الحجاج بن يوسف الثقفي معلم كتاب وهو الخطيب المفوه والسياسي المحنك صاحب الفضل في إرساء قواعد الدولة الأموية. ولا ينكر الجاحظ وجود عناصر سيئة بين المعلمين وهو يبرر ذلك بقوله: "ففي كل طائفة أشرافها وسفلتها فلا يدفعنا ذلك إلى إطلاق الحكم على الطائفة بأسرها بسوء الخلق وصغار النفس والحمق". ويجب أن نميز بين معلمي الكتاب ومعلمي المساجد والمدارس والمؤدبين الذين كانوا يؤدبون أبناء الحكام والأمراء. ومن المؤدبين المشهورين المفضل الضبي الذي كان مؤدبا للمهدي العباسي والكسائي مؤدب الأمين والفراء مؤدب ابن المعتز. وكان هؤلاء المؤدبون يحصلون على أجور مرتفعة ويغدق عليهم الهبات والعطايا من جانب الخلفاء والأمراء، ولهذا كان يحيون حياة رخاء. في حين أن أجور معلمي الكتاب كانت بسيطة متواضعة. ويمكن القول بصفة عامة أن أجور المعلمين بصفة عامة كانت متفاوتة وتتوقف على قيمتهم ومكانتهم العلمية. ويستمد المعلم مكانته وأهميته من تأثيره على تلاميذه، ذلك أن للعلم تأثيرا كبيرا في نفوس الصبيان، فهو قدوة لهم يتأثرون به وبشخصيته. وقد روى الجاحظ من كلام عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده قوله: "يكون أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت". ويستمد المعلم أهميته من دوره في العملية التعليمية، وإذا كان الناس قد اختلفوا حول إمكانية حصول العلم بدون المعلم فإن الواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم كما يقول الشاطبي في "الموافقات" وقد قالوا: إن العلم كان في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتيحه بأيدي الرجال، وهذا يقضي

بأن لا بد في تحصيله من الرجال". "إن أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين منه على الكمال والتمام". ويقول الشاطبي: "وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقتان: أحدهما المشافهة وهي أنفع الطريقتين وأسلمهما لأن كثيرا من مسائل العلم يقرؤها المتعلم في كتاب ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضيرة، وبه من فوائد مجالسة العلماء إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم.. ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به. فهذا الطريق نافع على كل تقدير. ثانيهما: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين. هو أيضا نافع في بابه لأن المتعلم يحصل له فهم مقاصد العلم ومعرفة اصطلاحات أهله وما يتم له به النظر في الكتب. وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه. وهذا معنى قول من قال: "كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتيحه بأيدي الرجال". والكتب وحدها لا تفيد الطالب كثيرا دون فتح العلماء لأسرارها بالشرح والتعليق. وعلى المعلم أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتاخرين "أبو إسحاق الشاطبي: ج1 ص51". وبالنسبة للعوامل التي تؤثر على مكانة المعلمين فمن المعروف أن المكانة الاجتماعية للمعلمين تتحدد بكثير من العوامل، منها مقدار ما يأخذه من أجر ومنها سن التلاميذ الذين يعلمهم. فكلما زادت سن التلميذ زادت مكانة الأستاذ فمعلم الصبية أقل من معلم الفتيان. ومنها أيضا الطبقة الاجتماعية للتلاميذ. فإذا كان التلاميذ الذين يعلمهم المعلم من طبقة أعلى زادت قيمته، فمعلم أولاد العامة أقل من معلم أولاد الخاصة. وفي ذلك يقول الجاحظ في البيان والتبيين "ج1 ص140-141" "والمعلمون عندي على ضربين، فمنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة فإلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة فإن ذهبوا إلى معلمي كتاتيب القرى فإن لكل قوم حاشية وسفلة فما هم في ذلك إلا كغيرهم ... ".

واجبات وأدوار المعلم

واجبات وأدوار المعلم: تتعدد الواجبات والأدوار التي يقوم بها المعلم، فهو يقوم بدور الوسيط بين الأجيال ودور ناقل الثقافة وشارحها ومفسرها وهو رسول المعرفة وباني البشر وهو في كل هذه الأدوار يعتمد على ما لديه من إمكانيات تؤهله للقيام بهذه الأدوار. وإن فاقد الشيء لا يعطيه ولا يمكن للمعلم أن يعطي ما لم يكن لديه ما يستطيع أن يقدمه لتلاميذه من زاد فكري وثقافي وتربوي. ولهذا اشترط المربون المسلمون في المعلم أن تكون لديه القدرة التي تؤهله للتدريس. وأوجبوا على المعلم ألا يتصدى للعمل بالتدريس إلا إذا كان أهلا لذلك وآنس في نفسه المقدرة والكفاءة للقيام به. وقد كتب عن واجبات المعلم كثير من علماء المسلمين منهم عبد الله بن المقفع في أوائل القرن الثاني للهجرة في كتابه "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير" وابن سحنون عالم القرن الثالث الهجري في رسالته "آداب المعلمين والمتعلمين" والقابسي عالم القرن الرابع الهجري في رسالته المفصلة عن آداب المعلمين والمتعلمين" والإمام أبو الحسن الماوردي عالم القرن الخامس الهجري في "أدب الدنيا والدين" والإمام أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي عالم القرن الثامن الهجري في كتابه "قناطر الخيرات" والشيخ عبد الباسط العلموي عالم القرن العاشر الهجري في كتابه "المعيد في أدب المفيد والمستفيد" والنمر القرطبي في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" وبرهان الإسلام الزرنوجي في كتابه "تعليم المتعلم طريق التعلم" وغيرهم. وهناك اتفاق كثير بين هؤلاء جميعا على واجبات المعلم. وسنحاول في السطور التالية أن نلخص أهم واجبات المعلم، كما وردت عند هؤلاء العلماء وهي: 1- أن يكون تقيا ورعا قائما بفروض دينه. 2- أن يكون على معرفة بأصول دينه. 3- أن يحرص على تعليم غيره لأن أي عالم إذا لم يكن له من يفيده من العلم صار كعاقر لا نسل له، فيموت ذكره بموته. ومتى استفيد بعلمه كان في الدنيا موجودا وإن فقد شخصيته كما قال أمير المؤمنين: "العلماء باقون

ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة". 4- أن يكون مجيدا للعلم الذي يدرسه وأن يجيد توصيله لعقول الآخرين. 5- أن يكون عاملا بعلمه لئلا يكون كما قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . 6- أن يجري المتعلمين منه مجرى بنيه في التعهد بأحوالهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" وأن يوقرهم ويحترمهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "وقروا من تتعلمون منه ووقروا من تعلمونه العلم". 7- أن يستعلم أسماء طلبته وحاضري مجلسه وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم وأن يوقر تلاميذ وأن يعظمهم ويحسن خلقه معهم ويرحب بهم إذا لقيهم ويعاملهم بالبشاشة وطلاقة الوجه وأن يخاطب كلا منهم بأحب الأسماء إليه. 8- أن يكون وقورا مع تلاميذه فلا يرفع التكليف بينه وبينهم ولا يتبسط معهم ولا يضاحك أحدا بشرط ألا يكون عبوسا فذلك من الفظاظة الممقوتة. 9- أن يكون رفيقا بتلاميذه وألا يعنف متعلما ولا يحقر ناشئا ولا يستصغر مبتدئا لقوله صلى الله عليه وسلم: $"علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون". 10- أن يوجه المتعلم إلى الفضيلة والابتعاد عن الرذيلة بلطف المقال، وأن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف. قال صلى الله عليه وسلم: "لو منع الناس عن فت البعر لفتوه وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء". والتعريض أبلغ من التصريح لأن النفس الفاضلة تميل إليه وبه لا تنتهك أستار الهيبة والحشمة. كما أن للتصريح وجها واحدا وعبارة واحدة، وللتعريض وجوه وعبارات مختلفة. فمن هنا كان أبلغ. وقد يكون صريح النهي داعيا إلى الإغراء على حد

قول الشاعر "دع عنك لومي فإن اللوم إغراء". 11- أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم". 12- أن يكون عادلا بين تلاميذه وأن يعاملهم معاملة سواء دون اعتبار للمكانة الاجتماعية أو الجاه أو السلطان قال صلى الله عليه وسلم: "إيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين". 13- ألا يطيل الحديث ويكثر القول في الأمر لدرجة تبعث الملل والسأم في نفس تلاميذه وتفقدهم الاهتمام بما يقول: فالإنسان يشبع من الكلام كما يشبع من الطعام، وما زاد على ذلك تزهد فيه النفس. وقد قال بعض الحكماء: "خير العلماء من لا يقل ولا يمل" وورد عن المبرد قوله: "من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرض أصحابه للملال وسوء الاستماع ولئن يدع من حديثه فضلة يعاد إليه أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له". 14- أن يخلص في تعليم تلاميذه وألا يبخل عليهم بتعليم ما يحسن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا العلم أهله فإن في ذلك فساد دينكم والتباس بصائركم". ولا يمنع من إفادة ما يعلم، وأن يجيب ما سأله متعلما، وأن يفيد من عاوده مستفهما ولا يضجر منه وأن يسهل لتلاميذه سبيل طلب العلم ويبذل على جهده من أجل معاونتهم ومساعدتهم. قال صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده ورأي يسدده". وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا وعلموا فإن أجر المعلم والمتعلم سواء". قيل: وما أجرهما؟ قال: "مائة مغفرة ومائة درجة في الجنة". 15- أن يكون أوسع الناس صدرا وأكثرهم صبرا وأجملهم لقاء وأحسنهم أخلاقا، لأن المتعلمين منه يحذون خلائقه ويتخذون طريقه. فلا يمنع طالبا ولا يثبط راغبا ولا ينفر متعلما لما في ذلك من قطع الرغبة منه والزهد فيما لديه.

16- ألا يعجل بالجواب إذا سئل وإن كان له حافظا حتى يفكر فيه ويعرفه معرفة صحيحة فيجيب بعلم ويقين فإن ذلك من آداب العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن وقاف والمنافق وثاب". 17- ألا يشتغل عن تعليم تلاميذه بأي شيء آخر. 18- ألا يستخدم تلاميذه لقضاء مصالحه وأغراضه الشخصية. 19- ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم الأخرى التي يدرسها غيره فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين. 20- أن يكون المعلم قدوة حسنة لتلاميذه في كل شيء. 21- أن يكون على فراسة في التعرف على قدرات المتعلم، يقول الماوردي: إنه ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم، ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه، ليعطيه ما يتحمله بذكائه. أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم. وقد روى ثابت عن أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا أنا لم أعلم ما لم أره، فلا علمت ما رأيت. وقال عبد الله بن الزبير: لا عاش بخير من لم ير برأيه، ما لم ير بعينه. 22- من المبادئ الهامة في التعليم التي نأخذها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه حرصه وهو يلقي درسه على حرية الطلبة العقلية وشعوره باستحالة القهر العقلي ما دام العقل يؤدي عمله. فهو يقول لطلابه: إذا ذكرت لكم ما لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه. فإن العقل مضطر إلى قبول الحق. وفي قوله: "إن العقل مضطر" الدلالة على شعوره بضرورة هذه الحرية العقلية "أمين الخولي: ص84 نقلا عن السيوطي في التنبئة"

أخلاق المعلمين

أخلاق المعلمين: تختلط الآراء فيما كتب عن أخلاق المعلمين فمنهم من يتهمهم بالحمق وروجوا عنهم الأمثال التي تصفهم بذلك مثل قولهم: "أحمق من معلم كتاب" وقد رد الجاحظ على هذا الزعم، وقال: كيف نستطيع أن نزعم أن الكسائي وقطرب وأتباعهما يقال لهم حمقى. ونفى هذه الصفة عن المعلمين بصفة عامة بقوله: "ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة التي دونهم". وأمير الشعراء أحمد شوقي مع أنه عظم المعلم بقوله: قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا يقول في قصيدته بعنوان "مصاير الأيام": إن عدوى الصبية تمتد إلى المؤدب فتلقبه صبيا مثلهم. يقول شوقي في ذلك: ألا حبذا صحبة المكتب ... وأحبب بأيامه أحبب وياحبذا صبية يمرحون ... عنان الحياة عليهم صبي خليون من تبعات الحياة ... على الأم يلقونها والأب كأنهم بعد تلقي الدروس ... مهار عرابيد في الملعب جنون الحداثة من حولهم ... تضيق به سعة المذهب عدا فاستبد بعقل الصبي ... وأعدى المؤدب حتى صبي وقد ورد أيضا أن معلم الكتاب لا تقبل شهادته، وقد يكون تفسير ذلك على أنه تشكك في ذمة المعلم وضميره وإنما على أنه سد الباب أما ترك المعلم لتلاميذه وعمله للإدلاء بالشهادة. ومن المعروف أن معلم الكتاب كان يحرم عليه ألا يترك عمله ولا ينشغل عن تلاميذه لأي سبب من الأسباب، ولذلك حرم عليه -إلا في حالة الضرورة- أشياء منها عيادة المريض والصلاة على الجنازة أو السير فيها أو الإدلاء بالشهادة في البيع أو النكاح لأن هذه الأشياء تجعله يترك عمله وتلاميذه. بل لا يجوز للمعلم أن ينشغل عن تلاميذه بأن يكتب لنفسه أو لغيره كتب الفقه وغيرها إلا بعد انتهاء عمله مع الصبيان. ويصف ابن جماعة المعلم بأنه "الذي كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحسن تعليما وأجود تفهيما". أما بالنسبة لأخلاق وآداب العلماء فإن الكتابات عن هذا الموضوع تضعهم في مكانة عالية رفيعة، ويجب أن يكونوا نبراسا لغيرهم من المشتغلين بالعلم

والتعليم. وإلى جانب بعض الآداب التي سبق ذكرها.. يرى أبو حنيفة أن على العالم المسلم أن يعرف "أن الله عز وجل إنما بعث رسوله رحمة ليجمع به الفرقة وليزيد به الألفة ولم يبعثه ليفرق الكلمة ويحرش المسلمين بعضهم على بعض" وكذلك من واجبات العالم المسلم أن يبشر ولا ينفر وألا يرمي غيره بالكفر أو غيره من التهم إن اختلفوا معه في الرأي. ولا يجوز أن يصير هذا الخلاف في الرأي خلافا في الدين، فإن صار كذلك كان العالم نفسه مخطئا خطأ تتفاوت حدود امتداده بتفاوت حجم الضرر الناجم عنه. ويقول الماوردي: ومن آدابهم "أي العلماء" نصح من علموه وتسهيل السبيل عليهم والا يمنعوا طالبا ولا ينفروا راغبا ولا يوئسوا متعلما لما في ذلك من قطع الرغبة فيهم والزهد فيما لديهم. ويضيف العلموي إلى ذلك أنه إذا سئل عن شيء لا يعرفه، أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال ابن عمر أيضا: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية ولا أدري. وقال بعضهم: "تعلم لا أدري فإن قلت لا أدري علموك حتى تدري وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري". قال الحميدي وهو تلميذ الإمام الشافعي: "صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل ويستفيد مني الحديث". وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور". وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى والخضر عليهما السلام حين لم يرد موسى العلم إلى الله تعالى لما سئل: هل أحد في الأرض أعلم منك.

أجر المعلم

أجر المعلم: هناك خلط وسوء فهم في الكتابات العربية عن أجر المعلم وهل يجوز للمعلم أن يأخذ أجرا عن التعليم أم لا. ويرجع هذا الخلط إلى عدم التمييز أو التفرقة بين أخذ المعلم أجرا عن التعليم من المتعلم وبين أخذه أجرا عن التعليم كمهنة يتعيش منها من أولي الأمر. ومن قصد المعنى الأول من علماء المسلمين قال بعدم أخذ المعلم أجرا عن التعليم وإنما يبتغي به مرضاة الله لقوله صلى الله عليه وسلم: "قل لا أسألكم عليه من أجر. إن أجري إلا على الله". ومن ذهب إلى هذا القول قلة من علماء المسلمين منهم الغزالي والجيطالي. ومن قصد المعنى الثاني من علماء المسلمين قالوا بأن المعلم يستحق أجرا على تعليم القرآن وغيره وذلك استنادا إلى ما ورد في الأثر: "أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى". وذهب كل من ابن سحنون والقابسي وغيرهما إلى القول بهذا الرأي, ومنهم الغزالي أيضا عند قصد هذا المعنى إذ يقول: "للمدرس أن يأخذ ما يكفيه ليفرغ قلبه عن المعيشة وليتجرد لنشر العلم فيكون مقصوده نشر العلم وثواب الآخرة. ويأخذ الرزق بلغة ميسرة للمقصود أي مساعدة له على العيش والحياة. ويبرز القابسي إعطاء المعلم أجرا عن التعليم بقوله: لو اعتمد الناس على التطوع لضاع كثير من الصبيان ولما تعلم القرآن كثير من الناس فتكون هي الضروروة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية إلى تثبيت أبناء المسلمين بالجهالة فلا وجه لتضييق ما لم يأت فيه ضيق. ويروى عن ابن مسعود قوله: ثلاثة لا بد للناس منهم: أمير يحكم بينهم ولولاه لأكل بعضهم بعضا، وشراء المصاحف وبيعها ولولاه لقل كتاب الله، ومعلم يعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرا ولولا ذلك لكان الناس أميين. ويروى أيضا أن سعد بن مالك قدم برجل من العراق يعلم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. ويروى عن مالك قوله: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن وإن اشترط شيئا كان حلالا جائزا ولا بأس بالاشتراط في ذلك، وحق الختمة سواء اشترطها أم لم يشترطها. وهذه كلها أمثلة تؤكد استحقاق المعلم للأجر على اشتغاله بالتعليم. وكان الإمام مالك وجميع علماء المدينة يجيزون أخذ الأجر على تعليم الصبيان القرآن والكتابة. فقد ورد عن ابن وهب صاحب الموطأ قوله: "سئل مالك عن الرجل يجعل للرجل عشرين دينارا يعلم ابنه الكتاب والقرآن حتى يحذقه. فقال: لا بأس بذلك وإن لم يضرب أجلا. ثم قال: "والقرآن أحق

ما يعلم" وقد ورد في فتح الباري بشرح البخاري 5/ 360 "كتاب الإجازة" قول الحكم: "لم أسمع أحدا كره أجر المعلم". وأورد ابن وهب في موطئه عن عبد الجبار بن عمر قوله: كل من سألت بالمدينة لا يرى لتعليم المعلمين بالأجر بأسا. وهناك أمثلة واقعية لمعلمين كانوا يأخذون أجرا على تعليمهم من أشهرهم المبرد الذي كان لا يعطي الدروس مجانا وكان الزجاج يدفع إليه درهما في اليوم لقاء تعليمه. وقد رد الطهطاوي في العصور الحديثة على من قال بعدم جواز أخذ أجر عن التعليم، وذهب مذهب جمهور المسلمين في القول بأن يأخذ المعلم أجرا على التعليم، وقد كان المعلم في العصور الإسلامية ولا سيما معلم الكتاب يأخذ أجرا يتفق عليه من أولياء الأمور وكان هذا الأجر يدفع عادة إما مشاهرة "بالشهر" أو مساناة "أي بالسنة". وقد يكون نقديا بالمال أو عينيا بالغلال والحبوب وغيرها من الخيرات أو بهما معا. وقد يترك أمر الأجر لتقدير الآباء وحسب كرمهم وأريحيتهم. أما المعلمون أو العلماء الذين كان يعينهم الولاة والحكام في مدارسهم التي كانوا ينشئونها كالفاطميين في مصر ونظام الملك في بغداد ونور الدين زنكي في الشام وصلاح الدين الأيوبي في مصر فكانت لهم أجور منتظمة تدفع لهم من خزانة الدولة ومن بيت المال. وهناك اختلاف بين المؤرخين حول مسألة بدء ترتيب أجور منتظمة للعلماء والمعلمين. فهناك رأي يقول: إن نظام الملك هو أول من رتب الأجور للعلماء والمدرسين في مدارسه النظامية، ورأي آخر يقول: إن ترتيب الأجور للمعلمين بدأ قبل نظام الملك. وهناك رأي يقول: إن الفاطميين أول من رتب أجور منتظمة للعلماء والمعلمين ولكن من المعروف أن العباسيين شيدوا بيت الحكمة في بغداد، وعينوا له العلماء والمترجمين والنساخ ورتبوا لهم المرتبات والأجور. ومن بعدهم بني الفاطميين الأزهر لخدمة المذهب الشيعي ووكلوا إلى رجالهم وعلمائهم الإشراف عليه وتوجيهه. ثم أنشأ نظام الملك عدة مدارس عرفت باسمه أشهرها نظامية بغداد وكان

الهدف من إنشائها مقاومة المذهب الشيعي الذي كان منتشرا في عهد البويهيين، وعملت هذه المدارس على ترويج المذهب السني. وقد عين لهذه المدراس العلماء والمعلمون ورتبت لهم المرتبات والأجور. ويصدق ذلك أيضا على المدارس التي أنشأها كل من نور الدين زنكي في الشام وصلاح الدين الأيوبي في مصر، فكانت هذه المدارس تروج لمذهب فقهي معين تسير الدراسة وفقا له ويقوم بالتدريس فيها علماء المذهب وشيوخه. ولم يكن التعليم هو الوسيلة أو المهنة التي يعتمد عليها المعلم في كسب رزقه إذ كان لكل معلم مهنته الخاصة. وقد قام أحد الباحثين الأجانب1 بإحصاء للعلماء المسلمين في القرنين الثالث والرابع للهجرة فوجد أن 75% منهم كانوا من التجار وأصحاب الحرف. فالزجاج كان يعمل في خرط الزجاج. وكان أبو حنيفة خزازا يبيع الخز وكان الواقدي يضارب بالحنطة. ولذلك نجد أن معظم العلماء كانوا في حالة الاكتفاء من الناحية المادية بل إن بعضهم كان من الموسرين لدرجة أنه كان يساعد طلابه المجتاجين. وكان هناك بالطبع عدد قليل من العلماء الفقراء الذين كانوا يتلقون العون والمساعدة من الخلفاء والأعيان.

_ 1 انظر: تاريخ التعليم عند المسلمين: ترجمة د. سامي الصفار.

الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى

الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى مراحل تطور التربية الإسلامية مدخل ... الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى مراحل تطور التربية الإسلامية: يمكننا أن نميز بين أربع مراحل متميزة مرت بها التربية الإسلامية في تطورها هي: المرحلة الأولى: مرحلة البناء وتبدأ منذ ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية. وأهم السمات العامة للتربية الإسلامية في تلك الفترة هي: 1- أنها كانت تربية عربية إسلامية خالصة. 2- أنها استهدفت إرساء قواعد الدين الجديد. 3- أنها اعتمدت أساسا على العلوم النقلية واللسانية. 4- أنها اهتمت بالكلمة المكتوبة كوسيلة هامة للاتصال. 5- أنها أفسحت المجال لتعلم اللغات الأجنبية. 6- اعتمادها على الكتاب والمسجد والمكتبة كمراكز للتعليم. المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي وتبدأ بالعصر العباسي حتى انهيار الخلافة العباسية وسقوط بغداد. وأهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة هي: 1- دخول العلوم العقلية. 2- إنشاء المدارس. 3- ظهور الآراء التربوية المتميزة. المرحلة الثالثة: مرحلة التطور والانحطاط وتبدأ بالحكم التركي العثماني حتى استقلال البلاد العربية, وأهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة هي:

1- تجمد الفكر الإسلامي. 2- العودة إلى الاقتصار على العلوم النقلية. 3- جمود المؤسسات التعليمية. 4- غلبة الثقافة التركية. 5- التمييز الثقافي للأقليات الدينية غير الإسلامية. 6- دخول المؤثرات التربوية الغربية. المرحلة الرابعة: مرحلة التجديد وإعادة البناء وتشمل هذ الفترة بداية استقلال البلاد العربية من الحكم التركي وتمتد حتى العصر الحاضر. وأهم السمات العامة للتربية في هذه الفترة هي: 1- اقتباس النظم التعليمية الغربية. 2- العناية بالعلوم العقلية والحديثة. 3- تغلغل الثقافة الغربية. 4- محاولة تطوير مؤسسات التعليم التقليدية وسنحاول أن نفصل الكلام في الصفحات التالية عن التربية الإسلامية، خلال المرحلتين الأوليين باعتبار وقوعهما زمنيا في العصور الوسطى مرجئين الكلام عن المرحلتين الأخيرتين إلى فترة العصور الحديثة.

المرحلة الأولى للتربية الإسلامية: مرحلة البناء

المرحلة الأولى للتربية الإسلامية: مرحلة البناء مقدمة: بين العروبة والإسلام كان العرب قبل الإسلام يعيشون في المنطقة التي تعرف الآن بشبه الجزيرة العربية، وكانت حياتهم حياة بداوة بسيطة تحكمها الصحراء بجدبها والقبيلة بعصبيتها. ولم تكن هناك وحدة سياسية تشملهم وإنما عاشوا في حالة تفكك اجتماعي وسياسي كبير. ولم يكن يوجد بينهم إلا اللغة والشعر يتطارحونه في أسواقهم الأدبية المعروفة، وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز. ولم يكن لهم غير ذلك من نصيب كبير في مجال العلوم والفنون كما أشرنا. وكانوا يعبدون الأصنام ويشربون الخمر ويلعبون الميسر، ويؤمنون بالتطير ويتاجرون في العبيد. وكانت مكة تحظى بأهمية خاصة لوجود البيت الحرام بها. وهو البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام إلى جانب أنها كانت أهم مركز تجاري. وكانت التجارة أهم الوسائل التي تربط العرب بالمجتمع الخارجي وتمثلت الطبقة الغنية هناك في طبقة التجار الذين كانوا يجلبون التجارة من بلاد فارس والشام واليمن. وكانت تجاور العرب في تلك الفترة دولتان كبيرتان على حظ كبير من الحضارة أولاهما دولة الفرس في الشرق وثانيتهما دولة الروم أو الدولة البيزنطية في الغرب، وكانت هذه الدولة الأخيرة تسيطر على العراق والشام ومصر وشمال إفريقيا. وجاء الإسلام، وكان ثورة اجتماعية شاملة ضد التفكك والتخلف وسرعان ما وحد العرب تحت لوائه. ولكن الإسلام لم يكن لأهل الجزيرة العربية فحسب وإنما للناس قاطبة من عرب وعجم. ومن ثم بدأت رسالة الإسلام تأخذ طريقها إلى خارج الجزيرة لتبشر بالدين الجديد. وقد استطاع العرب تحت لواء الدين الجديد أن يهزموا أكبر دولتين في عصرهما "أي أوائل القرن السابع الميلادي". ولم يمض على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام سوى حوالي ثلاثة أرباع قرن من الزمان إلا وكان الإسلام يرفرف على رقعة هائلة تمتد من المحيط الهندي شرقا حتى المحيط الأطلسي وغربا. فقد فتح العرب دمشق سنة 625م والعراق سنة 637م ومصر وفارس سنة 641م وبرقة سنة 643م وواصلوا فتحهم لشمال إفريقيا سنة 644م ولم تأت سنة 708م إلا وكانت لهم السيطرة عليها تماما. ودخل العرب إسبانيا سنة 711م وقد انتشر الإسلام بسرعة كبيرة في مناطق أخرى من العالم حتى أصبح يضم اليوم ما يقرب من خمسمائة مليون مسلم في جميع أنحاء العالم. وقد صاحب المد العربي انتشار الإسلام، بل وعندما انحسر الامتداد العربي بقي الإسلام كما هو بل واتسعت رقعته. والمهم من كل هذا هو أن نبين أن ما يعرف الآن بالوطن العربي دخل إلى العروبة عن طريق الإسلام. ومع حركة التعريب اللغوي والثقافي التي شملت هذا الوطن انصهر في بوتقة العروبة

على مر الزمان وكون معها وحدة عضوية متجانسة، وقد ساعد على ذلك وحدة الأرض والتاريخ والآمال والانتماء المصيري. وهكذا يتضح أن كلمة عرب بمعناها الواسع لا يقصد بها أساس عرقي عنصري وإنما مفهوم ثقافي يطلق على الشعوب والأقوام التي دخلت الإسلام وانصهرت في بوتقة الثقافة العربية من خلال الإسلام واتخذوا اللغة العربية ميراثا مشتركا واكتبوا بها مؤلفاتهم في مختلف العلوم والفنون والآداب في عصر ازدهار الإسلام. إن التمييز الحادث بين العروبة والإسلام لا يمكن أن نفهمه إلا من خلال النظرة الفاحصة المتمهلة للأصول التاريخية التي يكون بها العالم الإسلامي. إن الإسلام في جوهره الأساسي لم يقم على دعوة عنصرية عرقية كاليهودية مثلا التي يدعي أبناؤها أنهم شعب الله المختار وإنما كان الإسلام للناس كافة. ومن هنا كان لا بد أن يمتد الإسلام خارج جزيرة العرب كما قلنا. وكان حملة لوائه هم العرب أنفسهم لأنه جاء قرآنا عربيا بلسانهم وعلى يد نبي عربي من جلدتهم. وهكذا كان المد الديني والإسلامي مقترنا بالمد الثقافي العربي. وكان هذا المد هائلا وشمل مختلف أرجاء المعمورة ولكن النتيجة لم تكن واحد بالنسبة لكل أرجاء العالم الإسلامي. ذلك أنه حيثما تم انصهار الشعوب في بوتقة العروبة والإسلام تكونت الثمرة الناضجة التي تمثل الآن ما يعرف بالعالم العربي، أما حيثما لم يكتمل الانصهار في بوتقة العروبة والإسلام انحسر مد العروبة لكن بقي مد الإسلام وهذه المناطق تعتبر ثمرة لم تنضج بعد. وقد ترتب على هذا الوضع وجود تمييز درج الناس عليه بين العالم العربي والعالم الإسلامي ومثل هذا التمييز أوجد كثيرا من البلبلة في العقول. وإذا أردنا أن نضع الأمور في مكانها الصحيح قلنا العالم الإسلامي الناطق بالعربية والعالم الإسلامي غير الناطق بالعربية. ولو تصورنا أن العالم الإسلامي غير الناطق بالعربية أصبح يتحدث العربية لاختفى هذا التمييز، ومن هنا يمكن أن نفهم الوحدة الإسلامية الحقيقة. إن انضمام الصومال وموريتانيا إلى عضوية الجامعة العربية حدث له معناه وفحواه، وهو يؤكد القضية التي نحن بصددها ونتمنى أن نرى العالم الإسلامي

كله، وقد تحققت وحدته الفكرية على أساس من اللغة العربية. لقد عرف العالم الإسلامي قمة ازدهاره ومجده عندما كانت اللغة العربية أساس هذه الوحدة الفكرية، وكانت اللغة الراقية للعالم والجنس البشري طيلة أربعة قرون من الزمان منذ القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر. وتعلمها كثير من غير أبنائها باعتبارها لغة الثقافة والعلم، وقد كتبوا وألفوا بها. ولم يكن علماء المسلمين من مختلف الأجناس يشعرون بأي غضاضة بالكتابة بالعربية. ولذا نجد جميع علماء الإسلام من عرب وفرس وترك يؤلفون مؤلفاتهم بالعربية، مع أنهم كانوا يعرفون لغاتهم الأصلية. وقد روي عن العالم الإسلامي الكبير البيروني قوله: "والله لأن أهجى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية". يضاف إلى ذلك أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وتعلمها من كمال تمام الدين. وقد روى عمر بن الخطاب قوله: "تعلموا العربية فإنها من دينكم". ولا شك أن الأمر هنا موجه إلى كل المسلمين. ويقول العلامة ابن تيمية: "إن اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب. ذلك أنه فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا باللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ويرى الإمام الشافعي أن على كل مسلم أن يتكلم العربية وأن تعلم اللغة العربية فرض على كل مسلم. وهكذا يصبح من واجب كل مسلم أن يتعلم العربية. وإذا كان غير المسلم يتحتم عليه أن يتعلم اللغة القومية لدولته إلى جانب لغته الأم لدواعي الحياة والمعيشة كما في دول مختلفة في العالم في سويسرا أو الاتحاد السوفيتي أو الهند وغيرها فما بالك بالمسلم الذي يعتبر تعلم اللغة العربية بالنسبة له من تمام دينه؟ إن على العالم الإسلامي غير الناطق بالعربية أن يسعى حثيثا لا هوادة فيه إلى نشر تعلم اللغة العربية بين أبنائه بنشر مراكز تعليمها على أوسع نطاق. كما يجعل اللغة العربية أجباريا من السنوات الأولى للتعليم في مدارسه ويجب على العالم الإسلامي العربي أن يشجع كل خطوة في هذا الاتجاه، وأن يقدم لها العون المادي والبشري على السواء.

السمات العامة للتربية الإسلامية في فترة البناء: تميزت الفترة الأولى من ظهور الإسلام بفترة الحكم الشوري للخلفاء الأربعة الأوائل الذين عاصروا الرسول الكريم وتأثروا به كما أنهم قادوا الفتوحات الأولى للإسلام وعملوا على تثبيت أركان الدين والدولة. وفي العصر الأموي أصبح منصب الخليفة وراثيا، فالخليفة يوصي بمن يخلفه، واستمرت خلافتهم ما يقرب من تسعين عاما بين عام 40-132هـ و661-750. وفي بداية حكمهم نقلوا عاصمة الدولة من المدينة إلى دمشق، وكانت الدولة الأموية دولة عربية على الرغم من أنها نقلت عاصمتها من قلب العروبة إلى منطقة تلتقي فيها الحضارة الرومانية والفارسية. وقد ازدهر الأدب والشعر، وتجلت روائع الفن الإسلامي في مسجد دمشق. كما شهد العصر الأموي بداية حركة الترجمة إلى العربية إلا أنها كانت مقصورة على أفراد وتمثل اهتمامات فردية أو جهودا شخصية. أما في العصر العباسي فكانت تمثل مدرسة كاملة ترعاها الدولة وتباركها. كذلك اهتمت الترجمة في العصر الأموي بالعلوم ترعاها مثل الطب والكيمياء ولم تتعدها إلى العلوم العقلية في الرياضيات والمنطق والفلسفة. ولذا كانت هذه العلوم وليدة الدولة العباسية ذاتها وسيأتي تفصيل الكلام فيما بعد. وقد سبق أن أشرنا إلى أهم السمات العامة للتربية الإسلامية في فترة البناء وسنحاول في السطور التالية أن نفصل الكلام عنها: 1- كانت عربية إسلامية خالصة: تميزت هذه الفترة من التربية الإسلامية التي تمتد من ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية بأنها كانت إسلامية عربية خالصة، وقد يرجع ذلك إلى غلبة العرب وأن العناصر الإسلامية الجديدة لم تكن قد انصهرت انصهارا ثقافيا كاملا، كما أن العناصر العربية هي التي توجه الحكم والسياسة والدين والثقافة بصورة رئيسية. وفي هذه الفترة ولا سيما في عهد الأمويين نظمت حلقات الدروس في المساجد وقد ساعد على ذلك ظهور المذاهب والفرق الإسلامية والدينية المختلفة

ومنها الخوارج والشيعة والمعتزلة، وقد اعتنق بعض الخلفاء الأمويين مذهب الاعتزال الذي يعتبر من المدارس التقدمية في الإسلام وهو مذهب النزعة العقلية، وقد عمل انتشار المذاهب والفرق الإسلامية على زيادة اهتمام العلماء ببحث المسائل الدينية المختلفة ومنها مسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار وارتكاب الكبيرة، وهكذا كان الاهتمام مركزا على الجوانب الدينية في الإسلام كما أن المسلمين لم يشتغلوا بشيء إلا بلغتهم وثقافتهم، وفي ذلك يقول صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم "ص47". "كانت العرب في صدر الإسلام لا تعني بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها، ولما كان عندهم من الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليها حيث يقول: "يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داء واحدا وهو الهرم" أي: الكبر والشيخوخة. وينبغي أن نشير هنا إلى أنه بعد فتح الممالك تفرق الصحابة في الأمصار. وكان منهم علماء رحلوا للتعليم فكانوا نواة لمدارسها. 2- استهدفت إرساء قواعد الدين الإسلامي الجديد: كان من الطبيعي أن تستهدف التربية الإسلامية في هذه الفترة الأولى من حياة الإسلام العمل على نشر الدين وتعاليمه؛ ولذلك نجد أن هذه الفترة تميزت بالفتوحات الإسلامية لنشر الدين وتثبيت أركانه وإلى جانب إرساء قواعد الدين وتثبيت أركانه شغل خلفاء المسلمين الأوائل بإرساء قواعد الحكم أيضا باعتبار أن الإسلام دين ودولة فالحاكم هو في نفس الوقت خليفة المؤمنين. وفي عهد عمر بن الخطاب كان من الطبيعي أمام اتساع الدولة أن يهتم بالأمور الدينية والشرعية والاصلاحات الإدارية. وفي عهده أنشئت الدواوين ووضعت سجلات لدخل الدولة. وفي صدر الإسلام ظهرت الخطابة كفن هام له دوره في نشر الدعوة الإسلامية وعلا شأنها على الشعر ولا سيما بعد أن هاجم القرآن الشعراء بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وكان الرسول هو أصحابه يبثون الدعوة ويعلمون الناس في

المدينة وكان يرسل أصحابه ودعاته ورسله إلى الجهات النائية من شبه الجزيرة وغيرها ليعلموا الناس ويقرئوهم القرآن الكريم. وتفرق الصحابة في الأمصار الإسلامية يعلمون الناس ويثقفونهم ويرشدونهم إلى أمور دينهم ويفقهونهم فيه. وكان الخلفاء أيضا يرسلون العلماء إلى الأمصار ومع الجيوش لنشر الدعوة الإسلامية فيها، كما كانوا أيضا يوصون ولاتهم في الأمصار بضرورة الاهتمام بنشر الدين وتعاليمه. وكان عمر على سبيل المثال عندما يرسل صحابيا إلى بلد ما يبعث معه بخطاب يعرف فيه الناس بقدره ومكانته مثلما فعل مع عبد الله بن مسعود وهو من خيرة الصحابة حين أرسله إلى الكوفة فبعث معه برسالة إلى أهلها يقول لهم فيها "إني بعثت لكم بعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وآثرتكم به عن نفسي فخذوا عنه" وكان لكل صحابي مدرسة من مريديه يعرفون بالتابعين، كما كان لهؤلاء المريدين أيضا مريدون يعرفون بتابعي التابعين. وهكذا وضع الأساس لحركة علمية تعليمية ثقافية وفكرية تستند إلى الدين الجديد، وقد ازدهرت هذه الحركة بعد جيلين أو ثلاثة من جيل الصحابة والتابعين. "مصطفى الشكعة: ص21". كما أرسل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى شمال إفريقية عشرة من الفقهاء لتعليم أبناء البربر تعاليم الدين الإسلامي. 3- اعتمدت أساسا على العلوم النقلية واللسانية: اعتمدت التربية الإسلامية خلال هذه الفترة على العلوم النقلية وتشمل علوم الدين المختلفة من قراءات وتفسير وحديث وفقه، وما يتصل بها من علوم لسانية وهي النحو واللغة والأدب، وهذه النزعة النقلية واللسانية للجانب الثقافي من التربية الإسلامية تتمشى مع ما سبق أن أشرنا إليه من كون التربية في هذه الفترة عربية إسلامية خالصة واستهدفت إرساء قواعد الدين بصورة رئيسية. 4- اهتمت بالكلمة المكتوبة كوسيلة هامة للاتصال: إلى جانب ما أشرنا إليه من استخدام الخطابة كأسلوب هام في التربية الإسلامية في صدر الإسلام برزت أيضا أهمية الكلمة المكتوبة كوسيلة هامة

للاتصال ولم تكن هذه الأهمية موجودة من قبل. فقد كان مجيء الإسلام عاملا هاما في ظهور أهمية الكتابة. وبرزت أهميتها أول ما برزت عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابة الوحي وما ينزل عليه من آيات القرآن الكريم. وقد استعان بمن كانوا يعرفون الكتابة آنذاك. وكان أول من كتب له أبي بن كعب الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري إذ كانا يقومان بكتابة ما يوحى به إليه صلى الله عليه وسلم. ومن كتب له أيضا علي وأبو بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي قبل أن يرتد وعثمان بن عفان وشرحبيل بن حسنة وأبا بن سعيد والعلاء بن الحضرمي ومعاوية بن أبي سفيان وحنظلة بن الربيع والزبير بن العوام وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن رواحة وغيرهم. ويروى أن هؤلاء الكتبة للوحي لم يكونوا مهرة في الكتابة ولم تكن كتابتهم تسير على نمط واحد أو تخضع لقواعد واحدة من الكتابة أو الإملاء فكانوا لا يميزون بين مواقف الألف يحذفونها في موضع ويضيفونها في موضع آخر ما تساوي الموضعين في الإملاء، وكتبوا التاء المربوطة مفتوحة وغير ذلك. ويقول ابن خلدون في تعليل ذلك: هو ضعفهم في صناعة الخط والكتابة وأنهم لم يبلغوا حد الإجادة فيها. وكان كتبة الوحي يكتبون على الرقاع والأضلاع وسعف النخل والحجارة الرقائق. كذلك كان نشر الدين الإسلامي عاملا هاما في ظهور أهمية القراءة والكتابة، فالمسلمون الأوائل بدءوا يحسون بالحاجة إلى القراءة والكتابة ليعرفوا أمور دينهم على الوجه الصحيح. وآيات القرآن الكريم كانت تكتب ويتلوها من يعرف القراءة على من لا يعرف وكان من الطبيعي إذن أن يحس المسلمون بحاجتهم إلى تعلم القراءة والكتابة. وقد أقبل الناس على القرآن يقرءونه ويفهمون معانيه ويفسرون آياته ويستنبطون منه الأحكام. كما أن حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نشر الدين تطلبت منه الاتصال بمن جاوره من الملوك والأمراء عن طريق الكتابة إليهم وبعث الرسائل لهم، وفي ذلك يقول ابن هشام: "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام. فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك

الروم، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة. وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعباد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن أثال وخوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن شمر الغساني ملك تخوم الشام ... وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن". وهذه الرسائل مكتوبة بالعربية لكنه احتاج إلى من يحسن الرومية والفارسية والحبشية والقبطية لترجمة مضمون هذه الرسائل إلى من وجهت إليهم من غير العرب. ولم تقتصر كتابة الرسائل على الملوك وإنما شملت أيضا كثيرا من رجال العرب وأقوامهم. وقد خصص ابن سعد في طبقاته كلاما مفصلا عن الرسائل العديدة التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الرجال والأقوام "ابن سعد: الطبقات الكبرى ط1 ص258". وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم له كثيرا من الكتاب الذين يكتبون القرآن ويحررون الكتب التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسلها إلى الملوك والأمراء وغيرهم من الأقوام. ولذا كان ديوان الإنشاء أي الكتابة أول ديوان وضع في الإسلام يليه ديوان الجيش في عهد عمر. وقد عدد إبراهيم الأبياري في موسوعته القرآنية أربعة وعشرين كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم "إبراهيم الأبياري ج1: ص291" كما أن هناك من المؤلفين القدماء من عدد 42 كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم "عبد الحي الكتاني: ص116". ومن ناحية أخرى نجد أن الحاجة إلى كتابة معاهدات الصلح والمواثيق والعهود منذ بداية عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت عاملا آخر في تأكيد أهمية الكتابة، ولم تكن هذه الحاجة موجودة بهذه الدرجة من قبل. كذلك نجد أن القرآن قد أمر بكتابة الدين ضمانا لحقوق الدائن وإثباتا على المدين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .

ويورد الكتاني نقلا عن "أبو الوفاء الهوريني المصري" أنه لم تكثر الكتابة العربية في المدينة إلا بعد الهجرة النبوية بأكثر من سنة. وذلك أنه لما أسرت الأنصار سبعين رجلا من صناديد قريش وغيرهم في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة. جعلوا على كل واحد من الأسرى فداء من المال وعلى كل من عجز عن الاقتداء بالمال أن يعلم الكتابة لغيره من صبيان المدينة فلا يطلقونهم إلا بعد تعليمهم. فبذلك كثرت فيهم الكتابة وصارت تنتشر في كل ناحية فتحها الإسلام في حياته عليه الصلاة والسلام وبعده حتى بلغت عدة كتابه عليه السلام 42 رجلا. ولما تولى أبو بكر الخلافة اتخذ عثمان بن عفان كاتبا له، واتخذ عمر زيدا بن ثابت وعبد الله بن الأرقم واتخذ عثمان مروان بن الحكم. وروى الجهشياري أن عليا كرم الله وجهه قال لكاتبه عبد الله بن رافع: "يا عبد الله ليق دواتك" "أي اجعل لها ليقة أو خرقة توضع في المداد" وأطل شباة قلمك "أي سنة ومقدمته" وفرج بين السطور وقرمط بين الحروف "ويعني بها التقريب بين الحروف مع الدقة". "حسن إبراهيم ج1: ص452". كما أن الاهتمام بأعمال الخلفاء الأول وتسجيل أعمالهم وفتوحاتهم وما اتصل بها من أحداث هامة قد أوجبت تدوينها في كتب السير والمغازي منها على سبيل المثال ما ألفه عروة بن العوام "23-94هـ" الذي يعتبر أقدم من ألف في سيرة الرسول وأبان بن عثمان بن عفان "222-105هـ" الذي جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة كتابا في السير ووهب بن منبه "34-11هـ" الذي ألف كتابا في المغازي وموسى بن عقبة المتوفى 141هـ الذي جمع كتابا في المغازي. ولما انتقلت الخلافة إلى بني أمية تعدد الكتاب لتعدد مصالح الدولة وأصبح الكتاب خمسة: كاتب الرسائل وكاتب الخراج وكاتب الجند وكاتب الشرطة وكاتب القاضي. وكان كاتب الرسائل أهم هؤلاء الكتاب في الرتبة. وكان الخلفاء لا يلون هذا المنصب إلا أقرباءهم وخاصتهم وظلوا إلى ذلك أيام العباسيين. وقد ازدادت أهمية الكتابة العربية مع تعريب الدواوين في الأمصار الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان. وقد حذا الوليد حذو أبيه عبد الملك "شوال

86هـ - جمادى الآخرة 96هـ" وحول كتابة الدواوين في مصر إلى العربية بعد أن كانت باليونانية التي كانت اللغة الرسمية في مصر حتى عهده. وهكذا نجد أن إنشاء الدواوين في الإسلام وتعريبها قد تطلب الاهتمام بالكتابة العربية أيضا. ومن المعروف أن عمر بن الخطاب هو أول من أنشأ الدواوين أي الإدارات الحكومية في الإسلام وفي ذلك يقول محمد كرد على المؤرخ المعروف: "وما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح فهو أول من حمل الدرة وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم دونها له عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس" ويستطرد فيقول: "والديوان الدفتر أو مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وعرفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير" "محمد كرد علي: 1934". ومن المعروف أن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء كما أشرنا في مكان آخر من هذا الكتاب، وكانت دواوين الشام تكتب بالرومية ودواوين العراق بالفارسية ودواوين مصر بالقبطية يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين. وكذا فرضت الحاجة إلى تعريب هذه الدواوين أهمية خاصة على الكتابة العربية وضرورة قيام نفر من المسلمين بأمرها، وقد تطلب ذلك الاهتمام بها وتعلمها. ويقول ابن خلدون "المقدمة: ص419-421" لما جاء الملك العرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة. واحتاجت الدولة إلى الكتابة طلبوا صناعتها وتعلموها وبلغت رقبة من إتقان الخط في الكوفة والبصرة إلا أنها كانت دون الغاية ثم انتشر العرب في الأقطار والممالك وفتحوا إفريقية والأندلس، واختلط بنو العباس بقباء، فترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استجرت في العمران ... وعم العمران والحضارة كل قطر في الدول الإسلامية وعظم الملك، وازدهرت العلوم ونسخت الكتب وأجيد نسخها وتجليدها وملئت بها القصور

والخزائن الملوكية وتنافس في ذلك أهل الأقطار.. ولما انحل نظام الدولة الإسلامية وضعف شأن بغداد بضعف الخلافة انتقل شأن العلم والكتابة إلى مصر والقاهرة وأصبح للخط والكتابة معلمون يعلمون حسب قوانين متعارفة بينهم.. أما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ... فانتشروا في المغرب وبأفريقية وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع فغلب الأندلسي بتونس وما إليها لتوفر أهل الأندلس بها. ولما تراجع أمر الحضارة بتراجع العمران وتقلص الدول، زاد الميل بالخط وفسدت رسومه فصارت الخطوط بأفريقية والمغرب مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل منها لمتصفحها إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع منها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة. 5- أفسحت المجال لتعليم اللغات الأجنبية: ظهرت الحاجة إلى تعليم اللغات منذ أيام الإسلام الأولى وإن كان ذلك على نظاق ضيق. فقد كانت نتيجة لاتصال المسلمين بالأقطار الأخرى واتساع رقعة الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية أن برزت الحاجة إلى تعلم اللغات الأجنبية وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على أن يتعلموا اللغات الأخرى غير العربية لدواعي الحاجة إليها وفي الحديث الشريف أنه "من تعلم لغة قوم أمن من شرهم". ويقول ابن سعد في "الطبقات الكبرى": إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من "الحديبية" في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتابا. فقيل: يا رسول الله إن الملوك لا يقرءون كتبا إلا مختومة. فاتخذ رسول الله يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر: "محمد رسول الله" وختم به الكتب فخرج ستة منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم" "ابن سعد: ص258". وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لتعلم العبرية والسريانية ليدون بها

رسائله. ويروى عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا فتعلم السريانية" تعلمها في سبع عشر يوما كما يروى عن زيد بن ثابت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يتعلم الكتابة اليهودية "العبرية" ليتولى مراسلات النبي معهم ففعل زيد وكان يقوم بالكتابة لهم على لسان النبي كما كان يقرأ للنبي ما يرسلون له. هكذا كان تعلم اللغات الأجنبية مطلبا للتربية الإسلامية منذ ظهورها للوفاء باحتياجاتها التي فرضت عليها الطبيعة الإنسانية العالمية للدين الإسلامي. 6- اعتمدت على الكتاب والمسجد: اعتمدت التربية الإسلامية على الكتاب والمسجد بصورة رئيسية كمراكز للتعليم ولم تكن المدارس قد أنشئت بعد. كما أن المكتبات لم يكن لها شأن كبير في هذه الفترة. فكانت مجالس القضاة في المساجد حافلة بكل أنواع المعرفة والتثقيف. ففي مسجد الرسول كان الإمام جعفر الصادق يجلس ليعلم الناس ويثقفهم ويفقههم في أمور دينهم. وفي مسجد البصرة كان مجلس الحسن البصري، وإلى جانب مجلسه كانت هناك في نفس المسجد حلقات أخرى للدرس. وقد عملت هذه المجالس والحلقات على تنشيط الحركة الفكرية والثقافية الإسلامية ونشطت العقل الإسلامي ودربته على الجدل وتفنيد الحجج والأدلة ومناقشة اليهود والنصارى في محافل عامة أو مجادلة الفرق الكلامية الإسلامية بعضها البعض "مصطفى الشكعة: ص33". ونظرا لأن هذه المراكز قد استمرت تلعب هذا الدور الهام فيما بعد فإننا سنفصل الكلام عنها فيما بعد عند كلامنا عن مراكز التعليم.

المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي أو الازدهار

المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي أو الازدهار مقدمة تاريخية: في هذه الفترة من التربية الإسلامية بلغت أملاك الإسلام أقصى حدودها من المحيط الأطلسي في أقصى الغرب إلى حدود الصين في أقصى الشرق ومن وسط آسيا في الشمال إلى وسط إفريقيا في الجنوب, وامتد الإسلام في أوربا حتى جبال البرانس وبلاد الغال جنوب فرنسا. وصهرت أمم هذه الأقطار الواسعة البالغة، الكثيرة في بوتقة الإسلام فأسهمت في حضارة تعد من أسطع ما عرف العالم من الحضارات الفكرية والمادية على السواء. وكان أكثر أدوار الحضارة الإسلامية ازدهارا هو دور الخلافة العباسية ببغداد التي امتدت خمسة قرون "750-1258" ودور الأمويين بإسبانيا "711-1492" الذي امتد ما يقرب من ثمانية قرون. يقول غوستاف لوبون "كانت بغداد وقرطبة هما القاعدتان اللتان كان السلطان فيهما للإسلام من مراكز الحضارة التي أضاءت العالم بنورها الوهاج" ولهذا سنخصص في هذه المقدمة التاريخية الكلام عن الدولة الإسلامية في المشرق والدولة الإسلامية في المغرب. أولا: الدولة الإسلامية في المشرق: ترتبط هذه الفترة التاريخية في المشرق بالدولة العباسية كما قلنا. وفي هذه الفترة انتشرت اللغة العربية في جميع أنحاء آسيا انتشارا سريعا فحلت محل اللغات القديمة بها حتى أصبحت اللغة العربية بالنسبة لدول المشرق كاللاتينية بالنسبة لدول الغرب. وقد تمكن العباسيون بفضل الازدهار الذي غمرهم من القيام بكثير من الأعمال العظيمة ذات النفع العام في شتى الميادين، منها شق الطرق التي تربطها جميع البلاد وإنشاء مرابط للخيل والاستراحات أو الفنادق للقوافل وحفر صهاريج المياه التي تزود المسافرين بالماء. وتقدمت الزراعة والصناعة واستغلت الثروات الطبيعية التي كانت تملأ الخلافة شرقا وغربا فاستغلت مناجم الحديد بخراسان ومناجم الرصاص بكرمان ورخام طوروس كما استغلت مصادر النفط والأحجار الكريمة. وازدهرت الفنون والآداب وظهرت ألف ليلة وليلة التي غذت خيال الشعراء والأدباء، وارتبطت بهارون الرشيد. وبنيت المستشفيات والمختبرات الطبية والمراصد الفلكية. ومن أئمة علماء هذه الفترة فقيها الإسلام العظيمان أبو حنيفة ومالك اللذان عاشا أوائل الحكم العباسي وعاشا في عهد الخليفة العباسي الثاني

المنصور "754-775" وكانا يقومان بإلقاء دروسهما. ويبرز الخليفة المأمون شديد الاهتمام بالتعليم والأدب، وكان يجمع من الأقاليم التابعة له كسوريا وإفريقيا ومصر ما يوجد فيها من كتب بدلا من الضرائب. وكانت مئات الجمال ترى وهي تدخل بغداد حاملة ورقا وكتبا فقط. وكانت تترجم للعربية الكتب القيمة. وكان بلاط المأمون يبدو وكأنه مجلس للعلوم والأدب أكثر من كونه مركزا للحكومة والخلافة إذ كان يتألف من الأساتذة والنقاد والمترجمين والشراح. وكان المأمون يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم إيمانا منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عبادة؛ فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر فأوحشت الدنيا لفقدهم، بل إن المأمون لما فرض السلم على قيصر الروم طلب أن تكون الجزية مجموعة من الكتب، وازدهرت بغداد لا كعاصمة الخلافة العباسية فحسب بل كمركز للثقافة والفنون والآداب لم تشهد له البشرية مثيلا. وحملت بغداد شعلة العلم والمعرفة إلى كل ربوع آسيا: في الهندوستان تحت رعاية الغزنويين في مطلع القرن 11 على يد البيروني ولدى السلاجقة في أواخر القرن 11 على يد عمر الخيام ولدى المغول حوالي منتصف القرن 13 على يد نصر الدين الطوسي. وفي الصين حوالي أخريات القرن 13 على يد "كوشو كينج" ولدى العثمانيين في النصف الأول من القرن الرابع عشر. وقد قامت على أنقاض الدولة العباسية دول وإمارات. وكانت مصر في العهد الفاطمي في القرن "11م" وارثة الخلافة في بغداد بعد انحطاط مركزها السياسي والفكري، وقامت إمارات آل سليمان وآل بويه الفارسية، ودول الأتراك السلاجقة والخوارزميين والمغول وامتدت الحضارة الإسلامية إلى الهند والصين وحمل الأغالبة في شمال إفريقية حضارة العرب إلى صقلية، وكذلك كانت الدولة العثمانية وريثة أيضا للدولة العباسية، وعرفت هذه الممالك الإسلامية كثيرا من الأدباء والعلماء والمفكرين الذين أسهموا في بناء صرح الإنسانية. ومن هؤلاء الفردوسي صاحب الشاهنامة، وأحد كبار الشعراء

الحماسيين عاش في بلاط السلطان محمود الغزنوي، وفي دولة بني بويه. وفي فارس السلجوقية ظهر الفيلسوف والعالم الإسلامي الشهير أبو حامد الغزالي الملقب بحجة الإسلام وابن سينا الذي ولد في بخارى وتوفي في همذان، كما ظهر أيضا عمر الخيام العالم الرياضي، المشهور أكثر بشاعريته ولا سيما رباعياته التي لاقت شهرة كبير لا في العالم الإسلامي فحسب بل في دول الغرب أيضا. ثانيا: الدولة الإسلامية في المغرب: يتضمن الكلام عن الدولة الإسلامية في المغرب في العصور الوسطى الكلام عن شمال إفريقيا والأندلس. أ- في شمال إفريقيا: قبل الفتح الإسلامي كان ما يعرف الآن بالمغرب جزءا من الإمبراطورية الرومانية كما كانت مصر وبلاد الشام جزءا من هذه الإمبراطورية أيضا. وقد عمل الرومان على نشر ثقافتهم اللاتينية في بلاد شمال إفريقيا ونقلوا إليها مدارسهم وأنظمتهم التعليمية، كما كانت الآداب والفنون اليوناينة مزدهرة في روما فإنها قد وجدت لها مراكز خصبة في شمال إفريقيا طيلة القرنين الأولين من استيلاء الرومان على إفريقيا. وكانت قرطاجنة التي بعثت من جديد بعد أن دمرها الرومان مركزا هاما للثقافة والفنون الهلينية في العالم الروماني حتى أصبحت تفاخر وتنافس جامعتي روما وأثينا. وكانت اللغتان اليوناينة واللاتينية تحييان بها جنبا إلى جنب. وإلى جانب المدارس ومراكز الثقافة الرومانية كانت هناك أيضا المعابد والهياكل الدينية بما فيها من مكتبات وما كان يعقد فيها من محاضرات وندوات وكذلك المسارح والملاعب التي عمت القرى والمدن الإفريقية وعملت على نشر الثقافة الرومانية، وفيما بعد مع بداية القرن الثالث الميلادي نرى أنه قد تعاقب على عرش روما أباطرة أفارقة من آل البينوس "سوسة" وآل سفيروس من أبناء طرابلس الغرب ومكرينوس الشرشابي وآر غرديانوس القرطاجني.

وكان هؤلاء الأباطرة مشغوفين بالعلم مكرمين لأهله كما كانوا يعتزون بأفريقيتهم ويحنون لوطنهم ويعطفون على أبناء جلدتهم فأغدقوا عليهم العطايا وخلعوا عليهم الوظائف السامية كما بنوا المدارس والمعابد بإفريقيا. وإبان القرن الرابع الميلادي والنصف الأول من القرن الخامس الميلادي بدأت المسيحية بعد أن اعترف بها دينا رسميا في روما تغزو شمال إفريقيا ونجد هناك من يروجون لها. ولما احتل البيزنطيون شمال إفريقيا وإبان القرن السادس الميلادي لم يعنوا كثيرا بالثقافة والعلم إذ كان عصرهم عصر حروب ومقاومة وثورات وانحطاط فكري وثقافي "إبراهيم التوزري: ج1 ص28-73" وكان ذلك إيذانا بميلاد عصر جديد برز نوره وأخذ يمتد سناه نحو الغرب وكان ذلك مع بشائر الفتح العربي الإسلامي. وبدون الدخول في تفصيلات تاريخية يمكن القول بأنه عندما تقدمت الجيوش في شمال إفريقيا أقام القائد العربي عقبة بن نافع مدينة القيروان عام 50هـ "670م" وأصبحت مركزا سياسيا وحربيا هاما للعرب وتم لهم السيطرة على البرابرة الذين دخلوا في دين الله وأقبلوا على تعلم اللغة العربية وأصبحت القيروان إلى جانب كونها عاصمة سياسية ودينية منتجعا للعلم والثقافة يفد إليها طلاب العلم من مختلف الأصقاع. وفي عهد الدولة الأغلبية التي أسسها إبراهيم بن الأغلب التميمي الوالي العربي في القيروان في الفترة من 185هـ-800م إلى 295هـ-909م انتشرت اللغة العربية وازدهرت العلوم وخلفت الدولة الأغلبية الدولة الفاطيمة والعبيدية التي عملت على تشجيع العلوم والمعارف على الرغم من الصراعات والفتن المذهبية التي كانت تقلقها وتعكر صفوها. وبلغت العلوم والمعارف أوج ازدهارها في عهد الدولة الصنهاجية البربرية "الزيرية" التي خلقت الفاطميين بعد رحليهم إلى مصر عام 362هـ-973م وانقرضت هذه الدولة على يد الموحدين المغاربة عام 556هـ-1160م، عندما اختفت هذه النهضة الثقافية الفكرية. وهكذا كانت مدينة القيروان مركزا هاما

من مراكز الثقافة العربية الإسلامية خلال العصور الوسطى، وسنشير إلى بعض جوانب الحركة الثقافة فيها فيما بعد. وبالنسبة لنشأة المدارس فقد تأخر ظهور المدرسة في المغرب والأندلس عن مثيلتها بالمشرق. وترجع نشأة المدارس بالمغرب إلى القرن السابع الهجري عندما أنشأ أمير المؤمنين يعقوب بن عبد الحق "656-684هـ" الملقب بالمؤيد والمنصور والقائم مدرسة بفاس وأوقف عليها الأوقاف وأجرى على طلاب العلم بها المرتبات ... واتبع ابنه السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب سنة أبيه في بناء المدارس فأسس مدرسة "المدينة البيضاء" بفاس "والمدرسة العظمى" بفاس أيضا سنة 723هـ والتي عرفت فيما بعد بمدسة العطارين. وفي وصف هذه المدرسة يقول المؤرخ أبو العباس الناصري في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى": من أعجب مصانع الدول لم يبن ملك قبله مثلها وأجرى فيها الماء من بعض العيون ورتب فيها الطلبة وجعل لها إماما ومؤذنين وقومة يقومون بأمرها. ورتب فيها فقهاء التدريس وأجرى على هؤلاء المرتبات والمؤن الزائدة عن الكفاية. وقد اشترى لأجل ذلك عدة أملاك وأوقفها عليها. وكان الخلفاء والولاة في عاصمة الدولة الإسلامية يهتمون بنشر الدين في الأقاليم البعيدة. وقد أرسل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى شمال إفريقيا عشرة من الفقهاء لتعليم أبناء البربر مبادئ الدين، كما أن بعض الحكام والسلاطين المحليين أظهروا اهتمامهم بالتعليم أيضا منهم على سبيل المثال السلطان أبو الحسن بن أبي سعيد المريني "732-749هـ" قد أظهر اهتمامه ببناء المدارس حتى قبل تولية الخلافة، إذ بنى سنة 721هـ مدرسة في فاس غرب جامع الأندلس. وبنى حولها سقاية ودار وضوء وفندقا لسكنى الطلاب. وعين فقهاء للتدريس وأجرى عليهم جميعا الإنفاق والكسوة وأوقف لها ربوعا كثيرة. وأنشأ مدارس عديدة بفاس منها "مدرسة الوادي" ومدرسة الصهريج ومدرسة "الرخام" ومدرسة "الحلقاويين" ومدرسة "المصباح" نسبة إلى أول فقية تولى التدريس فيها، وهو أبو الضياء مصباح بن عبد الله الباصلواتي. كما أنشأ مدارس أخرى خارج العاصمة فاس في سبتة وطنجة وآزمور وأغمات والعقد

الكبير والعباد وغيرها "أبو العباس الناصري: ج2 ص65-112". وسار ابنه السلطان أبو عنان فارس بن أبي الحسن المتوكل "749-759" على سنة والده أبي الحسن في بناء المدارس فبنى المدارس العنانية على اسمه ومدرسة أخرى بسلا. ب- في الأندلس: نعني بالكلام عن الدولة الإسلامية في المغرب "الأندلس: بصفة خاصة، وقد فتحها العرب في القرن الأول الهجري "أوائل السابع الميلادي" وكان العرب يطلقون اسم "الأندلس" على جميع بقاع إسبانيا التي خضعت للمسلمين، وترجع التسمية إلى القبائل التي كانت تسكن إسبانيا. فقد ظلت إسبانيا تحت حكم الرومان حتى أغارت عليها قبائل تعرف بقبائل الوندال فأطلق عليها العرب "الأندلس". ويورد ليفي بروفنسال في كتابه: "حضارة العرب في إسبانية" القاهرة 1938 دليلا على لسان "ألفارو" القرطبي المسيحي الذي كان من غلاة المتعصبين في شبة الجزيرة الأندلسية في القرن التاسع يوضح فيه مدى انتشار الثقافة العربية بين المسيحين ويصرخ مما أصاب أهله من انتشارها يقول فيها: "أبناء ديني يحبون إنشاد الأشعار العربية بل إنهم يدرسون مؤلفات علماء الكلام لا ليدحضوها ويفندوها وإنما ليقوموا نطقهم العربي تقويما صحيحا ... إن جميع شبان النصارى بما لهم من نبوغ لا يعرفون غير اللغة العربية وأدابها، وإنهم يقرءون الكتب العربية ويدرسونها باهتمام بالغ. وكونوا لأنفسهم مكتبات منها أنفقوا عليها أموالا كثيرة معلنين في كل مكان إعجابهم بهذه الكتب والآداب. واحسرتاه! لقد نسي النصارى لسانهم الديني ولا تكاد تجد بين كل ألف منا واحد يستطيع أن يكتب بصورة لائقة رسالة باللاتينية إلى صديق له. أما إذا كان الأمر يتعلق بكتابة رسالة بالعربية وجدت الكثير من الناس قادرا على التعبير بهذه اللغة تعبيرا مناسا. بل إن من بينهم من يقدر على نظم القصائد بالعربية بصورة قد تفوق من الناحية الفنية ما ينظم العرب أنفسهم". وهذا يوضح مدى انتشار الثقافة العربية في الأندلس آنذاك. ومع أن الأندلس لم يكن

لها صلة بالشرق إلا لمدة حوالي 44 سنة من آخر سنوات الدولة الأموية وقطعت هذه الصلة بقيام الدولة العباسية فإن العرب في إسبانيا استطاعوا في أقل من قرن بالأندلس أن يحيوا ميت الأرض ويعمروا خراب المدن ويقيموا أفخم المباني ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بجميع الأمم. ومن الأندلس كان العرب يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة ومصانع الحرير والجلود والسكر إلى الشرق وإفريقيا. وأنشئوا المدارس والمساجد والفنادق والمستشفيات في كل مكان إلى جانب أنهم شقوا الطرق والجسور. وكانت الزراعة موضع عناية خاصة بهم فقد درس العرب أمر الزراعة دراسة قائمة على معرفة تامة بالإقليم والأرض ونمو النبات وتكاثر الحيوان لدرجة يقال معها أحيانا إنه لم يتوفر لأي أمة متمدنة في أوربا وآسيا أو إفريقيا من أصول الزراعة بمثل ما توفر لعرب الأندلس. ولم تصل أي بلد من الازدهار الزراعي درجة أعلى مما وصلت إليه الأندلس العربية ولا سيما مملكة غرناطة. فقد كان إقليم الأندلس يدر ثلاثة محاصيل في كل عام. وكان العرب أول من أدخل إلى الأندلس زراعة الأرز والموز واللوز والفستق والنخيل وقصب السكر وجلبوا إليها الزهور والخضر التي لم تكن معروفة ومنها انتشرت فيما بعد إلى أوربا. ولا تزال معظم أسماء الزهور في اللغة الإسبانية شاهدا على ما استعير مباشرة من العرب والمسلمين. كما كان للصناعة نهضة فاستغلت مناجم الزئبق والياقوت كما استخرج اللؤلؤ والمرجان من الشواطئ. وطورت صناعة الجلود ودباغتها ونسج القطن والكتان والقنب. أما الناحية العقلية والفكرية فكان للأندلس نشاط بالغ في ميدان العقل والفكر إلى جانب الازدهار المادي. وبلغت أسماء ابن رشد وابن ماجه وابن عربي وابن حزم شهرتها، وكانت الأندلس في عهد العرب أعظم دول الغرب في هذا العصر ازدهارا وحضارة. وظهرت قرطبة أكبر عواصم أوربا آنذاك نورا وكثرت القصور والمدارس، والمراصد والمكتبات. وقد أنشأ العرب مدرسة الطب في مونبليه في جنوب فرنسا. ويروي مؤلفو الغرب أنه كان يوجد في الأندلس في ذلك الحين سبعون

مكتبة عامة، وأن مكتبة الخليفة "الحكم" بقرطبة كانت تشتمل على أربعمائة ألف مجلد منها 44 مجلدا للفهارس وحدها. وكانت بلاطات ملوك المسلمين في المدن الأندلسية المختلفة مثل طليطة وبطليوس وبلنسية والمرية وغرناطة وإشبيلية على الخصوص ندوات يجتمع فيها الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة والأطباء والمتخصصون في العلوم المختلفة وكانوا يحصلون على مكافآت مادية مجزية يدفعها لهم أمراء متنورون نصراء للعلم والأدب. وقد ظلت الحياة الفكري مزدهرة واستمرت بالرغم من التدهور السياسي حتى انقراض إمارة غرناطة التي كانت آخر الإمارات الإسلامية. وقد كانت الحياة العقلية والفكرية مزدهرة في هذه الإمارة ولا سيما في مدينتيها الكبيرتين "مالقة والمرية". وجاءت النهاية الحزينة في الثاني من يناير 1490 الذي كان يوما حزينتا مشئوما استسلمت فيه غرناطة آخر الإمارات الإسلامية. وبعدها بدأ اضطهاد العرب بل والموريسيكيين منهم، "وهم المسلمون الذين تنصروا سرا" واستمر الاضطهاد طيلة حوالي قرن من الزمان بلغ ضحاياه في تقدير المؤرخين ثلاثة ملايين من العرب ... وينتهي دور الاضطهاد عام 1556 بطرد جميع العرب من الأندلس إلى إفريقية. ونقل مليونه منهم بطريقة بالغة القسوة. ويروي المؤرخون أنه ذبح في الطريق ثلاثة أرباعهم. وحرقت الكتب والمخطوطات العربية الثمينة، وفي غرناطة وحدها أحرق ما يقرب من ثمانين ألف مخطوط عربي. وقد كانت هذه النهاية نهاية الأندلس الإسلامية ونهاية إسبانيا المسيحية أيضا. إذ خسرب بفقد العرب شريان حياتها الدافق. وترك العرب وراءهم فراغا كبيرا انعكس على الحياة في إسبانيا لعدة قرون تالية ولم يكن يملأ هذا الفراغ كل الذهب الذي جمعه غزاة الإسبان من المكسيك وبيرو وجاءوا به إلى إسبانيا وطنهم الأم. لقد جفت المياة الجارية ونضبت الينابيع المتدفقة وجفت الزهور اليانعة وعم الأرض البور والخراب وخلت المدن من سكانها، وتدهورت الفنون والحرف. ولم تلبث الدولة التي كانت على رأس جميع الأمم أن هوت إلى الحضيض. ويحدد القرن التاسع الهجري "السادس عشر الميلادي" النهاية الحزينة لسقوط الحضارة الإسلامية بعد أن كانت منارة الإنسانية طيلة العصور الوسطى، وتلك سنة الله في خلفه ولله في خلقه شئون.

السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي

السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي دخول العلوم العقلية ... السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي: كان من أهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة دخول العلوم العقلية وإنشاء المدارس وظهور الآراء التربوية المتميزة وهو ما سنفصل الكلام عنه في السطور التالية: 1- دخول العلوم العقلية: يميز علماء المسلمين بين العلوم النقلية وهي علوم العقيدة والشريعة الإسلامية وبين العلوم العقلية. يقصد بها: علوم الفلسفة والرياضيات والهندسة والجبر والفلك والطب والطبيعية والكيمياء والموسيقى والتاريخ والجغرافيا. وقد سبق أن أشرنا إلى فضل المسلمين على هذه العلوم. بيد أنه لا يمكن أن تغفل أثر حركة الترجمة الهائلة التي قام بها المسلمون في العصر العباسي لترجمة علوم الإغريق وكتبهم. ويقول ابن خلدون في "المقدمة" في كلامه عن العلوم العقلية: "واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم.. وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما. ولما فتحت أرض فارس وجدوا فيها كتبا كثيرة". وقد بلغت الثقافة العربية قمة ازدهارها عندما انفتحت على الثقافات الأخرى وتفاعلت معها، وقد قام المسلمون بترجمة علوم اليونان ودراستها وكان للخليفة المنصور شرف المبادرة في اتخاذ الخطوة الأولى وسار على نهجه الخلفاء من بعده المهدي والرشيد والمأمون. ويذكر صاعد الأندلس في كتابه "طبقات الأمم" "ص47": أن الخليفة المأمون طلب من ملوك الروم كتب حكماء اليونان فأرسلوا إليه على سبيل الهدية مؤلفات أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس. وبلغ من اهتمام الخليفة المأمون بهذه الكتب أنه أمر بترجمتها وحث الناس على قراءتها ودراستها. وقد نالت هذه الكتب شهرة ورواجا في عصره وراجت الفلسفة اليونانية وكثر المشتغلون بها وأغدق عليهم

المأمون من كرمه بالجوائز والمناصب الرفيعة. وأصبحت الدول العباسية منافسة للدولة الرومية في هذه العلوم. ومن المعروف أنه عندما نفي الإمبراطور الروماني جستنيان فلاسفة الإغريق وعلماءهم من "أثينا" لوثنيتهم فروا إلى بلاد الفرس لما وجدوه من ترحيب كسرى أنو شروان "531-578". وكان قد أسس في "جند يسابور" من أعمال خوزستان في وسط آسيا دارا للعلم قام فيها هؤلاء العلماء بتدريس الفلسفة والطب. وبقي أثرها في تلك البلاد حتى ظهرت الدولة العباسية. كما غدت "حران" مركزا من مراكز الثقافة اليونانية ببلاد العراق. وتكلم أهلها وهم "الصابئة" اللغة العربية في سهولة ويسر، وساعدوا إلى حد كبير على نشر الثقافة اليونانية بين المسلمين. وإليهم يرجع الفضل في ترجمة كثير من الكتب عن اللغات الأجنبية، وشهد العالم الإسلامي حركة علمية كبيرة بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري. وكان قوام هذه الحركة ترجمة المسلمين لعلوم الإغريق واليونان والرومان والفرس والهنود من علوم مختلفة في الطب والفلسفة والرياضيات والطبيعة والفلك والموسيقى. وقد أعجب المسلمون إعجابا كبيرا بهذه العلوم الجديدة وأقبلوا على دراستها، بل ولقبوا أرسطو أحد مشاهير روادها بالمعلم الأول. والحسن بن الهيثم "965-1039م" وهو من أكبر علماء الفيزياء على مر العصور وله جهود عظيمة في علم البصريات ودرس العلوم المختلفة من طب وفلسفة ورياضيات والإلهيات كتب يقول موضحا سر اهتمامه بهذه العلوم ومعلنا إعجابه بأرسطو: "ازدريت أعوام الناس ولم ألتفت إليهم واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئا أجود ولا أشد قربة من الله من هذين الأمرين. فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع العلوم والبيانات، فلم أحظ من شيء منها للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جددا، فرأيت أنني لا أصل إلا عن آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطو من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات. فلما تبينت ذلك أفرغت وسعى في طلب الفلسفة وهي ثلاثة

علوم رياضية وطبيعية وإلهية" "ابن أبي أصيبعة: ج2 ص92". والفيلسوفان المعروفان الفارابي "ب339هـ" وابن سينا "ت428هـ" اعترفا بعظمة أرسطو. وابن رشد "ت595هـ" يفوق السابقين في تعظيمه لأرسطو وتقدير مكانته لدرجة لا مثيل لها. وهناك من ناحية أخرى من علماء المسلمين في الفلسفة من رفض في أول الأمر فلسفة أرسطو ومنطقه. وتصدى كثير منهم للرد عليه. وكان علماء المعتزلة أول من فعل ذلك. منهم النظام وأبو علي الجبائي. وفي القرن الثالث الهجري ألف حسن بن موسى النويختي كتاب "الآراء والديانات" رد فيه على بعض المسائل المنطقية عند أرسطو. وفي القرن الرابع الهجري ألف الإمام أبو بكر الباقلاني كتاب بعنوان "الدقائق" فند فيه الفلسفة وأثبت فضل منطق العرب على اليونان، وفي القرن الخامس الهجري قام الشهرستاني صاحب كتاب "الملل والنحل" المعروف وألف كتابا في الرد على برقلس وأرسطو. ونقض فيها أولهما وفق أصول المنطق وقواعده. وقام الغزالي في نهاية القرن الرابع الهجري بتأليف كتابه المعروف "تهافت الفلاسفة في نقد الفلسفة". وفي القرن السادس الهجري قام أبو البركات البغدادي بتأليف كتاب "المعتبر" أبطل فيه أفكار أرسطو "أبو الحسن الندروي: 1987، ص165". وقام ابن تيمية بنقد الفلسفة اليونانية ونقد أرسطو مؤيدا حججه بالأدلة والبراهين. ويمكن الرجوع إلى تفصيل نقده في الجزء الخاص به من هذا الكتاب. وفي القرن السابع الهجري تبرز شخصية نصر الدين الطوسي "المتوفى 672هـ" الذي عرف باسم المحقق الطوسي في أوساط وحلقات الفلسفة. ودافع عن فلسفة أرسطو ونفخ فيها روحا جديدة. ومن المعروف عنه أنه عاش إبان غزو التتار وسقوط بغداد بل إن كان من مستشاري زعيم التتار هولاكو ومن المقربين إليه. وقد توفي بعد عشر سنوات من مولد ابن تيمية "المرجع السابق: 166". ولا شك أن العرب في نقلهم لعلوم اليونان والرومان قد نقلوها بعد تطويعها لثقافتهم الإسلامية فالإسلام لا يعرف التعصب ولا يعرف الانغلاق وقد لعب العرب دور الوسيط في نقل هذه العلوم. وقد عبر أحد المؤرخين بقوله، وهي

شهادة شاهد من غير أهله: "كان العرب مستعدين استعدادا عجيبا لتمثيل دور الوسيط وكانوا ذوي نشاط منقطع النظير يعتبر آية على دورهم الممتاز في تاريخ الدنيا. وكانوا على عكس بني إسرائيل المتعصبين راغبين في مصاهرة الأمم المغلوبة من غير جحود لخلقهم القومي وتقاليدهم على الرغم من تغلبهم في مختلف الأمصار". "ولو أن دور الحضارة الإسلامية اقتصر على إنقاذ علوم القدماء وعلى الاحتفاظ بها ذخيرة كاملة تسلم إلى الأجيال القادمة لاعتبر هذا الدور خدمة جليلة للإنسانية لا تقدر بثمن. بيد أن دور العرب والمسلمين لم يقتصر على مجرد حفظهم لعلوم اليونان والرومان وإنما أضافوا لها وزادوا عليها. ذلك أنهم لم يتلقوا هذه العلوم كتلامذة وإنما كأساتذة". ويعتقد كثير من المؤرخين أنه بدون هذا الدور الذي قام به العرب بالنسبة لعلوم اليونان والرومان لتعذر ظهور عصر النهضة الأوربية. ويقول المؤرخ الفرنسي "سيديللو" في كتابه عن تاريخ العرب "باريس 1854" "إن العرب وحدهم كانوا ممثلي الحضارة في القرون الوسطى فدحروا توحش أوربا التي زلزلتها غارات أمم الشمال". ومع هذا ردد كثير من الأوربيين الدعوى القائلة بأن حضارة العرب في القرون الوسطى لم تكن إلا ظل الحضارة اليونانية وأن العرب كانوا مجرد ناقلين أو حافظين لهذه الحضارة. وفي هذه الدعوى كثير من الزيف والخطأ والتعصب وقد رفضها المنصفون من علماء الأوربيين أنفسهم. وفي هذا القول يقول درابر DRAPER "ادعينا طويلا أن المسلمين لم يفعلوا شيئا أكثر من نقل علوم اليونان ونحن لا نستطيع أن نسير في مثل هذا النهج الغامض دون أن نتهم بالجهل والخطأ". وفي هذا يقول أيضا جورج سارتون SARTON أنه من سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم بدأ في بلاد الإغريق لأن المعجزة الإغريقية سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وفي بلاد ما وراء النهرين وغيرها من البلاد، إن العلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعا وكفانا سوءا أننا أخفينا الأصول الشرقية المصرية والبابلية التي لم يكن التقدم الهليني ممكنا بدونها. ويقول العالم الفرنسي سيديللو SIDILLOT الذي سبقت الإشارة إليه في كتابه

"تاريخ العرب العلام" إن العرب كانوا أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة. وقد حاول الأوربيون أن يقللوا من شأن العرب ولكن الحقيقة ناصعة وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد العرب عاجلا أو آجلا ما يستحقونه من عدل. وعلى كل حال فإن دخول العلوم العقلية تمثل مرحلة جديدة في التربية الإسلامية مكنت الفكر الإسلامي من القيام بدوره في إثراء الفكر العالمي ودخلت هذه العلوم العقلية إلى منهاج التربية الإسلامية في مراكز التربية والتعليم المختلفة وفي مقدمتها المدارس.

نشأة المدارس

2- نشأة المدارس: شهدت هذه الفترة ظهور المدارس ولم تكن معروفة من قبل ويقال إن نظام الملك هو أول من أنشأ المدارس في الإسلام فكان إنشاؤها يمثل قمة التربية المدرسية الإسلامية. وسنتناول الكلام بالتفصيل عن المدارس في كلامنا فيما بعد عن مراكز التعليم في الإسلام.

ظهور الآراء التربوية المتميزة

3- ظهور الآراء التربوية المتميزة: كان من أهم السمات التي تميزت بها التربية الإسلامية خلال هذه الفترة تصدي علماء المسلمين للكتابة عن موضوع التربية والتعليم كتابة مستفيضة تعكس اهتماما خاصا بها. وكان أول المؤلفين في هذا الموضوع، ابن سحنون في القرن الثالث الهجري والقابسي في القرن الرابع الهجري وغيرهم كثيرون ممن تناولوا الكلام في هذا الموضوع من أشهرهم ابن مسكويه والغزالي في القرن السادس الهجري وابن خلدون في القرن الثامن الهجري وألف برهان الدين الزرنوجي المتوفى عام 591هـ كتاب "تعليم المتعلم طريق التعلم" الذي ترجم إلى اللاتينية وحظى بشهرة كبيرة عند المسلمين. ويقول عنه الأهواني: إن قيمته ضئيلة الشأن لا تتعدى حجمه الصغير ويبرر ذلك بقوله إن صاحبه لم يأت بجديد وإنه كثيرا ما كان ينزل إلى مستوى العامة في الاعتقاد بأوهام لا تستند إلى أساس علمي "أحمد فؤاد الأهواني: ص210" وربما كان هذا الحكم قاسيا على الزرنوجي فهو لا يقف وحيدا في النقل عن السلف كما أن كتابه لا يخلو من قيمة تربوية وقد اعتبره إبراهيم سلامة واحدا من أهم كتابين في التربية ثانيهما هو

كتاب القابسي كما أن المتأخرين من دارسي الزرنوجي قد اعتبروا كتابه ذا أهمية تربوية ونفسية. ويتضح ذلك من آرائه التربوية التي أشرنا إلى بعضها في هذه الكتاب والتي تدل على سعة أفقه وعمق تفكيره إلى جانب خبرته وتجاربه. ويلاحظ أن من ألف في التعليم من المتأخرين اعتمد بصورة أساسية على تلخيص آراء المتقدمين وأحيانا بدون ذكر المصادر التي أخذوا عنها. فالقابسي في رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين نقل كثيرا من آراء ابن سحنون أول من ألف في الموضوع "رسالة آداب المعلمين" والغزالي نقل عن ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق. والعجب أن ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق نقل عن بروسين وعن الإغريق. وشمس الدين الإنبابي في رسالته "رياضة الصبيان" نقل أيضا عن ابن مسكويه. وشيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه "اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم" نقل عن الغزلي. وهكذا كان الخلف ينقل عن السلف. كما لم يجد علماء المسلمين حرجا في النقل عن الإغريق وفي مقدمتهم أرسطو الذي لقبوه بالمعلم الأول. وسنتناول تفصيل الكلام عن بعض مشاهير علماء المسلمين الذين تحدثوا عن التربية والتعليم واهتموا بدراسة الموضوع دراسة تحليلية تفصيلية فيما بعد عند الكلام عن أعلام التربية في الإسلام.

الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي

الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي أولا: المساجد ... الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي كان المسجد والكتاب من أهم مراكز التعليم الإسلامي في العصور الأولى. وعرفت المدارس فيما بعد وقامت بدور كبير في التعليم في البلاد الإسلامية. وإلى جوار هذه المراكز كانت هناك أيضا المكتبات ودور الحكمة وبلاط الخلفاء وحوانيت الوراقين والرباطات والبيمارستانات كمراكز تعليمية مع تفاوت نسبي في الأدوار بينها. وسنفصل الكلام عن هذه المراكز في الصفحات التالية: أولا: المساجد يميز المؤرخون في الإسلام بين نوعين من المساجد: المسجد الصغير وهو لقضاء الصلوات العادية، أما المسجد الجامع فهو مسجد كبير واسع الأركان تقام فيه الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة العيدين. وكان مركزا للحياة الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والقضائية. وقد لعبت المساجد دورا تربويا هاما في أول الدعوة الإسلامية وكانت مركزا للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية, وكانت تقوم بوظائف متعددة من أهمها: 1- أنها كانت دورا للعبادة والصلاة. 2- أنها كانت مراكز تربوية وثقافية هامة يعقد بها حلقات العلماء لدراسة القرآن الكريم والفقه واللغة كما كانت أماكن للفتوى. 3- أنها كانت تستخدم أيضا كمعاهد لتعليم الناشئة أصول الدين واللغة والأدب. 4- كانت مكانا للتقاضي يجتمع فيه القضاة للفصل في الشكاوى والخصومات. 5- كانت مراكز لتصريف شئون الدولة قبل إنشاء الدواوين الحكومية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل السفراء في المساجد ويدير شئون الدولة فيها. 6- كان المسجد مكانا إعلاميا هاما فيه تذاع الأخبار الهامة التي تتعلق

بالمصالح الهامة وفيه التجهيز للحروب والغزوات. ومن الأمثلة على ذلك أن عمر أعلن من على المنبر تقهقر جيوش المسلمين في العراق واستحث قومه على السير إلى هذه البلاد ... وعلى المنبر أيضا وقف عثمان يدافع عن نفسه. 7- كان الخليفة بعد مبايعته يصعد المنبر ويلقي خطبته الأولى مضمنا إياها سياسته في الحكم، كما كان يلقي خطبة على الناس أثناء خلافته أو التشاور معهم في الأمور الهامة التي تعنيهم كما كان يجلس فيه للفض في الخصومات بين الناس. ومن أشهر المساجد والجوامع المعروفة: المسجد النبوي الشريف بالمدينة والجامع العتيق أو جامع عمرو "المؤسس سنة 21هـ في القاهرة" وجامع ابن طولون في القاهرة أيضا، ومسجد الكوفة "14هـ"، ومسجد البصرة "17هـ" الذي كان يضم حلقات الشعر والأدب والجدل، ومسجد دمشق ويعرف الآن بالمسجد الأموي "بني 19هـ" في تونس وجامع الزيتونة في تونس، ومسجد القرويين في فاس، وجامع قرطبة في الأندلس والجامع الكبير في صنعاء. والجامع الأزهري الذي بناه الفاطميون وسموه بالأزهر تيمنا بفاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم جدة الفاطميين. وكان كعبة لكل طلاب العلم من مشرق العالم الإسلامي لمغربه وكان في بدايته يدعو لمذهب الفاطميين وهو أساس إنشائه، ولكن كان يدرس فيه إلى جانب ذلك العلوم العقلية والنقلية بما فيها من فلسفة ومنطق وطب ورياضيات. ويذكر ابن خلدون أن المساجد الكبرى العظيمة أو الجامعة هي التي كان يتولى شئونها الخلفاء أو الحكام فيعينون أئمتها وأهل العلم والفتوى والتدريس بها. أما المساجد الصغيرة فلم تكن تحظى بهذه الرعاية. ويفصل ابن خلدون القول فيقول: فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة، كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة، وأخرى دونها مختصة بقوم أو نحلة، وليست للصلوات العامة. فأما المساجد العظيمة، فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض

إليه، من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء، وتعيين ذلك إنما هو من طريق الأولى والاستحسان. ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة وأما المساجد المختصة بقوم أو نحلة فأمرها راجع إلى الجيران، ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان. وأما "الفتيا" فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس، ورد الفتيا إلى من هو أهل لها، وإعانته على ذلك ومع من ليس أهلا لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم، فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس، وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد، فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها والنظر في أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامة، فلا يتوقف ذلك على إذن، على أنه ينبغي أن يكون لكل واحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه، يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيدل به المستهدي ويضل به المسترشد "مقدمة ابن خلدون ص159". المسجد كمركز تعليمي: كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من اتخذ المسجد مكانا للدعوة والتعليم ففي أول الأمر كان يتخذ من منزله ومن دار الأرقم بن أبي الأرقم مكانا لنشر الدعوة وبعد الهجرة كان إنشاء المساجد فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم بنشاطه الديني والتعليمي إلى المسجد، وكان مسجد قباء أول المساجد التي بنيت في الإسلام وأنشئ بعده مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة. وتوالى بعدها إنشاء المساجد. وكان التعليم في المساجد يقوم على تعليم أمور الدين وتذكير الناس بالآخرة. وكان التعليم في هذه الأمور يعتمد على الأسلوب القصصي ممتزجا بالعلوم والحكمة والموعظة، كما كانت تدرس أيضا العلوم الدينية من قرآن وتفسير وحديث. وكان أصحاب المذاهب والملل والنحل المختلفة يجتمعون في المساجد ويلقون الدروس وفقا لمذاهبهم وأحيانا يحرم التدريس في المساجد على مذهب معين

كالشيعة مثلا. وكان أحيانا يحرم التدريس فيها. إلا من كان على مذهب أهل السنة. وقد اتسعت الدراسة بالمساجد وتنوعت فشملت علوم الكلام والفقه وكان يقوم بالتعليم بالمسجد أحد الشيوخ من يأنس في نفسه المقدرة على التعليم. وكان الشيخ يجلس على حصير أو بساط ووسادة أحيانا كان يجلس على كرسي مرتفع حتى يسمعه الحاضرون. وكان الطلاب يجلسون من حوله في حلقة تتفاوت في حجمها حسب مكانة الشيخ العلمية وحسب ظروف العمل للطلاب. وكان الشيخ يفتتح الدرس بالبسملة والحمد لله والحوقلة والصلاة على النبي. وقد يتلو آيات من القرآن الكريم أو الحديث الشريف ما يتصل بطلب العلم وبحث عليه. ثم يبدأ في الكلام عن موضوع درسه وكانت الدروس تتنوع فمنها ما يهدف إلى التوعية العامة بأمور الدين وأصوله وأحكامه ومنها ما كان دروسا منظمة في علم من العلوم. وفي هذه الحالة كان الشيخ يستمد درسه من معلوماته أو من مذكرات كتبها لنفسه ويقوم بإملائها على تلاميذه. ومن أشهر الأمالي المعروفة أمالي أبي على القالي وأمالي سعيد بن الحداد وأمالي هبة الله بن طالب في ثلاثة أجزاء. وكان الشيخ يقوم بالإملاء بتؤدة وتأن وبترتيب المسائل والأمور، ويقوم الطلاب بتسجيل ما يملى عليهم في كناشاتهم. وقد يقوم الشيخ بتملية النص ثم يكمل الشيخ أماليه كانت تعرض عليه أو يقوم الشرح على هامش النص. وعندما يكمل الشيخ أماليه كانت تعرض عليه أو يقوم الطلاب بقراءتها عليه لتصحيح ما قد يكون بها من أخطاء. ثم يوقع الشيخ على نسخة الطالب مجيزا إياه على روايته وتدريس هذه الأمالي من بعده. وكان للطالب أن يسأل أستاذه بتأدب للاستيضاح. وعليه أن يختار الوقت المناسب للسؤال وكان الأستاذ أحيانا هو الذي يوجه الأسئلة لاختيار فهم طلابه وكان يقوم بالإجابة على ما يصعب من الأشياء. وكان الشيخ ينهي درسه عادة بعبارة "والله أعلم ورسوله". ثم تتلى فاتحة الكتابة وبعدها يتقدم الطلاب بشكر الشيخ والترحم على والديه والدعاء له وقد يقومون بالسلام عليه وتقبيل يديه.

وكان الشيوخ والعلماء يقومون بالتعليم في المساجد احتسابا لوجه الله وتجنبا للعنة التي أوجبها الإسلام على من أخفى علمه عن الناس. وكان الشيوخ يعيشون من التكسب من كد يمينهم وعلمهم كما كانوا يتلقون المساعدة والعطايا والهدايا من الملوك والأمراء والأعيان وأهل الخير من العامة. وكان الموسرون من الطلبة لا يبخلون بمالهم على مشايخهم كما كان المشايخ يقبلون الهدايا من طلابهم. وفي تقويم إجمالي للمسجد كمركز تعليمي يمكن القول بأن العلماء المسلمين في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة في غرب أوربا إلى سمرقند في وسط آسيا لم يكونوا في عددهم أقل من عدد ما فيها من الأعمدة. وكانت إيواناتها تردد أصداء علمهم وفكرهم.

ثانيا: الكتاب

ثانيا: الكتاب هدف الكتاب ... ثانيا: الكتاب يقول ابن منظور في كتابه لسان العرب "الكتاب" موضع تعليم الكتاب أي الكتابة. وكان الكتاب أحد مراكز التعليم في الإسلام. ويقال إنه عرف في بلاد العرب قبل الإسلام على نطاق ضيق محدود. وقد يطلق على الكتاب أحيانا اسم "مكتب". وكان الكتاب عبارة عن مكان مستقل أو غرفة في منزل أو حجرة مجاورة للمسجد أو ملحقة به أو خيمة من جملة خيام الحي في البداية "خيمة المؤدب" كما كان يعرف في تونس في شمال إفريقيا. واختلف حجم الكتاب من حجرة صغيرة إلى مكان واسع يتسع لأعداد كبيرة من التلاميذ. فقد روى ابن خلدون أن كتاب أبي قاسم البلخي كان به ثلاثة آلاف تلميذ وكان فسيحا جدا لدرجة أن البلخي كان يركب حمارا ليمر به على التلاميذ، ويشرف على تعليمهم. وقد انتشرت الكتاتيب منذ القرن الأول الهجري في الأمصار الإسلامية ويروى أن الكتاتيب أنشئت في مدينة القيروان منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري. هدف الكتاب: كان الهدف الأساسي من الكتاب تحفيظ القرآن الكريم وتعليم القرآن والكتابة لأن حفظ القرآن لا يسهل إلا بتعليمها. وكان يشترط في تعليم القرآن حسن الترتيل وجودة قراءته. ولما كانت معرفة القرآن معرفة صحيحة تستلزم الإلمام بقواعد الإعراب كان معلم الكتاب يعلم تلاميذه عبارات النحو واللغة وكان يدرس أحيانا الحساب وأيام العرب وتواريخها. وكان الكتاب يمثل بداية مراحل التعليم ينتقل منه الصبي إلى إكمال تعليمه في المسجد حيث يتوسع في طلب العلم.

الدراسة في الكتاب

الدراسة في الكتاب: كانت الدراسة في الكتاب عادة تمتد من يوم السبت إلى الخميس باستثناء يوم الجمعة والنصف الثاني من يوم الخميس. وكان الصبيان يبدءون يومهم المدرسي بحفظ القرآن عندما يكونون مكتملي النشاط، ويستمر ذلك إلى الضحى ثم ينقلون بعد ذلك إلى تعلم الكتاب حتى الظهر. ثم ينصرف التلاميذ إلى بيوتهم. وكان في بعض الكتاتيب فترة في المساء يدرس فيها الصبيان النحو والحساب وأيام العرب وتاريخهم. وكان يوم الخميس يخصص عادة للمراجعة، كما كانت الدراسة تعطل بمناسبة الأعياد. وكان التلاميذ يذهبون إلى الكتاب في الصباح الباكر فيجدون معلمهم جالسا في المكان المخصص له فيجلسون من حوله على اليمين واليسار قعودا على الحصير المصنوعة من السمار أو نبات الحلفاء، وقد كان ذلك هو الأثاث المتواضع الشائع للكتاب. وكان كل منهم يضع في حجره لوحه المصنوع من الخشب المصقول أو الصقيع وعلى اللوح ما كتبه بالأمس فيشرع كل منهم في الحفظ وتتصاعد أصواتهم متشابكة مختلفة لاختلاف ما يقرؤه كل منهم بعد الآخر لتفاوت مستوياتهم. ويقوم معلم الكتاب بالاستماع إلى كل واحد منهم بعد الآخر للتأكد من حفظهم لما كتبوه على الألواح يقوم بعدها الصبي بمسح اللوح بوضعه في إناء به ماء طاهر ثم يجففه. وفي بداية تعلم الصبي للكتابة كان المعلم يقوم بإملاء آية أو آيات من القرآن على كل واحد يطالبه بكتابتها ثم ينتقل إلى صبي ثان ثم ثالث وهكذا. ثم يعود إلى الصبي الأول ليراجع له كتابه. أما كبار التلاميذ فكانوا يقومون بنسخ كتابتهم على الألواح من المصحف مباشرة وكان المعلم يستعين بهؤلاء التلاميذ الكبار كعرفاء يساعدونه في تعليم المبتدئين. ولكل تلميذ لوح ودواة وقلم متواضع من القش أو القصب ومصحف في بعض الأحيان. وكان الصبي تتم دراسته في الكتاب عادة بحفظ القرآن كله وهو ما يسمى "بالختمة" أي أن الصبي يختم القرآن كله. وكانت تعتبر مناسبة سعيدة قد تشهد احتفالا متواضعا. وقد تعطل الدراسة يوما أو يومين احتفاء بهذه المناسبة وأحيانا كثيرة كان الصبي يكتفي وفقا لقدرته بحفظ نصف القرآن أو ثلثه أو ما تيسر له منه.

نقد طريقة التعليم بالكتاب

نقد طريقة التعليم بالكتاب: عرض ابن خلدون لاختلاف الأمصار الإسلامية في تعليم الولدان وكانت هذه الأمصار تختلف فيما بينهما من حيث المواد التي تمزجها مع تعليم القرآن وتحفيظه كله أو جزئه وهو ما يمثل البرنامج الإجباري الرئيسي للكتاب. ويورد ابن خلدون طريقة أبي بكر بن العربي الأندلسي التي تقوم على إرجاء تعليم القرآن والبدء بتعليم العربية والشعر والحساب حتى يسهل على الطفل بعد ذلك فهم القرآن وحفظه، ومع أن ابن خلدون استحسن هذه الطريقة إلا أنه يقول: إن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال. كما انتقد ابن خلدون طريقة التلقين التي كانت سائدة في التعليم وفضل عليها طريقة المحاورة والمناظرة، وقد عرضنا لتفصيل ذلك عند الكلام عن آراء ابن خلدون. وبالرغم من هذه الانتقادات فلا يمكن أن ننكر الدور الهام الذي لعبه الكتاب في الحياة الثقافية والفكرية. وكان القاعدة العريضة التي تعلم فيه كثير من علمائنا النابهين.

معلم الكتاب

معلم الكتاب: مقدمة: خضع معلمو الكتاب لكثير من السخرية والتهكم في الكتابات العربية القديمة وانتشرت عنهم الأمثلة التي تحقر من شأنهم واتهامهم بالحمق والسخف وغيرها من النقائص. وهناك من دافع عنهم مثل الجاحظ كما سبق وأن أشرنا. وهناك من ألهبهم بلسان من نار مثل ابن حوقل في وصفه لمعلمي كتاتيب صقلية "صورة الأرض ص120". شروط معلم الكتاب: كان من أهم الشروط التي ينبغي توافرها في المعلم أن يكون حافظا للقرآن الكريم عالما بأمور الدين وعارفا بالقراءة والكتابة والنحو، ولا بأس من إلمامه بفنون المعرفة الأخرى كالحساب واللغة والأدب. وإلى جانب هذه الشرط الرئيسي هناك أيضا شروط دينية وخلقية منها أن يكون المعلم تقيا ورعا قائما بفروض دينه مشهودا له بالخلق الكريم. أخلاقيات معلم الكتاب: هناك كثير من الكتابات التي تناولت أخلاقيات المعلم بصفة عامة ومنها معلم الكتاب. فمن الناحية الخلقية يجب أن يكون معلم الكتاب رفيقا بالصبيان رحيما بهم وأن يسوي في المعاملة بينهم وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أيما مؤدب ولي ثلاثة من صبية هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين". وكان المعلم يتخذ معه عريفا يساعده إذا زاد عدد التلاميذ. واشترط فيه أن يكون قد حفظ القرآن وهو مستغن عن التعليم. وكان المعلم يلتزم بالوقار مع صبيانه فلا يتبسط في الأمور معهم فيتجرءون عليه، وكان عليه أن يحسن رعاية تلاميذه لأنه راعٍ لتلاميذه وهو مسئول عن رعيته ولا يجوز للمعلم أن يسخر تلاميذه لخدمته أو قضاء حوائجه.

مكان التعليم

مكان التعليم: وكان المعلم هو الذي يقوم بتأجير الكتاب وتأثيثه، وفي بعض الأحيان كان آباء الصبيان يتعاونون في تأجير المكان للمعلم. وكان الكتاب يضم معلما واحد، وفي بعض الأحيان كان يضم أكثر من معلم. وقد ذكر ابن حوقل أنه رأى في مدينة "بالرمو" بصقلية كتابا واحدا يقوم بالعمل فيه خمسة معلمين. ويرجع ذلك إلى إعفاء المعلمين من الجهاد ففزع كثير من الرجال إلى هذه المهنة وحسنه لديهم جهلهم فرارا من الجهاد وشرفه والغزو وعزه. وذلك أن بلدهم ثغر من ثغور الروم وناحية تحاد العدو والجهاد فيهم لم يزل قائما "ابن حوقل ص120". الدرة والفلقة: كانت الدرة والفلقة من عدة المعلم يستخدمها في عقاب المقصرين من تلاميذه. ولكن الضرب بالدرة والفلقة كان لا يستخدم عادة إلا إذا فشل النصح، والتقريع بالكلام غير البذيء أو الجارح. وكان الضرب عادة بعيدا عن العنف والقسوة وفي أماكن من الجسم لا يترتب عليها إلحاق ضرر بالطفل، وعادة ما يكون الضرب على الرجلين في حدود ضربة واحدة إلى ثلاث. أجر معلم الكتاب: سبق أن أشرنا إلى أجور المعلمين وبالنسبة لمعلمي الكتاب هنا نقول: إنه كان يتقاضى أجرا عن التعليم إما شهريا أو سنويا وذلك بالاتفاق مع آباء التلاميذ وأحيانا يترك تحديد الأجر بما تجود به همتهم. وقد قال معظم فقهاء المسلمين يجوز أخذ المعلم أجرا على التعليم على الرغم من أن بعضهم ومن بينهم الغزالي والماوردي استقبح ذلك. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.

ثالثا: المدارس

ثالثا: المدارس مدخل ... ثالثا: المدارس: كان طالب العلم قبل ظهور المدارس يسعى إليه بالسفر والارتحال في طلبه على يد الشيخ الذي يريده. وكان يبذل الجهد والمال في طلب المشهورين أو المرموقين من الشيوخ. وكانت المساجد أماكن للدرس والتدريس للشيوخ والعلماء يفد إليهم الطلاب من كل صوب وحدب. وفي أواخر القرن الرابع وبداية الخامس الهجري بدأ ظهور المدارس، وبدأ الملوك والأمراء في إنشاء المدارس. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة "إن إنشاء المدارس في الإسلام ابتدأ في أواخر القرن الرابع الهجري. وكان يقوم بإنشائها بعض الأمراء وبعض الملوك إذاعة لنفوذهم أو خدمة لدينهم أو نشرا للنور والمعرفة بين شعوبهم. وكانوا يجمعون العلماء في هذه المدارس، فصار طالب العلم لا ينتقل إلى العلم فقد انتقل إليه العلم وصار لا يبحث عن شيخه فقد جاء الشيخ إليه ... كما أن بعض العلماء الذين أوتوا بعض اليسار كانوا يقومون بإنشاء المدارس مثل مدرسة بني قدامة بالشام "محمد

أبو زهرة 1977: 155-156" وكان يوجد أحيانا مدرسة تختص بفرع واحد من فروع العلوم الإسلامية لا سيما الفقه والحديث. ومن أوائل المدارس وجودا مدرسة أبي علي الحسيني المتوفى سنة 393هـ بخراسان وكانت لتعليم الحديث وكان بها ما يقرب من ألف طالب. وكان هناك مدرسة ابن فورك المتوفى سنة 406هـ بخراسان أيضا؛ ومدرسة أبو حاتم البستي المتوفى سنة 420هـ. ويعقب الشيخ محمد أبو زهرة على ذلك بقوله: "وترى من هذا أن فارس وخراسان سبقا البلاد الإسلامية "الأخرى" بإنشاء المدارس". "محمد أبو زهرة 1977: 156-157". بيد أن بعض الباحثين منهم جرجي زيدان "ج3 ص225" يرى أن نظام الملك الوزير السلجوقي الفارسي هو أول من بنى المدارس في الإسلام في القرن الخامس الهجري واشتهر بها. وكان أشهر هذه المدارس النظامية في بغداد. مع أنه أنشأ مدارس نظامية أخرى في البصرة والموصل وبلخ وأصفهان ونيسابور وهراة ومرو. وكانت نظامية بغداد قد تولى بناءها سعيد الصوفي عام 457هـ على شاطئ نهر دجلة وكتب عليها اسم نظام الملك. وبنى حولها أسواقا تكون محبسة عليها وابتاع ضياعات وخانات وحمامات وقفها عليها "جرجي زيدان: 220". وكان لهذه المدرسة شأن كبير في العالم الإسلامي. فقد تخرج منها جماعة من رجال العلم طار ذكرهم في الآفاق. أول أساتذتها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ثم الإمام أبو نصر الصباغ ثم أبو القاسم الدبوسي وأبو حامد الغزالي والشاشي والهراسي والسهروردي وكمال الدين الأنباري وغيرهم من أقطاب العلم" "المرجع السابق". ويقول "السبكي" في "طبقات الشافعية: إنه ليس صحيحا أن نظام الملك هو أول من بنى المدارس في الإسلام فقد وجد في نيسابور مدارس قبل المدارس النظامية منها المدرسة السعدية التي أنشأها نصر بن سبكتكين حاكم نيسابور والمدرسة البيهقية التي بناها الشيخ أحمد البيهقي في نيسابور أيضا. ويتفق كل من المقريزي والسيوطي مع السبكي في هذه الرأي. وهو رأي مخالف لما ذهب إليه جرجي زيدان.

وبعد نظام الملك جاء محمود نور الدين زنكي فأنشأ مدرسة دمشق للحديث وحبس عليها أحباسا كثيرة. وبنى مدارس أخرى في حلب وحمص وغيرها من بلاد الشام. ثم جاء صلاح الدين فأكثر من إنشاء المدارس بمصر والشام وكان يحضر بعض الدروس فيها. وقد وضع لها نظما ثابتة مقررة "محمد أبو زهرة 1977: 158". فنظم أجر المعلم وجعله أربعين دينارا، وأجر المعيد عشرون دينارا، كما كان يصرف للمعلم كل يوم ستون رطلا من العيش عدا الكعك واللحم في عيدي الفطر والأضحى وكان يطلق على أجر المعلمين وغيرهم في أيام المماليك جامكية "جمع جوامك". وكانت أول مدرسة نظامية في القاهرة في عهد الأيوبيين المدرسة الناصرية التي بناها السلطان العادل زين الدين كتبغا المنصوري وأتمها السلطان محمد بن قلاون سنة 703هـ. وقد وصفها المقريزي في خططه بأنها من أجمل مباني القاهرة وبأنها من أعجب ما صنعته يد بشر. وهكذا ازدهرت المدارس في عهد الأيوبيين. ثم جاء المماليك فساروا على سنة الأيوبيين في عنايتهم بإنشاء المدارس والإنفاق عليها ورصد الأموال لها. وعمت حركة إنشاء المدارس كل العالم الإسلامي. ويذكر المؤرخون أنه كان في الصالحية وهي أحد أحياء دمشق قرابة 360 مدرسة لتعليم مختلف العلوم من مختلف التخصصات التي كان لها شأن. فكانت هذه المدارس داخله في نطاق الأوقاف الإسلامية يضاف إليها المستشفيات، والبيمارستات والملاجئ التي يأوي إليها ذوو العاهات وأصحاب الحاجات. وكانت هذه المنشآت التعليمية والخيرية أحسن حالا وأكثر متانة ورونقا من قصور الأثرياء وذوي الجاه والسلطان آنذاك. وشملت النهضة أيضا شمال إفريقيا ومن أشهر المدارس هناك مدرسة القيروان السنية وفي مصر يذكر المقريزي أنه كان في القاهرة وحدها 13 مدرسة. وأما في الأندلس فيستفاد مما ذكره المقري صاحب نفح الطيب "ج1 ص104" أنها لم تعرف المدارس بالصورة التي كانت عليها في الشرق وإنما اعتمدت على المساجد كمراكز للتعليم. يقول المقري: "وليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم يقرءون جميع العلوم في المساجد بأجرة".

أسباب إنشاء المدارس

أسباب إنشاء المدارس: يقول جرجي زيدان "ج3 ص225" "ومن الأسباب التي كانت تحمل الأمراء غير العرب على إنشار المدارس والمساجد -غير التماس الأجر والثواب- أنهم كانوا ينشئون في بلاط السلطان ويغلب أن يكونوا من صنائعه أو مواليه فيكون له عليهم حق الولاء أو الرق. فإذا توفي أحدهم عن مال أو ضياع وأراد السلطان قبضها فعل وحرم أبناءه منها. فكان الرجل منهم إذا بلغ الإمارة وكثر ماله خاف عادية السلطان على ما يخلفه من ذريته فيبني المدارس أو الزوايا أو الربط. ويقف عليها الأوقاف المغلة من ضياعه أو أبنيته. ويجعل في شروط الأوقاف أن يتولاها بعض ولده وله نصيب منها. والأوقاف ثابته فيأمن بذلك على أولاده الفقر". وهو يشير إلى سبب آخر لإنشاء المدارس هو ترويج وتأييد المذهب الذي يتبعه السلطان أو الأمير ويضرب مثلا لذلك بالقاهرة التي كانت شيعية منذ بنيت وكان إنشاء الجامع الأزهر لترويج هذا المذهب. وكانت الدروس التي تلقى فيه على هذا المذهب. فلما تولاهم صلاح الدين الأيوبي أبطل هذا المذهب وأحيا المذهبيين المالكي والشافعي. فأنشأ المدارس لتعليم هذين المذهبيين. فبنى المدرسة الناصرية سنة 566هـ للمذهب الشافعي. وهي أول مدرسة بمصر. واقتدى به من جاء بعده من الأكراد والأتراك "المرجع السابق". ويقول الشيخ محمد أبو زهرة "كانت المساجد أماكن الدرس لأكابر العلماء حتى إذا جاء القرن الخامس أخذ الملوك والأمراء ينشئون المدارس إذاعة لنفوذهم أو خدمة لدينهم أو نشرا لنور المعرفة بين شعوبهم "محمد أبو زهرة 1977 ص156". وهنا نجد أنه يضيف سببين جديدين لإنشاء المدارس، وبالإضافة إلى ما سبق أن أشار إليه جورجي زيدان.

نمط المدرسة الإسلامية الأولى

نمط المدرسة الإسلامية الأولى: يروى أن المدارس الإسلامية الأولى بنيت على الطراز المعماري للمساجد ولم يكن يميز المدرسة عن المسجد إلا وجود الإيوان وهو قاعة الدرس بالإضافة إلى أماكن إقامة المعلمين والطلاب وما يتطلبه ذلك من مرافق خاصة. وربما يرجع ذلك إلى تداخل وظيفة المدرسة أول ظهورها بوظيفة المسجد. فقد كان يعين للمدارس مؤذنون ويقام فيها منابر للخطابة. وأقيمت فيها الصلاة كالمسجد، كما استخدمت في بعض الأغراض الأخرى للمسجد كمركز للتقاضي وفض المظالم. وكانت المدرسة تتكون عادة من صحن أو فناء ومن إيوانات تحيط بها عليها قباب وكانت تلحق بها مكتبة. وكان برنامج الدراسة يتضمن موادا أساسية هي علوم الدين والعلوم الفرعية وهي الحساب والتاريخ والأدب. وقد تعرض ابن بطوطة في رحلته المشهورة المسماة "تحفة المنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" إلى إشارات عن المدارس والتعليم في البلاد التي زارها. ووصف ابن بطوطة المدرسة المستنصرية التي بناها أمير المؤمنين العباسي المستنصر بالله في بغداد عام 631هـ "1234م" وكانت أشبه بمدينة فيها أربعة أروقة يختص كل منها بمذهب خاص من مذاهب السنة وكان عدد طلابها ثلاثمائة موزعين على هذه الأروقة. وكان الطلاب يقيمون إقامة داخلية بالمدرسة. وكانت إقامتهم وتعليمهم بالمجان كما كان الطالب يعطى دينارا من الذهب في الشهر. وعندما زارها ابن بطوطة كان يدرس بها المذاهب الأربعة فيقول في وصفها: "لكل مذهب إيوان فيه المسجد وموضع التدريس وجلوس المدرس في قبة خشب صغيرة على كرسي عليه البسط ويقعد المدرس وعليه السكينة والوقار لابسا ثياب السواد معتما وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يمليه. وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة وفي داخل هذه المدرسة حمام لطلبة ودار الوضوء. ووصف جامع دمشق المعروف بجامع بني أميه وعرض باختصار لمدرسيه ومعلميه ووصف طرقهم في التعليم وأشهر المدرسين به. وذكر أيضا مدارس الشافعية بدمشق كالعادلية والظاهرية وإن كانت مجرد إشارة إلى الأسماء فقط دون التعرض بالتفصيل لوصفها. وذكر بعض علماء مصر والإسكندرية وذكر أن مدارسها يعييها الحصر لكثرتها. وابن جبير الرحالة العربي المشهور في القرن الثاني عشر وصف مدارس بغداد وعد منها ثلاثين مدرسة وأهمها المدرسة النظامية التي أنشئت 457هـ "1065م" وتم بناؤها في عامين. وكان التلاميذ يتلقون العلم بالمجان كما كانوا يحصلون على الطعام والعناية الطبية ويأخذ كل منهم دينارا من الذهب كل شهر لنفقاته كما أشرنا سلفا. ويرجح أن النساء كن أيضا يذهبن إلى المدارس في بعض الأحوال ذلك لأننا سمعنا عن اشتغال النساء بالتدريس "جلال مظهر: 267".

طريقة التعليم

طريقة التعليم: كانت طريقة التعليم في هذه المدارس تختلف باختلاف الأماكن فكانت هناك الطريقة القيروانية والقرطبية والبغدادية والمصرية. وقد كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا ممتعا عن تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه يقول فيه: "فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف جملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر.. وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتابة ولا يختص عنايتهم بالقرآن دون غيره بل عنايتهم بها من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة. وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسه قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبعا لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن كذلك على ما يبلغنا ولا أدري أهل الأندلس. وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم وصف العلم وقوانينه في زمن التشبيبة. ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر على الإجادة".

مناقب ومثالب

مناقب ومثالب: ترتب على إنشاء المدارس نتائج متباينة تتراوح بين النعمة والنقمة. فمن الناحية الأولى عملت المدارس على انتشار العلم وكثرة المشتغلين به من علماء ومتعلمين. كما ساعدت على كثرة التأليف في العلوم المختلفة بل وظهور الموسوعات العلمية التي ألفها كبار الشيوخ والعلماء سواء في العلوم النقلية أو العلوم العقلية. يضاف إلى ذلك أن المدارس بما جمعته من شيوخ وعلماء وطلاب علم أصبحت بوتقة علمية ينصهر فيها عقول العلماء وطلاب العلم يتلاحقون في فكرهم ويشحذون عقولهم وتفكيرهم. أما من الناحية الثانية فنقتبس ما يقوله الشيخ محمد أبو زهرة من أن إنشاء المدارس مع أنه أدى إلى نشر العلم وكثرة تحصيله قد أدى إلى التعصب الفكري وكثرة الأتباع، وقلة التفكير الحر المستقل الذي ينظر إلى الدليل وما يوصل إليه البرهان من غير تقليد أو اتباع. وإن تساهلنا وقلنا إن ذلك التحيز الفكري قد اقترن بإنشاء المدارس فإنه لا بد أن ذلك كان بعض أسبابه وإن لم يكن كلها. "محمد أبو زهرة 1977: 157". ويضيف الشيخ محمد أبو زهرة نتيجة سلبية أخرى لإنشاء المدارس هي أن المخلصين وغير المخلص ويطلبه ذوو الأدب وذوو الدين ويطلبه العلية ويطلبه السفلة. حتى ليروى أن علماء ما وراء النهر عندما علموا بإنشاء المدارس وجلب العلماء لها أقاموا مأتما للعلم لأنهم حسبوا ذلك يؤدي إلى ضياعه وفساد الأمر "المرجع السابق".

رابعا: المكتبات

رابعا: المكتبات لم يكن للمكتبات شأن كبير في العصر الأموي ولكنها انتشرت في العصر العباسي مع انتشار استخدام الورق في نسخ الكتب وظهور كثير من الوارقين وانتشار حلقات الأدباء والعلماء. كان استخدام الورق في الكتابة معروفا في البلاد الإسلامية منذ القرن الثامن الهجري ويقال إنه نقل عن بلاد الصين التي عرفت الورق في وقت مبكر وكان للمسلمين فضل إدخاله إلى أوربا إذ كانت الأندلس أول من عرف الورق من البلاد العربية في منتصف القرن العاشر الميلادي، في حين لم تعرفه ألمانيا إلا في النصف الأول من القرن الثالث عشر وإنجلترا في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي. وقد أنشئ أول مصنع للورق في البلاد الإسلامية في بغداد عام 794م على يد الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد وكان من الطبيعي أن يسهل ذلك تأليف الكتب وتداولها. وقد حرص المسلمون على اقتناء الكتب تقديرا منهم لقيمة العلم ولم يبخلوا بالأموال في شراء الكتب النفيسة القيمة يجلبونها من كل البلاد. وصارت المكتبات من أهم مراكز التربية والثقافة الإسلامية وكانت هناك مكتبات عامة في المدن تقام لها أبنية خاصة أو تلحق بالمساجد والمدارس والرباطات والبيمارستانات. وكانت هذه المكتبات مفتوحة لراغبي العلم يجلسون في الأروقة المخصصة للاطلاع فقد كانت هناك حجرات خاصة لرواد المكتبة، وحجرات خاصة للنساخ يقومون فيها بنسخ الكتب. وكان أثاث المكتبات العامة متواضعا بسيطا إذ كانت تفرش أرضها بالبسط أو الحصر يجلس عليها القراء كما كان بالمكتبة خزانات وفهارس لها. وكان يشرف على المكتبة خازن كان عادة من رجال العلم والأدب وكان هناك النساخ والمجلدون والمترجمون والخدم الذين يقومون بخدمة القراء. ومن أشهر المكتبات العامة مكتبة بيت الحكمة في بغداد التي بناها هارون الرشيد وبيت الحكمة في رقادة بشمال إفريقيا ودار الحكمة في القاهرة التي بناها الحاكم بأمر الله الفاطمي، وسيأتي تفصيل الكلام عنها. وكانت هناك مكتبة الموصل التي أسسها بعض محبي الخير سنة 950م وكان الطلبة يتزودون فيها بالورق والكتب. ومكتبة الري كانت تضم عددا كبيرا من الكتب لدرجة أن فهارس كتبها وصلت إلى عشرة أجزاء، ومكتبة البصرة التي كانت تمنح معاشات شهرية للعلماء المشتغلين فيها، ومكتبة مرو وخوارزم التي يروى أن ياقوت الجغرافي الحموي قضى ثلاث سنوات فيها يجمع معلومات لمعجم بلدانه. وكانت توجد في معظم المدن دور عامة للكتب مفتوحة لطلاب العلم. وكانت هذه المكتبات تعطي رواتب وإعانات لمن يشتغلون فيها من الطلاب.

وعندما قوض المغول بغداد كان يوجد بها 36 مكتبة عامة، وكانت هناك أيضا مكتبة القيروان بشمال إفريقيا التي كانت ملحقة بجامع القيروان وكان لها نفس نظام المكتبات في الشرق إلا أن أدوات الكتابة كان يصنع أغلبها بمدينة القيروان فكانوا يكتبون على جلود الخرفان المصقولة، أو على ورق البردي المجلوب من الإسكندرية، وفيما بعد يصنع الورق من خرق القماش البالي. وكانت النساء تقوم بصنعه وتغطيته بطبقة من الغراء لتزيد تماسكه وصقله. وكان الحبر يصنع من الصمغ أو المواد الكيميائية، وكانت المحابر تصنع من الخزف، أو من الزجاج أو النحاس وكانت الكتابة أحيانا بالرمل الناعم الملون. وكانت توجد في معظم المساجد مكتبات عامة كما كانت هناك مكتبات خاصة يبنيها الأمراء في قصورهم أو العلماء في بيوتهم. وكانت هذه المكتبات ضخمة جدا لدرجة أنه يروى أن الصاحب بن عباد في القرن العاشر كانت تضم مكتبته من الكتب ما يوازي كل الكتب التي كانت تضمها مكتبات أوربا مجتمعة في ذلك الوقت. كما يروى أيضا أن أحد أطباء العيون العرب رفض دعوة سلطان بخارى للإقامة ببلاطه لأنه يحتاج إلى 400 بعير لنقل مكتبته، وعندما مات الواقدي ترك وراءه ستمائه صندوق مملوءة بالكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لنقله. وهذا يدل على مدى اهتمام المسلمين باقتناء الكتب وجمعها وأحيانا ما كانوا هم أنفسهم يقومون باستنساخها وكانت المكتبات في هذه الفترة مما لا يحصى ولا يعد. وقد زخرت مكتبة قرطبة التي أنشأها الحاكم المستنصر في مقره بقرطبة في منتصف القرن الرابع الهجري، وكانت تضم بين خزائنها 400 ألف مجلد في وقت لم تعرف فيه الطباعة، وكانت تحتوي على 14 مجلدا للفهارس، وكانت تضم الباحثين والعلماء الذين كانوا يعملون لحساب الخليفة الأموي في الأندلس وانتشروا في جميع أنحاء العالم الإسلامي لجلب الكتب والمؤلفات وكان بها عدد كبير من الناسخين والمجلدين والمزخرفين.

خامسا: دور الحكمة

خامسا: دور الحكمة بيت الحكمة في بغداد ... خامسا: دور الحكمة: شهد تطور الحركة الفكرية والثقافية في العصر العباسي ميلاد دور الحكمة التي كانت تعتبر مظهر لما وصل إليه الرقي الفكري، كما أن اسمها يعكس مدى الاحترام الشديد للعلم باعتباره مفتاح الحكمة. ويمكن القول مما يورده المؤرخون عن دور الحكمة: إنها كانت مركزا علميا للبحث والدراسة؛ ولذا نجد بعض الكتابات تطلق عليها اسم الجامعة ولها من الجامعة وظيفة البحث والدراسة. فمدرسة الإسكندرية التي كانت الحاضرة الثقافية والفكرية للعصر الهليني بعد أثينا أخذت شهرتها ومكانتها من مكتبتها ومتحفها. وما نريد أن نخلص إليه هنا أن دور الحكمة كانت مركزا للدراسة والبحث يقوم العلماء ومحبو العلم بالوفود إليها ليجدوا في مكتبتها غايتهم، كما كانت تدرس في بعضها العلوم وكان يلحق ببعضها مساكن لإقامة الطلاب وكان يصرف لهم الغذاء والكساء. وأهم دور الحكمة المعروفة بيت الحكمة في بغداد وبيت الحكمة في رقادة بشمال إفريقيا ودار الحكمة في القاهرة، وسنفصل الكلام عن كل واحدة منها في السطور التالية: أ- بيت الحكمة في بغداد: وقد أسسها هارون الرشيد وجمع فيها الكتب المؤلفة والمترجمة وجعلها مركزا للترجمة والنقل، وكان لها مدير يشرف على شئونها يسميه المؤرخون العرب صاحب بيت الحكمة ... وتوسع المأمون فيها وألحق بها عددا كبيرا من أشهر علماء عصره ومترجميه وأصبحت مركزا للترجمة والنسخ والمطالعة والتأليف، فكان يجتمع فيها القراء والمؤلفون للاطلاع على المصادر التي يريدون مراجعتها، ويجتمع فيها المترجمون للترجمة وبين أيديهم الكتاب الحذاق يكتبون ما يملون عليهم والنساخ في أماكن خاصة بهم ينسخون لأنفسهم أو لغيرهم بالأجر. وكانت بيوت الحكمة أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي فظلت قائمة حتى هدم المغول بغداد سنة 656هـ، ورموا بكل ما فيها من الكتب في نهري دجلة والفرات.

بيت الحكمة في رقادة

ب- بيت الحكمة في رقادة: بناه الأمراء الأغالبة بمدينة رقادة، بشمال إفريقية. وأرادوا له أن يكون على غرار بيت الحكمة الذي أسسه العباسيون في بغداد. وينسب بناء بيت الحكمة إلى إبراهيم الثاني الأغلبي الذي اشتهر بولعه الشديد بحب العلوم والحكمة، وهو الذي أنشأ أيضا مدينة رقادة سنة 264هـ، 878م. ومن المرجح أن بيت الحكمة كان ملحقا بقصر رقادة، وكان يضم مجالس أو غرفا كثيرة بعضها للمكتبة وبعضها للنسخ وبعضها للدرس والمناقشة والمناظرة وبعضها للرصد. وكانت هذه الغرف مفروشة بالحصر واللباد والبسط القيروانية الشهيرة. وكان للأمير فيه سرير يجلس عليه ليشرف فيه على المناقشات أو المناظرات التي كانت تدور بين العلماء في حضرته. وكان محبو العلم والطلاب يفدون أيضا إلى بيت الحكمة للاطلاع ونسخ الكتب، وكان من يتولى الإشراف على بيت الحكمة يسمى "صاحب بيت الحكمة" كما أشرنا، وكان أبو اليسر إبراهيم الشيباني البغدادي تلميذ الجاحظ أول من تولى هذا المنصب وكان إلى جانب هذا يقوم بتدريس الأدب في بيت الحكمة. وكان الأمراء الأغالبة يوفدون في كل عام سفارة إلى البلاط العباسي لتجديد العهد ودفع الخرج السنوي، وكانوا يكلفون رئيس الوفد بأن يشتري لهم أنفس الكتب المؤلفة والمترجمة، وأن يجلب إلى رقادة فطاحل علماء العصر. وهكذا وجدت في بيت الحكمة مصنفات في جميع العلوم والفنون ومن مختلف الملل والنحل. كما وجد علماء أجلاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي. ولما انقرضت دولة بني الأغلب سنة 296هـ آل بيت الحكمة إلى بني عبيد الفاطميين الذين انتزعوا الملك منهم. وبهذا أصبح بيت الحكمة مركز إشعاع للدعوة الفاطمية الإسماعيلية, وعندما أنشأ عبد الله المهدي الفاطمي مدينة المهدية سنة 308هـ بتونس نقل إليها بيت الحكمة بما كان فيها من أثاث ونفائس وكتب وأدوات وآلات الرصد فأفل نجم رقادة إلى الأبد وتعطلت الرسالة الثقافية لبيت الحكمة وتحولت إلى حركة إسماعيلية، وبعد أن شع بعلومه وثقافته طيلة أربعين عاما. ولما انتقل الفاطميون إلى القاهرة حملوا معهم ما تجمع لديهم من الكنوز والنفائس العلمية وهكذا كانت مكتبة بيت الحكمة في رقادة النواة الأولى لمكتبة دار الحكمة التي بناها الفاطميون في مصر، كما كانت بيت الحكمة في القيروان نواة المدرسة الطبية القيروانية الشهيرة التي انتشر تأثيرها طيلة ثلاثة قرون متتالية.

دار الحكمة بالقاهرة

ج- دار الحكمة بالقاهرة: أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 395هـ وقد كانت كما أرادها أروع من نظيرتها في بغداد. ويؤكد ذلك وصف المقريزي لها بأنها كانت من عجائب الدنيا "المقريزي ص255" ولم يكن لها نظير في الأمصار الإسلامية كما أنها حوت عددا من الكتب يزيد على المليون ونصف المليون وضمت النفيس النادر من المخطوطات في العلوم والآداب المختلفة، ويروى أنها كانت تضم ستة آلاف كتاب في الطب وحده. وكان في هذه المكتبة خريطة جغرافية دقيقة مرسومة على الحرير وصورة لأقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها. وقد أنفق عليها الحاكم بأمر الله بسخاء فأمدها بكل ما كانت تحتاجه من النساخين والورقين والأقلام. وكانت موئلا للعلماء والأدباء. وظلت دار الحكمة قائمة حتى أيام صلاح الدين الأيوبي هدمها وبنى عليها مدرسة الشافعية.

سادسا: حوانيت الوراقين

سادسا: حوانيت الوراقين: ظهرت في مطلع الدولة العباسية. وكانت تبيع الكتب الهامة كما كان الوراقون يقومون بنسخ الكتب الهامة فيها. وإلى جانب هذا كانت تقوم بمهمة المكتبة العامة التي يفد إليها الناس للاطلاع وكانت تعقد بها المناقشات والمناظرات، يشترك فيها إليها الوراقون أنفسهم فقد كانوا على حظ من الثقافة والاطلاع. وكانوا يحرصون على اجتذاب العلماء إلى حوانيتهم. وقد ارتبط ظهور حوانيت الوراقين باختراع الورق للكتابة. ومع أن أصل صناعة الورق ترجع إلى الصين منذ عام 105م إلا أن تطوير هذه الصناعة بحيث يستخدم في أغراض الكتابة يرجع إلى العرب. وقد تأسست أول صناعة للورق في بغداد سنة 794م كما أشرنا. وذلك عندما أنشئ أول مصنع له بفضل الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد. ومن بعدها انتشرت هذه الصناعة بسرعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي فدخلت سوريا ومصر وشمالي إفريقيا والأندلس. ويقول القلقشندي في صبح الأعشى: إن الرشيد أمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغد "الورق" بعد أن كانوا يكتبون على اللخاف والرق. وقد كان هذا الاختراع عاملا هاما في انتشار الكتب في كل مكان في العالم الإسلامي.

سابعا: الرباطات

سابعا: الرباطات: يختلف معنى الرباطات في الشرق الإسلامي عنه في الغرب الإسلامي والرباطات جمع رباط ويقصد في الشرق الإسلامي البيوت التي كان يقيم بها الفقراء ويتفرغون للعبادة والتعليم ومنها رباط البغدادية للشيخة زينب البغدادية بني 684هـ ... وكانت تسكنه مع عدد النساء اللاتي انقطعن للتعليم والعبادة. أما الرباط في المغرب الإسلامي. فهو ثكنة عسكرية محضة ذات صحن واسع تحيط به غرف وقد يكون على طابق واحد أو على طابقين تعلوه صومعه مستديرة للأذان وخصوصا لمراقبة السواحل اتقاء للغارات البحرية الموجهة من طرف أساطيل الروم. فالرباط حصن دفاعي أخذ تسميته من مرابطة المجاهدين في سبيل الله فيه. فكان هؤلاء المجاهدون يرابطون فيه ويقضون يومهم وليلهم في العمل أو العبادة. وجميع الرباطات في المغرب العربي بنيت على ساحل البحر، وكانت تتصل بعضها البعض بواسطة العلامات النارية أو الحمام الزاجل. وكان لكل رباط من الرجال رباط النساء، يتعبدن فيه ويساعدن الرجال في الأشغال الفلاحية وغيرها. وكان المرابطون يقومون بعدة أشغال منها صنع الورق والحبر وهما لازمان لما كانوا يقومون به من نسخ المصاحف وكتب الفقه والحديث. وكان المؤلفون وأصحاب التصانيف يعطون مؤلفاتهم الأصلية التي كتبوها بخط أيديهم إلى الرباطات لتنسخ منها نسخ أخرى ويحتفظ بالأصل للرجوع إليه عند الالتباس. وكان المرابطون يقومون بنسخ الكتب وتوزيعها على طلاب العلم مجانا. وكان الرباط مدرسة يؤمها العلماء والطلبة، وكان العلماء يرابطون فيها فترة من العام قد تكون شهرا ليدرسوا العلم احتسابا لوجه الله. كما كان الطبيب يرابط أيضا فترة من أجل مداواة المرضى، وكذلك رجل البريد. فالكل يرابط من أجل الجهاد في سبيل الله. وفي كل رباط مكتبة مقامة في الجدار على هيئة طاقات في الحائط بها النسخ الأصلية والفرعية للمؤلفات والتصانيف. وأقدم الرباطات التي شيدها العرب بإفريقية هو رباط المستنير، الذي بناه الأمير هزيمة بن أيمن والي القيروان سنة 181هـ وهو ما زال قائما حتى اليوم، ومن الرباطات الأخرى الموجودة حتى الآن رباط سوسة والرباط الأعلى والرباط الأسفل بتونس.

ثامنا: البيمارستانات والمستشفيات

ثامنا: البيمارستانات والمستشفيات البيمارستان كلمة فارسية مركبة من كلمتين: بيمار: مريض، وستان: دار فهي إذن دار المرضى، وظلت هذه الكلمة تطلق على دور العلاج والمرضى حتى حلت محلها كلمة مستشفى عند إنشاء مستشفى أبو زعبل في مصر ويقول المقريزي: إن أول من بنى البيمارستانات في الإسلام الوليد بن عبد الملك سنة 88هـ وجعل فيها الأطباء وأجرى فيها الإنفاق. وهذا خلاف ما ذكره ديورانت أن أول بيمارستان معروف لنا أنشئ في بغداد أيام هارون الرشيد. "ديورانت: 13 ص1980". وقد انتشرت دور الاستشفاء أو المستشفيات في العالم الإسلامي تحصيها كتب التاريخ بثلاث وأربعين دارا كانت منتشرة من فارس إلى مراكش ومن شمال سوريا إلى مصر. وكان في بغداد وحدها سنة 931م ثمانمائة وستون طبيبا مرخصا، وكانت أجورهم ترتفع حسب قربهم من بلاط الخلفاء. وقد حقق بعضهم ثروات هائلة فقد جمع ابن بختيشوع طبيب هارون الرشيد والمأمون والبرامكة ثروة تقدر بحوالي سبعة ملايين دينار. ويقول عنه المؤرخون إنه كان يتقاضى من

الخليفة مائة ألف درهم نظير حجامته مرتين في العام ومثل هذا المبلغ لإعطائه مسهلا كل نصف عام. وقد أسس ابن طولون أول مستشفى في مصر سنة 872م ومن بعده كان هناك البيمارستان المنصوري الكبير الذي بني 683هـ وكان من أشهر البيمارستانات. وأنشأ نور الدين في دمشق سنة 1170م بيمارستانا ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن. ولما وفد ابن جبير إلى بغداد سنة 1184م دهش من بيمارستانها العظيم الذي كان يرتفع كما ترتفع القصور الملكية على شاطئ نهر دجلة. وكان يطعم المرضى ويعالجهم ويمدهم بالدواء كما أشرنا. وربما يكون مستشفى السلطان قلاون الذي تأسس بالقاهرة سنة 1285م أعظم مستشفيات العالم الإسلامي وأكثرها شهرة في العصر الوسيط، وقد أورد له المقريزي وصفا رائعا في خططه "ج - ص260". وكانت هذه البيمارستانات معدة ومنظمة جيدا فكان بها قسم للرجال وآخر للحريم. وكل قسم مجهز بالآلات والعدد والمشرفين والخدم وفي كل قسم قاعات لمختلف الأمراض. قاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة وثالثة للحاملة ورابعة للتجبير. وكان للبيمارستان صيدلية سميت "شرانجاز" في العصر المتأخر ولها رئيس يسمى شيخ صيدلي البيمارستان. وكان لك بيمارستان رئيس أطفال يلقى دروسه على طلبة الطب ويأذن لمن أتم دراسته منهم وقدم رسالة في فرع الطب الذي يختاره بممارسة المهنة ويعطيه ترخيصا كتابيا أو إجازة بذلك، ولم يكن يجوز لأحد أن يمارس هذه المهنة إلا إذا قدم لامتحان يعقد لهذا الغرض.

تاسعا: منازل العلماء

تاسعا: منازل العلماء لعبت منازل العلماء دورا كبيرا في نشر العلم وتوسيع مجالات التعليم فقد كان الطلبة يقفون على أبواب الشيوخ ليسألوهم أو ليسمعوا منهم. وكانت الدروس المنتظمة تلقى في تلك البيوت التي كانت تصاميم بنائها تلائم هذه الأغراض. وربما عقدت مجالس الدروس عند عتبة الباب حيث يجلس الطلبة في الطريق مع شيخهم الذي يلقي عليهم دروسه. كما كان يجلس هناك بعض رفاقه. ومن هذه المجالس مجالس النظر التي كان يعقدها القاضي المجاملي كل يوم أربعاء وتبحث فيها المسائل الفقهية وقد استمر هذا المجلس حتى بعد وفاته، ومن هذه المجالس أيضا مجلس القاضي السمناني ومجلس اللغة لإبراهيم الحربي الذي واظب على حضوره النحوي المشهور ثعلب مدة خمسين عاما. وكان منزل الإمام أحمد بن حنبل ملتقى لعلماء بغداد وللوافدين عليها وكان يقصده عدد كبير من الطلبة.

الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط

الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط ابن سحنون وآراؤه التربوية ... الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط المقدمة: سبق أن أشرنا إلى تميز المرحلة الثانية من تطور التربية الإسلامية بظهور الآراء التربوية المتميزة، وسنحاول في الصفحات التالية أن نعرض لأهم آراء أعلام التربية في الإسلام مبتدئين برائدهم ابن سحنون. 1- ابن سحنون وآراؤه التربوية: الاسم الكامل له هو محمد بن سعيد بن حبيب، التنوخي القيرواني، ولد بالقيروان بتونس 202هـ ومات سنة 256هـ ودفن بجوار أبيه في القيروان، وقد نشأ ابن سحنون في بيئة مثقفة متدينة فقد كان أبو الإمام سحنون عالما متدينا ذائع الصيت وقاضيا متنورا عادلا تولى القضاء في عهد الأمير أبي العباس أحمد بن الأغلب وباشر الحسبة والمظالم بنفسه واستحق أن يلقب بسراج القيروان وقد تلقى ابنه محمد العلم عنه وعن غيره من علماء عصره, وارتحل إلى الشرق حبا في الاستزادة في طلب العلم. وقد ألف محمد بن سحنون كتبا كثيرة تزيد على العشرين مصنفا في مختلف العلوم. إلا أن شهرته بالنسبة لدراسة التربية الإسلامية ترتبط بكتابه المعروف "آداب المعلمين" الذي نشر 1348هـ - 1929م وقامت بنشره اللجنة التونسية لنشر المخطوطات العربية على أساس نسخة خطية من مخطوطات يرجع تاريخها إلى القرن الثامن الهجري. وقد نسب ابن خلدون في مقدمته هذا الكتاب خطأ إلى محمد بن أبي زيد. والكتاب نفسه صغير الحجم عظيم القدر فهو يقع في اثنتي عشرة صفحة في النسخة الخطية وفي 26 صفحة في النسخة المنشورة، وقد نقل ابن سحنون هذا الكتاب عن أبيه كما يتضح من التذييل المكتوب في نهاية الكتاب، وكما يتضح أيضا من محتويات الكتاب نفسه. ويتضمن الكتاب عشرة أبواب على الترتيب هي:

1- ما جاء في تعليم القرآن العزيز. 2- ما جاء في العدل بين الصبيان. 3- باب ما يكره محوه من ذكر الله تعالى. 4- ما جاء في الأدب ما يجوز في ذلك وما لا يجوز "العقاب". 5- ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلم "من حيث الأجر". 6- ما جاء في القضاء بعطية العيد. 7- ما ينبغي أن يخلى الصبيان فيه "العطلات المدرسية". 8- ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان. 9- ما جاء في إجازة المعلم ومتى تجب "أجر المعلم". 10- ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها. وهناك تداخل أحيانا وتكرار أيضا في الآراء التي يوردها ابن سحنون تحت هذه العناوين بل إنه قد يرد تحت العنوان كلام لا يدخل في بابه أو موضوعه. وفي ضوء هذا التنبيه وهذه الإشارة سنعرض لأهم الآراء والمبادئ التي أوردها ابن سحنون تحت هذه العناوين مع التزامنا بترتيبها كما أوردها، ولا يعتبر ذلك نقدا لابن سحنون أو تقليلا لأهمية الآراء التي أوردها فهو صاحب فضل وسبق كبير باعتباره أول من ألف في التربية الإسلامية من العرب والمسلمين، فلم يرد قبله كتاب تناول هذا الموضوع. وهو بهذا يعتبر رائدا في الكتابة عن التربية الإسلامية. وقد اعتمد عليه من ألف بعده في نفس الموضوع، ومنهم القابسي في رسالته عن أحوال المعلمين والمتعلمين، بل إن القابسي كان ينقل أحيانا نقلا حرفيا عن ابن سحنون وأحيانا أخرى كان ينقل بتصرف في العبارة دون إخلال بالمعنى. أهم الآراء التي وردت في رسالة ابن سحنون: لا يورد ابن سحنون آراء وأحكاما مستقلة تعبر عن رأيه وإنما يستخلص هذه الآراء من الكتاب والسنة ويوردها منسوبة إليهما أو الروايات المدققة.

فضل تعليم القرآن وتعلمه: كان أول ما أكده ابن سحنون فضل تعلم القرآن الكريم وتعليمه، ويقتبس لذلك أحاديث للنبي كقوله صلى الله عليه وسلم. "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه". "ويرفع الله بالقرآن أقواما" و "أن لله أهلين من الناس: حمله القرآن هم أهل الله وخاصته" و "من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد". العدل بين الصبيان: في إشارته إلى عدل المؤدب بين الصبيان يورد ابن سحنون حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "أيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين". ما يكره محوه من ذكر الله تعالى: يستدل ابن سحنون في الكلام عما يكره محوه من ذكر الله تعالى بما ورد عن أنس بن مالك قوله: "إذا محت صبية الكتاب تنزيل رب العالمين من ألواحهم بأرجلهم نبذ المعلم إسلامه خلف ظهره ثم لم يبال حين يلقى الله على ما يلقاه عليه". ويورد على لسان أنس تفسيره للطريقة التي كانت تمحى بها الألواح وما عليها من القرآن أيام الخلفاء الأربعة فيقول: كان للمؤدب "إجانة" وكان كل صبي يأتي يوم نوبته بماء طاهر يصبه فيها، وتمحى الألواح بغمسها في الإجانة المملوءة بالماء ثم يوضع الماء بعد الانتهاء في غسل الألواح في حفرة في أرض يصب فيها لينشف كما يمكن مسح الألواح بلعقها أو بمسحها بالمنديل وما أشبه. ما يجوز في الأدب وما لا يجوز: يورد ابن سحنون تحت هذا العنوان روايات تتضمن أقوالا للنبي صلى الله عليه وسلم تحدد مدى ما يجوز للمعلم في عقاب الصبيان وتأديبهم، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدب الصبي ثلاث درر فمن زاد عليه قوصص -من القصاص- يوم القيامة". وهذا يعني أن ضرب المعلم الصبي يجوز بين ثلاث درر ولا يزيد عن عشرة عند تأديبهم

على اللعب والبطالة. ويكون التأديب بهدف منفعتهم لا بسبب غضب المؤدب. ولا يجوز أن يزيد في ضربه على ثلاث درر في تأديب الصبي على قراءة القرآن ويجب أن يكون التأديب على قدر الذنب دون إسراف. وفي ختمة القرآن وما يجب للمعلم: يفهم مما يورده ابن سحنون أن ختمة القرآن إما بحفظ القرآن كله أو معظمه أو نصفه أو ثلثه أو ربعه، ويكون ذلك حسب قدرة المتعلم ولا يجوز للمعلم أن يحمل المتعلم فوق ما يريد أن يحفظه من القرآن إلا بإذن أبيه. كما يجوز للمعلم أن يأخذ هدايا من الصبيان في مناسبة الختمة والأعياد فقط ولا يجوز له أن يأخذ منهم هدايا فيما عدا ذلك إلا بإذن الآباء. وفي عطية العيد: لا يجوز للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجره شيئا من هدية أو غير ذلك، وحرام عليه أن يقبل منهم هدية سألهم عليها ولا جناح عليه أن يقبل الهدية إذا جاءت منهم بدون سؤال، ولا يجوز له أن يعاقبهم أو يهددهم على عدم إهدائهم، كما لا يحل له أن يخليهم إذا أهدوا له لأن التخلية داعية إلى الهدية وهو أمر مكروه. ما ينبغي أن يخلى الصبيان فيه: يفهم مما يذكره ابن سحنون أن إجازة الصبيان في الأعياد تكون من يوم إلى ثلاثة في عيد الفطر ومن ثلاثة أيام إلى خمسة في عيد الأضحى. ولا يجوز للمعلم أن يرسل أحد من صبيانه في طلب من تغيب منهم إلا بإذن أولياء الأمور إلا أن تكون الأماكن قريبة لا تلهي الصبي عن دراسته، وعليه أن يتعهد المتغيبين من الصبيان بنفسه، وأن يخبر آباءهم بتغيبهم. ومن الأفضل ألا يكلف أحد صبيانه في القيام بالضرب وألا يجعل لهم عريفا عليهم إلا إذا كان قد ختم القرآن وعرفه وأصبح مستغنيا عن التعليم فلا بأس من أن يستعين به في التعليم لما في ذلك من منفعة للصبي. وله أن يستأذن والده في ذلك. ويجوز له أن يستأجر من يعينه إذا كان في مثل كفاءته.

ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان: مما يورده ابن سحنون تحت هذا العنوان ما يلي: 1- لا يحل للمعلم أن ينشغل عن الصبيان وهو يقوم بتعليمهم اللهم في الأوقات التي تتخلل عمله فلا بأس من أن يتحدث وهو يتفقدهم وعينه عليهم. 2- يعرض ابن سحنون لتحريم رمي الفاكهة على الناس عند الاحتفال بختم القرآن لأن ذلك يعتبر طعاما ننهبه، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل الطعام النهبة. 3- يجب على المعلم أن يتفرغ لتلاميذه ولا يترك عمله للصلاة على الجنائز إلا في حالات الضرورة، ولا يجوز له أن يترك عمله للسير في الجنائز أو عيادة المرضى. 4- ينبغي أن يخصص المعلم لتلاميذه وقتا لتعليم الكتاب وينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن والشكل والهجاء والخط الحسن والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل أما تعليم الحساب والشعر والعربية والنحو فليس واجبا عليه إلا إذا اشترط عليه ذلك. 5- لا يجوز للمعلم أن يضرب الصبي على رأسه أو وجهه ولا يجوز له أن يمنع من طعامه وشرابه إذا أرسل في طلبه. 6- لا يجوز للمعلم أن يوكل تعليم الصبية لبعضهم بل يجب أن يتولى ذلك بنفسه. 7- لا يجوز للمعلم أن ينشغل عن الصبيان بأن يكتب لنفسه أو لغيره كتب الفقه إلا بعد انتهاء الصبيان من القراءة. 8- على المعلم أن يحضر الدرة والفلقة وعليه أيضا استئجار الحانوت وليس على الصبيان شيء من ذلك كله، ولكن إذا استأجر الآباء المعلم على تعليم الصبيان لمدة سنة فعليهم استئجار المكان للمعلم. 9- على المعلم أن يختبر مدى تقدم صبيانه في التعليم.

10- على المعلم أن يخصص وقتا معلوما لمراجعة حفظ القرآن مثل عشية الأربعاء ويوم الخميس وأن يعفيهم "أي التلاميذ" من الحضور للدراسة يوم الجمعة. 11- لا يجوز للمعلم أن يعلم صبيانه قراءة القرآن بالألحان والغناء لأنه مكروه. 12- يجعل المعلم وقت الدراسة بالكتاب من الضحى إلى وقت الظهر، "الانقلاب". 13- يجوز للمعلم أن يجعل صبيانه يملي بعضهم بعضا لما في ذلك من منفعة لهم ويجب أن يتفقد إملاءهم أو يفحصها. 14- لا يجوز للمعلم أن ينقل الصبي من سورة إلى سورة إلا إذا حفظها بإعرابها وكتابتها. 15- لا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في قضاء حوائجه. 16- يجب على المعلم أن يأمر الصبي بالصلاة إذا كان ابن سبع سنين ويضربه عليها إذا كان ابن عشر. وعليه أن يعلمهم الوضوء والصلاة لأنها من تمام دينهم, ويعلمهم أيضا سنن الصلاة، والابتهال إلى الله. 17- لا يجوز تعليم الصبيان في المسجد لأنهم لا يتحفظون من النجاسة ولم ينصب المسجد لتعليم الصبيان. 18- لا يجوز للمعلم أن يعلم أولاد النصارى القرآن. 19- من المكروه تعليم الجواري باختلاطهن بالغلمان لأن ذلك فساد لهم. 20- على المعلم أن يؤدب الصبيان إذا آذى بعضهم بعضا. 21- إذا أدب المعلم الصبي الذي يجوز له تأديبه فأخطأ ففقأ عينيه أو أصابه فقتله كان على المعلم حد الكفارة في القتل والدية إذا جاوز حد التأديب إلى القسوة وإذا لم يجاوز المعلم الحد فلا دية عليه. وإذا ضرب المعلم الصبي بشيء غير مسموح به فقتله فعلى المعلم القصاص. ومن الإشارات الطريفة عن المعلمين لابن سحنون قوله: إنهم كانوا يسرون بوقوع الحبر على ثيابهم دلالة على اجتهادهم الشديد في تعليم الصبيان.

ما جاء في إجازة "أجر" المعلم ومتى تجب: من أهم المبادئ التي أوردها ابن سحنون تحت هذا العنوان ما يأتي: 1- يجوز أن يؤجر المعلم شهريا أو سنويا أو يدفع له الأجر حسب الاتفاق. 2- يستحق المعلم الأجر المتفق عليه ولو كان لمدة سنة في حالة مرض الصبي أو خروجه مع والده في سفر. 3- يجوز أن يستأجر المعلم لجماعة من الصبيان إذا تراضى الآباء بذلك ويقوم كل منهم بدفع نصيبه. 4- يمنع المعلم من التعليم إذا عرف عنه التفريط أو التقصير في تعليم تلاميذه. 5- يجوز للمعلم أن يعلم مع صبيان استؤجر على تعليمهم صبيانا آخرين بحيث لا يضر بتعليمهم. ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه: من أهم المبادئ التي أوردها ابن سحنون تحت هذا العنوان ما يأتي: 1- يجوز أن يستأجر المصحف للقراءة فيه كما يجوز بيعه لأن ما يباع هو الحبر والورق. 2- ويجوز أيضا إجازة كتب الفقه وبيعها إذا علم من استأجرها واشتراها.

القابسي وآراؤه التربوية

2- القابسي وآراؤه التربوية: الاسم الكامل للقابسي هو أبو الحسن علي بن محمد خلف المعافري المعروف بالقابسي، ولد بالقيروان سنة 324هـ "935م" وبها تربى وتعلم وعلم. وبها مات ودفن سنة 402هـ "1012م". ويرجع نسب القابسي على الأرجح إلى قرية المعافرين التي ينتسب إليها وكانت ضاحية من ضواحي تونس. وكان القابسي عالما ضريرا فقيها ورعا. وله مؤلفات كثيرة تصل إلى 15 كلها في الفقه والحديث والمواعظ باستثناء واحد أفرده القابسي لشئون التعليم في الإسلام هي رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين. وقد صنفها في النصف الثاني من القرن الرابع وضاع الأصل وبقيت منه نسخة خطبة فريجة ترجع إلى عام 706هـ وهي محفوظة بالمكتبة القومية بباريس ومكتوبة بخط مغربي جميل. وهذه الرسالة أكبر من حجمها من رسالة ابن سحنون وقد تأثر بما كتبه ابن سحنون ونقل عنه نقلا حرفيا في بعض الأحيان، كما سبق أن أشرنا، كما نقل أيضا عن الفقهاء الذين أخذ عنهم ابن سحنون كابن القاسم وابن وهب إلا أن للقابسي فضل التوسع والاستفاضة في الأبواب والمعالجة. آراء القابسي التربوية: تصدى القابسي في رسالته إلى الكلام عن تعليم الصبيان من حيث أغراضه ومناهجه وطرق تدريسه وأماكنه ومراحل. كما تحدث عن بعض الأحكام الخاصة بالمعلم. وقد تناول القابسي في الجزء الأول من رسالته فضل تعلم القرآن وتعليمه. وهو بهذا يشترك مع ابن سحنون بل إنه ينقل نفس الأحاديث النبوية إلا أنه يتوسع في الكلام. الغرض من التعليم معرفة الدين علما وعملا: يجعل القابسي من تعليم القرآن غرضا هاما لتعليم الصبيان. بالقرآن ضرورة لمعرفة الدين. والصلاة لا تتم إلا بقراءة شيء من القرآن وهي مفروضة على المسلمين لأنها ركن من أركان الدين. وهو يتفق مع غيره من علماء المسلمين في أن الغرض الأول من تعليم الصبيان هو معرفة الدينه علما وعملا أو نظرا وتطبيقا وممارسة. وجوب تعليم الصبيان: يتعرض القابسي لقضية لم ترد عند ابن سحنون هي قضية القول بضرورة تعليم جميع الصبيان فتعليمهم واجب وجوبا شرعيا. وهو يدلل على هذا الوجوب بوجوب معرفة القرآن والعبادات، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولذا كان التعليم واجبا لأنه شرط معرفة القرآن والعبادات. وهكذا نجد بذور فكرة التعليم الإجباري الإلزامي عند القابسي، وقد كان صريحا كما كان جريئا

فيها. وقد استقر هذا المبدأ عند فقهاء المسلمين فيما بعد عندما أصبح طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وتقتضي ضرورة تعليم الصبيان أن يكون الوالد مكلفا بتعليم ابنه بنفسه فإن لم يستطع فعليه أنه يرسله لتلقي العلم بالأجر فإذا لم يكن قادرا على ذلك قام التكليف أقرباؤه. فإذا عجز الأهل عن نفقة التعليم قام بها المحسنون أو قام معلم الكتاب بتعليم الفقراء احتسابا لوجه الله، أو دفع لهم الحاكم أجر تعليمهم من بيت المال. وهكذا يتحقق تعليم كل المسلمين بصرف النظر عن الغني أو الفقير. تعليم البنت حق: يعترف القابسي بحق البنت في التعليم انطلاقا من أن التكاليف الدينية واجبة على الرجل والمرأة. وهو يتفق مع روح الإسلام الحقيقة التي جعلت من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة على حد سواء. إلا أنه ذهب إلى عدم الخلط بين الصبيان والإناث وهو مبدأ سبق أن أكده ابن سحنون لاعتبارات أخلاقية وينبغي أن تعلم البنت ما فيه صلاحها ويبعدها عن الفتنة. منهج الدراسة: يذهب القابسي إلى أن الغاية الدينية هي التي تحدد العلوم التي يدرسها الصبيان، وأول هذه العلوم حفظ القرآن وقراءته وكتابته ونطقه وتجويده. وتعليم الحساب والمواد في نظره ليس بشرط لازم، وهو يتفق مع ابن سحنون في هذا الرأي. الدين أصل الأخلاق: يعتبر القابسي الدين أصل الأخلاق، فالدين أساس التربية الخلقية في الإسلام. لذلك يجب أن يعمل التعليم على تهذيب الأخلاق وأساس الأخلاق عنده الضمير الخلقي الحي المستمد من الدين الذي يعتمد على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل ما الإيمان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك" ويكون اكتساب الأخلاق عن طريق التعليم والقدوة. ولذلك كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ذات فائدة تعليمية خلقية عظيمة. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ

فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} . الفضائل والرذائل: إن الفضائل من تمام كمال الإنسان. وقد تنبه القابسي إلى أثر تكوين العادة في اكتساب الفضائل لدى الإنسان ولذا يوصي المعلم بتوجيه الصبيان إلى العادات الحسنة وإبعادهم عن العادات الرذيلة. وأول الصفات الطيبة التي يتحلى بها الصبيان في نظره الطاعة وهي ليست واجبة عليهم نحو المعلم فحسب بل هي واجبة نحو الله والرسول وأولى الأمر كما جاء في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . ومن الصفات الطيبة النظام. فالغوضي مفسدة للصبيان. ويقتضي النظام من الصبيان الانتظام في الحضور وعند الانصراف من الدرس والتحلي بالنظام في الدرس والأعمال المدرسية. والعبادات الإسلامية خير ما يعود الإنسان على الطاعة والنظام ولذا كانت ممارستها واجبة. والمعلم مطالب بتعليمها للصبيان باعتبارها أصل الفضائل وعصمة من الرذائل. الرفق بالصبيان: إن العقوبة مشروعة في الإسلام وجعل لنا في القصاص حياة. وقد أقر القابسي مبدأ عقاب الصبيان لكنه يترفق معهم تمشيا مع روح الإسلام التي تتسم بالرحمة والعفو. وينزل المعلم من الصبي منزلة الوالد، وطالبه بأن يكون رفيقا به عادلا في عقابه غير متشدد فيه. ومن الرفق ألا يبادر المعلم إلى العقاب إذا أخطأ الطفل وإنما ينبهه مرة بعد أخرى فإذا لم ينتصح لجأ إلى العقاب وقد نهى القابسي عن استخدام أسلوب الحرمان من الطعام والشراب في العقاب. بل طلب من المعلم أن يترفق بالصبيان فيأذن لهم بالانصراف إلى تناول الغذاء من طعام وشراب ثم يعودون. وهذا يعني أن الدراسة بالكتاب كانت تمتد إلى العصر. ونهى القابسي عن الانتقام في العقاب ولذا نهى المعلم عن ضرب الصبيان في حالة الغضب حتى لا يكون "ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه".

وأشار القابسي إلى اتباع أسلوب الترغيب والترهيب في معاملة الصبيان فأقر الضرب كعقوبة إلا أنه اشترط لها شروطا من أهمها: 1- لا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب. 2- أن يكون العقاب على قدر الذنب. 3- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن ولي الأمر فيما زاد عن ذلك. 4- أن يقوم المعلم بالضرب بنفسه ولا يوكله لواحد من الصبيان. 5- أن يكون الضرب على الرجلين، ويتجنب الضرب على الوجه والرأس أو الأماكن الحساسة من الجسم. 6- أن تكون آلة الضرب هي الدرة والفلقة، ويجب أن يكون عود الدرة رطبا مأمونا. وهذه نفس الشروط تقريبا التي أشار إليها ابن سحنون من قبل. نظام الدراسة: إن نظام الدراسة الذي أشار إليه القابسي هو النظام المتعارف عليه وهو يقوم على أساس الدراسة طول أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة والنصف الثاني من يوم الخميس، ويخصص مساء الأربعاء وأول يوم الخميس للمراجعة والتدقيق من جانب المعلم للصبيان، وتكون الدراسة في أول النهار حتى الضحى مخصصة للقرآن الكريم ومن الضحى إلى الضحى إلى الظهر لتعليم الكتابة، وعند الظهر ينصرف التلاميذ لتناول الغداء ثم يعودون بعد صلاة الظهر حيث يدرس الصبيان لفيما يتبقى من النهار بقية العلوم كالنحو والحساب والشعر. وهو يتفق في كثير من هذه الأمور مع ابن سحنون. النهي عن تعليم غير المسلمين: يتفق القابسي مع ابن سحنون في النهي عن تعليم غير المسلمين في الكتاتيب والنهي أيضا عن تعليم أبناء المسلمين في المدارس النصرانية، ومن الواضح الأساس الذي بني عليه هذا النهي.

المعلم: اقتصر القابسي في رسالته على الكلام عن معلمي الكتاتيب الذين يتصلون بأولاد العامة وذاع عنهم الحمق فقيل في المثل: "أحمق من معلم الكتاب". وهكذا وصفوا بالحمق وقلة العقل ولم تقبل شهادتهم. وقد انتصر الجاحظ لمعلمي الخاصة وهم المؤدبون الذين كانوا أكثر احتراما من معلمي الصبيان. ولعل هذه الوصمة لحقت بمعلمي الصبية من جراء العناصر الوضيعة التي اشتغلت بالمهنة والممارسات السيئة التي عرفت عنهم مما يتضح مما نهى القابسي المعلمين عنه. ولم تكن هناك شروط يسمح للمعلم بناء عليها بمزاولة المهنة. ولكن كان الأمر يعتمد على الشعور بالقدرة فمن آنس في نفسه المقدرة على التعليم جاز له ذلك، وقد اشترط القابسي في المعلم معرفة القرآن والنحو والشعر وأيام العرب إلى جانب شخصيته الدينية وسمعته الطيبة. وهو بهذا يتفق مع ابن سحنون ويتفق معه أيضا في مطالبة المعلم بعدم الانشغال عن تعليم الصبيان وعدم طلب الهدايا منهم أو إرسال تلاميذهم في قضاء حوائجهم والحصول على طعام باسمهم في مناسبات الأفراح أو إحضار الطعام والحطب من بيوتهم. ولا يجوز للمعلم أن يترك عمله للصلاة على الجنازة أو السير فيها أو عيادة المرضى أو حضور شهادة البيع والنكاح. وربما من هنا جاءت فكرة عدم قبول شهادة معلم الصبية لا لنقص فيه ولكن لأنه منهي عن الانشغال عن التعليم وهو واجبه بأعمال أخرى. ومن الواضح أوجه الاتفاق والشبه الكبير بين ما يقول القابسي وما ذهب إليه ابن سحنون. وكلاهما يتفقان أيضا على أن يأخذ المعلم أجرا نظير عمله إما مشاهرة أو مساناة. وأعطى القابسي للمعلم سلطة كبيرة على الصبي تساوي سلطة الوالد، ولكنه حمل المعلم المسئولية والنتيجة النهائية لعمله، وليس له أن يعتذر عن فساد النتيجة بنقص سلطته أو إلقاء اللوم على الصبيان. ولهذا صح عقاب المعلم ومحاسبته على التقصير في أعماله، وقد يصل العقاب إلى حد منعه من الاشتغال بالتعليم.

ابن مسكويه وآراؤه التربوية

ابن مسكويه وآراؤه التربوية مدخل ... 3- ابن مسكويه وآراؤه التربوية" "320هـ-412هـ، 933م-1030م" هو فارسي الأصل كما يبدو من اسمه الذي يتكون من مقطعين مسك وهو العطر المعروف و"ويه" وتعني رائحة. فيكون معنى اسمه رائحة المسك. واسمه الكامل هو أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه. ومسكويه هو اسمه واسم جده أيضا, ولذلك يقال له مسكويه وابن مسكويه "شريف: 159". أصله من الري وسكن أصفهان وتوفي بها. وإذا كان بعض علماء المسلمين قد لقبوا أرسطوا بالمعلم الأول والفارابي بالمعلم الثاني فابن مسكويه يلقب بالمعلم الثالث. وكانت ولادته سنة 330هـ - 933م، ووفاته عام 421هـ - 1030م. وهذا يعني أنه قد عاش ما يقرب من مائة عام. ويعتبر ابن مسكويه من أعيان الشيعة فقد كان شيعيا مخلصا يؤمن كغيره من الشيعة فإقامة سيدنا علي في خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. اشتغل بالكيمياء والفلسفة والمنطق مدة طويلة. ثم أولع بالأدب والتاريخ والإنشاء. اشتهر بالخازن لأنه كان أمينا على خزانة كتب ابن العميد ثم كتب عضد الدولة ابن بويه. وحياة ابن مسكويه مليئة بالتناقض. فقد عاش في شبابه حياة ترف ولهو استمتاع ومجون. ولكنه عدل من ذلك فيما بعد في مرحلة متقدمة من عمره. وهو نفسه يشير إلى ذلك في كتابه تهذيب الأخلاق في كلامه عن تأديب الصبية والأمور التي تسيء إلى تربيتهم من سماع الأشعار السيئة ومرافقة أهل السوء وميل طبعه إلى كثرة الطعام واللباس والزينة. ويعقب على ذلك بقوله: "كما اتفق لي مثل ذلك في بعض الأوقات". وقد يرجع سبب ذلك إلى إهمال والديه تربيته منذ الطفولة. فقد تركا له الحبل على الغارب ولم يعوداه على السلوك السليم منذ صغره. بل إن أمه لم تكن مثلا يحتذى له في حياته. فقد تزوجت بعد موت أبيه برجل أقل شأنا منه وكان غير راض عن سلوكه وتصرفاته. والغريب أن هذا الشاب المترف الماجن المستهتر يعود في آخر سنوات حياته ليكتب كتابا عن "تهذيب الأخلاق" يعتبر من أهم الكتب في فلسفة الأخلاق الإسلامية. وربما يكون السبب في ذلك أسفه وندمه الشديد على ما فعله في شباب وتكفيره عن ذلك بكتابه هذا الكتاب الذي اعتمد في كتابته على معرفته بالعلوم الفلسفية وخبرته الذاتية الشخصية.

مؤلفات ابن مسكويه

مؤلفات ابن مسكويه: يعتبر كتاب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" من أهم وأشهر كتبه. وهو كتاب صغير الحجم عظيم القدر يبدو منه بوضوح تأثيره على فكر حجة الإسلام الغزالي الذي جاء من بعده ونقل عنه كثيرا من أفكاره. وهناك كتب أخرى لابن مسكويه منها "كتاب الفوز الأصغر والفوز الأكبر وفوز النجاة" و"كتاب ترتيب السعادات" وكتاب "آداب العرب والفرس" و"كتاب تجارب الأمم"، وله كتاب "الحكمة الخالدة" تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي. ويقول الدكتور أحمد عبد الحليم عطية محقق كتاب السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري المتوفى 381هـ في ص17 أن ابن مسكويه نقل فيه عن العامري وخصص فيه فصلا طويلا عن وصايا العامري وآدابه1. هذا إلى جانب بعض الرسائل الصغيرة ما زال الكثير منها إن لم يكن معظمها مخطوطا. من هذه الرسائل رسالة "في النفس والعقل" ورسالة "اللذات والآلام" و"ورسالة في جوهر النفس والبحث عنها".

_ 1 يقول التوحيدي -الذي ينقل في مؤلفاته عن أستاذه العامري- في كتابه الإمتاع والمؤانسة ج1 ص36. إن ابن مسكويه رغم تتلمذه على العامري الذي سكن الري خمس سنين ودرس وأملى وصنف وروى لم يأخذ عنه كلمة واحدة ولا مسألة حتى كأن بينهما سدا.

تأثر ابن مسكويه بفلاسفة الأغريق

تأثير ابن مسكويه بفلاسفة الإغريق: تأثر ابن مسكويه بفلاسفة الإغريق شأنه في ذلك شأن كثير من فلاسفة الإسلام كالكندي وكالفارابي وابن سينا والعامري والغزالي وغيرهم. وهو يشير إلى آراء جالينوس وأرسطو وسقراط وفورفيوس وبروسن وفيثاغورث وبقراط وأفلاطون والرواقيين من فلاسفة الإغريق وينقل عنهم. بل إنه يعترف صراحة بأنه نقل عنهم "ابن مسكويه: ص66، 84، 87، 91، 167، 180". ويقول أحد الباحثين إن مسكويه اعتمد في كتابه تهذيب الأخلاق على كتاب الأخلاق النيقوماخية لأرسطو "محمد الجليند: 265" نسبة إلى نيقوماخوس والد أرسطو. تأثيره على حجة الإسلام الغزالي: كان لابن مسكويه تأثير واضح على حجة الإسلام الغزالي. ويبدو هذا التأثير فيما نقله نقلا حرفيا عنه في كلامه عن النفس وتقسيماتها والفضائل وأمهاتها وصفاتها الأخلاقية والصفات التي تتدرج تحتها وغير ذلك مما سنشير إليه في كلامنا عن ابن مسكويه وفي كلامنا أيضا عن الغزالي. ويقول ابن الخطيب محقق كتاب ابن مسكويه وشارح غريبه "ص6" في تعليقه على الكتاب إنه كان قد قرأ أبوابا برمتها منه في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فظن بادئ ذي بدء أن ابن مسكويه نقل عن الغزالي هذه الأبواب. ولكن بعد البحث وجد أن ابن مسكويه توفي في عام 421هـ في حين أن الغزالي توفي عام 505هـ فيكون ابن مسكويه أسبق من الغزالي. وبذلك يكون الغزالي هو الناقل عن ابن مسكويه.

آراؤه التربوية

آراؤه التربوية: يتحدث ابن مسكويه عن ضرورة الاجتماع البشري ويذكر عبارة "الناس مدينون بالطبع" "ص126" ويكررها في "ص167". وهو بهذا يكون سابقا للماوردي والأصفهاني وابن خلدون في القول بذلك. والواقع أن أستاذ ابن مسكويه وهو أبو الحسن محمد بن يوسف العامري المتوفى 381هـ يذكر مثل هذه العبارة في كتابه "السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية" "ص257" وينسبها إلى أرسطو. وتكلم ابن مسكويه في أمور كثيرة تتعلق بالعقل والقلب والنفس والأخلاق وتربية الصبيان وسنعرض في السطور التالية لبعض آرائه. 1- إعلاؤه لشأن العقل: ينزل ابن مسكوية العقل منزلة كبرى تمشيا مع فلاسفة الإغريق الذين يمجدون العقل كأعلى قيمة في حياة الإنسان. والواقع أن الإسلام الذي ينتمي إليه ابن مسكويه يعلي من شأن العقل إلى درجة كبيرة قل أن نجد لها نظيرا في الأديان الأخرى. والقرآن الكريم مليء بالشواهد الكثيرة التي تدل على ذلك. ويتردد في القرآن دائما في عبارة مثل "لعلهم يعقلون" "ألا يعقلون"، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} ، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون} "ولعلكم تتفكرون"، "أفلا تنكرون"، {أَفَلا يَتَدَبَّرُون} ، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} . والمفكر الإسلامي الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله كتب كما أشرنا كتابا بعنوان "التفكير فريضة إسلامية" فإذا كان التفكير وهو وظيفة العقل فريضة في الإسلام ألا يدل ذلك على إعلاء الإسلام من شأن العقل؟ ولا شك في أن ابن مسكويه قد تأثر في كلامه بما يقوله الإسلام عن العقل إلا أن لأسلوب كلامه طابعا يونانيا قديما.

والعقل عند ابن مسكويه يعتبره على غرار الإغريق قوة النفس الناطقة. ذلك أنه يرى أن للنفس قوى مختلفة لها مراكز جسمية. والعقل والفكر في الدماغ والغضب في القلب والشهوة في البطن. وهو يرى أن العقل هو مناط التكليف الإلهي. وعلى أساسه يكون حساب الإنسان ثوابا عقابا. وبه يستطيع المرء أن يكون قاب قوسين أو أدنى من سدرة المنتهى التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة النجم بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} . وبه أيضا يهوى إلى الدرك الأسفل من النار شأنه شأن المنافقين الذين قال عنهم القرآن الكريم في سورة النار {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} . أو يكون شبه الحيوانات والأنعام الذين قال فيهم رب العزة في سورة الفرقان {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} .

النفس الإنسانية

النفس الإنسانية: تحدث ابن مسكويه عن النفس من حيث طبيعتها وصلتها بالجسم. فمن حيث طبيعتها يناقش ما إذا كانت النفس الإنسانية نفسا واحدة أم أنها متعددة. ويصل إلى القول بأن النفس واحدة ترد إليها قوى مختلفة هي بمثابة الفروع للشجرة الواحدة. ومن حيث صلة النفس بالجسم يتساءل هل هي جزء من الجسم تفنى بفنائه؟ ويجيب على ذلك بقوله إن النفس مغايرة للبدن وليست جزءا منه ولا حالا من أحواله. ويستدل على ذلك بأن النفس هي التي تحرك البدن وقد تكون هذه الحركة مخالفة لطبيعته كالصعود إلى أعلى أو التحرك من مكان إلى مكان. كما أن الجسم يعتريه التغيير والتبديل والزيادة والنقصان. ومع ذلك يظل الإنسان مدركا لنفسه في كل ذلك. وهذا يعني أن هناك جوهرا غير الجسم مسئول عن ذلك. ويقول أيضا إن النفس ليست جسما بل هي جوهر مفارق للبدن ومخالف له في الطبع. فهي من عالم آخر غير عالم المادة الذي ينتمي إليه الجسم. ويرى ابن مسكويه أن النفس بعد الموت تصعد إلى بارئها أما الجسم فيفسد ويتحلل وهذا يعني أن النفس خالدة ولا تفنى بفناء الجسم. فهي ليس جزاء منه. وهو بهذا يخالف الفلاسفة الحسيين الذين يقولون بأن النفس جزء من

الجسم وأنها تفنى بفنائه. وينقل ابن مسكويه عن فلاسفة الإغريق وعلى رأسهم أفلاطون تقسيم قوى النفس إلى ثلاث: قوة العقل وآلتها الدماغ وقوة الغضب وآلتها القلب وقوة الشهوة أو القوة البهيمية وآلتها الكبد. وهو يرى أن هذه القوى الثلاث إذا أحسن المرء توجيهها والتحكم فيها فإنها تكون مصدر خيره وسعادته. أما إذا ترك لها الحبل على الغارب وانساق وراء أهوائها فإنه يصبح عبدا لها وتكون وبالا عليه وشرا مستطيرا. وهو يذكر أن لكل قوى من هذه القوى الثلاث للنفس فضيلتها. ففضيلة العقل الحكمة وفضيلة القلب الغضب أو الشجاعة وفضيلة الحس الشهوة أو العفة. ومن هنا كانت صفة العدل شرطا أساسيا لهذه الفضائل وإذا انتفت صفة العدل عن الإنسان لم يعد إنسانا فاضلا وانقلبت هذه الفضائل إلى رذائل. وكان لابن مسكويه تأثيره الواضح على الغزالي في هذا التقسيم الثلاثي لقوى النفس ونقله عنه نقلا كاملا. ويذكر ابن مسكويه أن النفس العاقلة أو ما يسميها بالناطقة أو العالمة تتصف بالحكمة والمعرفة. أما النفس الغضبية فهي حوشية الطبع لكنها تقبل الأدب والتهذيب. أما النفس الشهوانية فلا تقبل التأديب أو التهذيب في نظر ابن مسكويه. ويشبه ابن مسكويه هذه النفوس الثلاث أو القوى الثلاث للنفس بمثال الصياد الذي يركب دابته ومعه كلبه. فإذا كانت القيادة للصياد أمكنه الوصول إلى غايته. أما إذا كانت لدابته أو لكلبه فإنه يضل الطريق ولا يصل إلى مراده. لأن الدابة تمثل قوة الشهوة ولا هم لها إلا إشباع معدتها بالحشائش الخضراء غير عابئة بالعوائق التي تعترض طريقها. وفي هذا خطر على الصياد. والكلب وهو يمثل قوة الغضب يندفع ويجري بعيدا باحثا عن صيد. وقد يجر الصياد إلى المهالك التي تقضي عليه. وهذا المثال يذكرنا بأسطورة أفلاطون عن السائق والعربة التي يجرها جوادان أحدهما سلس القيادة والآخر عصي جامح. وذلك في حديثه عن قوى النفس العاقلة والغضبية والشهوانية. والسائق في الأسطورة يمثل العقل والعربة تمثل الجسم أو البدن، والجواد سلس القيادة يمثل إرادة أو قوة الغضب والجواد العصي أو الجامح يمثل الشهوة. "انظر محمود قاسم ص42".

الفضيلة وصفاتها الأخلاقية

الفضيلة وصفاتها الأخلاقية: يسلك ابن مسكويه في نظرته إلى المستقبل مسلك أرسطو الذي يقول بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين أو نقيضين كل منهما ليس بفضيلة. ويؤكد ابن مسكويه أن هذه الفضائل لا تحقق إلا بالممارسة والتعامل بين الناس. وذلك أن فصيلة الفرد من فضيلة الجماعة والعكس. كما أن خير الفرد من خير الجماعة والعكس صحيح أيضا. ومن هنا تكون العلاقة بين الفرد والجماعة علاقة تفاعلية تبادلية تقوم على أساس الأخذ والعطاء وكل منهما يستمد قوته من الطرف الآخر. وأمهات الفضائل عن ابن مسكويه الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. وإذا كانت الحكمة ترتبط بالعقل والشجاعة ترتبط بالقلب والعفة ترتبط بالحسن فإن العدل كما يراه ابن مسكويه هو العدل بين هذه الفضائل حتى لا تشط إحداها إلى أحد طرفيها فتصبح رذيلة. فالحكمة قد تصبح سفها أو بلاهة والشجاعة قد تصبح تهورا أو جنبا والعفة قد تصبح شرها أو خمودا "عزوفا". وينقلب الإنسان من أخلاق الفضيلة إلى أخلاق الرذيلة، ويندرج تحت ما يسميه ابن مسكويه بالنفوس الضالة الشريرة. ويورد ابن مسكويه الصفات الأخلاقية التي تتدرج تحت كل فضيلة. ففضيلة الحكمة يندرج تحتها صفات منها الذكاء وهو سرعة اقتراح النتائج وسهولتها على النفس. ومنها الذكر أو التذكير وهو ثبات صورة ما يخلعه العقل أو الوهم من الأمور. ومنها التعقل وصفاء الذهن وقوته وسهولة التعلم وحدة الفهم للأمور النظرية. وفضيلة العدل أو العدالة يندرج تحتها صفات منها حسن القضاء والمعاملة والألفة والمحبة وصلة الرحم وترك الحقد والمعادة واستعمال اللطف وترك القيل والقال والبحث عن السؤال. ويندرج تحت فضيلة العفة صفات أخلاقية منها الحياء والورع والوقار والقناعة ومقاومة الهوى بالصبر والعطاء. ويندرج تحت فضيلة الشجاعة صفات أخلاقية منها عظم الهمة وكبر النفس والنجدة والشهامة والثبات والحلم واحتمال الكد والكدح. وقد نقل الغزالي عن ابن مسكويه كثيرا من هذه الصفات. "انظر: طه عبد الباقي سرور: ص114، والإحياء: ص3، ص53".

الكمال الإنساني

الكمال الإنساني: يرى ابن مسكويه أن الكمال الإنساني يعتمد على قوتين في نفسه. قوة عالمة تدفع الإنسان إلى الاشتياق إلى تحصيل المعارف والعلوم وقوة عاملة يحتاج إليها الإنسان في تنظيم أموره وتسييرها. وهذه القوة هي التي تتعلق بالكمال الأخلاقي. وإذا كانت القوة العالمة تتعلق بالنظر والفكر والعقل وتحصيل المعارف فإن القوة الثانية تتعلق بأسلوب عمل الإنسان وسلوكه. ولا يتم الكمال الإنساني إلا بتمامهما معا. لأن العلم مبدأ والعمل أو السلوك تمام له. والمبدأ بلا تمام يكون ضائعا والتمام بدون مبدأ يكون مستحيلا. والواقع أن علماء المسلمين قد أكدوا على ضرورة ارتباط العلم بالعمل واعتبروهما وجهين لعملة واحدة. فلا علم بدون عمل ولا عمل بدون علم وهو ما سبق أن فصلنا الكلام عنه. ويرى ابن مسكويه أن كمال المرء في تميزه عن غيره في أفعال خاصة به لا يشاركه فيها غيره. فكمال الفرس أو الحصان على سبيل المثال هو في هيئته المميزة له وفي قوته وسرعة عدوه. فإذا فقد كمال هيئته وقوته وسرعته فإنه يكون قد فقد كماله كحصان. وكذلك النجار كما له في إتقان صنعته فإذا فقد إتقانه فإنه يفقد كماله كنجار ويصبح إنسانا عاديا. وهو يرى أن الناس يتفاوتون في الرفعة والوضاعة والشرف والخسة بمقدار اتباعهم للعقل وتحقيقهم لخيرهم وسعادتهم. وأعلى مراتب النفوس تلك التي تخلصت من شهوات البدن وأهوائه وأخذت في تجلية مرآتها حتى تستطيع أن ترى فيها تجلي إشراقات النور الإلهي. وأدنى مراتب النفوس النفوس الضالة التي لا هم لها إلا إشباع الجسم ونزواته. ولهذا صدأت مرآتها فعجزت عن رؤية تجلي النور الإلهي. والفاضل أو الكامل من الناس من يحرص على إعلاء سلطة العقل فوق شهوة الحس. ويرى ابن مسكويه أن السعادة والفضيلة لا تتحقق عن طريق الزهد والعزلة وابتعاد الفرد عن مخالطة الناس وهو ما يفعله الرهبان المسيحيون والصوفية من

المسلمين. ولا بد من العيش مع الناس ومعاشرتهم والتعامل معهم حتى يظهر المرء ما لديه من فضائل. وبدون ذلك تصبح الفضائل لا قيمة لها. فكيف يطبق الإنسان العدل بدون التعامل مع البشر؟ وكيف يظهر عفته وهو بمعزل عن الناس والبشر؟ وكيف يمارس أي نوع من الفضائل ما لم يحتك بالناس ويتعامل معهم؟ فالفضيلة تتكشف بالممارسة والتعامل مع البشر. ويعرض ابن مسكويه للفضيلة الزائفة التي لا تصدر عن طبع وسجية ونفس خالصة بعيدة عن الرياء والمداهنة. فقد يعمل بعض الناس على الظهور بمظهر العدل وليسوا بعادلين، أو الظهور بمظهر العفة وليسوا بعفيفين. وقد يتظاهرون بالكرم أو السخاء وليسوا بكرماء أو أسخياء، وبالجود أو البر وليسوا من أهله. وهكذا في كل الفضائل والأخلاق الحميدة. ومن هنا كان من الضروري أن يتطابق مظهر الفضيلة مع مخبرها حتى تكون صادقة وإلا اعتبرت زائفة غير حقيقية. وكثير من الناس في واقع حياتهم يتظاهرون بما ليس من حقيقة نفوسهم الداخلية. وهم يتدرجون تحت صفات الغش والخداع والرياء والنفاق حتى لو اكتسوا بثوب الفضيلة. وقد صدق الشاعر حين قال: ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإذا التحفت به فإنك عار وقال شاعر آخر: إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ... فلا خير في ود يجيء تكلفا

الأخلاق

الأخلاق: عقد ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق حديثا مستفيضا عن الأخلاق وهو يرى تمشيا مع الاتجاه الأخلاقي العام في الإسلام أن الغاية من الأخلاق هي "بلوغ الكمال" و"السعادة التامة". وهو يرى أن طريق الوصول إلى هذه السعادة إنما يتحقق بمعرفة الله والعمل بما أنزله في كتابه الكريم. ويرفض ابن مسكويه الرهبنة التي رفضها الإسلام. فلا رهبنة في الإسلام. كما أنه يرفض حياة التصوف التي اعتقدت خاطئة أن الحياة انطواء وانعزال عن الناس وزهد وعزوف عما أحله الله لعباده من الطيبات من الرزق والاستمتاع بها. ويرى ابن مسكويه أن علم الأخلاق عظيم الشأن جليل القدر لأنه يتعلق بجوهر الإنسان الذي فضله الله على كثير من خلقه وجعله أشرف المخلوقات. وإذا كان للإنسان هذا الشرف الكبير فإن العالم الذي يختص به له نفس الدرجة من الشرف والتشريف. ويرى ابن مسكويه أن الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. وهي على قسمين: قسم طبيعي من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب. وقسم بالعادة والاكتساب والتدريب. وربما كان مبدؤه بالرؤية والفكر ثم يستمر عليه أولا فأول حتى يصير ملكه وخلقا. وهذا يعني أن للأخلاق جانبين: جانب الطبع أو المزاج، وجانب التطبع والاكتساب. ويقول في "ص181" "ولذلك حكمنا أن بعض الناس أخيار بالطبع وبعضهم أخيار بالشرع والتعليم". ويقول في نفس الصفحة: "وتجد من الناس من هو خير فاضل من مبدأ تكوينه نرى فيه النجابة طفلا ونتفرس فيه الفلاحة "أي الفلاح" ناشئا بأن يكون حييا كريم الخيم "السجية والطبع" يؤثر مجالسة الأخيار ومؤانسة الفضلاء وينفر من أضدادهم. وليس يكون ذلك إلا بعناية تلحقه من أول مولده. ونجد أيضا من لا يكون بهذه الصفة من مبدأ تكوينه بل يكن كسائر الصبيان إلا أنه يسعى ويجتهد ويطلب الحق إذا رأى اختلاف الناس فيه. ولا يزال كذلك حتى يبلغ مرتبة الحكماء. أعني أن يصير علمه صحيحا وعمله صوابا. وليس يبلغ هذه الدرجة إلا بالتفلسف وإطراح العصبيات، وسائر ما حذرنا منه. ونجد أيضا من يوجد بهذه السيرة أخذا على الإكراه إما بالتأديب الشرعي وإما بالتعليم الحكمي. وهناك غموض فيما يقوله ابن مسكويه لأنه يعود فيقول بأن كل خلق ليس من الطبع وذلك باستخدام القياس المنطقي في قضية تتكون من مقدمتين ونتيجة على النحو التالي: المقدمة الأولى: كل خلق يمكن تغييره. المقدمة الثانية: كل ما يمكن تغييره ليس من الطبع. والنتيجة هي: كل خلق ليس من الطبع.

فكيف نوفق إذن بين قوله هذا وبين ما سبق أن أشرنا إليه من قوله بأن بعض الناس أخيار بالطبع؟ وهو يدلل على صحة المقدمة الأولى بما جاءت به الشرائع السماوية لهداية الخلق وتوجيههم وبما هو واقع ومشاهد في العيان من وجوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأحداث والصبيان. ويستدل على صحة المقدمة الثانية بأننا لا نروم أبدا تغيير شيء مما هو بالطبع. فلا أحد يروم تغيير حركة الحجر في سقوطه إلى أعلى بدلا من سقوطه إلى أسفل. ولو رامه ما صح له تغيير شيء منه ولا يجوز منه ولا مما يجري مجراه. ومن الواضح أن ابن مسكويه ويتبعه الغزالي في ذلك لا يقول بفطرية الخلق أو الأخلاق كما ذهب الفلاسفة المثاليون ولا يقول بأن الأخلاق كلها مكتسبة كما يقول الفلاسفة التجريبيون والوصفيون. وإنما تجمع الأخلاق بين هذا وذاك "انظر الإحياء. ج3 ص59" ويرى ابن مسكويه أن مسئولية تهذيب الأخلاق تقع على الفرد نفسه فهو المسئول عن أفعاله وأعماله. وهو الذي يستطيع أن يغير طبعه ويشذبه ويهذبه. وهو يرى أن المبادئ والمعايير الخلقية تكتسب بالتأديب والتعليم. وليس هناك في فطرة الإنسان ما يمنعه عن هذا الاكتساب بالتأديب والتعليم. فالأخلاق استعداد وتهيؤ لدى الإنسان. واختلاف الناس في قبول الأخلاق ترجع إلى اختلاف استعدادهم وتهيؤهم. فكل مهيأ لما خلق له. كما ترجع إلى مسئولية كل فرد في تهذيب خلقه كما أشرنا. وهو يرى أن الإرادة أساس الفعل الأخلاقي بل إنها تعتبر شرطا رئيسيا لاعتبار الفعل أخلاقيا. فنحن نحكم على الإنسان بكونه خيرا أو شرا حسب اتجاه إرادته نحو الخير والشر. فالإنسان كائن مريد. وهو في هذا يختلف عن الكائنات الأخرى التي تحيا طبيعتها الحيوانية. ومن ثم فهي لا تتصف بصفات أخلاقية ولا تسلك وفقا لأي سلوك أخلاقي.

أمراض النفوس وعلاجها

أمراض النفوس وعلاجها: يتحدث ابن مسكويه حديثا مستفيضا عن أمراض النفوس وعلاجها ويخصص لها جزءا كبيرا في كتابه يقول فيه: إن النفوس تمرض كما يمرض البدن، وأن أمراض النفوس تؤثر في البدن. وأمراض النفس قد تكون بالغضب أو بالحزن أو بالعشق أو بالشهوات الهائجة. والمريض بها تتغير صورة بدنه حتى يضطرب ويرتعد ويصفر ويحمر ويهزل ويسمن ويلحقه ضروب التغبر المشاهدة بالحس. ولعلاج أمراض النفوس يقول: علينا أن نتفقد مبدأ المريض إذا كان من نفوسنا. فإن كان مبدؤه من ذاتها كالفكر في الأشياء الرديئة وإحالة الرأي فيها. وكاستشعار الخوف، والخوف من الأمور العارضة والمترقبة، والشهوات الهائجة قصدنا علاجها بما يغضها. وإن كان مبدؤه من المزاج ومن الحواس كالخور الذي مبدؤه ضعف حرارة القلب مع الكسل والرفاهية. وكالعشق الذي مبدؤه النظر مع الفراغ والبطالة قصدنا علاجه أيضا بما يخصه. إن طب الأبدان ينقسم إلى قسمين: أحدهما حفظ صحتها إذا كانت حاضرة، أي إذا كانت الصحة موجودة. والثاني رد صحة الأبدان إذا كانت غائبة أي غير موجودة. وكذلك طب النفوس ينقسم إلى القسمة بعينها. فنحفظ على النفوس صحتها إذا كانت حاضرة، ونردها إليها إذا كانت غائبة. فإذا كانت النفوس خيرة فاضلة تحب نيل الفضائل وتحرص على إصابتها، وتشتاق إلى العلوم الحقيقية والمعارف الصحيحة، فيجب على صاحبها أن يعاشر من يجانسه ويشاكله ويماثله ولا يأنس بغيرهم ولا يجالس سواهم. ويحذر كل الحذر من معاشرة أهل الشر والمجون ولا يصغى إلى أخبارهم مستطيبا، ولا يروي أشعارهم مستحسنا، ولا يحضر مجالسهم مبتهجا. ذلك أن حضور مجلس واحد من مجالسهم أو سمع خبر واحد من أخبارهم يعلق من وضره ووسخه بالنفس المحنك وغواية العالم المستبصر فضلا عن الحدث الناشئ المسترشد. ومما يحفظ على النفس صحتها مداومة النظر والفكر والنشاط. وذلك أن النفس متى تعطلت عن النظر وعدمت الفكر والغوص عن المعاني تبلدت وبلهت وانقطعت عنها مادة كل خبر. وإذا ألفت الكسل واختارت العطلة قرب هلاكها لأن في عطلتها هذه انسلاخا من صورتها الخاصة بها، ورجوعا منها إلى رتبة البهائم. وهذا هو الانتكاس في الخلق نعوذ بالله منه. وهو يرى أن من أمراض النفوس النسيان وهو آفة العلم ويوصي بالمتعلم بألا يتكاسل عن معاودة ومراجعة ما علمه وتعلمه ودرسه. ويورد قول الحسن البصري رحمه الله:

"اقدعوا هذه النفوس "أي كفوها عن الآثام" فإنها طائعة وحادثوها فإنها سريعة الدثور" أي النسيان. ويعلق على هذه العبارة بقوله: واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني وهي مع ذلك فصيحة واستوفت شروط البلاغة "ابن مسكويه: 185-188". ومما يحافظ على صحة النفس ألا يحرك المرء قوته الشهوانية والغضبية بل يتركها حتى يتحركا بأنفسهما. ولذلك يجب ألا يتذكر أعمال هاتين القوتين حتى لا يشتاق إليهما ويتحرك نحوها. بل يتركهما فإنهما يهيجان عند حاجتهما ويلتمسان ما يحتاج البدن إليه. ويتخذان من باعث الطبيعة ما يغني عن باعث الفكر. لأن الله تعالى إنما وهب هاتين القوتين لنا لنستخدمهما عند الحاجة إليهما لا لنخدمهما ونتعبد لهما. ومن الأمور التي ينصح بها ابن مسكويه في المحافظة على صحة النفس أن يمعن المرء النظر في كل ما يعمل ويدبر حتى لا يخالف ما يجب تمييزه وتعقله. فما أكثر ما يعرض للإنسان من أفعال تخالف ما عقد عليه عزمه ورأيه. وعندما يقع له ذلك وجب عليه أن يضع لنفسه عقوبات لمقابلة مثل هذه الأخطاء أو الذنوب. فإذا أنكر من نفسه مبادرة إلى طعام ضار أو تناول فاكهة أو حلواء غير موافقة عاقب نفسه بصوم لا يفطر منه إلا على ألطف ما يقدر عليه وأقله، وإن أمكنه الطي "أي طي البطن وهو الجوع" فليفعل ويمكن في توبيخه لنفسه أن يقول لها: إنما قصدت تناول النافع فتناولت الضار. وهذا فعل من لا عقل له. وإن أنكر من نفسه كسلا وتدانيا في مصلحة له فليعاقب نفسه بسعي فيه مشقة أو صلاة فيها طول أو بعض الأعمال الصالحة التي فيها كدر وتعب. وليحذر في كل أوقاته ملابسة رذيلة أو مساعدة رفيق عليها أو مخالفة صواب. ولا يستحقون شيئا مما يأتيه من صغار السيئات. ولا يطلبن رخصة منها فإن ذلك يدعوه إلى أعظم منها. ومعظم النار من مستصغر الشرر. ويجب على المرء أن يتعود الصبر على ما يجب الصبر عليه والحلم عما ينبغي أن يحلم عنه ويضبط النفس عن الشهوات الرديئة ولا ينتظر دفع هذه الرذيلة وقت هجائها فإن الأمر يكون عن ذلك صعبا جدا. ولعله غير ممكن البته. ومن تعود في أول نشأته وشبابه ضبط النفس عن شهواتها عند ثورة غضبه وحفظ لسانه واحتمال أقرانه خف عليه

ما يثقل على غيره ممن لم يتأدب بهذه الآداب "المرجع السابق: 194-196". ومن الأمور التي يحافظ بها المرء على صحة نفسه معرفته لعيوبها حتى يسهل عليه علاجها. ويورد ابن مسكويه ما ذكره جالينوس في هذا الصدد بقوله: "إنه لما كان كل إنسان يحب نفسه خفيت عليه معايبه ولم يرها وإن كانت ظاهرة. وينتقد ما أشار به جالينوس من علاج لتخلص المرء من عيوبه. وذلك باختيار صديق كامل فاضل يحكمه في بيان عيوبه ومساوئه. ويعلق فيه. ويرى بدلا من ذلك أن العدو في هذا الموضع أنفع من الصديق. فالعدو لا يحتشم في إظهار عيوبنا. بل يتجاوز ما يعرف منا إلى التحرض والكذب فيها. فننتبه إلى كثير من عيوبنا. بل نتجاوز ذلك إلى أن نتهم نفوسنا بما ليس فيها.. ويعود فيقول إن لجالينوس مقالة أخرى يذكر فيها إن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم. ويوافقه على ذلك. ويورد ابن مسكويه ما قاله في ذلك أبو يوسف بن إسحاق الكندي. وهو أن على طالب الفضيلة أن يتخذ صور جميع معارفه من الناس مرآة له تريه صورة كل واحد منهم عندما تعرض له آلام الشهوات التي تثمر السيئات حتى لا يغيب عنه شيء من السيئات التي له. وبذلك يكون متفقدا لسيئات الناس. فإذا رأى سيئة بادية من أحد ذم نفسه عليها كأنه هو الذي فعلها، وأكثر عتبه على نفسه من أجلها. وإذا وقف عند محاسبته لنفسه، فإن النفوس بهذا ترتدع عن المساوئ وتألف الحسنات. ويعلق ابن مسكويه على ما ذكره الكندي بأنه أبلغ مما قاله من سبقوه وتقدموا عليه "المرجع السابق: 196-198". ومن الأمراض الغالبة على النفس الغضب. ويقول عنه ابن مسكويه إن الغضب في الحقيقة حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب واحترامتها فاحتد غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضطربا يسوء منه حال العقل ويضعف فعله. فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصم عن الموعظة. بل تصير المواعظ في

تلك الحالة سببا لزيادة الغضب ومادة اللهب والتأجج. وليس له في تلك الحال حيلة. فالناس يتفاوتون بحسب المزاج. فإن كان المزاج حارا يابسا كان أشبه بالكبريت الذي إذا أدنيت منه الشرارة الضعيفة التهب. وإن كان بالضر فماله بالضر. ولكن إذا احتدم الغضب فيكاد الحال يتفاوت مثله مثل اشتغال النار في الحطب اليابس والرطب. ومثل اشتعال النار بسرعة وشدة من الكبريت والنفط. كما أن الاحتكاك وإن كان ضعيفا في توليد النار فربما قوي حتى تلتهب منه الأمة العظيمة. وكذلك النفس إذا استشاطت غضبا فليس يرجى لها حيلة البتة. وأسباب الغضب كما يذكرها ابن مسكويه هي: العجب والافتخار والمراء واللجاج والمزاج والتيه والاستهزاء والغدر والضيم أو الظلم وطلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس ويتحاسدون عليها. وغاية هذه الأسباب جميعا شهوة الانتقام. وعواقبها الندامة وتوقع العقاب عاجلا أو آجلا وتغير المزاج وتعجل الألم. ذلك أن الغضب جنون ساعة أو لحظة وربما أدى إلى التلف باختناق حرارة القلب فيه. وربما كان سببا لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. ومن لواحقه أيضا مقت الأصدقاء وشماتة الأعداء واستهزاء الحساد والأراذل من الناس. ويرى ابن مسكويه أن لكل من أسباب الغضب السابقة علاجا يبدأ به حتى يقتلع من أصله. فالعجب وهو من أسباب الغضب، هو في حقيقته ظن كاذب بالنفس باستحقاق مرتبة غير مستحقة لها. وعلى المرء أن يعرف أنه لا يخلو من عيوب ونقائض فالفضل مقسوم بين البشر. ولا يكمل المرء إلا بفضائل غيره. ومن كانت فضيلته عند غيره وجب عليه ألا يعجب بنفسه. وكذلك الافتخار بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه. وكيف يملك ما هو معرض للزوال في كل ساعة وفي كل لحظة. وأوضح مثال على ذلك ما ذكره القرآن الكريم في سورة الكهف: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} . وأما المزاج واللجاج فيولدن الفرقة والتباغض بين الإخوان ولذلك ينبغي الابتعاد عنها وتجنبها. وأما المزاج المعتدل منه محمود وكان رسول الله صلى الله عليه سلم يمزج ولا يقول إلا حقا. ولذلك ينبغي الاعتدال في المزاج وعدم التمادي فيه حتى لا يخرج عن حده وينقلب إلى ضده. فيثير غضبا كامنا ويزرع حقدا باقيا. وقد قال الشاعر في هذا الصدد: ورب حرب جره اللعب ... وبعض الحرب أوله مزاح وأما التيه فهو قريب من العجب. والفرق بينهما أن التياه ينبه على غيره ولا يكذب نفسه أما العجب فيعجب بنفسه ويكذب عليها فيما يظن لها. وعلاج الاثنين واحد. وذلك بأن يعرف المرء أن ما يتيه به لا مقدار له عند العقلاء وأنهم لا يعتدون به لخساسة قدره وزوال نعمه. وأما الاستهزاء فيستعمله الماجنون من الناس ومن لا يبالي بمن يقابل به والحر القاضل من يبتعد عن هذا المقام حتى يكرم نفسه وعرضه بعدم تعرضها للسفهاء الذين قال فيهم رب العزة في سورة النساء: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . ونحن نقول في دعوانا ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. وأما الغدر فهو مذموم بكل لسان وينفر السماع من ذكره وضده الوفاء. ومن عرف قبح الغدر باسمه ونفور العقلاء منه وجب عليه أن يبتعد عنه وينفر منه.

أما الضيم فهو الظلم الذي قد يكون شهوة للانتقام. وقد نفى رب العزة الظلم عن نفسه فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . ولذلك وجب أن يبتعد المرء عن الضيم لأنه مدمر للحياة الاجتماعية وعكسه العدل الذي سبق أن أفضنا في الكلام عنه. ويجب ألا يسرع المرء إلى الانتقام عندما يحيق به ظلم أو يلحقه ضيم حتى لا يعود عليه بضرر أعظم من احتمال الظلم أو الضيم. أما طلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس مثل الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة وغيرها من المقنيات فلا يقدر عليها إلا الموسرون. وهي قليلة الانتفاع بها والحاجة إليها وعادة ما تقتني لخزنها وقد لا ينتفع بها إلا نادرا. والتنافس على شرائها وامتلاكها خطأ من القادرين على شرائها فضلا عن أوساط الناس "المرجع السابق: ص205-213". ومن أمراض النفس الخوف. ويكون من توقع مكروه وانتظار محذور. والتوقع والانتظار إنما ذكن للحوادث في الزمان المستقبل. وهذه الحوادث قد تكون عظيمة أو يسيرة وقد تكون ضرورية أو ممكنة. والأمور الممكنة قد تكون نحن أسبابها وقد يكون غيرنا سببها. وجميعها لا ينبغي للعاقل أن يخاف منها. وهي تقع أو تكون وقد لا تقع ولا تكون. ويجب على المرء ألا يصر على أنها تكون فيستشعر الخوف منها ويتعجل مكروه التألم بها وهي لم تقع بعد ولعلها لا تقع بالمرة. ويجب أن يكون الخوف من مكروه على قدر حدوثه. وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في كل ما يمكن ألا يقع من المكاره. وأما ما كان سببه سوء اختيارنا وجنايتنا على أنفسنا فينبغي أن نحذر منه بترك الذنوب والأعمال التي نخاف عواقبها ولا تؤمن غوائلها وأما الأمور الضرورية كالهرم وكبر السن وتوابعه فعلاج الخوف منه أن تعلم أن الإنسان إذا أحب طول الحياة فقد أحب لا محالة الهرم. ومع الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزية والرطوبة الأصيلة التابعة لها. وضعف الأعضاء الأصيلة كلها. ويتبع ذلك قلة الحركة وبطلان النشاط وضعف آلات الهضم وسقوط آلات الطحن ونقصان القوى المدبرة للحياة. وأما الخوف من الموت فسببه الجهل بحقيقته وحقيقة مصير الناس بعده لأن الإنسان يخاف من المجهول. وهذا الجهل

هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به. وهو تعب فيه راحة من الجهل وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس، والبرء من خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولذلك هانت عليهم أمور الدنيا كلها واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية والمطالب التي تؤدي إليها. أما صاحب النفس المطمئنة الذي يعرف أنها ترجع إلى ربها راضية مرضية لتشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو لا يخاف الموت ولا يخشاه بل يتلقاه ويتقبله بنفس راضية. ولأن الموت تمام حد الإنسان فهو حي ناطق ميت. والموت كمال ربه يصير إلى الأفق الأعلى. وقد جزم الحكماء بأن الموت موتان: موت إرادي وعنوا به إماته الشهوات وترك التعرض لها، وموت طبيعي وهو مفارقة النفس للبدن. ومن خاف الموت الطبيعي فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه ومن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟ ومن خاف الموت ظنا منه أن ينبغي أن يرجوه ومن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟ ومن خاف الموت ظنا منه أن للموت ألما عظيما فعلاجه أن يبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحي. أما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. ومن خاف الموت لأجل العقاب على ذنوبه وسيئاته. فالواجب عليه أن يحذر في حياته تلك الذنوب ويجتنبها. ومن أمراض النفس التي يشير إليها ابن مسكويه أيضا الحزن. ويقول عنه إنه ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوات مطلوب. وسببه الشرة إلى الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقده المرء أو يفوته منها ويورد ما حكى عن سقراط عندما سئل عن سبب نشاطه وقلة حزنه فقال: لأنني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه. وهو يذكر أن الحزن مرض عارض. والعاقل من ينظر إلى أحوال الناس في الحزن وأسبابه ليعلم أنه ليس يختص من بينهم بمصيبة غريبة ولا يتميز عنهم بمحنة بديعة وأن غايته من مصيبته السلوة. ومن رأى مصيبة غيره وبلواه هانت عليه مصيبته. أما الحسد فيقول عنه إنه أشنع الشرور وأقبح الأمراض. وقد قال الشاعر: وأظلم أهل الأرض ما بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب وقد أشار رب العزة في سورة الفلق إلى التعوذ من شر حاسد إذا حسد ومن المعروف أن الحسد مكروه لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة المحسود. أما الغبطة فتعني تمنى المرء مثل ما للمغبوط من نعمة من غير تمني زوالها. فهو يغبطه على نعمته ولا يحسده عليها.

تربية النشء

تربية النشء: أكد ابن مسكويه في تربية النشء على أهمية الدين واعتبره دعامة قوية في هذه التربية لأنه حصن للشباب وغير عاصم لهم من الزلل والخطأ. وهو يرى أن تربية الصبي وتنشئته على الخلال الحميدة إنما تكون عن طريق العقل، وأن ظهور الحياء عليه دليل على بزوغ عقله وأنه أصبح يدرك القبيح والحسن ويميز بينهما. كما أنه يرى أن نفس الصبي مهيأة للإدراك والمعرفة. فهي أشبه بصفحة بيضاء ولم تنتقش بعد صورة ولا رأي لها وعزيمة تمليها من شيء إلى شيء. فإذا تفشت بصورة وقبلتها نشأت عليها واعتادتها. وقد تردد صدى هذا القول لابن مسكويه عند الغزالي فيما بعد "الإحياء: ج35، ص69". كما ذهب جون لوك في العصور الحديثة إلى القول أيضا بأن عقل الطفل صفحة بيضاء Tabula Rasa. ولهذا يرى ابن مسكويه أنه يجب أن نطبع في نفس الصبي القيم والمثل العليا والاعتزاز بالنفس والكرامة. كما يجب أن نطالب الصبي بحفظ جيد الأشعار ومحاسن الأخبار، وأن نجنبه سماع الأشعار السيئة ومرافقة أهل السوء. ويشير ابن مسكويه إلى ناحية تربوية هامة في التعامل مع الصبي وهي أن نمدحه على كل ما يظهر منه من خلق جميل وفعل حسن ونكافئه عليه وإن حدث منه مخالفة فالأولى ألا يوبخ عليها ولا يكاشف بها بل يتغافل عنها لا سيما إذا حاول إخفاءها. ذلك أنه إذا تعود على التوبيخ والمكاشفة حمله ذلك على الوقاحة وحرضه على معاودة ما كان قد استقبحه. وهان عليه سماع الملامة في ركوب القبائح التي تدعو إليها نفسه. وهو ما نقله الغزالي نقلا يكاد يكون حرفيا "انظر الإحياء: ج3 ص70" وبالنسبة لأدب العلم والتعلم يقول ابن مسكويه إنه ينبغي أن يعود الصبي على خدمة نفسه ومعلمه وكل من كان أكبر منه. وأن يعود على طاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم. وفي تلقيه العلم من أستاذه عليه ألا يعترض ولا يسأل بل يكتفي في بداية أمره

بالقبول حتى إذا بلغ في العلم شأنا يمكنه من معرفة الأسباب والعلل طالع الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه وقويت بصيرته ونفذت عزيمته. وينبغي أن يؤذن للصبي في بعض الأوقات أن يلعب لعبا جميلا ليستريح إليه من تعب الأدب ولا يكون في لعبة ألم ولا تعب شديد. وقد نقل الغزالي هذا القول عن ابن مسكويه وردده في كتابه إحياء علوم الدين. "الإحياء ج3: ص71". وتعرض ابن مسكويه بتفصيل كبير إلى آداب الأكل والطعام. فأشار إلى عدة مبادئ هامة منها أن يوضح للنشء أن الأطعمة إنما تراد للصحة لا للذة أي أننا نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل. وهو مبدأ صحي وأخلاقي سليم فالأطعمة والأغذية شبيهة بالأدوية نداوي بها الجوع كما نداوي بالأدوية المرض. ومن مبادئ آداب الطعام أيضا أن يعلم الصبية إذا جلسوا مع غيرهم على مائدة الطعام ألا يبادروا إلى الطعام أولا، وألا يديموا النظر إلى أنواعه الموجودة. ولا ينبغي لهم أن يتسرعوا في الأكل أو يضخموا الكمية المتناولة. وينبغي عليهم أن يمضغوا الطعام جيدا ولا يبادروا ببلعه. ولا ينبغي للصبي أن يلطخ يده أو ثوبه بما يتناوله من طعام. وهو ما ردده الغزالي فيما بعد "الإحياء: ج3: ص70". ويشير إلى الشعوب العربية والإسلامية. وهي ألا يجعل غذاءه الرئيسي نهارا لأن ذلك يحمله على الكسل ويلجئه إلى النوم ويتبلد ذهنه وفهمه. وإنما يستوفي غذائه العشى لأن هذا أصح له وأنسب بعد عناء يومه. ومن الواضح أن هذا على نقيض ما تجري عليه عادة الكثيرين منا من جعل وجبة الغذاء هي الوجبة الرئيسية. وينصح ابن مسكويه بمنع الصبي من الإكثار من أكل اللحم، وإن منع منه في أكثر أوقاته كان أنفع له حتى لا يتعود على الترف. أما الحلوى فيمنع منها البتة إن أمكن وإلا فليتناول القليل منها لأنها تستحيل في بدنه فتكثر انحلاله كما أنها تعوده على الشر والاستكثار من الأكل. وهذا عكس ما يفعله كثيرون منا مع أبنائهم إذ يغمرونهم باللحوم من مختلف الأنواع وبالحلوى من مختلف

الأشكال والمذاق. وبالنسبة إلى آداب اللباس يشير ابن مسكويه بألا يتزين الصبي بملابس النساء، ولا يلبس الخليع منها، ولا يفتخر على أقرانه بشيء من مأكله وملبسه ولا بما يملكه والده. ويجب أن يعود الصبي على التواضع وكرم المعاشرة وعدم الكذب وعدم الحلف باليمين البتة سواء كان صادقا أم كاذبا. ويجب أن يعود الصمت وقلة الكلام. ويمنع من خبيث الخلام ومن السب واللعن ولغو الكلام. وقد أشار الغزالي إلى نفس هذه الآداب نقلها عن ابن مسكويه نقلا يكاد يكون حرفيا. "انظر كتاب الإحياء: ج3. ص69-71".

الماوردي وآراؤه التربوية

الماوردي وآراؤه التربوية مقدمة ... 4- الماوردي وآراؤه التربوية: "364هـ-450هـ" مقدمة: الاسم الكامل للماوردي هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، ولد بالبصرة وتلقى تعليمه بها. ثم انتقل إلى بغداد حيث واصل تعليمه في دراسة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم. وقد امتدت حياته من عام مولده سنة 364هـ حتى مماته سنة 450هـ وله من العمر ست وثمانون عاما. وهذا يعني أنه عاش خلال الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس الهجري. وهي الفترة التي كانت الثقافة الإسلامية في قمة ازدهارها. وهو علم من أعلام الفكر الإسلامي وأكبر فقهاء الشافعية يقول عنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى إنه كان إماما جليلا له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم. ويقول عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد إنه كان من وجوه الفقهاء الشافعيين، وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وغير ذلك، وتولى القضاء في بلدان كثيرة وكان ثقة. كما اشتغل بالتدريس عدة سنين في البصرة وبغداد.

شيوخه وأساتذته: تلقى الماوردي تعليمه على يد شيوخ وأساتذة عديدين نذكر منهم الحسن بن علي بن محمد الجبلي ومحمد بن الفضل البغدادي ومحمد بن المعلي الآزدي وأبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني. توليه القضاء: تذكر كتب التاريخ أن الماوردي تولى القضاء في بلدان كثيرة. ويقول عنه ياقوت إنه كان يلقب بأقضى القضاة. وكان رئيس القضاة في إحدى نواحي نيسابور. واختير سفيرا بين رجالات الدولة في بغداد وبني بويه من "381هـ-422هـ" فكانت له منزلة كريمة عند الخليفة القادر وعند آل بويه كذلك "الماوردي طبعة بيروت. مقدمة لمصطفى السقا ص4". كتبه ومؤلفاته: ترك لنا الماوردي كتبا كثيرة تقدر بنحو اثني عشر كتابا بعضها لم يطبع وهي تشمل كتبا دينية وأخرى لغوية وأدبية وثالثة في السياسة والاجتماع. ومن أضخم كتبه كتاب الحاوي الكبير وهو موسوعة ضخمة في فقه الشافعية تقع في أكثر من عشرين جزءا، وكتاب الإقناع وهو مختصر من الحاوي، وكتاب أدب القاضي وهو لم يطبع وكتاب أعلام النبوة لم يطبع أيضا، وكتاب الأحكام السلطانية وقد طبع في مصر عدة طبعات. تكلم فيه عن نظم الدولة والقضاء والإمارة والحدود والجزية والحسبة، وكتاب قوانين الوزارة وسياسة الملك وقد طبع في مصر عام 1929 بعنوان "أدب الوزير"، وكتاب البغية العليا في أدب الدين والدنيا. وهو أكثر كتبه شهرة وانتشارا. وعرف باسم كتاب "أدب الدنيا والدين" وقد طبع بمصر عدة طبعات كما ترجم إلى الإنجليزية. ويتناول الكتاب الأخلاق والفضائل الدينية مستندا إلى ما جاء في القرآن والسنة كما يتناول الكتاب كثيرا من الآداب الاجتماعية. وهو كتاب عظيم الشأن يضم آراءه في تربية النشء وله في ذلك نظرة ثاقبة. وسنعتمد في بيان آرائه التربوية على ما جاء في هذا الكتاب.

الماوردي والأصفهاني وابن خلدون

الماوردي والأصفهاني وابن خلدون: يقول الأستاذ مصطفى السقا في مقدمته لكتاب "أدب الدنيا والدين" طبعة دار الكتب العلمية ببيروت إنه يلوح له من مباحث الماوردي أنه كان أحد الرواد الأوائل الذين مهدوا لابن خلدون عالم الاجتماع والتاريخ سبيل القول في كثير من الأبواب والفصول التي وضعها في مقدمته لتاريخه الكبير. وهذه ملاحظة قيمة له يعود بعدها فيقول إن إثباتها يحتاج إلى بحث مستقل. وكنت قبل قراءتي لهذه الملاحظة في هذه الطبعة قد قرأت كتاب أدب الدنيا والدين الذي طبعته مطبعة صبيح وأولاده بالقاهرة. وتوصلت إلى نفس الملاحظة وأشرت إليها في طبقة سابقة لكتابي عن التربية الإسلامية. وقد اتسع نطاق هذه الملاحظة عندما قرأت كتابي الراغب الأصفهاني "الذريعة في أحكام الشريعة" و"تفصيل النشأتين" فوجدت عبارات مشابهة لما ورد عن الماوردي وهو سابق له أيضا. وسأشير هنا إلى بعض الأمثلة. كثير منا عندما تذكر عبارة "الإنسان مدني بالطبع" ينسبها للتو إلى ابن خلدون وقد ذكرها في مقدمته في الباب الأول في أول كلامه عن العمران البشري وقد سبق أن وردت هذه العبارة كعنوان نصه الإنسان مدني بطبعه في أول كلام عن باب أدب الدنيا. كما وردت هذه العبارة بنفس النص عند الراغب الأصفهاني في كتاب الذريعة المشار إليه والواقع أن ابن مسكويه قد ذكر هذه العبارة وهو سابق لهم جميعا. وهو ما سبق أن أشرنا إليه عند كلامنا عن ابن مسكويه. وكلام الماوردي عن التدرج في طلب العلوم "ص55 طبعة بيروت" يتشابه مع كلام ابن خلدون في حديثه عن وجه الصواب في تعليم العلوم. وسنفصل الكلام عن ذلك. وكلام ابن خلدون عن الظلم مؤذن بخراب العمران يتشابه مع ما ذكره الماوردي في قوله ص141: "وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور -أي الظلم-".

الإنسان مدني بطبعه

الإنسان مدني بطبعه: يقول الماوردي تحت هذا العنوان في أول الكلام عن باب أدب الدنيا "اعلم أن الله تعالى لنافذ قدرته وبالغ حكمته خلق الخلق بتدبيره وفطرهم بتقديره فكان من لطيف ما دبر وبديع ما قدر أن خلقهم محتاجين وفطرهم عاجزين ... ثم جعل الإنسان أكثر حاجة من الحيوان لأن من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنسه والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه". ويقول ابن خلدون في أول كلامه في الباب الأول الكتاب الأول عن العمران البشري: "إن الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع. وهو معنى العمران ... إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء ... ويحتاج ... في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوان ... أكمل من حظ الإنسان.. فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه "الإنسان" وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته. ومن الواضح التشابه بينهما. كما أن ابن خلدون لا ينسب إلى نفسه عبارة "الإنسان مدني بالطبع" مما يوضح أنه ناقل لها من غيره.

العقل أس الفضائل

العقل أس الفضائل: يعتبر الماوردي العقل أصل الفضائل وأساسها. وهو ينبوع الآداب. جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا فأوجب التكليف بكماله وجعل الدنيا تدبر بأحكامه. وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم. ويورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردي"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الناس أعقل الناس". وهو يقسم العقل إلى قسمين غريزي ومكتسب. والعقل الغريزي هو الفطري الذي يولد به ويميزه عن سائر الحيوان. أما العقل المكتسب فهو الذي يتكون لدى الإنسان من الخبرة والتجارب التي يمر بها في الحياة "المرجع السابق: 20". والماوردي بهذا سابق -بهذا القول- لعلماء النفس المحدثين لا سيما عالم النفس الأمريكي كاتل CATTELL الذي خرج علينا بفكرته عن الذكاء الفطري أو الطبيعي والذكاء المكتسب FLUID AND CRYSTALLIZED INTELLIGENCE في الأربعينيات من القرن العشرين وبدأت في الذيوع عام 1965 عندما جاء جون هورن JOHN HORN أحد تلاميذ كاتل في الدكتوراه وعمل على نشرها من خلال بحوثه. وهو يقول إن العقل سمي بذلك تشبيها بعقل الناقة لأن العقل يمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا جبحت كما يمنع العقال الناقة من الشرود إذا نفرت. ويؤيد قوله بما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "العقل نور في القلب يفرق بين الحق والباطل".

ضرورة التأديب

ضرورة التأديب: يروي الماوردي أن التأديب ضروري لأن النفس مجبولة على شيم مهملة وأخلاق مرسلة لا يستغنى محمودها عن التأديب والتهذيب. لأن النفس ربما جمحت عن الأفضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأديب وهي له مستحسنة، لأنها عليه غير مطبوعة فتصير منه أنفر ولضده آثر. وقد قيل: ما أكثر من يعرف الحق ولا يطيعه. وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة وفي الفضائل راغبة فإذا مازجها صارت طبعا ملائما. ويقول الماوردي إن الأدب مكتسب بالتجربة ومستحسن بالعادة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وهو يرى أن التأديب يلزم من وجهين أو جانبين. أحدهما ما يلزم الوالد لولده في صغره. والثاني ما يلزم الإنسان في نفسه عند نشأته وكبره ... وقد سبق أن أشرنا إلى الجانب الأول في كلامنا عن تربية الطفل في الإسلام. أما الأدب اللازم للإنسان عند نشأته وكبره فيذكر الماوردي أنه على نوعين: أدب مواضعه واصطلاح وأدب رياضة واستصلاح. أما النوع الأول وهو أدب المواضعة والاصطلاح فيؤخذ تقليدا على ما استقر عليه اصطلاح العقلاء واتفق عليه استحسان الأدباء. وهذا الاصطلاح والاستحسان هو نوع من العرف المتفق عليه ولا يخضع لتعليل عقلي ولا دليل علمي يبرهن عليه. وإنما هو عادات درج الناس عليها مثل أصول السلوك الإنساني في المواقف المختلفة وكيف يأكل وينام ويشرب ويلبس ويتعامل مع الناس. أما النوع الثاني وهو أدب الرياضة واستصلاح فهو ما لا يختلف العقلاء في صلاحه وفساده. ويمكن تعليله بالعقل والبرهنة عليه بالدليل. وأول هذا النوع من الأدب ألا يسارع الإنسان إلى حسن الظن بنفسه فلا يرى مذموم شيمه وأخلاقه وما فيه من عيوب. لأن النفس أمارة بالسوء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ثم أهلك ثم عيالك". وقد قال بعض الحكماء: "من ساس نفسه ساد نفسه". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "العاجز من عجز عن سياسة نفسه". ويورد الماوردي بعد ذلك فصولا وكلاما مطولا عن آداب الرياضة، والنفس واستصلاحها. وسنتناول الكلام عنها فيما بعد.

شرف العلم وفضله

شرف العلم وفضله: يورد الماوردي في أول كلامه عن أدب العلم في الباب الثاني من كتاب أدب الدنيا والدين قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . ويعلق على ذلك بقوله إن الله سبحانه وتعالى منع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم. وهو يورد أمثلة كثيرة على شرف العلم وفضله على صاحبه. منها قول عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم. فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم. ويقول الماوردي في المفاضلة بين العلوم: إن العلوم شريفة ولكل علم منها فضيلة والإحاطة بجميعها محال. ويقول أيضا إنه لا حد للعلم ولا نهاية ويذكر ما وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ظن أن للعلم نهاية، فقد بخسه حقه ووضعه في غير منزلته التي وصفه الله بها حيث يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " وقول بعض العلماء: "المتعمق في العلم كالسابح في البحر ليس يرى أرضا ولا يعرف طولا ولا عرضا". وهو يعتبر أن أفضل العلوم علوم الدين ويورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" ويعلق على ذلك بقوله: لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم. ومن قبيل المقارنة بين فضل العلم وفضل المال يفضل الماوردي العلم على المال ويورد قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فضل العلم على المال "العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. العلم حاكم والمال محكوم عليه. مات خزان الأموال وبقي خزان العلم أعيانهم مفقودة وأشخاصهم في القلوب موجودة". وقيل لبزر جمهر العلم أفضل أم المال؟ فقال: بل العلم. قيل: فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء ولا نكاد نرى الأغنياء على أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بمنفعة المال وجهل الأغنياء بفضل العلم.

شروط طلب العلم

شروط طلب العلم: يتناول الماوردي الكلام عن الشروط التي يجب أن تتوافر في طالب العلم ويورد تسعة شروط هي: 1- العقل الذي يدرك به حقائق الأمور. 2- الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم. 3- الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه. 4- الشهوة أو الرغبة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليها الملل. 5- الاكتفاء بمادة تغنيه عن تلقي الطلب. 6- الفراغ الذي يكون معه التوفر ويحصل به الاستكثار. 7- عدم القواطع "أي ما يسبب الانقطاع" المذهلة من هموم وأشغال وأمراض. 8- طول العمر واتساع المدة لينتهي بالاستكثار مراتب الكمال. 9- الظفر بعالم سمح بعلمه متأن في تعليمه. ويقول الماوردي إن طالب العلم الذي استكمل هذه الشروط التسعة هو أسعد طالب وأنجح متعلم. وقد قال الإسكندر في هذا المعنى يحتاج طالب العلم إلى أربعة. مدة، وجدة، وقريحة، وشهوة "رغبة". وتمامها في الخامسة معلم ناصح.

الباعث على طلب العلم

الباعث على طلب العلم: تحدث الماوردي عن الدافع أو الباعث على طلب العلم. وفي ذلك يقول اعلم أن لكل مطلوب باعثا وهو ما يقرره علم النفس الحديث. ويستطرد الماوردي فيقول: والباعث على المطلوب شيئان رغبة ورهبة أو ثواب وعقاب بلغة علم النفس الحديث. ويقول فليكن طالب العلم راغبا راهبا. أما الرغبة ففي ثواب الله تعالى لطالبي مرضاته وحافظي مفترضاته. وأما الرهبة فمن عقاب الله تعالى لتاركي أوامره ومهملي زواجره. فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة أدتا إلى كنه العلم وحقيقة الزهد لأن الرغبة أقوى الباعثين على العلم. والرهبة أقوى السببين في الزهد. وقد قالت الحكماء: أصل العلم الرغبة وثمرته السعادة وأصل الزهد الرهبة وثمرته العبادة. فإذا اقترن الزهد والعلم فقد تمت السعادة وعمت الفضيلة ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من ازداد في العلم رشدا ولم يزدد في الدنيا زهوا لم يزدد في الدنيا إلا بعدا"، وقول مالك بن دينار: "من لم يؤت من العلم ما يقمعه فما أوتي منه لا ينفعه".

التدرج في طلب العلم

التدرج في طلب العلم: يقول الماوردي تحت هذا العنوان: "اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها. فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها. ولا يطلب الآخر قبل الأول ولا الحقيقة قبل المدخل فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة لأن البناء على غير أس لا يبني والثمر على غير غرس لا يجني. ويتشابه كلام الماوردي مع ما ذكره ابن خلدون "توفي 808هـ 1406م" في مقدمته فيما بعد في حديثه عن وجه الصواب في تعليم العلوم حيث يقول: "اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا وقليلا قليلا. يلقى إليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال. ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه. حتى ينتهي إلى آخر الفن". وينبغي أن نشير إلى أن الغزالي وهو سابق لابن خلدون ولاحق للماوردي قد أشار أيضا إلى ضرورة مراعاة التدرج في التعليم وقد أشرنا إلى ذلك في مكان آخر من هذا الكتاب.

كبير السن والتعلم

كبير السن والتعلم: يرى الماوردي أن الشخص كبير السن مهما كان عمره عليه أن يتعلم ويطلب العلم. ويقول في ذلك إنه ربما امتنع الإنسان من طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره فرضي بالجهل أن يكون موسوما به وآثره على العلم أن يصير مبتدئا به. وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل، لأن العلم إذا كان فضيلة فرغبة ذوي الأسنان فيه أولى. والابتداء بالفضيلة فضيلة، ولأن يكون شيخا متعلما أولى أن يكون شيخا جاهلا. وقد حكي أن بعض الحكماء رأى شيخا كبيرا يحب النظر في العلم ويستحيي. فقال له: يا هذا، أتستحيي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله؟ وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه، فقال: يا عم، ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال: لم لا تتعلمه اليوم؟ قال: أويحسن بمثلي طلب العلم؟ قال: نعم، والله لأن تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل. قال: وإلى متى يحسن بي طلب العلم؟ قال: ما حسنت بك الحياة، لأن الصغير أعذر، وإن لم يكن في الجهد عذر لأنه لم تطل به مدة التفريط ولا استمرت عليه أيام الإهمال. وقد قيل في منثور الحكم: جهل الصغير مقدور وعلمه محقور. فأما الكبير فالجهل به أقبح، ونقصه عليه أفضح، لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما، وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضائل خالية، كان الصغير أفضل منه. لأن الرجاء له أكثر. والأمل فيه أظهر. وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه. ويورد الماوردي إلى جانب استحياء كبير السن وخوفه من التقصير في التعلم وطلب العلم كسب في العزوف عنه سببا آخر هو طلب المادة والتكسب والبحث عن لقمة العيش. ويقول الماوردي وربما امتنع "كبير السن من طلب العلم لتعذر المادة وشغله اكتسابها عن التماس العلم. وهذا وإن كان أعذر من غيره، مع أنه قلما يكون ذلك إلا عند ذي شره، وعيب شهوة مستعبدة. فينبغي أن يصرف للعلم حظا من زمانه. فليس كل الزمان اكتساب ولا بد للمكتسب من أوقات استراحة وأيام عطلة. ومن صرف كل نفسه إلى الكسب حتى لم يترك لها فراغا إلى غيره، فهو من عبيد الدنيا وأسرار الحرص. وقد روي عن النبي

صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل شيء فترة -أي سكون بعد نشاط- فمن كانت فترته إلى العلم فقد نجا". ويورد الماوردي سببا ثالثا يمنع كبير السن عن طلب العلم هو ما يظنه من صعوبته. يقول في ذلك وربما منعه "كبير السن" من طلب العلم ما يظنه من صعوبته وبعد غايته ويخشى من قلة ذهنه وبعد فطنته. وهذا الظن اعتذار ذوي النقص وخيفة أهل العجز. لأن الإخبار قبل الاختيار جهل، والخشية قبل الابتلاء عجز. وقد قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه. فقال: كفى بترك العلم إضاعة ... ولا ينبغي لمن قل حظه أن ييأس من نيل القليل وإدراك اليسير الذي يخرج به من حد الجهالة إلى أدنى مراتب التخصيص فإن الماء مع لينه يؤثر في صم الصخور فكيف لا يؤثر العلم الزكي في نفس راغب شهي وطالب خلي "خالي من التردد" لا سيما وأن طالب العلم معان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب". وهكذا يرى الماوردي أسباب ثلاثة لعزوف الكبير عن طلب العلم والسعي فيه هي الاستحياء والخوف من التقصير والانشغال بالحياة وكسب العيش وصعوبة التعليم وتحصيل العلم. وهي نفس الأسباب التي يتحدث عنها أساتذة تعليم الكبار والباحثين فيه في العصر الحديث.

أسباب التقصير في طلب العلم

أسباب التقصير في طلب العلم: يورد الماوردي عدة أسباب للتقصير في طلب العلم وهو يصفها بأنها أسباب فاسدة ودواع واهية هي: 1- أن يكون في نفس طالب العلم أغراض تختص بنوع من العلم، فيدعوه الغرض إلى قصد ذلك النوع ويعدل عن مقدماته، كرجل يؤثر القضاء ويتصدى للحكم فيقصد من علم الفقه إلى أدب القاضي وما يتعلق به من الدعوى والبينات، أو يحب الاتسام بالشهادة فيتعلم كتاب الشهادات، لئلا يصير موسوما بجهل ما يعاني، فإذا أدرك ذلك ظن أنه قد حاز من العلم جمهوره وأدرك منه مشهوره. ولم ير ما بقي منه إلا غامضا طلبه عناء, وعويصا استخراجه فناء، لقصور همته على ما أدرك، وانصرافها عما ترك، ولو نصح نفسه لعلم أن ما ترك أهم مما أدرك، لأن بعض العلم مرتبط ببعض ولكل باب منه تعلق بما قبله فلا تقوم الأواخر إلا بأوائلها. 2- أن يحب طالب العلم الاشتهار به، أي يقصده طلبا للشهرة أو التكسب أو التجمل، فيقصد من العلم ما اشتهر من مسائل الجدل وطريق النظر، ويتعاطى علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه، ليناظر على الخلاف وهو لا يعرف الوفاق ويجادل الخصوم وهو لا يعرف مذهبا مخصوصا ... وهذه طريقة من يقول اعرفوني وهو غير عروف "عارف" ولا معروف. وهي أيضا طريقة الديماجوجيين والمغالطين المكابرين في الحق، وطريقة كل من يقول خالف تعرف. 3- أن يغفل طالب العلم عن التعلم في الصغر ثم يشتغل به في الكبر فيستحيي أن يبتدئ بما يبتدئ به الصغير، ويستنكف أن يساويه الحدث الغرير. فيبدأ بأواخر العلوم وأطرافها، ويهتم بحواشيها وأكنافها، ليتقدم على الصغير المبتدئ ويساوي الكبير المنتهي. وهذا ممن رضي بخداع نفسه. وقنع بمداهنة حسه. وقد قال الشاعر: ترق إلى صغير الأمر حتى ... يرقيك الصغير إلى الكبير فتعرف بالتفكير في صغير ... كبيرا بعد معرفة الصغير ولهذا المعنى وأشباهه كان التعلم في الصغر أحمد كما يقول الماوردي. وهو يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: قلب الحدث كالأراضي الخالية. ما ألقي فيها من شيء قبلته. وإنما كان ذلك لأن الصغير أفرغ قلبا وأقل شغلا وأيسر تبذلا وأكثر تواضعا. وقد قيل في منثور الحكم المتواضع من طلاب العلم أكثرهم علما كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. ويورد الماوردي ما حكي عن الأحنف بن قيس أنه سمع رجلا يقول: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكثر عقلا ولكنه أشغل قلبا. وقد قال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي

في ذلك الجهل أبدا. وقال بعض حكماء الفرس: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث لا تحب. 4- أن يكون طالب العلم كثير الشهوات مقسم الأفكار. 5- أن تحل بطالب العلم الهموم المذهلة والطوارق المزعجة وقد قيل في منثور الحكم الهم قيد الحواس. 6- أن تكثر أشغال طالب العلم لدرجة أنها تستوعب زمانه وتستغرق كل وقته. فإذا كان ذا يابسة ألهته وإن كان ذا معيشة قطعته. ولذلك قيل "تفقهوا قبل أن تسودوا" أي تعلموا قبل أن يصيروا سادة في قومكم فتمنعكم الأنفة عن التعلم فتعيشوا جهالا. وينسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال بزر جمهر: الشغل مجهدة والفراغ مفسدة فينبغي لطالب العلم ألا يني في طلبه. وينتهز الفرصة به. فربما شح الزمان بما سمح وضن بما فتح. ويبتدئ من العلم بأوله ويأتيه من مدخله ... ولا ينبغي أن يترك ما استصعب عليه ... لأن العلم طلبه صعب على من جهله، سهل على من علمه ... وقد قال بعض الحكماء العلوم مطلعها من ثلاثة أوجه: قلب مفكر، ولسان معبر، وبيان مصور ... وقد قال بعض العلماء: من أكثر المذاكرة بالعلم، لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم.

أخلاق العلماء

أخلاق العلماء: يقول الماوردي فيما يجب أن تكون عليه أخلاق العلماء أن يتحلوا بكل ما هو خلق حميد يليق بهم. وفي مقدمة ذلك التواضع ومجانبة العجب. ويورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". ويذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة، والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون ليتواضع لكم من تعلمونه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم". فالعلم أكثر من أن يحيط به بشر. وكل متناه في العلم سجد من هو أعلم منه. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . ويورد قول الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" قوله: "اللهم إننا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن. كما نعوذ بك من العجب بما نحسن. ونعوذ بك من شر السلاطة والهذر "أي حدة اللسان وإكثار الكلام بدون فائدة". كما نعوذ بك من شر العي والحقد" "أي عدم القدرة على البيان حياء أو خوفا أو ضعفا". ومن أخلاق العلماء عدم التكلف فيما لا يحسن. ومن قال لا أدري فقد أفتى، لأن ليس إلى الإحاطة بكل العلم سبيل. وليس من العار أو العيب أن يجهل الإنسان بعضه وقد قال بعض الحكماء: "من العلم ألا تتكلم فيما لا تعلم بكلام من يعلم. فحسبك جهلا من عقلك أن تنطق ما لا تفهم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سئل فأفتى بغير علم فقد ضل وأضل". ومن أخلاق العلماء ألا يحقر شيئا من العلم وأن يعمل بما علم. وقد روي عن عبد الله بن وهب وهو من كبار المحدثين توفي عام 197هـ عن سفيان أن الخضر عليه السلام قال لموسى عليه السلام: يابن عمران تعلم العلم لتعمل به ولا تتعلمه لتحدث به، فيكون عليك بوره "إثمه وفساده" ولغيرك نوره. وقال علي بن أبي طالب إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من علم بما علم. وقيل في منثور الحكم لم ينتفع بعلمه من ترك العمل به. وقال بعض العلماء: ثمرة العلم أن يعمل به وثمر العمل أن يؤجر عليه. وقال بعض الأدباء: ثمرة العلوم العمل بالمعلوم. ومن أخلاق العلماء وآدابهم أن يبذلوا العلم لطالبه وألا يبخلوا بتعليم ما يحسنون ولا يمتنعون عن إفادة ما يعلمون. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كتم علما يحسنه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". ويقول الماوردي إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التعليم صدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده ورأي يسدده". وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعلموا وعلموا فإن أجر العالم والمتعلم سواء. قيل: وما أجرهما؟ قال: مائة مغفرة ومائة درجة في الجنة".

ومن أخلاق العلماء الصلاح والهداية وحسن الخلق والسلوك وحسن المعاملة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أهلك أمتي رجلان عالم فاجر وجاهل متعبد". فقيل: يا رسول الله أي الناس أشر؟ فقال: "العلماء إذا أفسدوا". ومن أخلاق العلماء وآدابهم أن يكون لهم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته. ومن أخلاق العلماء التأدب مع رجال الحكم والسلاطين. فبعضهم تكون له رغبة في العلم لفضيلة نفسه وكرم طبعه فلا يجعل ذلك كما يقول الماوردي ذريعة في الانبساط عند الإدلال عليه بل يعطيه ما يستحقه بسلطانه وعلو يده. فإن للسلطان حق الطاعة والإعظام وللعالم حق القبول والإكرام. ثم لا ينبغي أن يبتدئه إلا بعد الاستدعاء ولا يزيد على قدر الاكتفاء. فربما أحب بعض العلماء إظهار علمه للسلطان فأكثره. فصار ذلك ذريعة إلى ملله ومفضيا إلى بعده فإن السلطان منقسم الأفكار مستوعب الزمان فليس له في العلم فراغ المنقطعين إليه ولا صبر المنفردين به. وقد حكى الأصمعي رحمه الله قال: قال لي الرشيد: يا عبد الملك. أنت أعلم منا ونحن أعقل منك. فلا تعلمنا في ملا ولا تسرع في تذكيرنا في خلا. واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال. فإذا بلغت من الجواب قدر الاستحقاق فلا تزد إلا أن نستدعي ذلك منك. وانظر إلى ما هو ألطف في التأديب، وأنصف في التعليم وأبلغ بأوجز لفظ غاية التقويم. لكن على العالم أن يحذر اتباع أولي السلطان فيما يجانب الدين ويضاد الحق موافقة لرأيهم ومتابعة لهواهم. فربما زلت أقدام العلماء في ذلك رغبة أو رهبة فضلوا وأضلوا مع سوء العاقبة وقبح الآثار. ويذكر الماوردي من آداب العلماء أيضا تنزيه أنفسهم عن شبهة المكاسب والقناعة بالميسور عن كد المطالب فإن شبهة المكتسب إثم وكد الطالب ذل. والأجر أجدر به من الإثم والعز أليق به من الذل. ذلك أن لذة العلم فوق كل لذة. وقد قال بعض البلغاء من تفرد بالعلم لم توحشه خلوة ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة ومن أنسه قراءة القرآن لم توحشه مفارقة الإخوان. ويذكر الماوردي من آداب العلماء رأيا هو موضع جدل بل ومخالف لما

سبقوه من أمثال القابسي وابن سحنون. هو أن يعلموا بلا أجر ويقصدوا بتعليمهم غيرهم وجه الله ويطلبوا ثوابه دون أن يلتمسوا عليه رزقا. ويذكر قول الله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أجر المعلم كأجر الصائم القائم". وقد ذكرنا في مكان آخر من هذا الكتاب تفصيل الكلام عن ذلك وأوردنا الآراء والبراهين التي تبيح للمعلم أخذ أجر عن التعليم. ومن آداب العلماء التي يذكرها الماوردي أيضا نصح من علموه والرفق بهم وتسهيل السبيل عليهم وبذل المجهود في مساعدتهم ومعونتهم.. ومن آدابهم أيضا ألا يعنفوا متعلما ولا يحقروا ناشئا ولا يستصغروا مبتدئا. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "علموا ولا تعنفوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: "وقروا من تتعلمون منه ووقروا من تعلمونه".

آداب رياضة النفس واستصلاحها

آداب رياضة النفس واستصلاحها: يتحدث الماوردي حديثا مطولا عن آداب رياضة النفس واستصلاحها فيتحدث عن مجانب الكبر والإعجاب لأنهما يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل. ويتحدث عن حسن الخلق ويذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى اختار لكم الإسلام دينا فأكرموه بحسن الخلق والسخاء فإنه لا يكمل إلا بهما". ويتحدث عن الحياء فيقول: اعلم أن الخير والشر معان كامنة تعرف بسمات دالة فسمة الخير الدعة والحياء وسمة الشر القحة والبذاء. وكفى بالحياء خيرا أن يكون على الخير دليلا. وكفى بالقحة والبذاء شرا أن يكونا إلى الشر سبيلا. وقد روى حسان بن عطية عن أبي أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الحياء والعي -أي الصمت- شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان -أي التشدق- شعبتان من النفاق". ويتحدث عن الحلم والغضب. وهو يقول إن الحلم من أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد وذكر الأسباب التي تدعو إلى الحكم. ويقول إن الحليم لا يعرف إلا في الغضب. ويذكر قول الشاعر: ليست الأحلام في حال الرضا ... إنما الأحلام في حال الغضب

ويتحدث عن الصدق والكذب فيقول: إن الصدق ممدوح أما الكذب فهو إجماع كل شر لسوء عواقبه وخبث نتائجه. ويذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحروا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة، فإن فيه النجاة وتجنبوا الكذب وإن رأتيم فيه الهلكة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقا ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا". ويقول الماوردي إن من الصدق ما هو مذموم. وهو يقوم مقام الكذب في القبح والمعرة ويزيد عليه في الأذى والمضرة. ويذكر من الصدق المذموم الغيبة والنميمة والسعاية أي الوشاية. كما أن من الكذب ما هو محمود أو مرخص به. والكذب المحمود الذي يمنع شرا أو فتنة ويرخص بالكذب في الحرب وإصلاح ذات البين على وجه التورية والتأويل دون التصريح. ومن أمثلة ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: -وهو الذي لا يقول إلا حقا وصدقا- أن امرأة عجوزا سألته: أأدخل الجنة يا رسول الله؟ فقال لها: "لا يدخل الجنة عجوز". فقالت له:ولم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم تسمعي قول الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا} " أي أنها لن تكون عجوزا في الآخرة. ويتحدث عن الحسد والمنافسة. ويقول عن الحسد إنه خلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساد للدين حتى لقد أمر الله بالاستعاذة من شره. قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} . وهو يقول فضله كثر حساده. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء الحوائج بسترها فإن كل ذي نعمة محسود". ويتحدث عن فضل الكلام والصمت. ويذكر أن للكلام أربعة شروط تجنب المتكلم الزلل وهي: أن يكون الكلام لداع وأن يكون في موضعه وفي حينه وأن يقتصر منه على قدر حاجته دون زيادة أو نقصان وأن يتخير اللفظ الذي يتكلم به. ويقول الشاعر في هذا المعنى: وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق ومن آداب الكلام عدم التجاوز في المدح وعدم الإسراف في الذم وعدم

الاسترسال في وعد أو وعيد يعجز عنها المتكلم ولا يقدر على الوفاء بها. ومن آداب الكلام العمل بالقول وأن ما يقال يصدقه العمل ومن آدابه أيضا مراعاة مخارج الكلام بحسب مقاصده وأغراضه. فإن كان ترغيبا قرن الكلام باللين واللطف وأن كان ترهيبا خلطه بالخشونة والعنف. ومن آدابه أيضا ألا يرفع بكلامه صوتا مستكرها وأن يتأنى مستقبح الكلام، وليعدل إلى التلميح فيما استقبح فيه التصريح. ومن آداب الكلام اجتناب أمثال العامة الغوغاء والتمثل بأقوال العلماء والأدباء. ويتحدث عن الصبر والجزع. ويذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب". وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} . وقال بعض البلغاء: "من صبر نال ما تمنى". والصبر مفتاح الفرج. ويقول الشاعر: إن الأمور إذا سدت مطالبها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتجا لا تيأس وإن طالب مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ويتحدث عن الجزع فيذكر إن من أسبابه تذكر المصاب وشدة الحسرة والأسف وكثرة الشكوى واليأس. ويتحدث عن المشورة ويعتبر أن من الحزم لكل ذي لب ألا يعمل شيئا إلا بمشورة ذوي الرأي الناصح وذي العقل الراجح. قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المشورة حصن من الندامة وأمان من الملامة". ويروي الماوردي ضرورة توفر خصال خمس في الشخص المطلوب مشورته هي العقل الكامل وكثرة التجارب والدين والتقوى وأن يكون ناصحا ودودا، سليم الفكر وألا يكون له غرض في الأمر موضع الاستشارة. ويتحدث الماوردي عن كتمان السر فيرى أنه من أقوى أسباب النجاح وأدوم لأحوال الصلاح. ويتحدث عن المزاح والضحك فيرى في المزاح ذهاب الهيبة وتجرئ أو

تشجيع الغوغاء والسفهاء. ويقول إنما سمي المزاح مزاحا لأنه يزيح عن الحق. وقيل في منثور القول المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب. ويذكر الماوردي أن من المزاح ما هو لطيف عندما يكون هدفه إيناس المصاحبين والتودد إلى المخالطين والتخلص من السأم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إني لأمزح ولا أقول إلا حقا". أما الضحك فيقول عنه الماوردي إن الإكثار منه يزيل الهيبة والوقار. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كثر ضحكه قلت هيبته". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه" ويتحدث الماوردي عن الطيرة والفال فيقول: "اعلم أنه ليس شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة". ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر". والعدوى ما يظنه الناس من تعدي العلل والأمراض وانتقالها. وأما الهامة فهو ما كانت العرب في الجاهلية تعتقده من أن القتيل إذا طال دمه فلم يدرك بثأره صاحت هامته في القبر. اسقوني أي أنها تطلب الثأر من القاتل. وأما الصفر فهو كالحبة يكون في الجوف يصيب الماشية والناس وهو أعدى عن العرب من الجرب. ويقول الماوردي إن الفرس كانوا أكثر الناس طيرة. كانت العرب إذا أرادت سفرا نفرت أول طائر تلقاه فإن طار يمنة سارت وتيمنت. وإن طار يسرة رجعت وتشاءمت. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقال: "اقروا الطير على وكناتها": وقال الشاعر لبيد: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع أما الفأل فيقول الماوردي إنه يقوي العزم ويبعث على الجد ويعين على الظفر. فقد تفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وحروبه وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال: "أخذنا فألك من فيك". وروي أن يوسف عليه السلام شكا إلى الله تعالى طول الحبس فأوصى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت حبست نفسك حيث قلت: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} ولو قلت:

العافية أحب إلي لعوفيت. ويتحدث الماوردي عن المروءة ويرى أنها من شواهد الفضل ودلائل الكرم وحلية النفوس وزينة الهمم. ويتحدث الماوردي عن أدب المأكل والمشرب فيقول إن الأكل والشرب مندوب إليه عقلا وشرعا لما فيه من حفظ النفس وحراسة الجسد. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} . وينهي الشرع عن الوصال بين صوم اليومين لأنه يضعف الجسد ويميت النفس ويعجز عن العبادة. وكل ذلك يمنع منه الشرع ويدفع عنه العقل. أما الزيادة والإكثار من الطعام والشراب عن قدر الحاجة فهو ممنوع عقلا وشرعا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إياكم والبطنة فإنها مفسدة للدين ومورثة للسقم مكسلة عن العبادة". وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات -لقيمات- يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلت لشرابه وثلث لنفسه". ويقول الماوردي عن آدب اللباس إن الحاجة إليه أدعى من المأكل والمشرب لما فيه من حفظ الجسد ودفع الأذى وستر العورة وحصول الزينة. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . أما بالنسبة للراحة والنوم فيقول الماوردي إن للنفس حالتين حالة للنوم تستريح فيها، وإن حرمت منها، كلت وتعبت، وحالة اليقظة للتصرف والعمل إن استراحت فيها أخلت بواجباتها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نومة الصبحة، معجزة منفخة مكسلة مورمة مفشلة منسأة للحاجة". وقيل في منثور الحكم: "من لزم الرقاد عدم المراد". فإذا أعطى النفس حقها من النوم والدعة واستوفى حقه بالتصرف واليقظة خلص بالاستراحة من عجزها وكلالها وسلم بالرياضة من بلادتها وفسادها. ويجعل الماوردي من الليل فرصة ليحاسب الإنسان نفسه على ما صدر من أفعال نهاره لأن الليل أكثر مدعاة للخاطر وأجمع للفكر فإن كان محمودا أمضاه وإن كان مذموما استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل. وقد سبق أن أشرنا إلى كلام ابن مسكويه عن أمراض النفوس

وعلاجها. وهناك اشتراك كبير في المعنى بينه وبين كلام الماوردي. اختيار الإخوان قبل اصطفائهم: يقول الماوردي تحت هذا العنوان على المرء أن يكتشف أخلاق إخوانه ويعرف أحوالهم قبل اصطفائهم وإخائهم لقول الحكماء "اسبر أي اختبر تخبر". ويجب ألا تدفع المرء وحدته على الإقدام قبل الخبرة، ولا حسن الظن على الاغترار بالتصنع، فإن الملق مصايد العقول، والنفاق تدليس الفطن. وهما سجيتا المتصنع. ولذلك قالت الحكماء "اعرف الرجل من فعله لا من كلامه واعرف محبته من عينه لا من لسانه". وقد قال الشاعر في هذا المعنى: كم من أخ لك ليس تنكره ... ما دامت في دنياك في يسر متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر فإذا عدا، والدهر ذو غير ... دهر عليك عدا مع الدهر فارفض باجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثرى وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر ويقول الماوردي إن الإنسان موسوم بسيماء من قارب ومنسوب إليه أفاعيل من صاحب. وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما من شيء أدل على شيء، ولا الدخان على النار، من الصاحب على الصاحب"، وقال بعض الحكماء "اعرف أخاك بأخيه قبلك". وقال عدي بن زيد في هذا المعنى عن المرء لا تسأل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردي فتردى مع الردي وقال بعض الأدباء لا تثق بالصديق قبل الخبرة. وقال الشاعر: لا تحمدن امرأ حتى تجربه ... ولا تدمنه من غير تجريب فحمدك المرء ما لم تبله خطأ ... وذمه بعد حمد شر تكذيب ويجب ألا يغتر المرء بالمظاهر الخداعة. فقد يكون جمال الوجه أو البسمة

أو مدهون الكلام خداعا. فليس كل ما يلمع ذهبا. وعلى حد قول الشاعر إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم وقول آخر: لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب ... فالطير يرقص مذبوحا من الألم ويذكر الماوردي أربع خصال هل أصل الاتفاق في اصطفاء الإخوان هي: العقل الموفور والدين ومحمود الأخلاق والميل والرغبة في المؤاخاة. أما بالنسبة للعقل الموفور فلأن العقل يهدي إلى الرشد. والحمق لا تثبت معه مودة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البذاء -أي الفحش في القول- لؤم وصحبة الأحمق شؤم". وأما بالنسبة للدين فلأنه يدفع صاحبه إلى الخير. وقال بعض الحكماء: "اصطف من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب. فإنه رد لك عند حاجتك ويد عند نائبتك وأنس عند وحشتك وزين عند عافيتك". أما بالنسبة لمحمود الأخلاق فلأن فعاله مرضية ويؤثر الخير ويأمر به ويكره الشر وينهي عنه. مودة الشرير تكسب العداء وتفسد الأخلاق. ولا خير في مودة تجلب عداوة وتورث مذمة وملامة. وأما بالنسبة لميل الصاحب إلى صاحبه والرغبة في مؤاخاته فلأن ذلك أوكد لحال المؤاخاة وأمد لأسباب المصافاة. فليس كل مرغوب إليه راغب وليس كل مطلوب إليه طالب. ومن طلب مودة ممتنع عليه كان معنى خائبا. ويقول الماوردي إنه إذا اكتملت هذه الخصال الأربع في إنسان وجب إخاؤه وتعين اصطفاؤه. لكن الماوردي يضع شرطا احترازيا هو أن يكون الميل إلى اصطفاء الصديق والثقة فيه بمقدار توفر هذه الخصال فيه. وغلبة إحداها عليه. لأن الإخوان على طبقات مختلفة ولكل واحد منهم حال يختص بها، والتباين في الناس غالب. وبينهم اختلاف في الشيم والصفات وليس هناك من كملت صفاته. وقال بعض الحكماء الرجال كالشجر شرابه واحد وثمره مختلف. وقال الشاعر في هذا المعنى: بنو آدم كالنبت ... ونبت الأرض ألوان فمنهم شجر الصندل ... والكافور والبان ومنهم شجر أفضل ... ما يحمل قطران

وقال المأمون: "الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانا، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا. ويعلق الماوردي على كلام المأمون بقوله "ولعمري إن الناس على ما وصفهم". ثم يستدرك بقوله: ولكن ليس من كان منهم كالداء من الإخوان المعدودين بل هم من الأعداء المحذورين. ويقول الماوردي إنه يجب الإغضاء عن هفوات الإخوان وذلاتهم وأخطائهم فمن منا كملت صفاته. والكمال لله وحده وابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. وقد قال أبو الدرداء رضي الله: "معاتبة الأخ خير من فقده ومن لك بأخيك كله؟ وقد قال الشاعر في هذا المعنى: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه وقال النابغة الذبياني: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب ويتحدث الماوردي عن حق الصديق على الصديق فيقول: "إن أول حقوقه اعتقاد مودته ثم إيناسه بالانبساط إليه في غير محرم ثم نصحه في السر والعلانية ثم تخفيف الأثقال عنه ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة أو يناله من نكبة. فلا يعرف الصديق إلا وقت الضيق". ويذكر الماوردي ناحية هامة في علاقة الصديق بالصديق هي ألا يفرط ولا يكثر في محبته لأن الإفراط داع إلى التقصير، والشيء إذا زاد عن حدة انقلب إلى ضده. وقد روى ابن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما". ومن مأثور القول: احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة ... فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة

الغزالي وآراؤه التربوية

الغزالي وآراؤه التربوية مدخل ... 5- الغزالي وآراؤه التربوية: 450هـ-555هـ، 1058م-1111م من المرجح أن أبا حامد الغزالي ولد بطوس من أعمال خراسان ببلاد فارس سنة 450هـ - 1058م وأنه توفي في الطابران 555هـ - 1111م. ومن المرجح أيضا أن تسميته بالغزالي ترجع إلى مهنة والده وهي غزل الصوف، وهناك من يقول: أنها نسبة إلى غزالة وهي بلد ينسب إليها. وقد درس الغزالي في نيسابور على يد الإمام أبي المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين وإمام الشافعية وأخذ عنه المذهب وطرق الجدل. كما درس علم الكلام والحكمة والفلسفة وقرأ للفارابي وابن مسكويه وابن سينا وغيرهم. ويقول الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": إنه لا يوجد فيلسوف لم يدرس منهاجه ولا متكلم لا يتتبع كلامه ولا صوفي لم يخض في أسراره، وقد لقي الوزير السلجوقي نظام الملك فأعجب به الأخير وعلت مكانته لديه. فعينه أستاذا بالمدرسة النظامية التي بناها ببغداد لنشر المذهب السني بعد أن أنشأ الفاطميون الأزهر بالقاهرة لنشر المذهب الشيعي. وقد قام الغزالي بالتدريس في المدرسة النظامية عندما رحل إليها سنة 484هـ وكان عمره آنذاك 34 سنة. واستمر بالتدريس بها طيلة أربع سنوات زهد بعدها في الدنيا وآثر العزلة ورحل إلى البلد الحرام في طلب الحج. وذهب بعدها إلى دمشق حيث اعتكف للزهد والتصوف فترة من حياته. وأقام فترة في الإسكندرية لكنه عاد أخيرا إلى مسقط رأسه "طوس" ليقضي بقية عمره في وعظ الصوفية. واشتغل بتأليف الكتب. وقد ترك الغزالي ما يزيد عن سبعين مؤلفا في الدين والفلسفة والجدل والفقه والأخلاق والتصوف والدفاع عن الدين والرد على الفلاسفة. ويبرز من بينها جميعا كتابه "إحياء علوم الدين" الذي يدل على عبقريته ونفاذ بصيرته. وقد عرض هذا الكتاب آراءه في التربية والتعليم وفي الأخلاق الحقة، وبين في مقدمة الكتاب سبب تأليفه له فقال: "إن طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا قد أصبح بين الخلق مطويا وصار

نسيا منسيا ... ولما كان هذا ثلما في الدين معما وخطبا مدلهما رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب، إحياء لعلوم الدين وكشفا عن مناهج الأئمة المتقدمين وأيضا لمناحي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين". وقد قسم كتاب الإحياء إلى أربعة أجزاء أو أقسام: الربع الأول خاص بالعبادات وقد ذكر فيه آدابها وسننها وأسرار معالجتها. والربع الثاني خصصه للعادات، وقد احتوى على أسرار المعاملات الجارية بين الخلق ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها. والربع الثالث خاص بالمهلكات وعرض فيها إلى الأخلاق المذمومة من حيث حدها وحقيقتها والأسباب التي تتولد عنها الآفات التي تترتب عليها والعلاقات التي تعرف بها وطرق معالجتها وتزكية النفس عنها وتطير القلب منها. وخصص الربع الأخير للمنجيات وفيه عرض للأخلاق الحميدة والخصال المرغوبة.

الغزالي ناقل عن ابن مسكويه وغيره من المسلمين والإغريق

الغزالي ناقل عن ابن مسكويه وغيره من المسلمين والإغريق: اعترف الغزالي صراحة بأنه نقل عن ابن مسكويه في كتاب تهذيب الأخلاق ويقول زكي مبارك "ص58": إنه نقل حرفيا عن أبي طالب المكي المحاسبي وغيره من رجال الصوفية. كما أنه تأثر بفلاسفة الإغريق ولا سيما أفلاطون ونقل عنهم. والواقع أن الغزالي استقى آراءه الفكرية والثقافية من روافد شتى وقع تحت تأثيرها. وإلى جانب ما أشرنا إليه للتو نورد هنا ما يذكره ابن تيمية عنه. يقول ابن تيمية: "إن من أساتذة الغزالي أبو المعالي مؤلف "الإرشاد" "والشامل" وأن الغزالي احتفظ بكثير من الشبه بينه وبين الباقلاني. أما في أصول الفقه فلم يكن ابن تيميه يوقره في شيء لأنه كان يرى أنه -لفرط وفائه لتعاليم الباقلاني- كان متأثرا بأبي زيد الدبوسي في فهمه لنظرية القياس المنطقي. وكان الغزالي في الفلسفة تلميذا لابن سينا ولإخوان الصفا كما كان تلميذا لأبي حيان التوحيدي في التصوف. وقد ضلع منه الغزالي وذاعت شهرته إلا أن أصالته كانت مقتبسة في بعضها من الحارسي المحاسبي وفق أبي طالب المكي الذي أثر بكتابه "قوت القلوب" في الإحياء تأثيرا شاملا "هنري لاودست: 219". كما استفاد الغزالي أيضا من رسالة القشيري "المرجع السابق: 81".

وينبغي أن نشير إلى أنه بالرغم من الانتقادات الشديدة التي وجهها ابن تيمية إلى الغزالي فإنه كان يقدر تماما أهمية إنتاجه الضخم ومقدار فضله عليه. وكان يشير في كثير من الأحيان إلى ما ورد في "الإحياء"، و"كيمياء السعادة"، و"التفرقة" و"المستظهر"، و"المقاصد"، و"المستصفى"، و"الرد على الباطنية" ويستخدم ذلك في كتاباته. وكان الغزالي أول من تلقى منه ابن تيمية تاريخ الفرق الإسلامية والفلسفة وكان حجته في الجدل الكلامي في مناسبات عديدة ... كما اقتبس منه كل مصطلحات المنطق التي استخدمها ... وتمييزه بين التصديق والقصور ومنطقة في المفهوم وفي الحكم وفي الاستنباط الفقهي "المرجع السابق: 220". الغزالي والتربية: جاءت آراء الغزالي في التربية انعكاسا لآرائه الفلسفية الصوفية. من ذلك أنه رأى أن الهدف من التربية هو مساعدة الفرد على التقرب إلى الله والعمل للحياة الآخرة. كما دعا إلى الأخذ بأساليب الخشونة والتقشف والبعد عن ملذات الحياة حتى تلك التي أحلها الله من جميل اللباس وطيب الطعام ومتعة الحياة. وقد تناول الغزالي موضوع التربية بفكر واضح يبدو فيه تأثره بأفلاطون وأرسطو ففي كلامه عن الفضيلة مثلا يقول: إنها الاعتدال والتوسط بين أركان النفس الأربعة وقواها، وهي: - قوة الغضب واعتدالها الشجاعة. - قوة الشهوة واعتدالها العفة. - قوة الحكمة والإفراط فيها مضر. - قوة العدل والإفراط فيها أيضا مضر. وفي كلامه عن القلب يخلط بينه وبين النفس والعقل ويقول عنه: "إنه لطيفة ربانية روحانية لها تعلق القلب وهذه اللطيفة هي حقيقة الإنسان لأنه الجزء المدرك فيه". وفي كلامه عن العقل يقول عنه: "إنه القلب نفسه أو تلك اللطيفة الربانية" ويقول عنه أيضا: إنه صفة القلب لأنه جاء من النفس الناطقة، التي

تنقسم إلى عقل علمي يرتبط بالدوافع والانفعالات والقوى المحركة للجسم وعقل نظري هو آلة الإدراك. وتأثر من ناحية أخرى بابن مسكويه في كتاب "تهذيب الأخلاق" الذي تأثر فيه بدوره بالفلاسفة الإغريق. ولكن الغزالي حاول المزاوجة والتوفيق بين من نقل عنهم وبين الإسلام ويشير في قوله عن الحكمة إلى قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} . الغاية من التربية: يعتبر الغزالي أن الغاية من التربية هي التقرب إلى الله عز وجل، والدليل على ذلك طلب العلوم ومحاسن الأخلاق، وفي ذلك يقول: على المعلم أن ينبه المتعلم على أن الغرض من طلب العلوم هو التقرب إلى الله دون الرياسة والمباهاة. وغاية الأخلاق عنده حب الله وحب لقائه والبعد عن الدنيا، وهو يقول: "مهما كان الأب يصون ولده من نار الدنيا فليصنه عن نار الآخرة أولى وصيانته أن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق". ولم يرفض الغزالي الهدف التربوي التثقيفي من التعلم، ففي كلامه عن قيمة دراسة العلوم يذكر من بين ما يذكر مدى منفعتها للإنسان في تثقيفه واستمتاعه وتدخلها في حياته الاجتماعية، ومثل لها بالشعر والتاريخ والسياسة وقد جعل العلم طريقا للإيمان ففي كلامه عن الإيمان يقسمه إلى ثلاث مراتب: 1- إيمان العوام الذين يصدقون ما يسمعون مثل من قيل لهم فلان بالدار فصدقوا. 2- إيمان العلماء وهو مبني على استنباط ومثاله أنهم سمعوا أو رأوا ما يدل على أن فلانا بالدار فصدقوا. 3- يقين العارفين الذين يشهدون الحق دون حجاب ومثاله هم الذين دخلوا الدار ورأوا بأعينهم وهم الأنبياء والرسل ومن في مراتبهم. تقسيم العلوم والمنهج التعليمي: قسم الغزالي العلوم إلى أربعة أنواع: - الأصول وتشمل القرآن الحدث.

- الفروع وتشمل الفقه. - المقدمات وتشمل ما لا غنى عنه في دراسة الأصول مثل النحو واللغة. - المتممات وتشمل القراءات والتفسير. ومن حيث قيمتها يقسمها الغزالي إلى: - علوم مذموم قليلها وكثيرها مثل علوم السحر والطالع والتنجيم لأنه لا يرجى نفع منها في الدنيا والآخرة. - علوم محمود قليلها وكثيرها وهي العلوم الدينية لأنها تطهر النفس وتقرب الإنسان من ربه. - علوم قليلها وكثيرها مذموم لأنها تشكك الإنسان مثل الفلسفة قد تؤدي إلى الإلحاد وهو هنا يحمل على الفلسفة التي ألف لها "تهافت الفلاسفة". ومن حيث أهمية العلوم يقرر الغزالي أنها تقسم إلى نوعين: - ما هو فرض عين على كل فرد وهي العلوم الدينية لأنها الأساس إلى معرفة الله وهي فرض على كل واحد. - ما هو فرض كفاية وهي التي ليست مفروضة على كل فرد مثل علوم الحساب والطب والصناعات. ويعتمد تقسيم علوم المنهج على نظرة الغزالي إلى أهمية العلوم. ويعتبر أن أساس معرفة العلوم يعتمد على عدة معايير أهمها: 1- مدى منفعة هذه العلوم للإنسان في حياته الدينية وتقربه من الله. 2- مدى منفعة هذه العلوم للإنسان من حيث خدمتها لعلوم الدين وهي علوم النحو واللغة. 3- مدى منفعة هذه العلوم للإنسان في حياته الدنيا مثل علم الطب والحساب والطبيعة. 4- مدى منفعة هذه العلوم للإنسان من تثقيفة واستمتاعه وتدخلها في حياته

الاجتماعية مثل الشعر والتاريخ والسياسة. وهكذا يقسم المنهج عند الغزالي إلى: - العلوم النقلية وهي العلوم المنقولة من السلف وهي علوم القرآن والحديث. - العلوم اللسانية وهي العلوم التي تخدم أمور الدين. - العلوم العقلية بما فيها الفلسفة والتي قسمها إلى خمسة فروع هي الرياضيات والعلوم المنطقية والطبيعيات والسياسيات والخلقيات. العقل عند الغزالي: يرى الغزالي أن العقل يعجز عن الوصول إلى أحكام جازمة في الدين. لأن العقل في جوهره متناه ومن ثم لا يقدر على إدراك غير المتناهي. وقد أثر هذا التشكك الفلسفي الذي اصطنعه الغزالي في قدرة العقل على المذهب العقلي في الفلسفة. ويقول محمد إقبال في تجديد الفكر الديني في الإسلام "ص10" بأن هذه الدعوة التي نهض بها الغزالي تكون دعوة للتبشير بمبدأ جديد مثلها في ذلك مثل الدعوة التي قام بها الفيلسوف الألماني "كانط" في القرن الثامن عشر. وهي الدعوة التي تقوم على نقد العقل وبيان عجزه وقصوره. إلا أن هناك فارقا هاما بين الغزالي وكانط. ذلك أن كانط تمشى مع مبادئه تمشيا لم يستطع معه أن يثبت أن معرفة الله ممكنة. أما الغزالي فعندما خاب رجاؤه في الفكر التحليلي ولي وجهه شطر الرياضة الصوفية ووجد فيها مكانا للدين مستقلا عن العلم وعن الفلسفة الميتافييزيقية. وهذا يذكرنا بما قاله "برتراند راسل" أستاذ الفلسفة كما أفهمها شيء وسط بين اللاهوت أي الدين والعلم. فهي كاللاهوت تتكون من تكهنات حول أمور تكون المعرفة فيها غير يقينية. وهي في نفس الوقت كالعلم تخاطب العقل الإنساني.. فالمعرفة المحددة تنتمي إلى العلم والعقيدة تنتمي إلى الكهنوت والدين ... وبين العلم والدين والكهنوت جزيرة لا تنتمي إلى أيهما، لكنها تهاجم من كليهما.. هذه الجزيرة هي الفلسفة". "محمد منير مرسي: فلسفة التربية، ص14".

الغزالي وديكارت وكانط: الغزالي سابق لديكارت الفيلسوف الفرنسي المعروف بما يزيد عن خمسة قرون وسابق لكانط الفيلسوف الألماني المعروف الذي أشرنا إليه بما يقرب من سبعة قرون. ومن المعروف عن ديكارت أسلوبه الفلسفي الذي يقوم على الشك المنهجي للوصول إلى اليقين. وأثر عنه عبارته المشهورة في ذلك "أنا أفكر.. إذن أنا موجود" CAGITO ERGO SUM وهو الأسلوب الذي حاول الدكتور طه حسين استخدامه في دراسته المثيرة للجدل عن الأدب الجاهلي. وهناك رأي يقول بأن ديكارت تأثر في شكله المنهجي بالغزالي. كما أن كانط في دعوته التي تقوم على نقد العقل وبيان عجزه وقصوره عن إدراك الحقيقة الإلهية متأثر أيضا بالغزالي. ولهذا الرأي ما يبرره فقد كانت علوم المسلمين هي الغذاء العقلي لأوربا ومفكريها وعلمائها وجامعاتها آنذاك. وقد أشرنا في مكان آخر من هذا الكتاب إلى ما يقوله محمد إقبال في كتابه عن التجديد الديني في الإسلام إلى أن الفكر الأوربي أتى عليه حين من الدهر تلقى فيه وحي النهضة من العالم الإسلامي وأن الثقافة الأوربية في جانبها الفعلي ليست إلا إزدهارا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام. ومن الثابت المعروف أن كثيرين من علماء الغرب من أمثال "روجر بيكون" مدينون فيما حصلوه من العلوم للعلماء المسلمين وللجامعات الإسلامية في الأندلس. ويقول محمد إقبال إن القسم الخامس من كتاب "روجر بيكون" cepus maius الذي خصصه للبحث في البصريات هو في حقيقة الأمر نسخة من كتاب "المناظر" لابن الهيثم "965م-1039م" وكتاب بيكون في جملته شاهد ناطق على تأثره بابن حزم. وقد سبق أن أشرنا في هذا الكتاب إلى تأثير كثير من علماء الغرب بأفكار علماء المسلمين ومنهجهم التجريبي. المعرفة عند الغزالي: تناول الغزالي الكلام عن المعرفة ولها في نظره صفتان رئيسيتان:

أ- أنها نسبية: فقد ذهب الغزالي إلى القول بأن المعرفة نسبية وهي تستند إلى الأمثلة المألوفة الملموسة فيقول: هب أن نفرا من العميان لم يروا الفيل قط بل ولم يعرفوا له وصفا وفي يوم علموا بمجيء هذا الحيوان ويودون تكوين فكرة عنه، فيتحسسون هذا الحيوان. ويقع أحدهم على رجل الفيل، والآخر على نابيه، والثالث على أذنه. ثم يطلب منهم أن يصفوه فيقول أحدهم إن الفيل شبيه بالعامود ويرفض الثاني هذا الرأي ويقول مؤكدا: إن الفيل كالوتد ويذهب ثالث إلى أن الفيل كالخيمة الكبيرة. وهكذا يصف كل منهم الفيل حسب العضو أو المكان الذي لمسه، والحق بجانب كل واحد منهم لأن كلا منهم صدق في قوله ولكن غاب الكل عن علمهم وهذا صحيح بالنسبة إلى معظم المسائل التي نبحثها. ب- قال الغزالي بأنه ليس من الضروري أن تكون كل الحقائق بما يؤديها العقل فهناك من الحقائق ما يعجز عن الوصول إليها. وليس مما يخالف الصواب في نظره وجود افتراض قائل بوجود دائرة أخرى فوق دائرة العقل، وإن شئت فقل دائرة التجلي الرباني. ونحن وإن كنا نجهل سنن تلك الدائرة ونواميسها جهلا تاما فإننا نجد الكفاءة في قدرة العقل على الاعتراف بإمكاناتها. الإدراك عند الغزالي: وفي كلام الغزالي عن الإدراك يقسمه إلى إدراك حسي وإدراك معنوي أو نفسي. والإدراك الحسي يتعلق بالعالم المادي ويدرك بالحواس أما الإدراك النفسي فيتعلق بالعالم الخفي عالم الملك والملكوت. إلا أن الإدراك النفسي محدد بقيود الجسم ولذا يجب أن يتحرر منها بالتطهر الجسمي والمادي. وواضح مدى تغلب النزعة الصوفية على فكر الغزالي في هذا التفسير. الأخلاق عند الغزالي: دون الغزالي علم الأخلاق وفلسفته في كتابه إحياء علوم الدين والكتب

المشابهة له مثل كتاب "كيمياء السعادة" الذي ألفه باللغة الفارسية وهو لا يختلف عن كتاب "الإحياء" شكلا أو موضوعا غير أنه يختصر فيه الموضوعات التي يفصلها في الإحياء. ويقوم علم الأخلاق عند الغزالي على روح إسلامية صوفية. وقد أطلق عليه أسماء متعددة مثل علم طريق الآخرة وعلم صفات الأخلاق وأسرار معاملات الدين وأخلاق الأبرار. ويقصد به تكييف النفس إلى ما رسمته البشرية وخططه رجال المكاشفة من علماء الإسلام ومن سبقهم من الأنبياء والصديقين "زكي مبارك: ص113". وعلم الأخلاق عند الغزالي علم معاملة لا مكاشفة، بمعنى أنه يبحث في الأعمال وفيما ينبغي على المرء أن يفعله ليكون سلوكه موافقا لروح الشريعة. وأمارات حسن الخلق في نظر الغزالي هي التي تتفق مع ما ورد في القرآن الكريم. وعلى الإنسان الذي يريد أن يعرف محاسن أخلاقه أن يقيس صفاته بما ورد في القرآن الكريم. وقد نظر الغزالي إلى الفضيلة على أنها حالة التوسط والاعتدال بين رذيلتين وحدين متقابلين تطبيقا للمبدأ القرآني خير الأمور الوسط فاعتدال الغضب "الشجاعة" توسطا بين التهور والجبن واعتدال الشهوة "العفة" توسطا بين الشره والجمود واعتدال العقل "الحكمة" توسطا بين الخبث والبلاهة. ومعيار الاعتدال في نظره يقوم على العقل والشرع. أمهات الفضائل: إن أمهات الفضائل عند الغزالي أربعة: - الحكمة وهي حالة للنفس يمكن بها تمييز الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية. - الشجاعة وتكون بانقياد شهوة الغضب للعقل في إقدامها وإحجامها. - العدل وهي حالة للنفس أن تسوس الغضب والشهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة. - العفة وتكون بتأديب قوة الشهوة بتأديب الشرع والعقل.

وهذا التقسيم هو نفس تقسم ابن مسكويه الذي سبق أن أشرنا إليه. وقد نقله الغزالي عنه. الوسيلة إلى الأخلاق الحسنة: إن الوسيلة إلى الأخلاق الحسنة في نظر الغزالي هي التخلق أي بتعويد النفس على الخلق الحسن وقد قسم الناس إلى أربعة أقسام: قسم يمثله الإنسان الطفل الذي لا يعرف الحق من الباطل والقبيح من الحسن وهو أكثر الأقسام قبولا للرياضة والتوجيه. ولا يحتاج إلا إلى مرشد وإلى باعث يحمله على الاتباع. - قسم يمثله الإنسان الذي يعرف القبيح من الحسن لكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فيقدم عليه انقيادا لشهواته وإعراضا عن صواب رأيه. - قسم يمثله الإنسان الذي يرى القبيح حسنا وجميلا. ويرى الغزالي أن هذا النوع لا يرجى صلاحه إلا على الندرة. - قسم يمثله الإنسان الذي يتباهى بفساد خلقه وفساد أمره وكثرة شره. وهذا الصنف هو أصعب المراتب في مجاهدة النفس وتعويدها على الأخلاق الكريمة. ويقول الغزالي: إن كل ذي بصيرة نافذة يرى عيوبه ويسهل عليه علاجها يصلحها إذا رأى فيها اعوجاجا ويكون علاج عيوب النفس بمجاهدتها وتعويدها على فعل الضد. أي أن الرذائل تعالج بضدها، فالبخل مثلا يعالج بالسخاء والجهل والتعليم والتكبر بالتواضع وهكذا. الأخلاق قابلة للتغيير: يرى الغزالي أن الأخلاق قابلة للتغيير عن طريق رياضة النفس وتزكيتها وتهذيبها. وهو يورد رأي من قال بأن الأخلاق غير قابلة للتغيير. وحجتهم في ذلك أن الخلق صورة الباطن والخلق يجعل نفسه طويلا ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيرا ولا القبيح يقدر على تحسين صورته فكذلك القبح الباطن يجري هذا المجرى.. وكذلك حسن الخلق.. من مقتضى المزاج والطبع. وهو يرد على هذا

الرأي فيقول لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسنوا أخلاقكم". وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد. وكل ذلك تغير للأخلاق "الإحياء: ج3 ص54". وهو يقول ما قاله ابن مسكويه من: "أن الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة. وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يقال فإن عنود الخير وعمله نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه كل معلم له مؤدب. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له".

منهج الغزالي في تربية الطفل

منهج الغزالي في تربية الطفل: يقدم لنا الغزالي منهجا علميا في تربية الطفل تربية إسلامية صحيحة. فبعد أن أكد أن الطفل قابل لكل نقش وصورة نصح الأب بأن يؤدب ابنه وينشئه على محاسن الأخلاق وأن يحفظه من قرناء السوء، وأوصى الأب بألا يحبب ابنه في أسباب الرفاهية حتى لا يتعود على نعيم العيش فيصعب تقويمه بعد ذلك، وعليه أن يعوده على اللباس المحتشم الوقور وأن يمنعه من النوم نهارا وتعويده الحركة والرياضة وأن يمنعه من الافتخار على العطاء لا الأخذ حتى ولو كان فقيرا وأن ينهاه عن القسم صادقا أو كاذبا تأكيدا لقول الله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ، وأن ينهاه عن الأعمال غير المستحسنة كالبصاق والتثاؤب ولا سيما في المجالس وأن يعوده على الإقلال من الكلام إلا لحاجة وبقدر ما تتطلبه هذه الحاجة وأن يخوفه من السرقة وأكل الحرام وغيرها من الأخلاق المذمومة وأن يعوده على الصبر وأن يأذن له باللعب بعد الدرس حتى يستريح ويتجدد ذكاؤه ونشاطه ويروح عن نفسه مشقة العلم. وقد أشار إلى أن أول ما يغلب على الطفل شره الطعام، وهو في هذا يتفق مع ابن مسكويه وطالب الأب بأن يؤدبه في ذلك وأن يعوده أخذ الطعام بيمينه والبدء باسم الله والأخذ بما يليه. وأن يقبح عنده كثرة الأكل بطريق غير مباشر

كأن يذم الطفل الشره ويمدح المتأدب قليل الأكل. كما طالب الأب بألا يتساهل مع ابنه إذا بلغ سن التمييز في كل ما يحتاج إليه أمر الشرع. ويقدم لنا الغزالي أسلوب الثواب والعقاب لتأديب الصبي إلا أنه يرى ألا يكون العقاب لكل أمر بل من الأفضل التغاضي عن بعض الأمور إذا خجل الطفل منها وتستر لإخفائها ولا يكون العقاب علنا حتى لا يشجع الطفل على تعود الخطأ. ويجب أن يقل من العقاب حتى لا يتعود الطفل المهانة ويهون عليه سماع اللوم والتأنيب. تعليم الصبيان: يؤكد الغزالي في كلامه عن تعليم الصبيان عدة مبادئ تربوية هامة من أبرزها: البدء بالتعليم في الصغر: ينبغي أن يبدأ تعليم الصبيان من صغرهم، وقديما قالوا: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. ويؤكد الغزالي نفس المعنى عندما يقول عن الصبي: وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش عليه. وقد ردد هذا القول كما أشرنا جون لوك بعد حوالي 13 قرنا من الزمان عندما ذهب إلى أن عقل الطفل صفحة بيضاء تنقشه الخبرة والتعليم، ويؤكد الغزالي أن التربية والتعليم عملية تتعاون فيها طبيعة الصبي مع بيئته. مراعاة طبيعة الصبي: يؤكد الغزالي ضرورة فهم المعلم لطبيعة الصبي، وهذا يتأتى من دراسته لنفسية الصبيان الذين يعلمهم. فهم ليسوا سواء وهذه الدراسة تساعده من ناحية أخرى على إيجاد الصلة الإنسانية بينه وبينهم. وعلى المعلم أن يتدرج في تعليم الصبي وأن يبدأ معه من السهل إلى الصعب. وفي ذلك يقول الغزالي: "إن أول واجبات المربي أن يعلم الطفل ما يسهل عليه فهمه لأن الموضوعات الصعبة تؤدي إلى ارتباكه العقلي وتنفره من العلم" "الغزالي: الإحياء ج1 ص52" ويشير الغزالي إلى قضية نفسية هامة هي "أن صحة النفس تتحقق من اعتدال مزاج البدن عندما يتكامل الجسم والنفس".

التدرج في التعليم: إلى جانب ما أشار إليه الغزالي من التدرج في تعليم الصبي والبدء بالأشياء السهلة ثم الانتقال منها إلى ما هو أصعب، ويطالب الغزالي المعلم ألا يخوض في العلم دفعة واحدة بل يتدرج فيه مع مراعاة الترتيب ويبتدئ بالأهم، وكذلك ينبغي عليه ألا يخوض في علم إلا بعد أن يستوفي ما قبله، فالعلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق بعض. ضرورة الترويح واللعب في تربية الولد: يشير الغزالي إلى ضرورة الترويح عن الصبي، وأشار إليه بموصوع اللعب الذي قال إن له ثلاث وظائف: - يروض الجسم الصغير ويقويه. - يدخل السرور على قلبه. - يريح الصبي من تعب الدروس. ويروح عن تعب النفس كللها ومللها. وفي بيان أهمية اللعب للطفل يقول الغزالي "وينبغي أن يعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل" وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من المكتب أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب العلم بحيث لا يتعب في اللعب. فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه في التعليم دائما يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه. تربية البنت: يرى الغزالي أن العلم واجب على الرجال والنساء، ولكنه لم يهتم بالحديث عن تربية البنت ولم يكتب عنها إلا النزر اليسير. المعلم في نظر الغزالي: يؤكد الغزالي أهمية الاشتغال بالتعليم ويعلي من قدر أصحابه ويعظم من شأن وخطر المسئولية الملقاة عليهم. وفي ذلك يقول الغزالي: "فمن علم وعمل بما علم فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السماوات فإنه كالشمس تضيء لغيرها. ومن اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه" "الغزالي: الإحياء ج1 ص49".

والمعلم في نظره "متصرف في قلوب البشر ونفوسهم" وهو يمارس أشرف الصناعات بعد النبوة. وهو يعتبر أن حق المعلم بالنسبة للطفل أعظم من حق الوالدين لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، أما المعلم فهو سبب الحياة الباقية والمفيد للحياة الآخرة. فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، وقد أوصى المعلم بعدة أمور من أهمها: 1- الشفقة والرحمة على الصبي فهو منه بمنزلة الولد وهو ما سبق أن ذكره ابن سحنون والقابسي. 2- ألا يزجر الصبي عما يبدو منه من سوء الخلق بطريقة الرحمة لا التوبيخ وأن يكون تأديبه بالبرهنة والتوجيه لا بالتخويف والضرب والوعيد. 3- أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث قال: $"نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم" وقد قيل: "كِلْ لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه". 5- ألا يقبح في نفي المتعلم العلوم الأخرى التي يدرسها غيره كمعلم اللغة في عادته تقبيح علم الفقه ومعلم الفقه في عادته تقبيح علم الحديث والتفسير. 6- أن يكون المعلم قدوة حسنة، وأن يطابق قوله فعله وأن يكون متحليا بالورع والتقوى لأن أعين الصبيان إليه ناظرة وآذانهم إليه مصغية فما استحسن فهو عندهم الحسن وما استقبح فهو عندهم القبيح. 7- أن يعود الصبي على الأخلاق الكريمة فيقوم احتراما لمن هو أكبر منه كما يعوده على ألا يبصق في المجلس ولا يتمخط ولا يتثاءب. 8- يجب ألا يرفع العلم التكليف بينه وبين التلميذ حتى لا يتجرأ عليه وحتى الكسل خلقه، وأن يبتعد به عن التدليل ويعوده الخشونة حتى لا يغلب عليه الكسل وأن يراعي التوسط والاعتدال في معاملته. 9- أن يكون وقورا رزينا لا ثرثارا أهوج ولا يظهر أمام تلاميذه بمظهر الخامل الناعس.

10- ألا يطلب المعلم على العلم أجرا وإنما يقصد به ابتغاء وجه الله. وقد عيب على الغزالي هذا الرأي من جانب دارسي التربية الإسلامية لأنه رأي لا يتفق مع الواقع بل إنه في هذا الرأي خالف سابقيه من علماء المسلمين الذين قالوا بجواز أخذ أجر عن التعليم، بل اعتبروا ذلك ضرورة لنشر العلم بين الناس وهو ما يتضح من عرضنا السابق لآراء ابن سحنون والقابسي. والأدلة التاريخية أيضا تدحض هذا الرأي للغزالي فقد كان المعلمون يحصلون على أجر بالفعل نظير قيامهم بتعليم الصبيان. ويروي عن ابن مسعود قوله: ثلاث لا بد للناس منهم: أمير يحكم بينهم ولولاه لأكل بعضهم بعضا وشراء المصاحف وبيعها ولولاه لقل كتاب الله، ومعلم يعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرا ولولا ذلك لكان الناس أميين. ويروى أيضا أن سعد بن مالك قد مر برجل من العراق يعلم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. ويروي عن مالك قوله: لا بأس بما يأخذ العلم على تعليم القرآن وإن اشترط شيئا كان حلالا جائزا ولا بأس بالاشترط في ذلك. وهذه كلها أمثلة تؤكد استحقاق المعلم للأجر على اشتغاله بالتعليم. ولعل الغزالي متأثر في هذا الرأي بما ورد لدى أفلاطون الذي كان يؤمن بنفس الرأي وعاب على السفسطائيين في عصره أنهم يأخذون أجرا على التعليم. وقد انتقد آخرون هذا الرأي لأفلاطون واعتبر رأيا مثاليا لا يتفق مع واقع المجتمع ولا واقع الاشتغال بالتعليم كمهنة. الغريب أن الغزالي نفسه أباح أخذ الأجر لمعلم العلوم غير الدينية مثل الحساب والطب فكيف يحرمه على الآخرين. كما أننا في كلامنا السابق عن أجر المعلم أشرنا إلى قول الغزالي بأن يأخذ المعلم ما يكفيه ليفرغ قلبه عن المعيشة وليتجرد لنشر العلم فيكون مقصوده نشر العلم وثواب الآخرة ويأخذ الرزق بكلفة وميسرة للمقصود أي مساعدة له على العيش والحياة. وقد شرحنا هناك السبب في اختلاف الرأيين. وأرجعناه إلى أن تحريم أخذ العلم للأجر يقصد به الأجر من المتعلمين أما أخذ الأجر كمهنة من أولي الأمر فلا حرج فيه.

ابن تيمية وآراؤه التربوية

ابن تيمية وآراؤه التربوية مقدمة ... 6- ابن تيمية وآراؤه التربوية: 661-728هـ، 1263-1328م مقدمة: اسمه الكامل هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني. وترجع نسبته الحراني إلى حران التي ولد بها يوم الاثنين العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661هـ 1263م وقليل من المؤرخين يذكر أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول. ولعلهم -كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة- يريدون أن يقولوا إنه ولد في اليوم الذي ولد في الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه سيحيي شريعته. "محمد أبو زهرة: ابن تيمية ص17" وكانت مدينة حران التي ولد بها مهدا للفلسفة والفلاسفة والصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام. كما كانت مركزا من مراكز الثقافة اليونانية في بعض العصور وكانت مركزا مهما للتبادل والاتصال الفكري والثقافي. ولكن ابن تيمية لم يعش بهذه المدينة طويلا إذ تركها عام 667هـ إلى دمشق وعمره سبع سنوات مع أسرته فرارا من غزو التتار أو المغول، أما تسميته بابن تيمية فقد اختلف العلماء فيها. فقيل إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء فرأى هناك طفله اسمها تيمية وعندما رجع وجد امرأته قد ولدت بنتا فسماها تيمية. وقيل إن جده محمدا كانت أمه واعظة وكان اسمها تيمية فنسبت الأسرة إليها وعرفت بها. وقد عاش ابن تيمية حوالي سبعة وستين عاما منها السبع سنوات الأولى في مسقط رأسه حران وأكثر من سبع سنوات أخرى من 705-712هـ في القاهرة ومعظم سنوات عمره قضاها في دمشق. وكانت وقتها مجمع العلماء ومركزا هاما من مراكز الثقافة العربية الإسلامية إلى جانب القاهرة. سار ابن تيمية إلى مصر عام 705هـ قادما من دمشق. وكان قد عرف

فضل مصر على الإسلام لا سيما في صد حملات التتار وإجلائهم عن دمشق. ومع أن ابن تيمية ولد بعد حوادث الصليبيين والتتار ولم يشهد إلا أنه وحد آثارها وسمع عنها ممن عاشوها وشاهدوها. وعندما وصل إلى القاهرة استطاع أعداؤه وخصومه أن يكيدوا له كيدا حتى انتهى الأمر بسجنه في مصر في رمضان من نفس السنة. وامتد الأذى إلى الحنابلة الذين ينتمي إليهم وحصل لهم بالديار المصرية كما يقول ابن كثير في تاريخه إهانة عظيمة كثيرة. وقد مكث في السجن نحو سنة ونصف وخرج منه في 23 من ربيع الأول عام 707هـ. وهكذا كانت إقامته بمصر بين نعمة ونقمة. ثم غادر مصر إلى دمشق في مستهل ذي القعدة سنة 712هـ حيث واصل اشتغاله بالعلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة والاجتهاد في الأحكام الشرعية. وتعرض هناك أيضا للسجن والتعذيب حتى وفاته بسجن القلعة بدمشق عام 728هـ. وابن تيمية فقيه سلفي حنبلي المذهب مجتهد وليس مقلدا. وكان محمد بن عبد الوهاب من المعتنقين لآرائه ومبادئه وعمل على نشرها في الجزيرة العربية في القرن 19 في ظل دعوة المشهورة "بالوهابية". والدعوة الوهابية هي دعوة تجديدية سلفية تترسم خطي ابن تيمية والسلف الصالح. وقد عبر عن ذلك الملك عبد العزيز في خطبة له بقوله: "يسموننا بالوهابيين ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص. وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعاية الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة. ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما عليه السلف الصالح. نحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق بين الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنفية. كلهم محترمون في نظرنا "انظر كتاب خير الدين الزركلي: الوجيزة في سيرة الملك عبد العزيز، دار العلم للملايين. بيروت". ويتلخص هدف الدعوة السلفية في تطهير العقيدة الإسلامية من شوائب البدع والخرافات والشعوذة والعودة بها إلى منابعها الإسلامية الأصيلة وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما درج عليه الصحابة والسلف الصالح.

كما تهدف أيضا إلى التربية الصحيحة للشخصية الإسلامية، وفتح الذهن البشري لقبول كل جديد في ميادين العلوم بما يتفق مع أصول ديننا الإسلامي الحنيف. كان لابن تيمية شخصية متميزة وفكر متميز من صغره. ويقول الذهبي إنه في سن السابعة عشرة كان أهلا للإفتاء. وقد شغل منصب أبيه في التدريس وهو في سن الحادية والعشرين. وكان نادرة زمانة ذكاء وألمعية وعلما وحفظا ورواية وتفقها في علوم الدين. لقد امتدت اطلاعات ابن تيمية إلى جميع العصور التاريخية السابقة له تقريبا. بيد أنه كان يفضل عصورا على غيرها منها عصور الخلفاء الراشدين والسلاجقة وصلاح الدين ونور الدين ولم يخف إعجابه بهم وكم تمنى خلود تقاليدهم السياسية "هنري لاوست: 260". وامتلأ ابن تيمية في شبابه حماسة بانتصارات الإسلام على الفرنجة والصليبيين. كانت ثقافة ابن تيمية عربية إسلامية خالصة. واستطاع أن يستوعب جميع جوانب الثقافة الإسلامية المعروفة في عصره. وتعمق في دراسة المعارف القرآنية وعلوم الحديث والتوحيد. وكان للقرآن الكريم تأثير كبير على فكره وشغل طوال حياته كلها بتفسيره تفسيرا شاملا. وللقرآن هو في الواقع الأساس لكل آرائه الدينية والتربوية. يقول الدكتور مصطفى حلمي: "إن أبرز معالم شخصية ابن تيمية هو المدافع عن الإسلام في دائرة العقيدة والفقه، الحاذق للحديث، الخائض في صراع دائم مع المتكلمين والفلاسفة والصوفية والفقهاء لبيان مواضع الخطأ والصواب في أفكارهم ونظرياتهم "المرجع السابق: 124". وقال العمري في ابن تيمية: هو نادرة العصر، وهو البحر من أي من النواحي أتيته. وهو البدر من أي الضواحي أتيته. قطع الليل والنهار دائبين. واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أسر السلف بهداه، ونأى الخلف عن بلوغ مداه. جاء في عصر مأهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء، إلا أن شمسه طمست تلك النجوم، وبحره غرق تلك العلوم. ترد إليه الفتاوى فلا يردها، وتغدو عليه من كل وجه فيجيب عنها بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها. تقدم راكبا منهم إماما ولولاه ما ركبوا وراءه" "ابن تيمية: 1988: ص5".

أسرته

أسرته: ينتمي ابن تيمية إلى أسرة عريقة من الفقهاء الذين كان لهم تأثير كبير على تكوين شخصيته فكان جده مجد الدين عالما جليلا من أئمة الفقة الحنبلي وله كتابات قيمة في أصول وقد رحل إلى البلاد في سبيل العلم ودرس وأفتى "محمد أبو زهرة: ابن تيمية: ص19-20". وكان والده عبد الحليم قد ولد بحران سنة 727هـ وتعهده أبوه بالعلم ولما مات أبوه أصبح شيخ حران وخطيبها وحكيمها إلى أن غادرها إلى دمشق فرارا من التتار كما كان عمه فخر الدين عالما وخطيبا وواعظا وجمع تفسيرا للقرآن في مجلدات ضخمة. ويقول هنري لاوست: "إن العادة جرت على أن يعهد بالتربية الإسلامية التقليدية إلى سلطة شرعية متخصصة في الأسرة كالأب أو العم مما أسهم في تكوين سلالات من العلماء الأمجاد وفي ضمان استقرار التطور الثقافي الإسلامي" "هنر لاوست ص204". ويقول الشيخ محمد أبو زهرة "إن أسرة ابن تيمية حنبلية كلها وأنه تلقى الفقه الحنبلي عن أبيه واشترك في كتاب عن الفقه الحنبلي ابتدأه جده وعمل فيه أبوه وأتمه هو. ولذلك يعده أكثر العلماء فقيها حنبليا خالصا وإن كانت له اجتهاداته الخاصة التي انفرد بها وخالف فيها الحنابلة. ولكن على الرغم من نزعته الحنبلية فإنه كان يعتبر مذهب أحمد بن مالك أمثل المذاهب الإسلامية وأقربها إلى السنة. وفي ذلك يقول: "كان أحمد أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان". وهو يقدر الأئمة من ناحية منازلهم الفقهية أبلغ تقدير. لكنه يوصي الفقيه المحقق ألا يلتزم مذهبا معينا إذا وجد الحق في غيره. بل عليه أن يترك المذاهب كلها إذا وجد حديثا يخالفها "محمد أبو زهرة 1977: 352-354". ولعل هذا هو الذي دفع الدكتور مصطفى حلمي إلى معارضة المستشرق الفرنسي هنري لاوست في كتابه عن ابن تيمية عندما ذهب إلى القول بأن ابن تيمية فقيه حنبلي. إذ يقول في تعليقه إن ابن تيمية لم يكن حنبليا بالمعنى المذهبي المعروف. بل كان مجتهدا وله اجتهاداته الخاصة التي ربما خالف بها المذهب الحنبلي "هنري لاوست: 122". ويكرر الشيخ محمد أبو زهرة القول بأن ابن تيمية حنبلي النشأة والمذهب والطريقة الفقهية في الجملة ونصب نفسه للدفاع عن طريقة الحنابلة "محمد أبو زهرة 1977: 52".

عصره

عصره: عاش ابن تيمية في النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف الأول من القرن الثامن الهجري. وكانت هذه الفترة من تاريخ الأمة الإسلامية التي عاشها ابن تيمية فترة تفكك وانقسام للدولة الإسلامية إلى ممالك ودويلات صغيرة يحكمها أمراء من العجم لا يخضعون لسلطان الخليفة في بغداد. ويقول المقريزي في "تاريخ السلاطين": كانت تربية الأمراء "الأتراك والمماليك" عسكرية بحته وكان إلمامهم باللغة العربية ضئيلا وعلمهم بالإسلام ضحلا وكانت لغتهم هي اللغة التركية واقتصرت معلوماتهم عن الإسلام عن المبادئ الأولية التي لقنهم إياها فقهاء معينون لهذا الغرض. والسلاطين الذين عاصرهم ابن تيمية هم: بيبرس 658-676هـ وبركة خان "676-678هـ" وشلامش 678هـ وقلاون "678-689هـ" وخليل بن قلاون "689-693هـ" ومحمد بن قلاون "693-694هـ" وكنيفا "694-696هـ" ولاجين "696-698" ومحمد بن قلاون "698-708هـ" وبيبرس الثاني "708-709هـ" ومحمد بن قلاون "709-741هـ" ومن الخلفاء عاصر ابن تيمية خليفتين هما الحاكم "661-701هـ" والمستكفي الثاني "701-740هـ". ومن المعروف أن الخلافة قد سقطت في بغداد عام 656 بعد غزو التتار لها واستيلائهم عليها وتدميرها وتخريبها. وانتقلت الخلافة إلى مصر واستولى التتار على دمشق سنة 658هـ وهدوا مصر. ولكن الله سبحانه وتعالى قد

مكن مصر من صد التتار واستطاع رجالها أن يوقفوا زحفهم بل وأجلوهم عن دمشق وغيرها من المدن السورية تحت قيادة الظاهر بيبرس وقبله قطز من حكام المماليك. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة إن مصر أنقذت العالم من شر التتار بدمها ومالها فكانت حقا كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصم الله ظهره "محمد أبو زهرة: ابن تيمية 137". وخلال هذه الفترة خيم الضعف على المسلمين وعجزوا عن مقاومة أعدائهم الصلبيين والتتار. كما خيم على الحياة الثقافية الركود والجمود نضوب معين الفكر فقفل باب الاجتهاد وشاعت الخرافات والبدع والشعوذة والغش في المعاملات وانتشرت الفاقة وعم الفقر وأهملت الفرائض والعبادات كالصلاة وحل محلها الأوراد والأذكار "هنري لاوست: 202". ومن المعروف أن ابن تيمية عاش في دمشق والقاهرة في ظل حكم المماليك الذي تميز نظام حكمهم بالسيطرة والاستقلال والتخلف. ولذلك تعتبر آراء وأفكار ابن تيمية الدينية والسياسية بمثابة رد فعل واحتجاج على هذه الأوضاع فقد حرص على أن يستبدل نظام الحكم الذي يقوم على الاستقلال الاجتماعي من جانب أقلية عسكرية بمبدأ أسمى للتعاون الجماعي الذي يحقق للإسلام مجده الغابر "المرجع السابق ص203". يقول الشيخ محمد أبو زهرة "1977: 208" كان عصر ابن تيمية يموج بالاضطراب السياسي والمنازعات الحربية. كما كان يسوده التقليد والاتباع في عامة أبواب العلم. وكان الحنابلة الذين انتمى إليهم يخالفون الجمهور في استمساكه بآراء الأشاعرة فكان لذلك نزاع. وكان التصوف يسيطر على العامة في مصر والشام. فجرد ابن تيمية عليه سيف الدليل وناقشه الحساب. وكان الشيعة يتغلغلون في الربوع الإسلامية يبثون فيها أقوالا مخالفة لما تقرر لدى السلف. وقد تصدى ابن تيمية لهم وبين ما في آرائهم من فساد. لم يكن تلقي العلم في عصر ابن تيمية من أفواه الرجال فقط كما كان الحال في عصر أبي حنيفة ومالك. بل كان تلقيه كما هو في عصر تدوين العلم الكتب يدرسها طالب العلم ويفحصها وينقب فيها ويمعن النظر فما حوته إلى

جانب الرجال أيضا يوجهون ويلقنون ويتخرج العالم عليهم. "محمد أبو زهرة: 111". وكان ابن تيمية إلى جانب تلقيه العلم عن أبيه وعمه قد تتلمذ على يد شيوخ وفقهاء كثيرين يزيد عددهم في تقدير بعض المؤرخين عن مائتين. منهم الجبائي وأبو القاسم الإسكافي وإسحاق الإسقراييني وابن الجوزي خطيب بغداد وواعظها. وقد تابع تعليمه في مدارس القرآن والحديث والفقه بدمشق. وتخرج في المدارس الحنبلية فقد كان للحنابلة مدارس خاصة بهم مثل المدرسة الجوزية والمدرسة السكرية والمدرسة العمرية "محمد أبو زهرة: ابن تيمية 26". ويقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي في مقدمته لتفسير سورة الإخلاص لابن تيمية، إن ابن تيمية درس في المدرسة السكرية بدمشق وتخرج منها كما تخرج والده من قبل. "ابن تيمية: ص4". وقد ربى ابن تيمية نفسه تربية عالية فتعلم العلوم الرائجة في عصره ولم يترك بابا من أبواب العلم إلا اتقنه. وقد قال فيه أحد معاصريه "قد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد". "المرجع السابق: 28". وقد بلغ من سعة اطلاع ابن تيمية في التفسير أنه كما يقول هو عن نفسه ربما طالعت على الآية الواحدة مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم، وأقول يا معلم آدم وإبراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأفرغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم علمني "المرجع السابق: ص6". ودرس الفقه والحديث على أكبر شيوخه ودرس علوم اللغة كلها على يد شيوخها حتى وصل إلى درجة مكنته من نقد سيبويه إمام النحاة القدماء أمام أبي حيان كبير النحاة في عصره. وكان اهتمامه بدراسة فقه اللغة العربية لأهميته في تفسير نصوص القرآن الكريم والحديث تفسيرا صحيحا. كما درس العلوم العقلية على يد ذوي المهارة فيها. فدرس المنطق وعلم الكلام دراسة فاحصة. ولقد درس ابن تيمية المؤلفات الرئيسية التي صنفها علماء العقيدة

السنيون منها "المقالات" للأشعري وكتاب "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم وكتاب الشهرستاني عن الملل والنحل أيضا. وقد استأثرت نظريات الأشاعرة باهتمام ابن تيمية لأنها كانت سائدة ويعتنقها الغالبية. وكان موقفة من أبي الحسين الأشعري يتسم بالاحترام والتقدير وذلك لموافقته مذهب السنة والحديث في صفات الله تعالى والقدر والإمامة وفضائل والصحابة والشفاعة والصراط والميزان ولما له من ردود على المعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم "هنري لاوست: 216". كما درس ابن تيمية الأصول الفلسفية التي بنت عليها الفرق الإسلامية المنحرفة مذاهبها ومناهجها أو حاولت أن تستعين بها لتأييد انحرافها. درس ذلك كله. ثم تقدم للميدان مناظرا بالقول. فأرهفت المناظرة قواه وزادته إيمانا بقضاياه فإن المناظرة تنير السبيل في فكر المناظر. وقد تهديه إلى حقائق لما كان ليهتدي إليها وهو في هدأة التفكير والتجرد النفسي. فإن احتكاك الأفكار المتضاربة يؤلق بينها برقا منيرا "محمد أبو زهرة: 121" وفي هذا درس مستفاد لنا ولأبنائنا مفاده أنه لكي نحمي عقيدتنا من أعدائها ينبغي عليها أن ندرس فكرهم وثقافتهم حتى نستطيع أن نرد عليها. وإذا كان قد ورد في الأثر "من تعلم لغة قوم أمن شرهم" فإن اللغة هي الوعاء الثقافي لأي أمة أو جماعة ومن هنا فإن دراسة ثقافة هذه الجماعة إذا كانت مغرضة ضد الإسلام تكون واجبة لحماية عقيدتنا والدفاع عنها. وينبغي أن نشير هنا إلى أن ابن تيمية كان على معرفة باللغة العبرية وفي ذلك يقول ابن تيمية، والألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر. وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب حتى صرت أفهم كثيرا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة العربية "مجموع الفتاوى ج4 ص110. الرياض 1381هـ". ونجد في مؤلفات ابن تيمية إشارات إلى الغزالي وكان يقدر عاليا أهمية إنتاجه الضخم ومقدار فضله عليه. وكان يشير كثيرا إلى ما ورد في كتب

الغزالي ومنها "الإحياء" و"كيمياء السعادة" و"المستظهر" و"المقاصد" و"المستصفى" و"الرد على الباطنية". ومع ذلك فقد وجه ابن تيمية انتقادات عديدة للغزالي رغم أنه يسميه بحق أستاذنا ويبدي إعجابه بما جاء في نظرياته من الأمور الحسنة والكثير من القيم السامية والقيم الأخلاقية منقطعة النظير. يدين ابن تيمية بكثير للإمام الشافعي أيضا وهو يشير إلى كتاب "الأم" وأحيانا إلى سنته وإلى كتاباته الجدلية ... وكان يمجده بوصفه مؤسسا لعلم أصول الفقه "هنري لاوست: 256-257". لقد كان ابن تيمية مضرب المثل في غزارة العلم وسعة الاطلاع. وكان أول ثلاثة قال فيهم الشاعر: ثلاثة ليس لهم رابع ... في العلم والتحقيق والنسك وهم إذا شئت ابن تيمية ... وابن دقيق العيد والسبكي "محمد خليل هراس: 185". الفتوى الحموية الكبرى. حقق ابن تيمية شهرة مدوية في الحياة السياسية من خلال قضية تتعلق بالعقيدة. فقد طلب إليه أهل حماة سنة 698هـ 1298م إبان إقامته في سوريا فتوى شرعية يبين لهم فيها صفات الله وطبيعتها وأوفق طريقة لفهم العلاقة بين الذات والصفات ... وفي ربيع الأول من عام 698هـ عكف ابن تيمية في عصر يوم واحد كما يقول كتاب سيرته على كتابه إجابة مطولة في ست ورقات من الحجم المتوسط خلدت بعد ذلك في التاريخ باسم "العقيدة الحموية الكبرى" ... وكانت كتابة مثل هذه المؤلفات التعليمية بواسطة الأفراد عادة قديمة في الإسلام استلزم ظهورها عدم وجود سلطة مختصة بتحديد العقيدة الرسمية في الدولة مما

حدا بكل عالم أن يحدد جوهر عقيدته. "هنري لاوست: 270" وكان لهذا الفتوى دوي هائل وأثارت موجة من الاحتجاجات من معارضيه واضطهد بسببها. اختصام الناس فيه: اختصم الناس في ابن تيمية واشتد اختلافهم حوله. بل لعل تاريخ الإسلام في عصوره الوسطى والأخيرة لم يشهد شخصية اختلف الناس اختلافهم في ابن تيمية أو كان لها من كثرة الخصوم والأنصار ما كان له. فهو -كما يقول محمد خليل هراس "ص7"- في نظر فريق من الناس شيخ الإسلام وقدوة الأنام وأحد المجددين للدين وزعيم النهضة الإسلامية الحديثة. قمع البدعة وأظهر السنة ورجع بالناس إلى طريقة السلف الأول من الصحابة والتابعين ... وهو في نظر فريق آخر من المسلمين ضال مضل وكافر ملحد يشبه الله بخلقه ويصفه بأنه مستوٍ على عرشه وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يتكلم بحرف وصوت. كما اختصموا في كونه فقيها حنبليا وهو ما أشرنا إليه في مكان آخر. ويؤكد الشيخ محمد أبو زهرة هذا المعنى الخلافي حول شخصيته فيقول: "إن ابن تيمية في محاولته إعادة الإسلام إلى مجده الأول وإزالة ما علق به من غبار وما شابه من أفكار غريبة عنه أثار إعجاب كثيرين كما أثار غضب وعداوة كثيرين أيضا. وقد انقسم الناس إزاءه إلى ثلاثة أقسام. فريق شايعه وناصره ورفعوه إلى أعلى مراتب الاجتهاد وفريق قاومه ونازله ومنهم من كفره وفريق خالفه. "محمد أبو زهرة: 31". تأثره بالصوفية: يقول هنري لاوست المستشرق الفرنسي إن للصوفية تأثيرا كبيرا على فكر وآراء ابن تيمية لكن مع اجتهاد منه. فقد أدمج جميع العوامل الوجدانية التي جاء بها الصوفية في مذهبه وهي المحبة والذوق والمعرفة الحدسية والإلهام والمكاشفة الداخلية. ويقول أيضا نقلا عن ابن تيمية أن الصوفية أسسوا مذهبهم على "الإرادة" كما بنى أهل الحديث مذهبهم على السنة وعلماء الكلام على العقل. وهو يرى أن المبدأ الصوفي الوحيد الذي سن عليه ابن تيمية حربا لا هوادة

فيها كان وحده الوجود عند ابن عربي "هنري لاوست:233". كما أنه يرى أن ابن تيمية كان متأثرا بالصوفية لا على طريقة ابن عربي وإنما على طريقة الصوفية الأخلاقية التي تتجلى في الحاجة إلى الحياة الوجدانية المنظمة والتي تسمح بأن تضم إلى الشجاعة الناقذة المستقلة معنى التفاني الجارف من أجل الجماعة "المرجع السابق 264". معادات لمنطق أرسطو: كان ابن تيمية معاديا للفلسفة اليونانية ولمنطق أرسطو وخصه بمؤلفات لبيان خطئه منها: "الرد على المنطقيين" و"نقض المنطق" ومنها ما بثه في ثنايا مؤلفاته. وهي جميعا تنطق بمعارضة ابن تيمية للمنطق الأرسطاليسي وانتقاده للفقهاء والأصوليين الآخذين به "هنري لاوست: ص158 - هامش". لقد قام ابن تيمية بنقد الفلسفة اليونانية ونقد أرسطو مؤيدا حججه بالأدلة والبراهين. وكان في موقفه من النقد متزنا معتدلا. فهو يفرق بين الطبيعيات والرياضيات والإلهيات. وهو يعترف بصحة معظم مسائل الطبيعيات والرياضيات. وفي ذلك يقول: " نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد". كما يقول "لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية. وهذا بحر علمهم وله تفرغوا وفيه ضيعوا زمانهم. والجانب الهام الذي يعارض فيه ابن تيمية فلاسفة اليونان هو جانب "الإلهيات" فهو يؤكد عجز فلسفة اليونان عن إدراك سر الإلهيات وفقرها وقلة بضاعتها وفي ذلك يقول: للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الإلهيات فإنهم أجمل الناس بها وأبعدهم عن معرفة الحق فيها. وكلام أرسطو معلمهم فيه كثير الخطأ "أبو الحسن الندوي: ص169. نقلا عن معارج الوصول لابن تيمية ص186". وفي مكان آخر يقول ابن تيمية "تفسير سورة الإخلاص ص57": "وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدا وأما ملائكته وكتبه ورسله فلا يعرفون ذلك البتة ولم يتكلموا فيه ولا ينفي ولا بإثبات. وإنما تكلم في ذلك المتأخرون الداخلون في الملل". ويقول في مكان آخر الرد على المنطقين

ص394، وأما ما جاءت به الأنبياء فلا يعرفه هؤلاء التبة وليسوا قريبين منه. بل كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بالأمور الإلهية. وهو يفرق بين المتقدمين من فلاسفة اليونان مثل فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وبين المتأخرين منهم أمثال أرسطو فيقول: إن الأساطين الأوائل من فلاسفة اليونان ويقصد بهم الثلاثة الذين سبق ذكرهم كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام ويتلقون عن لقمان الحكيم ومن بعده من أصحاب داود وسليمان عليهما السلام. ولذلك كانوا أقرب إلى فهم الحقائق الغيبية ومعرفة المفاهيم الدينية. أما أرسطو فلم يسافر إلى أرض الأنبياء ولم يكن عنده من العلم بالأنبياء ما عند سلفة. وكان عنده قدر يسير من الصابئية الصحيحة فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية وصارت قانونا مشي عليه اتباعه. "أبو الحسن الندوي: 1987: ص173: نقلا عن نقض المنطق لابن تيمية: ص113". اختلافه عن الغزالي: إن ابن تيمية في دراسته للفلسفة يختلف عن الغزالي. فقد درس ابن تيمية الفلسفة وما عند الفلاسفة لا ليطلب الحقائق من ورائها بل ليبين بطلان ما يعارض الدين منها ... أما الغزالي فقد درس الفلسفة ليطلب الحقيقة من روائها. وخلص نفسه من كل شيء ليصل إلى الحق المستقيم واعتبر الشك هو الطريق للوصول إلى الحق. ولكن تبين له بطلان ما يقوله الفلاسفة. فعاد إلى الدين وأشرق في نفسه نور الحقائق في خلوات صوفية عرف فيها نفسه ثم حمل حملته على الفلاسفة وبين تهافتهم "محمد أبو زهرة 1977: 237". ابن تيمية والتربية والتعليم: لم يتناول ابن تيمية الكلام عن التربية بمعناها المدروس المعروف الضيق وإنما اتجه إلى معالجة القضايا الكبرى للعقيدة الإسلامية ودرسها دراسة متسفيضة في ضوء القرآن الكريم والسنة والنبوية الشريفة وما ورد عن الصحابة والسلف والصالح. كما قام بالتعليم والتدريس داخل السجن وخارجه. وهو بهذا يكون أكبر مرب للأمة الإسلامية كلها. ففي فكره وعلمه واجتهاده وآرائه نور

وهداية للمسلمين جميعا. كما أن شخصيتة وما تتمتع به من صفات تعتبر قدوة ونبراس لأبناء المسلمين. قد تبين من عرضنا السابق مكانة الرجل العلمية والثقافية التي أهلته لأن يكون باعث النهضة الإسلامية في عصره. ومن هنا فإننا سنتناول في السطور التالية الكلام عن قيامه بالتدريس داخل السجن وخارجه وعن صفات ابن تيمية ومضاميتها التربوية ثم نعرض لبعض الموضوعات الهامة التي طرقها وتناولها ورأيه فيها. وهو ما يعتبر في حد ذاته مؤشرات تربوية للعمل التربوي. أولا: قيامه بالتدريس داخل السجن وخارجه: يذكر أبو الحسن الندوي في كتابه عن ابن تيمية ص73 نقلا عن الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي صاحب "الكواكب الورية" فيما يرويه الشيخ علم الدين البرزالي معاصرا ابن تيمية وزميله إذ يقول: "ولما دخل ابن تيمية الحبس وجد المحابيس مشغولين بأنواع من اللعب يلتهون بها عما هم فيه كالشطرنج والنرد مع تضييع الصلوات. فأنكر الشيخ ذلك عليهم وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء. وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه. ورغبهم في أعمال الخير، وحضهم على ذلك حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده". كما اشتغل ابن تيمية قبل وبعد خروجه من السجن بالتدريس واستفاد من دروسه ومجالسه الكثيرون وأعجب الناس بعلمه الفياض وإخلاصه في خدمة العقيدة الإسلامية. ثانيا: صفات ابن تيمية ومضامينها التربوية: كان ابن تيمية يتمتع بصفات طيبة حباه بها الله. وفي مقدمتها الذاكرة أو الحافظة القوية الواعية التي كانت موضع حديث عصره. وهذا يعني أن تحصيل العلم والنبوغ فيه إنما يعتمد على حافظة واعية قوية. وبهذا يتكون لدى المتعلم بالتدريج مخزون علمي وثقافي يساعده على النمو والنضج وبلورة فكره والوصول إلى استنتاجه الخاصة. وقد يؤدي به ذلك في النهاية إلى أن

تتكون لديه شخصية علمية متميزة مستقلة. وهذا ما نحتاج إليه في تربية أبنائنا إذا كان لهم أن يتفوقوا علميا وثقافيا وتربويا وتكون لهم شخصياتهم المتميزة. ومن صفاته أيضا الشجاعة الأدبية فقد كان يجابه العلماء بما يوحيه فكره وما يعتقد أنه حق وصواب يعلنه بين الناس بعد طول الفحص والدراسة خصوصا ما يكون مخالفا كما جرى عليه الناس. ومن صفات ابن تيمية أيضا العمق والتأمل في دراسة المسائل الفقهية والدينية. بل ربما قضى الليالي متفكرا في مسألة واحدة حتى يحل مغلقها وينتهي إلى الأمر الحازم فيها. وكان يتأمل الآيات والأحاديث وقضايا العقل. ويوازن ويقايس بفكر مستقيم حتى ينبلج له الحق واضحا. ولذلك كان من أدق العلماء وأقدرهم على استنباط المعاني من الأحاديث وآيات القرآن الكريم "محمد أبو زهرة: 97". وهذه صفة العالم الحق وينبغي على المعلمين والمربين والآباء وكل المعنيين بتربية النشء أن يحثوا شبابنا على الاقتداء بهذه القدوة الجليلة وأن يشجعوهم في مجال الدراسة وتلقي العلم على إعمال الفكر والتعمق والتأمل في دراسة الأمور حتى تنمو لديهم هذه السمة العقلية الهامة التي لا غنى عنها لكل إنسان في عالمنا المعاصر. وليس الهدف أن يصبح كل متعلم على مستوى ابن تيمية في هذه الناحية ولكل نسعى إلى حثه على أن يصل فيها إلى أقصى ما تسمح به استعداداته وتكوينه العقلي. وبهذا تنفتح أمام المتعلم أسرار العلوم ودقائقها. ذلك أن العلم لا ينفتح لمتعلم عابر ولا يكشف عن مكنوناته وجواهره لمتعجل سطحي. ومن صفات ابن تيمية الاستقلال الفكري وهي أبرز صفاته في تكوين علمه وشخصيته. وهو في كل ما يصل إليه من علم وفكر ورأي لا هادي له إلا كتاب الله وسنة رسوله وآثار السلف الصالح من الصحابة وكبار التابعين "محمد أبو زهرة: 19" وما أحوجنا نحن المربين إلى تنمية هذه الصفة الحميدة في نفوس أبنائنا وشبابنا في مدارسنا وجامعاتنا. وشتان بين الإمعة الذي يقول أنا مع الناس أي أنه فرد في القطيع وبين

صاحب الفكر المستقل. ولا يعني الفكر المستقل مخالفة الآخرين كهدف وإنما يكون الفكر مستقلا عندما يتسم بالعقلانية والموضوعية والبعد عن التعصب والتوصل إلى الآراء أو النتائج أو الأحكام التي تستند إلى الأدلة والحقائق والبراهين وليس على العواطف أو الأهواء. ومن صفات ابن تيمية أيضا الإخلاص في طلب الحق. فقد كان إدراكه للأمور مستقيما لا عوج فيه. ولا شيء يضلل العقل ويجعله يحيد عن طريق الهداية أكثر من الغرض والهوى والتواء المقاصد. وقد أخلص ابن تيمية في طلب الحقيقة فأدركها وأخلص في نصرة الحق في هذا الدين. وقد وصل إخلاصه وتفانيه في طلب الحق إلى حد الجهاد في سبيله وتحمل هوان السجن والصمود على الضر وتحمل ألوان شتى من الكيد والإيذاء من خصومه وأعدائه. ونخرج من ذلك نحن المربين بنتيجة مفادها أنه ينبغي توجيه شبابنا سواء في دور العلم أو العبادة إلى الإخلاص في طلب العلم والحق وألا يتكاسلوا ويقنعوا من الغنيمة بالإياب. ولكل مجتهد نصيب. ومن الصفات الأخرى لابن تيمية حضور البديهة وقوة فراسته وفصاحة لسانه وقدرة بيانه والشجاعة والصبر وقوة الاحتمال. وهي كلها صفات حميدة ينبغي أن يتحلى بها المسلم عملا بتعاليم دينه. وهي صفات ينبغي على المعلمين في تربيتهم للنشء أن يلفتوا أنظارهم إليها وأن يحثوهم على التحلي بها اقتداء بسلفنا الصالح. "لتفصيل الكلام عن هذه الصفات انظر محمد أبو زهرة 1977: 96-110". ثالثا: بعض القضايا التربوية الهامة: نعرض هنا لبعض القضايا الهامة التي تعرض لها ابن تيمية وهي قضايا لها مضامينها التربوية: 1- المثل الأعلى: لقد سعى ابن تيمية إلى إيجاد الدعائم الصحيحة للسلوك الإنساني المتفق مع أحكام الشريعة. لقد نظر في دوافع الإنسان ومراميه ووضع مثلا أعلى له يتجه إلى عبوديته لله سبحانه وتعالى وحده وفسر كل أمر بالتزكية في القرآن

بأنها تزكية الأخلاق وكانت اتجاهاته الأخلاقية والوجدانية قرآنية بحتة لا أثر فيها لاتجاهات الصوفية "هنري لاوست: 265". كما كان ابن تيمية يشعر طوال حياته بالحاجة الملحة إلى تنظيم سلوك الفرد داخل الجماعة. وقد عمق معنى التفاني من أجل الجماعة وطوره إلى درجة تحريم الدعوة إلى الثورة حتى على الحكام الفجرة "المرجع السابق ص232". 2- العلم والعمل متلازمان: يرى ابن تيمية أن العلم يقتضي العمل. فلا يكفي علم بلا عمل ولا عمل بلا علم. وهذه نظرة صحيحة إلى قيمة العلم في ارتباطه بالعمل وقيمة العمل في توجهه بالعلم. بل إن الكلمتين تتكونان من نفس الحروف. وقديما قالوا علم بلا عمل وبال وعمل بلا علم ضلال وعلم وعمل كمال. ولا خير في علم لا يعمل به صاحبه وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الغنى ... كيما يصحوا به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدا وأنت من الرشاد عديم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم 3- النفس الإنسانية: إن حديث ابن تيمية عن النفس الإنسانية مستمد من الشرع فهو يرى أن الروح مدبرة للبدن وهي التي تفارق بالموت بعد أن نفخت فيه عند بدء الحياة. وهو يستخدم الآيات والأحاديث التي تشير إلى الروح والنفس بمعنى واحد كمترادفين.. "هنري لاوست: ص110". ويقال إن النفوس ثلاثة أنواع: وهي النفس الأمارة بالسوء التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي والنفس اللوامة وهي التي تذنب وتتوب لأنها تلوم صاحبها على الذنوب لأنها تلوم أي تردد بين الخير والشر. والنفس المطمئنة وهي التي تحب الخير والحسنات وتبغض الشر والسيئات "المرجع السابق: ص110".

وهذه الصفات للنفس وأحوالها وليست أنواعا مستقلة عن بعضها أو منفصلة قائمة بذاتها. أما عن علاقة النفس بالبدن ومكانها فيه فإننا لا نعلم مسكنها من الجسد إذ لا اختصاص للروح بشيء منه بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع البدن. فإن الحياة مشروطة بالروح في الجسد. فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة وإذا فارقته الروح فارقته الحياة "المرجع السابق ص111". 4- حرية إرادة الإنسان: يرى ابن تيمية أن للإنسان مشيئة وإرادة كاملة تجعله مسئولا عما يفعل. وفي الوقت الذي يقرر فيه ابن تيمية أن عموم الإرادة الإلهية والقدرة الكونية وشمولها لكل شيء ثابت بالنصوص يقرر أيضا أن القدرة الإنسانية ثابتة بالحس والشعور. ولا سبيل لإنكار ما ثبت بالنص ولا مجابهة الحس. وأن الناس بالحس والشعور يتحملون مسئوليات أعمالهم في الدنيا. ولا يحتج بقدره وقضائه وأن القدر لازم لا مناص منه إلا عندما يغالط حسه ويكابر نفسه. فليس لأحد أن يحتج في الذنوب بقدر الله تعالى وعليه ألا يفعلها. وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم. ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان إذنبا ذنبي إبليس وآدم. فآدم تاب فتاب الله عليه واختاره وهداه. وإبليس أصر واحتج بالقدر. فمن تاب من ذنبه أشبه آباه آدم ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس. 5- الثقة في العقل ليست مطلقة: كان ابن تيمية يرى أن الثقة في العقل ليست مطلقة لأن العقل قد يخطئ صواب السبيل وقد يغالط في الأحكام والاستنتاجات. لا سيما في مقدمات الحكم على العقائد من حيث سلامتها أو عدم صحتها وخصوصا في متشابه الأمور. ولذلك يأخذ على الفلاسفة والمتكلمين طريقتهم في التفكير والمقدمات التي يبنون عليها النتائج. ويعزو خلافه معهم في النتائج إلى اختلاف الطريقة واختلاف المنهاج "محمد أبو زهرة 1977: 213". وهو لا يهمل العقل وإنما

يجعله تابعا لا متبوعا ومحكوما بالقرآن ومقدماته في الاستدلال لا حاكما على أدلة القرآن ومنهاج القرآن. وبالتالي لا يكون متأولا للقرآن إن خالفه بل عليه أن يتجه إلى القرآن يتفهمه بالفكر وبموازنة القرآن بعضه ببعض. فتأويل القرآن يكون من القرآن لا من أقوال المتفلسفين والمتكلمين وأمثالهم. وهو يلوم الذين يجعلون العقل حاكما على النصوص ويعرض بالغزالي لأنه في بعض أرائه الفكرية نهج ذلك المنهاج "المرجع السابق: 215". 6- لا تعارض بين صريح العقل وصحيح النقل: يذكر أبو الحسن الندوي في كتابه عن ابن تيمية "ص249" أنه أي ابن تيمية كان لا يرى أي تعارض بين صريح العقل وصحيح النقل وأنه لم يعثر على أي تعارض بين العقل والنقل خلال دراسته الطويلة الواسعة بشرط أن يكون العقل سليما والنقل صحيحا ومحفوظا. وقد ألف ابن تيمية في هذا الموضوع كتابا ضخما باسم "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" أثبت فيه بالدلائل وبكل التفاصيل ألا تعارض بين المعقول والمنقول. وتوصل إلى أن الأمور التي ثبتت صحتها بالكتاب والسنة والوحي والنبوة يصدقها العقل الكامل الصحيح. 7- تقديره لغيره من العلماء وإن خالفهم: كان ابن تيمية يقدر في غيره العلم وإن كان مخالفا له فهو لا يلعن المخالف ولا يكذبه ولا يرميه بالبهتان ولكنه يعتذر له ويقدره في خلافه ووفاقه. ويرى أن العالم مجتهد والمجتهد يخطئ ويصيب وله أجره في كلا الحالين. وهذه سمة العالم الحق. بل إنه كتب رسالة العنوان: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، يعتذر فيها عنهم إذا جاءت أفواههم مخالفة للسنة الصحيحة بأعذار قوية ترفع عنهم الملام. ويدعو إلى تقديرهم وإكبارهم فيقول: "يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن وخصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين. فإن علماءهم

خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنتة. بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته دقيق ولا جليل. فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه. جميع الأعذار ثلاثة أصناف. أحدها عدم اعتقاده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. والثاني عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول. والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. "محمد أبو زهرة: 1977: 219". 8- طاعة ولي الأمر في غير معصية: يرى ابن تيمية أن طاعة ولي الأمر واجبة ما دامت في غير معصية تمشيا مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ولقوله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وروى البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". وفي صحيح مسلم عن أم الحصين أنها سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: "وإن استعمل عليكم أسود مجدع يقودكم كتاب الله فاسمعوا وأطيعوا" ويتساءل ابن تيمية هل تجوز الثورة على الظالم أو من يكره الناس على الطاعة في المعاصي؟ ويجيب ابن تيمية على ذلك بالنفي. فهو لا يسوغ الثورة لأنها تؤدي إلى الفتن والفوضى والهدم. ويأمر بالاحتمال مع الصبر. واستقراء التاريخ يبين أن الفتنة لا تقيم عدلا ولا ترفع ظلما. ويرا أن الطريق الصحيح يكون بالإرشاد والموعظة الحسنة والكلمة الحق تقل للظالمين من الحكام أو أولى الأمر مهما يكن ما يترتب عليها من قتل أو سجن أو تعذيب. وهو يرى أن من واجب العلماء إرشاد الحكام الظالمين بكلمات الحق والعدل. وذلك في نظره أخص أعمالهم وألزمها تمشيا مع قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر". وهو لا يرى مطلقا الدعوة إلى الفتنة أو الثورة لأنها لا تغير من الظلم شيئا فضلا عن أنت نتائجها وخيمة. وهو يورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ولي

عليه وال قرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره مما يأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة". 9- منع التقرب إلى الله بالموتى وزيارة قبور الصالحين: لا يسوغ ابن تيمية التقرب إلى الله بالموتى من الأنبياء والصالحين. لأن التقرب إلى الله بالاقتداء بهم والنهج على منهاجهم وليس لأجل أن يستغاث بهم أو يطلب الدعاء منهم؛ يؤدي إلى الشرك بالله ... وإذا كان الطلب من الموتى ولو كانوا أنبياء ممنوعا خشية الشرك، فالنذر للقبور أو لسكانها والعاكفين عليها نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان وفي ذلك يقول: "ومن اعتقد أن في النذر للقبور نفعا أو أجرا فهو ضال جاهل ... ومن يعتقد أنها باب الحوائج إلى الله وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ العمر، فهو كافر مشرك يجب قتله". ويعلق الشيخ محمد أبو زهرة على هذا الرأي لابن تيمية والحكم بالكفر بأنه مغالاة دفعته إليها حدة الجدال ولو أنه اقتصر على أنه ضلال لا كفر لما كان في ذلك تطرف ولا مغالاة "محمد أبو زهرة 1977: 323". أما بالنسب لزيار قبور الصالحين فهو يرى أن زيارتها للاتعاظ جائز بل مندوب إليه لأنها عبرة واعتبار وتذكرة واستبصار. أم القصد إلى زيارة قبر رجل صالح بعينه أو نبي بعينه فإن ذلك لا يجوز ... والأساس الذي بنى عليه المنع هو الأساس الذي بنى عليه عدم دعاء الميت لأنه يرى أن ذلك يؤدي إلى الوثنية والشرك. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يتخذ قبره مسجدا حتى لا يزار ولذلك دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها. فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقد خالف أبو حامد الغزالي وأبو محمد بن قدامة. ابن تيمية في رأيه بمنع زيادة القبور لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور". "محمد أبو زهرة 1977: 322-324". ويتفق الشيخ محمد أبو زهرة مع ابن تيمية في عدم زيار قبور الصالحين ولكنه يختلف معه بالنسبة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم اختلافا تاما لأن زيارة قبر نبي الوحدانية استشعار لحقيقتها وتقديس لمعناها ... كما أن الناس يزورون قبر الرسول على مر العصور إلى يومنا هذا. ومع ذلك لا ينظر إليه أحد نظرة عبادة أو وثنية "المرجع السابق: 326".

وفاته

وفاته: يقول الشيخ محمد أبو زهرة "1977: 90": إن ابن تيمية توفي في سجن القلعة في دمشق في العشرين من شوال عام 728هـ عقب مرض لم يمهله أكثر من بضعة وعشرين يوما. وكان عمره سبعة وستين عاما ويذكر أحد الباحثين المسلمين في رسالة علمية له عن ابن تيمية أنه توفي في العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ 1328م. وذلك نقلا عن ابن كثير "البداية والنهاية ج14 ص135" "انظر: صبري المتولي: ص18". ويتفق مع هذا الباحث في تحديد تاريخ وفاة ابن تيمية المستشرق الفرنسي هنري لاوست إذ يذكر أن وفاة ابن تيمية في كانت في العشرين من ذي القعدة عام 728هـ "هنري لاوست: 301". ودفن في مقابر الصوفية خارج مدينة دمشق وسط حشد ضخم من مودعيه قدر بمائتي ألف رجل وخمسة عشر ألف امرأة "صبري المتولي: 18 نقلا عن دائرة المعارف الإسلامية". وكان الحزن عليه عميقا في كل مكان وما وصل خبر وفاته إلى بلد إلا صلى عليه في جميع جوامعه خصوصا أرض مصر وسوريا والعراق. ويقول المؤرخون إن الحياة توقفت في دمشق فأغلقت الأسواق وحضر ناس من كل الأوساط لتشييع الجنازة. وانفعل بعض الناس إلى حد أن شرف بعضهم ماء غسله. ويروى أن بعض الناس دفع خمسمائة درهم ثمنا للطاقية التي يلبسها. وكان الزحام شديدا على نعشة وكان الناس يلقون على النعش مناديلهم وعمائمهم للترك. وخرج الناس من جميع أبواب المدينة، من باب الفرج حيث مرت الجنازة ومن باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية. ودفن في مقابر الصوفية خارج المدينة بجوار قبر أخيه شرف الدين "هنري لاوست 300-301".

ابن خلدون وآراؤه التربوية

7- ابن خلدون وآراؤه التربوية: 722هـ-808هـ 1322م-1406م يعتبر ابن خلدون من أئمة علماء العرب ومن أشهر علماء المسلمين الذين تعددت شهرتهم حدود بلادهم وطوقت الآفاق. وقد ولد عبد الرحمن بن خلدون 732هـ - 1322م في تونس وتوفي 808هـ - 1046م في القاهرة، ومقبرته لا تزال موجودة حتى الآن. ودرس العلم وحصله على أيدي علماء كثيرين. وإلى جانب اشتغاله بالعلم اشتغل بالسياسة وخاض غمارها وجرب المصائب والمؤامرات والحروب كان لا يستقر في مكان واحد. فقد أمضى ما يقرب من ثلث حياته "24" سنة في تونس وثلث آخر في المغرب والأندلس وثلث ثالث في الشام والحجاز ومصر. وقد وصف مصر بأنها حاضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك. وتقلد بعض الوظائف بينها خطة المظالم أي القضاء، وصار وزيرا وسفيرا وخطيبا ومدرسا ودرس بالجامع الأزهر أستاذا وشيخا من شيوخ رواق المغاربة فيه. وسافر بعدها لأداء فريضة الحج وعاد إلى القاهرة وتولى منصبه الذي يشغله من قبل وهو القضاء المالكي الذي تولاه في مصر أكثر من مرة. وقد نشأ ابن خلدون في أسرة جمعت بين العلم والرياسة والسلطان. فقد تولوا في تونس مراتب عليا في الدولة وشاركوا في الكثير من حروبها دون أن تنقطع صلتهم بالعلم والأدب. وفي ظل هذه البيئة العائلية كما يقول ساطع الحصري تولد في نفسه نزعتان قويتان: حب المنصب والجاه من ناحية وحب الدرس والعلم من ناحية أخرى. وقد كانت حياة ابن خلدون مليئة بالهموم فقد هلك أبواه في الطاعون الجارف الذي اكتسح وطنه وقضى على كثير من العلماء والشيوخ وكان عمر ابن خلدون آنذاك 17 عاما، وهكذا حرم من والديه في ريعان الشباب. لم يعرف

الاستقرار طول حياته فقد كانت مليئة بالقلاقل وكانت أشد صدمة عليه ما حدث لزوجته وولديه وبناته الخمس عندما كانوا في طريقهم إليه من المغرب إلى القاهرة فغرقت بهم السفينة ولم ينج منهم إلا ولداه. حدث ذلك في وقت كان فيه ابن خلدون لا يحسد عليه. وفي ذلك يقول: "ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد. وصلوا من المغرب في السفن "السفينة" فأصابها قاصف من الريح فغرقت وذهب الموجود والسكن والمولود فعظم المصاب والجزع ورجع الزهد". ولابن خلدون مؤلف معروف بعنوان كبير هو كتاب "العبر وديوان المتبدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" وهو في سبعة أجزاء أشهرها الجزء الأكبر الذي يعرف بالمقدمة وهي مقدمة ضخمة يرتبط بها من سلطان. وكانت هذه المقدمة منهلا لطلاب العلم في كل فن وعرض فيها لكل أنواع العلوم المعروفة في عصره وعرض فيها للعلوم والتعليم في الأمصار الإسلامية وعرض لآرائه في التربية والتعليم. وقد نقل ابن خلدون في مقدمته عن كثيرين غيره وهو يورد فيها عبارات توضح ذلك مثل ... ويعبر الحكماء عن كذا أو على ما ذكره الحكماء، وتبين في كتب الحكماء ... وهكذا. ويشير ابن خلدون في مقدمته أيضا إلى جالينوس في كتاب منافع الأعضاء وينقل عنه وقوله الذي يقارن فيه بين الإنسان والحيوان: "ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته. وجعل للإنسان عوضا عن ذلك ... الفكر واليد فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر. والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوان للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف عن المخالب الجارحة ... كما يشير إليه وغيره في كتب التشريح. ويشير إلى بطليموس في كتاب الجغرافيا وينقل عنه تقسيمه للأرض كما يعتمد على المشاهدة والأخبار والمتواترة

الآراء التربوية لابن خلدون: الواقع أن كثيرا من الآراء التربوية التي عبر عنها ابن خلدون وردت عند من سبقوه في الكلام عن هذا الموضوع من أمثال ابن سحنون القابسي والغزالي وغيرهم. وسنعرض في السطور التالية لأهم آرائه في التربية. كلمة التربية: وردت كلمة "التربية" عند ابن خلدون مرة واحدة في كلامة في الفصل "34" عن مراتب الملك والسلطان وألقابها يقول "ص235": "إن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتم المشاكلة في الاستعانة". قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} وواضح أن المقصود بالتربية هنا معناها اللغوي الذي ينصرف إلى التنشئة وليس إلى معناها الاصطلاحي الذي نقصده عادة. العلم والتعليم طببيعي في العمران البشري: يقول ابن خلدون: إن الإنسان مدني بالطبع، وهي عبارة ترددت قبل أكثر من ثلاثة قرون ونصف عند ابن مسكويه في كتاب تهذيب الأخلاق وعند العالم الإسلامي الشافعي الكبير أبي الحسن الماوردي "توفي 450هـ" في كتابه "أدب الدنيا والدين ص:132" وعند الراغب الأصفهاني "توفي 502هـ" في كتابه الذريعة إلى أحكام الشريعة، وتفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. وهو ما سبق أن أشرنا إليه. يقرر ابن خلدون أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري ذلك لأن الإنسان تميز عن الحيوان بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيئ لذلك التعاون وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله

تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه فهو مفكر في ذلك كله دائما لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمنا من الصنائع. وهو يقرر في فصل آخر أن الصنائع تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته وأن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة. الرحلة في طلب العلم: يقرر ابن خلدون أن الرحلة في طلب العلم مفيدة ولا بد منها لما فيها من اكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومعاشرة الرجال، وقد أشرنا إلى تفصيل كلامه عن ذلك في موضع سابق. القرآن أصل التعليم: ذهب ابن خلدون كسابقيه إلى القول بأن القرآن هو أول العلوم التي يتعلمها الصبي، فالقرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل من الملكات. اختلاف الأمصار الإسلامية في تعليم القرآن: يقارن ابن خلدون بين الأمصار الإسلامية في تعليم القرى، واختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط. وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله واختلاف حمله القرآن فيه، ولا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه، ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن تجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدرسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو1 وهذا

_ 1 أي يعلمونهم الكتابة من حيث هي على الإطلاق لا رسم فقط واختلاف حملة القرآن فيه كما يفعل أهل المغرب.

هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك ورأسه، ومنبع الدين والعلوم وجعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجود الخط والكتاب، ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى التشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما. وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا كما حصل من ذلك التعليم الأول، وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد العلم. أما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن، واستظهار الولدان إياه، ووقوفهم على اختلاف رواياته، وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبعا لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، واستقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما بلغنا ولا أدري بم عنايتهم منه. والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن التشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون على انفراده، كما نتعلم سائر الصنائع، يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة، وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة كما أن البشر

مصروفون عن الإتيان بمثاله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العرب، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام. وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل، إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقتصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا. تقديم تعليم العربية وتأخير تعليم القرآن: "طريقة ابن العربي". يشير ابن خلدون إلى طريقة ابن العربي في تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم وتأخير البدء بتعليم القرآن بعد أن يكون المتعلم قد تعلم العربية وهي وسيلته في فهم القرآن. ويقول ابن خلدون في تفصيل هذه الطريقة "ص507": "ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وابدأ. وقدم اللغة العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس قال: "لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة. ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين. ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة". ثم قال: "ويا غفلة أهل بلادنا أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمره غيره أهم عليه" ثم قال: "ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه". ونهى مع ذلك أن

يخلط في التعليم علما إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط ويمتدح ابن خلدون هذه الطريقة ويعتبرها مذهبا حسنا في التعليم لكنه يستدرك فيقول: إن العادات المتبعة في التعليم لا تساعد على اتباع هذه الطريقة والأخذ بها لأن العرف درج على البدء بتعليم القرآن. وفي تفسير ذلك يقول "ص507-508": "ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب. وخشية ما يعرض للولد من جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح التشبيبة فألقته بساحل البطالة. فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المطلب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه، سبحانه". تعليم اللغة أساس لتعليم سائر الفنون: اعتبر ابن خلدون تعليم اللغة أساسا لتعليم سائر الفنون، وهذا صحيح لكنه قال: إن اللغة الدارجة أهون على التعبير ولذا نصح بتعليم اللغات الدارجة إلى جانب اللغة العربية وهو رأي غريب لا يمكن أن نوافقه عليه لما يؤدي ذلك إلى التقليل من شأن اللغة العربية التي تعتبر الربط الثقافي والفكري لكل البلاد العربية. تعليم اللسان العربي: يؤكد ابن خلدون في تعليم اللسان العربي على كثرة حفظ كلام العرب وأشعارهم والتمرن على النسخ على منوالهم حتى يصبح اللسان العربي سليقة: يقول ابن خلدون: "المقدمة: ص526" "ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة "ملكة اللسان العربي" ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم

الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتها رسوخا وقوة. ويحتاج مع ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب، وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال. ويشير ابن خلدون إلى أن مجرد معرفة قوانين النحو والإعراب لا تكون ملكة اللسان العربي ويشرح ذلك فيقول: "فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابه سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا تجد كثيرا من يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية "المقدمة ص725". ويقارن بين أهل الأندلس وأهل المغرب في تعليم اللسان العربي فيقول: "أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في كثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم

فتنقطع النفس لها ويستعد إلى تحصلها وقبولها". وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب إلا أن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته، وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان، وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علما بحتا، وبعدوا عن ثمرتها "المقدمة ص528" وقد امتدح كتاب سيبويه لأنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل لأنه مملوء بأمثال العرب وأشعارهم، كما امتدح طريقة أهل الأندلس التي أشرنا إليها لأنها أقرب إلى تعليم هذه الملكة من الاهتمام بكلام العرب وأشعارهم وأمثالهم. الفلسفة صناعة باطلة: اعتبر ابن خلدون الفلسفة صناعة باطلة لأن الفلاسفة يزعمون أنهم يعرفون كل شيء والعالم أوسع من أن يحاط به. سمو التعليم النظري: ردد ابن خلدون ما ذهب إليه أفلاطون من سمو تدريب العقل على الجسم فاعتبر ابن خلدون التعليم النظري أرقى من تعلم الفنون العملية لأن التعليم النظري يقوم على العقل. وهو رأي وإن ساد الفكر التربوي ردحا من الزمن إلا أنه بمعايير الفكر التربوي المعاصر لا يمكن قبوله. التعليم في الصغر أشد رسوخا: يردد ابن خلدون ما قاله الغزالي وغيرهم من المربين المسلمين أن التعليم في

الصغر أشد رسوخا وأنه أصل لما بعده. الشدة مضرة بالمتعلمين: يكرر ابن خلدون ما أكده سابقوه من الرفق بالمتعلم لأن الشدة مضرة به، وقد بين ضرر الشدة على المتعلم وما يترتب عليه من آثار ضارة فتسلمه إلى التبلد والكذب والخبث. ويقول ابن خلدون "المقدمة ص508-519": "ومن أحسن مذاهب ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: "يا أحمد إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه. فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له حيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، واخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجلس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمر بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. التدرج في التعليم: نادى ابن خلدون بما نادى به سابقوه من مراعات التدرج في تعليم الصبيان ومراعاة قدراتهم. إلا أنه يتميز عن سابقيه فيما ذهب إليه بالقول مبدأ التكرارات الثلاثة في عملية التعليم. وتشير هذه التكرارات إلى ثلاث مراحل متدرجة في التعليم. يكون التعليم في المرحلة الأولى إجمالا وفي الثانية تفصيلا وفي الثالثة تعميقا بدراسة ما استشكل في العلم ووسائل الخلاف فيه. ويقول ابن خلدون في ذلك: "إن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا

فشيئا وقليلا قليلا. يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية ضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن، وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر أن له ما هناك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه". ويعيب ابن خلدون على المعلمين الذين يجهلون الطريقة الصحيحة للتعليم أنهم يقدمون للمتعلم في أول عهده بالتعليم المسائل الصعبة أو المشكلة مما يعوق تعليمه. يقول ابن خلدون: "وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ... فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا. ويكون المتعلم في أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال بالأمثلة الحسية. عدم إطالة الفواصل الزمنية بين الدروس: نادى ابن خلدون بعدم إطالة الفواصل الزمنية بين دروس العلم الواحد حتى لا ينسى المتعلم ما سبق أن درسه.

الاختصارات في العلوم مخلة بالتعليم: من الإشارات التربوية الهامة لدى ابن خلدون أيضا قوله بأن الاختصارات المؤلفة في العلوم تعتبر في نظره مخلة بالتعليم. وهي نظرة سليمة من ابن خلدون لما يترتب على هذه الاختصارات من إخلال بالعلم. التعليم يكون بالمحاورة ولا الحفظ: يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب، ويشير إلى أن "ملكة العلم" إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضع العلم. وهو يعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئا ذا بال في العلم. وهو يشير في ذلك إلى الطريقة التي اتبعت في المغرب، فيقول في المقدمة "ص398". "وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حس التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان، ولم يتصل سند التعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب من شأنها ويحصل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من التصرف في العلم والتعليم، ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما آتاهم القصور إلا من قبيل "رداءة طريقة" التعليم وانقطاع سنده. وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك. ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما

يأتي فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها. فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك". وقد تردد هذا القول في القرن العشرين لدى بعض الباحثين الغربيين الذين قاموا بدراسات التعليم الحديث في المغرب وذهبوا إلى القول بأن الطفل المغربي بعد دراسته الأولى في المدارس القرآنية يذهب إلى المدرسة العامة الحديثة وهو يتمتع بقدرة فائقة على التذكر تنطفئ معها قدرتها على التخيل والتصور والتفكير الناقد1. والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوبا مفضلا مجديا في التعليم. يقول الزرنوجي إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار. وقد احتاط المربون المسلمون من سوء استخدام المناظرة والحوار بأن له بعض الشروط التي تجعل منه أسلوبا فعالا للتعلم والبحث العلمي من أهمها أن يكون هدف المناظرة الوصول إلى الحقيقة لا التضليل وحب الانتصار بالباطل. كما يشترط في المتناظرين الإلمام بموضوع المناظرة والتحلي بالهدوء وسعة الصدر وعدم التكلف وغيرة الصدر. ومع أن أسلوب المناظرة هو أقرب إلى الدراسات العالية فإننا نجده صورة مبسطة منه في أسلوب الحوار أو النقاش الذي يديره المعلم مع تلاميذه ليحفزهم على التفكير.

_ 1 نقلا عن: D. Wanger في دراسته التي قدمها إلى: The Annual Meetings Of The Middle East Studies Association: Symposium On Traditional Factors In Modern Morocco., Ann Arbor, Michigan, Nov. 1978

الفصل العاشر: التربية في الشرق العربي الإسلامي في العصور الحديثة

الفصل العاشر: التربية في الشرق العربي الإسلامي في العصور الحديثة مقدمة مدخل ... الفصل العاشر: التربية في الشرق العربي الإسلامي في العصور الحديثة مقدمة: تركنا البلاد العربية الإسلامية في العصور الوسطى وقد وصلت إلى قمة ازدهارها وعظمة مجدها وكانت مشعل الحضارة والعلم الذي أضاء عصر النهضة لأوربا ومن بعدها نهضتها الحديثة. وشهدت تلك الفترة نهضة في الفكر التربوي الإسلامي ونهضة في التعليم وإنشاء المدارس. ولكن لكل شيء إذا ما تم نقصان. وقد عجل بهذا النقصان سقوط الدولة الإسلامية فريسة للتتار والمغول في منتصف القرن الثالث عشر عندما سقطت لهم بغداد كعبة العلم والثقافة. وورثوا تراث المسلمين وخلفوهم في الحكومة. "وناهيك بؤسا وشقاء للإنسانية وخرابا للعالم أن تتولى قيادة العالم أمة جاهلة وحشية ليس عندها دين ولا علم ولا ثقافة ولا حضارة" "أبو الحسن الندوي: ص257". ولم يلبث أن ظهر الأتراك على المسرح العالمي كقوة حربية هائلة مكنتهم من السيطرة على الشعوب العربية منذ عام 1517م عندما استولوا على مصر وسوريا ومن بعدها امتدت سيطرتهم على بقية ربوع العالم الإسلامي. ولم تجد الشعوب الإسلامية غضاضة في الحكم التركي تحت شعار الإسلام بل وبعث الأمل فيها من جديد لإعادة مجد الإسلام على يد الأتراك. وكان الأتراك قد اتخذوا الهلال شعارا لهم من القرن الثالث عشر باعتباره رمزا دينيا وحربيا. ومن سوء حظ المسلمين أن الأتراك لم يحققوا هذا الأمل وشغلوا ببناء قوتهم العسكرية وتوسيع ملكهم حتى استنزفت قوتهم وانتهى بهم الأمر إلى الضعف والتدهور. وكان شر ما أصيبوا به جمود الحياة الفكرية والثقافية، وكانت النتيجة وخيمة على العالم الإسلامي إذ استسلم لفترة من النوم العميق امتدت إلى ما يقرب من أربعة قرون. وكان حال العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر أسوأ مما كان في القرن الثالث عشر، وهذا يعني أن العالم الإسلامي كان متأخرا بست

قرون. وكانت أحوال التعليم بالطلب انعكاسا لهذا التأخر. فقد كانت متأخرة أيضا بنفس الدرجة كما سيتضح فيما بعد. وأصيب الإسلام وهو روح الأمة الإسلامية بالجمود والركود وتحولت إيجابياته إلى سلبيات، وأصبح شعارا أكثر من عمل. وتوقفت اللغة العربية عن النمو ونافستها التركية فغلبت عليها العجمي. ولم يعد القرآن دستور المسلمين الحيوي بقدر ما كان كتابا يقرأ على القبور ويكتب بماء الذهب بحروف جميلة على ورق مصقول وهو ما اشتهر به الأتراك. ونضب معين الفكر لم يعد مجاله إلا المجادلات الكلامية حول المسائل الشكلية والموضوعات الفقهية الفرعية. ويمكن أن توصف الفترة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالمية الأولى بأنها كانت فترة من عدم الرضا عن واقع العالم الإسلامي وما آل إليه الحال من الانحطاط. وفي هذه الفترة تعالت الدعوات بأنه لا صلاح لحال المسلمين إلا بتجديد الإسلام وإصلاح العقيدة والعودة إلى منابع الإسلام وأصوله، وظهرت في العالم الإسلامي روح الجهاد الوطني الديني التي قادها العلماء المسلمون الوطنيون من أمثال محمد بن عبد الوهاب الذي أول صيحة لليقظة الإسلامية في العصر الحديث وكان طليعة الحركة السلفية التي كان لها دور في التجديد الإسلامي. كما كانت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 بمثابة ناقوس الخطر الذي نبه العالم الإسلامي وفتح عينه على الفجوة الحضارية الخطيرة بين الشرق والغرب. كما أنها أيضا كانت نذيرا بما يتوعد العالم العربي الإسلامي في مستقبله من وقوعه تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي والإنجليزي وفرض التجزئة عليه. ولم تكن الحملة الفرنسية أول من أيقظ العالم العربي فقبل الحملة بعشرين عاما تقريبا علا صوت محمد بن عبد الوهاب في الحجاز. وكان كما أشرنا أول صوت ينادي بتجدد الإسلام وتصحيح العقيدة، ويؤكد أنه لا مخرج للمسلمين مما هم فيه من تخلف إلا بالعودة إلى أصول دينهم الحنيف. وبصرف النظر عما يقال من تقليل دور الحملة الفرنسية في التجديد الثقافي في مصر والشام في العصور الحديثة فلا شك أنها كانت دافعا قويا لهذا

التجديد. لقد كان المضمون التربوي للحملة الفرنسية مضمونا حضاريا وثقافيا. كان لما قام به نابليون من إحلال اللغة العربية محل التركية والمصريين محل الأتراك والمماليك في الحكومة أكثر من مغزى. وقد تميزت الفترة خلال الحكم التركي العثماني باتجاهات سلبية وإيجابية كان لها تأثير بعيد المدى على التطور الحضاري للبلاد العربية. فعلى الجانب الإيجابي كانت هناك الدعوة إلى تجديد الإسلام وتصحيح العقيدة وهي ما تمثل في الحركة السلفية التي بدأها محمد بن عبد الوهاب وتبعه فيها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. وعلى الجانب السلبي كانت هناك دعوات التغريب والتشكيك الفكري والدعوات الشعوبية وهو ما سنفصل الكلام عنه في السطور الآتية:

الحركة الإصلاحية السلفية والتعليم

1- الحركة الإصلاحية السلفية والتعليم: شهدت البلاد العربية ابتداء من النصف الثاني من القرن الثامن عشر انتفاضة ضد الوجود العثماني والضعف والتخلف الذي سيطر على العالم الإسلامي وقد امتدت هذه الحركة خارج البلاد العربية. وكانت حركة إصلاحية تجديدية محافظة. فهي محافظة لأنها دعت إلى العودة إلى المصادر الأساسية للإسلام وهي القرآن الكريم والسنة الإسلامية. وتجديدية في دعوتها لتجديد الإسلام وتصحيح العقيدة وتخليصها مما علق بها من أوهام وأباطيل تحول دون الفهم الصحيح للدين. كما دعت إلى فتح باب الاجتهاد وإحياء الشخصية الإسلامية على أساس الإخاء الإسلامي وتوحيد الاتجاهات الإسلامية بين المسلمين وجعل اللغة العربية صالحة لأن تكون لسان العالم الإسلامي. وقد عرفت هذه الحركة بالسلفية أيضا لأنها تصدر عن السلف الصالح من أمثال ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية. جاءت أول خطوة في هذه الحركة المباركة في العصور الحديثة من قلب الجزيرة العربية قادها محمد بن عبد الوهاب من الحجاز سنة 1758 فكانت تعبيرا صادقا عن أصالة الإسلام. فمن هذه الأرض الطيبة بدأ ومن هذه الأرض الطيبة

أيضا قامت حركة تجديده. وكانت حركة رائدة تمثلت بها الحركة الإصلاحية والإسلامية التي تلتها في العالم الإسلامي، كالحركة السنوسية في ليبيا، والحركة المهدية في السودان، والدعوة إلى الجامعة الإسلامية التي قادها جمال الدين الأفغاني ومن بعده تلميذه محمد عبده وتلميذ الشيخ محمد رشيد رضا. وكانت هذه الحركة الإصلاحية بمثابة المناخ الفكري الذي قاد حركة النضال ضد الاستعمار في الوطن العربي فيما بعد ففي مصر قاد عمر مكرم الحركة الإسلامية الوطنية في مصر ضد الفرنسيين وضد الوالي التركي خورشيد حتى عزله وأعلن أن من حق الشعب عزل الحاكم إذا ظلم. وكانت دعوة جريئة تذكرنا بقوة وعظمة المسلمين الأوائل. وفي ليبيا إلى جانب الحركة السنوسية كان هناك عمر المختار الذي قاد مقاومة الاستعمار الإيطالي في ليبيا وعبد القادر الجزائري وعبد الرحمن بن باديس في الجزائر أيضا. ومنهم محمد عبد الله الشوكاني الداعية الإسلامي في اليمن ومحمود شكري الألوسي في العراق وخير الدين التونسي في تونس. وقد امتد صدى هذه الحركة خارج البلاد العربية إلى أصقاع أخرى في البلاد الإسلامية فقاد المجاهد "شامل" حركته ضد السيطرة الروسية في القوقاز. وكان من أهم أساليب الحركة السلفية الإصلاحية في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها التربية والتعليم فكان محمد بن عبد الوهاب يحارب الأمية في سبيل نشر الدعوة ويلزم أتباعه بتعلم القراءة والكتابة مهما كانت سنه، ومهما كانت منزلته حتى الأمراء كانوا يقرءون مثل بقية الناس. فصار منهم العلماء المعلمون أمثل الإمام سعود الكبير الذي كان يلقي دروسا في التوحيد إلى جانب أعمال الإمارة. وكانت طريقته في التعليم تقوم على ما ذكره في إحدى رسائله. "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع رسائل: الأولى العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية العمل به. الثالثة الدعوة إليه الرابعة الصبر على الأذى فيه". وقد ساند هذه الدعوة الوهابية الإصلاحية الأمراء السعوديون. ثم جاء

الملك عبد العزيز آل سعود فوحد البلاد وأنشأ المملكة العربية السعودية وأقام أسسها على تعاليم الإسلام والدعوة إلى العدل والسلام. وفي ليبيا كانت الحركة السنوسية تركز نشاطها التربوي في الزوايا التي كانت تنشئها ولا سيما في برقة. وكانت الزاوية "تعتبر معهد علم ومركز إصلاح ومحكمة للتقاضي وفض الخصومات ومدرسة لتحفيظ القرآن لكريم وتربية الرجال وإعداد الدعاة للطريقة وحارسا لحفظ البلاد من غارات الأعداء حيث كانت كل زاوية تضم مسجد للصلاة ومدرسة قرآنية كما يلحق بها مضيفة خاصة لاستقبال الضيوف للقيام بواجب الضيافة طيلة ثلاثة أيام كما جرى به العرف عند العرب من أهل البلاد". وقد انشرت الزوايا في كل أنحاء ليبيا حتى أصبح لكل قبيلة زاوية أو أكثر يرسلون إليها أولادهم لحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ العلوم الدينية واللغوية، وكان المتفوقون منهم يواصلون الدراسة العالية بالزاوية البيضاء وهي الزاوية التي كانت تعتبر بمثابة المركز الرئيسي للزوايا. إلا أن هذه الزواية أسلمت زعامتها فيما بعد إلى زاوية الجغبوب التي أنشئت سنة 1856م. وسميت بذلك الاسم نسبة إلى مدينة الجغبوب على الحدود الشرقية لليبيا مع مصر. وكان جمال الدين الأفغاني رائد الجامعة الإسلامية وروحها الدافق وكان مدرسة تربوية تخرج فيها قادة الإصلاح كما كانت خطبة ذات أثر كبير على الجماهير. وقد كان داعية إلى التحرر من الظلم والاستبداد. وكانت كلماته مؤثرة في أعماق القلوب مدوية في النفوس. لقد خاطب المصريين بقوله: إنكم معشر المصريين قد أنشأتم في الاستعباد وربيتم في حجر الاستبداد وتناولتكم أيدي الفرس واليونان والرومان تسومكم حكوماتهم الحيف والجور والذل وأنتم صابرون صامتون.. انظروا إلى أهرام مصر ومشاهدة سيوة وحصون دمياط فهي شاهد بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم. هبوا من غفلتكم واصحوا من سكرتكم وعيشوا كباقي الأمم أحرارا سعداء. وكان لخطبه وكتاباته أثر كبير في اليقظة الفكرية الإسلامية وحمل الدعوة من بعده تلميذ الشيخ الإمام محمد عبده. وجاهد في سبيلها في مصر وسوريا

وفي لبنان وتونس والجزائر وفي كل مكان ذهب إليه. وكان يرى أن الطريق الوحيد للنهضة والتجديد في العالم الإسلامي هو التربية، وفي ذلك يقول: "إنني أدعو إلى التربية لأنني عرفت أية ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال". وسار في هذا الطريق الذي رسمه محمد عبده المسلمون في المغرب العربي منهم عبد الحميد بن باديس في الجزائر فقد أنشأ من خلال جمعية العلماء المسلمين التي تزعمها حوالي 300 مدرسة حفظت اللغة العربية والإسلام في الجزائر. ووصل الصدى إلى الأصقاع البعيدة في الهند فنجد هناك أحمد خان ينشئ جامعة عليكرة في الهند وشلبي النعماني أنشأ ندوة العلماء في لكنو بالهند ومن روادها أبو الحسن الندوي العالم الإسلامي المعروف. وقد اتجهت ندوة العلماء في نفس الطريق فقامت بإنشاء مدرسة كبرى للعلوم في مدينة "لكنو" كان عملها الأساسي هو "نشر المعارف وإعادة مجد اللغة العربية في بلاد الهند". كما كان السيد أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة وسيد أمير علي وشلبي النعماني ومحمد إقبال في مقدمة الدعاة الذين آمنوا بأن التربية والثقافة هي الوسيلة الأساسية لإزالة آثار التخلف الإسلامي.

دعوات التغريب والتشكيك الفكري

2- دعوات التغريب والتشكيك الفكري: شهدت هذه الفترة دعوات وحركات مختلفة نشطة للتغريب والتضليل والتشكيك الفكري في الإسلام ومحاربة اللغة العربية وهي الدعامة الإساسية للدين. ومن هذه الحركات حركة التبشير والحركة الصهيونية والدعوة إلى العامية بدل الفصحى واستخدام الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية. وسنفصل الكلام عن كل واحدة منها في السطور التالية: الحركة التبشيرية ونشاطها التربوي: كانت الحركة التبشيرية التي شهدها العالم العربي في ظل الحكم العثماني التركي صورة أخرى للحروب الصليبية انتقلت فيها المعركة إلى داخل الوطن

العربي الإسلامي نفسه. وقد ارتبطت هذه الحركة بنشاط المبشرين من الأوربيين، والأمريكيين في القرن التاسع عشر في مصر والشام وما قاموا به من إنشاء المدارس والمستشفيات لخدمة أغراضهم. وقد أصبح التبشير حركة عالمية منذ سنة 1830 عندما أقره البابوات ورسموا خطته ورصدت له الدول الأوربية الأمور الضخمة للإنفاق عليه. وقد سار العمل التبشيري في طريقين: 1- طريق الاحتلال العسكري، وليس من قبيل الصدفة أن تقوم فرنسا باحتلال الجزائر في نفس السنة التي أصبح فيها التبشير حركة عالمية. 2- طريق العمل التربوي وكان في تأثيره أقوى مضاء من السيف، وقد عملت الحركة التبشيرية على ترويج الأفكار التي تخدم مصالح التبشير وفي مقدمتها التشكيك في القيم العربية الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي وفي فضل العرب والمسلمين على الحضارة العالمية. وقد تغذت في نشر أفكارها على الشبهات والمزاعم التي أثارها المستشرقون. وقد اهتمت حركة التبشير بإنشاء مدارس رياض الأطفال ومدارس البنات بصفة خاصة ليسهل التأثير على عقول النشء. وقد عبرت عن هذا أحسن تعبير إحدى المبشرات في كلامها عن مدرسة تبشيرية للبنات بالقاهرة قالت: "في المدارس بنات الباشوات والبكوات وليس هناك مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ التبشيري، وليس هناك طريق إلى حصن الإسلام أقصر من هذه المدرسة". وقد عبرت بصراحة عن هذا الهدف القرارات التي اتخذتها مؤتمرات التبشير العالمية التي عقدت في العواصم الإسلامية والأوربية في النصف الأول من القرن العشرين. فقد ورد في هذه القرارات فيما بتعلق بالتربية والتعليم ما نصه: "يجب أن يكون العمل في كل ميدان موجها نحو النشء الصغير من المسلمين. ويجب أن يقدم هذا العمل على كل عمل عداه في الأقطار الإسلامية ذلك أن بزوغ روح الإسلام في النشء الحديث يبدأ من فترة مبكرة من عمره ومن

ثم يجب أن يؤتى بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقلهم ويتم إبعادهم عن القوالب الإسلامية فتقسوا عقليتهم وأخلاقهم. إن التعليم التبشيري ما يزال أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين". ومن الإشارات ذات المغزى عن دور الاستعمار في مناهج التربية في العالم الإسلامي إشارة تقول: "إن السياسية الاستعمارية لما قبضت على برامج التعليم في المدارس الابتدائية حذفت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا فلا للدين كرامة. ولا للوطن حرمة". وإلى جانب المدارس اهتمت الحركة التبشيرية بإنشاء المستشفيات لعلاج الطبقة الفقيرة وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم بهدف التأثير على نفوسهم وأفكارهم. وكانت مالطة أول مركز للبعثات التبشيرية في الشرق الأوسط منذ مطلع القرن التاسع عشر. وكانت بيروت ثاني مركز وفيه تركزت الحركة التبشيرية ونشأت بها جامعة الجيزويت الكلية السورية الإنجيلية "الجامعة الأمريكية" سنة 1866 التي لعبت دورا تربويا بارزا. قد خرجت منذ نشأتها الآلاف ومنهم الكثيرون الذي تولوا مراكز القيادة في البلاد. وكان منهم رؤساء الوزارات والأساتذة ورجال الفكر والصحفيون والقضاة والأطباء. وإلى جانب الكلية السورية الإنجيلية أنشئت كلية القديس يوسف "الكلية الفرنسية" سنة 1873. كما كان للجمعيات التبشيرية في لبنان مدارسها الابتدائية والثانوية. وكان إنشاء جميعة المقاصد الخيرية الإسلامية التي تأسست في بيروت بأوقافها الخاصة من أراض وعقارات في عهد مدحت باشا الوالي التركي رد فعل للمدارس التبشيرية. إذ كان الغرض من إنشائها تهيئة السبل لإنشاء مجالس إسلامية تعنى بشئون التعليم الخاص بالطائفة الإسلامية على غرار المجالس المسيحية التي تتعهد شئون التعليم لدى الطوائف المسيحية. وكانت مصر تقوم بتزويد هذه المدارس بالمدرسين والكتب. وفي سوريا وجدت الجمعية السورية التي أنشئت سنة 1847 بتوجيه وحماية المبشرين

الأمريكيين وحملت لواء الدعوة القومية العربية لتفت في عضد الإسلام. وكان في المغرب مدارس أنشأتها الإرساليات اليهودية والمسيحية منذ أوائل القرن التاسع عشر. ووجدت المدارس التبشيرية في السودان في النصف الأول من القرن العشرين، وقد جاهر غوردون البريطاني بضرورة تنصير السودان. ووجدت المدارس التبشيرية في إستانبول في قلب الدولة العثمانية نفسها. ذلك أن السياسة الداخلية للدولة العثمانية منحت الطوائف الدينية من غير المسلمين امتيازات خاصة في كل ما يتعلق بالشئون الدينية، واعتبرت شئون التعليم من الأمور المرتبطة بالأديان فخولت الطوائف المسيحية والإسرائيلية حق تأسيس المدارس وإدارتها. وكانت فرنسا أنشط الدول الأجنبية في التبشير لأنها اعتبرت نفسها حامية الكوثوليك كما اعتبرت روسيا القيصرية نفسها حامية الطائفة الأرثوذكسية وأسست لها مدارس في الشام. وكانت الإرساليات الإنجيلية أنشطها، كما كان هناك مدارس أنشأتها الإرساليات الألمانية والإيطالية والإيرلندية والدانمركية. وفي مصر وجدت الحركة التبشيرية مجالا خصبا في ميدان التربية في القرن التاسع عشر. ففي سنة 1840 أنشأ الآباء العازاريون أول مدرسة فرنسية لهم في الإسكندرية وكذلك أنشأت الجمعية الإنجيلية البروتستانتية مدارس لها. وتبعهم الفرير والإرسالية الأمريكية البروتستانية. وتبعهم بعد ذلك الآباء الجزويت وحتى عام 1871 كانت توجد 160 مدرسة أجنبية تضم 5591 تلميذا. ولم تكن هناك أي قيود على هذ المدارس بل إن الأغرب من هذا أن المدارس كانت تلقى التشجيع الأدبي والمادي من الحكام المصريين. فكانت تقدم لهم الهبات وتمنح الأراضي وكميات سنوية من القمح وتدفع لها أجور ومرتبات معلمي اللغة العربية وتقدم لها مجانا الكتب الدراسية ومساعدات مالية سنوية أيضا. الحركة الصهيونية: شهد العالم الإسلامي في العصور الحديثة أكبر مؤامرة تدبر ضده وتعتبر امتداد للحروب الصليبية التي انتهت بالنصر للمسلمين. وأخذت الحركة

التبشيرية صورة أخرى للحروب الصليبية انتقلت منها المعركة إلى قلب الوطن العربي الإسلامي ذاته وقد فصلنا الكلام عن ذلك في تناولنا للحركة التبشيرية. وكانت الصهيونية صورة أخرى للحروب الصليبية استهدفت إيجاد جسم غريب دائم يعمل على استنزاف طاقات العالم العربي الإسلامي ويشتت جهوده ويحول دون تقدمه. وقد عملت الحركة الصهيونية منذ نشأتها على يد هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر على تزييف حقائق الإسلام وتشويهها في كل الموسوعات التاريخية والثقافية في الغرب كما شوهت الصورة العربية في أعين الأوربيين وغيرهم. وقد انتهى الأمر بالصهيونية إلى خلق كيان لها في الوطن العربي. ووجودها يفرض على البلاد العربية تحديا حضاريا خطيرا تلعب التربية والتعليم الدور الرئيسي في تحديد النتيجة النهائية له، فقد أثبت هذا التحدي أن العبرة ليست بكم البشر وأن على الدول العربية أن تأخذ بالأسلوب الحضاري الشامل إذا كان عليها أن تثبت وجودها أمام هذا التحدي الخطير. الدعوة إلى العامية واستخدام الحروف اللاتينية: بدأت الدعوة إلى العامية بدل الفصحى في مصر في يناير 1893 عندما ألقى المهندس الإنجليزي وليم ويلكوكس محاضرة في نادي الأزبكية كان موضوعها: لماذ لا توجد الآن لدى المصريين قوة الابتكار؟ زعم فيها أن قوة الابتكار تأتي من قوة الفكر التي يرثها الفرد عن أبيه ومن قوة الخيال التي يرثها عن أمه. وقال: إن أهم عائق يمنع المصريين من الابتكار أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة العربية الفصحى، ولو أنهم ألفوا وكتبوا بالعامية لصاروا مبتكرين. واستدل على ذلك بأن الإنجليز لم يكونوا مبتكرين عندما كانوا يؤلفون باللاتينية فلما اختاروا لغة الفلاحين وكتبوا بها صاروا مبتكرين. وضرب مثالا بشكسبير وبيكون. وقد قام ويلكوكس بترجمة الإنجيل إلى اللغة العامية المصرية، كما ألف كتبا بالعامية المصرية أيضا وكان يوزعها مجانا على الناس. وللأسف أن الدعوة العامية رغم ما فيها من شر مستطير لا يخفى على العين فإنها قد وجدت آذانا مصغية تستجيب لها. وقد ردد سلامة موسى في مجلة "الهلال" دعوة "ويلكوكس" إلى العامية

وأثنى على ويلكوكس كأحد الإنكليز المخلصين لمصر شغل بها كثيرا حتى أصبحت همومه مصرية أكثر منها إنجليزية. وكانت الدعوة إلى العامية رد فعل للشبهات التي أثيرت حول قدرة اللغة الفصحى على الوفاء بمتطلبات العصر من ناحية وأنها لغة لا تستخدم في التخاطب من ناحية أخرى، كما كانت هناك دعوة أخرى مغرضة ترمي إلى إحلال الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية. وهي دعوة سلمت منها البلاد العربية الإسلامية وأثبتت أنها قادرة على تحدي كل محاولات التغريب والتشكيك. وللأسف أن الدعوة إلى استخدام الحروف اللاتينية قد وجدت من أبناء العربية من يناصرها فهذا عبد العزيز باشا فهمي أحد شيوخ مجمع اللغة العربية يقدم إلى المجمع في أوائل شهر مايو سنة 1943 اقتراحا بتيسير الكتابة العربية عن طريق استخدام الحروف اللاتينية بدل العربية. وكتب أنيس فريحة، أستاذ اللغة العربية في الجامعة الأمريكية ببيروت "يطالب بعض الناس بتبني الحروف اللاتينية تسهيلا للقراءة وتخفيفا لنفقات الطباعة ونحن من المؤمنين بهذه النظرية ولا نرى حلا للكتابة إلا بتبني الحرف اللاتيني وضبط الكلمات فيه مرة واحدة". وكان دعاة استخدام الحروف اللاتينية هم دعاة استخدام العامية بدل الفصحى وفي ذلك يقول أنيس فريحة أيضا: "إن الفصحى ليست لغة الكلام فلا يرجى منها أن تعبر عن الحياة بحلاوتها ومرارتها وقسوتها ولينها كما تستطيع العامية، الدليل ظاهر فإنك لا تستطيع أن تقول بالفصحى ما تقوله بالعامية وإذا نقلته إلى الفصحى أتى قاسيا جافا خلوا من العنصر الإنساني اللصيق باللغة". إن من الغريب أن يأتي هدم اللغة الفصحى من أناس تصدوا لخدمتها والعمل على رفعتها. ويبدو أن هذه الدعوة اختلطت بدعوات أخرى منها تبسيط اللغة العربية من حيث قواعدها وأسلوب كتابتها دون هجرها إلى غيرها، والارتقاء باللغة العامية لتقترب من الأدبية الفصحى، وقضية تعريب الكلمات الأجنبية بالعربية، وتقريب الفجوة بين اللغة الفصحى والعامية وتجديد الأدب العربي.

ظهور الدعوات الشعوبية: كان من أهم الملامح السلبية التي ظهرت في البلاد العربية في ظل الحكم التركي العثماني في القرن التاسع عشر الدعوات الشعوبية المختلفة. وكانت هذه الدعوات غريبة عن روح الإسلام فلا شعوبية في الإسلام وقد ظل طيلة ثلاثة عشر قرنا من الزمان سابقة لهذة الفترة يدعو إلى الأخوة البشرية والمساواة الإنسانية. فنجد الدعوة الطورانية أو الجامعة التركية التي كانت ترمي إلى سلخ تركيا عن الإسلام وبعث حضارتها الجاهلية القديمة لأن الإسلام -في نظرهم- لا يصلح شأنهم. ودعت إلى العودة إلى أسلافهم الطورانيين. فكعبتهم طوران ومثلهم الأعلى جنكيز خان وأمجادهم فتوحات المغول. وكان شعارهم إهمال الجامعة الإسلامية التي دعا إليها الأفغاني إلا إذا كانت خادمة للدعوة الطورانية. وهذا يعني أنهم أتراك أولا ثم مسلمون ثانيا. كما ظهر حزب تركيا الفتاة في نفس الاتجاه. وظهرت القومية في فارس أيضا وأخذ كثير من الفرس يبحثون عن دين فارس القديم كالزرادشتية أو المانوية أو المزدكية وغيرها. وظهرت أيضا الدعوة إلى الإقليمية الانفصالية كالدعوة إلى مصر الفرعونية ولبنان الفينيقية والعراق والآشورية، وفي المغرب العربي كانت الدعوة إلى الانتماء إلى الأصول العرقية للبربر. وهذه الدعوات كانت خطيرة على العالم العربي الإسلامي وعملت على بلبة الأفكار وتفتيت الوحدة الإسلامية كما ساعدت على تعميق التناقضات الفكرية والثقافية في البلاد العربية. وكان من أخطر القضايا التي عرفها العالم العربي آنذاك أيضا الدعوة إلى القومية العربية. إن الدعوى إلى القومية غريبة عن روح الإسلام لأن الإسلام كما هو معروف لا يعرف الشعوبية ولا التعصب العرقي. وقد جاء للناس كافة دون تميز في الجنس أو اللون أو الغنى أو الفقر. وجاء ليقرر أن الناس كأسنان المشط في المساواة ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. ومن المعروف تاريخيا أن الدعوة إلى القومية العربية لم تعرف طريقها إلى العرب إلا خلال القرن الماضي، وقد كان

دخول الفكرة القومية إلى العرب تحت عاملين رئيسيين: أولهما: سياسة التمييز الديني التي اتبعتها الخلافة التركية الإسلامية بين العرب والمسلمين وبناء على هذه السياسية عاملت تركيا غير المسلمين معاملة الأقليات الأجنبية. وعلى الرغم من الاعتراض الذي يمكن أن يوجه لهذه السياسة فإن المسيحيين العرب تمتعوا بميزات لم يكن يحظى بها إخوانهم من المسلمين العرب، وهي حقهم في إنشاء المدارس الخاصة بهم التي كانت تعلم باللغة العربية. هذا في حين أن المسلمين العرب كانوا تائهين في ظل النظام التركي الذي فرض اللغة التركية لغة للتعليم وكانت تدرس العربية كلغة أجنبية هامشية. ومن هنا يمكن أن نفهم السر في كون كثير من حملة مشعل الثقافة العربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر من غير المسلمين العرب. وقد ساعد ذلك من ناحية أخرى على تأجج الشعور القومي لدى المسيحيين العرب وأخذوا يبحثون عن الرباط الذي يربطهم بهذا الوطن الذي نبتوا على أرضه وبين أحضانه ترعرعوا ولكنهم يعاملون فيه من قبل تركيا معاملة الغرباء. وقد جاءتهم الإجابة من أوربا التي كانت تعيش في ذلك الوقت فترة تعرف في تاريخ أوربا بتكوين القوميات، وكان لهذه السياسة آثار تربوية بعيدة المدى على العالم العربي الإسلامي وهو ما سنعرض له عند الكلام عن السياسة التربوية للدولة العثمانية. العامل الثاني: يتمثل في حرب القوميات التي كانت تخوضها أوربا في القرن التاسع عشر وهو القرن الذي يلقب بقرن القوميات. فقد عمت أوربا موجة من الشعور القومي الذي يستند على أساس فكرة هيجل التي تقول بأن الدولة الحقة هي التي تتكون من قومية واحدة. نظرا لأن الدولة الأوربية لم تكن قائمة على هذا الأساس، وإنما على قوميات مجزأة بين دول مختلفة فقد بدأت نيران الحرب تضطرم بين هذه الدول من أجل تحقيق الفكرة القومية لها. وهكذا شهدت أوربا صراعا مريرا في سبيل تشكيل قومياتها وتحقيق الوحدة القومية لها. وفي هذا الوقت الذي كان يحتدم فيه الصراع كان المسيحيون يبحثون عن سند حقيقي يستندون فيه لتبرير وجودهم الغربي. وهكذا كانت فكرة القومية العربية فكرة خلابة بالنسبة لهم جذبتهم ببريقها وتحمسوا لها. وقد جاءتهم نتيجة اتصالهم

بأوربا من خلال الروابط الكنسية والدينية وكان في مقدمة النتائج التي ترتبت على ذلك تعريب الكنائس المسيحية العربية واستخدام اللغة العربية في الصلوات والطقوس والترانيم الكنسية. وهكذا دخلت فكرة القومية العربية إلى البلاد العربية في القرن التاسع عشر فقط على يد المسيحيين العرب. وقبل هذا القرن لم يكن لهذا المصطلح وجود بل إن شيوع استخدامه في العربية يرجع إلى هذا التاريخ الحديث. ومن هنا أيضا نكرر القول بأن فكرة القومية هي فكرة غريبة عن الثقافة العربية والإسلامية وتعتبر دخيلا عليها على الرغم من الترويج الكبير الذي تحمس له الكثيرون في السنوات الأخيرة، وقد ترتب على ذلك وجود كثير من الدعاوي التي أحدثت البلبلة في العقول واختلطت الأمور أمام أعين الكثيرين حتى المفكرين منهم لدرجة أننا نجد عالما مسلما كبير مثل ساطع الحصري على ما له من أفضال علمية كبيرة يؤلف كتابا بعنوان له معناه هو "العروبة أولا". إن الإسلام ينبغي أن يفهم لا على أنه دين فحسب، إنه نظام حياة اجتماعية تشمل المسلمين والمسيحيين على السواء باعتراف المنصفين من المسيحيين أنفسهم. ويقول منيف الرزاز في كتابه "معالم الحياة العربية الجديدة": إن المسيحيين العرب لم يكتسبوا صفتهم العربية إلا من خلال الإسلام فمن أين جاءهم اللسان العربي المبين الذي يتحدثون به ويكتبون ويؤلفون به؟ وعندما نقول اللسان فإننا نعني بذلك ما يرتبط باللغة من فكر ومعان باعتبارها الوعاء الثقافي وليست مجرد كلمات أو وسيلة للاتصال. يضاف إلى ذلك أن التراث المسيحي نفسه جزء لا يتجزأ من تراث الإسلام. وهكذا ينبغي أن نفهم الإسلام على أنه ثقافة تتكامل في جوانبها المختلفة تقوم في أساسها على اللغة العربية، وهو بهذا ينسحب على المسلمين وغيرهم على السواء ما داموا يعيشون على أرض وطن واحد يجمعهم انتماء مصيري يربط بينهم. السياسة التعليمية العثمانية في البلاد العربية: قامت السياسة التعليمية التي اتبعتها السلطات التركية العثمانية في

البلاد العربية على أساس جعل اللغة التركية اللغة الرسمية في دواوين الحكومة ولغة التعليم في المدارس وكان فرض اللغة التركية كلغة رسمية للحكومة مثارا لشكوى الناس وسخطهم لتعطل أمورهم ومصالحهم بسبب جهلهم باللغة التركية. فكان الضباط المتقاعدون في الجيش العثماني يقومون بتعليم اللغة التركية في المدارس القائمة في الولايات العربية الإسلامية. وكان التعليم في هذه الولايات تعليما تقليديا وكان يتم في الكتاتيب والمساجد والزوايا أو المدارس التي أنشئت بالجهود الفردية وغيرها. وهذه المعاهد التعليمية كانت تقتصر على تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ الدين، أي أنها اقتصرت على العلوم النقلية، وأهملت العلوم العقلية, ومن كان يريد إكمال تعليمه كان يرحل إلى الجامع الأزهر في مصر أو جامع الزيتونة في تونس. وفي العهد العثماني ظل التعليم التقليدي على حاله متروكا للجهود الأهلية والفردية والتطوعية ولم يعط التعليم الحديث أي اهتمام من جانب العثمانيين لفترة طويلة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل وعندما بدءوا يظهرون نوعا من الاهتمام به استخدموه لخدمة أغراضهم العسكرية. وكان للهزائم المتتالية للسلطنة العثمانية أمام الدول الأوربية رد فعل كبير على الاصطلاحات التعليمية والأخذ بالتعليم الحديث. فقد كانت الرغبة في بناء جيش حديث على غرار الجيوش الأوربية هي الدافع الرئيسي وراء إنشاء المدارس الحديثة في السلطنة العثمانية، ولذلك نجد أن المعاهد التعليمية التي أنشئت في بدء اليقظة الفكرية والسياسية في الدولة العثمانية؛ كانت كلها من نوع المدارس العسكرية المقتبسة من النظام الفرنسي. فقد كانت فرنسا آنذاك من أقوى الدول الأوربية، وكان الغرض الأساسي من إنشاء هذه المدارس تعليم الفنون العسكرية، وكان دخول العلوم الحديثة كالتاريخ والجغرافيا والعلوم والرياضة والطبيعة ضرورة استلزمها تعليم الفنون العسكرية في المراحل التعليمية المختلفة. وكانت هذه المراحل تتمثل في المدارس الابتدائية وكان يدرس بها اللغة التركية والتاريخ التركي إلى جانب اللغة العربية والدين الإسلامي والجغرافيا والرياضيات.

والمدارس الرشدية وهي مدارس حديثة أو عسكرية متوسطة مدتها ثلاث سنوات، وكانت اللغة التركية لغة التعليم بها وكان المعلمون من التراك غالبا. والمدارس الإعدادية العسكرية التي تقوم مقام المدرسة الثانوية، وأخيرا المدارس العسكرية الاختصاصية التي تقوم مقام المدارس العالية. وكانت هذه المدارس العالية موجودة في إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية وحدها، وأما المدارس الإعدادية والرشدية العسكرية فقد كانت موجودة في الولايات تحت الإدارة العثمانية وكان الطلاب يتمون الدراسة الرشدية والإعدادية في مراكز الولايات التي ينتسبون إليها، وبعد ذلك ينتقلون إلى عاصمة الدولة لإتمام دراستهم العالية في المعاهد القائمة فيها. وكانت الولايات العربية ترسل بعثات طلابية لمواصلة تعليمهم في المدرسة العسكرية العالية وكذلك للالتحاق بمدرسة العشائر التي كانت أيضا في عاصمة السلطنة في إستانبول وكان هدفها تعليم أبناء العشائر تعليما خاصا يؤهلهم لتولي بعض الخدمات العسكرية والمدنية. وهناك نقطة أخرى هامة تتعلق بالسياسة التعليمية للدولة العثمانية في البلاد العربية هي أن السياسة الداخلية للدولة العثمانية منحت الطوائف الدينية من غير المسلمين امتيازات خاصة في كل ما يتعلق بالشئون الدينية. وقد اعتبرت الدولة العثمانية شئون التعليم من الأمور المرتبطة بالأديان والمذاهب فخولت جميع الطوائف المسيحية والإسرائيلية حق تأسيس المدارس وإدارتها أيضا. وكانت هذه المدارس الطائفية بادئ الأمر من نوع المدارس الدينية حقيقة غير أنها تطورت بعد ذلك بسرعة وتحولت إلى معاهد تعليمية عصرية. وكانت هذه المدارس تسير على مناهج خاصة بها تختلف باختلاف أديان الجامعات ومذاهبها، ولا تمت بأي صلة إلى مناهج المدارس الحكومية واتجاهاتها. وكثيرا ما كانت تستلهم خططها ومناهجها من المدارس الأجنبية نفسها، وكانت الحقوق الممنوحة لهذه الطوائف تشمل "لغة التعليم" بهذه المدارس أيضا. فكان يجوز لكل طائفة أن تعلم أبناءها بلغتها وكان للمسيحيين العرب الحق في أن يعلموا في مدارسهم باللغة العربية. وقد أدت هذه السياسة العثمانية إلى نتائج غريبة بالنسبة للبلاد العربية، فقد ترتب عليها نشاط كبير في إنشاء المدارس الطائفية والأجنبية كما

أدت إلى مفارقات ثقافية بين العرب المسلمين وإخوانهم العرب المسيحيين: فقد انحصرت الفرص التعليمية أمام العرب المسلمين في الكتاتيب والمدارس القديمة أو المدارس الرسمية التي كانت تعلم باللغة التركية في حين أن إخوانهم المسيحيين أسسوا مدارس خاصة بهم وجعلوا اللغة العربية لغة التعليم بها. ولهذا السبب انتشر التعليم العربي الحديث بين المسيحيين قبل المسلمين. ولهذا السبب أيضا كان معظم الكتاب والمؤلفين والخطباء الذين ظهروا في الولايات العربية في العهد العثماني مسيحيين بالرغم من قلة عدد هؤلاء بالنسبة إلى المسلمين. وقد لعبت المدارس الأجنبية دورا تأثيريا مماثلا. فقد تأسست هذه المدارس في أول الأمر على أيدي الإرساليات الدينية والجماعات التبشيرية. وكانت كل إرسالية من هذه الإرساليات تعتمد على دولة من الدول الأجنبية، وتصبح بذلك واسطة لنشر لغة تلك الدولة بجانب تعليم العلوم المختلفة من جهة وتعلم اللغة العربية لاجتذاب العرب إليها من جهة أخرى. وكانت فرنسا أنشط الدول الأجنبية في هذا المضمار لأنها اعتبرت نفسها حامية الكاثوليك كما كانت روسيا القيصرية حامية الأرثوذكس وأسست لها مدارس في الشام وهو ما أشرنا إلى تفصيله في الكلام عن الحركة التبشيرية. وقد أشرنا إلى أن اللغة التركية كانت اللغة الرسمية في المدارس والدواوين في البلاد العربية باعتبارها لغة أصحاب السلطان. وكانت اللغة عربية تعيش غريبة في وطنها وكانت تدرس كلغة أجنبية حتى غلبت عليها العجمة. وقد استمر نفوذ اللغة التركية حتى أخذت البلاد العربية في الاستقلال عن الدول العثمانية. وكانت مصر أسبق الدول العربية في ذلك. ومع ذلك ظل نفوذ اللغة التركية فيها قويا واستمرت تدرس باهتمام حتى سنة 1888 عندما أصبحت لغة إضافية تدرس اختياريا لمن يرغب في دراستها. تطور التربية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء: للإسلام تاريخ طويل في إفريقيا وهو يرجع إلى القرن السابع الميلادي عندما انتشر الإسلام في شمال إفريقيا. وبعدها في القرن الثامن بدأ الإسلام في الانتشار في باقي أنحاء إفريقيا عن طريق التجارة في السودان والغرب الإفريقي

وشرق إفريقيا. وكان الطلاب الإفريقيون يغدون إلى الأزهر للتعلم. وكانت هناك مراكز إسلامية وحكام مسلمون، ومن أهم المراكز في غرب إفريقيا منذ القرن الرابع عشر الميلادي تمباكتو Timbuktu حيث كانت مركزا للتعليم الإسلامي وكان لها تأثير كبير على منطقة مالي وموريتانيا المعاصرة. وكانت هناك مراكز أخرى غيرها. وكانت هناك في غرب إفريقيا مراكز إسلامية طيلة قرون طويلة قبل إنشاء الجامع الأزهر عام 996م. مثل مدرسة القرويين في المغرب. وفي عام 1910 كان يوجد في غينيا guinea ما يقرب من 6400 مدرسة إسلامية تضم 27 ألف تلميذ، حيث لم تكن هناك أي مدارس أخرى غريبة "johnson: 1975 p223". ويروى أن المصلح الإسلامي من شمال نيجيريا عثمان بن فودي usuman dan fodio "1745-1817" قد رحل إلى النيجر عام 1774 لتلقي العلم على يد الشيخ جبريل عمر. "hiskett p.23": في عام 1977 أسس في كانو في نيجيريا معهد لتخريج معلمات اللغة العربية والعلوم الإسلامية "bray: p.85". بيد أن الشيخ أحمد بن حجر "ص77-87" ينسب الشيخ عثمان بن فودي إلى السودان ويقول إنه أحد أفراد قبيلة الفولا وهي من قبائل رعاة السودانيين وأنه بعد التقائه بعلماء الدعوة الوهابية في موسم الحج وبعد اعتناقه المبادئ التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الله الوهاب عاد إلى بلاده وأخذ يحارب البدع الشائعة بين عشيرته وقومه ويعمل للقضاء على بقايا الوثنية وعبادة الأموات التي كانت لا تزال مختلطة بالعقيدة الإسلامية في نفوس السودانيين وأخذ ينشر تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة ويذيع مبادئ الشيخ محمد بن عبد الوهاب فاستطاع أن يجمع حوله قبيلته في وحدة متماسكة برباط الدين المتين. وبعد ذلك ابتدأ حروبه سنة 1082م ضد قبائل الهوسا الوثنية وقضى على "مملكة غير" التي كانت تقع على مجرى النيجر. وما مضت سنتان حتى أقام مملكة "سوكوتو" في السودان على أساس من الدعوة الوهابية، ومدت رواقها على جميع الأقطار الواقعة بين "تمبكتو" وبحيرة "تشاد". وبقيت محافظة على استقلالها ووحدتها نحو قرن حتى استطاع الاستعمار الأوربي أن يقضي عليها.

ومع أن المدارس الغريبة بدأت تنتشر في إفريقيا لأسباب استعمارية معروفة فإنه توجد في بعض مناطق مالي وموريتانيا مدارس إسلامية أكثر من المدارس الغربية. وقد بذلت محاولات متعددة لتطوير المدارس الإسلامية وتحديثها وتدعيمها. ومن أشهر مراكز التعليم في إفريقيا جنوب الصحراء جامعة الخرطوم الإسلامية في السودان، والمعهد الإسلامي في داكار بالسنغال والمعهد الإسلامي للتعليم العالي في بوتلميت بموريتانيا ومركز التعليم الإسلامي في كانو بنيجيريا "BRAY: 1976 P.80". ويعتبر التعليم الإسلامي في الدول الإفريقية أداة تطوير المجتمعات الإفريقية ولا سيما تلك التي تحاول أن تتحرر من الاستعمار، وأن تبني اقتصادها ووحدتها القومية.

الفصل الحادي عشر: أعلام النهضة التربوية في الشرق العربي الحديث

الفصل الحادي عشر: أعلام النهضة التربوية في الشرق العربي الحديث محمد بن عبد الوهاب وآراؤه التربوية مقدمة ... الفصل الحادي عشر: إعلام النهضة التربوية في الشرق العربي الحديث سنحاول في السطور التالية أن نعرض لآراء بعض أعلام النهضة التربوية في الشرق العربي في العصور الحديثة وهم: محمد بن عبد الوهاب ورفاعة الطهطاوي وعلي مبارك والشيخ محمد عبده. 1- محمد بن عبد الوهاب وآراؤه التربوية: 1115هـ-1206هـ، 1703-1791م مقدمة: هو إمام مصلح حنبلي المذهب عاش في القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي. ولد في بلدة العيينة في نجد بشبه الجزيرة العربية عام 1703م وتوفي عام 1791م. ويذكر الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن ابن تيمية أن وفاته كانت عام 1887. وواضح أن هناك خطأ في التاريخ. تلقى أول تعليمه ببلدته التي ولد فيها ثم سافر إلى المدينة حيث واصل تعليمه وقد عاش في بغداد والبصرة عدة سنوات. ورحل إلى أماكن إسلامية أخرى منها كردستان وهمذان وأصفهان وقم. ثم عاد أخيرا إلى بلدة ومسقط رأسه حيث اعتكف عدة شهور. وبعدها خرج على الناس بدعوته الإصلاحية الجديدة التي عرفت بالدعوة الوهابية نسبة إليه، وهي دعوة سنية سلفية تقوم على التمسك بالقرآن الكريم وسنة رسوله الكريم وأقوال وأفعال الصحابة والسلف الصالح وتهدف إلى العودة بالدين الإسلامي إلى مساره الصحيح وتطهير العقيدة الإسلامية من البدع والخرافات والأوهام. وهي في هذا الأطار دعوة إسلامية إصلاحية سلفية محافظة. ويورد الشيخ أحمد بن حجر "ص51-52". قول الشيخ عمران رحمه الله مفتخرا بانتمائه إلى الوهابية ومشيرا إلى أهم مبادئها في الأبيات الآتية:

إن كان تابع أحمد متوهبا ... فأنا المقر بأنني وهابي وأنفى الشريك على الإله فليس لي ... رب سوى المتفرد الوهاب لا قبة ترجى ولا وثن ولا ... قبر له سبب من الأسباب أيضا ولست معلقا لتميمة ... أو حلقة أو دعه أو ناب لرجاء نفع أو لدفع بلية ... الله ينفعني ويدفع ما بي وقد لقيت في بدايتها مقاومة ومعارضة شأنها شأن أي دعوة إصلاحية جديدة. واضطهد صاحبها فخرج من بلدته إلى الدرعية مقر آل سعود وعرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها وتعهد بمناصرته ومؤازرته في سبيل الدفاع عن الدين الإسلامي الصحيح. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن ابن تيمية إن محمد بن سعود جد الأسرة الملكية السعودية. وكان صهر محمد بن عبد الوهاب وكان فارسا مغوارا قام بمغامرات حربية لنشر مذهب ابن تيمية وحمايته. وكان من أشد أنصار محمد بن عبد الوهاب. وقد عاون كل منهما الآخر. ولما مات الأمير محمد بن سعود وشيخ الدعوة محمد بن عبد الوهاب تعاهد أبناؤهما على مواصلة مسيرة أبويهم وواصلوا العمل والكفاح حتى سيطروا على مكة والمدينة. كان موسم الحج فرصة مناسبة لاستمالة الحجاج من مختلف البلاد الإسلامية إلى قبول الدعوة والعمل على نشرها في بلادهم بعد عودتهم إليها. من هؤلاء السيد أحمد، وكان هذا الرجل من أمراء الهند وذهب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج بعد أن اعتنق الإسلام سنة 1816م. وفي مكة التقى بالوهابيين وأصبح من دعاتهم. ولما عاد إلى وطنه سنة 1820 أخذ ينشر التعاليم الوهابية. وبعد مرحلة من الجهاد استطاع هو وأنصاره أن يقيم الدولة الإسلامية في البنجاب الذي سبق أن أشرنا إليه. وقد استطاع بعد عودته من الحج أن يقيم مملكة "سوكوتو" في السودان بين "تمبكتو" وبحيرة تشاد على أساس من الدعوة الوهابية. "أحمد بن حجر: ص78". ومنهم الإمام محمد علي السنوسي مؤسس الحركة السنوسية الذي اعتنق الدعوة الوهابية أثناء حجة, وبعد عودته

إلى الجزائر أخذ يبشر بها ويعمل على نشرها. في أواسط القرن التاسع عشر ثم غزت طرابلس بعد ذلك وانتشرت في شمال إفريقيا ثم مدت رواقها نحو الجنوب فتمكنت في السودان هذه الحركة السنوسية التي ناهضت الاستعمار في كل مكان. كما انتشرت هذه الدعوة المباركة بحضرموت وجاوة بواسطة السيد محمد رشيد رضا وتأليفه "جمعية الإرشاد" الداعية هناك إلى الكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات طبق مبادئ الشيخ محمد بن عبد الوهاب "المرجع السابق: 79-80". ومن الذين اقتفوا أثر الدعوة الوهابية الإمام محمد عبده في مصر الذي رجع إلى أصول تعاليم الدعوة الوهابية من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمن ابن تيمية إلى زمن محمد بن عبد الوهاب. ومن المعروف أن ابن عبد الوهاب كان تلميذا لابن تيمية وآمن بآرائه ومنهجه الإصلاحي السلفي التجديدي والذي أعاد الإسلام إلى طريقه الصحيح وخلصه من البدع والأوهام. ومن اتباع ابن تيمية أيضا الإمام الشوكاني في اليمن المولود عام 1172هـ وقد ألف كتابه القيم "نيل الأوطار" شرح فيه كتاب ابن تيمية "منتقى الأخبار". وقد عمل على نشر هذه الدعوة في بلاده رغم أنه لم يتلقاها عن ابن عبد الوهاب. وهكذا نرى أن الدعوة الوهابية كان لها أثر كبير في العالم الإسلامي وكانت الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله وتأثر بها زعماء الإصلاح في سائر الأقطار الإسلامية "المرجع السابق". وقد أخذت الدعوة الوهابية في الانتشار في شبه الجزيرة العربية وحققت نجاحا كبيرا لدرجة أن الدولة العثمانية وكانت المسيطرة على البلاد آنذاك شعرت بتهديد سيطرتها ونفوذها على الحجاز وخروجه من يدها وهو موطن الحرمين الشريفين. فطلب السلطان العثماني من محمد باشا والي مصر آنذاك إرسال جيوشه لمحاربة الوهابيين. بيد أنهم انتصروا على الحملة الأولى التي أرسلها محمد علي بقيادة الأمير طوسون. لكن محمد علي لم يستسلم وأعد جيشا قويا قاده بنفسه واستطاع أن يحقق النصر وأتم ابنه إبراهيم بقية الانتصار وهكذا هزمت قوة الوهابيين. إلا أن الدعوة نفسها بقيت في نفوس الناس الذين آمنوا بها وعملوا بتعاليمها وهي التعاليم الإسلامية الصحيحة. وقد لقيت الدعوة الوهابية المساندة والتأييد من جانب الأمراء السعوديين حتى جاء الملك عبد العزيز آل سعود فوحد البلاد وأنشأ المملكة السعودية وأقام أسسها على تعاليم الإسلام والدعوة إلى العدل والسلام. لقد كان للدعوة الوهابية أثر كبير في طبع الحياة الاجتماعية في البلاد ولعبت دورا هاما في تكييف معالم هذه الحياة ومظاهرها.

تأثير ابن تيمية

تأثير ابن تيمية: كان محمد بن عبد الوهاب شغوفا بالعلم ودرس على أيدي علماء أفاضل في العراق والشام كما كان أبوه نفسه من كبار علماء نجد. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن ابن تيمية: إن محمد بن عبد الوهاب عكف على دراسة كتب ابن تيمية في الاعتقاد والفقه وأمعن في فهمها وآمن بما جاءت به. وتحمس لها بل تعصب واشتد في تعصبه ودعا من حوله إلى اعتناق هذه الآراء. ويقول أحمد أمين في زعماء الإصلاح إن "محمد بن عبد الوهاب" اقتفى في دعوته وتعاليمه عالما كبير ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو ابن تيمية ويظهر أن محمد بن عبد الوهاب عرف ابن تيمية عن طريق دراسته الحنبلية فأعجب به وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب فكان ابن تيمية إمامه ومرشده وباعث تفكيره والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح. والواقع أن ابن تيمية له منزلة خاصة في شبه الجزيرة العربية بما فيها اليمن وقد أشرنا في مكان آخر إلى الإمام الشوكاني أعلم علماء اليمن وإمام أئمته الذي سار على نهج ابن تيمية ويقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن ابن تيمية: "وإذا كان السعوديون حنابلة فإنهم يعتبرون ابن تيمية الإمام بعد أحمد" "محمد أبو زهرة: ص531". إفساد العقيدة ضعف المسلمين: كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن السبب الرئيسي لضعف المسلمين في زمانهم هو فساد العقيدة وانحرافها عن مسارها التي سارت عليه في أول عهدها صافية نقية من أي شرك أو بدع أو خرافات. واتجه في منهجه الإصلاحي إلى العقيدة والروح لأنهما الأساس إن صلحا صلح كل شيء وأن فسدا فسد كل شيء. وقد عمل جاهدا في لين ورفق على حث قومه واستنهاضهم للرجوع إلى الإسلام الصحيح وترك البدع والخرافات التي كانت متفشية في عصره مثل النذور وتعظيم الأضرحة وزيارة القبور وما شابه ذلك. كما عمل على استمالة أمراء الحجاز والعلماء في الأقطار الأخرى إلى دعوته ويستثير هممهم للذود عن الإسلام وتخليصه من ضعفه وما علق به من شوائب والعودة به إلى مساره الصحيح حتى يصبح للمسلمين القوة والمنعة كما كانوا في عصورهم الأولى في ظل إسلامهم النقي الصحيح.

آراؤه وجهوده التربوية

أراؤه وجهوده التربوية: لم يتناول محمد بن عبد الوهاب الكلام عن التربية بمفهومها المهني شأنه شأن ابن تيمية. ومع ذلك كان مربيا كبيرا لجماهير شعبه وأتباعه ومريديه. فقد كان معنيا بصفة أساسية بإصلاح العقيدة الإسلامية وتخليصها من الشوائب التي علقت بها والعودة بها إلى مسارها الصحيح. وهو بهذا يدخل ميدان العمل التربوي من أوسع أبوابه. وسنتناول في السطور التالية بعض آرائه وجهودة التربوية. 1- نشر التعليم: عملت الدعوة الوهابية على نشر التعليم ومحو الأمية. وكان محمد بن عبد الوهاب في سبيل نشر دعوته يحارب الأمية ويلزم أتباعه بتعلم القراءة والكتابة مهما كان سنه ومهما كانت منزلته حتى إن الأمراء كانوا يقرءون مثل بقية الناس فصار منهم العلماء والمعلمون أمثال الإمام الأمير سعود الكبير الذي كان يلقي دروسا في التوحيد إلى جانب أعمال الإمارة. وكانت طريقته في التعليم تقوم على ما ذكره في إحدى رسائله: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية العمل به. الثالثة الدعوة إليه. الرابعة الصبر على الأذى فيه". وكان يعقد كل يوم عدة مجالس ليلقي دروسه في مختلف العلوم من توحيد وتفسير وحديث وفقه وأصول وسائر العلوم العربية. كما كان يخص طلبة العلم بالمحبة الشديدة وينفق عليهم من ماله ويرشدهم على حسب استعدادهم "أحمد بن حجر: ص28".

تثقيف العقول: كان للدعوة الوهابية أثر كبير في تثقيف العقول وتفتحها وتنورها ولم تحل الأمية القرائية بين أتباع محمد بن عبد الوهاب دون تشربهم للثقافة الإسلامية التي يبشر بها، فضلا عن أنه كان يعمل جاهدا على تعليم أتباعه القراءة والكتابة حتى يخلصهم من الجهالة والأمية القرائية. يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كلامه عن الدعوة الوهابية "وإنه من الحق علينا أن نقول كلمة حق وهي أن تعلق هؤلاء بآراء ابن تيمية وتشددهم فيها وحرص علمائها على بثها في نفوسهم كان سببا في أن وجد فيهم ثقافة مع أميتهم. ولم تكن هذه الثقافة لغيرهم من سكان الجزيرة العربية. ولما صار لهم السلطان في أكثر أصقاعها نشروا هذه الثقافة في سكان الحجاز. وقد كان الجهل بكل شيء مسيطرا عليهم حتى إذا تفتحت العقول واستيقظت الأفهام اتجهت الهمم لإنشاء المدارس ونشر الثقافة في البلاد". ويقول أحمد بن حجر "ص75": إن الدعوة عملت على نشر علوم الشريعة المطهرة من التفسير والحديث والتوحيد والفقه والسير والتواريخ والنحو وما إلى ذلك من العلوم، وأن الدرعية أصبحت كعبة العلوم والمعارف، يفد إليها طلاب العلوم في جميع الطبقات حتى قال المؤرخون: أصبح الراعي يرعى المواشي في الفيافي ولوح التعليم في عنقه. وبلغ من قوة انتشار التعليم وسريانه أن ظهر العلماء الراسخون وألفوا الكتب القيمة في مختلف العلوم.

رفاعة الطهطاوي وآراؤه التربوية

رفاعة الطهطاوي وآراؤه التربوية مدخل ... 2- رفاعة الطهطاوي وآراؤه التربوية: 1801-1873م ينتسب الطهطاوي من ناحية أبيه إلى الحسين بن فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. وترجع تسميته بالطهطاوي إلى بلدته طهطا في صعيد مصر وقد ولد بها عام 1801م. ويؤخذ مما كتبه عن نفسه أن أجداده كانوا من ذوي اليسار لكن الدهر أخنى عليهم. وقد تهيأت له في طفولته ثقافة أزهرية حتى قبل أن يدخل الأزهر إذ قرأ بعض المتون الأزهرية على أخواله ومنهم بعض علماء الأزهر كالشيخ عبد الصمد الأنصاري والشيخ أبو الحسن الأنصاري والشيخ فراج الأنصاري. وعندما توفي والده قدم إلى الأزهر وانتظم في الدراسة به. ودرس على أيدى علمائه من أمثال الشيخ حسن العطار العالم اللغوي والشاعر الكاتب الذي خص الطهطاوي بعنايته لما لمسه فيه من النبوغ. وكان الطهطاوي يتردد على منزله لينهل من علمه ويشترك معه في الاطلاع على الكتب العربية التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر. ولما أكتمل تعليم الطهطاوي اشتغل بالتدريس في الأزهر ثم سافر سنة 1826 بتزكية من الشيخ حسن العطار مع البعثة التي أوفدت إلى فرنسا ليكون إماما لها، وهناك تعلم الفرنسية ودرس أصول الترجمة طيلة خمس سنوات. واشتغل بها بعد عودته إلى مصر. ولعل أهم حدث في حياته بعد عودته من البعثة هو نفيه إلى الخرطوم سنة 1850 ويقال: إن لكتابه "تخليص الإبريز في أخبار باريز" صلة بنفيه إذ إن الكتاب يحوي آراء وأفكارا تحررية لا ترضي حاكما مستبدا مثل الخديوي عباس وكان الكتاب قد طبع للمرة الثانية في أوائل عهده. لكن الطهطاوي يقول في تفسير سبب نفيه: إنه سافر إلى السودان بسعي بعض الأمراء بضمير مستتر بوسيلة نظارة مدرسة الخرطوم. ويبدو من الأشعار التي نظمها أن الطهطاوي كان متألما لنفيه ويصور الأمر على أنه وشاية فيقول: وما خلت العزيز يريد ذلي ... ولا يصفى لأخصام لداد لديه سعوا بألسنة حداد ... فكيف صغى لألسنة حداد رحلت بصفقة المغبون عنها ... وفضلي في سواها في المزاد وما السودان قط مقام مثلي ... ولا سلماي فيه ولا سعادي وقد قضى الطهطاوي في السودان أربعة أعوام كانت قاسية على نفسه

لاغترابه عن أسرته وأهله، وبعد عودته من السودان عين ناظرا لمدرسة الحربية بالقلعة ومعها نظارة قلم الترجمة والمحاسبة والهندسة والملكية والتفتيش والعمارة. ثم ألغيت المدرسة الحربية وقلم الترجمة وما معها وعين عضوا في قومسيون المدارس ووكل إليه الإشراف على صحيفة روضة المدارس التي أنشأها علي مبارك سنة 1870، وكانت مجلة علمية أدبية اجتماعية. وكان للطهطاوي فضل كبير في حركة الترجمة والنشر فقد كان رائدا لها. وبفضل جهوده أنشئت مدرسة الترجمة سنة 1835م التي عرفت بمدرسة الألسن فيما بعد وصار ناظرا ومديرا لها. وقد كتب الطهطاوي وترجم كثيرا وألف عدة كتب من أهمها: تخليص الإبريز في أخبار باريز: وهو كتاب مؤلف وصف فيه رحلته لباريس منذ مغادرته مصر حتى عودته إليها. وقد وصف فيه أحوال فرنسا وأخلاق أهلها وعاداتهم وعلومهم وفنونهم وأساليب حكمهم ومعيشتهم. مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية: وهي مجموعة دراسات في الآداب والأخلاق وقد وصف فيها مصر وحضارتها كما ضمت دراسات قيمة في الآداب من ثمار الكتب العربية والفرنسية ودراسات في الأخلاق والمواعظ. المرشد الأمين في تربية البنات والبنين: وهو كتاب ضمنه آراء في التربية والتعليم مما سنعرض له بالتفصيل فيما بعد. كما كان له الفضل في نشر العلوم والمعارف بحمل الحكومة على طبع طائفة من أمهات الكتب العربية على نفقتها مثل: تفسير الفخر الرازي ومعاهد التنصيص وخزانة الأدب ومقامات الحريري وغير ذلك.

آراؤه التربوية

آراؤه التربوية: يعتبر الطهطاوي أول من كتب بتوسع عن التربية في العصور الحديثة في العالم العربي. وكان في كتاباته عنها متأثرا بما كتبه سابقوه عن التربية الإسلامية وردد آراءهم كما كان لدراسته في فرنسا وإقامته بها أثر واضح في آرائه. والتربية في نظره تعني تنمية الأعضاء الجسمية والعقلية وهي طريقة تهذيب النوع البشري ذكرا كان أو أنثى ليتحصل له أسباب السعادة والسيادة. "محمد عمارة: 1973 ج2 ص385". تعميم التربية واجب: يرى الطهطاوي ضرورة تعميم التربية وشمولها لجميع أبناء الأمة ذكورا وإناثا على السواء وفي ذلك يقول: "بالجملة فتربية أولاد الملة وصبيان الأمة وأطفال المملكة ذكورا وإناث من أوجب الواجبات" "المرجع السابق ص249". ويضرب المثل بتربية أمة اليونان القديمة المشهورة بالحكمة في قديم الزمان والتي كانت تحسن تربية أبناء ملوكها غاية الإحسان كما كانت تحسن تربية أطفالها وصغارها على القوة والشجاعة. ويشير إلى تربية الإسكندر الأكبر بقوله: "ترشح بتهذيب أستاذه أرسطو إلى أن ملك الدنيا وهزم في كل الممالك الملوك والعسكر". كما يشير إلى التربية الأوربية في مساواتها بين تربية الأولاد والبنات وهو يشيد بالتربية عند العرب القدماء وعنايتهم بالتربية على الشجاعة والبطولة. مراعاة ميول المتعلم: آمن الطهطاوي بضرورة مراعاة ميول المتعليم وتوجيهه وفق هذه الميول إلى دراسة العلوم التي تناسبه، وهذا التوجيه التعليمي يتأتى بعد أن ينتهي المتعلم من دراسة العلوم الابتدائية والتجهيزية "الثانوية" وبعدها يظهر ميله إلى الخصوصيات التي تناسبه من الصنائع والفنون. وهو يحث أهل الخير أن يساعدوا من يخرج من مجال التعليم ببضاعة رابحة على نيل الوظائف الأهلية العمومية الكافية لقوام معاشهم وانتعاشهم.

تحدث الطهطاوي عن أنواع التعليم العام ومراتبه فقسمها إلى ثلاثة أنواع: تعليم أولي أو ابتدائي وتعليم ثانوي تجهيزي وتعليم عال كامل انتهائي "المرجع السابق ص387". التعليم الأولي الابتدائي: وهو في نظره تعليم عام لجميع الناس ينتفع به أبناء الأغنياء والفقراء على السواء ذكورهم وإناثهم. وهو "عبارة عن تعلم القراءة والكتابة ضمن تعليم القرآن الشريف والنحو ومبادئ الحساب والهندسة". وهو يعتبر "التعليم الأولي ضروريا لسائر الناس يحتاج إليه كل إنسان كاحتياجه إلى الخبز والماء" وهي عبارة تردد صداها عنه طه حسين فيما بعد عندما نادى بأن التعليم حق لكل إنسان كالماء والهواء. التعليم الثانوي أو التجهيزي: وهو يعتبر تعليما أكثر صعوبة من سابقة، ولذلك "فهو في الغالب لا يلتفت إلى البراعة فيه غالب الأهالي" وينبغي للحكومة أن ترغب الأهالي وتشوقهم إليه نظرا لأهميته. في هذا التعليم في نظره يكون تمدين جمهور الأمة وكسبها درجة الترقي في الحضارة والعمران. وأنواع هذا التعليم كثيرة فيما ينبغي أن يشتغل به أبناء الأهالي منه المهم فالأهم كالعلوم الرياضية بأنواعها والجغرافيا والتاريخ والمنطق وعلم المواليد الثلاثة "أي الحيوان والنبات والمعادن" والطبيعة والكيمياء وإدارة الملكية وفنون الزراعة والإنشاء والمحاضرات وبعض الألسنة التي يعود نفعها على الدولة. وقد يبدو غريبا على رجل مثل الطهطاوي الذي يعرف اللغات الأجنبية أن يضع تعليمها في آخر القائمة. وهو يرى أن يكون التعليم الثانوي كثيرًا منتشرًا في أبناء الأهالي القابلين له الراغبين فيه فيتاح لهم التعليم ليكونوا من الدرجة الوسطى وهو بهذا ترك التعليم الثانوي اختياريا لمن أراد وكان قادرًا على الاستفادة منه.

التعليم العالي: هو ما يسميه درجة العلوم العالية، ويقصد به اشتغال الإنسان بعلم مخصوص يتبحر فيه بعد تحصيله علوم المبادئ والتجهيزات "أي علوم الابتدائي والثانوي" ويضرب أمثلة لذلك بعالم الفقه والطبيب والفلكي والجغرافي والمؤرخ. ويطالب الطهطاوي طالب هذا النوع من التعليم بأن "يجول في أصوله وفروعه غاية الجولان حتى يكون كالمجتهد فيه". وهو يعتبر تعليما معدا لأرباب السياسات والرئاسات وأهل الحل والعقد في الممالك والحكومات. ولذلك يذهب الطهطاوي إلى أن يقتصر هذا النوع من التعليم على أناس قلائل اشترط فيهم الطهطاوي أن يكونوا من أصحاب الثروة واليسار وهو أمر قد يبدو غريبا من الطهطاوي إلا أنه يبرر ذلك بأن الغنى لا يضر تفرعه للعلوم العالية بالمملكة. ويستطرد قائلا: "فمن الخطر على من له صناعة يتعيش منها وينتفع بها الناس أن يترك هذه الصناعة ليدخل في دائرة معالي المعارف التي لا تصلح أن تكون له بضاعة ولا ينبغي أن يرخص للتلاميذ المتعلمين العلوم الأولية والثانوية أن ينتظموا في سلك أرباب المعارف القصوى إذا كانت في حقهم قليلة الجدوى". وهذه العبارة الأخيرة للطهطاوي يمكن أن يفهم منها أنه يجوز أن يلتحق بالتعليم العالي من كان قادرا على الاستفادة منه وهو رأي تربوي سليم بمعايير العصر.

أخلاق المعلمين والمتعلمين

أخلاق المعلمين والمتعلمين: يورد الطهطاوي في كلامه عن أخلاق المعلمين مما رواه الثعالبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون". وهو يذهب مذهب جمهور علماء المسلمين في جواز أن يأخذ المعلم أجرا على التعليم استنادا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى" ويورد قول بعض العلماء إنه ينبغي للمعلم أن يرغب المتعلمين في التحصيل ويدلهم على مكانته ويصرف عنهم الهموم المشغلة لهم ويهون عليهم مؤنته ويذكرهم بما حصله من الفوائد والغرائب وينصحهم في الدين فبذلك يستنير قلبهم ويزكو علمهم "المرجع السابق ص738-739". وهو يردد آراء سابقيه ممن كتبوا في التربية الإسلامية فيقول إن صلة المعلم بتلاميذه يجب أن تقوم على الحب وأن يجريهم منه مجرى أبنائه وأن يكون بهم عطوفا وعليهم صبورا لما يبدو منهم من سوء السلوك. وهو يورد مختلفة الآراء في العقاب ويتشدد في عدم ضرب التلاميذ لأن الضرب مضر بهم. فضلا عن أنه خروج على حدود الشرع، وأجاز الضرب للأب إذ يجوز له أن يضرب ابنه لتأديبه. وهو في هذا يخالف من كتب قبله عن التربية الإسلامية وأباحوا الضرب للمعلم تحت شروط متشددة كما سبق أن أشرنا. وهو يكرر ما ذهب إليه الغزالي من الإذن للصبي باللعب دون إجهاد وفي بعض الأوقات. ويكرر نفس عباراته بأن يكون لعبا جميلا غير متعب لهم، ليستريحوا من كلفة الأدب. ويكرر قوله عن فوائد اللعب بقوله بأنه رياضة تروح النفس وتحرك الحرارة الغريزية وتحفظ الصحة وتنفي الكسل وتطرد البلادة وتبعث النشاط وتزكي النفس، فإن النفس تمل من الدءوب في الجد وترتاح إلى بعض المباح من اللهو "محمد عمارة: 1973 ص393". ويؤكد الطهطاوي على ضرورة احترام الصبي لأستاذه وأن يدعو له كلما شرع في قراءة درس وبعد الانتهاء منه، كما أوجب الطاعة على الصبي لأستاذه إلا في معصية الخالق إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وعلى الصبيان أن يسمعوا أقوال معلمهم وأن ينتصحوا بها.

طريقة التعليم

طريقة التعليم: يشير الطهطاوي في طريقة التعليم بالنسبة للمتعلم إلى بعض المبادئ التي سبق أن قررها سابقوه منها أن يبدأ المتعلم بالعلوم الأهم وألا يخرج المتعلم من علم إلى غيره إلا بعد أن يجيده وأن يقسم الدرس إلى أقسام حتى يسهل استيعابه وحفظه واعتبر المناظرة والمطارحة أجدى في تحصيل العلوم من التكرار. ويجب على المتعلم أن يأخذ العلوم عن أساتذتها. ويحذر الطهطاوي من استخدام الكتب إلا في علم الحديث. تعليم المرأة: ينظر الطهطاوي إلى المرأة على أنها أجمل ما صنع الله القدير وهي قرينة الرجل في الخلقة والمعينة له في تدبير أمره والحافظة لأطفاله والقائمة بأمر عياله والمسلية له في أيام حياته. وهي تمتاز عن الرجل باللين واللطف والرخاوة، ويعتبر الطهطاوي أن التربية أساس صلاح المرأة ومن صفات كمالها. وترفع قدرها في نظر الرجل، والتعليم يزيل عنها سخافة العقل والطيش الذي يصيب المرأة الجاهلة. كما أن التعليم يمكن المرأة من العمل على قدر قوتها وطاقتها. وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل. فالعلم يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة. ويرد الطهطاوي على التخوف من تعلم المرأة يقول: "إن التجربة في كثير من البلاد قضت أن نفع تعليم البناب لا ضرر فيه" ويستعين أيضا بما روي في كتب الأحاديث وما كان في زمن الرسول من تعليم النساء والتعليم الذي يليق بالبنات في نظره هو القراءة والكتابة والحساب وبعض الصنائع كالخياطة والتطريز. وهو يرد على من ذهب على تحريم تعليم القراءة والكتابة والحساب وبعض الصنائع وأنها مكروهة في حقهن لما قد يؤدي إليه تعليمها من إساءة استخدام، بأن ذلك لا ينبغي أن يكون عمومه. ويضرب أمثلة بمن كان يعرف القراءة والكتابة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من النساء في كل زمان. ويرجع التشدد في عدم تعليم المرأة إلى المبالغة في الغيرة عليها وفي ذلك يقول: "وليس مرجع التشديد في حرمان البنات من الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيا ما كانت في ميدان الرجال تبعا للعوائد المحلية المشوبة بحمية جاهلية، ولو جرب خلاف هذه العادات لصحت التجربة" "المرجع السابق: ص294".

على مبارك وآراؤه التربوية

على مبارك وآراؤه التربوية مدخل ... 2- علي مبارك وآراؤه التربوية: 1823-1893م يعتبر علي مبارك "أبا التعليم المصري" الحديث، وباسمه ترتبط أعظم المحاولات لإعادة التعليم المصري إلى أصوله الإسلامية، وبعد أن جاء في تنظيمه الحديث، غريبا على الشعب وعن النظم التعليمية التي عرفها عبر تاريخه الطويل. وهو مع زملائه -الشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الله باشا فكري والشيخ محمد عبده- يمثلون أركان النهضة العلمية في مصر في تلك الفترة. وقد ولد علي مبارك سنة 1823 في برنبال إحدى قرى الدقهلية في دلتا مصر ودرس في الكتاب وكافح ليواصل دراسته حتى التحق بالمهندسخانة وأكمل تعليمه فيها. وبعدها سافر إلى فرنسا في بعثة لمواصلة الدراسة التي استمرت هناك طيلة خمس سنوات. وكان سفره إلى فرنسا في عهد محمد علي باشا وعاد في عهد عباس الأول وكان عهد عباس هذا عهد انكماش في التعليم إذ لم يكن يرضى عن الحركة العلمية في البلاد بل كان همه بناء القصور لا فتح المدارس بل ولا الاحتفاظ بالموجود فألغى الكثير منها وخفض ميزانية التعليم بدرجة كبيرة وكان أميل إلى تعليم أولاد الأتراك دون المصريين. فعهد إلى علي مبارك في إدارة البقية الباقية القليلة من المدارس "أحمد أمين ص206". وكان علي مبارك بعد عودته إلى مصر قد تقلد عدة وظائف منها وظيفة ضابط الجيش وناظر لمدرسة المهندسخانة ووصل إلى أرقى منصب يحلم به عندما عين ناظرا لديوان المدارس أي وزيرا للمعارف آنذاك. لقد توالت على "علي مبارك" أيام البؤس وأيام النعيم، وكانت الحالة في مصر غير مستقرة. وكل الموظفين وخاصة كبارهم رهن بإشارة الحاكم ورهن بما يحاك من دسائس فيوما يرضى فيرفعه إلى السماء ويوما يغضب فينزله إلى الحضيض. والبيت الحاكم منشق على نفسه. إذا تقرب أحد إلى بعضه غضب عليه بعض الآخر. ويرضى محمد علي باشا وإبراهيم باشا عن الشيخ رفاعة

الطهطاوي. فإذا جاء عباس غضب عليه وأخرجه من إدارة مدرسة الألسن وعينه ناظرا لمدرسة ابتدائية تنشأ في الخرطوم. ويرضى عباس الأول عن "علي مبارك" ويقربه إليه في تنفيذ أمور كثيرة فإذا جاء سعيد باشا غضب على "علي مبارك" وأعاد الشيخ رفاعة الطهطاوي وقربه إليه. وأراد سعيد باشا أن يتخلص من "علي مبارك" فأرسله مع الفرقة الحربية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا. وهناك في تركيا في الأستانة والأناضول أقام فيها نحو سنتين لقي فيها عناء كثيرا احتمله في صبر وثبات واستطاع من خلال هذه المدة أن يتعلم اللغة التركية ويجيدها. وبعد عودته إلى مصر من تركيا كانت حياته مزيجا من السعادة والشقاء يوظف أحيانا ويطرد أحيانا ويعمل أحيانا بالأعمال الحرة تاجرا مرة ومهندسا مدنيا تارة أخرى. ويصل به الملل والسخط أحيانا إلى التفكير في العودة إلى أهله في برنبال ليعمل عمل الفلاحين ويعيش معيشتهم وعلى الله العوض فيما تعلم. ولكن الحظ لم يلبث أن ابتسم له، ويأتي إسماعيل باشا إلى الحكم ويسعى إلى إعادة الحياة العلمية ويتوسع فيها، واستقر الحال بعلي مبارك وكان هذا العهد أبرك عهوده، وأخصبها. وعمل "علي مبارك" أعمالا كثيرة تتصل بتخصصه في الهندسة المدنية والحربية. وعهد إليه بمشروعات هندسية عظيمة في تصميم الشوارع والترع والجسور والمساجد وبنائها. ولكن ذلك لم يكن سر عظمته وصحيفة خلوده وإنما كان ذلك في شيء لم يتعلمه ولم يتلقنه عن أستاذه هو إصلاحه للتعليم في مصر بالوسائل المختلفة وبناؤه في ذلك بناء ضخما يعد دعامة النهضة التعليمية في مصر. لقد أريد له أن يهندس المباني والمنشآت، فهندس هو طرق التربية والتعليم ووضع تصميماتها ووقف على تنفيذها في دقة وإحكام حتى عد من كبار المصلحين. "أحمد أمين: ص207".

جهوده الفكرية والثقافية

جهوده الفكرية والثقافية: يعتبر علي مبارك أحد زعماء النهضة الفكرية الثقافية البارزين الذين لعبوا دورا هاما في دفع حركتها في مصر. ومن أهم جهوده الفكرية والثقافية ما يأتي: 1- كتب وألف في مختلف فروع العلم والثقافة. ومن أهم الكتب التي ألفها "الخطط التوفيقية" في عشرين جزءا. وفيها وصف القاهرة وشوارعها ومساجدها ومدارسها. كما وصف مدن مصر وقراها وهي تكملة لخطط المقريزي المعروفة. كما ألف كتابا سماه "علم الدين" كان الغرض منه تفتيح أذهان الشرق لما في الغرب، وهو قصة لشيخ تربى في الأزهر وتتلمذ له مستشرق إنجليزي تعلم منه اللغة العربية ودعاه الإنجليزي لزيارة إنجلترا فلبى الدعوة. وكانا كلما مرا على شيء من القاهرة إلى الإسكندرية سأل الإنجليزي الشيخ "علم الدين" فكان يجيبه. وبعد الإسكندرية انقلب الشيخ تلميذا والإنجليزي معلما فكان يسأل الشيخ عن كل ما يجهل فكان يجيبه الإنجليزي. والكتاب مليء بالمعلومات القيمة عن الشرق والغرب ومظاهر الحضارة الأوربية "أحمد أمين: 203" وألف وهو وزير المعارف كتابا من جزأين لتعليم الأطفال القراءة والكتابة لعدم رضائه عن الطريقة التي كانوا يعلمون بها، وخصص الجزء الأول لتعليم حروف الهجاء وكيفية تركيبها، وخصص الجزء الثاني للتمرين على المطالعة والقراءة السهلة في موضوعات مفيدة. 2- أنشأ مجلة "روضة المدارس المصرية" التي رأس تحريرها الشيخ رفاعة الطهطاوي، وذكر في أول عدد منها أن مدير المدرسة وهو "علي مبارك" "جعلها ملحوظة بنظر نظارته لا يتدرج فيها شيء إلا بإشارته". وطلب من الأساتذة أن يمدوها بالمقالات. 3- أنشأ دار الكتب المصرية وكانت الكتب قبل ذلك متفرقة في المساجد أو الأماكن المهجورة عرضة للسرقة والتلف فجمعها في مكان واحد ورتبها وسهل الاستفادة منها وجعل لها قاعة للمطالعة. 4- أنشأ قاعة للمحاضرات كانت تعتبر جامعة مفتوحة يحضرها كل من يشاء وكان يحاضر فيها كبار الأساتذة من مصريين وأجانب. فكان على سبيل المثال، الشيخ حسين المرصفي يحاضر في الأدب وإسماعيل بك الفلكي في

الفلك, والشيخ عبد الرحمن البحراوي في الفقه وميسو بروكسن في التاريخ العام وأحمد ندا في النبات. فإذا حاضر محاضر باللغة الأجنبية ألقيت محاضرته بعد ذلك باللغة العربية. وكانت هذه المحاضرات تعقد يوميا باستثناء يوم الجمعة. وكل محاضرة ساعة ونصف وبعض الموضوعات كان لها محاضرتان أسبوعيا وبعضها محاضرة واحدة "أحمد أمين: ص212". 5- أنشأ مدرسة دار العلوم 1872 وكانت أول معهد لإعداد المعلم وقد تطورت إلى كلية دار العلوم حاليا وكان طلبتها يؤخذون من خبرة طلبة الأزهر بامتحان خاص كما يختار لها خير العلماء من الأزهر وغيره. وكان طلبتها يعلمون العلوم الدينية واللغوية وشيئا من علوم الرياضة والجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء.

جهوده في التربية والتعليم

جهوده في التربية والتعليم: لم يتعلم علي مبارك في مصر ولا في فرنسا علوم التربية وأصولها على معلم مختص وإنما تعلمها من حسن استعداده وصدق نظره ومن دروس في التربية الفاسدة تلقاها في الكتاب حين كان يضرب وفي مدرسة القصر العيني حين كان يضرب أيضا ومدرسة أبي زعبل حين كان يلقى عليه الدرس فلا يفهم. يبد أن "علي مبارك" كان يهتم بالمسائل الكلية في سياسة التربية والتعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها. وإذا نظر إلى الجزئيات فلتطبيق الكليات عليها. لذلك لا نجد له آراء تفصيلية عن المباحث الجزئية للتربية والتعليم وهو في هذا عكس الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان ينظر إلى المسائل الجزئية ويعني بإصلاحها وتنفيذها. ولهذا نجد له كثيرا من الآراء الجزئية في مختلف موضوعات التربية "أحمد أمين: ص217". وكان علي مبارك يرى أن إصلاح التعليم هو خير أنواع الإصلاح بل إن الإصلاح السياسي لا قيمة له ما لم يرتكز على الإصلاح التعليمي. ولذلك لا نرى له دورا في الثورة العرابية. وتتركز أهم الجهود التربوية لعلي مبارك في جانبين رئيسيين هما:

- إصلاح الكتاتيب ووضع نظام قومي للتعليم أساسه التعليم الشعبي الذي نظمته لائحة رجب التي أعدها كوثيقة هام تعتبر من أهم الوثائق التعليمية الحديثة في مصر. - إصلاح المعلم ركن الزاوية في التعليم، وقد تجسدت خطة علي مبارك في هذا الإصلاح في إنشاء دار العلوم. وسنفصل الكلام عن هذين الجانبين في السطور التالية: أولا- الكتاتيب ووضع نظام قومي للتعليم: اهتم علي مبارك بتطوير التعليم في الكتاتيب فهو نفسه تعلم فيها وأحس بنواحي النقص فيها. وقد وصفها بقوله: "كانت الكتاتيب الأهلية في المدن والأرياف جارية على العادة القديمة ليس فيها على قلة أهلها إلا تعليم القرآن الشريف وأقل القليل من يتمه منهم ويجيد حفظه ويجوده ويحسن قراءته مع رداءة الخط في عامة المكاتب". وكانت الكتاتيب في حالة يرثى لها، وصفها أحمد أمين بقوله: فكثير منها إما في دكان أو حجرة مظلمة بجانب مراحيض المسجد والتلاميذ يختلط صحيحهم بمريضهم وقد يكون المرض معديا فأقرع وأبرص وأجرب ومحموم ينشرون العدوى في الأصحاء. يجلسون على حصير بال ويشربون بكوز واحد من زير واحد ويأكلون في الظهر من صحن واحد. وفقيه الكتاب كثيرا ما يكون أعمى لا يحسن أن يرعى التلاميذ ولا أن يدبر شئونهم. وكل كفايته أنه يحفظ القرآن ويحفظه من غير فهم لا علم له بالدنيا ولا بالدين ووسائل التأديب عنده ليست إلا السب والضرب" "أحمد أمين: ص210". وعاب على الفقهاء في الكتاتيب والمدارس الأساليب التي يستخدمونها في التربية وفي مقدمتها القسوة على التلاميذ اعتقاد منهم بأن "عصا الفقيه من الجنة" ومنها، الخوف والرهبة التي كانت تقوم عليها العلاقة بين المعلم والتلميذ مما يدفع الأخير إلى النفاق والرياء. وعلي مبارك نفسه قد قاسى من هذه الأساليب التي جعلته يكره الكتاب كرها شديدا، ومنها آمن بضرورة تطوير أساليب التعليم والمدارس بحيث تكون مسايرة لمتطلبات المجتمع وحاجاته.

لائحة رجب "1283هـ - 1868م": تعتبر لائحة رجب من أهم الإنجازات التربوية لعلي مبارك إذ وضعت هذه اللائحة كيانا قوميا للتعليم أساسه تعليم شعبي متطور تشرف عليه الحكومة وتوليه عنايتها. وتنقسم لائحة رجب إلى ثلاث أقسام: والقسم الأول منها يتناول تطوير المكاتب في المدن من حيث إدارة المباني والتجهيزات والرعاية الصحية. والقسم الثاني: يتناول تنظيم المكاتب في القرى. والقسم الثالث: يتناول المدارس المركزية في مراكز المديريات. وقد لخص علي مبارك خطته في الإصلاح بقوله: "فجميع المدارس والمكاتب سواء بالقرى أو البنادر تكون تحت أصول تنظيمية وترتيبات حسنة منتجة وامتحانات سنوية وملاحظات وتفتيشات من طرف الحكومة وهذا لتحسين حالهم واستقبالهم ومنفعتهم الخصوصية العائدة من المنفعة العمومية على الحكومة مع تهذيب رعاياها وإصلاح حالهم ووجود التعاون بينهم ومعاونتهم لأوطانهم". وأهم المبادئ التي قامت عليها لائحة رجب هي: - تطوير الكتاتيب مع الاحتفاظ بروحها الأصيلة التي تتميز بالبساطة في الأثاث والاهتمام بتعليم القرآن الكريم. - الاحتفاظ للكتاتيب بطابعها الشعبي وعدم تدخل الحكومة في شئونها وترك مسئوليتها على الأهالي. - وصل الكتاتيب بالتعليم الأميري أو الرسمي الذي يوصل إلى المراحل الأعلى من التعليم. - تنظيم الإشراف والتفتيش على المدارس والمكاتب. - تنظيم الامتحانات وجعل منها مهرجانات آخر العام تعزف فيها الموسيقى وتوزع الجوائز على المتفوقين. - اشترطت اللائحة شروطا في المعلم منها حسن الأخلاق والصفات وأهليته لتعليم القرآن والمعرفة بأمور الدين يحسن باب العدية في الحساب. وجعلت تعيينهم بمعرفة ديوان المدارس.

- تركت لائحة رجب تدبير الأموال لإصلاح الكتاتيب على الأهالي وكانت هذه أهم نقطة ضعف في اللائحة على الرغم من أن علي مبارك كان عليه أن يراعي الظروف المالية للبلاد في ذلك الوقت إذ كانت تمر بأول وأعظم ضائقة مالية عرفتها وجرت عليها الويلات والتدخل الأجنبي. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الشعب لم يستطع أن يقوم بالأعياء المالية فضلا عن أن اللائحة لم تضع الطريقة التي يمكن بها جمع المال بل تركت الأمر مفتوحا دون تحديد. وكان ذلك عائقا حقيقيا دون الوصول إلى الأهداف التي أرادها علي مبارك من إصلاح التعليم. ولكن على الرغم من هذا فإن لائحة رجب قد تركت بصماتها على الطريق، وظلت علامة تشير إلى جهود المخلصين من أبناء هذه الأمة الذين عملوا من أجل رفعتها وكان الإخلاص رائدهم. ثانيا: إصلاح المعلم كان من المسائل الهامة التي عني بها علي مبارك مسألة المعلمين وكيف يصلح من أحوالهم. فقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية في المدارس رجال من الأزهر. وكان التعليم في الأزهر إذ ذاك على أسلوبه في القرون الوسطى يعلم الكتب ولا يعلم العلم وغاية النابغ منهم أن يحسن فهم عبارة الكتب لا فهم الموضوع. وهذا يؤدي إلى أنه لا يحسن تطبيق ما تعلم فأكثرهم لا يحسن قراءة صفحة ولا أن يكتب موضوعا ولا أن يقيم وزنا لبيت من شعر. كما وصفهم بذلك عبد الله باشا فكري في مقال كتبه تحت عنوان: "فكيف يصلحون بعد لتعليم الناشئة". ولهذا اتجه فكر علي مبارك إلى إنشاء مدرسة يؤخذ لها خيرة طلبة الأزهر ويختار لها خيرة علماء الأزهر وغيره فكان إنشاء دار العلوم كأول معهد لإعداد المعلم كما أشرنا.

الشيخ محمد عبده وآراؤه التربوية

الشيخ محمد عبده وآراؤه التربوية مدخل ... 4- الشيخ محمد عبده وآراؤه التربوية: 1849-1905م يعتبر الإمام الشيخ محمد عبده من أنصار الحركة الإصلاحية السلفية التي سبقت الإشارة إليها وكان داعية إلى الجامعة الإسلامية التي تزعمها أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي كان يعتبر في نظر الإمام محمد عبده نابغة العصر وأستاذ الجيل وبخاصة فيما يتعلق بالثورة الفكرية الإسلامية الصحيحة. وقد تأثر محمد عبده بآراء أستاذه وعمل معه. وكان أكبر تأثير على شخصية الإمام قبل اتصاله بجمال الدين الأفغاني هو تأثير الشيخ درويش خضر أحد أخوال أبيه. وكان رجلا صوفيا طيب القلب ذكي الفؤاد. وقد تحدث محمد عبده نفسه عن ذلك الأثر الطيب الذي تلقاه في ريعان شبابه من الشيخ درويش خضر فقال: ".. ولم أجد إماما يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيج ... هو "هذا الشيخ" مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الدنيا أو هو الذي رد لي ما كان غاب عني من غريزتي وكشف لي ما كان خفيا عني مما أودع في فطرتي". "السيد محمد رشيد رضا: ج1 ص23". بيد أن تأثير جمال الدين الأفغاني عليه كان قويا. فقد كان الأفغاني قوة دافقة لا تعرف الكلل أو الملل في سبيل إيقاظ الأمة الإسلامية من سباتها وضعفها. وعند حضوره إلى مصر اتصل به محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم اللقاني وإبراهيم الهلباوي ومحمود سامي البارودي وأديب إسحاق وغيرهم. لكن كان محمد عبده أقربهم إلى نفس الأفغاني لما لمسه فيه من سعة العقل وسمو النفس والحماسة للإصلاح ويقول الإمام محمد عبده في تقرير أثر الأفغاني عليه: "إن أبي وهبني حياة أشارك فيها عليا ومحروسا "وهما أخوان له كان مزارعين" والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين". لقد جمع بين الشيخين وحدة الغرض والانسجام الروحي فتلازما وتحابا وكان محمد عبده يرى كأستاذه أنه لا سبيل لإصلاح الأمة

الإسلامية إلا بالعودة إلى الأصول الإسلامية الصحيحة لتجديد الإسلام وتصحيح العقيدة. وكون مدرسة فكرية ظلت تعمل وتعيش حتى اليوم. وهو لم يدع إلى الإصلاح نظريا عن طريق التأليف. أو الخطب والمقالات كما يفعل بعض المصلحين بل كان يحول أفكاره في الإصلاح إلى عمل ويحاول أن يجد لها طريقها إلى التنفيذ والتطبيق على الرغم مما لحق به من ظلم ونفي. وبالنسبة للتربية والتعليم فقد اشترك في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية سنة 1892م التي كانت تهدف لنشر التعليم وإعانة المنكوبين وتولى رئاسة هذه الجمعية سنة 1900وهي السنة التي أسس فيها جميعة إحياء العلوم العربية. فحققت ونشرت بعض ألوان التراث العربي الإسلامي الفكرية الهامة. "محمد عمارة: 1972: ج1 ص30". وقد تعاون مع أستاذه في إصدار مجلة "العروة الوثقى" التي تدافع عن الإسلام والمسلمين، وتعمل من أجل إعادة مجد الإسلام. ولد الشيخ محمد عبده سنة "1266هـ - 1849م" بمحلة نصر في مديرية البحيرة من أسرة رقيقة الحال. وقد تلقى بعض تعليمه في الجامع الأحمدي بطنطا ثم بالجامع الأزهر. وعندما وفد جمال الدين الأفغاني إمام النهضة الحديثة في مصر سنة 1871م اتصل به الشيخ محمد عبده وتتملذ على يديه، وقد قال فيه جمال الدين يوم توديعه لمصر "لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما". وقد حصل الشيخ محمد عبده على شهادة العالمية من الأزهر سنة 1877م. كان ميله إلى التدريس شديدا وقد قال عن نفسه "إنما خلقت لكي أكون معلما". وقد درس في الأزهر وفي دار العلوم. كما اشتغل بالتدريس في المدرسة "السلطانية" في بيروت سنة 1886م انتقل بها من مدرسة شبه ابتدائية إلى مدرسة عالية ... ومن كتب التي شرحها فيها "نهج البلاغة" و"ديوان الحماسة" وإشارات ابن سينا وكتاب التهذيب ومجلة الأحكام العدلية العثمانية. كما ألقى فيها دروس التوحيد التي تحولت بعد عودته لمصر إلى رسالة التوحيد "محمد عمارة 1972 ج1 ص27".

مدرسة الإمام

مدرسة الإمام: لقد عمل الإمام بكل طاقته في سبيل نشر فكره ودعوته ورسالته. وكان لآرائه وأفكاره أصداء قوية ترددت في مصر وفي خارجها. أما في مصر فقد ظهرت بفضل جهوده وتأثيره أربع مدارس لعبت دورا هاما في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية في مصر فكانت المدرسة الاجتماعية التي حمل لواءها قاسم أمين وكانت المدرسة السياسية التي حمل لواءها سعد زغلول والمدرسة الدينية التي برز من نجومها الشيخ الأحمدي الظواهري في دعوته إلى إصلاح الأزهر وضرورة تطوير التعليم فيه وفقا لحاجات العصر وتقدم المعرفة. وكانت هناك المدرسة الفلسفية التي حمل لواءها مصطفى عبد الرازق الذي جمع بين القديم والحديث فكان أقربهم إلى روح أستاذه وعقليته عثمان أمين ص243". وقد ترجم رسالة التوحيد إلى الفرنسية. أما في خارج مصر فكانت سوريا أكثر بلاد الشرق الأدنى تأثرا بالإمام. ويأتي في مقدمة تلاميذ مدرسة الإمام في سوريا السيد "رشيد رضا" صاحب مجلة "المنار" والذي ارتبط باسم الأستاذ الإمام. وهناك أيضا شكيب أرسلان وعبد القادر المغربي وكرد علي. وفي شمال إفريقيا التي زارها الإمام نجد من أنصار مدرسته في الجزائر "الشيخ محمد بن الخواجه" والشيخ "عبد الحليم سماية" وفي إيران نجد الكاتب الفارسي "زكا الملك" الذي كانت بينه وبين الإمام صلات فكرية وثيقة. وقد أثنى على الإمام محمد عبده بقوله: "كان الإمام محمد عبده هو العالم الصادق الوحيد في الإسلام كله وهو وحده الذي نفذ إلى روح الإسلام وعرف كيف يطبق مبادئه مراعيا مطالب عصرنا" "عثمان أمين ص261". وامتد صدى فكر الإمام إلى الهند وأندونيسيا وغيرها من بلاد الشرق الإسلامي "عثمان أمين: ص249".

جهوده العلمية والفكرية

جهوده العلمية والفكرية: ومن أهم الآثار العلمية التي تركها الشيخ محمد عبده "شرح نهج الهمذاني" و"الإسلام والرد على منتقديه" وهي سلسة مقالات نشرها في صحيفة المؤيد سنة 1900 و"رسالة التوحيد" و"فلسفة الاجتماع والتاريخ" و"تاريخ أسباب الثورة العربية" و"رسالة الرد على الدهريين" وقد ألفها بالفارسية السيد جمال الدين الأفغاني وترجمها الإمام محمد عبده إلى العربية بمساعدة "عارف أفندي أبو تواب" أحد أصدقائه من الأفغان. كما كتب بعض الفصول في كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين. وللإمام أيضا رسالة نظام التربية والتعليم بمصر تناول فيها طرق التربية والتعليم كما ترجم عن الفرنسية كتاب "التربية" لهربرت سبنسر.

آراؤه في التربية

آراؤه في التربية: كان محمد عبده صاحب نظرة مثالية تنشد الكمال والإصلاح، ولقد تأثرت نظرته إلى التربية بتجربته الفردية الخاصة، ومن أهم آرائه في التربية ما يأتي: التربية هي الطرق الوحيد للنهضة: اعتقد الإمام محمد عبده أن التربية هي البلسم الشافي لكل علة. واعتبر فقر العقول والتربية أشد ضروب الفقر. وفي نظره أن الإنسان إذا فقد التربية فقد كل شيء وأن الإنسان لا يكون إنسانا حقيقيا إلا بالتربية "محمد عمارة: 1972 ص154". وكان يرى أن الطريق الوحيد للنهضة والتجديد في العالم الإسلامي هو التربية وفي ذلك يقول: "إنني أدعو إلى التربية لأنني عرفت أية ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه اليوم وتقوم على تنميته السنين الطوال". العمل التربوي بديل العمل السياسي: آمن الإمام محمد عبده بقدرة التعليم على تكوين طبقة واعية مستنيرة تستطيع أن تحقق الحكم النيابي الصحيح. وكان يرى أن الجهل عقبة في طريق تحقيق الديمقراطية، وهو رأي سديد. وقد طالب بشدة بأن يكون العمل التربوي بديل العمل السياسي، وفي ذلك يقول: "إني لأعجب لجعل نبهاء المسلمين وجرائدهم كل همهم في السياسة وإهمالهم أمر التربية الذي كان كل شيء وعليه كل شيء. إن السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة" "محمد عمارة: 1972 ص156".

مراتب التعليم

مراتب التعليم: يرى الإمام محمد عبده أن الناس ينقسمون للتعليم إلى ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: هي الطبقة العامة من أهل الصناعة والتجارة والزراعة ومن يتبعهم. الطبقة الثانية: هي طبقة الساسة ممن يتعاطون العمل للدولة في تدبير أمر الرعية وحمايتها من ضباط العسكرية وأعضاء المحاكم ورؤسائها ومن يتعلق بهم ومأموري الإدارة على اختلاف مراتبهم. الطبقة الثالثة: هي طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية، وفي نظره أنه يجب تحديد ما يلزم لكل واحدة من الطبقات من التعليم كما ونوعا. وهو يرى أن ارتقاء الناس بالتعليم من الطبقات الدنيا إلى العليا غير ممنوع ويقول الإمام بوضوح: "ولا نريد بهذا التقسيم منع الآحاد من طل طبقة أن يطلبوا الكمال الذي خص به من فوقهم" "محمد عمارة 1972 ص162". وكانت مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية التي ساهم الإمام في إنشائها وتولى رئاستها تعلم أبناء الطبقة الأولى من عامة الناس وأولاد الفقراء من أبناء أهل الصناعة والتجارة والزراعة. فهذه المدارس كما رآها الإمام ليس كمدارس الحكومة التي تعمل لتخريج الموظفين، ومن ثم ليست خاصة بالطبقة الثانية من الطبقات الثلاثة التي أشرنا إليها. وهي ليست كالأزهر أو دار العلوم تعمل على تكوين العلماء وأهل الإرشاد والتربية ومن ثم فهي ليست خاصة بالطبقة الثالثة من الناس. ولقد حدد الإمام فلسفة مدارس الجمعية الخيرية فقال: "لم تنشأ الجمعية لمقصد أعلى من هذا في مدارسها كأخذ الشهادات والاستعداد للوظائف بل من أهل مقاصدها أن تنزع من النفوس اعتقادا أن التعليم لا فائدة فيه إلا الاستخدام في الحكومة ... والجمعية توطن نفوس التلاميذ في مدارسها على أن يعمل الواحد منهم عمل أبيه بإتقان ويعيش مع الناس بالأمانة والاستقامة. فولد النجار يكون نجارا وولد الحداد يكون حدادا وولد الفراش يكون فراشا. والتربية

والتعليم يساعدان على إتقان عمله وصناعته. ويعلق جامع الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده على هذه الآراء بقوله: "والأمر المؤسف أن الأستاذ الإمام كان من أنصار طبقية التعليم لكن ينبغي ألا تحكم على آراء الرجل بمعايير عصرنا. فقد كان التعليم طبقيا بالفعل آنذاك. كما ينبغي أن ننظر إلى حقيقة هذه الآراء في اهتمام الإمام بتعليم الفقراء وقد كانوا محرومين من أكثر مما فعل. بل إنه عبر عن رأيه في أنه يود أن يعمم مثل هذا التعليم في البلاد لكل الطبقات فيقول: "كنت أحب أن يكون هذا التعليم عاما في البلاد منبثا في جميع الطبقات ثم يتسنى بعده لكل طبقة أن تتناول من العلوم والفنون واللغات في المدارس الثانوية والعالية ما هي مستعدة له ... هذا التعليم سلم يرتقي عنه الغني إلى التعليم العالي ويجعل الفقير على مقربة من الغني في الفكر والخلق فإما أن يجد فيلحقه وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته في أعماله بالصدق والأمانة. فهذا التعليم لا يستغنى عنه أحد" "محمد عمارة: 1972 ص161-164". وهذا يوضح أنه كان ينظر إلى هذا التعليم على أنه تعليم عام مشترك للجميع كما نفهمه اليوم.

على الأغنياء بذل المال في إنشاء المدارس

على الأغنياء بذل المال في إنشاء المدارس: يرى محمد عبده أن الأغنياء يجب أن يبذلوا من مالهم في سبيل نشر العلم والتعليم ويرى أن عليهم دورا هاما في هذا السبيل نحو الفقراء وهو ما يلقي الضوء على مزيد من فهم رأيه السابق في مراتب التعليم. يقول الإمام: "إن على الأغنياء منا الذين يخافون من تغلب الغير عليهم وتطاول الأيدي الظالمة إليهم. وأن يتآلفوا ويتحدوا ويبذلوا من أموالهم في سبيل افتتاح المدارس والمكاتب واتساع دوائر التعليم حتى تعم التربية وتنبت في البلاد جراثيم العقل والإدراك وتنمو روح الحق والإصلاح وتتهذب النفوس ويشتد الإصلاح بالمنافع والمضار. فيوجد من أبناء البلاد من يضارع بني غيرها من الأمم.. وعلى الحكومة في جميع ذلك أن تسن قوانين التعليم وتلاحظ أحوال المعلمين والمتعلمين "محمد عمارة ص155".

تطوير الأزهر

تطوير الأزهر: من الجهود الهامة المشكورة للإمام محمد عبده محاولاته المخلصة من أجل تطوير الأزهر ... فقد درس في الأزهر وعرف نقط الضعف في مناهجه وبرامجه التعليمية وقد وضع خطة للإصلاح حدد فيها مدة الدراسة والإجازات والعطلات ووضع نظاما للتدريس وأدخل نظام الامتحانات السنوية وهو ما لم يكن موجودا من قبل مما آثار سخط الطلبة عليه. وطالب بإلغاء الكتب القديمة والشروح العقيمة والحواشي وأن تستبدل بأخرى أكثر نفعا وأقرب إلى مدارك الطالب. واهتم بالعلوم النقلية كما طالب بإدخال العلوم العقلية من علوم طبيعية ورياضيات وفلسفة واجتماع وتاريخ. وقد عارض شيوخ الأزهر خطته الإصلاحية كما ثار الطلبة ضدها لأنها فرضت عليهم امتحانات سنوية وكانت الامتحانات قبل ذلك بدون ضابط ومتروكة للشفاعات والرجاء والوساطة. وتأخر العمل بخطته لكنها نبهت الآذان وفتحت الأعين على الطريقة الذي يجب أن يسير فيه العمل لتطوير الأزهر.

تعليم المرأة

تعليم المرأة: كان الإمام محمد عبده من المؤمنين بضورة تعليم المرأة وتنوير عقلها، فقد رأى أن المرأة قد ضرب بينها وبين العلم بما يجب عليها في دينها أو دنياها. ونادى بتكوين جميعة نسائية تقيم المدارس لتعليم البنات. وقد دافع عن تعليم المرأة مع تلميذه قاسم أمين فيما جاء بكتاب "تحرير المرأة" عن تعليمها. الدعوة إلى تحرير الفكر والفهم الصحيح للدين: لقد عبر محمد عبده بوضوح عن خلاصة نهجه في الإصلاح بالدعوة إلى تحرير الفكر والفهم الصحيح للدين وفي ذلك يقول: "ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى ... " "أحمد أمين ص327". ويقول أيضا: "إني وهبت حياتي لإصلاح العقيدة الإسلامية وتنقيتها من

الخرافات والأوهام". الدعوة إلى إصلاح أساليب اللغة العربية: يواصل الإمام محمد عبده كلامه السابق فيقول: "والأمر الثاني إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو في المراسلات بين الناس ... ". الحث على تعلم اللغات الأجنبية: حث الشيخ محمد عبده على تعلم اللغات الأجنبية لخدمة الأمة والدفاع عن مصالحها نظرا لتشابك مصالح المسلمين مع غيرهم من الأوربيين والشعوب الأخرى. قد ضرب المثل بنفسه. فقد بدأ بتعلم اللغة الفرنسية وسنه آنذاك نحو الأربعين "أحمد أمين: ص315". وهذه الدعوة تتمشى مع روح الإسلام وتقاليده الأصيلة. فقد ورد في الأثر: "من تعلم لغة قوم أمن شرهم" وقد سبق أن أشرنا إلى اهتمام التربية الإسلامية منذ عصورها الأولى بتعلم اللغات الأخرى. الحث على دراسة الثقافات الأخرى: كان الشيخ محمد عبده من المؤمنين بأهمية دراسة الثقافات والحضارات الأخرى لا سيما الأوربية. وقد قام بترجمة كتاب التربية لمؤلفه الإنجليزي هريرت سينسر بعد أن نقل من الإنجليزية إلى الفرنسية. وكان يقرأ في بيته لبعض طلبته إلى جانب تهذيب الأخلاق لابن مسكويه كتاب "تاريخ المدنية في أوربا وفرنسا" لمؤلفه الفرنسي "فرانسوا جيزو" الذي عربه "حنين نعمة الله خوري" وسماه "التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوربية" "أحمد أمين: ص293".

وفاة الإمام

وفاة الإمام: توفي الإمام محمد عبده في مساء يوم 11 يوليه سنة 1905 عن سبعة وخمسين عاما. ودفن في مقبرة العفيفي بالقاهرة ونقش على قبره ما يلي: "هو الحي الباقي" وقد خططنا للمعالي مضجعا ... ودفنا الدين والدنيا معا

الفصل الثاني عشر: الاتجاهات التربوية في العصر الحديث

الفصل الثاني عشر: الاتجاهات التربوية في العصر الحديث اقتباس النظم التعليمية الحديثة ... الفصل الثاني عشر: الاتجاهات التربوية في العصر الحديث شهدت البلاد العربية في العصر الحديث عدة اتجاهات تربوية هامة من أبرزها: 1- اقتباس النظم التعليمية الحديثة: ترتب على إهمال العثمانيين للتعليم في الدول العربية أن ركدت المدارس وذبلت. وقد انسحب ذلك على التعليم الديني الذي تخلف بصورة واضحة عما كان عليه من قبل من عنايته بالعلوم العقلية إلى جانب العلوم النقلية. وانتهى الأمر بالتعليم الديني أن تركزت عنايته على العلوم النقلية في أضيق نطاق. وعندما أرادت الدول العربية مع بدء اليقظة الوطنية إرساء قواعد نهضتها كان من أهم ما انتهت الأنظار هو "ميدان التعليم" وفي ظل الوضع الذي كان عليه حال معاهد التعليم التقليدية في البلاد العربية والإحساس بأنها لا تفي بمطالب الحياة الجديدية اتجهت الجهود إلى اقتباس النظم التعليمية المتقدمة في أوربا ولا سيما فرنسا. وقد ضربت الدولة العثمانية نفسها مثلا للبلاد العربية باقتباسها لنظم التعليم الفرنسية في محاولة تطوير العلم بها. وكانت مصر وهي أول دولة عربية انفصلت عن الدولة العثمانية أول من طبق هذا النظام المقتبس من المدارس الفرنسية، وكان هذا بداية لثنائية تعليمية تتحدى حركات الإصلاح. وكانت الصخرة التي أعيت ناطحيها, واستمرت فترة طويلة من الزمن حتى سنة 1961 عندما نظم التعليم الديني في مصر. وقد ارتبط اقتباس النظم التعليمية بإرسال البعثات التعليمية إلى فرنسا ليعمل المبعوثون بعد عودتهم بالتدريس في هذه المدارس والاشتغال بترجمة الكتب في المواد المختلفة اللازمة لها. وكان رفاعة رافع الطهطاوي رائد حركة الترجمة والنشر وكان له فضل كبير فيها كما أشرنا.

ظهور حركة التربية الحديثة

2- ظهور حركة التربية الحديثة: شهدت البلاد العربية اهتماما بحركة التربية الحديثة وما يتصل بها من نظريات جديدة في التربية. وقد بدأت هذه الحركة أساسا في مصر بعد الحرب العالمية الأولى وابتدأت تعبر عن نفسها في الثلاثينيات من هذا القرن. وقد بدأت هذه الحركة على يد الرعيل الأول ممن حملوا حركة التربية الحديثة من أمثال نجيب الهلالي وطه حسين وإسماعيل القباني وعبد العزيز القوصي وغيرهم. وعن طريق هؤلاء الرجال والأساتذة الزائرين من الأجانب من أمثال "كولا باريد" ... و"مان" و"بودي" و"جراي" و"رج" تعرف دارسو التربية على مشكلات التربية وحركة التربية الحديثة في أمريكا وإنجلترا وفرنسا وغيرها من الدول. ونظرة فاحصة إلى المبادئ الرئيسية التي تستند عليها هذه الفلسفة تدعم وجهة نظر المؤلف في أن هذه الفلسفة كانت متأثرة بصورة أساسية بالحركة التقدمية في التعليم الأمريكي بصفة عامة وفلسفة جون ديوي البراجماتية بصفة خاصة1. وكانت أهم مبادئ هذه الفلسفة تنادي بأن التربية يجب أن تساعد التلميذ على فهم مجتمعه واكتشاف بيئته وما يحيط بها وأن المناهج يجب أن تكون على صلة وثيقة بنمو التلميذ الجسمي والنفسي وأن مواد الدراسة يجب أن تتكامل فيما بينها في وحدة عضوية, وأنه يجب العناية بالنشاظ الفني الخلاق والدراسات العملية حتى يتسنى للتلميد أن يتعلم التفكير عن طريق الخبرة العملية. ويعزى نشر هذه الفلسفة الحديثة بصفة عامة إلى مؤسستين اثنتين. أ- رابطة التربية الحديثة وخريجي معاهد التربية التي أسست سنة 1937م: وهدفها هو تقديم التربية الحديثة للمدارس المصرية. ومنذ تأسيسها قامت الرابطة بتنظيم عدة مؤتمرات وحلقات لهذا الغرض، وكان من أهمها المؤتمر الذي عقد سنة 1945 لمناقشة "تطبيق أساليب التربية الحديثة في المدارس المصرية" وهو عنوان له مغزاه. وتقوم الرابطة أيضا بطبع صحيفة خاصة تصدر كل ثلاثة

_ 1 إسماعيل القباني وهو نفسه شاهد معاصر لهذه الحركة ورائد من روادها يذكر أن آراء جوان ديوي وتطبيقاتها الاجتماعية كانت تدرس بعناية في معهد التربية وكانت تثير كثيرا من الاهتمام بين رجال التربية.

أشهر تعرف باسم "صحيفة التربية". وفيها تنشر المقالات والبحوث التربوية الحديثة. ب- معهد التربية: وقد أنشئ سنة 1929 ليحل محل مدرسة المعلمين العليا بناء على توصية الخبير السويسري كلاباريد الذي كان عندئذ أستاذ علم النفس وعميد معهد روسو بجنيف. وكان الغرض من إنشائه تحقيق الأغراض الآتية: أ- أن يعد المعلمين لمدارس التعليم العام والابتدائية والثانوية. ب- أن يكون مركزا للبحث العلمي في مسائل التربية والتعليم والدراسة بالإرشاد اللازم لتطبيق أساليبها في المدارس المصرية. وكان المعهد منذ تأسيسه يلعب الدور القيادي في حركة التربية الحديثة في العالم العربي. وفي الفترة بين عام 1944 و1953 قام المعهد بدعوة عدد من الرجال التربية المشهورين في أمريكا وأوربا ومن بينهم كان بودي BODE "أمريكا" "1944-1945" وكيرتشر KIRCHER "1945-1948" الذي كان آنذاك أستاذا بجامعة أنديانا والسير كلارك CLARK "1948" الذي كان أستاذا بمعهد التربية بجامعة لندن، و"رج" RUGG "1951-1952" الأستاذ السابق بجامعة كولومبيا. ومن ناحية أخرى قام المعهد منذ سنة 1932 بتطبيق أساليب التربية الحديثة في الفصول النموذجية ثم المدارس النموذجية التي أنشئت منذ سنة 1939 بهذا الغرض بالذات. وقد استطاعت هذه المدارس أن تعلب دورا هاما كان له تأثيره على بقية المدارس في مصر والبلاد العربية. فإسماعيل القباني وزير التربية والتعليم السابق يذكر أن مناهج هذه المدارس كانت أساس التغيرات التي

أدخلت على مناهج الدراسة الثانوية سنة 1945-1953، ومناهج المدارس الابتدائية سنة 1937، وسنة 1947-1953، واستطاعت هذه المدارس النموذجية أيضا أن تؤثر على المدارس الحكومية في أشياء كثيرة أخرى منها ألوان النشاط خارج المنهج والجو المدرسي بصفة عامة. والواقع أن وزارة التربية والتعليم قد اعترفت بفضل هذه المدارس على تطوير التربية في مصر وابتدأت تظهر اهتماما كبيرا بهذه المدارس كان من مظاهره إعادة تنظيم هذه المدارس "سنة 1956"1 وأعلنت الوزارة عندئذ أن هدف هذه المدارس هو أن تكون حقلا للتجريب التربوي الحديث وأساليب التربية الحديثة التي يمكن تطبيقها ونقلها إلى المدارس الأخرى وأعطى الإشراف الفني على هذه المدارس النموذجية سنة 1955 إلى كلية التربية "معهد التربية سابقا" "القاهرة" كلية البنات "القاهرة" كلية المعلمين بأسيوط، وإدارة البحوث الفنية والمشروعات بوزارة التربية وللتنظيم بين هذه الهيئات الإشرافية أنشئ المجلس الأعلى للمدارس النموذجية وفيما يلي نماذج للبحوث التي قامت بها هذه الهيئات بين عامي سنة 1955-1961. كما وردت في التقرير السنوي "1959-1961" لإدراة البحوث الفنية والمشروعات. بحث حالة المدارس الابتدائية، تنظيم الإدارة المركزية لوزارة التربية والتعليم، مشاكل التعليم الثانوي، البطاقات المدرسية، الاختبارات الموضوعية والتحصيلية، نظام الامتحانات في المدارس الإعدادية والثانوية والفنية، المستوى الثقافي لخريجي الجامعة، العقاب المدرسي، تقويم الدور الاجتماعي للمدرسة في المجتمع، تقويم المدرسين والإداريين، نظام التفتيش، متابعة خريجي المدارس الثانوية الفنية، التأخر الدراسي في المدارس الابتدائية، تجربة منطقة الجيزة في اللامركزية، مشكلة الانقطاع الدراسي، طرق تعليم القراءة، مناهج المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، تقويم الكتب الدراسية، الأخطاء الإملائية، مشكلات المرأة العامة، التغذية المدرسية، مشاكل المراهقة، الدروس الخصوصية.

_ 1 مع عدم التقليل من أهمية الدور الذي لعبته المدارس النموذجية فإن المؤلف يعتقد بضرورة الأخذ بمفهوم جديد للمدارس النموذجية لا يقتصر تطبيقه على التعلم العام بل يتعداه ليشمل التعليم الفني أيضا مع تركيز الاهتمام على محتوى المواد الدراسية وأساليب تعليمها على أحدث الاتجاهات. لماذا لا نفكر في إنشاء مدارس صناعية نموذجية أو مدارس على غرار المدرسة الشاملة بحيث تكون على نطاق تجريبي.

استقدام الخبراء الأجانب

استقدام الخبراء الأجانب تقرير كلاباريد ... 2- استقدام الخبراء الأجانب: مع أن استقدام الخبراء الأجانب لتطوير النظم التعليمية العربية كان مقصورا على عدد محدود من البلاد العربية إلا أنه ينبغي الكلام عنه. فقد استقدمت العراق بعض الخبراء لدراسة وتطوير أحوال التعليم فيها. واستقدمت الحكومة المصرية خبيرين لدراسة نظام التعليم وتطويره هما كلاباريد السويسري ومان البريطاني كانت خلاصة عملها تقريرين مشهورين سنفصل الكلام عنهما في السطور التالية: أ- تقرير كلاباريد: كان الدكتور كلاباريد أستاذ علم النفس ومدير معهد جان لوك روسو للبيداجوجيا في جامعة جنيف بسويسرا. وقد استدعته وزارة المعارف المصرية لدراسة نظام التعليم بهدف إصلاحه وتطويره ولا سيما نظام إعداد المعلمين. وقد حضر كلاباريد إلى مصر في أواخر شهر أكتوبر سنة 1928 وأمضى نحو ثمانية أشهر أصدر في نهايتها تقريرا مشهورا ضمنه خلاصة دراسته ومقترحاته وطبعته وزارة المعارف فيما بعد. وقد اعتمد كلاباريد في دراسته على ملاحظاته من خلال زيارته للمدارس والاختبارات السيكلوجية التي أجراها على التلاميذ في مختلف المدن والأرياف. كما استعان بملاحظات وآراء المعلمين والمفتشين وخبراء الامتحانات وكذلك طلاب مدرسة المعلمين العليا. وقد جانب كلاباريد التوفيق في تطبيقه لاختبارات سيكلوجية مشبعة بالثقافة الأوربية على التلاميذ المصريين ولم يكن غريبا إذن ما توصل إليه من انخفاض مستوى ذكاء التلاميذ المصريين. وكانت أهم الموضوعات التي عهد الدكتور كلاباريد بدراستها.

1- دراسة نظام التعليم العام بجميع مراحله بهدف تطويره من حيث مواد الدراسة وعددها ومقدارها والتوحيد بين الدراسة في مدارس البنين والبنات وعدد المدارس لكل مرحلة بالنسبة إلى عدد السكان. 2- دراسة نظام التعليم الإلزامي واحتمالات نجاح مشروع تعميم التعليم الإلزامي من الوجهة التعليمية والاجتماعية. 3- دراسة ميزانية للتعليم بالنسبة للميزانية العامة. 4- نظام مدارس المعلمين وهل يجمع فيها بين المواد العلمية والبيداجوجية وهل تنضم مدرسة المعلمين بقسميها العلمي والأدبي إلى كليتي دار العلوم والآداب بالجامعة المصرية. وما الخطة التي تسير عليها الوزارة في إعداد تخريج المعلمين. وقد انتهى كلاباريد من دراسته إلى تقديم المقترحات ومن أهمها: 1- تخفيض عدد التلاميذ في الفصل مع توزيع التلاميذ توزيعا متجانسا على أساس السن والمستوى العقلي. 2- تعيين معلمي فصل في المدارس الأولية والابتدائية وجعل تعليم الأطفال حتى سن التاسع في أيدي المعلمات. 3- تخفيف حركة المركزية ومنح قدر معقول من الحرية للمعلمين ونظار المدارس. 4- تخفيف المناهج وتعديل نظام الامتحانات بحيث لا تعتمد على الحفظ، والاستظهار وإنما على العقل والتفكير. 5- التوسع في تعليم الفتاة بالمدارس الابتدائية والثانوية. 6- عدم التسرع في نشر التعليم الإلزامي حتى يتخرج الأعداد الكافية من المعلمين. 7- تعديل أسلوب إعداد المعلمين وإنشاء فرق متنقلة لنشر الثقافة في الريف وإلقاء محاضرات أسبوعية في التربية لرفع مستوى أداء المعلمين وتعيين مفتشين سيكولوجيين لمواصلة البحث في المدارس ولإرشاد المعلمين.

تقرير مان

ب- تقرير مان: كان المستر مان مفتشا للمدارس وكليات المعلمين بوزارة المعارف البريطانية، وقد استدعته الحكومة المصرية لدراسة سياسة التعليم. وحضر إلى مصر في سبتمبر سنة 1928 وبقي بها حتى إبريل سنة 1929. وقد أعد في نهاية إقامته تقريرا قدمه إلى وزارة المعارف ضمنه نتائج دراسته وأهم مقترحاته. وكانت أهم الموضوعات التي طرحت عليه لدارستها نظام تخريج المعلمين ومناهج الدراسة في التعليم العام والعلاقة بين مناهج مدارس البنين والبنات ونظام التعليم الإلزامي وعدد المدارس اللازمة لكل مرحلة وميزانية التعليم بالنسبة لميزانية الدولة، وهي موضوعات مشتركة قدمت أيضا إلى كلاباريد الذي كان موجودا في نفس الفترة تقريبا. وقد اقترح مان عدة اقتراحات تأثر فيها بنظام التعليم في بلاده. كما اتفق مع كلاباريد في كثير من الأمور، وأهم الاقتراحات تخفيف قيود المركزية ومنح المعلمين والنظار مزيدا من الحريات في إدارة مدارسهم وقيام السلطات المحلية بإدارة التعليم الأولي وما يتبعه من مدارس للمعلمين والمعلمات وتطوير المناهج والامتحانات وإلغاء نظام الدور الثاني وعدم اعتبار الشهادات الرسمية أساس التعيين في وظائف الحكومة

الاهتمام بإعداد المعلمين

4- الاهتمام بإعداد المعلمين: يعتبر علي مبارك الرائد الأول لحركة إعداد المعلمين في العالم العربي في العصور الحديثة، وكان من نتيجة جهوده إنشاء دار العلوم سنة 1872 لتخرج المعلمين اللازمين للمدارس. وفي سنة 1880 أنشئت مدرسة المعلمين المركزية على غرار مدارس النورمال الفرنسية البروسية. وكان من أهم التطورات في إعداد المعلمين في العالم العربي إنشاء معهد التربية بالقاهرة سنة 1929 "كلية التربية جامعة عين شمس حاليا" الذي أنشئ بناء على اقتراح الخبير السويسري كلاباريد الذي زار مصر في تلك الفترة. وظل هذا المعهد منذ نشأته حتى الآن يلعب الدور القيادي في النظرية التربوية وتطبيقاتها في العالم العربي، وخرج أجيالا من التربويين تولت زمام القيادة الفكرية التربوية في العالم العربي.

إنشاء الجامعات الحديثة

5- إنشاء الجامعات الحديثة: يعتبر إنشاء الجامعة المصرية قمة ما وصلت إليه الحركة التربوية في القرن العشرين. وكان النشأة الأهلية الأولى للجامعة من أهم انتصارات اليقظة الوطنية وقد افتتحت الجامعة في ديسمبر سنة 1908 لدراسة العلوم والفنون والآداب وكانت أول جامعة أهلية ثم تحولت إلى حكومية سنة 1925. وعرفت باسم الجامعة المصرية التي تطورت إلى جامعة القاهرة الآن. وكانت أول جامعة حكومية عربية هي الجامعة السورية "جامعة دمشق حاليا" التي أنشئت سنة 1923. وتعتبر الجامعة المصرية بعد تحولها إلى حكومية سنة 1925 ثاني جامعة عربية حكومية. وتعتبر جامعة الإسكندرية "جامعة فاروق الأول" أسبق من غيرها من الجامعات الأخرى لأنها أسست خلال الحرب العالمية الثانية "1942". وجميع الجامعات العربية الأخرى أنشئت بعد هذه الحرب. وتوالى إنشاء الجامعات في مصر نفسها وباقي الدول العربية فيما بعد. وانتشرت الجامعات وتعددت في العالم العربي حتى وصل عددها حاليا إلى 44 جامعة عربية منها جامعة أنشئت سنة 1968 في الأرض المختلفة لتعليم الفلسطينيين تعرف بجامعة "بيرزت". كما أن هناك ثلاثة جامعات غير عربية في الوطن العربي هي الجامعة الأمريكية ببيروت ومثيلتها القاهرة والجامعة اليسوعية في بيروت1.

_ 1 انظر لنفس المؤلف كتاب الاتجاهات الحديثة في التعليم الجامعي المعاصر وأساليب تدريسه. دار النهضة العربية، القاهرة.

ظهور الاتجاهات التعليمية المتميزة

ظهور الاتجاهات التعليمية المتميزة سياسة الأبعاد الثلاثية "نجيب الهلالي" ... 1- ظهور الاتجاهات التعليمية المتميزة: كان من الاتجاهات التعليمية التي برزت في الفترة الأخيرة في مصر وأهمها الاتجاه الذي كان يمثله نجيب الهلالي وهو سياسة الأبعاد الثلاثة. والاتجاه الثاني الذي كان يمثله طه حسين وعرف بسياسة الكم. والاتجاه الثالث الذي كان يمثله إسماعيل القباني وهو ما عرف بسياسة الكهف وسنفصل الكلام عنهم في السطور التالية: سياسة الأبعاد الثلاثة "نجيب الهلالي": لنجيب الهلالي تقريران مشهوران أحدهما كتبه سنة 1935 وهو عن التعليم الثانوي وعيوبه ووسائل إصلاحه، وسنشير إلى مزيد من الكلام عن التقرير فيما بعد. والتقرير الثاني عن إصلاح التعليم في مصر "1943". وكان نجيب الهلالي في كتابة هذا التقرير الأخير متأثرا بدرجة كبيرة بالإصلاحات التعليمية في إنجلترا بعد الحرب العالمية ولا سيما قانون بتلر الذي صدر في إنجلترا سنة 1944 وهو القانون الذي ينظم التعليم في إنجلترا حاليا. وقد سبق قانون بتلر خطوات كثيرة مهدت لصدوره كصدور الكتاب الأبيض. وهذا يفسر لنا كيف تأثر الهلالي بقانون بتلر مع أن تقريره صدر قبل هذا القانون بعام. وفي حديثه عن الإصلاح التعليمي المقترح يشير الهلالي إلى أن تطوير التعليم ينبغي أن يسير في اتجاهات أو أبعاد ثلاثة، الطول والعرض والعمق. أما بعد الطول فيشير إلى مدة التعليم وإطالتها لتشمل التعليم الإلزامي للأطفال والتعليم العام للفتيان والبرنامج الأعلى للشباب. أما بعد العرض فيعني التوسع في التعليم بما يحقق تكافؤ الفرض التعليمية لكل الطبقات بدون أي تمييز. أما بعد العمق فيعني جودة التعليم ونوعه وكيفه وحسن اختيار المادة الدراسية بما يتمشى مع قدرة واحتاجات التلاميذ. وبعبارة أخرى فإن الهلالي كان ينظر إلى التربية على أنها عملية مستمرة وأنها من المهد إلى اللحد، وأن التعليم لا ينبغي أن يكون مقصورا على طبقة معينة. وإنما يجب أن يتاح لكل الطبقات بدون تمييز. كما أن التعليم يجب أن يتنوع ليواجه الاحتياجات الفردية والاستعدادات الشخصية للتلاميذ على مستوى المدرسة الثانوية بتقسيمها إلى أنواع منها الأكاديمي ومنها الفني والزراعي والتجاري والصناعي. وربما كان لطه حسين تأثير على أفكار الهلالي فقد كان طه حسين

مستشاره الفني من 1942-1944 وعمل معه في انسجام تام. إلا أنه يبدو واضحا تأثره في المبادئ التي بنى عليها خطة إصلاح التعليم في مصر بالمبادئ التي قام عليها قانون بتلر كما أشرنا. فقد تبنى هذا القانون فكرة التربية على أنها عملية مستمرة وتبنى أيضا فكرة التعليم العام المجاني للجميع وكذلك تنوع التعليم الثانوي وهي نفس المبادئ التي نادى بها الهلالي لإصلاح التعليم. وعلى التعليم العام المجاني للجميع بدون تمييز وأن يتنوع التعليم ليواجه الاحتياجات والفروق المادية بين التلاميذ.

اتجاه الكم أو سياسة الماء والهواء "طه حسين"

اتجاه الكم أو سياسة الماء والهواء: "طه حسين" في سنة 1938 كتب طه حسين يقول: إن التعليم ليس ترفها وإنما هو ضرورة، وطالب بألا يكون التعليم مقصورا على طبقة معينة. وربما كان طه حسين وهو خريج السوريون متأثرا في ذلك بما حدث في فرنسا سنة 1930 عندما بدأ إلغاء المصروفات الدراسية من المدرسة الثانوية، وسمح بدخول أعداد كبيرة من التلاميذ من غير الطبقات الاجتماعية التي كانت محظوظة بهذا النوع من التعليم. وطه حسين نفسه يذكر فرنسا كمثال على ديمقراطية تعميم التعليم المجاني. ومع أن طه حسين كان يعتقد أن التعليم يتساوى في الأهمية مع الدفاع القومي وهي فكرة ثاقبة سابقة لأوانها فإنه كان يعتقد أن فكرة التعليم المجاني للجميع فيها تبذير، وهي فوق ما تستطيع إمكانيات الدولة أن تتحمله. بيد أن هذه الفكرة نفسها تطورت مع مرور الزمن فبعد 12 عاما أي في سنة 1950 عندما أصبح طه حسين وزيرا للمعارف نادى بأن التعليم كالماء والهواء وهي عبارة مشابهة لما قاله الطهطاوي من قبل عندما اعتبر أن التعليم يحتاج إليه كل إنسان كحاجته إلى الماء والخبز. واعتبر طه حسين أن التعليم حق لكل إنسان ولا يصح أن يباع ويشترى وإنما يجب أن يكون مجانيا ومتاحا لكل من يريده. وقد طبق طه حسين هذا الكلام في نفس السنة بإلغاء المصروفات الدراسية على التعليم الثانوي، وبهذا أصبح التعليم العام كله مجانيا. وقد ترتب على ذلك زيادة

هائلة في أعداد تلاميذ التعليم العام من 908.598 تلميذا في 48-49 إلى 1.051.056 تلميذا في عام 1950، ثم إلى 1.102.27 تلميذا عام 1951، وفي التعليم الثانوي كله زاد عدد التلاميذ من 98.704 أي 127.064 تلميذا ثم إلى 154.941 تلميذا في السنوات نفسها، وزادت ميزانية التعليم زيادة كبيرة من حوالي 19 مليونا سنة 1949 إلى حوالي 29 مليونا سنة 1951. وكان لهذا التوسع الكمي الهائل نسبيا في أعداد التلاميذ في التعليم العام أثر في خفض مستواه ونوعيته. وربما كان هذا من الأمور العادية، فمن المعروف أن من أهم المشكلات التي تواجهها النظم التعليمية التي تعول على توسع تعليمي كبير هي التوفيق بين الكم والكيف، وغالبا ما يكون الكم على حساب الكيف. وقد كان ذلك من أهم الأسباب التي هوجمت من أجلها سياسة طه حسين وروج لها على أنها سياسة الكم مع أنه نفسه لم يطلق عليها ذلك. وكان القباني أكثر نقاد طه حسين ونقده نقدا مرا في عدة مقالات كتبها في جريدة الأساس سنة 1952 ثم فيما نشر له من كتب فيما بعد. وكان من أهم الانتقادات التي وجهها إلى سياسة طه حسين أنها أهملت التعليم الابتدائي على حساب التعليم الثانوي وأنها اهتمت بالكم على حساب الكيف في التعليم. لقد كان طه حسين على وعي بأهمية الكيف وأكد أنه في الوقت الذي ينادي فيه بأن تكون إتاحة التعليم لكل المصريين فإنه ينبغي أن يكون هذا التعليم بناء مفيدا ونافعا فلا يرضيه أن تضم المدرسة ألفا في حين أنها لا تستطيع أن تعلم أكثر من نصف ألف. ومظهر آخر لاهتمام طه حسين بنوعيه التعليم تأكيده لأهمية نوعية المعلم وكان يعتقد أن معلم الثانوي إلى جانب حصوله على الدرجة الجامعية ينبغي أن تعد له مقررات وامتحانات على غرار نظام شهادة "الأجرجاسيون" الفرنسية.

اتجاه الكيف أو تعليم الصفوة "إسماعيل القباني"

اتجاه الكيف أو تعليم الصفوة: "إسماعيل القباني" ويمثل هذا الاتجاه إسماعيل القباني حتى قبل أن يصبح وزيرا للمعارف في الفترة من 1952-1954. وقد أكد القباني أهمية الكيف: وقال إنها تأتي قبل الكم. ونادى بضرورة تحسين الكم والتوسيع التدريجي في التعليم أما تعميمه فيأتي مؤخرا أو فيما بعد. بيد أن القباني كان مهتما بصفة رئيسية بالتعليم الثانوي والعالي وفي ذلك يقول: في كل الشعوب المتحضرة يتفق المربون على أن الكيف يأتي قبل الكم في هذين النوعين من التعليم وأن أي أمة تضحي بالكيف في سبيل الكم هي أمية تنتحر. وفي تبرير ذلك يقول القباني: إن التعليمين الثانوي والعالي يعدان الأفراد الذين يتولون قيادة الأمة في الجيل التالي وأي انخفاض في مستواهما يعني إضعافا لحياتنا المستقبلة. ومعنى هذا أن القباني لا يقبل أي تنازل في مستوى نوعية التعليم الثانوي والعالي أما في التعليم الابتدائي ففي رأيه أن انخفاض مستواه يمكن أن يحتمل في سبيل الإسراع بتعميمه. والمسألة إذن في نظر القباني تتعلق بمفهومه عن التعليم الثانوي ودوره في إعداد القادة والجمع بينه وبين التعليم العالي في هذا الدور. وإذا كان مفهوم التعليم الثانوي بهذا المعنى فهو إذن في نظره ليس تعليما للجميع وإنما هو تعليم "الصفوة".

تطوير الأزهر

7- تطوير الأزهر: شهدت العصور الحديثة عدة محاولات لتطوير التعليم في الأزهر. ومن المعروف أن الفاطميين أسسوا الأزهر عام 368هـ - 970م للدعاية للمذهب الشيعي وأن يعقوب بن كلس حوله عام 378هـ إلى معهد علمي تدرس فيه العلوم والآداب بعد أن كان مقصورا على إقامة الدعوة الفاطمية "حسن إبراهيم ج3 ص337". وقد جاء الإحساس بضرورة هذا التطوير استجابة لما دعا إليه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي صاحب أول دعوة لإصلاح الأزهر في القرن التاسع عشر ورائد ترجمة العلوم العربية، وقد تخرج هو نفسه من الأزهر وعاب على محمد علي والي مصر أنه أهمل إدخال العلوم الحديثة إلى الأزهر، وقال: لو تشبث خيار أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية لفازوا بالكمال. كما دعا إلى الإصلاح أيضا الشيخ محمد عبده والشيخ العروسي والشيخ المراغي وطه حسين وغيرهم.

وقد تمثلت المطالبة بإصلاح الأزهر في ضرورة الأخر بالعلوم الحديثة مثل الطبيعيات والرياضيات والتاريخ والفلسفة والاجتماع. كما تمثل أيضا في العمل على ربط الأزهر بالمجتمع والحياة وتخليصه من البدع والخرافات والأوهام، ولم يكن من السهل إدخال هذه العلوم الحديثة مثل الطبيعيات والرياضيات والتاريخ والفلسفة والاجتماع. ومن أبرز الشخصيات التي كانت تقاوم إدخال العلوم الحديثة إلى الأزهر في القرن التاسع عشر الشيخ محمد عليش وكان يعاونه في ذلك محمد العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر آنذاك. ويجب أن نشير إلى الاستفتاء الذي تقدم به أشهر علماء جامع الزيتونة في تونس وهو الشيخ محمد بيرم إلى شيخ الأزهر محمد الأنبابي وكان ذلك سنة 1305هـ - 1877م يسأله رأيه عما إذا كان يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية والطبيعيات والهيئة والكيمياء. وقد أجابه الشيخ الأنبابي بأنه يجوز تعلم العلوم الرياضية وعلم الطب والطبيعيات ولكنه أفتى بتحريم علم التنجيم كما أشار الغزالي. وعلى الرغم من هذا حدثت محاولات لتطوير الأزهر في أواخر القرن التاسع عشر. في سنة 1911 صدر قانون يتعلق بتنظيم الجامع الأزهر فبعد أن كان التعليم فيه مطلقا غير مقيد أو محدد قسم القانون المذكور الدراسة إلى مراحل لكل منها نظام ومواد خاصة وأنشئت بموجبه هيئة كبار العلماء وأنشئت معاهد دينية جديدة في بعض عواصم المديريات. وأضاف هذا القانون إلى مواد الدراسة مواد جديدة هي التاريخ والجغرافيا الرياضة ومبادئ الطبيعة والكيمياء. وصدر قانون آخر سنة 1936 وهو متمم للقانون السابق. وقد أصبحت دراسة الطب ممكنة بعد أن أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر فتوى تجيز فيها تشريح جسم الإنسان الميت من أجل دراسة الطب أو من أجل التحقيق في الجريمة. ولعل أهم قانون لتنظيم الأزهر في العصر الحديث، هو القانون الذي صدر عام 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها هو الذي يسري به العمل حاليا. وقد جاء في صدر القانون تمجيد الدور المناط بالأزهر كهيئة تعليمية إسلامية كبرى وأهمية الدور الذي يلعبه بالنسبة للعالم الإسلامي.

وبمقتضى هذا القانون أنشئت كليات حديثة في جامعة الأزهر هي كلية الطب وطب الأسنان والزراعة والتجارة والمعاملات ومعهد اللغات والترجمة كما أنشئت كليات خاصة بالبنات هي كلية البنات الإسلامية وتدرس فيها العلوم الطبيعية إلى جانب العلوم الدينية. وبهذا القانون انتقل الأزهر من الجامع إلى الجامعة. ومن نظام الحلقات في ساحة المسجد إلى نظام المنشأ على الطراز الحديث. ومن شيخ العامود إلى الأستاذ ومن صاحب الفضيلة إلى فضيلة الدكتور. والواقع أن التطوير الأخير للأزهر عام 1961 وهو المعمول به حاليا قد سبقته إرهاصات كثيرة. وتعالت على مدى سنوات طويلة صيحات المخلصين من علماء الأزهر وشيوخه التي طالبت بالإصلاح والتجديد. منهم الشيخ حسن العطار "توفي 1834"، والشيخ رفاعة الطهطاوي "توفي 1876" والشيخ مصطفى العروسي "توفي 1876"، والشيخ محمد المهدي العباسي "توفي 1898" وجمال الدين الأفغاني "جاء لمصر عام 1870" والإمام محمد عبده "توفي 1905" وقد سبق أن أشرنا إلى آرائه في تطوير الأزهر، والشيخ مصطفى المراغي "شيخ الأزهر عام 1928" والشيخ الأحمدي الظواهري "توفي بعد المراغي مشيخة الأزهر 1929" والشيخ عبد المجيد سليم "توفي 1954". وكان من بينهم أيضا في السنوات الأخيرة الشيخ محمد الشرباصي والمفكر المعروف عباس العقاد. وكان طه حسين أعلى صوتا في المطالبة بتطوير الأزهر منذ صدور كتابه المعروف "مستقبل الثقافة في مصر" "1938". وخصص فيها كلاما وافيا شافيا عن ضرورة إصلاح التعليم في الأزهر والتقريب بين مناهجه ومناهج التعليم العام في صورتها المطورة. وأيضا تطوير التعليم الخاص. وكانت حجته في ذلك أن أنواع التعليم المختلفة تخرج عقليات مختلفة ينكر بعضها بعضا مما يفت في عضد الأمة ووحدتها الثقافية والقومية. ولذلك طالب بتوحيد مناهج مختلف أنواع التعليم لتحقيق ثقافة عامة قومية مشتركة بين جميع أبناء البلاد. وفيما بعد على صفحات الجرائد في مصر كان يكتب المقالات التي يؤكد فيها نظرته إلى تطوير الأزهر. وكانت العبارة المشهورة التي

تتكرر في كل مقالاته هي: "شبابنا الأزهريون لا يتعلمون كما يتعلم الناس ولا كما ينبغي أن يتعلم الناس". وعلى كل حال فقد صدر قانون تطوير الأزهر عام 1961. ولكن للأسف أنه منذ صدوره بدأ يتعثر في تطبيقه ويحتدم حوله الخلاف بين مؤيد ومعارض. فمع أن القانون نص على تحديد أربعة أشهر لصدور لائحته التنفيذية، فإن هذه اللائحة لم تصدر إلا عام 1975 أي بعد مرور أربعة عشر عاما على صدور القانون. وهذا يعني أن الكليات المختلفة لم يكن لها دليل عمل يوجهها. وسارت الأمور بها بدون ضوابظ. وترتب على ذلك أخطاء كثيرة. كما أن الجدل احتم حول القانون منذ صدوره. ولعل أهم نقد وجه إليه أنه صدر بدون الرجوع لرجال الأزهر ولم يؤخذ رأيهم فيه وأنه قد فرض عليهم فرضا وكان من الطبيعي أن يرفضه علماء الأزهر. وقد عبر عن هذا الرأي فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي العالم الإسلامي الكبير المعروف. كما عبر عنه أيضا عبد المنعم نمر وهو من علماء الأزهر البارزين. وهناك معارضون آخرون كثيرون. ولعل من أكثر صيحات المعارضة التي تفيض بالأسى واللوعة ما يعبر عنه الدكتور عبد العظيم المطعني في كتابه "الفراغ وأزمة التدين عند الشباب" "مايو 1978" يقول: "ويعلم الله أن تطوير الأزهر قد أصابه بطعنه لم يسلم منها موضع في جسمه حتى أصبح التطوير توريطا. وما أكثر ما يعانيه الأزهر الآن لاسترداد أنفاسه والوقوف مرة اخرى على قدمين راسخين". وعلى الجانب الآخر وهو جانب المؤيدين للقانون نجد الشيخ شلتوت شيخ الأزهر سابقا يرى أن القانون بثوبه الجديد يمكن الأزهر من أداء رسالته. ونجد الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر سابقا ينهج نفس المنهج المؤيد ويقول إن القانون الجديد للأزهر حقق أماني المسلمين في إصلاح الأزهر وتمكينه من أداء رسالته كاملة. ومن المؤيدين للقانون الجديد أيضا محمد البهي وبدوي عبد اللطيف ومحمد الطيب النجار وكلهم رؤساء سابقين لجامعة الأزهر. وهكذا تختلف الآراء حول قانون تطوير الأزهر الأخير بين معارض ومؤيد. ووسط هذا الخضم من الخلاف نرجو أن تجد جامعة الأزهر في النهاية ما تصبو إليه من تطلع في أداء رسالتها من أجل خدمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

مراجع الكتاب

مراجع الكتاب: 1- القرآن الكريم. 2- الأحاديث النبوية الشريفة. 3- المعاجم ودوائر المعارف. 4- تفاسير القرآن: ابن كثير، البيضاوي، فريد وجدي وغيرها. 5- إبراهيم الإبياري "1974": الموسوعة القرآنية الميسرة. مؤسسة سجل العرب. 6- إبراهيم العبيدي التوزري: تاريخ التربية بتونس. الشركة التونسية للتوزيع. 7- ابن أبي أصيبعة "1872": عيون الأنباء في طبقات الأطباء - المطبعة الوهبية - القاهرة. 8- ابن الأثير: جامع الأصول من أحاديث الرسول. المطبعة المحمدية. القاهرة. 9- ابن تميمة "1988": الفتاوي - دار الغد العربي. القاهرة. 10- ابن تيمية "بدون تاريخ": تفسير سورة الإخلاص - تقديم د. محمد عبد المنعم خفاجي. دار الطباعة المحمدية بالأزهر، القاهرة. 11- ابن الجزار القيرواني "1968": سياسة الصبيان وتدبيرهم. مطبعة المنار - تونس. 12- ابن حزم القرطبي: الأخلاق والسير. "مداواة النفوس". 13- ابن حوقل: صورة الأرض. دار مكتبة الحياة. بيروت بدون تاريخ. 14- ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون. كتاب الشعب. مطابع الشعب. القاهرة. 15- ابن سحنون "1969": آداب المعلمين: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر. 16- ابن سينا "1910": كتاب القانون. مكتبة المعارف - بيروت. 17- ابن عبد البر النمر القرطبي "1968": جامع بيان العلم وفضله. المكتبة السلفية. 18- ابن عربي "محيي الدين": تهذيب الأخلاق، ط1، عالم الفكر، القاهرة. 19- ابن قيم الجوزية: "الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر" تحفة المودود بأحكام المولود - دار الكتب العلمية - بيروت.

20- ابن قيم الجوزية: الفوائد، مكتبة الدعوة، القاهرة. بدون تاريخ. 21- ابن المقفع: الأدب الصغير والأدب الكبير. دار صادر بيروت. 22- ابن جماعة الكتاني "1354هـ": تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم تحقيق ونشر محمد هاشم الندوي - دار الكتب العلمية - بيروت. 23- ابن مسكويه "1398": تهذيب الأخلاق. تحقيق وشرح ابن الخطيب، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة. 24- أبو الأعلى المودودي: الحجاب. 25- أبو الحسن العامري: السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية، تحقيق أحمد عبد الحليم عطية. دار الثقافة للنشر، القاهرة. 26- أبو الحسن الماوردي: أدب الدنيا والدين - مطبعة صبيح وأولاده. وهناك طبعة أخرى لدار الكتب العلمية - بيروت 1978. 27- أبو الحسن الندوي "1974": رجال الفكر والدعوة في الإسلام. الجزء الثاني الخاص بحياة شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية. تعريب سعيد الأعظمي الندوي. دار القلم. الكويت. 29- أبو حنيفة النعمان بن ثابت "1368هـ": العالم والمتعلم، نشره الشيخ زاهد الكوثري - القاهرة. 30- أبو العباس أحمد بن خالد الناصري "1954": الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى. تحقيق جعفر الناصري وآخر دار الكتب. الدار البيضاء. 31- أبو عبد الله محمد بن سعيد بن رسلان "1988": آداب طالب العلم. دار العلوم الإسلامية، القاهرة. 32- أبو الفرج بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي: كتاب الأذكياء - المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر - بيروت. 33- أبو سعد السمعاني "1952": أدب الإملاء والاستملاء. ليدن. مطبعة بريل. 34- أبو العلاء المعري "1959": لزوم ما لا يلزم ج1 شرح وتحقيق إبراهيم

الإبياري، مطبعة وزارة التربية والتعليم، القاهرة. 35- أحمد بن حجر "1978": الشيخ محمد عبد الوهاب. مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 36- أحمد أمين "1948": زعماء الإصلاح في العصر الحديث - مطبعة مصر - القاهرة. 37- أحمد أمين "1996": فجر الإسلام. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 38- أحمد أمين مرسي قنديل "1945": الأخلاق للمدارس الثانوية، المطبعة الأميرية، القاهرة. 39- أحمد بدوي "1959": رفاعة رافع الطهطاوي. لجنة البيان العربي. 40- أحمد شلبي "1979": تاريخ التربية الإسلامية. مكتبة النهضة المصرية. 41- أحمد صبحي "1969": الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي - دار المعارف - القاهرة. 42- أحمد فؤاد الأهواني "1975": التربية في الإسلام. دار المعارف بالقاهرة. 43- أسماء حسن فهمي "1947": مبادئ التربية الإسلامية - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة. 44- الإمام أبو طاهر إسماعيل موسى الجيطالي "1965": قناطر الخيرات - القاهرة - مكتبة وهبة. 45- الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن - دار الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة. 46- الإمام القشيري "1966": الرسالة القشيرية - مطبعة صبيح - القاهرة. 47- برهان الدين الزرنوجي "1948": تعليم المتعلم طريق التعلم - تقديم وتحقيق الدكتور عبد اللطيف محمد العبد، دار النهضة العربية. القاهرة. 48- الجاحظ: المحاسن والأضداد. دار النهضة العربية. 49- جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي. دار الهلال بدون تاريخ. 50- جلال مظهر: حضارة الإسلام. 51- جمال الدين الأفغاني: الرد على الدهريين. ترجمة الإمام محمد عبده.

تحقيق الشيخ محمد أبو رية. الناشر دار الكرنك، القاهرة، د. ت. 52- جورج غريب "د. ت": عبد الله بن المقفع. دار الثقافة، بيروت. 53- جون ديوي: تجديد في الفلسفة: ترجمة مرسي قنديل. الأنجلو المصرية. 54- جون ديوي "1966": المبادئ الأخلاقية في التربية. ترجمة عبد الفتاح جلال. الدر المصرية للتأليف والترجمة. 55- الحافظ بن الدنيا: الحلم. تحقيق مجدي السيد إبراهيم. مكتبة القرآن، القاهرة. 56- حسن إبراهيم حسن "1973": تاريخ الإسلام السياسي. النهضة المصرية. 57- الحصري القيرواني "1953": زهر الآداب وثمر الألباب، مطبعة السعادة بمصر. 58- حيدر بامات "1956": من مجالي الإسلام - ترجمة عادل زعيتر - دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه - القاهرة. 59- الخرائطي "أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل" "240هـ-327هـ": مساوئ الأخلاق ومذمومها. تحقيق مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن. القاهرة. 60- الخطيب البغدادي "1349هـ": تاريخ بغداد - القاهرة. 61- خليل طوطح: التربية عند العرب. 62- ديورانت: قصة الحضارة "مترجم" نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. 63- الراغب الأصفهاني أبو الحسين القاسم "1968": الذريعة إلى مكارم الشريعة. المكتبة العلمية - بيروت. 64- الراغب الأصفهاني أبو الحسين القاسم "1988": تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين تقديم تحقيق عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 65- رفاعة رافع الطهطاوي "1912": مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية - مطبعة الرغائب - القاهرة. 66- رفاعة رافع الطهطاوي "1281هـ": المرشد الأمين للبنات والبنين - مطبعة

المدارس الملكية - القاهرة. 67- زكي مبارك: الأخلاق عند الغزالي. 68- زكي نجيب محمود "1956": نظرية المعرفة - القاهرة. 69- زين الدين العاملي "1956": منية المريد في أدب المفيد والمستفيد - القاهرة. 70- سامي الصقار "مترجم" "1981": تاريخ التعليم عند المسلمين والمكانة الاجتماعية لعلمائهم حتى القرن الخامس الهجري. دار المريخ - السعودية. 71- السيد محمد بدوي "1967": الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة. 72- السيد محمد رشيد رضا "1344هـ": تاريخ الأستاذ الإمام - مطبعة المنار - القاهرة. 73- شريف. م. م "1975": الفكر الإسلامي منابعه وآثاره. ترجمة د. أحمد شلبي. دار النهضة المصرية. 74- شمس الحق العظيم أبادي "1961": عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان - المكتب الإسلامي بدمشق. 75- صاعد الأندلس: طبقات الأمم. 76- صبري المتولي "1981": منهج ابن تيمية في تفسير القرآن الكريم - عالم الكتب. القاهرة. 77- طه عبد الباقي سرور "1961": الغزالي حجة الإسلام. الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة. 78- عباس محمود العقاد: المرأة في الإسلام - دار الهلال. 79- عباس محمود العقاد: التفكير فريضة إسلامية. 80- عباس محمود العقاد: الفلسفة القرآنية. 81- عباس محمود العقاد: الإنسان في القرآن. 82- عبد الباسط بن موسى العلموي "1349هـ": المعيد في أدب المستفيد - المكتبة العربية دمشق.

83- عبد الحليم محمود "1979": موقف الإسلام من العلم والفن والفلسفة، مطابع دار الشعب، القاهرة. 84- عبد الحي الكتاني: نظام الحكومة النبوية المسمى بالتراتيب الإدارية - دار الكتاب العربي - بيروت. 85- عبد المتعال محمد الجبري "1986": المرأة في العصور الإسلامية، مكتبة وهبة، القاهرة، 86- عبد اللطيف محمد العبد "1977": نوادر المعارف عند ابن النديم. دار النهضة العربية، القاهرة. 87- عبد الكريم عثمان: الدراسات النفسية عند المسلمين. مكتبة وهبة. القاهرة. 88- عبد اللطيف السبكي: الأزهر وتعليم المرأة. 89- عبد الله ناصح علوان "1981": تربية الأولاد في الإسلام، دار السلام للطباعة والنشر، بيروت. 90- علي معبد فرغلي "1985": في الأخلاق الإسلامية والإنسانية، دار الكتاب الجامعي، القاهرة. 91- عبد الوهاب خلاف "1965" علم أصول الفقه - مطبعة النصر - القاهرة. 92- عثمان أمين "1965": رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده - الأنجلو المصرية. 93- عمارة نجيب "1977: إحياء علوم الدين، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، القاهرة. 94- الغزالي "أبو حامد": "1963": ميزان العمل - مطبعة صبيح. القاهرة. 96- الغزالي "أبو الحامد": رسالة أيها الولد المحب. 97- غادة الخرسا: الإسلام وتحرير المرأة - دار السياسة - بيروت. 98- الفارابي "1968": إحصاء العلوم، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة. 99- فاضل الجمالي "1967": تربية الإنسان الجديد - مطبعة الاتحاد العام

التونسي للتوزيع - تونس. 100- فتح الله خليف "1974": ابن سينا مذهبه في النفس. جامعة بيروت العربية. 101- فيصل بدير عون ود. سعد عبد العزيز حباتر: دراسات في الفلسفة الخلقية، بدون تاريخ أو ناشر. 102- فتحية سليمان "1956": المذهب التربوي عند الغزالي - دار الهنا - القاهرة. 103- القابسي: الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين. 104- قاسم أمين "1989": المرأة الجديدة. كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، القاهرة. 105- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن. 106- مريسون "أندريه" "1979": المشكلة الأخلاقية والفلاسفة. ترجمة الإمام عبد الحليم محمود وآخر، مطابع دار الشعب بالقاهرة. 107- محفوظ علي عزام "1986": نظرية التطور عند مفكري الإسلام، دراسة مقارنة، دار الهداية، القاهرة. 108- محفوظ علي عزام "1986": الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق، دار الهداية، القاهرة. 109- ماهر حسين فهمي "1964": قاسم أمين، وزارة التربية والتعليم، بدون تاريخ. 110- مصطفى لطفي المنفلوطي: مختارات المنفلوطي، دار الثقافة، بيروت، بدون تاريخ. 111- محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية - دار الفكر العربي - القاهرة. بدون تاريخ. 112- محمد أبو زهرة "1977": ابن تيمية حياته وعصره - آراؤه الفقهية. دار الفكر العربي. القاهرة. 113- محمد ضياء الدين الكردي "1985": الأخلاق الإسلامية والصوفية مطبعة السعادة، القاهرة.

114- محمد إقبال "1968": تجديد الفكر الديني في الإسلام. ترجمة عباس محمود. لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة. 115- محمد السيد الجليند: "1981": قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي، مطبعة الحلبي، القاهرة. 116- محمد بيصار "1968": العقيدة والأخلاق - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة. 117- محمد خليل هراس "1984": باعث النهضة الإسلامية. ابن تيمية السلفي. نقده لمسالك المتكلمين والفلاسفة في الإلهيات. دار الكتب العلمية. بيروت. 118- محمد ضياء الدين الكردي "1985": الأخلاق الإسلامية الصوفية، مطبعة السعادة، القاهرة. 119- محمد عبد الرحمن غنيمة "1953": الجامعات الإسلامية الكبرى - دار الطباعة المغربية تطوان. 120- محمد عبد السلام "1986": المسلمون والعلم. ترجمة د. ممدوح كامل الموصلي، الغد للنشر والدعاية، القاهرة. 121- محمد عزة دروزة "1967": المرأة في السنة والقرآن - المكتبة العصرية - بيروت. 122- محمد علي أبو ريان "1974": الفلسفة ومباحثها - دار الجامعات المصرية. 123- محمد عمارة "1973": الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده - المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت. 124- محمد غلاب "1966": المعرفة عند مفكري المسلمين - الدار المصرية للتأليف والترجمة - القاهرة. 125- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية - دار الشروق - بيروت. 126- محمد كرد علي "1934": الإدارة الإسلامية في عز العرب. 127- محمد منير مرسي "1975": التعليم العام في البلاد العربية - عالم الكتب - القاهرة.

128- محمد منير مرسي "1992": فلسفة التربية اتجاهاتها ومدارسها - عالم الكتب القاهرة. 129- محمد يوسف: القرآن والفلسفة - دار المعارف - 1966. 130- محمود قاسم: في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام، مكتبة الأنجلو المصرية. 131- مصطفى الشكعة "1979": مناهج التأليف عند العلماء العرب. دار العلم للملايين. بيروت. 132- مصطفى لطفي المنفلوطي: مختارات المنفلوطي، دار الثقافة، بيروت. 133- مقداد يالجن: التربية الأخلاقية الإسلامية - مكتبة الخانجي - القاهرة 1977. 134- ابن المقفع "1911": الأدب الصغير. طبع بمدرسة محمد علي الصناعية بالإسكندرية. 135- منيف الرزاز "1959": معالم الحياة العربية الجديدة - دار العلم للملايين - بيروت. 136- ميد "هنتر" "1975": الفلسفة أنواعها ومشكلاتها - ترجمة فؤاد زكريا - دار نهضة مصر. 137- المقريزي - الخطط والآثار. 138- نازلي إسماعيل حسين "1967": مقدمة لكل ميتافيزيقا. ترجمة وتعليق المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. القاهرة. 139- النواوي: تهذيب الأسماء. 140- هربرت سبنسر: التربية. ترجمة محمد السباعي. 141- هنري لاوست "1977": نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع ترجمة محمد عبد العظيم علي وتقديم وتعليق الدكتور مصطفي حلمي، دار الثقافة - الإسكندرية. 142- وولف "1944": فلسفة المحدثين والمعاصرين: ترجمة د. أبو العلا عفيفي. لجنة التأليف والترجمة والنشر.

References': 1- Abdul Rahman Salih Abdullah (1982) : Educational Theory: A Qur anic Outlook. Umm AL - Qura University Faculty of Education. 2- Beck, R.A (1965) : Social History of Education. Prentice Hall. Inc. Englwood Cliffs. N.Y. 3- Bary, M. (et. al) : Education and Society in Africa. Edward Arnold Publishers. 4- Breasted. J.: A History of Egypt. Scriber - N. Y. 1913. 5- Brubacher, J. (1947) : A History of the problems of Education. McGraw - Hill Series N. Y. 1947, 6- Butts, R. (1947) : A Cultural History of Education. McGraw - Hill N.Y. 7- Callhoun, D. (1969) : The Educating of American: A. Documen- tary History U.S.A. 8- Dent, H. C. (1963) : The Educational System of England and Wales The Universty of London Press. 9- De Young and other. (1964) : American Education. McGraw - Hill Inc. U.S.A 10- Dienko, M: Public Education in the USSR. Progress Publishers Mosko. w. n. d. 11- Eby, F. and Arrowood (1952) : The History and Philosophy of Education. Prentice - Hill. N. Y. 12- Fraser, W. (1963) : Education and Society in Modern France, Routledge and Kegan Paul. Ltd. London. 13- Fraser, W. (1971) : Reforms and Restraints in Modern French Education. Routledge & Kegan Paul Ltd. London. 14- Full, H. (1967) : Controversy in American Education. The\Mac-millan Company. N. Y. 15- Hiskett, M (1973) : The Sword of Truth. The Life and Times of Shehu Usuman dan Fodio. Oxford University Press. N. Y. London 16- Hurwitz, H., E. & Maidment, R. (eds) (1970) : Criticism, Conflict & Change Readings in American Education. Dodd Mead. N.Y.

17- Institute Pedagogique National (1975) : The Organisation of Education in France. Cahier de Documentation. Jan. 1970. 18- Johnson,. R. W.: Educational Progress and Retrogression in Guinea (1900 - 1943) . In: Brown, G. and Hiskett, M. (eds) : Conflicts and Harmony in Education in Tropical Africa. George Allen and Unwin. London. 19- Husain, S. and Ashraf, S. (1979) : Crisis in Muslim Education. London Hodder and Stoughton and King Abdulaziz University. Jedda. 20- Mohammed Wasiullah Khan, (ed) (1981) : Education and Society in the Muslim world. London Hodder and Stoughton. 21- Montessori, Maria (1964) : Spontaneous Activity in Education Robert Bently Enc. Cambridge - Mass - U.S. A. 22- Mulhern. J. (1946) : Ahistory of Education. The Ronald Press Co. N.Y. 23- O Leaery. De Lacy. (1939) : Arabic Thought and its place in History Dutton Co. Inc. N.Y. 24- Reisner, E. (1931) : History Foudation of Modern Education. The, Macmillan Co. N.Y. 25- Rubenstein, D. & Simon, B. (1973) The Evolution of the Compre^ hensive School (1926 - 1972) Routledge & Kegan Paul London. 26- Spencer, H. (1949) : Education Intellectual, Moral and Physical Watts and Co. London. 27- Tibawi, A. L (1972) : Islamic Education, Its Traditions and Modernization into the Arab National Systems. London. Luzac and Company. 28- Turner, B. (1974) : Weber and Islam. Routledge and Kegan Paul. London. 29- Ulich, R. (1950) : History of Education Thought. American Book Co. N. Y. 30- Wilks. I. (1968) : Islamic Learning in the Western Sudan. In: Goody, J. (ed) : Literacy in Traditional Societies. Cambridge University Press. Cambridge.

كتب المؤلف

كتب المؤلف ... كتب للمؤلف: أولا: كتب مؤلفة بالعربية: 1- أصول التربية. عالم الكتب - القاهرة - صدر عام 1984 وله طبعة منقحة 1922. 2- تاريخ التربية في الشرق والغرب. عالم الكتب - القاهرة - صدر عام 1978 وله طبعة حديثة 1922. 3- التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1977 وله حديثة 1998. 4- فلسفة التربية. إتجاهاتها ومدارسها. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1980 وله طبعة حديثة 1992. 5- المرجع في التربية المقارنة. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1981. وله طبعة حديثة مزيدة ومنقحة عام 1998. 6- الإدارة التعليمية: أصولها وتطبيقاتها. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1971. وله طبعة حديثة منقحة عام 1998. 7- الإدارة المدرسية الحديثة. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1974 وله طبعة حديثة، 1995. 8- تعليم الكبار ومحو الأمية. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1974 وله طبعات أخرى. "بالاشتراك". 9- البحث التربوي وكيف نفهمه. عالم الكتب - الرياض. صدر عام 1987، وله طبعة جديدة. عالم الكتب. القاهرة. 1993. 10- العربية الحديثة للناطقين بالإنجليزية والفرنسية. عالم الكتب - القاهرة. جزءان. صدر الأول عام 1980 والثاني 1985. "بالاشترك". 11- المنتخب من عصور الأدب "جزءان". عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1976 وله طبعات أخرى "بالاشتراك". 12- التعليم العام في البلاد العربية. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1972 وله طبعات أخرى. 13- إدارة وتنظيم التعليم العام. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1974 وله طبعات أخرى. 14- التعليم في دول الخليج العربية. عالم الكتب. القاهرة - الرياض. صدر عام 1989.

15- اختبار القيادة التربوية: مجموعة الاختبارات الموضوعية في العلوم التربوية. صدر عام 1977 وله طبعات أخرى. وصدر في طبعة منقحة عن عالم الكتب بالقاهرة عام 1998. 16- الاتجاهات الحديثة في التعليم الجامعي المعاصر وأساليب تدريسه. دار النهضة العربية - القاهرة. صدر عام 1992. 17- الاتجاهات المعاصرة في التربية المقارنة. عالم الكتب. القاهرة. صدر عام 1974 وله طبعة حديثة عام 1992. 18- دراسات في التربية المعاصرة. دار النهضة العربية، القاهرة 1977. 19- التعليم الجامعي المعاصر: قضاياه واتجاهاته. دار النهضة العربية. القاهرة. صدر عام 1977 وله طبعة أخرى منقحة عام 1987 عن دار الثقافة - الدوحة - قطر. 20- المدخل في التربية المقارنة. مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة. صدر عام 1973 وله طبعات أخرى "بالاشتراك". 21- الإصلاح والتجديد التربوي في العصر الحديث: عالم الكتب. القاهرة صدر عام 1992. وله طبعة مزيدة منقحة عام 1996. 22- المعلم وميادين التربية. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، صدر عام 1993. 23- الاتجاهات الحديثة في تعليم الكبار النظرية والتطبيق. عالم الكتب. القاهرة 1997. 24- كيف تتفوق في دراستك الجامعية. دليل المتعلم إلى التعلم. صدر عن عالم الكتب بالقاهرة عام 1998. 25- تخطيط التعليم واقتصادياته. صدر عن عالم الكتب بالقاهرة عام 1998. 26- التربية المقارنة بين أصول النظرية والتجارب العالمية. صدر عن عالم الكتب بالقاهرة، 1998. 27- المعلم والنظام: دليل المعلم إلى تعليم المتعلم. صدر عن عالم الكتب بالقاهرة، 1998. 28- المدرسة والتمدرس: صدر عن عالم الكتب بالقاهرة، 1998. 29- مجتمع الفضيلة: الأخلاق في الإسلام. صدر عن عالم الكتب بالقاهرة، 1998. ثانيا: كتب مؤلفة بالإنجليزية Education The Arab Gulf States. University of Qater Education Research Centre 1990.

ثالثا: كتب مترجمة من العربية إلى الإنجليزية Islam And Contemporary Thought. Four public lectures. by his eminence sheikh mohamed m. el - shaarawi. qatar national printing press. doha 1978. "بالاشتراك" رابعا: كتب مترجمة عن الإنجليزية 1- المدرسة الشاملة: روبين بيدلي. عالم الكتب القاهرة. صدر عام 1971. "بالاشتراك". 2- المدرسة اليابانية: سنجلتون. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1972. 3- التعليم والتنمية القومية: آدامز "تحرير" عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1973. 4- أنثرويولوجيا التربية نيللر: عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1972 "بالاشتراك". 6- الأحلام: تفسيرها ودلالتها: نيريس دي. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1986. 7- الضعف في القراءة: تشخيصه وعلاجه: بوند وآخرون. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1983. "بالاشتراك" 8- التاريخ الاجتماعي للتربية: ر. بك. عالم الكتب. القاهرة 1973. "بالاشتراك". 9- نظرية الإدارة: جريفث عالم الكتب - القاهرة 1971. "بالاشتراك". 10- مدارس بلا فشل: جلاسر. عالم الكتب. القاهرة، 1974. 11- المدرسة والمجتمع العصري: جوسلين. عالم الكتب. القاهرة 1973. "بالاشتراك". خامسا: كتب مترجمة عن الروسية 1- مع المخطوطات العربية: صفحات من الذكريات عن الكتب والنش: كراتشكوفسكي. النهضة العربية - القاهرة. صدر عام 1969. 2- ثلاث أزهار في معرفة البحار لأحمد بن ماجد: شوموفسكي. عالم الكتب - القاهرة - صدر عام 1969. 3- الرسالة الثانية لأبي دلف. أنس خالدوف وآخر. عالم الكتب - القاهرة صدر عام 1970. 4- الشعر العربي في الأندلس: كراتشكوفسكي. عالم الكتب - القاهرة. صدر عام 1971.

§1/1